أسباب الابتداع في الدين
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الفتن
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
5/8/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإسلام. 2- خطورة البدع. 3- أسباب البدع: الجهل، اتباع الهوى، سوء القصد، الإعراض عن الحق، الإعجاب بالرأي، البعد عن العلماء، الفتاوى والكتب المضلة، إيثار الدنيا. 4- تصدي الصحابة للبدع. 5- محاربة العلماء والأمراء للبدع. 6- أهمية نعمة الأمن. 7- نداء للخارجين على الجماعة. 8- فتنة الشهوات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ أيّها المسلمونَ ـ وأطِيعوه، فتَقوَى اللهِ يُصلِح الله بهَا الأمورَ، ويشرَح بهَا الصّدورَ، ويحسِن الله بها العَواقبَ في الدّنيا والآخرَة، كما قالَ تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين [القصص:83].
عِبادَ الله، إنَّ أَعظمَ نِعَم اللهِ تعالى علَى العبادِ دينُ الإسلام الذي يفرِّق بينَ الحقِّ والباطلِ والحلال والحرام والخيرِ والشرّ وسبيلِ الهدَى وسبُل الرّدَى، قال الله تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا [الأنعام:122].
وإنَّ أعظمَ ما يهدِم الدّينَ الإسلاميّ ظهورُ البِدَع المضِلَّة التي يرَى صاحبُها أنّه مصيبٌ وهو على ضلالٍ.
وتكون البِدَع المضلَّة بسبَبِ الجهلِ كما قال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:111]، وكما قالَ عزّ وجلّ: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [الأنعام:116].
ومِن أسباب البدَع المضِلَّة اتِّباعُ الهوى، قال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
ومِن أسباب البدَع المضِلّةِ سوءُ القصدِ والإرَادةِ، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].
ومِن أسبابِ البدَع المضِلَّة الإعرَاضُ عن تعلُّم الحقِّ والعَمَل به كما قَال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123، 124]، وقال عز وجلّ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22].
ومِن أسباب البدع المضِلَّة إعجابُ المرءِ بنفسِه ورأيِه، فلا يقبل النصحَ والتوجيه، قال اللهُ تعالى: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، وعن أبي ثعلبةَ الخشني أنه سأل النبيَّ عن هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105] فقال عليه الصلاة والسلام: ((ائتمِروا بالمعروف، وتناهَوا عن المنكر، حتى إذا رأيتم شُحًّا مطاعًا وهوًى متَّبعًا ودُنيا مؤثَرة وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه فعليك بنفسِك ودَع عنك أمرَ العَوام، فإنَّ مِن ورائِكم أيامًا الصبرُ فيهنّ مثلُ القبض على الجمر، للعامل فيهنّ مثلُ أجرِ خمسين رجلاً يعمَلون مثلَ عملكم)) ، قيل: يا رسولَ الله، أجر خمسين منّا أو منهم؟ قال: ((بل أجرُ خمسين منكم)) رواه أبو داود والترمذي [1].
ومِن أسبابِ البدَع المضلَّة البُعدُ عن أهلِ العِلم وَعَدَم سؤالِهم عن أمورِ الدّين وسؤالُ ذوي الجهل بالدين، قال الله تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وقال تعالى: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، وعن عبدِ الله بن عمرو بنِ العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول : ((إنَّ اللهَ لا يقبِض العِلمَ انتِزاعًا ينتزِعه منكم، ولكن يَقبِض العِلمَ بقبضِ العلماءِ، حتى إذا لم يبقَ عالم اتَّخَذ الناسُ رؤساءَ جهَّالاً، فسئِلوا فأفتَوا بغيرِ علمٍ، فضلُّوا وأضلُّوا)) رواه البخاري ومسلم [2].
وكثيرًا ما وقع رجالٌ في البدع بسببِ فتاوى وكتبٍ تزيِّن البدعةَ وتزيِّن الانحرافَ عن نهج السلف، وبسببِ الزهد في أخذِ العلم عن الراسخين من العلماء.
ومِن أسبابِ البدَع المضلَّة إيثارُ الدنيا على الآخرة وتقديمُ محبّتها على النعيم المقيم الذي أعدَّه الله للمتقين، قال الله تعالى: كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ [القيامة:20، 21]، وقال عز وجل: إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلاً [الإنسان:27]، وقال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17]، وقال عز وجلّ: اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [التوبة:9]، وفي الحديث عن النبي : ((حبُّ الدنيا رأسُ كلِّ خطيئةٍ)) [3]. ولو استقرأنا التاريخَ لرأينَا أنَّ أهلَ البدع طلاّبُ دنيا، آثروها على الحقّ.
وإذا اجتمعَت هذه الأسبابُ فقَد استحكَمَت أسباب الشَّقاوة وتحَقَّقت الهلَكَةُ، إلاَّ أن يمُنَّ الله تعالى بتوبةٍ منقِذةٍ.
وقَد حدَثت أوائلُ البِدَع في أواخِر عصرِ الصّحابة رضي الله تعالى عنهم تَصديقًا لقوله : ((فإنّه مَن يَعِش منكم فسَيرى اختلافًا كثيرًا)) [4] ، فتصَدّوا لها، ودفَعوا في نحورِها بالبَيان وقوَّةِ السّلطان، حتى ولَّت مُدبِرةً وانكشَفَت ظلُماتها، وحذّروا أمّةَ الإسلام من كلّ بدعةٍ.
ففي أواخرِ عَصرِ الصحابة رضِي الله عنهم ظهرت بدعةُ الخوارِجِ وبدعةُ القدريّة، ثم تتابَعت البدَعُ المضلّة. وفي كلِّ عصرٍ يهيِّئ الله للأمّةِ الإسلاميَّة مِن ولاةِ الأمر والعلماءِ من يطفِئ نارَ الفتَنِ ويقمَع البدَعَ، فالولاةُ يقمعون البدعَ ويطفِئون الفتنَ بقوّةِ السّلطان، والعلماءُ بقوّة البَيان، فينشرونَ السّنَنَ، ويبلِّغون الأحكامَ، ويحذِّرون الأمّةَ أن تَتأثّرَ بدعاةِ الفتنة، اقتداءً بالنّبيِّ الذِي كان يحَذِّر من البدَعِ والفتَن بمثلِ قوله : ((إنه لم يكن قبلِي نبيٌّ إلاّ كانَ حقًّا عليهِ أن يدلَّ أمّتَه على خَير ما يعلَمه لهم، وينذِرَهم شرَّ ما يَعلمُه لهم، وإنَّ أمّتَكم هذه جُعِل عافِيتُها في أوَّلها، وسيصيبُ آخرَها بَلاء وأمورٌ تنكِرونها، وتجيءُ الفتَنُ فيرقِّق بَعضُها بَعضًا، وتجيء الفِتنَةُ فيقول المؤمن: هذِه مُهلِكَتي، ثم تَنكشِف، وتجيء الفِتنةُ فيقول المؤمنُ: هذهِ هذِه، فمَن أَحبَّ أن يُزَحزَح عن النّارِ ويُدخلَ الجنّة فلْتأتِه منيّتُه وهو يؤمِن بالله واليومِ الآخِر، وليأتِ إلى النّاس الّذي يحِبّ أن يُؤتَى إليه، ومَن بَايعَ إمامًا فأعطَاه صَفقَةَ يدِه وثمرَةَ قلبِه فليطِعه إن استطَاعَ، فإن جاءَ آخرُ ينازِعُه فاضرِبوا عُنقَ الآخَر)) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما [5].
وعن معاذٍ رضي الله عنه قال: (إنَّ وَراءَكم فِتنًا يكثُر فيها المال، ويُفتَح فيها القرآنُ حتى يأخذَه المؤمِنُ والمنافِق والرّجلُ والمرأة والعَبد والحرّ والصّغِير والكَبير، فيوشِك قَائلٌ أن يقولَ: ما للنّاسِ لا يتَّبعوني وقد قرَأتُ القرآنَ؟! وما هم بمتَّبعِيَّ حتى أبتَدِعَ لهم غيرَه، فإيّاكم وما ابتَدَع، فإنما ابتدَعَ ضلالةٌ) رواه أبو داود [6].
وعن أبي موسَى الأشعَريّ رضي الله عنه قَال: قال رَسول الله : ((مَن حمَل علينا السّلاحَ فليس منَّا)) رواه البخاريّ ومسلم [7] ، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسولُ الله : ((سِبابُ المسلم فُسوق، وقِتاله كفرٌ)) رواه البخاري ومسلم [8].
أيّها المسلمون، إنَّ بعضَ النّاس لا يتحمَّل الصبرَ على النّعَم، بل يحارِبها بأفعالِه، ويمَلُّها لتَتابِعها ولجهلِه، فيضرّ نفسَه ويضرُّ غيرَه، قال الله تَعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67].
والأمنُ نعمةٌ مِنَ الله تعالى ومِنّةٌ كبرى، تتحقَّق به مصالحُ الدّين والدنيا، حقُّه أن يُشكَرَ الله عليه، ويُعبَدَ الربّ في ظلِّه، ويُحاط الأمن ويحفَظ من كلِّ أحد، قال الله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4]، وقالَ تَعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وعَن عبَيدِ الله بن محصِنٍ الأنصاريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن أصبَح منكم آمِنًا في سِربِه مُعافًى في جسدِه عِنده قوتُ يومِه فكأنما حِيزَت له الدنيا)) رواه الترمذي [9] ، وَعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنَّ النبيَّ كانَ إذا رأَى الهِلالَ قال: ((اللّهمَّ أهِلَّه علينَا بالأمن والإيمان والسلامةِ والإسلامِ، ربِّي وربُّك الله)) رواه الترمذي [10].
ألا فليتَّق اللهَ هؤلاء الذينَ خَرَجوا على جماعةِ المسلمِينَ وولاةِ أمرِهم، وليتفكَّروا في هذهِ الأعمالِ التدميريّة التخرِيبيّة الإرهابيّة التي أفسَدَت فسَادًا عَريضًا وشوَّهت الإسلامَ، والدينُ منها بَرَاء، فهي إمَّا قَتلٌ لنفسِ العابِثِ بالأمنِ والله تعالى يقول: وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29، 30]، وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((من تردَّى من جَبلٍ فقتل نَفسَه فهو في نار جهنّم يتردَّى فيها خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، ومَن تحسَّى سُمًّا فقتل نفسَه فسمّه يتحسَّاه بيدِه في نارِ جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا، ومَن قتَل نفسَه بحديدَة فحديدتُه في يدِه يتوجَّأ بها في بطنِه في نار جهنّم خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم [11] ، وإمّا قتلٌ لمواطنٍ أو مُقيمٍ مسلِم أو رجلِ أمنٍ والله تعالى يقول: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وعن بريدةَ قال: (قتلُ المؤمنِ أعظمُ عند الله من زوالِ الدّنيا) رواه النسائي [12] ، وعن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله : ((لو أنَّ أهلَ السّماءِ وأهلَ الأرض اشترَكوا في دمِ مؤمنٍ لأكبَّهم الله في النار)) رواه الترمذي [13] ، وفعلُهم إمّا قتلٌ كذلِك لغيرِ مسلِم مستأمَن قد حفِظَ الإسلامَ دمَه ومالَه وحرَّم ظلمَه والاعتداءَ عليه، وإمّا إتلافٌ لمالٍ خَاصّ أو إتلاف لمال عامٍّ، وإما تخويفٌ وترويع للآمنين وإشاعةٌ للذّعرِ والخوف في المجتمع، وكلُّ ذلك ظلماتٌ بعضُها فوقَ بعض وكبائرُ كثيرةٌ، لو تدبَّرها المتدبِّر لكَفَته واحدةٌ منها في النّفورِ عنها والبعدِ عن هذا الانحرافِ الفكريّ الشِّرِّير.
ونَدعوهم أن يسَلِّموا للسّلطانِ أنفسَهم، فذلك هو الطَّريق الصّحيحُ، ليس من طريقٍ غَيره، وأن يتوبُوا إلى الله تعالى مِن هذا الإفسَادِ، فإنَّ من تَاب تاب الله عليه وعَفا عنه، قالَ الله تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:33، 34]. أعاذنا الله والمسلِمين مِن مضلاّت الفتَن.
وإنّه لا ينقضِي العجَبُ كيف استَدرَجَ شياطينُ الإنس والجنِّ هؤلاءِ الذين يرَونَ الإفسَادَ إصلاحًا والشّرَّ خيرًا والبَاطلَ حقًّا، حَتى دَفعوهم إلى أعمالِ أهل النّارِ والعياذ بالله، قال الله تَعالى: وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة:41].
ثبَّتني الله وإياكم على الصّراط المستقيم، وبارَك الله ولي ولَكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4341)، سنن الترمذي: كتاب التفسير (3058)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الفتن (4014)، والطبراني في الكبير (2/220)، وأبو نعيم في الحلية (2/30)، والبيهقي في الشعب (6/83، 7/127)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (385)، والحاكم (7912)، وهو في السلسلة الضعيفة (1025).
[2] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام (7307)، صحيح مسلم: كتاب العلم (2673).
[3] أخرجه البيهقي في الشعب (7/338) عن الحسن البصري مرسلا. وروي من كلام عيسى عليه السلام، أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/388)، والبيهقي في الزهد (248) عن الثوري قال: قال عيسى عليه السلام وذكره. وروي من كلام مالك بن دينار، أخرجه عنه ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان.
[4] سيأتي تخريجه.
[5] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1844).
[6] سنن أبي داود: كتاب السنة (6411)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3855).
[7] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7071)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (100). وفي الباب عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن الزبير وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
[8] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (48)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (64).
[9] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2318).
[10] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: ما يقول عند رؤية الهلال (3451)، وأخرجه أيضا أحمد (1/162)، والدارمي في الصوم (1688)، والحاكم (7767)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة (1816).
[11] صحيح البخاري: كتاب الطب (5778)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (109).
[12] سنن النسائي: كتاب تحريم الدم (3990) عن بريدة رضي الله عنه مرفوعا، وأخرجه البيهقي في الشعب (4/345)، وصححه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/261)، وهو في صحيح الترغيب (2440)، وانظر: غاية المرام (439). وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
[13] سنن الترمذي: كتاب الديات (1398)، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا"، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيزِ الوهّابِ، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3]، أحمد ربِّي وأشكُره، وأتوب إليهِ وأستغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، عليه توكَّلت وإليه مَآب، وأشهد أنَّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، فضَّله الله بأحسَنِ كِتابٍ، اللَّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى الآل والأصحاب.
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى وأطيعوه، فإنَّ طاعته أقوَم وأقوى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عبادَ الله، إنَّ البِدعَ المضِلَّة هي الّتي تضرُّ المسلِمَ في دينِه، كما يضرّ المسلِمَ في دينِه شهواتُ الغَيّ، فتتَراكم على قلبِه المحرَّماتُ والشهوات حتى تطفِئَ نورَ الإيمانِ كما قال الله تبارك وتعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].
واللّذّاتُ المحرَّمَة هي للقَلبِ كالسّمومِ للأبدان، فاحذَر ـ أيّها المسلم ـ مَداخلَ الشيطان عَليكَ، وهِي أبوابُ الشّبُهات وأبوابُ الشّهوَات، واعتصِم بالصبرِ عَن الشَّهوات، واعتصم باليقينِ عن الشبهات، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، وقال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
والزم ـ أيّها المسلِم ـ جماعةَ المسلِمين وإمامَهم، فإنَّ يدَ الله على الجمَاعةِ، وإنما يأكُل الذئبُ من الغنمِ القاصيةَ، والشيطانُ ذئبُ الإنسان، عن العِرباضِ بن سارية رضي الله عنه قال: وَعَظنا رسول الله مَوعظةً وجلَت منها القلوب وذرَفت منها العيونُ، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعِظَة مودِّع فأوصِنا، قال: ((أوصيكم بتقوَى الله، والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنّه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعَليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الرّاشِدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجِذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضَلالَة)) رواه الترمذيّ وأبو داود [1].
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحِدَةً صلَّى الله عَليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيِّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المرسلين.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلَى آل محمّد كمَا صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آلِ محمّد كما باركتَ على إبرَاهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، اللّهمّ وارضَ عن الصحابةِ أجمعين...
[1] سنن الترمذي: كتاب العلم (2676)، سنن أبي داود: كتاب السنة (4607)، وأخرجه أيضا أحمد (4/126-127)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
(1/4290)
الحياء
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
17/5/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الحياء. 2- فضائل الحياء. 3- أحق من يُستحى منه هو الله تعالى. 4- ما يظنُّه الناس من الحياء وليس منه. 5- الموصوفون بالحياء. 6- أحق الناس بالحياء. 7- مظاهر غياب الحياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد دعا الإسلام إلى أخلاق فاضلة وآداب سامية، تسمو بالإنسان وتُزكِّي روحه. ومن جملة هذه الأخلاق خلق الحياء.
والحياء خلق حميد يبعث على ترك القبيح، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق [1].
وللحياء فضائل عديدة، دلت سنة نبينا عليها، فمن ذلك أنه خيرٌ كلُّه، فعن عمران بن حصين قال: قال النبي : ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) أخرجاه في الصحيحين، وقال: ((الحياء كله خير)) رواه مسلم.
وهو من الأخلاق التي يحبها الله، قال الرسول : ((إنَّ الله حيي سِتِّير يحب الستر والحياء)) رواه أبو داود والنسائي.
والحياء من الإيمان، وكلما ازداد منه صاحبه ازداد إيمانه، فعن أبي هريرة عن النبي : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) أخرجاه في الصحيحين، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي مرَّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء فقال رسول الله : ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) أخرجاه في الصحيحين.
وهو خلق دين الإسلام؛ لقول سيِّد الأنام عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ لكل دين خلقًا، وخلق الإسلام الحياء)) رواه مالك وابن ماجه.
والحياء يحمل على الاستقامة على الطاعة وعلى ترك المعصية ونبذ طريقها، وهل أدل على ذلك من قول نبينا : ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فافعل ما شئت)) رواه البخاري؟!
وإنَّ من أعظم فضائله أنه يفضي بأصحابه إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار)) رواه الترمذي. والبذاء ضد الحياء، فهو جرأة في فُحشٍ، والجفاء ضد البر.
أيها المؤمنون، إن أحقَّ من يُستحَى منه الله تعالى، قال النبي : ((فالله أحق أن يُستحَى منه)) رواه الترمذي. وقد بيّن النبي حقيقة الحياء من الله، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((استحيوا من الله حق الحياء)) ، قلنا: يا نبي الله، إنا لنستحي والحمد لله، قال: ((ليس ذلك، ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وعى، وتحفظ البطن وما حوى، ولتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)) رواه الترمذي. وهذا الحديث دليل على ما سبق ذكره من أن الحياء يصد عن قبيح الفعال وذميم الصفات.
اعلموا ـ عبادَ الله ـ أنه ليس من الحياء أن يسكت الإنسان على الباطل، ليس منه أن تُعَطل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا جبن وخور وضعف، وليس من الحياء في شيء، قال النووي رحمه الله: "وأما كون الحياء خيرًا كله ولا يأتي إلا بخير فقد يُشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يجلُّه، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق، وغير ذلك مما هو معروف في العادة. وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة؛ منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: أن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة، بل هو عجز وخور ومهانة، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازًا لمشابهته الحياء" [2].
ولذا مما تنزه الله عنه الاستحياء من الحق مع أنه موصوف بالحياء كما سيأتي، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البقرة:26]. وسببها أن المنافقين لما ضرب الله مثلهم: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [البقرة:17] وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ [البقرة:19] قالوا: الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال! فأنزل الله الآية [3].
وقال سبحانه: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزاب:53]، وقال النبي : ((إن الله لا يستحيي من الحق)) رواه الترمذي.
وليس من الحياء أن يمتنع الإنسان من السؤال عن أمور دينه، فالحياء يبعث على الخير ولا يصدّ عنه؛ ولذا مدحت عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار بقولها: رحم الله نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين. رواه مسلم. وجاء إليها أبو موسى الأشعري فقال: يَا أُمَّاه، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكِ عَنْ شَيْءٍ وَإِنِّي أَسْتَحْيِيكِ؟ فَقَالَتْ: لا تَسْتَحْيِي أَنْ تَسْأَلَنِي عَمَّا كُنْتَ سَائِلاً عَنْهُ أُمَّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، فَإِنَّمَا أَنَا أُمُّكَ، قُلْتُ: فَمَا يُوجِبُ الْغُسْلَ؟ قَالَتْ: عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ)) رواه مسلم، وجاءت أم سُليم رضي الله عنها لرسول الله قائلةً: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ : ((إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ)) أخرجه الشيخان.
فإذا لم يقدر الإنسان على السؤال لعذر يقتضي الحياء فعليه أن يُرسل من يسأل له أو يهاتف الشيخ أو يراسله، فقد قال علي بن أبي طالب : كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً، وَكُنْتُ أَسْتَحْيِي أَنْ أَسْأَلَ النَّبِيَّ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: ((يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ)) أخرجه الشيخان.
فاحذر ـ رعاك الله ـ من أن يصدك الشيطان عن سبيل العلم وسؤال أهله بإيهامك أن هذا من الحياء، واجعل قول إمامنا مجاهد رحمه الله منك على بال: "اثنان لا يتعلمان: حيي ومستكبر".
عباد الله، إنَّ الحياء صفة من صفات الله رب العالمين والملائكة والمرسلين وصالح المؤمنين، فقد وصف النبي ربَّه بذلك فقال: ((إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا خائبتين)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه.
وكل صفة وصف الله بها نفسَه وقامت الأدلة على وصف العباد بها فلا تظنن أن ذلك يعني مشابهة الله لخلقه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، فالفرق بين صفاتنا وصفاته كالفرق بين ذواتنا وذاته.
وقول النبي في عثمان فيما رواه مسلم: ((ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!)) دليل على اتصاف الملائكة به.
وهو خلق الأنبياء، فقد جاء عن خاتمهم : ((أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر والسواك والنكاح)) رواه الترمذي، وقال أبو سعيد ينعت نبينا : كان رسول الله أشدَّ حياءً من العذراء في خدرها. أخرجه الشيخان.
وهو خلق المؤمنين الصادقين، فهذا عثمان بن عفان يُذكِّر النبي الأمةَ بمناقبه فيقول: ((وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. ويسأل النبي أصحابه وفيهم ابن عمر: ((إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً لا يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ الْمُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ؟)) فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي، قَالَ ابن عمر: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((هِيَ النَّخْلَةُ)) أخرجه الشيخان.
والحياء من الأخلاق التي كانت تُعرف في الجاهلية فإن أبا سفيان لما كان على الإشراك سأله هرقل أسئلة عن النبي ، فلما انتهى الكلام بينهما قال أبو سفيان: والله، لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت. أخرجه الشيخان. وفي غزوة حنين تبع أبو موسى الأشعري أحد الكفار فولى هاربًا، فقال له أبو موسى : ألا تستحي؟! ألست عربيًا؟! ألا تثبت؟! فوقف وتقالا فقتله أبو موسى. رواه مسلم.
وأولى الناس بخلق الحياء النساء، وقد خلَّد القرآن الكريم ذكر امرأة من أهل هذا الخلق، قال الله عنها: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]. فهذه الآية تدل على حياء تلك المرأة من وجهين: الأول: جاءت إليه تمشي على استحياء بلا تبذل ولا تبجح ولا إغواء، الثاني: كلماتها التي خاطبت بها موسى عليه السلام، إذ أبانت مرادها بعبارة قصيرة واضحة في مدلولها، من غير أن تسترسل في الحديث والحوار معه، وهذا من إيحاء الفطر النظيفة السليمة والنفوس المستقيمة.
ولا يَدري من وقف على أحداث هذه القصة التي جرت لنبي الله وكليمه موسى عليه السلام أيعجب من حياء المرأة أم من حيائه ؛ فقد جاء عن عمر بن الخطاب : جاءتْ واضعةً يدَها على وجهها، فقام معها موسى وقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق وأنا أمشي أمامك؛ فإنا لا ننظر في أدبار النساء. رواه الحاكم.
وإن تعجب من هذه المرأة فعجب أمر فاطمة رضي الله عنها التي حملها الحياء على أن تقول لأسماء بنت أبي بكر: يا أسماء، إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء؛ أنه يُطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا بنت رسول الله ، ألا أريكِ شيئًا رأيته بأرض الحبشة؟! فدعت بجرائد رطبة فحنتها ثم طرحت عليها ثوبًا، فقالت فاطمة رضي الله عنها: ما أحسن هذا وأجمله، يُعرف به الرجل من المرأة، فإذا أنا مت فاغسليني أنت وعليّ ولا تدخلي علي أحدًا. فلما توفيت جاءت عائشة تدخل فقالت أسماء: لا تدخلي، فشكت لأبي بكر فقالت: إن هذه الخثعمية تحول بيني وبين ابنة رسول الله وقد جعلت لها مثل هودج العروس! فجاء أبو بكر فوقف على الباب وقال: يا أسماء، ما حملك على أن منعت أزواج النبي يدخلن على ابنته، وجعلت لها مثل هودج العروس؟! فقالت: أمرتني أن لا أدخل عليها أحدًا، وأريتها هذا الذي صنعت وهي حية فأمرتني أن أصنع ذلك لها، فقال أبو بكر: فاصنعي ما أمرتك، ثم انصرف، وغسلها علي وأسماء رضي الله عنهما. رواه البيهقي.
لله درها! ما أكمل حياءها! وليس هذا مما يُستغرب منها، فهي من قد عرفنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آياتٍ وذكر حكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، إنه غفور رحيم.
[1] شرح النووي على صحيح مسلم (2/6).
[2] شرح صحيح مسلم (2/5).
[3] تفسير الطبري (1/177).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إن لغياب الحياء عن ساحاتنا لمظاهرَ وخيمةً، وإن من أقبحها سيادة الفحش والعري والتفسخ، وقد علمت أثر الحياء في التستر والاحتشام، قال الله تعالى في ذكر قصة آدم عليه السلام: فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ [الأعراف:22].
ومما وُصف به موسى عليه السلام أنه ((كان رجلاً حييًا ستيرًا، لا يُرى من جلده شيء استحياءً منه)) رواه البخاري، والنبي لما دخل عليه عثمان وكان بعضُ فخذيه باديًا سوَّى ثيابه. أخرجه مسلم.
إن الحياء خلق رفيع، لا يكون إلا عند من عَزَّ عنصره ونَبُل خلقه وكَرُم أصله.
إذا قلَّ ماءُ الوجْهِ قلَّ حياؤه ولا خير في وجه إذا قلَّ ماؤه
حياءَك فاحفظه عليك فإنَّما يدل على وجه الكريم حياؤه
نسأل الله أن يهدينا لأحسن الأخلاق...
(1/4291)
رؤية المؤمنين لرب العالمين في يوم الدين
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
24/5/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب أخذ العقيدة من الكتاب والسنة وفهمها بفهم السلف الصالح. 2- الإيمان برؤية المؤمنين لربهم في الآخرة داخل في الإيمان بالله وكتبه ورسله. 3- أدلة وقوع الرؤية في الآخرة من الكتاب والسنة. 4- الرد على من أنكرها. 5- أسباب حصولها. 6- المحرومون الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من أعظم المهمات وآكد الواجبات أن يعلم المسلم أنَّ عقيدته يجب أن تُستمد من كتاب الله ومن سنة رسول الله ، وأن لا يخضع أمرها إلى آراء الرجال.
ومن عقيدة المسلمين التي يجب الإيمان بها أن المؤمنين يرون الله رب العالمين يوم القيامة، والرؤية من أشرف مسائل أصول الدين، وهي الغاية التي شمَّر لها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وحُرمها الذين هم عن ربهم محجوبون وعن بابه مطرودون، وهي من المسائل التي بلغت أحاديثُها حدَّ التواتر، قال الناظم:
مما تواتر حديث من كذب ومن بنى لله بيتًا واحتسب
ورؤية شفاعة والْحوض ومسح خفين وهذي بعض
والإيمان بها داخل في معنى الإيمان بالله وكتبه ورسله كما قرره علماؤنا رحمهم الله [1] ؛ فإن الله أخبر بها، والإيمان بخبر الله إيمان بالله، وجاءت الأدلة عليها في كتابه سبحانه، ونصَّ النبي على وقوعها، فيكون الإيمان بها من الإيمان بالرسل والكتب كذلك.
وقد تنوعت مظانّ أدلّة هذه العقيدة، فدلَّ عليها القرآن الكريم في مواضع عديدة، فمن ذلك قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة [القيامة:22-23]. وهي تدل على ما قُرّر من ثلاثة وجوه:
الأول: عُدّي النظر بـ(إلى) الدالة على الغاية، والنظر إذا عُدي بـ(إلى) دلَّ على المعاينة بالأبصار، كهذه الآية وكقوله تعالى: انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الأنعام:99]، وإذا عُدّي بـ(في) كان بمعنى التفكر والاعتبار، كما في قول الله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185]، وإن عُدي بنفسه كان بمعنى التوقف والانتظار، قال تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ [الحديد:13].
الثاني: أن النظر في الآية محلّه الوجه، ولا يُتصوّر في مثل هذا إلا أن يكون معاينةً بالبصر.
الثالث: خلا الدليل من قرينة تصرف اللفظ عن ظاهره، فوجب حمله على حقيقته وموضوعه.
وإن من اللطائف في هذه الآية الكريمة أن الله هيأهم للنظر إليه، فقد نضر وجوههم قبل أن يشرفها بالنظر إلى وجهه الكريم، نَاضِرَةٌ أي: حسنة، كما قال سبحانه: وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:11].
ومن الأدلة القرآنية التي تبين ذلك وتدل عليه قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:22-24]، قال الطبري: "ينظرون إلى ما أعطاهم الله من النعيم" [2]. وهذه الآية عامة تشمل كلّ شيء يتمتّعون بالنظر إليه، ومن ذلك النظر إلى وجه الله الكريم، فهو أكمل النعيم.
ومن الآيات الدالة على صحة هذا الاعتقاد قول الله: لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، فقد جاء تفسيرها عن نبينا أن الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم كما سيأتي، ولا عبرة بعد ذلك بقول أيّ أحد، فإنَّ أعلم الناس بربه وبما أنزله نبينا.
ومن الآيات قول الله: لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، فقد أورد الطبري رحمه الله تفسير أنس بن مالك لها أن المزيد رؤية الله تعالى في الجنة [3].
ومن أدلة ذلك أيها المؤمنون: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]. استدلّ بها على ذلك الإمام الشافعي رحمه الله، قال: "لما حجب الكافرين حال السخط رآه المؤمنون في الرضا". أورد ذلك عنه الإمام ابن كثير في التفسير [4].
وقد جاءت سنة نبينا مؤكدة هذه العقيدة في أحاديث كثيرة بلغت حدَّ التواتر، منها ما جاء عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً ـ يَعْنِي الْبَدْرَ ـ فَقَالَ: ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ)) أخرجاه في الصحيحين، وفي رواية: ((لا تُضامُون)) بتخفيف الميم، فالأولى بمعنى: لا تزدحمون على ذلك كما يحصل عند رؤية الخفيّ من الأشياء، ينضم الإنسان إلى صاحبه لينظر إليه، والثانية بمعنى: لا يلحقكم ضيم وظلم بأن يحجب بعضكم عن رؤيته، وفي رواية: ((إنكم سترون ربكم عيانًا)).
وأما قوله : ((كما ترون القمر)) فهذا التشبيه منصرف إلى الرؤية وليس لتشبيه المرئي بالمرئي [5] ، فالله تعالى لا يشبهه أحد من خلقه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. وهذه الرؤية خاصة بالمسلم دون الكافر.
وعَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكُلُّنَا يَرَى رَبَّهُ مُخْلِيًا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا آيَةُ ذَلِكَ فِي خَلْقِهِ؟ قَالَ: ((يَا أَبَا رَزِينٍ، أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرَى الْقَمَرَ؟)) قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: ((فَاللَّهُ أَعْظَمُ)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
ومن الأدلة قول النبي : ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟! أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنْ النَّارِ؟! فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ)) ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] رواه مسلم.
ومنها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟)) قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ؟)) قَالُوا: لا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ)) أخرجاه في الصحيحين.
معاشر المؤمنين، استدل المخالفون من أهل الاعتزال ومن سلك طريقهم بدليلين:
الأول: قول الله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، قالوا: الآية فيها نفي رؤية الله تعالى. والجواب أن (لن) لا تفيد النفي على التأبيد، كما قال في الخلاصة:
ومن رأى النفي بلن مؤبدًا فقوله اردد وسِواه فاعضدا
ودليل ذلك من القرآن قول الرحمن: وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ [البقرة:95] مع قوله عنهم: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ [الزخرف:77].
فالآية فيها أن رؤية الله في الدنيا منفية لأنَّا في ضعف لا يمكّننا من ذلك، بل لا يمكن للمرء في الدنيا أن ينظر إلى مَلك في صورته التي خلقه الله عليها، فمن باب أولى أنه لا يطيق رؤية الله تعالى فيها، قال تعالى: وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ [الأنعام:8، 9]. لَّقُضِيَ الأمْرُ أي: "ماتوا من هول رؤية الملك في صورته؛ فإن أهل التأويل مجمعون على أن ذلك لا يمكن؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون رؤية الملك في صورته، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لكان في صورة بشر؛ لعدم إطاقة رؤيته" [6] ، وقال الكلبي رحمه الله: "لا طاقة لهم على رؤية الملك في صورته" [7].
ونحن ـ أهلَ السنة ـ نقول: إن هذه الآية من الأدلة على وقوع الرؤية لوجوه منها:
الأول: أن موسى عليه السلام سأل ذلك، ولا يمكن أن يسأل محالاً على الله تعالى، قال القرطبي رحمه الله مثبتًا رؤية الله في الآخرة مستدلاً بهذه الآية: "إذ لو لم تكن جائزة ـ أي: الرؤية ـ لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلاً، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز" [8].
الثاني: أن الله تعالى لم ينكر عليه ذلك، فلو كان غير ممكنٍ لأنكر عليه كما أنكر على نوح عليه السلام في قوله تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [هود:46].
الثالث: إذا جاز على الله أن يتجلى للجبل أفلا يتجلى لأوليائه في الآخرة؟!
وأما الآية الثانية التي استدلوا بها على نفي الرؤية فهي قوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الأنعام:103].
والجواب أن الإدراك شيء زائد على الرؤية، ولذا فرَّق الله بينهما في قوله: فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:61، 62]، فوقعت الرؤية وانتفى الإدراك فيها. وأنت في الدنيا قد ترى مخلوقًا ولا تحيط به إدراكًا كالسماء، ونحن نعلم ربنا ونؤمن به ومع ذلك لا نحيط به علمًا كما قال تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [طه:110].
أيها المؤمنون، من أحب أن يُكرمه الله بهذه النعمة فعليه أن يحرص على أداء صلاتي الفجر والعصر في جماعة، فقد قال النبي : ((إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا)) ، ثُمَّ قَرَأَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، والمعنى: لا تُغلبوا فتفوّتوا هاتين الصلاتين في جماعة [9].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] انظر العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
[2] جامع البيان (30/104).
[3] جامع البيان (26/174-175).
[4] تفسير القرآن العظيم (2/162).
[5] انظر: شرح مسلم للنووي (5/134).
[6] المحرر الوجيز (2/70).
[7] التسهيل (2/3).
[8] الجامع لأحكام القرآن (7/55).
[9] انظر: فتح الباري (2/33).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فقد مضى الحديث عن أناس من المكرمين الذين يُنعَّمون برؤية رب العالمين. وقد جاء في القرآن والسنة ذكر غيرهم من المحرومين الذين لا ينظر الله إليهم ولهم عذاب أليم، وفائدة ذكرهم والعلم بهم أن يُجتنب سبيلهم، فمنهم أهل الكفر والشرك الذين قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77]، وهم أهل الكتاب، كتموا الحق فلم يشهدوا بصدق نبوة نبينا.
ومنهم الثلاثة الذين قال عنهم النبي : ((ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) ثَلاثَ مِرَار، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ)) رواه مسلم.
وقد أوضحت بعض الروايات أن المراد بالمسبل هنا من فعله على سبيل الخيلاء والكبر، وهذا من أسباب الخسف في الدنيا، قال النبي : ((بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنْ الْخُيَلاءِ خُسِفَ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) أخرجاه في الصحيحين. والمنان الذي يُعطي ويؤذي، والمنة تهدم الصنيعة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى [البقرة:264]. والمنفق سلعته بالحلف الكاذب الذي يحلف أنه اشترى بكذا أو أنه لو باع بكذا لخسر وهو يعلم أنه كاذب، وكثرة الحلف في البيع يمحق بركته وإن كان الحلف بارًا.
ومن أولئك المحرومين من قال فيهم النبي : ((ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذَّابٌ وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)) رواه مسلم.
فالزنا قبيح كله، ولكنه درجات في ذلك، فالزنا بالمتزوجة ليس كغيرها، والزنا بامرأة الجار أقبح، وبامرأة المجاهد في سبيل الله أعرّ، وهو من الشيخ أقبح من وقوعه من غيره من الشباب؛ لأن الشباب مظنة القوة وشدة الشهوة؛ ولذا قال النبي : ((إنَّ ربَّك ليَعجبُ للشابِّ ليست له صَبْوَة)) رواه أحمد، والصبوة: الميل إلى الهوى. وأما الملك فلا يحتاج إلى الكذب، فكذبه دليل على شدة ضعف الإيمان عنده. والفقر من شأنه أن يحدث انكسارًا وليس كبرًا وخيلاءً.
ومنهم من منع ماءً لا يدَ له فيه.
فاللّهم جنبنا سبيلهم، وعاملنا بما أنت أهله، اللهم إنا نسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم...
(1/4292)
أعلى النعيم
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
لافي بن حمود الصاعدي
مكة المكرمة
جامع الفتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية العظمى. 2- رؤية المؤمنين لربهم تعالى في الجنة. 3- من أسباب نيل هذا الثواب العظيم. 4- أحاديث تحرك شوق المسلم. 5- وجوب الإيمان برؤية الله تعالى في الجنة. 6- عذاب الحجب. 7- سؤال الله تعالى لذة النظر إلى وجهه الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن بتقوى الله نجا أولياء الله من سخطه، وبها رافقوا أنبياءه، وبها نضرت وجوههم ونظروا إلى خالقهم، وهي عصمة في الدنيا من الفتن ومن كرب يوم القيامة.
أيها المؤمنون الصادقون، غاية ما يتمناه المسلم هو رضا الله سبحانه ودخول جنته، وهناك غاية أعظم منها وهي رؤية الله سبحانه في جنات النعيم، ولذلك لما كتب ابن القيم كتابه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" ووصل إلى باب: "رؤية المؤمنين لربهم" قال: "هذا الباب أشرف أبواب الكتاب، وأجلها قدرًا، وأعلاها خطرًا، وأقرها لعيون أهل السنة والجماعة، وأشدها على أهل البدع والفرقة، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون وتنافس فيها المتنافسون وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون. إذا ناله أهل الجنة نسوا ما هم فيه من النعم، وحرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشد عليهم من عذاب الجحيم. اتفق على الإيمان برؤية الله في الجنة الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون" اهـ.
أيها المسلمون، إن المؤمنين في الجنة يرون ربهم سبحانه من فوقهم رؤيةً حقيقية بأبصارهم كما يُرى الشمس والقمر ليس دونهم سحاب ولا ضباب، ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ أناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله : ((هل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا، قال: ((فإنكم ترونه كذلك)) الحديث، وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن ناسًا في زمن رسول الله قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله : ((وهل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس دونها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((ما تضارون في رؤيته تبارك الله وتعالى يوم القيامة إلاّ كما تضارون في رؤية أحدهما)).
عباد الله، إن من أسباب دخول الجنة ورؤية الرب جلّ وعلا الاجتهادَ في الأعمال الصالحة، ومن أعظم هذه الأعمال الاجتهاد والمحافظة على صلاة الفجر والعصر، وذلك بأدائها في وقتها بحضور قلب، فقد روى البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي قال: كنا جلوسًا مع النبي ، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: ((إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته)) أي: لا ينضم بعضكم إلى بعض؛ لأن الشيء إذا كان دقيقًا وصغيرًا ينضم الراؤون ويري بعضهم بعضا، يقول الرسول الكريم: ((إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل الغروب فافعلوا)) ، ثم قرأ قوله تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]. قال ابن القيم أبياتًا جميلة في معنى هذا الحديث:
ولقد أتانا فِي الصحيحين اللذيـ ـن هما أصح الكتب بعد قران
أن العباد يرونه سبحانه رؤيا العيان كما يرى القمران
فإن استطعتم كل وقت فاحفظوا الـ ـبردين ما عشتم مدى الأزمان
قال العلماء: "ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين مع ذكر رؤية الله أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يجازى المحافظ عليهما بأفضل العطايا، وهو النظر إلى الله تعالى" اهـ.
أيها المسلمون، لا شيء ألذّ للقلوب ولا أبهج للنفوس من رواية مثل هذه الأحاديث التي تحرّك شوق المسلم إلى شهود ذلك الجناب الأقدس التي تتضاءل وتصغر دونه أنواع المتع واللذات، اسمع ـ يا أخي الكريم ـ إلى هذا الحديث العظيم الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله عز وجل: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجّنا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم)) ، ثم تلا هذه الآية: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله كما فسرها رسول الله.
عباد الله، روى أبو موسى الأشعري عن رسول الله أنه قال: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)).
أمة الإسلام، يجب علينا أن نؤمن بأن الله يراه المؤمنون في الجنة، يجب علينا أن نؤمن بهذا، وأن نؤمن بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع والبصير، نؤمن بهذه الأحاديث من غير أن نسأل عن الكيفية؛ لأن الكيفية من الغيب الذي امتدح الله المؤمنين بالإيمان به في أول مدح في القرآن، قال سبحانه: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ الآيات [البقرة:1-3].
وليعلم ـ يا عباد الله ـ أن الله يعطي أهل الجنة قوةً ليتحمّلوا بها رؤيته سبحانه؛ لأنهم في الدنيا لا يطيقون أن يتحمّلوا رؤيته سبحانه، فإذا كانت الجبال الرواسي القويّة لا تطيق ذلك فكيف بالإنسان الضعيف؟! قال سبحانه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، وجاء في الحديث الصحيح بأن الله جل جلاله حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
فسبحانك يا ربنا ما عظمناك حق تعظيمك، وسبحانك اللهم ربنا ما قدرناك حق قدرك، وسبحانك ربنا ما خشيناك حق خشيتك، وسبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك، ولكننا نسأله سبحانه وتعالى أن يعاملنا بعفوه، وأن يغفر لنا ذنوبنا وتقصيرنا، فإنه يحب العفو والمغفرة، وهو عفو غفور فاستغفروه.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: أيها المسلمون، ومن أشدّ أنواع العذاب على أهل النار احتجاب الرب تبارك وتعالى عنهم وحرمانهم من النظر إلى وجهه الكريم، ولذا قال سبحانه في سورة المطففين: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
إذا تجلّى الرب لعباده المؤمنين في الجنة نسوا كلّ ما هم فيه من ألوان النعيم من أجل ما ظفرت به أعينهم من اللذة الكبرى بالنظر إلى وجه الله عز وجل، فإذا ما احتجَب عنهم عادوا إلى ما كانوا فيه من ألوان السرور والنعيم، فلهم نعيمان في الجنة: نعيم عند رؤيته سبحانه، وهو أجلها وأشرفها، ونعيم عند احتجابه بما هم فيه من ظلال وفواكه وحور وولدان إلى آخره، فيا حبذا هذان النعيمان.
أخي المسلم، لقد كان رسولنا يسأل ربه لذة النظر إلى وجهه الكريم، فقد روى الإمام أحمد من حديث أبي مجلز قال: صلى بنا عمارُ صلاةً فأوجز فيها، فأنكروا ذلك، فقال: ألم أتمّ الركوع والسجود؟! قالوا: بلى، قال: أما إني قد دعوت فيها بدعاء كان رسول الله يدعو به: ((اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرةٍ ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين)) وأخرجه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما.
فالشوق إلى لقاء الله عز وجل هو لذة الروح في هذه الدنيا للمؤمن، وفي يوم القيامة يلتذ بالنظر إلى وجه الله الكريم الذي هو حظ العين من دون الجوارح كلها، وليس في هذه الدنيا لدى أهل المعرفة بالله لذة تعدل لذة الشوق إلى لقاء الله، كما أنه ليس في الآخرة لذة تعدل لذة النظر إلى وجهه سبحانه.
قال ابن القيم قدس الله روحه:
والله لولا رؤية الرحمن فِي الـ ـجنات ما طابت لذي العرفان
أعلى النعيم نعيم رؤية وجهه وخطابه فِي جنة الحيوان
وأشد شيء في العذاب حجابه سبحانه عن ساكنِي النيران
وإذا رآه المؤمنون نسوا الذي هم فيه مما نالت العينان
فإذا توارى عنهم عادوا إلَى لذاتهم من سائر الألوان
فلهم نعيم عند رؤيته سوى هذا النعيم فحبذا الأمران
أوَما سمعت سؤال أعرف خلقه بِجلاله المبعوث بالقرآن
شوقًا إليه ولذة النظر الذي بجلال وجه الرب ذي السلطان
الشوق لذة روحه في هذه الـ ـدنيا ويوم قيامة الأبدان
تلتذ بالنظر الذي فازت به دون الجوارح هذه العينان
والله ما في هذه الدنيا ألذّ من اشتياق العبد للرحمن
عباد الله، صلوا وسلموا على أفضل خلق الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/4293)
ظاهرة السهر بين الشرع والطب
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
لافي بن حمود الصاعدي
مكة المكرمة
جامع الفتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة السهر في الإجازة الصيفية. 2- كراهة النبي للسهر. 3- مفاسد السهر الشرعية. 4- أضرار السهر الصحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، من الظواهر التي تبرز مع بداية الإجازة وأصبحت عادة لا تحلو الإجازة إلا بها ظاهرة السهر إلى أوقات متأخرة من الليل أو إلى الفجر، فترى هؤلاء بالليل قيامًا وبالنهار نيامًا، ويفتخرون بذلك ويعدونه تطورًا وتقدمًا، بل إن الذي ينام بعد صلاة العشاء يشبهونه بالدجاج، نسأل الله السلامة والعافية، أصبحت سنة نبينا تشبه بمثل هذا التشبيه السيئ الذي يخشى على قائله إذا لم يتدارك نفسه ويعود إلى رشده.
أيها المسلمون، إن للسهر بالليل آثارًا وأضرارًا نذكر بعضها:
أولاً: السهر يخالف أمر النبي الذي نهى عن الحديث بعد صلاة العشاء كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه أن رسول الله كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: جدب إلينا النبي السهر بعد العشاء أي: عابه وذمه. أخرجه أحمد وابن ماجه وصححه الألباني، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((إياك والسهر بعد هدأة الليل، فإنكم لا تدرون ما يأتي الله من خلقه)) أورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
ثانيًا: من آثار السهر وأضراره إضاعة صلاة الفجر أو تفويتها، وقد جاء الوعيد الشديد للذي ينام عن الصلاة المكتوبة، ففي صحيح البخاري عن النبي في حديث الرؤيا الطويل قال: ((أما الذي يثلغ رأسه ـ أي: يكسر ويشج ـ بالحجر فإنه يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)). وقد أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الذي أحيا الليل بالصلاة ثم غلبته عيناه ونام عن الصلاة المكتوبة، أي: عن صلاة الفجر، وقال عمر له: (لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحب إليّ من أن أقوم ليلة) أخرجه مالك في الموطأ. هذا يقال فيمن قام الليل فكيف بمن أسهر ليله على الأغاني والمعازف؟! كيف بمن أسهر ليله على الأفلام والمسلسلات؟! نسأل الله السلامة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
من آثار السهر وأضراره أنه يخالف السنة الكونية الإلهية، فالله قد جعل الليل للنوم والراحة، وجعل النهار للانتشار وطلب الرزق، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47].
عباد الله، ومن آثار السهر الصحية، ونريد أن نطيل في هذه النقطة لأن كثيرًا من الناس يهتمون بكلام الأطباء أكثر من غيرهم، وما سنذكره من أضرار السهر على صحة الإنسان إنما هو تفسير وتوضيح لقول النبي : ((إن هذا السهر جهد وثقل)) رواه الدارمي وصححه الألباني.
وإليكم ما قاله الأطباء في أضرار السهر: أضرار السهر على بدن الإنسان متنوعة فمنها:
1– سوء التغذية، يقول الدكتور محمد الفراج: "فمع تغيُّر مواعيد النوم يصحو الإنسان متأخرًا أو مبكرًا، وتتغير مواعيد وجباته الغذائية، خاصة لدى صغار السن والشباب، وهذا بدوره يؤدي إلى البنية الهزيلة وضعف المقاومة، ويعرض الجسم لمختلف الأمراض بسهولة".
2- أضرار نفسية، يقول الدكتور طارق الحبيب: "إذا استمر ـ أي: على السهر ـ وأصبح عادة لديه فقد يصبح ذلك التأثير دائمًا، وتصطبغ به شخصية الفرد وسلوكياته، فيبدو متعكّر المزاج سريع الاستثارة بعض الشيء غير قادر على تحمّل المهام التي تتطلّب الجهد والتركيز"، ويقول الدكتور محمد الصغير: "كثيرًا ما يراجع العيادة النفسية أشخاص لديهم مشكلات نفسية وبدنية ناتجة عن اضطرابات في النوم، وأهم ذلك الكآبة والحزن، تعكر المزاج وسرعة الانفعال، القلق والتوتر، ضعف التركيز، سرعة النسيان، الكسل، الفتور وسرعة الإجهاد"، ويقول الدكتور محمد عاطف: "أما ما يخص الناحية النفسية فإن الإنسان يصاب بالهذيان والتشتت الذهني، وقد سجلت بعض الحالات التي أصيب أصحابها بالجنون من كثرة السهر ليلاً".
3– أضراره على ذاكرة الإنسان والجهاز العصبي، يقول الدكتور فهد الخضيري: "أكدت الدراسات والبحوث أن السهر من أقوى العوامل المؤثرة على الجهاز المناعي والمثبطة لنشاط ذاكرة الجسم المناعية وحركة خلايا الجهاز المناعي، وقد ثبت أيضًا أن السهر يعوق طرفيات الجهاز العصبي وخلايا الإحساس من أداء عملها بشكل فعال، وللسهر تأثير سلبي حاد على الجهاز العصبي والمخ، ويتسبب السهر في فقدان التركيز وضعف الذاكرة وبطء الاستجابة العصبية، وينصح من يريد الإبداع والإنتاج وزيادة القدرة العقلية والجسدية بالنوم مبكرًا بعد العشاء بساعة والاستيقاظ مبكرًا لكي تنتظم حياته وتستقر صحته".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
فنكمل أضرار السهر الصحية ومنها:
4– أضراره في نمو الإنسان وتكامل بنيته، يقول الدكتور محمد عاطف: "لقد أثبتت الأبحاث العلمية وأوضحت أن الكثير من الهرمونات التي يفرزها الجسم أثناء ساعات النوم ومنها على سبيل المثال لا الحصر هرمون النمو، وهو مسؤول عن إكساب الجسم المزيد من القوة العضلية والقوة الذهنية، ومع طول السهر يحرم الإنسان من إفراز الهرمونات بالصورة الطبيعية، ولوحظ كذلك زيادة إفراز هرمون الميلاتونين أثناء النوم ليلاً، وهو المسؤول عن إعطاء الجسم المزيد من الحيوية والنشاط وإكسابه المزيد من المناعة ضد الإصابة بالأمراض المختلفة بما فيها الأورام الخبيثة، ولذلك نلاحظ أن الذين يدمنون سهر الليالي يعانون من الكسل والهزال وضعف البنية الجسدية". وفي تقرير آخر ذكر أن سهر الأطفال يؤدي إلى التأخير في نموهم أو حتى توقفه، وذلك لعدم إفراز هرمون النمو بكمية كافية، وهذه الهرمونات تنشط البروتينات التي تساعد على بناء خلايا الجسم التي يموت منها عشرات الآلاف يوميًا وتقوي العظام وتعطي الطاقة للعضلات.
كما أن هرمون النوم الذي تقوم بإفرازه الغدة النخامية ينظم نشاط الهرمونات التي تساعد على التئام كسور العظام وتقلل نسبة الكوليسترول في الدم، إضافة إلى أن المعادن التي يحتاج إليها الجسم لا تثبت إلا ليلاً، وثبت علميًا أن النوم مهم لأعضاء الجسم الأخرى.
أما الذين يسهرون في الليل وينامون في النهار فإنهم يفتقدون لتلك العملية الحيوية المهمة للجسم؛ لأن نوم النهار لا يعوض ولا يعتبر بديلاً عن نوم الليل، وذلك بسبب اختلاف الجاذبية وطبيعة السكون وعوامل فيزيائية كثيرة، وصدق الله العظيم حينما قال: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:10، 11]، ولا يمكن تغيير هذه الطبيعة الفيزيائية ولا تغيير طباع الإنسان لكي يتعايش معها، فالليل هو السكن، وهو وقت الراحة، ويقول الدكتور محمد عاطف: "ولا شك أن النوم ليلاً له فوائد، ومن تلك الفوائد إبطاء عمل الجهاز العصبي، وهذا يؤدي بدوره إلى مزيد من الراحة لجميع أجهزة الجسم، وخصوصًا القلب والجهاز التنفسي، وهذه فائدة المحرومون منها المدمنون على سهر الليالي، فيصابون بأمراض القلب المختلفة والتوترات والقلق الدائم".
عباد الله، صلوا وسلموا على أفضل خلق الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم...
(1/4294)
زاد الشاكرين
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
سعد بن فجحان الدوسري
الصباحية
جامع ضاحية الصباحية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة نعم الله تعالى وتنوعها. 2- أعظم النعم. 3- وجوب الشكر لله تعالى. 4- بيان حقيقة الشكر. 5- شكر الأنبياء والصالحين. 6- مكافأة المعروف. 7- التحذير من كفران النعم بالعصيان. 8- بواعث على شكر الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إنّ نعَم الله على عبادهِ كثيرة، وآلاءَه للناس كبيرة، نراها ونشاهدها في حياتنا ومن حولنا، بل وفي أبداننا، فهذا السمع والبصر، وهذا النطق والحسّ، وهذا الفهم والعقل، وهذا المشي والقبض والبسط، وهذه نعمة الأمن والأمان، ونعمة الاستقرار في الأوطان، فكم من الناس من فقدها، فلا يدري كيف يصبح، ولا كيف يمسي، قد هدّد بالسلب والقتل، وخوِّف بالطرد والهدم، وهذه نعمة السلامة من الزلازل والفيضانات والمحن، التي تشرد الناس، وتقضي على الأموال والممتلكات، وهذه نعمة الرزق والمال ونعمة الصحة والعافية، وغيرها من نعم الله على العباد والبلاد، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [النحل:18]، فالحمد لله على نعمه العظمية، والشكر له على آلائه الجسيمة.
لكن اعلموا ـ يا عباد الله ـ أنّ أعظم هذه النعم نعمة الإسلام والإيمان والهداية والقرآن، قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فاحمد الله ـ يا عبد الله ـ أن أنشأك في بلاد المسلمين، وجعل أباك وأمك مؤمنين، فكم من الناس من حرِم هذه النعمة، وعرض للامتحان والاختبار والبحث عن الهداية للإسلام، قال الله تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
وهذه النعم ـ يا عباد الله ـ تحتاج إلى شكر لله تعالى عليها، وحمدًا له على إسدائها وإنعامها، وذلك بأن تظهِر أثر نعمة الله على لسانك ثناءً واعترافًا، وبقلبك شهودًا ومحبّة، وعلى جوارحك انقيادًا وطاعة، فهذا هو علامة الشكر لله تعالى.
علامة شكر المرء إعلان حمدِه فمن كتم المعروفَ منهم فما شكر
فاشكر الله ـ يا عبد الله ـ على عموم نعمه وجميع فضله، فإن بالشكر دوامَ النعم وزيادتها، وبالكفر والجحود ذهابها واضمحلالها، كما قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر يتعلق بالمزيد، وهما مقرونان، فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد)، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم".
ومن يسدِ معروفًا إليك فكن له شكورًا يكن معروفه غيرَ ضائع
ولا تبخلنّ بالشكر والقَرض فاجزه تكن خير مصنوع إليه وصانع
أيها المسلمون، إن مِن شكر الله عن نعمه وحمده على فضله التوجهَ إليه والخضوع بين يديه بأداء أوامره والابتعاد عن نواهيه، وهو العبادة له سبحانه، فهذا هو الشكر الحقيقي كما قال الله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، وقال الله تعالى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا [سبأ:13]، فالشكر بالعمل والطاعة والاجتهاد والمثابرة، فهذا هو الشكر الذي يريده الله ويحبه، وهو الذي أمر به المرسَلين وعبادَه الصالحين.
انظر إلى حال أنبيائه ورسله وأوليائه وأحبابه، يقابلون النعم بالشكر والثناء، ويجتهدون في عبادة رب الأرض والسماء، قال الله تعالى عن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ [النحل:120-121]، وقد رزقه الله الولد على كبَر سنه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ [إبراهيم:39].
وهذا داود وابنه سليمان عليهما السلام أعطاهم الله ملكًا لم يعطه أحدا من الناس، أخبر الله عنهم فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل:15].
وهذا لقمان الحكيم أخبر الله عنه فقال: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12].
أما نبينا محمد فقد ضرب أروعَ الأمثلة في شكر الله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي يصلي من الليل حتى تتورّم قدماه، فأقول: تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا)) متفق عليه، وكان من دعائه بعد كل صلاة: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أخي المسلم، إن مما تعارف عليه الناس واتّفق عليه العقلاء أن من أسدى إليك معروفًا أو قدّم لك خدمة فحق له عليك أن تشكره عليها وتحمده لأجلها، بأن تثني عليه بلسانك، وتجتهد في خدمته بجوارحك، وتتمنى لو سنحَت لك فرصة لكي تردّ عليه جميله.
أحسِن إلى الناس تستبعد قلوبهم فطالما استبعد الإنسانَ إحسان
وليس من الأدب أو ردّ الجميل أن تقصّر في حقه وأنت تستطيع أو تسيء إليه بلا ذنب، فإن هذا من خلُق اللئام وأفعال الطّغام، لذلك ثبت في الحديث أن النبي قال: ((من أتى إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا فادعوا له)) رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني، فكيف ـ يا عبد الله ـ إذا كان صاحب المعروف هو الله، وليس معروفًا واحدًا بل آلاف النعم في كل صباح ومساء وفي عمرك كله.
وليس من شكرِ الله تعالى على نعمه التنكبُ عن أمره والابتعاد عن طاعته وارتكاب كل ما يغضبه ويجلب سخطه، بل هو مدعاة إلى زوال النعمة وذهابها أو انعدامها واضمحلالها، وقد ذكر الله سبحانه لنا في القرآن قصة قرية لم تقابل النعم بالشكر فقال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، كما حكى الله لنا قصة مملكة سبأ وما أعطاها الله من أنواع النعم والخيرات، فلم تشكر، فقال تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ:16، 17].
وقد حكى لنا الرسول قصة فيها مثال لشكر النعمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: ((إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملَكا، فأتى الأبرص فقال: أيّ شيء أحب إليك؟ قال: لونٌ حسن وجِلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه قذره، وأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل ـ أو قال: البقر شك إسحاق إلا أن الأبرص أو الأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر ـ، قال: فأعطي ناقة عشراء، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا الذي قذرني الناس، قال: فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر، فأعطي بقرة حاملا، فقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأعمى فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس، قال: فمسحه فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والدا. فأنتج هذان وولد هذا، قال: فكان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من البقر، ولهذا واد من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغَ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللونَ الحسن والجلد الحسن والمال بعيرًا أتبلّغ عليه في سفري، فقال: الحقوق كثيرة، فقال له: كأني أعرفك! ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله؟! فقال: إنما ورثتُ هذا المال كابرا عن كابر، فقال: إن كنت كاذبا فصيّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ على هذا، فقال: إن كنتَ كاذبا فصيَّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأعمى في صورته وهيئته فقال: رجل مسكين وابن سبيل، انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلّغ بها في سفري، فقال: قد كنتُ أعمى فردّ الله إليّ بصري، فخذ ما شئتَ ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم شيئا أخذته لله، فقال: أمسِك مالك، فإنما ابتلِيتُم، فقد رضي عنك وسخط على صاحبيك)) متفق عليه.
أيها الأحبة الكرام، ليس من شكر نعمة الله تعالى تركُ الصلاة التي أمر الله بها أو الإفطار في نهار رمضان لغير عذر شرعي أو منع الزكاة التي هي حقّ الله في المال أو ترك الحجّ الذي هو ركن من أركان الإسلام، كما أنه ليس من شكر النعمة محاربة الله ورسوله بالربا أو السعي وراء المسكر والزنا أو الاستهزاء بالدين وشريعة رب العاملين، أعاذنا الله وإياكم وجميع المسلمين.
عباد الله، ومما يعين على شكر الله على نعمه ما يلي:
1- القناعة بما قسم الله لك من رزق، ففي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فأنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) متفق عليه.
2- العلم بأن الله سائله عن شكره لنعمه، قال الله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا ابن آدم: حملتك على الخيل والإبل، وزوجتك النساء، وجعلتك تربع وترأس، فأين شكر ذلك؟! قال الله سبحانه: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ [التكاثر:8] )).
3- العلم بأن النعمة تدوم بالشكر، وتزول وتضمحل بالجحود والكفر، قال الله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
4- شكر الناس على معروفهم، ففي سنن أبي داود وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يشكر الله من لا يشكر الناس)).
اللهم ارزقنا شكر نعمتك، وألهمنا حمدك والثناء عليك، ووفقنا للخير بتوفيقك، واعصمنا من الشر بعصمتك يا رب العاملين...
(1/4295)
الحزن في ميزان الشرع
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
28/7/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النفس البشرية مفطورة على المشاعر والانفعالات. 2- الشعور الحزن والأسف. 3- ضرورة التوازن والاعتدال في المشاعر والانفعالات. 4- حقيقة الحزن. 5- ضرر كثرة الحزن. 6- الحزن في القرآن الكريم. 7- سبب النهي عن الحزن. 8- الفهم الإسلاميّ الصحيح في التعاملِ مع الأحزان. 9- العلاج الشرعي للشعور بالحزن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، إنَّ الله جلَّت قدرتُه وتعالى أمره قد خلَق النفسَ البشريّة في أحسن تقويم، وحملها في البرّ والبحر، ورزقها من الطيّبات، وفضَّلها على كثير ممّن خلق تفضيلا. وقد كان ممّا خلقه الله في تِلكم النفس المشاعر والانفعالات والعواطف والأحاسيس التي تعبِّر عنها النفس من خلال الضحِك والبكاء والهمِّ والغمّ والحِلم والغضب والحزن والسرور بقدرِ ما يعتري النفسَ من دواعٍ تستجلِب أيًّا من تلكم المشاعر، وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم:42-44].
وإنَّ من بين تلكم المشاعرِ المودَعَة في النفسِ شعورَ الحزن والأسف لدى الإنسانِ، والذي يعتريه بين الحينِ والآخر بسببِ الدواخل والعوارِض المصاحبة له. بَيدَ أنّ كثيرًا من الناس ليس لديهم من الوعيِ والتصوُّر لهذا الشعور ما يجعَلهم يحسنون فهمَه ويجيدون التعاملَ معه في حدود الفهمِ الصحيح المشروع؛ إذ تتراوَح مفاهيمُ جملةٍ منَ الناس فيه صعودًا وهبوطًا في حينِ إنّ الوسط هو العدلُ المقرَّر، ولذا كان من حكمةِ الله جلّ وعلا أن جعلَ تلكم المشاعرَ تتناوَب في التفاعلِ مع الإنسانِ على وجه العارِض لا على وجه الديمومةِ، وإلاّ لهلك الإنسان بدوامِ الحال مع شعور واحدٍ فحَسب، فالحزن على سبيلِ المثال شعورٌ يعترِض المرء أمام المصائب والنوازلِ، غيرَ أنَّ سلامته واستقرارَ حاله يقتضيان عدمَ دوام هذا الشعور، وإلاّ كان صاحبُه حرضًا أو كان من الهالكين، كما أنّه في الوقت نفسِه لو عاش دائمَ الفرح لا يتطرَّق إليه الحزن بوجهٍ لخُشِي عليه قسوةُ القلب أو مَوَتانه، قال إبراهيم التيمي رحمه الله: "ينبغي لمن لم يحزَن أن يخاف أن يكون من أهلِ النار لأنَّ أهل الجنة قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34]، وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنّة لأنهم قالوا: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26، 27]" [1] ، وقال الفضيل رحمه الله: "إنّ القلب إن لم يكن فيه حزنٌ كالبيت إذا لم يكن فيه ساكن" [2].
والمحصِّلَة الباعثةُ على استقرار النفس وحُسن تعايشها مع المشاعر ـ عبادَ الله ـ هو التوازُنُ والاعتدال، فلا ينبغي للمرءِ أن يطلقَ لنفسه العِنان في المغالاةِ في الحزن والمداومة عليه اعتمادًا على أحاديثَ منسوبةٍ إلى النبي لا تثبُتُ صحّتُها بأنّه كان متواصِلَ الأحزان [3] ، أو كما في الخبر الآخر: ((إنّ الله يحبّ كلَ قلب حزين)) [4].
الحزن ـ أيها الناس ـ نقيضُ الفرَح والسرور، وهو ما يحصل لوقوعِ مَكروه أو فواتِ أمرٍ محبوب، وأمّا ما يتعلَّق بالمستقبل فإنه يقال له: همّ، وإذا ما اشتدَّ الحزن حتى يصرِفَ المرءَ عمّا هو بصدَدِه ويقطعه عن مواصلةِ الطريق فإنه يقال له: جَزَع، وهو أبلغ من الحزن، وقد نهِيَ عنه شرعًا.
ثم إنَّ من المتقرِّرِ في هذا الصدَدِ ـ عبادَ الله ـ أنَّ كثرةَ الحزن سببٌ لضعف البدن كما ذكر ذلك جماعةٌ من أهل العمل والحِكمة، غيرَ أنّه عرَض جبليٌّ فِطري ينتاب بني البشَر عندما يغالبون صروفَ الحياة ومحَنَها، وهو ميدان لا بد للمرء من نزوله على هذه البسيطة؛ لأنَّ المرء مبتلًى في هذه الحياة الدنيا لا محالةَ، كما قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]. والحزن مرتهنٌ بالبلاء لكنّه في الوقتِ نفسِه ليس من المطالبِ الشرعيّة ولا من المستحبَّات في كثير من صوَرِه، وما الاستحباب والنّدب إلا في كيفيّة التعامل معه لا في تحصيلِه وإيجادِه، قال عكرمة رحمه الله: "ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعَلوا الفرَح شُكرًا والحزنَ صَبرًا" [5].
فالحزن ـ عباد الله ـ لم يرِد في القرآن إلا منهيًّا عنه، كما في قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139]، وقوله: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ [الحجر:88]، وقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وقوله وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ [يونس:65] والآيات في ذلك كثيرة.
وسبَبُ النهيِ عن الحزن أنه لا مصلحةَ فيه للقلب، بل هو أحبّ شيءٍ إلى الشيطان أن يحزِّنَ العبدَ ليقطَعَه عن مواصلَةِ طريق الحقّ، كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ [المجادلة:10]، وقول الرّسول : ((إذا كنتم ثلاثةً فلا يتناجَى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالنّاس من أجل أن يحزِنَه)) رواه مسلم [6] ، وكقول النبي في أنواع الرؤيا المناميّة: ((ورؤيا تحزين من الشيطان)) رواه البخاري ومسلم [7].
أيّها المسلمون، إنَّ الفهمَ الإسلاميَّ الصحيح في التعاملِ مع الأحزان فهمٌ فريد من نوعِه، وإنما اختصَّت به أمّةُ الإسلام دونَ غيرها لأنّ مفهوم غيرِ المسلمين في التعامل معها يُعَدّ ضيِّقَ النطاق تافِهَ الغاية ضعيفَ العِلاج؛ إذ ينحصر التعاملُ مع الأحزان عندهم في العويلِ واللّطم والانتحار والمصحَّات والعقاقير المهدِّئَة وتعاطي المسكِراتِ والمخدِّرات والغناء والمعازِف ليس إلاَّ، وأمّا الفهمُ الإسلاميّ فقد تجاوز مثلَ ذلكم التعامل بمراحل ليست هي من بابةِ فَهمِهم في وِردٍ ولا صَدر، فصار الفهمُ الشرعيّ للحزن خمسة أضرُب:
أوّلها: الحزنُ المكروه كراهةَ تنزيه، وهو الذي يكون على فواتِ أمرٍ من أمور الدنيا، ومثلُ هذا الضرب ينبغي للمرء أن يتغلَّب عليه لقوله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:22، 23].
والضّرب الثاني: الحزن الواجبُ، وهو الذي يعدُّ شرطًا من شروط التوبةِ النصوح، والمتمثِّل في الندم على فعل المعصية، والنّدم حُزنٌ في القلب يكون بسبَبِ ما اقترفته اليدان من المعاصي والذنوب.
والضرب الثالث: الحزن المستحبّ، وهو الذي يكون بسبَب فوات الطاعة وضياعِها على المرء، كما في قوله تعالى عن موقفِ الفقراء الذين لم يحمِلهم النبيّ في غزوة تبوك: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:92، 93]. فهم هنا مدِحوا على ما دلَّ عليه الحزن من قوّةِ إيمانهم، حيث تخلّفوا عن رسول الله لعجزِهم عن النفقةِ، بخلاف المنافقين الذين لم يحزَنوا على تخلّفهم، بل غَبطوا نفوسَهم به.
والضرب الرابع عباد الله: هو الحزن المباح، وهو الذي يكون بسبَب نازِلة ومصيبةٍ أحلَّت بالمحزون كفقدِ ولدٍ أو صديق أو زوجةٍ أو أمّ أو والِد، كما قال تعالى عن يعقوب عليه السلام في فَقدِ ابنه يوسف عليه السلام: وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ [يوسف:84]، وكما فعل النبي حينما مات ولده إبراهيم فقال: ((إن العينَ لتدمع، وإنّ القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضِي الربَّ، وإنّا على فراقك ـ يا إبراهيم ـ لمحزونون)) رواه البخاري ومسلم [8].
والضرب الخامس من ضروب الحزن: هو الحزنُ المذموم المحرَّم، وهو الذي يكون على تخاذلِ المتخاذلين والمعرضين عن الحقّ وعن شِرعة الله تعالى لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [المائدة:41]، وقوله: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، وقوله: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النمل:70]، وقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:90].
ويستثنى من ذلكم ـ عباد الله ـ إذا كان الحزنُ لما أصابَ أمثالَ هؤلاء سببُه الاعتبارُ والادّكار واستحضار عظمَة الله سبحانه وقدرَته على الانتقام من المعاندِين الضّالين، كما في قصّة أبي الدرداء رضي الله عنه حينما بكى وحزن وقد رأى دولةَ الأكاسرة تهوي تحتَ أقدام المسلمين، وقد قال له رجل: يا أبا الدرداء، تبكي في يومٍ أعزّ الله الإسلامَ وأهله؟! فقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه: (ويحك يا هذا، ما أهونَ الخلق على الله إذا أضاعوا أمرَه، بينما هي أمة قاهرة ظاهرةٌ ترَكوا أمرَ الله فصاروا إلى ما ترى) [9].
أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:62، 64].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِا من الآياتِ والذّكرِ الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه كانَ غفّارًا.
[1] رواه ابن أبي الدنيا في الهم والحزن (ص39)، وأبو نعيم في الحلية (4/215)، والبيهقي في الشعب (1/517).
[2] رواه أبو نعيم في الحلية (2/360) من كلام مالك بن دينار، وانظر: صفة الصفوة (3/283)، وسير أعلام النبلاء (5/363).
[3] رواه ابن أبي الدنيا في الهم والحزن (ص27)، والآجري في الشريعة، والطبراني في الكبير (22/155)، والبيهقي في الشعب (2/154) عن هند بن أبي هالة رضي الله عنه، قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/507): "حديث لا يثبت، وفي إسناده من لا يعرف"، وقال الهيثمي في المجمع (8/487): "فيه من لم يسم".
[4] أخرجه ابن أبي الدنيا في الهم والحزن (ص28)، والطبراني في مسند الشاميين (1480، 2012)، وأبو نعيم في الحلية (6/90)، والبيهقي في الشعب (1/515)، والخرائطي في اعتلال القلوب، وابن عدي في الكامل (2/39)، والقضاعي في مسند الشهاب (1075) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وصححه الحاكم (7884)، وأعله الذهبي بأبي بكر بن أبي مريم والانقطاع في إسناده، قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/507): "لا يعرف إسناده، ولا من رواه، ولا تعلم صحته"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (483). وفي الباب عن معاذ رضي الله عنه وهو في السلسلة الضعيفة أيضا (3117).
[5] انظر: تفسير ابن كثير (4/315).
[6] صحيح مسلم: كتاب السلام (2184) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البخاري في كتاب الاستئذان (6290).
[7] صحيح البخاري: كتاب التعبير (6614)، صحيح مسلم: كتاب الرؤيا (2263) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] صحيح البخاري: كتاب الجنائز (1303)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2315) من حديث أنس رضي الله عنه.
[9] أخرجه الطبري في تاريخه (2/602)، وأبو نعيم في الحلية (1/217)، وابن الجوزي في المنتظم (4/364).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعدَه.
وبعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين.
واعلموا أنَّ من سعَةِ الإسلام وسماحته أنه لم يدَع شيئًا للأمة فيه خيرٌ إلا دلَّها عليه، ومن ذلكم طرُق التعامُل مع شعورِ الحزن الذي يعتري الإنسانَ، فلقد كان الموقف الإسلاميّ غايةً في إتقانِ التعامل مع الأحزان، وذلك من خلال التعوُّذِ منها قبل وقوعِها، ثم بالمثوبَةِ على الصبر عليها بعد وقوعها، ثم في طريقة رفعها بعد وقوعِها.
فقد كان من صوَرِ التعامل معها قبل الوقوع كثرةُ تعوذّ النبي منها كما في قوله : ((اللهمّ إني أعوذ بك من الهمّ والحزن)) الحديث رواه البخاري ومسلم [1].
وأمّا في مقام ما للصابِر على الأحزان التي تصيبه فقد قال النبي : ((ما يصيب المرءَ من نصبٍ ولا وَصب ولا همّ ولا حزن ولا أذى حتى الشوكَة يُشاكها إلا كفّر الله بها خطاياه)) رواه البخاري ومسلم [2].
وأمّا في التعامل معها لرفعِها بعد وقوعها فقد جاءَت الشريعة بدواءَين ناجعين:
أحدهما: دواء حسيٌّ مادّيّ وهو ما يسمَّى بالتلبينَةِ، وهي طعام يصنَع من حسَاء من دَقيق أو نخالة فيه عَسَل أو لَبن أو كِلاهما، لما رواه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمُر بالتّلبين للمريض أو للمحزون على الهالك، وكانت تقول: إني سمعت رسول الله يقول: ((إنّ التّلبينَة تجمّ فؤادَ المريض وتذهب ببعض الحزن)) [3] ، وقوله: ((تجِمّ الفؤادَ)) أي: تريحه.
وأما الآخر: فهو دواءٌ معنويّ روحاني دلَّ عليه المصطفى بقول: ((ما قال عبد قطّ إذا أصابه همّ وحزن: اللّهمّ إني عبدك وابن عبدِك وابن أمَتِك، ناصيتي بيدِك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عَدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكلّ اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابِك، أو علَّمته أحدًا من خلقِك، أو استأثرتَ به في علمِ الغيب عندك، أن تجعلَ القرآنَ العظيم ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاءَ حزني وذهاب همّي، إلا أذهب الله عز وجل همَّه وأبدله مكانَ حزنه فرحًا)) ، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلَّم هؤلاء الكلمات؟ قال: ((أجل، ينبغي لمن سمِعهنّ أن يتعلَّمهن)) رواه أحمد [4].
يضاف إلى ذلكم ـ عباد الله ـ العلاج المعنويّ وهو محادَثة المحزونِ نفسَه واستحضاره عظمةَ الله وقضاءَه وقدره وأنّ ما أصابه لم يكن ليخطئَه وأنّ ما أخطأه لم يكن ليصيبَه، حتى تهدَأَ نفسه ويزولَ عنه ما يجد، وهذا ما يسمَّى في اصطلاحِ الطبّ النفسيّ المعاصر بالعلاج الذهنيّ.
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد الله صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدَأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا)).
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما بارَكت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد...
[1] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6363، 6369)، صحيح مسلم: كتاب الذكر (2706) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5642)، صحيح مسلم: كتاب البر (2573) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.
[3] صحيح البخاري: كتاب الطب (5689)، صحيح مسلم: كتاب السلام (2216).
[4] مسند أحمد (1/398، 452) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البزار (1994)، وأبو يعلى (5297)، والطبراني في الكبير (10/169)، والحاكم (1877)، وصححه ابن حبان (972)، وهو في السلسلة الصحيحة (199).
(1/4296)
منزلة الأعمال من الإيمان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, حقيقة الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
28/7/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الإيمان. 2- ارتكاز الأعمال الصالحة على العقيدة الصحيحة. 3- ضلال من ينادي بفصل الأعمال عن الإيمان. 4- الإيمان الحق ينتج الأعمال الصالحة. 5- ابتداء الأنبياء دعوتهم بتصحيح العقيدة. 6- أهمية الإخلاص وآثاره. 7- منزلة الأخلاق الكريمة. 8- حبوط العمل الخالي من الإخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أجمع علماءُ سلفِ هذه الأمّة من الصّحابةِ والتابعين ومن تَبِعهم بإحسانٍ أنَّ الإيمانَ مُكوَّن من عقيدةِ القَلب وعمَلِ الجوارِح ونُطقِ اللّسان، وأنَّ الأَعمالَ الصالحةَ القوليّةَ والفِعليّةَ جزءٌ مِن أجزاءِ الإيمانِ، فلا يمكِن إيمانٌ بلا عمل، وأيّ إيمانٍ خالٍ من العمَل فهو إيمان لا حقيقةَ له؛ إذ لو كان إيمانًا حقًّا لأنتجَ الأعمالَ الصالحة ودعَا إلى الالتزام بالأعمال والأخلاقِ الكريمة.
إنَّ من يتأمّل كتابَ الله وسنَّة محمَد ليجِد حقًّا أنّ الأعمالَ الصالحة إنما هي مرتكِزة على العقيدة السّليمة، وأنَّ العقيدة الحقّةَ هي التي تدعو إلى التزامِ الأعمال والقيامِ بالواجباتِ والفرائض والتخلُّق بالأخلاق الفاضِلة والسّيَر النبيلةِ.
أيّها المسلم، وكلُّ عملٍ مبتورٍ عن العقيدةِ فعَمَلٌ لا أثرَ له وعملٌ لا استقرارَ له، بل هو عمل مبتورٌ، بل هو عملٌ لا حقيقةَ له، ولا ينفَع صاحبَه لا في الدنيَا ولا آخِرة، وإن نفَعه في الدنيا زمنًا ووقتًا لكنّه عمَلٌ مبتور، لا يبقَى له أثر، وفي الآخرة العذابُ الأليم.
أخي المسلم، إنَّ هناك من ينادِي إلى تكوينِ فئةٍ مسلمةٍ أو جماعةٍ مسلمة أو حزبٍِ مسلم، ينادون بتكوينِه، هذه الفئةُ أو الجماعة أو الأحزاب ـ وسمِّ ما شئت ـ ما حقيقة إسلامِها؟! ينادون بأنّه لا ارتباطَ بين الإيمان والأعمال، ينادون بأنَّ العقيدة الصحيحةَ لا يُعوَّلُ عليها، ينادونَ بأن تكونَ العلاقة علاقةً إسلاميّة، لكن لا صلَةَ لها بالعقيدة، ولا ارتباطَ لها بالعقيدةِ، فيرونَ العقيدة مفرِّقةً للشّمل، ويرون العقيدةَ عائقةً دون تقدّمِهم وأعمالهم، ويرون العقيدةَ السلَفيّة الصالحة عقبةً أمام آرائهم وأفكارهم، كلّ ذلك من تزيين الشيطانِ وتحسينه، ويأبى الله ذلك.
إنّ الإيمان الحقَّ هو الذي ينتج أعمالاً صالحَة، فالإيمان بالله وأسمائِه وصفاتِه، إفرادُه بالعبوديّة، إخلاصُ الدين له هو الذي يدعو إلى الأعمالِ الصالحة، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:1-3]، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
ولذا نرَى محمَّدًا يفتَتِح دعوتَه بالدعوة إلى "لا إلهَ إلاّ الله"، يبدأ دعوتَه كما بدَأ إخوانُه الأنبياء والمرسَلون قبله، بالدّعوة إلى توحيدِ الله، إلى إخلاصِ الدّين لله، إلى أن يفرَدَ الله وحدَه بالعبادة، إلى تعلُّق القلبِ بالله رجاءً ومحبّةً وخوفًا. بقِيَ بمكّةَ عشرَ سنين لم تفرَض عليه صلاةٌ ولا زكاة ولا أيّ فريضة، وإنما التوحيد يُبدِئ ويعيدُ فيه، ويعلِنُه ويدعو إلَيه، ويجتَثّ جذورَ الشرك من القلوب، حتى إذا حلَّ التوحيد محلَّ الشّركِ والإيمانُ محلَّ الكفرِ جاءت الفرائض والواجباتُ؛ لأنها مكمّلةٌ لهذا الدين والدّالّة على صدقِ الإيمان وحقيقته.
أيّها المسلم، انظر إلى أهلِ الإخلاص كيف يكون إخلاصُهم، وما هي آثار إخلاصِهم في أعمالهم. آثارُ إخلاصِهم أنّ هذه الأعمالَ التي يعملونها يبقَى لهم ذكرٌ في الدنيا والآخرة، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]. أعمالٌ عمِلوها أخلَصوها لله يجدون ثوابَها عند الله، المخلِصون لا ينحرِفون عن أعمالِهم، المخلصون مستقيمون على طاعتهم، المخلِصون مواصِلُون للأعمالِ الصالحة، قال الله جلّ وعلا عنهم: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:9-12].
أخِي المسلِم، الإخلاصُ يمنَع العبدَ مِن معاصي الله، كلّما همَّ بسيّئة تذكَّر المقامَ بين يديِ الله، تذكَّر علمَ الله به واطِّلاعَه عليه وأنَّ اللهَ يسمَع كلامَه ويرى مكانَه ويعلَم سرَّه وعلانيتَه، وكلُّ أعمالِه يعلمُها ربّه قبل أن يعمَلَها، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].
أجل أيّها المسلم، كلّما تذكّر العبدُ عِلمَ الله، كلّما قام بقَلبه الإيمانُ بأسماء الله وصفاتِه وحقَّق ذلك الإيمانَ، كلّما أفرد اللهَ بالعبادة وتبرَّأ من كلّ معبودٍ سِوى الله، كلّما اتَّحد توحيدُه وعلِم أنَّ العبادةَ كلَّها لخالقِ الأرض والسماء، عند ذلك يقوَى الإخلاص ويتضاعَف اليقينُ ويزداد العبدُ خيرًا وهدى.
انظر إلى نبيِّ الله يوسُف عليه السلام والمحن التي مرَّت به والمغرِيَات التي عرَضَت له كيف تخطَّاها وتجاوَزها رغمَ كثرتِها، ما السببُ في ذلك؟ السبَب واضحٌ، سبَبٌ واحد، إخلاصُه لله حماه من كلِّ سوء، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]. لمّا أخلَصَ للهِ توحيدَه أخلص للهِ عقيدتَه صار هذا الإخلاصُ سببًا لاتِّقاء المحرَّمات والقيام بالواجب.
أيّها المسلم، كم ينفَع الإخلاصُ أهلَه، وكم ينجيهِم من المضائِق والهموم، انظر إلى الثلاثةِ الذين انطبَقَت عليهم الصخرةُ في الغار، فأصبَحوا لا يقدِرون على أن يخرُجوا، لا يُسمَع لهم صوتٌ، ولا حولَ ولا قوّةَ لهم، ففكَّروا فالتَجؤوا إلى الله، وسألوا الله بما قام بقلوبهم من إخلاصهم لله، البارُّ بوالديه قال: اللّهمّ إن كنت تعلَم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهِك فافرُج عنّا، فانفَرج عنهم شيءٌ، المترفِّع عن المعاصي بعد القدرةِ عليها قال: يا ربّ، إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرج عنّا، فانفرَج عنهم شيء، المؤدِّي للأمانة قال: إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك فافرُج عنّا، فانفَرَجت الصخرةُ وخرَجوا يمشون [1].
تلك آثارُ الإخلاص، تلك آثار العقيدةِ الصحيحة، أمّا العملُ بلا عقيدةٍ فعمَل حابِطٌ في الدنيا والآخرة، وإن نال به أصحابُه عرضَ الدنيا، لكنه عند الله حابِطٌ، قال جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
أيّها المسلمون، إنَّ الأخلاقَ الكريمةَ جزءٌ من إيمانِ المسلم، فدينُه يدعوه إلى كلّ خير، ويربأ به عن كلِّ رذيلةٍ، ألا تسمَع النبيَّ يقول: ((آيةُ المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذَب، وإذا وعدَ أخلف، وإذا ائتُمِن خان، وإن صلَّى وصام وزعَم أنه مسلم)) [2] ؛ إذِ الإسلام الحقيقيُّ والإيمان الصادِق هو الذي يحَلِّي العبدَ بمكارِم الأخلاق، فيتحلَّى بالصّدق والصّلَة والأمانةِ والبيانِ والوضوح والنُّصح وبذلِ المعروف والأخلاقِ العاليَة التي دعا إليها دينُ الإسلام، وصدَق الله في وصف نبيِّه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، تقول عائشة: هذا خُلُق رسولِ الله، خُلُقه القرآن [3] ، يعمَل بأوامره، ويجتنِب نواهيَه، ويتأدَّب بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه، وأخلاقُ الإسلام مبنيَّة على العقيدَة الصحيحةِ حقًّا.
قال الله جلّ وعلا مبيِّنًا حالَ عدَمِ الإخلاص: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
لقد كان عندَ العرَب في جاهليّتهم أخلاقٌ مِن كرَمٍ وشجاعةٍ وبذلِ معروفٍ إلى غير ذلك، لكن لما كانَت تلك الأخلاقِ لا ارتباطَ لها بالعقيدةِ لم تنفَع أصحابَها. سأل عديّ بن حاتم النبيَّ عن أبيه حاتم طيء وما له من مكانٍ وعظيمِ كرَمٍ وبَذلٍ للمَعروفِ إلى غير ذلك قال: ((إنَّ أباك أرادَ شيئًا فنالَه)) [4] ، يعني ما كان عملُه خالصًا، وما كان عملُه لله، وإنما أرادَ أبوك ثناءً في الدنيا فنالَ هذا الثناءَ فقط، وليس له في الآخرة اعتبار.
سألت عائشةُ رضي الله عنها النبيَّ عن عبد الله بن جدعَان الذي عرِف بالكرَم ووَصفوا جفنَتَه بما وصَفوها به وأنَّ الراكبَ ربما أكَل منها وهو راكِب لِعظَم شأنها والنبيُّ زاحَم عليها في صغَرِه: أيَنفع ابن جدعان ذلك؟ قال: ((لا، إنّه لم يقل يَومًا من الدّهرِ: ربِّ اغفِر لي خطيئَتي يومَ الدّين)) [5].
إذًا فالأعمال التي لا عقيدةَ لها أعمالٌ حابِطة وأعمالٌ مبتورَة وأعمال لا تبقَى ولا تستمرّ، إنما يبقَى الخيرُ المربوط بالعقيدة، ولهذا لما بعَث الله محمّدًا ودخَل في الإسلام من دخَل فيه وقارَنوا بين جاهليَّتِهم وبين الإسلام عرَفوا عظيمَ نِعمة الله عليهم وتصوَّروا ذلك الباطلَ الذي عاشوه وضلالَه وأخطاءَه، ثم تصوَّروا نعمةَ الله عليهم بالإسلامِ والإيمان، فازدادوا ثباتًا في إيمانهم واستقامةً على إسلامِهم، وعرَفوا الحقَّ من الباطل، ولذا قال عمَر رضي الله عنه: (إنما تُنقَض عرَى الإسلام عروةً عروةً إذا نشَأ في الإسلام من لا يعرِف الجاهلية) [6] ، فمن لم يعرِف الجاهليّةَ وضلالها وأخطاءَها لم يكن فهمُه للإسلام صحيحًا.
محمّد لما أراد الله به الخيرَ وأن يجعلَه خاتمَ أنبيائه ورسلِه ـ وربُّك أعلَم حيث يجعَل رسالتَه ـ جبَلَه على كلِّ خلُقٍ كريم، فعاش في الأخلاقِ منذ نشأتِه إلى أن بُعث، كان من نكاحٍ ولم يكن من سِفاح، كان على جانِبٍ من مكارِمِ الأخلاق وفضائِلِ الأعمال. تعرِفُه قريش منذ نعومةِ أظفاره بأنّه الصادق الأمين، فالصّدق والأمانةُ خلُقان له ، عرِف بهما في الجاهليّة، حتى إذا جاء الإسلام وحاوَل أن يكذِّبَ من يكذِّب قالوا بألسنَتِهم خلافَ ما يعتقِدون؛ ولذا قال الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]. عندما جاءه الوحيُ في أوّل مرّةٍ ارتاع لِمَا رأَى، فأتى خديجةَ زوجتَه المباركة الطيّبة أمَّ المؤمنين فقال وأخبرها بما جرَى، فقالت: كلاّ والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنّك لتصِل الرحم وتقرِئ الضيفَ وتكسِب المعدومَ وتعينُ على نوائب الحقِّ [7]. فصلوات الله وسلامه عليه أبَدًا دائمًا إلى يوم الدين. بعِث ليتمِّمَ مكارمَ الأخلاق.
أيّها المسلم، فاعلم أنَّ كلَّ أعمالِك وأقوالك إن تكُن مرتَكِزة على عقيدةٍ إيمانيّة صالحة فالأخلاقُ والأعمال تنفَع وتدوم وتستقِرّ، وإن كانت مبنيّةً على غير عقيدةٍ وعلى غير منهجٍ إسلاميّ يجعل الأعمال جزءًا من الإيمان فإنَّ هذه الأخلاقَ لا استقرارَ لها ولا ثباتَ لأهلها.
فأخلاق المؤمنين أخلاقُهم الكريمةُ وأعمالهم الطيّبة وصفاتهم الحميدةُ امتدادٌ لعقيدتهم الصحيحةِ التي قامَت بقلوبهم من إيمانٍ بالله ربًّا، إيمانٍ بأسمائه وصفاته، إيمانٍ بإخلاصِ الدّين له، إيمان بأنّه النافعُ الضارّ، وأنه يجِب أن يقصَدَ بالعَملِ ولا يشرَكَ معه غيرُه، وفي الحديث القدسيّ: ((يقول الله: أنا أغنى الشركاءِ عن الشّرك، من عمِل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركتُه وشركَه)) [8] ، وفي لفظ: ((وأنا منه بريء)) [9]. فالله لا يقبَل من أعمالنا وأقوالِنا إلاّ ما كان خالِصًا لوجهِه، نبتغِي به وجهَه والدارَ الآخرة، الأعمال والأقوال ممتدَّةٌ مِنَ العقيدةِ السليمة.
أمّا إيمانٌ بلا عقيدة إسلامٌ بلا توحيد مَنهجٌ يُقام على غيرِ هذا التوحيد الخالص فمنهَجٌ باطِل وأعمال حابِطَة، لا قيمةَ لها ولا اعتبارَ. لا بدَّ من تصحيحِ العقيدة أوّلاً؛ بأن يعتقِدَ المسلم أنَّ ربَّه وحده هو المستحقّ لأن تصرَفَ له كلّ أنواع العبادة، وأنَّ حركاته وسكناتِه يجب أن تكونَ في سبيل ما يقرِّبه إلى الله زلفى وفي سبيلِ ما يعلي شأنَه وفي سبيل ما يجعله صادِقًا في أقواله وأعماله.
ألا ترَى الصحابة رضي الله عنهم ومن سلَك مسلَكهم من التابعين وتابعِيهم وعلماءِ هذه الأمة الذين حفِظ الله بهم الشريعةَ حفِظ الله بهم الكتابَ والسنّة ما هي آثارُهم؟ ما هي أخلاقُهم؟ يدعَى لهم في اللّيلِ والنهار، وكلُّ من قرَأ لهم دعَا لهم وترحَّم عليهم. وانظر إلى أهل البدَع وأهلِ المقالات الباطلة كيف انتَهَت آثارُهم، وكيف قبِرت أخلاقُهم، وإن ذكِروا ذكِروا بما اشتَمَلوا عَليه من العيبِ للإسلام وأهله. فأهلُ التوحيد الخالِص هم أهلُ الأعمال الصالحة، وإذا خلاَ القلبُ من توحيدِ الله والإيمانِ بأسمائه وصفاتِه وكمالِ ربوبيّته وقدرتِه على كلّ شيء، إذا خلاَ القلب من هذا فالأعمالُ لا تنفَع ولا تفيد.
أسأل الله أن يوفِّقَني وإياكم لكلِّ عمَلٍ يرضيه، إنه على كل شيء قدير.
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة الخالصة أخرجها البخاري في الأدب (5974)، ومسلم في الذكر (2743) عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوها.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (746) من حديث سعد بن هشام بن عامر في قصة طويلة، وفيها: فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي كان القرآن.
[4] رواه الطيالسي (1034)، وأحمد (4/258، 377)، والطبراني في الكبير (17/104)، والبيهقي في الكبرى (7/279) عن عدي رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (332)، وقال الهيثمي في المجمع (1/119): "رجاله ثقات"، وانظر: السلسلة الصحيحة (3022).
[5] أخرجه مسلم في الإيمان (214) عن عائشة رضي الله عنها وكانت هي السائلة.
[6] انظر: مفتاح دار السعادة (1/295)، ومدارج السالكين (1/343)، والجواب الكافي (ص152).
[7] أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي (4)، ومسلم في كتاب الإيمان (160) عن عائشة رضي الله عنها.
[8] أخرجه مسلم في الزهد (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] هذه الرواية عند أحمد (2/435)، وابن ماجه في الزهد (4202).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يومَ القيامة إذا جمع الله الخلائقَ الأوّلينَ والآخرين أوّلُ من تُسعَّر بهم النارُ ثلاثة: عالمٌ وقارِئ للقرآن، يوقِفُه الله بين يدَيه، فيسأله: ماذا؟ فيقول: يا ربِّ، تعلَّمتُ فيك العلمَ وقرأتُ فيك القرآن، فيقال له: كذبتَ، ليقَال: قارِئ أو عالم، فيؤمَر فيسحَب على وجهه إلى النار. ومقاتلٌ في سبيل الله يوقِفه الله بين يدَيه فيسأله، يقول: يا ربِّ، قاتلتُ في سبيلك، يقول الله: كذبتَ ليقال: جريء فقد قيل، فيؤمَر فيسحَب على وجهِه في النار. ومتصدِّقٌ أنفَق الأموالَ لم يرِد بها إلاّ رياءً وسمعة، ليقال: هذا الكريم، وهذا المنفِق، وهذا المحسِن، وهذا المعطِي، والله يعلم أنّه ما أراد وجهَ الله، وإنما أراد ثناءَ الناس عليه، فيقول: ربِّ، ما تركتُ سبيلاً تحِبّ أن ينفَقَ فيه إلاّ أنفَقتُ فيه، فيقال له: كذبتَ، لِيُقال: متصدِّقٌ فقد قيل، فيؤمَر فيسحَب على وجهِه في النار [1].
إذًا فالأعمالُ كلُّها إذا لم تكن على عقيدةِ الإخلاص لله وقصدِ الله بالعمَل فأعمالٌ حابِطَة لا تنفَع صاحبَها، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. فالعقيدَةُ السليمَةُ يجب أن تكونَ مصدرًا لكل منهَج وأمّة، وأيّ منهجٍ أو أيّ سلوكٍ أو أيّ تجمّع يدعِّي الإسلامَ مع انفصالِ منهَجِهم عن الأعمالِ ومع بُعدهم عن الأعمالِ الحقَّةِ فتلك مناهجُ باطِلة، لا بقاءَ لها، بل أهلُها في تبارٍ لأنَّهم لم يخلِصوا لله أعمالَهم، فالعقيدةُ التي تقوم بقلبِ مؤمن من تعظيمِه لله وإيمانِه بالله ورسولِه ودينِه هو الباقي له، قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36]. إذًا فلا بدَّ من رِضًا بدين الله ورِضًا بتوحيدِ الله وربطِ كلِّ مَنهجٍ أو فِكر برباط العقيدةِ الصحيحة، عبادةُ الله، إخلاصُ الله بأنواع العبادةِ كلِّها، أن لا نجعلَ مع الله شريكًا في أيّ نوعٍ من أنواع العبادة؛ لتكونَ أعمالنا مقبولةً عند ربِّنا.
نسأل الله أن يثبِّتَنا وإياكم على قولِه الثابت في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ، إنه على كل شيءٍ قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِه الراشِدين...
[1] أخرج حديثهم مسلم في الإمارة (1905) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
(1/4297)
رقه القلوب وأسبابها
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
محمد بن حمد الخميس
الدمام
2/4/1425
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية القلب ومنزلته. 2- فضل سلامة القلب. 3- كيد الشيطان. 4- زيادة الإيمان ونقصانه. 5- علامات رقة القلب. 6- أسباب رقة القلب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، إن القلب موضع نظر الربِّ سبحانه، فإن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والهيئات، ولا إلى الأجساد والثروات، ولكنه ينظر إلى القلوب والطاعات، قال رسول الله : ((إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم.
فالقلب موضع نظر الرب سبحانه وتعالى، وما ذاك إلا لأنه سيّد الأعضاء كما قال ابن القيم رحمه الله: "إن القلب للأعضاء كالملك المتصرف في الجنود التي تصدر كلها عن أمره، فتكتسب منه الاستقامة أو الزيغ، وتتبعه فيما يعقده من العزم أو يحله" اهـ.
إذَا القلوب استرسلت في غيها كانت بليّتها على الأجسام
قال النبي : ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري.
وسلامة القلب علامة من علامات النجاة يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم؛ لذلك كان الاهتمام بتصحيح القلب أوّل ما يعتمد عليه السالكون، والنظر في أمراضه وعلاجه أهمّ ما تنسك به الناسكون؛ حتى يلاقوا ربهم به سليما يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
عباد الله، علم إبليس عدوّ الله مكانة القلب، فأجلب عليه بخيله ورجله، وأقبل عليه بالوساوس تارة، وبالشهوات والشبهات تارة أخرى، فزين للنفس من الأحوال والأعمال ما يصدها عن طريق الله المتعال، ونصب من الحبائل والمصائد ما يجعل به العبد عن الله شارد، فتغيرت القلوب وتبدّلت، وانصرفت عن الله وتحولت حتى انقسم الناس إلى: صاحب قلب سليم مقبل على الله ومرضاته، وصاحب قلب مريض يصارع نفسه وشيطانه، وصاحب قلب ميت لا يعرف ربّه ولا يؤدّي حقه ولا يستجيب لداعيه.
إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر
أحبتي في الله، إن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، ولزيادة الإيمان ونقصه أثر في القلوب، فكلّما زاد الإيمان أثّر في القلب وزاد في انكساره ورقّته، وكلما نقص الإيمان وانشغلت النفس بالفتن زاد مرض القلب وعلته وزاد بُعده واشتدت قسوته.
نعم أحبّتي في الله، ما رقّ قلبٌ لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقًا إلى الخيرات، مشمّرًا في الطاعات والمرضاة، وما رق قلب لله إلا وجدتَ صاحبه إذا ذكِّر بالله تذكّر وإذا بصِّر به تبصّر، وما رقّ قلب لله إلا كان أبعد ما يكون عن معاصي الله.
وإن لرقّة القلب علامات، فمن علامات رقة القلب أن لا يفتر صاحبه عن ذكر ربّه، فإن ذِكرَ الله تطمئن به القلوب، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]. وفي القلب فاقه لا يسدّها إلا ذكر الله، فيكون صاحبه غنيًا بلا مال، عزيزًا بلا عشيرة، مهيبًا بلا سلطان، قال رجل للحسن البصري: يا أبا سعيد، أشكو قسوة قلبي! قال: أذِبه بذكر الله.
ومن علامات رقّة القلب أن يكون صاحبه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همه وغمه بالدنيا، ووجد فيها راحته ونعيمه وقرّة عينه وسرور قلبه، وسبحان الله! نحن الواحد منا إذا دخل في الصلاة تذكّر أمور دنياه، وما هذا إلا لقسوة في القلب.
ومن علامات رقه القلب أن صاحبه إذا فاته ورده أو طاعة من الطاعات وجد لذلك ألمًا أعظم من تألم الحريص بفوات ماله ودنياه.
ومنها أن صاحبه يخلو بربّه فيتضرع إليه ويدعوه، ويتلذّذ بين يديه سبحانه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (اطلب قلبك في مواطن ثلاثة: عند سماع القرآن، وعند مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده فسَل الله قلبًا، فإنه لا قلب لك).
ولعلنا نسأل أو نتساءل: من أين تأتي رقة القلوب وانكسارها وإنابتها إلى ربها؟ ومن الذي يتفضل عليها بإخباتها؟ إنه الله سبحانه وتعالى، فالقلوب بين إصبعين من أصابعه، يقلبها كيف يشاء،كما قال : ((قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه)) رواه الطبراني والحاكم وصححه. اللهم يا مثبت القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على طاعتك، اللهم ما مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك.
فإذا أرسل الله سبحانه على القلب رحمة فإنها تتغلغل فيه، وتحوّل ذلك القلب من القسوة إلى الرقة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن البعد عن الله إلى القرب منه سبحانه، فبعدما كان العبد جريئًا على التفريط في جنب الله متساهلاً بأوامر الله فإذا به يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يعرف لله حقوقه، وينفر من عصيانه، ويخشى عقابه، ويرجو ثوابه.
أحبتي في الله، إن رقه القلب هي النعمة التي ما وجدت نعمة على الأرض أجل وأعظم منها، وما من قلب يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعودًا بعذاب الله، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22]؛ لذلك ما من مؤمن صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر: كيف أرقّق قلبي لذكر الله ومحبة الله؟
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ لرقه القلب أسبابًا وسبلاً، أولها الإيمان بالله، فما رقّ قلب بسبب أعظم من الإيمان بالله، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا رقّ قلبه وصفت سريرته، فلا تأتيه الآية من الله والحديث عن رسول الله إلا قال بلسان حاله ومقاله: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
ومن أسباب رقه القلب النظر والتدبر في كتاب الله وآياته، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]. فالمؤمن المتدبر لآيات الله هو أرق الناس قلبا وأنقاهم نفسًا، وما قرأ العبد هذه الآيات متفكرًا متدبرًا إلا والعَين تدمع والقلب يخشع والنفس تخضع، وإذا بأرض هذا القلب تنقلب خصبة غضّة طرية، تنبت في النفس السكينة والخضوع لله رب العالمين، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
إن هذا القرآن موعظة رب العالمين وكلام إله الأولين والآخرين، فما قرأه عبد يرجو الهداية إلا وتيسرت له أسبابها واتضحت له طرائقها. هذا القرآن الذي حوّل قلوب الصحابة من الظلمة إلى الإشراق ومن الغلظة إلى الرقة، فها هو عمر بن الخطاب يسمع آيات من سورة طه فتملأ قلبه القاسي رقة وخشية، وها هو الطفيل بن عمرو الدوسي يسمع آيات من الذكر الحكيم فيسارع إلى هذا الدين مؤمنًا مستجيبًا لأوامره داعيًا قومه إليه، وهذا أسيد بن الحضير جاء ليمنع مصعب من الدعوة في المدينة فيشير عليه مصعب بسماع بعض الآيات، فما هي إلا آيات تتلى وإذا بها تسري إلى القلب سريان النور في الظلماء، حتى يسلم أسيد ويتحول من محارب للإسلام إلى داع إليه؛ لذلك ما أدمن عبد تلاوة القرآن إلا رق قلبه من خشية الله.
ومن الأسباب المعينة على رقة القلب تذكّر الآخرة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وجحيمها، أعاذنا الله وإياكم من النار، أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار. فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة وأن المتاع فان فإنه حينئذ يحتقر الدنيا، ويقبل على ربها، عندئذ يرق قلبه وتخشع جوارحه.
إن انشغال النفس بالدنيا ومتاعها لمن أكبر أسباب قسوة القلب، فهي التي تجعل العبد ينشغل بالمظهر عن الجوهر وبالمبنى دون تحقيق المعنى، ويصبح اللهو سمة له؛ لذا كان التفكر في اليوم الآخر كالحادي الذي يسوق النفوس إلى ربها، ويرقق القلوب بعد قسوتها واغترابها، ويردعها عن غيها، وذلك لأن يوم القيامة هو يوم الحسرة، وما أدراك ما يوم الحسرة؟! إنه يوم خوّف الله به، وتهدّد وأنذر به وتوعد، قال تعالى: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]. وأي حسرة أعظم من فوات رضوان الله وجنته واستحقاق النار أعاذنا الله من النار؟!
يوم القيامة لا يتذكر العبد نعيمًا تنعم به في الدنيا ولا شقاء أصابه في الدنيا، قال رسول الله : ((يؤتى بأنعم أهل الأرض، فيغمس في النار غمسة، فيقال: هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشقى أهل الأرض، فيغمس في الجنة غمسة، فيقال: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب)) رواه مسلم.
ذلك اليوم العظيم المهيب الذي تشخص فيه الأبصار، ويشيب فيه الولدان، يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل:17]. الولد الذي لا ذنب له ورفع عنه القلم يشيب من هوله، فما بالنا بمن اسودّت من الذنوب صحائفه. ذلك اليوم العبوس القمطرير الذي تذهل فيه المرضعات عن الرضيع، ويتمايل الناس سكرى وما بهم سكر، ولكنه الخوف من عذاب الله، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
وذلك يوم يكون الناس كالجراد المبثوث، وتكون الجبال كالعهن المنفوش. يوم تتطاير الصحف، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:19-29]. يوم يقال لآدم: يا آدم أخرج بعث النار، فيقول: يا رب، وما بعث النار؟ فيقال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة. رواه البخاري.
يوم القيامة يوم تدنو الشمس من الرؤوس حتى تكون قدر ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم من العرق. يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. هذا اليوم لا ينجو فيه إلا أصحاب القلوب السليمة، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يؤمننا يوم الفزع الأكبر، وأن يدخلنا الجنة بغير حساب ولا سابق عذاب، وأن يرقق قلوبنا ويصلح أحوالنا، إنه هو البر الرحيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4298)
هذه هي الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الزهد والورع, الفتن
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/11/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة الدنيا. 2- حقيقة الدنيا. 3- ذم الدنيا. 4- الخوف من سوء الخاتمة. 5- صور من خوف السلف من خاتمة السوء. 6- الوصية بالتوبة والإنابة قبل حلول الأجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد أقبلت من بعيد متزينة متعطرة، وقد بلغت في الجمال منتهاه، وفي الحسن غايته، ومع هذا فهي تتبرج وتتلون، تتعرض للغادي والرائح، تتفنن في الإغواء والتزيين؛ عيناها تقذف بشرر كالسحر بل هو أعظم، وتقاسيم وجهها تنبئ عن عبارات الفتنة وشعارها: "هَيتَ لك". فكم من هائم في حبها ومغرور بعَرَضها وغارق في لجج الهيام والصبابة لها. إنها تملك دخول كل بيت دون إذن أو قرع باب، إنها تسكن العقول وتعانق سويداء القلوب، تسعى ويجري الناس خلفها، تشاركهم المأكل والمشرب، تخاطبهم إن تحدثوا، وتشغل تفكيرهم إن صمتوا، هي حديث القوم وسمير مجالسهم، تنام معهم، وتستيقظ بيقظتهم.
عشقها العاشقون، وهام بها المحبون، كم لها من عاشق متأوه ومتيّم متحسر ومحب متألم، ظهرت في زينتها، وعرضت في فتنتها، وتبدّت في محاسنها، فخُدع بها أُناس، وافتتن بها فئام، ظنوا أنها صادقة في الحب مخلصة في الشّوق توّاقة للغرام وفيّةٌ للأحباب ناصحة للأصحاب، فتنافسوا في كسب ودها، واقتتلوا للظفر بقربها، فأردتهم صرعى، وتركتهم هلكى، وذلك جزاء الحمقى. والعجب أن خُطّاب ودها وطلاب مجدها لم يعتبروا بإخوانهم من العشاق القدامى، ولم يتعظوا بمن خدعتهم من النّدامى، فارتموا في أحضانها، وتسابقوا في ميدانها، وهي لا زالت تتفنن لهم في إبداء زينتها، وتتحبّب لهم ببعض مباهجها، حتى إذا أحكمت الزمام، غدرت وفجرت وفتكت وقتلت. كم لها من محروم يتألم ومهضوم يتظلّم، كم ذبحت من فارس على مخدة الترس وعروس على منصة العرس، فمن هي هذه الفاتنة؟! ومن تكون تلك الخائنة؟!
إنها الدنيا، الدنيا التي لها من اسمها نصيب، الدنيا التي عشقناها بل هِمنا في حبها وتنافسنا في قربها، وأمهرناها أنفسنا ومشاعرنا وقلوبنا إلا من رحم ربك.
لو تأمّلنا أحوالنا بل وأحوال من سبقنا لوجدنا أن الدنيا وحبها والحياة وطيبها هي سبب رئيس في كل نازلة وعنصر مهم في كل قارعة، فما طغى فرعون وأمثاله إلا حينما أخلدوا إلى الأرض ومباهجها وخُدعوا بالحياة وزينتها، وما بغى قارون وأمثاله إلا حينما فُتنوا بنعيم الحياة وغرهم المال والجاه، قال الله تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:76، 77]. إنها الدنيا بشهواتها وشبهاتها وملذاتها.
وهكذا على مرّ العصور تجد أن عِشق الحياة والتعلق بأذيال الدنيا سبب في الشقاء وطريق للعناء، كم ذهب لأجلها من نفوس، وكم تطاير من رؤوس، وكم سُحق من جماجم، وكم أُريق من دماء، وكم شُرّد من أناس، وكم عُذب من أقوام، وما ارتقى المسلمون إلا حينما تجافوا عن الدنيا وأقبلوا على الآخرة، وما خُفِضت رؤوسهم ونُكّست أعلامهم وذهبت عزتهم إلا حينما رضوا بالحياة الدنيا من الآخرة، فأقبلوا عليها، وتنافسوا فيها، وتركوا الجهاد، وأكلوا الربا، وأخذوا بأذناب البقر.
أيها المؤمنون، تعالوا بنا نقف وقفة تأمل وعظة وتفقه وعبرة مع هذا العدو اللدود والغاشم الغادر، فقد فَنِيَت أعمار كثير منا وانصرمت أيام فئام منا ونحن لا نزال في غمرة الدنيا وسكرة الحياة، فيا عجبًا لمن جاءه العام تلو العام ومرّت به السنة بعد السنة، تُذّكره بالحياة الآخرة، وتدعوه إلى النعمة الدائمة، وهو في غفلته وشروده وبُعده وجحوده.
فيا من قَضيت العمرَ وراء شهواتها، ألم يأن لك أن تنظر في أمرك؟! ويا من انصرمت أيامه في الدنيا وملذاتها، ألم تبك على عمرك؟! يا من أقبلت على الدنيا بحلالها وحرامها وفُتِنتَ في غرامها، ألم تفكر في النهاية وتتأمل في النتيجة؟!
إنها الدنيا؛ إذا وصَلَتْ فتبعات موبقة، وإذا فارقت ففجعات محرقة، ليس لوصلها دوام، وما من فراقها بدّ، وصفها خالقها وموجدها بأنها لعب ولهو وزينة، فقال جل وعلا: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]. إنها لعب وضياع، لهو وتفاخر، غرور خادع وأمل كاذب وظل زائل، قال الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
مر النبي بالسوق والناس على جانبيه، فمرّ بجدي أسَكّ ميت فتناوله، فأخذ بأذنه ثم قال: ((أيكم يحبّ أن هذا له بدرهم؟)) ، فقالوا: ما نحبّ أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! ثم قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) ، قالوا: والله، لو كان حيًا كان عيبًا فيه لأنه أسّكَ، فكيف وهو ميت؟! فقال : ((فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) رواه مسلم، ويقول : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)) رواه الترمذي. يقول علي بن أبي طالب : (مثل الدنيا مثل الحية؛ ليّنٌ مسّها، قاتل سمها، فأعرض عما أعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها لما أيقنت من فراقها، وكن أحذر ما تكون لها وأنت آنس ما تكون بها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أبعده عنها مكروه، وإن سكن منها إلى إيناس أزاله عنها إيحاش).
هذه هي الدنيا؛ لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب، ولا تخلو من فتنة، ولا تُخْلي من محنة، نعيمها يتنقل، وأحوالها تتبدل، ولذاتها تفنى، وتبعاتها تبقى، قال الله تعالى: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ [القصص:60، 61]. من نظر إليها بعين البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء وحياتها عناء وعيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل؛ إما بنعمة زائلة، أو بلية نازلة، أو منية قاضية.
إنها الدنيا؛ حلالُها حساب، وحرامها عقاب، المكدود فيها شقيٌّ إن ظفر، ومحروم إن خاب، إن أخذ مالها من حلّه حوسب عليه، وإن أخذه من حرام عذِّب به، من استغنى فيها فتِن، ومن افتقر فيها حزِن، ومن أحبَّها أذلّته، ومن تبعها أعمته.
هي الدار دار الأذى والقذى ودار الفناء ودار الغِيَر
فلو نلتها بحذافيرها لَمُتَّ ولَم تقض منها الوطَر
إنها ظل الغمام وحلم النيام، من عرفها ثم طلبها فقد أخطأ الطريق وحُرم التوفيق، قال : ((الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالمًا ومتعلمًا)) رواه الترمذي. قيل لأحدهم: ترك فلان بعد وفاته مائة ألف درهم، فقال: ولكنها لا تتركه. فالسعيد من اعتبر بأمسه واستظهر لنفسه، والشقي من جمع لغيره وبَخَلَ على نفسه. ليس لك ـ يا ابن آدم ـ من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت. فالعاقل لا ينخدع بها، بل يعتبر بمن مضى من الأمم السابقة والقرون الماضية؛ كيف عفَت آثارهم واضمحلت أنباؤهم.
نبكي على الدنيا وهل من مَعشر جَمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الأولَى جمعوا الكنوز فما بقينَ ولا بَقوا
من كلّ من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحدٌ ضيِّقُ
يقول : ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله تعالى مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)) رواه مسلم.
إنها الدنيا؛ إذا حلّت أوحلَت، وإذا كست أركست، وإذا جلَت أوجلت، وإذا أينعَت نعَت، وإذا دنت أودنت. قال ابن رجب رحمه الله يصف الدنيا: "ما يعيب الدنيا بأكثر من ذكر فنائها وتقلّب أحوالها، وهو أدلّ دليل على انقضائها وزوالها، فتتبدل صحتها بالسقم، ووجودها بالعدم، وشبيبتها بالهرم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت فتفارق الأجسام النفوس، وعمارتها بالخراب، واجتماعها بفرقة الأحباب، وكل ما فوق التراب تراب".
هي الدنيا تقول بملء فيها حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسام فقولِي مضحِك والفعل مبكي
احذر أن تفتن بها وأن تنقاد لزهرتها، وكن من الذين فطنوا لحالها والتزموا بأوامر خالقها وباريها.
إنّ لله عبادًا فُطَنًا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلمّا علموا أنها ليست لحيّ وطنًا
جعلوها لجّة واتخذوا صالح الأعمال فيها سُفُنا
معاشرَ المسلمين، الدنيا مَهلَكة، والفرح بها مَتلَفَة، والانخداع بها مصيبة، فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39].
لقد فُتح على الناس من زهرة الدنيا وزينتها في أيامنا المتأخرة ما لم ترَ البشرية زينة ولا فتنة ولا بهرجًا قبلها، فتنٌ محدقة، وشهواتٌ مغرقة، وقنوات هابطة، وشاشات مدمرة، زُيّنت الشهوات، وقُرّبت الملذات، وأصبح الملتزم بدينه والمحافظ على نفسه وأهله كالقابض على الجمر، فيا بشرى لمن صان نفسه، وحفظ دينه، وطهّر بيته، وصدَق في تربيته، قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45].
تلك هي الدنيا؛ تضحك وتبكي، وتجمع وتشتت، شدةٌ ورخاءٌ، سراءٌ وضراءٌ، دار غرور لمن اغترَّ بها، وهي عبرةٌ لمن اعتبر بها. إنها دار صدقٍ لمن صدقها، وميدان عملٍ لمن عمل فيها، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد:23]. تتنوع فيها الابتلاءات وألوان الفتن، ويُبتلى أهلها بالمتضادات والمتباينات، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
أيها المسلمون، لا يُقصد بذم الدنيا تركُها بالكلية والتجافي عنها تمامًا، وإنما القصد من ذلك تركُ بهرجها الزائف وبريقها الخادع، وعدم الاغترار بها. ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فالمؤمن يتخذها طريقًا للجنة ومزرعة للآخرة وتزودًا للتقوى.
ذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب فقال له: (الدنيا دار صدق لمن صَدَقها، ودار نجاح لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها، ومهبِط وحي الله ومصلى ملائكتِه ومسجد أنبيائِه ومتجَر أوليائه، ربحوا منها الرحمة، واحتسبوا فيها الجنة). قال الله تعالى: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]، قال : ((والله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم)) رواه البخاري. سئل النبي : من أكيس الناس؟ فقال: ((أكثرهم ذكرًا للموت وأشدهم استعدادًا له، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)).
يقول علي بن أبي طالب : (يا أيها الناس، اتقوا الله الذي إن قلتم سَمِع وإن أضمرتم عَلِم، وبادروا الموت الذي إن هربتم أدرككم وإن أقمتم أخذكم).
فخذ ـ يا عبد الله ـ من نفسك لنفسك، وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك وزد في حسناتك، فإنك راحل لا محالة، وسائر في الطريق الذي سار فيه الآباء والأجداد والأصحاب والأحباب.
ما للمقابر لا تجيب إذا دعاهنّ الكئيبُ؟! حُفرٌ مسقّفة عليهنّ الجنادل والكثيب، فيهن ولدان وأطفالٌ وشبان وشيب. كم من حبيب لم تكن نفسي بفرقته تطيب، غادرته في بعضهن مجندلاً وهو الحبيب، وسلوتُ عنه وإنما عهدي برؤيته قريب.
أيها المسلمون، إن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن اغتنامه فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء اغتنامه بارتكاب المعاصي والسيئات حتى لقي الله عز وجل على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يُحاسب، وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سببًا في هلاكه
والخوف من سوء الخاتمة هو الذي أخاف قلوب الصدّيقين وأرهب أفئدة الصالحين، ولماذا لا يخافون من ذلك والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء؟! كم سمعنا عمن آمن ثم كفر، وكم رأينا من استقام ثم انحرف، ولذلك كان صلوات الله وسلامه عليه كثيرًا ما يردد: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)). لقد ارتدّ في زمن النبي بعض من آمن فخرج من النور إلى الظلمات، ولذا فقد كان يشتد خوف السلف الصالح من سوء الخاتمة، وإذا تأملنا أقوالهم عند الاحتضار أخذنا من ذلك العبرة والعظة:
لما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ قال: يبكيني بُعدُ السّفر وقِلَّة الزاد وضعف اليقين والعَقَبة الكؤود التي المهبط منها إما إلى الجنة وإما إلى النار.
ويروى أن عمرو بن العاص لما دنا من الموت دعا بحراسه ورجاله، فلما دخلوا عليه قال: هل تغنون عني من الله شيئًا؟! قالوا: لا، قال: فاذهبوا وتفرقوا عني، ثم دعا بماء فتوضأ وأسبغ الوضوء، ثم قال: احملوني إلى المسجد، ففعلوا، فقال: اللهم إنك أمرتني فعصيت، وائتمنتني فخنت، اللهم لا عذر فأعتَذِرُ، ولا قويّ فأنتَصِرُ، بل مذنب مستغفر، ولا مصر ولا مستكبر.
فإذا كان هذا هو حال الصالحين والأبرار فنحن أجدر بالخوف منهم، وإنما أمِنّا لجهلنا وقسوةِ قلوبنا.
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى قلوبًا خاشعة وأعينًا دامعة، كما نسأله سبحانه أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يتجاوز عنا وعن والدينا.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: قال الله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى? إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذالِكَ نُفَصّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [يونس:24].
فالدنيا وجميع ما فيها من الخضرة والبهجة والنضرة تتقلب أحوالها وتتبدل ثم تصير حطاما يابسا، وأجسام بني آدم وسائر الحيوانات كنبات الأرض، تتقلب من حال إلى حال، ثم تجف وتصير ترابا.
قال بعض العلماء: "كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا".
وهذا هو الفرق ـ يا عباد الله ـ بين حالنا وحال الرعيل الأول والسلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم؛ فإن الدنيا كانت بأيديهم ولم تكن في قلوبهم، بل كانت قلوبهم لهذا الدين ولهذا الإسلام، وأما نحن فأصبحت الدنيا في قلوبنا، وأصبح الدين في أيدينا. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
دخل رجل على أبي ذر فجعل يقلب بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟! فقال: إن لنا بيتًا نتوجه إليه، فقال: إنه لا بد من متاع ما دمت ها هنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا.
وكان علي بن أبي طالب يقول: (إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل).
أيها المسلمون، إذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطن فينبغي عليه أن يكون فيها على أحد حالين: إما أن يكون كأنه غريب في بلد غُربَةٍ، فلا يتعلق بها قلبه، بل همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو في سير دائم في الليل والنهار إلى بلد الإقامة.
فحيَّ على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيَّم
ولكننا سبْي العدوّ فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التِي أصبحت لها الأعداء فينا تحكم
قيل لمحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة؟! وقال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يومٌ مضى بعضك.
نسير إلَى الآجال فِي كل لحظة وأيامنا تُطوى وهنّ مراحل
ولَم أر مثل الْموت حقًا كأنه إذا ما تخطّته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصّبا فكيف به والشيب للرأس شاعل
ترحّل من الدنيا بزادٍ من التّقى فعمرك أيّام وهنّ قلائل
يا معاشر المسلمين، إلى متى الركون إلى هذه الدنيا؟! إلى متى هذا التكالب عليها؟! وإلى متى التسويف بالتوبة؟! فالواجب علينا أن نبادر بالأعمال الصالحة قبل أن لا نقدر عليها أو يحال بينها وبيننا بمرض أو موت أو غير ذلك من الأشغال. ومتى حيل بين الإنسان والعمل لم يبق له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمنى الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل فلا تنفعه الأمنية، قال الله تعالى: حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التِي كان قبل الْموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشرّ خاب بانيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة حتَّى سقاها بكأس الْموت ساقيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لِخراب الدّهر نبنيها
كم من مدائن في الآفاق قد بُنيت أمست خرابًا وأفنى الموت أهليها
لا تركنن إلى الدنيا وما فيها فالموت لا شك يفنينا ويفنيها
واعمل لدار غدًا رضوان خازنها الْجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
فالتوبة التوبة عباد الله، فإن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها.
يا ابن آدم، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
أيها المسلمون، اسمعوا إلى كتاب ربنا يحكي قصة أهل الدنيا المتمسكين بها الذين لم يرعَوا حق الله فيها، متمثلة في شخص قارون: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى? فَبَغَى? عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى? عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى? قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ي?لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ ٍوَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:76- 82].
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودَرَك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، ونسألك اللهم خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة...
(1/4299)
وذكرهم بأيام الله
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
قضايا دعوية, معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
8/9/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان شهر الفتوحات. 2- وقفات مع القائد قطز ومعركة عين جالوت. 3- أهمية النظر في السنن الكونية. 4- التذكير بأيام الله. 5- نماذج من السنن وأيام الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: كان شهر رمضان وما يزال رمزًا للعطاء والبذل في كل ميدان، وقد عرف المسلمون وعلى مدار تاريخهم أن رمضان شهر الجهاد والفتوحات، امتن الله عز وجل على الأمة فيها بأحلى انتصاراتها في أصعب وأقسى أيامها، ولله الفضل والمنة.
أيها المسلمون، لقد مرّت بالمسلمين أيامٌ سالفة في رمضان كانت من أصعب الأيام عليهم، وذلك عندما جاء التتار بخيلهم ورَجِلِهم، جاؤوا بجيش لا يُعرف أين أوّله وأين آخره، وكان ذلك في رمضان عام 658هـ، حين دخل التتارُ ديارَ المسلمين، دخلوا أرض الشام، فخرّبوا ودمّروا وذبحوا وشرّدوا، وعزموا بعد ذلك النصر المؤقت الذي حققوه أن يتوجّهوا إلى الديار المصرية، فبلغ الملك المظفّر قُطُز رحمه الله ما كان من أمر التتار على الديار الشامية وعزمهم بالتوجه للديار المصرية، فبادرهم قبل أن يبادروه، وبرز إليهم، وأقدم عليهم قبل أن يُقدموا عليه، حتى انتهى إلى الشام، فكان اجتماعهم على عين جالوت يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، فلما رأى قُطُز عصائب التتار قال للأمراء والجيوش الذين معه: "لا تقاتلوهم حتى تزول الشمس، وتفيء الظلال، وتهبّ الرياح، ويدعو لنا الخطباء والناس في صلاتهم"، فالتقى الفريقان، واقتتلوا قتالاً عظيمًا والمسلمون في بلاد المسلمين يدعون لإخوانهم المجاهدين في ذلك اليوم الفاضل يوم الجمعة، وأبلى المسلمون بلاءً عجيبًا، في مقدمتهم ملكهم المظفّر قُطُز رحمه الله، فقُتِل جوادُه الذي كان يقاتل عليه، فَتَرَجّل وبقي واقفًا على الأرض ثابتًا والمعركة في أوج احتدامِها، وهو في موضع السلطان في القلب، فلما رآه بعض الأمراء تَرَجّل عن فرسه وحلف على السلطان ليركبنّها، فامتنع قُطُز وقال لذلك الأمير: "ما كنت لأحرم المسلمين نفعَك"، ولم يزل كذلك حتى جاؤوه بالخيل فركب، ولامَه بعض الأمراء من امتناعه الركوب منذ البداية وقال له: فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك وهلك الإسلام بسببك، فقال رحمه الله: "أما أنا فكنت سأذهب إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، وقد قُتِل فلان وفلان وفلان ـ حتى عدّ خلقًا من الملوك ـ فأقام للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضيّع الإسلام".
إنها كلمات خالدة قالها الملك المظفر قُطُز رحمه الله يسطّرها للتاريخ، كانت من المسلّمات عندهم. نعم، لقد مات فلان وفلان ممن كان لهم شأن في الإسلام فهل ضاع الدين؟! لا، ولن يضيع الدين؛ لأنه دين الله عز وجل، ليس دين فلان أو فلان، والإسلام غير مرتبط بأشخاص إذا ماتوا أو ذهبوا ضاع الدين معهم، ولا أيضًا مرتبط بدولة إذا ذهبت ضاع الإسلام معها، بل هو دينه سبحانه يظهره متى شاء، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، وعلى أيدي من يشاء، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
البعض يظن جهلاً بأن الدين مرتبط بجهة معينة، أو أن التعاليم الإسلامية لا بد أن تؤخذ من مصدر واحد لا يتغير، وهذا غير صحيح، فليس في الإسلام نظام الكَهَنُوت، وإنما الشرع يؤخذ من كل مَن فَقِهَ وتكلّم بعلم وكان كلامه صحيحًا موافقًا للدليل، بغضّ النظر عن لونه أو بلده أو جنسيته.
فماذا حصل بعد ذلك؟ وكيف انتهت المعركة؟ صَبَر الملك المظفّر قُطُز ومن معه من المسلمين فنصرهم الله جل وتعالى، وهُزم أعداؤهم هزيمة هائلة، وقُتل أمير المغول وجماعة من بيته، ولحق الجيش الإسلامي بالتتار يقتلونهم في كل موضع إلى أن وصلوا خلفهم إلى حلب، وهرب من بدمشق منهم فتبعهم المسلمون من دمشق يقتلون فيهم، وفرح المسلمون بنصر الله فرحًا شديدًا، وأيّد الله الإسلام وأهله تأييدًا عظيمًا، وكَبَت الله النصارى واليهود والمنافقين، وظهر دين الله وهم كارهون، فتبادر عند ذلك المسلمون إلى كنيسة للنصارى التي خرج منها الصليب فانتهبوا ما فيها وأحرقوها وألقوا النار فيما حولها، فاحترقت دُور كثيرة للنصارى، وملأ الله بيوتهم وقبورهم نارًا، ثم جيء برجل رافضيٍ عجوز وقُتِل وسط العامة؛ لأنه كان خبيث الطوية مصانعًا للتتار على أموال الناس، وقتلوا جماعة مثله من المنافقين، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45].
أيها المسلمون، إن تاريخ البشر حافل بأقدار من الخير والشر دارت بشأنها سنن، وجرت بسببها ابتلاءات، وحصلت بعدها تغيّرات في أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم، فما أشد احتياجنا في أزمنة الشدائد إلى النظر في الثوابت الشرعية والسنن الإلهية؛ لنقيس عليها الأمور، ونعتبر بها في التغيير، وننطلق منها في التأملات والتوقعات والتحليلات، ومن ثَمّ في التحركات والتصرفات وأداء الواجبات. فالأيام لا تزال تتوالى بجديد، بين خير وشر، ونفع وضر، ومحن ومنح، يُختبر بها العالمون، لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]، ومخافة الله بالغيب تعني الالتزام بطاعته طمعًا في ثوابه وخوفًا من عقابه، وهذا لا يكون إلا بالإذعان لأحكامه الشرعية الدينية والإيمان بأحكامه القدرية الكونية، والله تعالى أراد من عباده أن يفقهوا سننه الكونية مثلما هداهم إلى سننه الشرعية، فقال سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26].
أيها المسلمون، إن سنن الله التي تجري عليها الوقائع والحوادث هي المسماة في القرآن بأيام الله، وكما أن السنن تحتاج إلى من يستخرجها ويعرِّف بها فإن أيام الله تحتاج إلى من يلحظها ويذكِّر الناس بها، وهي تجري على البر والفاجر والمؤمن والكافر، قال تعالى عن نبيه موسى عليه السلام: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5]، ومعنى أيام الله: وقائع الله في الأمم السالفة، والأيام التي انتقم فيها من الأمم الخالية.
إن أيام الله هي تفسير لسنن الله، فتلك السنن ليست معاني مجردة أو افتراضات محضة، بل هي حُكم وتطبيق، ودرس وشرح، وعظة وعبرة، ولكن ها هنا أيضًا معنى أعظم يحتاج إلى تأمل وتدبر، وهو أن أيام الله التي تُفسّر سنن الله ليست ماضية فقط، بل هي حاضرة أيضًا ومستقبلة، فكما جرت بشأن السنن أيام ووقائع في الماضي الغائب عنا فهي تجري في الحاضر المحيط بنا والمستقبل البعيد منا، وكل هذا يؤكد الفائدة العظمى والأهمية القصوى للنظر في تلك السنن واستحضار الحقائق المحتفَّة بها؛ لأنها حكم الله الذي لا يُخالَف ولا يستطيع أحد عصيانه، فلئن كان بإمكان العصاة أن يخالفوا حكم الله الشرعي فإن أحدًا من الخلق لا يستطيع الخروج قيد أنملة عن حكمه القدري. وتجيء أيام الله بما فيها من محن أو منح لتثبت ذلك.
ما أحوجنا في أزمنة الأحداث الجسام إلى أن نذكِّر أنفسنا ونذكِّر الناس بأيام الله، وأن نبصِّر أنفسنا ونبصِّر الناس بسنن الله الكونية القدرية، مع إرشادهم إلى سننه الدينية الشرعية، فالأحداث الكبرى قد تطيش فيها عقول وتذهل فيها أفئدة، وقد تزل فيها أقدام أقوام وتضِل أفهام آخرين، ولا يَثْبُت إلا من ثبَّته الله، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
إن الزمان كلما تقارب كان فعل الفتن في الناس عجيبًا؛ لأنها تتوارد وتتكاثر حتى يرقّق بعضها بعضًا، ولا يزال الأمر في تصاعد وتزايد حتى تتغير الأحوال من تنقُّل بين فتنة وفتنة إلى تقلُّب بين كفر وإيمان، عياذًا بالله، حيث يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا. فالناس مواقف في أزمنة الشدائد، ومواقفهم بحسب معادنهم، فالمعادن الأصيلة تجلِّيها نار الاختبار، أما الرخيصة فتُنفى مع الخبث.
أيها المسلمون، هناك صراعات ستجري وأحداث ستتفاقم خلال مراحل يبدو أنها ستتتابع على شكل سلسلة من التغيرات الحادة في العالم والله أعلم، فما الذي يحكم كل ذلك؟
إن حركة التغيير على مستوى الأمم والجماعات والأفراد لا تتوقف، فإما أن تكون إلى الأحسن، وإما أن تكون إلى الأسوأ، فأما التي إلى الأحسن فتحكمها السنة القائلة: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، فما من أهل قرية ولا بيت ولا بلد كانوا على ما كره الله من المعصية ثم تحوَّلوا عنها إلى ما أحب من الطاعة إلا حوَّلهم الله عما يكرهون من العذاب إلى ما يحبون من الرحمة، وأما التغيير إلى الأسوأ فتحكمه السنة القائلة: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
ومن سنن أيام الله سنة العزة والذلة، فالعزة لله وإلى الله كلها، وقد كتب العزة قَدَرًا للمستقيمين على دينه شرعًا، فبقدر استقامتهم تكون عزتهم، فقال سبحانه: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، ولهذا فإن من أراد العزة فليستمدها منه وحده، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10]، أما الذين يريدون أن يستمدوا العزة من عند غير الله فأولئك لهم شأن آخر مع الله، بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139].
ومن سنن أيام الله سنته جلّ وتعالى في موجبات النجاة. يتطلع بعض الناس إلى النجاة إذا جاء أمر الله بالكوارث والمحن أو الحروب والفتن، يتطلعون للنجاة منها عند بشر مثلهم ضعاف، وكيف غفَل هؤلاء عن أن النجاة من المحن والفتن تكون بالتوكل على الله والإيمان والتقوى؟! كيف لا وفيها أعظم النجاة؟! قال تعالى: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:103]، وقد نجّى الله أصنافًا وأصنافًا من المؤمنين من الرسل وأتباع الرسل من أنواع شتى من المحن والفتن، فنجّى نوحًا ومن آمن معه، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ [الأنبياء:76]، ونجّى هودًا ومن آمن معه، وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود:58]، ونجّى صالحًا ومن آمن معه، فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [هود:66]، ونجّى إبراهيم، فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنْ النَّارِ [العنكبوت:24]، ونجى لوطًا ومن آمن معه، وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ [الصافات:133، 134]، ونجّى يونس، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، نجّى الله هؤلاء الرسل، ونجّى أتباعهم من نوائب وشدائد ومصائب حلّت بأقوامهم، وقد كان الدعاء بالنجاة بعد تحقيق الإيمان هو أقربَ سبل النجاة، ولا يشابهه في الأثر إلا القوة في القيام بالحق وقت الفتن.
وأما عن سنن أيام الله في موجبات الهلاك فإن القانون في ذلك أن الله تعالى لا يُهلك أمة ظلمًا، ولا يُهلك أمة بغير نذير وتحذير، قال الله تعالى: ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:131]، فلا بد من انحرافٍ ما يستوجب الهلاك، وقد نص القرآن على عدد من الانحرافات المستوجبة للهلاك الذي قد يكون هلاك استئصال أو هلاك تعذيب واختبار، وقد يسلّط الله العذاب على الكافرين، وقد يُبتلى به بعض المسلمين؛ إذ إنهم لا يخرجون عن السنن الإلهية إذا فرّطوا في الشرائع الدينية.
فمن موجبات الهلاك التي تجري بها سنن الله الظلم والطغيان، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [يونس:13]، وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]. وقد أخبر القرآن أن الظلم والطغيان كانا يقبعان خلف إهلاك أمم عظمى وقوى كبرى كانت ذات عمارة وحضارة كما قال سبحانه: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى هَذَا نَذِيرٌ مِنْ النُّذُرِ الأُولَى [النجم:50-56].
ومن موجبات الهلاك البَطَر والأَشَر وعدم الشكر، قال تعالى عن قارون: قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [القصص:78، 79].
ومن موجبات الهلاك الجبروت والبطش، قال الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [ق:36]، وقال تعالى: فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ [الزخرف:8].
ومن موجبات الهلاك التجاوز في السفاهة والتعالي بالترف والفسوق، قال تعالى عن قومٍ: قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنْ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلا خُلُقُ الأَوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [الشعراء:136-140].
ومن موجبات الهلاك السكوت عن قول الحق وترك الإصلاح، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117].
ومن موجبات الهلاك موالاة الظالمين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51، 52].
ومن موجبات الهلاك معاداة المؤمنين، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73].
فنسأل الله تعالى أن يعجل بفرج أمة محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن أيام الله تعالى قد تأتي بالهزيمة والخذلان كما أنها قد تأتي بالنصر والتمكين، فمن سنن الله في موجبات الهزيمة والخذلان التفرق والتنازع، قال الله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]، ومن أسباب الهزيمة طاعة الأعداء واتخاذ البطانة منهم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:25-28].
أيها المسلمون، وأما سنة الله في موجبات النصر والتمكين الذي يتطلع إليه كثير من المسلمين وهم في هذا الشهر الكريم فلا يكون إلا بتحقيق الإيمان ونصرة الدين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:39، 40]، ونصرة الدين تتضمن الامتثال له والقيام به ووحدة الصف من أجله والصبر عليه والجهاد في سبيله.
وأخيرًا: لا بد أن يعلم الناس أن هذا الدين منصور، وأن الله تعالى قد قيَّض له طائفة لا يخلو منها زمان إلى آخر الزمان، ومن صفات هذه الطائفة أنها على الحق والسنة، وأنها ظاهرة على هذا الحق معلنة به، وأنها منصورة بالحق مقاتلة عليه، وأنها محفوفة بمن يُسْلِمونها ويَخْذُلونها، وأنها محاطة بالمخالفين، وأنها لا يضرها هذا الخذلان وتلك المخالفة، وأنها جامعة لشرائح مختلفة من الأمة، وأن الله يبعث منها المجددين للدين، وأنها لا تنحصر بمكان واحد، ولكن تتنقل عبر الزمان في أكثر من مكان، وأنها باقية إلى يوم القيامة، قال رسول الله : ((لا تزال عصابة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)).
أيها المسلمون، إن كل السنن الإلهية المذكورة وغيرها كثير تحققت بشأنها أقدار ووقائع وتواريخ وحوادث هي من أيام الله، وقد مضت بها سنة الأولين، وستمضي عليها سنن الآخرين، وقد ظل الإسلام عزيزًا شامخًا، وسيبقى كذلك إلى ما شاء الله، فلنتدارس هذه الأيام والسنن، ولنذكِّر الناس بها، فالخوف ليس على الإسلام، ولكن على من يتخلف عن ركب الإسلام.
اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اللهم انتقم للمسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم واحفظ دماء المسلمين وأعراضهم في كل مكان، اللهم وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، ووحّد صفّهم، وبلّغهم فيما يرضيك آمالهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا أرحم الراحمين...
(1/4300)
وعلى الله فتوكلوا
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/7/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجتنا للتوكل في هذا العصر. 2- التوكل في الكتاب والسنة. 3- مفهوم التوكل. 4- دور التوكل في الصبر والثبات. 5- أعظم الناس توكلاً أعرفهم بالله. 6- التوكل سبب للنصر. 7- آثار التوكل وثمراته. 8- أقسام المتوكلين. 9- صور من التوكل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الأوضاع التي يعيشها المسلمون عمومًا والدعاة خصوصًا بالذات في هذه الفترة الحرجة قد تُضعف ثقة البعض بالله عز وجل في بعض الجوانب؛ لذا كان لزامًا التذكير ببعض مراتب الدين ومثبّتات اليقين من خلال نصوص القرآن وأنوار السنة وسيرة سلف هذه الأمة، لعلها تكون الترْيَاق الذي يتنفّس من خلاله المؤمن وهو يصارع الشرّ المتمثّل في دول وأشخاص وهيئات ومؤسسات ولجان عالمية ومحلية.
لقد اتفق اليهود والنصارى على ضرب الإسلام والمسلمين في كل مجال ومكان، فصار الجميع بحاجة إلى التوكّل على الله لا على غيره، توكّلاً حقيقيًّا يُعيننا ويرفع عنّا، توكّلاً يُخالج شِغاف قلوبنا، فنوقن من خلاله ضعف وهزال ما يملكه الغرب من قوة مادية؛ لأنهم اعتمدوا عليها، ونحن اعتمادنا على جبار السماوات والأرض.
أيها المسلمون، لقد جاء الأمر بالتوكل في كتاب الله في أوجه مختلفة وسياقات متعددة ومناسبات متكاثرة، بل لقد جعله شرطًا للإسلام والإيمان، فقال سبحانه: إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِ?للَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ [يونس:84]، وقال تعالى: وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وقال عن أنبيائه ورسله: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا [إبراهيم:12]، وقال لنبيه محمد : فَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ إِنَّكَ عَلَى ?لْحَقّ ?لْمُبِينِ [النمل:79]، وقال عن أصحابه: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?نًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:173]، وقال عن أوليائه: رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [الممتحنة:4]، وقال في صفات المؤمنين: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، وقال في جزاء المتوكلين: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْرًا [الطلاق:3]. إنها نصوص ـ معاشر الأحبة ـ لو تفكرنا فيها ووقفنا عندها لصغر في أعيننا وقلوبنا كل ما ليس من الإسلام في شيء.
أيها المسلمون، إنني أذكر بهذا الموضوع الهام في هذه الظروف الحَرِجَة والمرحلة الحاسمة التي تمرّ بها الأمة الإسلامية، حيث تداعت عليها أمم الكفر من كل حَدَبٍ وصَوْب، بل حصل الظلم والبغي والعدوان الغاشم من قتل للمدنيين وترويع للنساء والأطفال والآمنين دون رعاية لحقوق الإنسان التي يدّعون، ولا للقوانين والأعراف الدولية التي يزعمون.
أيها المؤمنون، إن الله جل وتعالى لم يخاطب بالتوكل في كتابه إلاّ خواص خلقه وأقربهم إليه وأكرمهم عليه، لم يخاطب بالتوكل العامة من الناس؛ لأن التوكل من أصعب المنازل على العامة، فهم لم يخرجوا عن نفوسهم ومألوفاتهم، ولم يشاهدوا الحقيقة التي شهدها الخاصة، فهم في رِقّ الأسباب يعيشون، فيصعب عليهم الخروج عنها.
التوكل على الله شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجود والأفلاك والأكوان ومن فيها وما عليها والدول وكل ما تملك، فكل ذلك محكوم بحوله وقوته سبحانه.
التوكل قطع القلب عن العلائق ورفض التعلّق بالخلائق وإعلان الافتقار إلى محوّل الأحوال ومقدّر الأقدار، لا إله إلا هو، إنه صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضارّ، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
التوكل صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله وفي الله، وأمل يصحب العمل، وعزيمة لا ينطفئ وَهَجُها مهما ترادفت المتاعب.
المتوكل على الله ذو يقظة فكرية عالية ونفس مؤمنة موقنة، قال بعض الصالحين: "متى رضيتَ بالله وكيلاً وجدتَ إلى كل خير سبيلاً"، وقال بعض السلف: "بحسبك من التوسل إليه أن يعلم قلبك حُسن توكلك عليه".
التوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة، تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوبات وواجبات.
التوكل الذي يَقوى الإنسان به ضَرْبٌ من الثقة بالله، يُنعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عونًا ولا أملاً.
التوكل غذاء الجهاد الطويل الذي قاوم به النبيون وأتباعهم ودعاة دينهم مظالم الطغاة وبغي المستبدّين كما بيّنه الله تبارك وتعالى: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12].
التوكل الحق قرين الجهد المضيء والإرادة المصمّمة، وليس العجز والكسل.
أيها المسلمون، إن توكل المجاهدين في ساحاتهم والدعاة في ميادينهم والمربّين في محاضنهم لا ينافي الأخذ بالأسباب البينة، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل على الله بالغيب إيمان بالله، فالمتوكلون في كتاب الله هم العاملون كما قال سبحانه: نِعْمَ أَجْرُ ?لْعَـ?مِلِينَ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [العنكبوت:58، 59]، وإمام المتوكلين نبينا محمد رأينا في سيرته الأخذ بالأسباب، فقد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهَرَ في بعض غزواته بين درعين، وتعاطى الدواء، وقال: ((من يحرسنا الليلة؟)) ، وأمر بغلق الباب وإطفاء النار عند المبيت، وقال لصاحب الناقة: ((اعقلها وتوكل)) ، وقال سبحانه وتعالى لنبيه لوط: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ [هود:81]، ونادى أهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71]، وجاء أمر الله بالتوكل بعد التحرّز واستفراغ الوسع حين قال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159].
المؤمن هو من يجمع بين فعل الأسباب والاعتصام بالتوكل، فلا يجعل عجزه توكلاً، ولا توكله عجزًا، إن تعسّر عليه شيء فبتقدير الله، وإن تيسّر له كل شيء فبتيسير الله.
المسلم المتوكل يخرج من بيته متوجهًا إلى عمله ومهنته، وإلى دعوته وجهاده، تَزْدلف قدمه من عتبة بابه وهو يقول: "باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أزِلَّ أو أُزَلّ أو أَضِل أو أُضَل أو أَظلِم أو أُظلَم أو أَجهَل أو يُجهل علي". وقد كان من ذكر النبي : ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون)). ومن قال: "باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله" يقال له حينئذٍ: كُفيت ووقيت وهُديت، وتنحّى عنه الشيطان. وفي التنزيل العزيز: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى? ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99].
أخي المؤمن، ثمة موطن من مواطن العمل لا يكون على وجهه ولا تتحقق غايته إلا حينما يكون التوكل لله هو عموده، إنه موطن الصبر والثبات على المواقف وعدم التنازل عنها، وهو الذي يحمل عبأه أنبياء الله عليهم السلام ومن اقتفى أثرهم من أهل العلم والدعوة والإيمان والصلاح والإصلاح، فهم حين يتعرضون لمخاوف مزعجة لا يثبتون على الروع والغبن إلا لأملهم في الله واستنادهم عليه، لا يثبتون إلا بالتوكل الذي ينير أمامهم ظلمات حاضرهم، ويعينهم على مواجهة الأخطار بعزم وثقة واطمئنان، وما نراه من صبر وثقة بالله لدى بعض العلماء والدعاة والمجاهدين والمصلحين أمرٌ قد يستغربه الضعفاء الواهنون ويستنكرونه، ولذلك حين قال موسى وهارون عليهما السلام بعد أمر الله لهما بدعوة فرعون: رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] أجابهما جلّ وعلا: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، إنه الشعور الكبير والعميق بمعية الله وعنايته، ذلكم هو المؤنس في الموحِشَات والمشجع في الرّهَبَات.
وهذا هو أبو بكر الصديق يقول: نظرت أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال : ((يا أبا بكر، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما؟!)). قال الله عنهما: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وحينما قال الذين كفروا لرسلهم: "لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا"، هذه المقولة التي تتردد عبر التاريخ، ويُوَاجه بها أهل الدعوة المخلصون في كل زمان ومكان، جاء الجواب على لسان خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام بقوله تعالى: قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89]. هذا هو المجد الشامخ الذي لا يحظى به إلا نفر من المؤمنين المتوكلين، قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الملك:29].
أيها المسلمون، من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى، ومن لم يكن كذلك فهو يظن من ضلاله أن حظوظًا عمياء هي التي تقرر مصائر الحياة والأحياء. إن المقطوعين عن الله هم عبيد الحظوظ الشاردة والأسباب المبتورة، إن التوكل على الله لا يعرفه العاطلون البطّالون، لن يتوقع أحد الخذلان والضياع وهو مرتبط بربه معتمد عليه، والله يقول: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [الزمر:36، 37]، هذا هو التوكل في حقيقته وأثره وجزائه وصفات أهله. وفي الصحيحين في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب: ((هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون)) ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]).
أيها المسلمون، إن التوكل على الله من أعظم أسباب النصر على الأعداء، إذا تحقق التوكل في القلب فلا يحزنه بعد ذلك الفقر والإقلال، ولا تزلزله الفتنة والإعصار، حين يُبنى التوكل على معرفة الله وأسمائه وصفاته، حين يعلم العبد يقينًا أن الله هو المحيي والمميت الحي القيوم علام الغيوب العزيز الجبا، الواحد القهار له خزائن السموات والأرض بيده الخير وإليه يرجع الأمر كله، حين يعلم: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، إذا استقرت هذه المعاني امتلأ القلب بإجلال الله ومحبته وتعظيمه، وانقطعت العلائق الأرضية، ولم يبق اعتماد على أي مخلوق أو أية دولة أو جهة، عندئذٍ ينشرح الصدر وتسكن النفس ويطمئن القلب والفؤاد إلى الله تعالى.
ولا يلزم من التوكل أن لا يُصاب العالم أو المجاهد أو الداعية بأذى، فقُدُوات الأمة في هذا الباب أصابهم ما أصابهم، ولم يخدش ذلك في توكلهم، ألا ترى إلى ذبح نبي الله يحيى بن زكريا وقتل الخلفاء الثلاثة والحسين وابن الزبير وابن جبير؟! وقد ضُرِب أبو حنيفة وحُبِس ومات بالسجن، وجُرّد مالك وضُرِب بالسياط، وجُذِبت يده حتى انخلعت من كتفه، وضُرِب الإمام أحمد حتى أُغمِي عليه، وقُطِع من لحمه وهو حي، وأُمِر بصلب سفيان فاختفى، ومات البويطي مسجونًا في قيوده، ونُفِي البخاري من بلده، وسُجِن شيخ الإسلام ابن تيمية ومات في سجنه، وفُعِل ما فعل بتلميذه ابن القيم وكان قبل ذلك قد سُجِن مع شيخه، وأُخرِج الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب إلى المقبرة، وأُمر الجند أن يطلقوا عليه الرصاص جميعًا فمزّقوا جسمه، وفاضت روحه إلى ربه، ونُكّل بأئمة الدعوة المباركة، وطُعِن في نواياهم، وأُسيء بهم الظن، ونُسبِت إليهم النقائص، وهم صابرون محتسبون.
كذا المعالي إذا ما رمت تدركها فاعبر إليها على جسر من التعب
أيها المسلمون، إن للتوكل على الله آثارًا حميدة ولذة عجيبة لا يجدها إلا الخُلّص من عباد الله، وجدها إبراهيم عليه السلام عندما ألقي في النار، فتوكل عليه فصارت بردًا وسلامًا، ووجدها يوسف عليه السلام عندما ألقي في الجُبّ كما وجدها في السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور، ووجدها رسول الله وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهم، لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا ، وسيجدها كل من أخلص لله، وآوى إليه يأسًا من كل من سواه، منقطعًا عن كل شبهة في قوة، قاصدًا باب الله دون الأبواب كلها.
لو استقرت هذه الحقيقة في قلب المسلم استقرارًا صحيحًا لصمد كالطود أمام الأحداث وأمام الأشخاص وأمام القوى والقيم والاعتبارات، ولو تضافر عليه الإنس والجن بكل ما يملكون من طائرات ودبابات وصواريخ وعابرات القارات، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن الله ملاذنا فبه نلوذ، وهو معاذنا فبه نعوذ، به نعتصم ونلتجئ ونستعين، وعليه وحده نتوكل، قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر:38].
أيها العلماء، أيها المجاهدون، أيها الدعاة، أيها المصلحون، فوضوا أموركم إليه، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44].
أيها المسلمون، عند اشتداد الكروب وتفاقم الخطوب يتجلى إيمان المؤمنين، وفي خضم الحوادث وثنايا الكوارث يبرز صدق المتقين وزيف المنافقين وهوى المنحرفين، عند حلول الفتن وحصول المحن يظهر توجّه المتوكلين وتضييع المتواكلين؛ لأن الأحداث والمدلهمّات والشدائد والملمّات معايير دقيقة ومقاييس منضبطة لسَبْر أغوار الرجال وإظهارهم على حقائقهم، والموفق المُلهَم من كان مع الله في كل أحواله، وعرف ربه في سرائه وضرائه، وسار في كل أموره متوكلاً على الله معتصمًا به، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
أيها المسلمون، المتوكلون على الله أنواع وأقسام: فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان به ونصرة دينه وإعلاء كلمته وجهاد أعدائه وإقامة شرعه وهداية خلقه، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل عليه في استقامته في نفسه وإصلاحها، وأقل من هؤلاء مرتبة من يتوكل على الله في أمر يناله منه، من رزق أو عافية أو زوجة أو ولد. وأفضل التوكل التوكل في الواجب، وهو واجب الخلق وواجب النفس، وأوسع التوكل وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية أو رفع مفسدة دينية، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ودفع فساد المفسدين في الأرض.
لنقف وقفة تأمل من نبي الله هود عليه السلام، قال الله تعالى: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِي إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:54-56].
إن أصحاب الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر، رجل واحد، لم يؤمن معه إلاّ قليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض، وأكثر أهل الأرض حضارة ومادية في زمانهم، أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:128-130]، هؤلاء هم الذين واجههم هود عليه السلام، في شجاعة المؤمن واستعلائه وثقته واطمئنانه، وفاصلهم هذه المفاصلة الحاسمة الكاملة وهم قومه، وتحدّاهم أن يكيدوه بلا إمهال، وأن يفعلوا ما في وسعهم، فلا يباليهم بحال. لقد وقف هود عليه السلام هذه الوقفة لأنه يجد الفهم كل الفهم لمعنى التوكل في أبهى صوره، ويوقن أن أولئك الجبارين العتاة المتبطرين إنما هم من الدواب، وهو مستيقن أنه ما من دابة إلاّ وربه آخذ بناصيتها. إن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد أن يجدوا هذه الحقيقة في نفوسهم على هذا النحو، حتى يملكوا أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم، ويوم تتم هذه المفاصلة يتحقق وعد الله بالنصر لأوليائه والتدمير على أعدائه في صورة من الصور التي قد تخطر أو لا تخطر على البال، وما ذلك على الله بعزيز.
قال ابن القيم رحمه الله وهو يتحدث عن همم الصحابة رضي الله عنهم في التوكل: "فحال النبي وحال أصحابه محكّ الأحوال وميزانها، بها يُعلم صحيحها من سقيمها، فإن هممهم كانت في التوكل أعلى من همم مَن بَعدهم، فإن توكلهم كان في فتح بصائر القلوب، وأن يُعبد الله في جميع البلاد، وأن يوحِّده جميع العباد، وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد، فَمَلؤوا بذلك التوكل القلوب هدى وإيمانًا، وفتحوا بلاد الكفر وجعلوها دار إيمان، وهبّت رياح روح نَسَمَاتِ التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقينًا وإيمانًا".
فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يكون توكلنا عليه في نصرة دينه وإعلاء كلمته وهداية خلقه، إنه ولي ذلك والقادر عليه...
(1/4301)
وفاة الشيخ ابن باز (2)
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
6/2/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت مصير كل حي. 2- جنائز علماء السنة. 3- جنازة الإمام أحمد. 4- جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية. 5- جنازة العلامة ابن باز. 6- وقفات مع وفاة ابن باز.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شَرْبة ماء)) ، وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا أو متعلّمًا)) رواهما الترمذي.
قال الشاعر:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يومًا على آلة حَدْبَاء محمول
أيها المسلمون، لو كان البقاء تكريمًا لأحد من خلق الله لكان أجدر الخلق بهذا التكريم هو محمد رسول الله ، ولكن الموت سنة الله في هذه الحياة، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
إن مما شهد له التاريخ هو أن علماء أهل السنة تكون جنائزهم عجبًا من العجب، ويكون ذلك اليوم يومًا مشهودًا، فكم حفظت لنا كتب التاريخ عن قصص نعجب لها حين نقرؤها عن بعض جنائز علماء هذه الأمة، ورحم الله الإمام أحمد عندما قال: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز".
فعندما توفي هو رحمه الله كانت جنازته عجبًا. مرض الإمام أحمد قبل موته أيامًا، وضعفت صحته، وكان يتوكأ على ولده صالح للصلاة، فلما تسامع الناس بمرضه ازدحموا على بابه وكثروا، وصاروا يدخلون عليه أفواجًا يسلّمون عليه، فسمع السلطان بكثرة الناس على بابه وفي الشوارع المؤدّية إلى بيته فوكّل ببابه وعلى الشوارع الحرس والشُرط، فاجتمع الناس في الشوارع والمساجد حتى تعطل بعض الباعة، وحِيل بينهم وبين البيع والشراء، ووصل الأمر إلى أن من أراد الدخول عليه لم يتمكن، فيضطر للتسلّق على الدور المحيطة بداره حتى يصل إليه من كثرة الخلق. جاءه حاجب الأمير فقال له: إن الأمير يقرئك السلام، وهو يشتهي أن يراك، فقال: هذا مما أكره، وأمير المؤمنين أعفاني مما أكره. فجاءه رجل من جيرانه يعوده وقد خضّب لحيته فدخل عليه فقال الإمام: إني لأرى الرجل يحيي شيئًا من السنة فأفرح به، وجاء رجل يتلطّف ولده صالح ليأذن له بالدخول عليه وقال: إني ممن حضر ضربه في المحنة وأريد أن أستحلّه، فأُذن له، فقام بين يديه وجعل يبكي وقال: يا أبا عبد الله، أنا كنت ممن حضر ضربك وقد أتيتك، فإن أحببت القصاص فأنا بين يديك، وإن رأيت أن تُحلّني فعلتَ، فقال: على أن لا تعود لمثل ذلك، قال: نعم، قال: إني جعلتك في حلّ، فخرج يبكي، وبكى من حضر من الناس.
وفي يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين توفي الإمام أحمد، فلما تسامع الناس الخبر اجتمعوا في شوارع بغداد. وحضر غسله نحو مائة من بيت الخلافة من بني هاشم، فجعلوا يُقبّلونه بين عينيه، ويدعون له، ويترحمون عليه. وصلى عليه داخل الدار أولاده والهاشميون قبل أن يخرج إلى المصلى، وقد كان الناس رجالاً ونساءً يتزاحمون في الشوارع منتظرين خروج الجنازة ليصلوا عليها في المصلى، ثم يتبعوها إلى المقبرة، فخرج الناس بنعشه والخلائق من حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، فصُلّي عليه، ثم أعاد خلائقٌ الصلاة عليه عند القبر ممن لم يصلِّ عليه وعلى القبر بعد أن دفن خلائق لا عدّ لهم، وقد بلغ من حضر جنازة الإمام أحمد مليون وخمسمائة ألف، قال عبد الوهاب الوراق: "ما بلغنا أن جَمْعًا في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا على جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة الإمام أحمد". وازدحم الناس على قبره بعد دفنه لمدة طويلة لم يُعرف له في عصره نظير، يقول أبو الحسن التميمي عن أبيه عن جده: إنه حضر جنازة الإمام أحمد ابن حنبل، قال: فمكثت طول الأسبوع رجاء أن أَصِل إلى قبره فلم أَصِل من ازدحام الناس عليه، فلما كان بعد أسبوع وصلت إلى القبر.
أيها المسلمون، وقريب منه جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أيضًا، كانت جنازته عجبًا من العجب، توفي ليلة الاثنين وقت السحر لعشرين من ذي القعدة سنة سبعمائة وثمان وعشرين للهجرة بقلعة دمشق التي كان محبوسًا بها، فذَكر خبر وفاته مؤذن القلعة على المنارة، وتكلم الحرس على الأبراج، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم والأمر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان، وأُذن للدخول عليه لبعض الخواص، يقول ابن كثير: فكنت ممن حضر هناك مع شيخنا الحافظ المزي رحمه الله، وكشفت عن وجه الشيخ، ونظرت إليه، وقبّلته، وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه، ثم شرعوا في غسل الشيخ، فما فُرِغ منه حتى امتلأت القلعة، وضجّ الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع الأموي والخلائق بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصي عدتهم إلا الله تعالى، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أهل السنة.
فتباكى الناس وضجّوا، ووُضِع الشيخ في موضع الجنائز قبل أذان الظهر، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصُلّي عليه أولاً بالقلعة، ثم صُلي عليه بالجامع الأموي، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصًا لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الخلق من كل مكان، ونوى خلق الصيام؛ لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تُحدّ ولا توصف، فلمّا أذّن الظهر أقيمت الصلاة مباشرة على خلاف العادة من زحمة الناس؛ لأنهم لم يتمكنوا من الانتظار، ثم تزايد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حُمِل بعد أن صُلّي عليه على الرؤوس، وخرج النعش، واشتد الزحام، وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب والترحم عليه والثناء والدعاء له، وذهبت النعال من أرجل الناس والعمائم من الرؤوس لا يلتفتون إليها، وصار النعش يتقدم تارة ويتأخر تارة، وتارة يقف حتى يمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابه كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر، ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من كثرة الخلائق، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتضاعف الخلق، ووضعت الجنازة هناك، وصُلّي عليها، ثم حُمِل إلى المقبرة، وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلّي عليه من أهل القرى ممن تأخر في الوصول إلى الجامع، وأغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور مع الترحم والدعاء له، وحضر نساء كثيرات حُزِرْنَ بخمسة عشر ألف امرأة، وأما الرجال فبلغوا مائتي ألف، وتردد الناس إلى قبره أيامًا كثيرة ليلاً ونهارًا.
أيها الأحبة، وقد يتساءل البعض ويقول: إن جنازة الإمام أحمد كانت أعظم من جنازة شيخ الإسلام بأضعاف! فيجيب على هذا الإشكال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه فيقول: إن سبب ذلك هو كثرة أهل البلد الذي توفّي فيه الإمام أحمد عن أهل البلد الذي توفي فيه شيخ الإسلام، فالإمام أحمد توفّي في بغداد وشيخ الإسلام في دمشق، وأهل بغداد عشرة أضعاف أهل دمشق، ثم إن الإمام أحمد كانت الدولة تحبّه، بينما شيخ الإسلام توفّي في السجن محبوسًا من قبل الدولة، ومع ذلك اجتمع لجنازته جمعٌ عظيمٌ لو جمعهم سلطان قاهر لما بلغوا هذه الكثرة، وهناك سبب ثالث ذكره ابن كثير وهو أن هناك من علماء السلطة ممن كانوا يذكرون عنه أشياء لعامة الناس مما ينفر منها طباع أهل الأديان، فضلاً عن أهل الإسلام، ومع ذلك قيّض الله لجنازته هذه الجموع، فكان يومًا مشهودًا لم يُعهد مثله بدمشق.
أيها المسلمون، وجنازة والدنا سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى رحمة واسعة في الجمعة الماضية كانت جنازة عظيمة وكان يومًا مشهودًا، فقد بلغ من صلى عليه رحمه الله مليوني مسلم، فما إن سمع الناس بخبر وفاته حتى انطلقوا من كل صوب نحو مكة، وصار حشدًا هائلاً من داخل البلاد وخارجها، فحدثنا من حضر الصلاة عليه أن الجموع كانت في الحرم من الصباح الباكر، وقد صلى عليه أولاده وأحفاده في منزله بعد أن تم غسله قبل أن يصلى عليه في الحرم، وصلت جنازته قرابة الساعة الحادية عشر صباحًا، فما أن أُدخل الحرم إلا وهب الناس قيامًا ووقفوا على أقدامهم، ولم يستقروا إلا بعد زمن، ووضعت الجنازة تحت المكبرية قريبة من صحن الحرم، وما إن انتهى خطيب الحرم من الصلاة إلا وتدافع الناس نحو الجنازة، كلٌّ يريد أن يشارك في حملها، ولم تصل إلى موضع الصلاة في صحن الحرم إلا بعد زمن، قرابة عشرين دقيقة من زحمة الناس، وكان الضجيج وصراخ الناس، فكبر عليه إمام الحرم التكبيرة الأولى للصلاة عليه وما تزال أصوات الناس مرتفعة، حتى إن البعض قال: إننا ما سمعنا تكبيرة الإمام من ضجيج الناس، فلما كبر التكبيرة الثانية هدأ الناس قليلاً، فلما كبر التكبيرة الثالثة فإذا بك تسمع البكاء من كل أرجاء الحرم، وأصوات الناس وهم يبكون وقت الدعاء له يسمع من كل مكان، من الدور العلوي ومن تحت الأروقة ومن صحن الحرم، ثم تدافع الناس بشكل كبير لحمله وقت إخراجه من الحرم في حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، والذي رأى الجنازة رآها تدور وهي على رؤوس الناس، وما خرجت من الحرم إلا بصعوبة، ثم توجهت هذه الحشود الهائلة نحو المقبرة ليشهدوا دفنه رحمه الله، واجتمع مئات الآلاف من الناس حول مقبرة العدل بمكة حيث دفن فيها الشيخ رحمه الله رحمة واسعة، وبقي الناس حول قبره بعد دفنه لساعات يدعون له ويترحمون عليه. ووصفوا لنا الطريق حال خروج الناس من مكة بعد انتهاء دفن الشيخ أنه أشد من موسم الحج، والطريق من مكة إلى الطائف لا تكاد السيارات أن تسير فيه من شدة الزحام، وذكر بعضهم الطوابير على محطات البنزين، وأن المطاعم القريبة من مخرج مكة جهة الطائف قد نفد فيها الطعام من كثرة الناس.
جَبَر الله مصيبتنا، وأخلفنا خيرًا منها، ورحم الله علماء أهل السنة، وأسكنهم فسيح جناته، وجمعنا بهم في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لا شك أن موت الشيخ عبد العزيز ابن باز ليس بالأمر الهيّن، وأن الأمة بأسرها فقدت شخصية من أعظم شخصياتها في هذا الوقت، وأن الشيخ لم يكن رجلاً عاديًّا في عقله وحفظه وجهده وبذله وعمله، يتعب الذين يعملون معه ويجهدون، والشيخ لديه صبر عجيب وتحمّل لا يوصف وهو في التسعين من عمره.
أيها الأحبة، هذه وقفات يسيرة مع هذا الحادث الجلل:
أولاً: يجب أن لا نفقد الأمل بالله عز وجل، فالذي أخرج لنا ابن باز سيخرج لنا مثله أو أفضل منه، وما ذلك على الله بعزيز، توفّي الإمام أحمد فقيّض الله لهذه الأمة شيخ الإسلام، وتوفّي شيخ الإسلام فقيّض الله للأمة أمثال ابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وفلان وفلان، فهذه الأمة أمة ولود، والخير باق فيها إلى يوم القيامة، أمة الغيث لا يُدرى خير أوله أم آخره، ولن نكون نحن أغير على الدين والملة من الله عز وجل، فهذا دينه، وهذه شريعته.
الذي جعلني أقول هذا الكلام هو بعض العبارات التي سمعناها بعد وفاة الشيخ والتي توحي إلى شيء من اليأس وبعض الأبيات ممن رثا الشيخ فيها شيء من ذلك، وكأنه لا تقوم للإسلام قائمة بعده، وكأن كل الموجودين على الساحة لا ينفعون، هذه نظرة خاطئة، فنحن لا نعتقد العصمة في ابن باز، وأنه لم يظهر ولن يظهر مثله، وسيقيّض الله جل وتعالى لهذا الدين من يحمله، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.
ثانيًا: إن في الأمة لقدرات وطاقات، وأحيانًا وجود رجلٍ جبل مثل ابن باز يكون سببًا في عدم ظهور وبروز مثل هذه الطاقات، فالكل معتمد ـ بعد الله ـ على ابن باز، والجميع لا يتكلم والشيخ موجود، فلعل الله أراد بالأمة خيرًا.
ولعلي أضرب مثالاً لتقريب الصورة: أحيانًا يكون هناك رب لأسرة أو أحد الإخوة الكبار قائما بجميع شؤون هذه الأسرة صغيرهم وكبيرهم، من حبّه وحرصه عليهم لا يترك لأحد مجالاً، وهناك أربعة أو خمسة من الأبناء وكلهم شباب ورجال لا دور لهم، حتى إن الناظر لهذه الأسرة من خارجها ليظن أن هؤلاء الأربعة أو الخمسة لا خير فيهم ولا ينفعون حتى أنفسهم؛ لأنه يرى أن العمل مُنصبّ على قناة واحدة، فيقدّر الله جل وتعالى فيموت هذا الأب أو هذا الأخ، وإذا بك تفاجأ بتفجر طاقات وقدرات وعقليات ما كنت تتوقع منها ذلك، السبب أنها أعطيت الآن فرصة، ومن قبل كان هناك من يقوم بالأمر.
ثالثًا: كان للشيخ رحمه الله طريقة خاصة في معالجة الأمور، خصوصًا فيما يتعلق بإنكار بعض الأشياء، فالشيخ لا يصرّح، ولا يجرّح، ولا يتكلّم بعنف، فله أسلوبه وله طريقته التي من خلالها رحمه الله أوقف كثيرًا من الأشياء، وأغلق أبوابًا من الشر لا يعلمها إلا الله.
رابعًا: لقد أتعب الشيخ رحمه الله كثيرًا ممن جاء بعده من العلماء، فليست القضية قضية رد على أسئلة الناس فقط، لقد كان للشيخ دعاة في مختلف بقاع العالم تابعون له خاصة، غير الدعاة الرسميين التابعين للدعوة والإرشاد، كان يدفع لهم المرتبات وينفق عليهم ويتابعهم، هذه قضية لا بد للعلماء بعده أن تكون منهم على بال. هناك آلاف الأسر في الداخل والخارج كان الشيخ يصرف لهم المرتبات، ويعطيهم من الزكوات والصدقات، ويتابع شؤونهم، لا بد للعلماء بعد الشيخ أن تكون منهم على بال أيضًا.
الرسائل والمكاتبات التي كان يرسلها الشيخ يوميًا تقريبًا إلى بقاع شتى من العالم للمراكز الإسلامية والجامعات ورؤساء الدول والحكومات والهيئات والأشخاص، إمّا إجابة لسؤال أو نصيحة أو توجيه، هذه أيضًا نتمنى أن لا تنقطع بعد موت الشيخ فتكون منهم على بال.
كان الشيخ يفتح قلبه قبل بيته يوميًا بعد المغرب وبعد العشاء وبعد صلاة الجمعة لعامة الناس، للإجابة على أسئلتهم وحل مشاكلهم وغيرها من الأمور، فلا بد أن يسدّ هذا النقص عدد من العلماء بعد الشيخ، ولا يصلح أن يعاملوا الناس فقط بأوقات الدوام الرسمي وبقية الأوقات يرتاحون فيها أو يقضونها مع أولادهم، لا بد للعامة من بعض العلماء يبذلون كل أوقاتهم تقريبًا، ولعلهم أن يغطّوا شيئًا يسيرًا من حاجات الناس، والشيخ رحمه الله كان من هذا الصنف.
وأيضًا مما يجب أن يكون على بال العلماء بعد الشيخ هو أن الشيخ رحمه الله كان يشفع لكل الناس في أمور مختلفة جدًّا، ولم يقتصر في علاقته مع الناس على الفتوى فقط، فهذا لم يجد لولده مقعدًا في الجامعة كان يذهب للشيخ، وهذا لم يجد لمريضه سريرًا في المستشفى يذهب للشيخ، وهذا لا يجد نفقةً للزواج يذهب للشيخ، وهذا يجد مضايقة شرعية في عمله الوظيفي يذهب للشيخ، وعشرات الحالات شبيهة بهذا مما لا عدّ له ولا حصر، ونحن عندما نذكر هذا الكلام لا نذكره على سبيل المبالغة، بل نعلم عن حالات واقعية من هذه الأمور وغيرها شفع فيها الشيخ بشفاعات حسنة نفعت بإذن الله عز وجل. فهذه ثغرة لا بد للعلماء أن يبذلوا فيها جاههم بعد الشيخ لعامة الناس، ولا يقتصروا على أنفسهم أو أقاربهم.
خامسًا: هداية بعض الناس بموت العلماء، وقد حصل هذا في موت الإمام أحمد، فقد نُقِل أنه أسلم بعض النصارى أو غيرهم بموته وذلك لما شاهدوه في جنازته، ورأينا نحن في جنائز بعض الصالحين ممن كان لهم أثر ظاهر فيمن حولهم حضور بعض المبتدعة لجنازته تأثّرًا بموته، وقد حصل تغير في أحوال بعض الناس بسبب موت الشيخ عبد العزيز تأثّرًا بما سمعوه وشاهدوه. ولعل هذا يجعلنا نشير إلى أن بعض الناس قد لا تعرف قيمتهم ووزنهم إلا بعد فقدهم، والعلماء الربانيون من هذا البعض، فالناس قد لا يعرفون قيمة عالمهم وما كان له من دور إلا بعد موته.
سادسًا: عُرِف الشيخ رحمه الله بلين الجانب وطيب المعشر ولطف التعامل، لكنه رحمه الله في نفس الوقت كان قويًّا شديدًا في إنكار البدع، وكلامه في ذلك قوي معروف منشور، فالشيخ كان مظهرًا للسنة منكرًا للبدعة بجميع أشكالها وألوانها، لا يتساهل في ذلك ولا يداهن ولا يشارك ولا تأخذه لومة لائم، وقد عصمه الله جل وتعالى في آخر حياته عن أمور سقط فيها غيره، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على إمامته.
سابعًا: من المناسب جدًّا أن تُلقى بعض المحاضرات الآن وبعد وفاة الشيخ أو تؤلف بعض الكتب في مناقبه، ويُركّز على جوانب الاقتداء بهذا الإمام، وكيف أنه جمع بين العلم والخلق والكرم وغيرها من الصفات التي قلّ ما تجتمع في شخص. وشخصية ابن باز من أهم الشخصيات التي يجب أن تُبرز الآن وبكل وضوح لشباب الصحوة في هذا الوقت ليكون موضع القدوة.
ثامنًا: نشرت بعض الصحف أمورًا لا تنبغي ولا يرضاها الشيخ، كنشر صورة السيارة التي كان يركبها، أو الكرسي الذي كان يجلس عليه، وبعض التعليقات غير المناسبة ولا اللائقة بحق الشيخ.
رحم الله فقيد الأمة، وأسكنه فسيح جناته، وعوّضنا خيرًا منه، إنه سميع قريب مجيب...
(1/4302)
جريمة تدنيس القرآن
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القرآن والتفسير, الولاء والبراء, جرائم وحوادث
عبد الله بن محمد الطوالة
جدة
12/4/1426
مسجد عبد الوهاب عبد الواسع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم جريمة تدنيس المصحف الكريم. 2- جرائم أمريكا في العرق. 3- تبجح أمريكا واحتقارها للمسلمين. 4- وقفات مع حدث تدنيس المصحف الشريف.
_________
الخطبة الأولى
_________
اللهم إنا نبرأ إليك مما صنع جنود الأمريكان في كتابك الكريم في غوانتانامو، ونعتذر إليك بضعفنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، اللهم العن المعتدين الأمريكان لعنا كبيرا بما اقترفوه في حق كتابك، اللهم سلّط عليهم جندا من جندك، وأرنا فيهم يوما أسودَ كيوم فرعون وهامان، اللهم انصر إخواننا الذين يجاهدونهم بكل وسيلة مشروعة ويصدّون عدوانهم عن المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان، اللهم تقبّل شهداء القرآن الذين انتفضوا غيرة فماتوا في سبيلك، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ [الأنفال:59].
والله، إن الإنسان ليتمنى أنه قد مات وكان نسيا منسيا ولم ير أمة المليار يفعَل بأعز مقدساتها هذا الفعل ويهان بأبشع إهانة عرَفها التاريخ وأمة المليار مكلومة، كل يغلي في داخله كغلي المرجل. ورب الكعبة، ومن أنزل القرآن العظيم، إني أجد نفسي متصاغرا حسيرًا وأنا أتابع كغيري أخبار جريمة تدنيس القرآن الكريم في مراحيض غوانتانامو، أولئك الأنذال لم يكفهم في إهانة المسلمين أن اختطفوا إخواننا من كل مكان، وكدسوهم في معتقلهم النازي، وعاملوهم أبشَع معاملة، متبجّحين: إن هؤلاء المساجين لا حقوق لهم من أي نوع كان، وإن كل القوانين الأرضية لا تنطبق على حالاتهم، وإنهم بالتالي يجب أن يخضعوا لمزاجية السجانين، يتفننون في تعذيبهم كيف شاؤوا.
ولما فشلوا في استجوابهم ولم يجدوا عندهم ما يريدون وعجزوا أن يقدّموهم للمحاكمة رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على احتجازهم وأسرِهم ساموهم سوء العذاب، عرّوهم وصوّرهم عراة، وتحرشوا بهم جنسيًا، وأهانوهم في كرامتهم، ومارسوا معهم وفيهم أبشع وأشنع أساليب الإيذاء الحسّي والمعنوي، مخالفين بذلك جميع شرائع السماء وقوانين الأرض ومواثيق البشر.
مئات الصوَر التي ظهرت في وسائل الإعلام تحكي كيف تخلّى هؤلاء عن أبسط الحقوق الإنسانية، بل كيف فقد هؤلاء إنسانيتهم بالكلية. ما مصلحتهم في تعرية الإنسان من ملابسه؟! ما المتعة التي يجدونها في جعل مجموعة من الرجال يوضعون بعضهم فوق بعض عراة؟! لماذا يضعون سلاسل الكلاب في رقاب البشر ويسحبونهم بها؟! أسئلة لا يجد العاقل لها جوابا.
جرى هذا كلّه في سجون العراق وغيرها، وقطعا هناك أشياء أسوأ من هذا تحدّثت عنها وسائل الإعلام الغربية والعربية. وللأسف فردّة الفعل من أصحاب الشأن لم تكن على مستوى الفظاعة الهائلة التي استنكرها العالم كلّه، فالحكومات المعنية لم تتّخذ مواقف واضحة لصالح القضية.
ومر هذا الحدث الإجرامي بسلام، فكان لا بد للأمريكان أن يفعلوا شيئا أكبر مما سبق ليروا إلى متى سيبقى الصمت الرهيب هو سيد الموقف. هذه المرة وصلت الجرأة إلى تدنيس المصحف الشريف وامتهانه بصورة كارثية وغير مسبوقة، لِمَ لا وأصحاب الشأن لا يرفعون رؤوسهم إلا بصعوبة شديدة؟! هذا إذا رفعوها. انتزعوا المصحف وداسوه بأقدامهم ورموه في المرحاض، وكأن شيئًا لم يحدث.
صحيفة "نيوزويك" الأمريكية الواسعة الانتشار أعلنت هذا الخبر، ويبدو لي أنهم لم يحرصوا على كتمانه لا في سجونهم ولا في صحافتهم، فالمسلمون ليسوا شيئًا في نظرهم، فلماذا يحترمونهم؟! ولماذا لا يقذفون كتابهم المقدس في المراحيض؟! وإذا كان المسلمون والعرب بالذات وبحسب نشيد الفرقة الجوية القتالية الأمريكية ما هم إلا حشرات وجرذان وأفاع فهل يقيمون لهم أو لكتابهم المقدس وزنًا بعد ذلك؟!
عباد الله، إن انتهاكَ المصحف جاء في سياق عمل منتظم يقوم به بعض الأمريكان وبعلم قادتهم ورضاهم؛ لإذلال المسلمين جميعًا من جهة، ولأن الأمريكان بقيادتهم الحالية يعبرون عن مكانة المسلمين في نفوسهم بصورة عملية؛ لأن ما فعلوه مع الذين انتهكوا حرمات المساجين في سجون العراق يقود إلى النتيجة التي وصلت إليها، لا شيء حتى الآن.
الكل كان يعلم أن التعذيب كان يتم بعلم الرؤساء، والآن الجميع يعلم أن انتهاك القرآن يتمّ كذلك بعلم الرؤساء، ومع كل يوم جديد تزداد القناعة رسوخا والإيمان يقينا بطبيعة هذه الحرب ومقوماتها رغم ادعاءات متحذلقي الليبرالية وأقزام العلمانية الذين يتقدمون إلينا مع كل حادث من تلك الحوادث التي تقوم فيها أمهم بإعلان الحرب على دين الأمة وانتهاك مقدساتها، يأتون إلينا باعتذارات وتسويغات تنقصها البراءة، ويغلفها النفاق الممجوج، يلمّعون الوجه الكالح، ويجمّلون العجوز الشمطاء. ما الذي بقي أن يداس؟! كلّ شيء في حياتنا داسته أقدامهم، أفراد وجماعات وحكومات، لم يبق شيء. وحين لم يبق شيء تجرؤوا على القرآن وداسوه ودنسوه!
فيا عجبًا! أيتجرأ مخلوق على هذه الفعلة الشنيعة ثم يترك بلا حساب ولا عقوبة؟! حقٌ على أمة محمد بعدما حصل من هؤلاء المعتدين أن تغضب لله ولكتابه، فنحن المسلمين الذين اكتوينا بنار هذه الإهانة ندرك ضرورة استرداد الكرامة، وليحتفظوا بشرعيتهم الدولية ومواثيق أممهم المتحدة أمام هذا المشهد المقزّز؛ لأنهم لا يعلمون مكانةَ القرآن الكريم في قلوبنا، وإذا كان لدى العملاء والجبناء وأذناب الأعداء ما يبرّرون لأمريكا جرائمها البشعة من قتل وتدمير وإهانة لكرامة الإنسان المسلم فماذا فعل لهم القرآن حتى يدنسوه وعلى رؤوس الأشهاد؟!
نسأل الله العظيم أن لا تمر هذه الكارثة دون انتقام عاجل يرضي الله أولا، ثم يشفي صدور المؤمنين ثانيًا، يستهدف هؤلاء المجرمين المعتدين على كتاب الله مباشرة، لا مداراة ولا مجاملة ولا مداهنة، ومن لم تظهر غيرته هنا فلا خير فيه البتة.
نعم يا عباد الله، فأمام هذا المشهد المقزّز تموت الدبلوماسية، وترخص الحياة، وتبرز الغضبة لله ولكتابه. من للقرآن يا أهل القرآن؟! ها هم الأعداء أمامكم قد كشروا عن أنيابهم وكشفوا حقيقة حقدهم الصليبي. والله الذي لا إله إلا هو، إنه ليوم خزي وعار في التأريخ أن تمر هذه الجريمة دون قصاص عادل. إنا لله وإنا إليه راجعون، ما إن جفت دموعنا من مشاهد انتهاك أعراض أخواتنا في سجون العراق ومهزلة المحاكمات الصورية السخيفة لبعض الجنود والمجنّدات الأمريكان حتى نزفت عيوننا دما حرقة على جرأة المجرمين الصليبيين على كتاب ربنا العظيم الذي هو ـ والله ـ أولى من أنفسنا ودوَلنا وحكوماتنا وشعوبنا وأولادنا ووالدينا والناس أجمعين، بل وكل من في السموات والأرض من خلق الله.
وايم الله، إن شرف الانتصار لكتاب الله لهو غاية المنى، فلن يتوقف هذا العدوان على ديننا وقرآننا وإخواننا وأخواتنا حتى نرهِب عدو الله وعدونا بما نعدّ لهم من قوة ومن رباط الخيل والعتاد والاستعداد كما أمر الله، ومن ينتظر منا من هؤلاء الأعداء المعتدين أن يردّوا له حقه أو يعيدوا له كرامته فهو كمن يتطلب في الماء جذوة نار، فهل أنصفوا إخواننا في العراق أو أفغانستان أو غيرهما حتى نتوقع منهم خطوة إيجابية أخرى؟! وأي مصداقية من وراء مواعيدهم الكاذبة؟! أما آن لهذا الليل أن ينقشع؟! أما آن لهذا الظلم أن يرتفع؟! أما آن للمتشتّت منا أن يجتمع؟! أما آن لنا أن نزأر في وجوه أعدائنا ونقول لمن تعدّى على كتاب ربنا: الويل والدمار لك؟! صدق ـ والله ـ زهير:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يضرّس بأنيابٍ ويوطأ بمنسَم
وصدق ـ والله ـ الفاروق ونصح: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
أخيرا، لا بد من النظر بموضوعية ورصّ الصفوف لمواجهة العدوان الصليبي بجميع صوره وأشكاله، حتى يعلم الأعداء أن في المسلمين غيارَى مستعدين للتضحية بكل شيء عندما تصل الأمور إلى هذا الحدّ من الاستخفاف بهم وبدينهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الواقعة:75-80].
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن مقال رائع لفضيلة الشيخ ناصر العمر أنقل لكم التالي، يقول حفظه الله: "ولي مع هذا الحدث الوقفات التالية:
أولاً: أجمع العلماء على أن من أهان القرآن الكريم أو دنّسه فإن كان من المسلمين فهو مرتدّ يجب أن يقام عليه حدّ الردّة، وإن كان من الكفار فهو محارِب. ويُلحق بهذا الحكم مَن رضِي بهذا الأمر أو صدر منه ما يدلّ على الفرح به أو تأييده أو الدّفاع عن فاعليه. وهذا أمر عظيم ـ ولا شك ـ عند التدبر والتأمل، فليحذر أولئك المدافعون عن أمريكا وتفسير الحدث بأنه حدث فرديّ لا تتحمّل أمريكا مسؤليته.
ثانيًا: إلى متى ستظل أمريكا في أعين بعض الناس تمثّل الديمقراطية أو العدالة أو الحرّية مع جرائمها التي أهّلتها لأن تكون أكبر دولة في البغي والعدوان والظلم والغطرسة، هل تركت أمريكا شيئًا يخلّ بميزان العدالة والحرية إلاّ وفعلته؟! وهل قتل الأبرياء حوادث عارضة في السنوات المعاصرة؟! كلا، فجرائم فيتنام واليابان والهنود الحمر وما يحدث في العصر الحاضر من جرائم اليهود التي تعتبر أمريكا المسؤول الأول عنها في فلسطين ثم ما جاء من أحداث في أفغانستان وفي العراق كل ذلك يبين حقيقة أمريكا. فأقول: هل أبقت أمريكا مجالاً لأن يقول بعض المهزومين: إن في أمريكا عدالة أو حرية أو ديمقراطية؟! فقد أصبحت رمزًا للتفنن في البغي والظلم والطغيان والله المستعان.
ثالثًا: الذي حدث ابتلاء من الله جل وعلا وامتحان للأمة، ليقف كل مسلم ليتساءل: ماذا أفعل؟! كيف أنكر؟! سواء على مستوى الحكومات أو مستوى الشعوب، على مستوى العلماء والعامة، على مستوى الرجال والنساء، الصغير والكبير.
رابعًا: ماذا نحن فاعلون تجاه هذا الحدث؟! المسؤولية عظيمة جدًا، والأمر جسيم وعظيم، الحكومات مطالبة بموقف حازم تجاه هذا الحدث، المنظمات الدولية وأخصّ المنظمات الإسلامية مطالبة بموقف يبرئ ذمتها أمام الله جل وعلا ثم أمام الشعوب المسلمة، العلماء مطالبون ببيان الحكم الشرعي في هذه الحادثة وتوجيه الكلمة للمسلمين قبل توجيهها لأمريكا، إن على الأمة الاستنكار القوليّ والعملي بكل صورة وبكل وسيلة مشروعة كخطب الجمعة من على المنابر العلمية والإعلامية وعبر كل وسيلة مشروعة، الصغار الكبار، المقاطعة الاقتصادية، بل يستطيع الصغير أن يفعل شيئًا، يستطيع أن يقاطع أيّ منتج أمريكي. إن علينا في هذه المرحلة أن نتوجه بقوة لمقاطعة العدو، المقاطعة بشتى صورها وأشكالها. وهنا، وإن من أهداف المقاطعة إحياء عقيدة الولاء والبراء، وهو مبدأ عظيم جدًا، البراءة من أمريكا وعملائها، إنني عندما أقاطع منتَجًا من منتجات أمريكا أحيِي مفهوم الولاء والبراء في بيتي وفي نفسي وفي أهلي، وهذا ملحظ عظيم يغيب عن بعض الأذهان، حيث ينظرون إلى الأثر الاقتصادي فقط.
وأخيرًا فإنّ ما حدث هو من حفظ الله لهذا القرآن العظيم، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. إنّ حفظ القرآن ليس فقط حفظَ نصّه، وإنما يشمل ذلك حفظ منزلته ومكانته، فما حدث من ردّة فعل قويّة من المسلمين وكيف سُرِّب هذا الخبر من داخل معتقلات غوانتانامو على أيدي الأمريكيين أنفسهم إنه لدليل عظيم على حفظ الله لكتابه وحمايته لكتابه جل وعلا وإبراز مكانته في قلوب المسلمين جميعًا.
وبالمقابل ومما يجعلني أتفاءل وألتمس بعض جوانب الخير في هذا الحدث هو أن أمريكا تتساقط من قلوب الناس، وهذا مؤذن بإذن الله بسقوطها من أرض الواقع طال الزمان أو قصر، وعلامة ذلك شاهدة بارزة، ولكن كما قال : ((ولكنكم تستعجلون)). فأبشروا وأمّلوا، فالعدو مخذول، والظلم مرتعه وخيم، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف:59].
أسأل الله أن يحمي هذه الأمة وأن يحفظها، وأن يذل أعداءها، وأن يجعل الدائرة عليهم...
(1/4303)
بعد موت البابا
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الولاء والبراء
عبد الله بن محمد الطوالة
جدة
مسجد عبد الوهاب عبد الواسع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شيوع بعض الانحرافات في قضية موت البابا. 2- حبوط عمل الكافر. 3- تحريم الترحم على الكافرين. 4- خطورة التردد في تكفير الكافر. 5- التحذير من برنامج ستار أكاديمي.
_________
الخطبة الأولى
_________
فقد اطلعت على بعض التعليقاتِ لبعضِ الكُتابِ حول هلاك كبيرِ النصرانيةِ في هذا الزمانِ، فرأيت انحرافًا خطيرًا في ثوابت الدين وأصل العقيدة، فهذا يترحمُ على موتِه، وذلك يجعل الإنسانيةَ هي الجامع بيننا وبينه، وثالثٌ يلبس فكرته بالفتاوى والآياتِ التي لا علاقة لها بالموضوع، ورابعٌ يستدلُ بالمتشابهِ ويتركُ المحكمَ ويلوي أعناقَ النصوصِ لتوافق هواهُ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مُرَّ عَلَيْهِ بِجَنَازَةٍ فَقَالَ: (( مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ فَقَالَ: ((الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ)) رواه البخاري ومسلم.
وهذا الانحرافُ الخطير في ثوابتِ الدينِ والعقيدةِ يجب أن يرَدَّ عليه من نصوصِ الكتابِ والسنةِ والإجماعِ، ولا بد من بيانِ الموقفِ الشرعي من أعداءِ الملةِ من اليهودِ والنصارى وغيرهم من أصحاب الأديانِ الوثنيةِ؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ الْعَذَاب وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ [البقرة:161، 162]. قال الجصاصُ في تفسيره: "فِيهِ دَلاَلَةٌ عَلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَعْنَ مَنْ مَاتَ كَافِرًا، وَأَنَّ زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُ بِالْمَوْتِ لاَ يُسْقِطُ عَنْهُ لَعْنَهُ وَالْبَرَاءَةَ مِنْهُ؛ لأَنَّ قَوْلَهُ: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قَدْ اقْتَضَى أَمْرَنَا بِلَعْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ" اهـ.
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91]، أَيْ: مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْر فَلَنْ يُقْبَل مِنْهُ خَيْر أَبَدًا وَلَوْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَ مِلْء الأَرْض ذَهَبًا فِيمَا يَرَاهُ قُرْبَة، كَمَا سُئِلَ النَّبِيّ عَنْ عَبْد اللَّه بْن جدْعَان وَكَانَ يُقْرِي الضَّيْف وَيَفُكّ الْعَانِيَ وَيُطْعِم الطَّعَام: هَلْ يَنْفَعهُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: ((لاَ؛ إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا مِنْ الدَّهْر: رَبّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْم الدِّين))، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: ((وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)) رواهُ مسلم.
قال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ الآية: وَمَنْ يَكْفُر بِهِ مِنَ الأَحْزَاب فَالنَّار مَوْعِدُهُ [هود:17]: "أَيْ: وَمَنْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ مِنْ سَائِر أَهْل الأَرْض مُشْرِكهمْ وَكَافِرهمْ وَأَهْل الْكِتَاب وَغَيْرهمْ وَمِنْ سَائِر طَوَائِف بَنِي آدَم عَلَى اِخْتِلاَف أَلْوَانهمْ وَأَشْكَالهمْ وَأَجْنَاسهمْ".
ومن الطوامِ التي ساقها بعضِهم أنهُ جعل مواقف البابا المزعومة من قضايا المسلمين مسوّغًا لذكرِ مآثرهِ وأعمالهِ، فلننظر ماذا قال اللهُ ورسولهُ عن مثل هذه الأعمالِ.
قَالَ تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، قال القرطبي: "وَهَذَا مَثَل ضَرَبَهُ اللَّه تعالى لِلْكُفَّارِ يُعَوِّلُونَ عَلَى ثَوَاب أَعْمَالهمْ، فَإِذَا قَدِمُوا عَلَى اللَّه تعالى وَجَدُوا ثَوَاب أَعْمَالهمْ مُحْبَطَة بِالْكُفْرِ، أَيْ: لَمْ يَجِدُوا شَيْئًا كَمَا لَمْ يَجِد صَاحِب السَّرَاب إِلاَ أَرْضًا لاَ مَاء فِيهَا، فَهُوَ يَهْلِك أَوْ يَمُوت. قَالَ تعالى : وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَل فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَنْثُورًا [الفرقان:23]" اهـ.
وَقَالَ تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ [إبراهيم:18]، قال ابنُ كثيرٍ عند تفسيرِ هذه الآية: "هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّه تعالى لأَعْمَالِ الْكُفَّار الَّذِينَ عَبَدُوا مَعَهُ غَيْره، وَكَذَّبُوا رُسُله، وَبَنَوْا أَعْمَالهمْ عَلَى غَيْر أَسَاس صَحِيح؛ فَانْهَارَتْ وَعَدِمُوهَا أَحْوَج مَا كَانُوا إِلَيْهَا، ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ " اهـ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه تعالى: "وَقَدْ اِنْعَقَدَ الإِجْمَاع عَلَى أَنَّ الْكُفَّار لاَ تَنْفَعهُمْ أَعْمَالهمْ، وَلاَ يُثَابُونَ عَلَيْهَا بِنَعِيمٍ وَلاَ تَخْفِيف عَذَاب، لَكِنَّ بَعْضهمْ أَشَدّ عَذَابًا مِنْ بَعْض بِحَسَبِ جَرَائِمهمْ" اهـ.
فالخلاصةُ أن أعمالَ البرِ التي قام بها البابا ـ كما يزعمُ البعضُ ـ أو أي كافرٍ لن تنفعهُ يومَ القيامةِ، بل ستكونُ هباءً منثورًا كما قررت الآياتُ وسنةُ المصطفى.
أما أعجب ما في الموضوع فهو أن يترحّم عليه البعضَ، بل ويفتي بذلك ويستدلُ بقولهِ تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة:7]، ويترك النصوص المحكمة الدالةَ على المنعِ من الاستغفارِ للكافرِ أو الترحمِ عليه، علمًا أنّ هَذِهِ الآيَة في حق المؤمنين فقط، قَالَ تعالى: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ: "تَعَلَّقَ النَّبِيّ فِي الاسْتِغْفَار لأَبِي طَالِب بِقَوْلِهِ تعالى: سَأَسْتَغْفِرُ لَك رَبِّي [مريم:47]، فَأَخْبَرَهُ اللَّه تعالى أَنَّ اِسْتِغْفَار إِبْرَاهِيم لأَبِيهِ كَانَ وَعْدًا قَبْل أَنْ يَتَبَيَّن الْكُفْر مِنْهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ الْكُفْر مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ، فَكَيْفَ تَسْتَغْفِر أَنْتَ لِعَمِّك ـ يَا مُحَمَّد ـ وَقَدْ شَاهَدْت مَوْته كَافِرًا؟! مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْد مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَاب الْجَحِيمِ [التوبة:113].
وأما مَا رَوَاهُ مُسْلِم عَنْ عَبْد اللَّه قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُر إِلَى النَّبِيّ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الأَنْبِيَاء ضَرَبَهُ قَوْمه وَهُوَ يَمْسَح الدَّم عَنْ وَجْهه وَيَقُول: ((رَبّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)) ، وَفِي الْبُخَارِيّ أَنَّ النَّبِيّ ذَكَرَ نَبِيًّا قَبْله شَجَّهُ قَوْمه فَجَعَلَ النَّبِيّ يُخْبِر عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ: ((اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)) ، فَهَذَا صَرِيح فِي الْحِكَايَة عَمَّنْ قَبْله، لاَ أَنَّهُ قَالَهُ اِبْتِدَاء عَنْ نَفْسه، فلا يعدّ دليلاً.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ: (( اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأذِنَ لِي، فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ)) أخرجه مسلم. فهذا نهي صريح عَنْ الاسْتِغْفَار لِلْكُفَّارِ".
وجاء في الموسوعةِ الفقهيةِ ما نصه: "اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ مَحْظُورٌ، بَلْ بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنَّ الاسْتِغْفَارَ لِلْكَافِرِ يَقْتَضِي كُفْرَ مَنْ فَعَلَهُ؛ لأَنَّ فِيهِ تَكْذِيبًا لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تعالى لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ" اهـ.
ولن يكون البابا أفضل من عم النبي ، والذي قدم للنبيّ الكثير وعرض نفسه وعشيرته للمخاطر من أجله، فحين سأله ابن عمه عبد الله بن العباس رضي الله عنهما عن عمه أبي طالب وأنه كان قد نفعه بنفسه وماله قال: ((هو في ضحضاح من النار)) ، ومعنى هذا أن أعماله الجليلة التي نصر بها ابن أخيه لم تنفه؛ لأنه مات على الكفر. قال العلامةُ الألباني رحمه الله في أحكامِ الجنائزِ: "ومن ذلك تعلمُ خطأَ بعضِ المسلمين اليوم من الترحمِ والترضي على بعضِ الكفارِ، ويكثُرُ ذلك من بعضِ أصحابِ الجرائدِ والمجلاتِ".
وبعد هذه النصوصِ نأتي على مسألةٍ مهمةٍ لها علاقةٌ وثيقةٌ بما نحن بصددهِ، ألا وهي من لا يريدُ أن يكفّرَ أو يشكِّك في كفرِ الكافرِ كالبابا وغيره، وهذا مزلق خطيرٌ جدًا، قد يوقعُ الإنسانَ في الكفر شعر أم لم يشعر، فهذا القاضي عياض رحمهُ اللهُ ينقلُ الإجماعَ على كفرِ من لم يكفر الكافر أو شكّ في كفره، وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ في الفتاوى: "فهذا كلهُ كفرٌ باطنًا وظاهرًا بإجماعِ كلِ مسلمٍ، ومن شك في كفرِ هؤلاءِ بعد معرفةِ دينِ الإسلامِ فهو كافرٌ، كمن يشكُ في كفرِ اليهودِ والنصارى والمشركين" اهـ. وهذا شيخُ الإسلام محمدُ بنُ عبد الوهابِ يعدُه من نواقضِ التوحيدِ العشرة، فيقول: "الناقض الثالث: من لم يكفرِ المشركين أو شك في كفرهم أو صحح مذهبهم".
فليحذر المميعون للدينِ الساعون لإرضاءِ الآخرين ولو كان ذلكِ بسخطِ رب العالمينِ أن يخسروا دينهم وهم لا يشعرون، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فمن مقال رائع لفضيلة الشيخ عبد المحسن العبيكان أنقل لكم ما يلي، قال فضيلته: "لقد اطلعت على ما نشرته بعض الصحف المحلية في الأيام الماضية فيما يتّصل باستقبال أحد الشباب السعوديين ومتابعة مشاركته في برنامج ستار أكاديمي، حيث يجتمع مجموعة من الشباب والفتيات في منزل واحد يمارسون فيه التعامل البيتي مختلطين بعضهم مع بعض، يأكلون وينامون في مكان واحد، ويمارسون الغناء والرقص وغيره، مما هو معلوم لدى كثير من الناس، وتتمّ متابعته والتصويت عليه، وقد صوت عدد من الناس لهذا الشابّ حتى نال ما نال، وكان استقباله على غرار ما نقلته بعض الصحف.
وحيث إن تلك الأعمال مشتملة على مآخذ شرعية عديدة فقد رأيت أن الواجب عليَّ وعلى غيري من أهل العلم التنبيه إلى تلك المآخذ فأقول:
أولاً: قد صدر عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء فتوى تحرّم برنامج ستار أكاديمي وما ماثله، ورقمها 22895 في 8/2/1425هـ، أوضحوا فيها ما في ذلك البرنامج من المحاذير الشرعية من دعوة للاختلاط المحرم وإشاعة الفاحشة وإماتة الحياء، وما يجلبه ذلك من المصائب على الناس، وذلك يقتضي تحريم المشاركة فيه أو تمويله أو متابعته أو التصويت لمن شارك فيه.
ثانيًا: إن الأوطان والمجتمعات لا ترتفع ولا تعتز بأن يكون أفرادها على غرار ما يتعاطاه الشباب في ذلك البرنامج وما ماثله، والقبح يكون أشد في حقّ الفتيات، فالأوطان بحاجة إلى الشباب العامل المنتج في شتى ميادين الحياة، مع تحليهم بالأخلاق الإسلامية والشيم العربية، قال : ((إنَّ لكل دين خُلقًا، وخُلق الإسلام الحياء)).
ثالثًا: ينبغي على وسائل الإعلام الجادة والصحفيين الحريصين على شرف مهنتهم أن يترفعوا عن السفاسف، فإن الانحراف ليس له حدّ، وإذا أرادوا مجاراة الآخرين فليس لذلك منتهى؛ ولذا ينبغي أن يقدموا للناس ما ينتفعون به في دينهم ودنياهم، وقد عجبت كثيرًا من بعض الصحفيين الذين راحوا يمجدون هذه الأعمال والمشاركين فيها، وما علموا أن أخلاقيات مهنتهم تحتم عليهم تجنب هذه السقطات، بل وتلزمهم بتوعية الناس حيالها والتحذير من التأثر بها.
رابعًا: لاحظ الناس أن الشاب المشارك في هذا البرنامج وكذلك مشجعوه كانوا يحملون علم المملكة، بما فيه من كلمة التوحيد العظيمة، وهذه الكلمة ليست لتلك الميادين، فهي أنزه وأجل من هذا العبث، والنظام يمنع مثل هذا العبث؛ لأنه استخدام للعلم في غير موضعه. وينبغي أن يعلم الناس أن هذا العمل الذي قُدم في البرنامج لا يمثل المملكة ولا شعبها، وإنما هو اندفاع غير مسؤول من بعض المراهقين، كما أن هذا الشاب وغيره ممن اندفعوا نحو البرنامج المذكور لا يمثلون أسرهم الكريمة، ولكنه خروج عن آداب أسرهم وشعبهم وأخلاقهم.
خامسًا: ينبغي أن يعلم الشباب والفتيات الذين تأثروا بإيقاع البرنامج أنه تقليد لبرامج غربية، ينطلق فيها أصحابها من عاداتهم وتقاليدهم التي لا تمتّ إلى دين ولا خُلق، وإنما هي الشهوات والأهواء.
وفي هذا السياق نسجل كلمة جليلة للملك عبد العزيز رحمه الله، يقول فيها: "فهذه النزعة التي تقود الشبيبة إلى الضلال هي نزعة شيطان، وصدمة للدين وللعرب ولجميع من تمسك بالسمت ومكارم الأخلاق؛ لأنه يقول: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) ، فأي مسلم يعرف الإسلام وينتسب إليه ويقر ما أقره هؤلاء الغواة من لزوم الرجوع عن الدين وإبداله بما رأوه موافقًا للشهوات الدنيئة التي لا يقرها دينٌ ولا مذهب ولا يقرها أصحاب مكارم الأخلاق في الجاهلية ولا صلحاء أي ملة تعرف الشرف والعقل فهو ضال عن طريق الصواب. فلا والله، ليس هذا التمدن في شرعنا وعرفنا وعاداتنا، ولا يرضى أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان أو إسلام أو من مروءة أن يرى زوجته أو أحدًا من عائلته أو من المنتسبين للخير في هذا الموقف المخزي، هذه طريق شائكة تدفع بالأمة إلى هوّة الدمار، ولا يقبل السير عليها إلا رجل خارج من دينه، خارج من عقله، خارج من عربيته، فالعائلة هي الركن الركين في بناء الأمم، وهي الحصن الحصين الذي يجب على كل ذي شيم أن يدافع عنها.
إني لأعجب أكبر العجب ممن يدعي النور والعلم وحبّ الرقي من هذه الشبيبة التي ترى بأعينها وتلمس بأيديها ما نوهنا به من الخطر الخلقي الحائق بغيرنا من الأمم ثم لا ترعوي عن ذلك، وتتبارى في طغيانها، وتستمر في عمل كل أمر يخالف تقاليدنا وعاداتنا الإسلامية العريقة، ولا ترجع إلى تعاليم الدين الحنيف الذي جاء به نبينا محمد رحمة وهدى لنا ولسائر البشر.
فالواجب على كل مسلم وعربي فخور بدينه معتز بعربيته أن لا يخالف مبادئه الدينية وما أمره الله تعالى بالقيام به لتدبير المعاد والمعاش والعمل على كل ما فيه الخير لبلاده ووطنه.
الرقي الحقيقي هو بصدق العزيمة والعمل الصحيح والسير على الأخلاق الكريمة والانصراف عن الرذيلة وكل ما من شأنه أن يمس الدين والسمت العربي والمروءة، وليس بالتقليد الأعمى، وأن يتبع طرائق آبائه وأجداده الذين أتوا بأعاظم الأمور باتباعهم أوامر الشريعة التي تحث على عبادة الله وحده وإخلاص النية في العمل، وأن يعرف حق المعرفة معنى ربّه ومعنى الإسلام وعظمته ومعنى ما جاء به نبينا العظيم من التعاليم القيمة التي تسعد الإنسان في الدارين، وتعلمه أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن يقوّم عائلته ويصلح من شأنها، ويتذوق ثمرة عمله الشريف، فإذا عمل هذا فقد قام بواجبه، وخدم وطنه وبلاده" انتهى كلام الملك عبد العزيز رحمه الله. من الدرر السنية.
ولأهمية هذه المسألة وما أوجبه الله من البيان على أهل العلم في قوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] فقد حررت ما تقدم براءة للذمة ونصحًا للأمة، وأسأله سبحانه أن يهدينا جميعًا سواء السبيل، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، وأن يحفظ علينا أمننا وإيماننا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. كتبه عبد المحسن العبيكان، عضو مجلس الشورى، ونشرته جريدة الرياض في 8/3/1426هـ.
(1/4304)
نعمة النكاح
فقه
النكاح
عامر بن عيسى اللهو
الدمام
24/5/1426
جامع الأندلس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقصد العبودية لله تعالى. 2- النكاح من أعظم النعم. 3- فوائد النكاح. 4- التحذير من عضل النساء. 5- عظم فتنة النساء. 6- الترغيب في اختيار الزوجة الصالحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، لا يشك عاقل أن الله ما خلق الخلق إلا لعبادته وتوحيده، فوظيفتنا الأساسية في هذه الحياة هي إخلاص الدين لله، ثم إنه سبحانه أنشأنا في هذه الأرض واستخلفنا فيها لتحقيق هذه الغاية العظمى، قال تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا الآية [هود:61]. كما أنه سبحانه وتعالى قد أباح لنا كل ما يتوافق مع هذا الاستخلاف من النعم الظاهرة والباطنة.
وإن من أعظم النعَم التي أباحها الله لعباده والتي تحقّق الاستخلاف في الأرض وتحقّق انتشار النوع الإنساني في هذا الكون نعمة النكاح، هذه النعمة التي امتن الله بها على عباده، وجعلها دليلا على ربوبيته ووحدانيته ورحمته بعباده، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، وجعلها من سنة الأنبياء والمرسلين فقال تبارك وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً الآية [الرعد:38].
فبالزواج تحصل المودة والرحمة والسكن، ويحصل الاستمتاع، فلا تجد بين أحد من الناس في الغالب مثل ما بين الزوجين من المودة والرحمة، فأين المتفكرون؟! وأين الشاكرون؟!
ولِما في الزواج من المقاصد العظيمة والفوائد الجلية والحكم البالغة فقد حضّ النبي عليه أيضًا كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج)).
فبالنكاح يلتئم الشعث، وتسكن النفس، ويستريح الضمير من تعب التفكير، ويحصل الولد، ويعمر البيت، فهذا الحديث يدل على أن سبب الترغيب في الزواج خوف الفساد في العَين والفرج، وأيّ زمان أشدّ أن يخاف فيه مثلُ ذلك من زماننا هذا الذي انتشرت فيه الفتن وعظمت فيه دواعي المحرمات؟! فأصبح المسلم يفتن في دينه صباح مساء، بل ربما أحيانا يتعرض للفتنة حتى عند أبواب المساجد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولا يظنّن ظانّ أن الفوائد من النكاح إنما تحصل للشباب فقط، بل هي للشباب والفتيات على حدّ سواء، ولذلك لا ينبغي للأب أن يُؤخّر زواج ابنته إن تقدّم لها من يرضى في دينه وخلُقه، قال : ((إذا أتاكم من ترضون دينه فزوجوه)) رواه الترمذي وهو صحيح.
فإنه بمنع الفتاة وعضلها يكسر في قلبها حبَّ أمرٍ قد فطرها الله عليه كما فطر عليه قلب الشاب، إلا أن الشابّ يستطيع الإفصاح عما في قبله، وربما يجادل أهله في سبيل مصلحته، أما الفتاة المسكينة فيمنعها حياؤها من ذلك، ولذلك قال في إذن البنت في الزواج: ((وإذنها أن تسكت)) ، خصوصا إذا ابتليت بأب ساذج لا يقيم لمثل هذه الأمور وزنا، فتدفن البنت حسرتها ولوعتها في صدرها.
إن دفع الخاطب الكفء في دينه وخلقه وردّه من غير مسوّغ شرعي إنما هو معصية لله ورسوله وخيانة للأمانة وإضاعة لعمر المرأة التي تحت ولايته، وسوف يحاسب على ذلك يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، أفلا يكون عند هؤلاء دين ورحمة؟! أفلا يفكرون لو أن أحدا منعهم من الزواج مع رغبتهم فيه فما يكون رد الفعل منهم؟!
أيها الإخوة المؤمنون، اعلموا أن الزواج للشاب والفتاة من أفضل الأمور التي يقدّمها الأب لابنه وابنته إن كان قادرًا، خصوصا في هذا الزمان الذي ماجت فيه الفتن كما أسلفنا، ومعظمها وأكثرها يتعلق بالشهوة والجنس والعري والدعارة والرقص والمجون والإغراء والتنافس في فتنة الناس من خلال المجلات والمسلسلات والأفلام والقنوات والإنترنت وغيرها؛ حتى أصبح طريق الشرّ والعياذ بالله سهلا ميسورا، والمعصوم من عصمه الله، وهذا مصداق حديث النبي : ((ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) رواه البخاري.
قال الحافظ ابن حجر في شرحه للحديث: "إن الفتنة بالنساء أشد من الفتنة بغيرهن، ويشهد له قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ الآية [آل عمران:14]، فجعلهنّ من حبّ الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع؛ إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك" انتهى كلامه. أفيليق بك ـ أيها الأب ـ بعد هذا أن تؤخّر زواج أبنائك وأنت قادر على تزويجهم؟!
ولعل بعض الآباء يتعذر بأعذار يظنّها مقنعة، وهي عند التحقيق أوهَى من بيت العنكبوت. فمن ذلك قول بعضهم: إني أريد أن يكوّن ابني نفسه بنفسه، فلا بد أن يتوظّف، ثم بعد ذلك يدخّر مالاً يستطيع معه أن يتزوّج. فنقول: رويدك، هل هذا كلام أب حريص على ابنه وعلى إعفافه وإحصانه؟! نعم لو كنتَ لا تقدر من الناحية المادية على تزويج ابنك لكان هذا الكلام صحيحا، أما وأنك تستطيع أن تزوجه من حرِّ مالك فلا ينبغي أن يقال ذلك، فقد ذكر الفقهاء أنه يجب على الأب إعفاف ابنه إذا كانت عليه نفقته وكان محتاجًا إلى إعفافه. ثم لو قُدّر أن الابن سيعمل بكلامك فإلى كم من السنين يحتاج لتكوين نفسه؟! لا شك أنك ـ أيها الأب ـ ستفوّت على ابنك سنوات طويلة كان بإمكانه أن يكون قد أعفّ نفسه، بل ربما وأنجب ذرية يسعد بهم وتسعد بهم أنت أيضا.
فاتقوا الله عباد الله، واستشعروا عظم المسؤولية الملقاة على عواتقكم، قال : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته))، فكونوا رعاة أمناء، واحرصوا على ما يحقق السعادة لكم ولرعيتكم في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة المؤمنون، من تمام السعادة في هذه الدنيا أن يُوفّق المرء لزوجة صالحة؛ إن أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرَّته، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا في ذات الدين، قال : ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) رواه مسلم.
ليس الفتاة بِمالِها وجمالِها كلا ولا بمفاخر الآباء
لكنها بعفافها وبطهرها وصلاحها للزوج والأبناء
وقيامها بشؤون منزلها أن ترعاك في السراء والضراء
يا ليت شعري أين توجد هذه الفتيات تحت القبّة الزرقاء
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)). قال القرطبي رحمه الله: "معنى الحديث أن هذه الخصال الأربع هي التي يُرغّب في نكاح المرأة لأجلها، فهو خبر عما في الوجود من ذلك". وقال ابن حجر رحمه الله عند قوله : ((فاظفر بذات الدين)) : "المعنى: أن اللائق بذي الدين والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شيء، لا سيما فيما تطول صحبته، فأمره بتحصيل صاحبة الدين الذي هو غاية البغية".
فالإنسان له الحق أن يسأل عن هذه الأمور، فإن توفرت مع توفر الدين فهذا أمر حسن، ولذلك شرع النظر إلى المخطوبة ليتأمل الرجل جمال المرأة وحسنها، وهي كذلك، بل لقد رد النبي رجلا تزوج امرأة من الأنصار فقال: ((هل نظرت إليها؟)) قال: لا، قال: ((اذهب فانظر إليها؛ فإن في أعين الأنصار شيئًا)) رواه مسلم. وقد بيّن النبي العلة في هذا النظر فقال: ((فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) رواه النسائي وغيره، أي: يؤلف ويوفق بينكما.
أيها الإخوة المؤمنون، وثمة أمر مهم ننبه عليه عند حديثنا عن الخطبة، وهو أنه وإن تمت هذه الخطبة ورضي كل من الطرفين بالآخر فيبقى الرجل أجنبيًا من المرأة وتبقى هي أجنبية منه ما لم يعقد عقد النكاح، فلا يجوز ـ كما يتصوّر بعض الناس حال الخطبة ـ أن يخلو بها أو يخرج معها بمفردها أو أن تذهب إليه، فهذا كله منكر لا يجوز ما لم يعقد عقد النكاح فتحل له ويحل لها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/4305)
نحن والحر
موضوعات عامة
مخلوقات الله
عامر بن عيسى اللهو
الدمام
9/6/1426
جامع الأندلس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفرار من حر الصيف. 2- حر الصيف دليل على ربوبية الله تعالى. 3- شدة الحر من فيح جهنم. 4- شدة الحر ابتلاء. 5- سبيل الوقاية من حر جهنم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، في مثل هذه الأيام من كل عام يصحّ عزم كثير من الناس على امتطاء دوابهم ميمِّمين وجوهَهم شرقا وغربًا وشمالا وجنوبا في قضاء الإجازة الصيفية هاربين من حرارةِ الشمس اللافحة وأشعّتها المتوهّجة إلى حيث الظِلال الوارف والجوّ العليل، ولنا ـ عباد الله ـ مع الحرّ بعض الوقفات:
الوقفة الأولى: أنّ في هذا الحر دليلاً من دلائل ربوبية الله سبحانه وتعالى، فهو الذي يقلّب الأيام والشهور، ويطوي الأعوام والدهور، وهو الواحد الأحد الصمد سبحانه وبحمده، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ [القصص:71، 72]. فوجوده سبحانه وربوبيتُه وقدرتُه أظهرُ من كل شيء على الإطلاق.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ثم تأمل هذه الحكمة البالغة في الحرّ والبرد وقيام الحيوان والنبات عليهما، وفكِّر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة لأضرّ ذلك بالأبدان وأهلكها وبالنبات، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك.
الوقفة الثانية: إنّ شدة الحرّ ينبغي أن تبعث المؤمن على الخوف من الله سبحانه؛ لأن شدة الحرّ من فيح جهنم كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والسبب في ذلك ما جاء في صحيح مسلم عنه رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: رب، أكل بعضي بعضا، فأذن لي أتنفّس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم)).
فيا من لا يطيقون حرارة الجو، يا من لا يتحمّل الوقوف في الشمس ساعة، كيف أنتم وحرارة جهنم؟! والله ثم والله، لسنا لها بمطيقين، فإن حرَّها شديد، وقعرها بعيد، جاء في الحديث: ((إن أنعم أهل الأرض من أهل الدنيا يؤتى به يوم القيامة، فيُغمس في النار غمسة، فيقال: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرَّ بي نعيم قط)) رواه مسلم. ينسى كل نعيم الدنيا بمجرد غمسة واحدة في جهنّم مع أنه أنعم أهل الأرض!
أليست جهنم ـ يا عباد الله ـ أولى أن يُفرّ منها؟! نصح العلامة الألبيري ابنه فقال:
تفر من الهجير وتتقيه فهلا من جهنم قد فررتا
ولستَ تطيق أهونها عذابا ولو كنت الحديد بِها لذبتا
ولا تنكر فإن الأمر جد وليس كما حسبتَ ولا ظننتا
الوقفة الثالثة: إن الحرّ ابتلاء من الله تعالى لعباده، فلا يجوز أن يترك المسلم ما أمره الله به من واجبات، ففي السنة التاسعة من الهجرة قدّر الله تعالى أن تقع غزوة من غزوات الرسول في حرٍّ شديد وسفر بعيد، وهي غزوة تبوك، فالجوّ حار، والمسافة بعيدة، والعدو شرس، فبرز موقف النفاق، وأخذ المنافقون يتلمسون الأعذار في التخلف عن الغزوة، وكان من بين أعذارهم قولهم: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]، فإنهم يريدون أن يؤثروا الراحة والدعة في المدينة حيث طيب الثمار ووفرة الظلال، فيؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، فذكّرهم الله تعالى بالحقيقة الأكيدة بقوله: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81]، فإن كنتم مشفقين من حرارة الأرض فأجدر بكم أن تشفقوا مما هو أشدّ منها حرارة، لكنهم لا يفقهون هذه الحقيقة، فيضحكون سخرية واستهزاء، لكنّ ضحكهم قليل إذا ما قورن ببكائهم يوم القيامة جزاءَ ما قدمت لهم أنفسهم من نفاق، هذا النفاق والكفر الذي يتجدد في كل زمان ومكان.
ومن أعاجيب التعابير القرآنية أنه شبّه الكفر بالحر والإيمان بالظل، فقال سبحانه: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ [فاطر:19-22]، فحال المؤمن يُشبه حال الظل؛ لأن الإيمان ظل ظليل، تستروحه النفس، ويرتاح له القلب، وتطمئن فيه المشاعر، وتصدر فيه الأعمال عن تبصّر وتريث وإتقان. أما حال الكافر فتشبه الحر، تضطرب فيه النفوس، وتلفح القلبَ فيه لوافح الحيرة والقلق وعدم الاستقرار على هدف وعدم الاطمئنان إلى نشأة أو مصير، ثم تنتهي إلى حر جهنم ولفحة العذاب عياذا بالله، فنسأل الله تعالى أن ينجينا من الشرك والشك والنفاق والشقاق وسيئ الأخلاق، إنه جواد كريم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة المؤمنون، لما كانت أكثر أجواء قريش أجواءً صيفية حارة امتنّ الله عليهم بأن أوجد لهم من الثياب ما يتقون به الحرّ، فقال سبحانه: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:81]، فنعم الله علينا كثيرة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
عباد الله، ولئن كان حرُّ الدنيا يتقّى بالملابس والثياب فإن حرّ الآخرة ـ وهو أشد وأفظع ـ لا يتقى بشيء من ذلك، إنما يتقى بالأعمال الصالحة، يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، ((فتكون قدر ميل منهم، فيكونون في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا)) وأشار رسول الله إلى فيه. رواه مسلم.
ومنهم من ينعم بالاستظلال بظل الله يوم لا ظل إلا ظله، قال : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) متفق عليه. فنسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يجعلنا ووالدينا والمسلمين منهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاً ظَلِيلاً [النساء:57].
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا...
(1/4306)
الإجازة وصلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
عامر بن عيسى اللهو
الدمام
16/6/1426
جامع الأندلس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنوع اهتمامات الناس في الإجازة. 2- حثّ الإسلام على صلة الأرحام. 3- فضائل صلة الرحم. 4- البواعث على صلة الرحم. 5- عظم ذنب القطيعة. 6- أعظم أنواع الصلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، في الإجازات والعطلات تتنوّع اهتمامات الناس، وتتعدّد مشاربهم، وتختلف وجهاتهم، فمنهم من ينشد الترويح البريء، ومنهم من يسعى إلى الاستمتاع المحرّم، وأفضل من هذا وذاك من يتقرب إلى الله بكل حركاته وتنقلاته، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (إني أحتسب على الله نومتي كما أحتسب قومتي). فالموفق ـ عباد الله ـ من كانت له نية صالحة في كل عمل من أعماله ولو كان من المباحات.
ولما كان في الإجازات وفرة في الوقت ومسرح للتفكير في كيفية قضائها أحببنا أن نذكّر بأمر عظيم ونوع من العبادات كريم، به اكتساب رضا الرب ثمّ محبة الخلق، وهو علامة على كمال الإيمان وحسن الإسلام، ذلكم ـ يا رعاكم الله ـ هو صلة الأرحام.
صلة الرحم من العبادات الجليلة والأخلاق النبيلة التي حثّ عليها الإسلام وحذّر من قطيعتها، ولو لم يكن في الدين أمر بالصلة والبر للأرحام لكان في الطباع السليمة والأخلاق الكريمة ما يدلّ عليه، فكيف وهو من أول ما بعث به النبي ؟! فعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أنه سأل رسول الله : بأي شيء أرسلك الله؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحَّد الله لا يشرك به شيء)) رواه مسلم.
صلة الأرحام تقوّي المودة، وتزيد المحبة، وتطرد الوحشة، وتشدّ عرى القرابة، وتزيل العداوة، فلفظها يدلّ على الرقة والعطف والرأفة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الرحم شُجنَة من الرحمن، فقال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)) رواه البخاري، وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول فيما رواه عن ربه عز وجل: ((أنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها اسما من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)) رواه أهل السنن بإسناد صحيح.
قال الإمام النووي رحمه الله: "صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة والسلام وغير ذلك. ومعنى صلة الله لمن وصل رحمه فهي عبارة عن لطفه بهم ورحمته إياهم وعطفه عليهم بإحسانه ونعمه، أو صلتهم بأهل ملكوته الأعلى وشرح صدورهم لمعرفته وطاعته". وقال رحمه الله: "اختلفوا في حدّ الرحم التي يجب وصلها، فقيل: كل رحم مَحرَم بحيث لو كان أحدهما أنثى والآخر ذكرا حرمت مناكحتهما، وقيل: هو عام في كل رحم من ذوي الأرحام في الميراث، يستوي فيه المحرم وغيره، وهذا هو الصحيح" انتهى كلامه رحمه الله.
عباد الله، في صلة الأرحام رغد العيش والهناء والسعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سرَّه أن يُبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) متفق عليه. وأينا لا يسره بسط الرزق وبركة العمر؟! وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، فقال النبي : ((لقد وفق)) أو ((لقد هدي)) ، ثم قال: ((كيف قلت؟)) قال: فأعاد، فقال النبي : ((تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك)) ، فلما أدبر قال النبي : ((إن تمسك بما أمر به دخل الجنة)) متفق عليه.
إن أعظم ما يبعث على تعاهد الأرحام وصلتهم هو خوف الله وخشيته، وهذا لا يكون إلا عند أهل الإيمان، قال جل ذكره: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:21]، وفي الناس من تموت عواطفه وتضعف خشيته، فيجوب الأرض ولا يفكر في زيارة أقاربه أو السلام عليهم، قال عمرو بن دينار رحمه الله: "تعلَمُنّ أنه ما من خطوة بعد الفريضة أعظم أجرا من خطوة إلى ذي رحم"، وقال المرّوذي: أدخلتُ على أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله فقال الرجل: لي قرابة بالمراغة ترى لي أن أرجع إلى الثغر أو ترى أن أذهب فأسلم عليهم؟ فقال له: استخِر الله واذهب فسلّم عليهم.
كما أن من الناس من يتغلب عليه شيطانه، فيقطع رحمه بسبب خلاف أقصى ما يُقال عنه: إنه ليس مستحيلَ الحل، ولكنها العزة بالإثم والمكابرة بالباطل. وفي استطلاع للرأي حول وجود خصومات بين الأقارب على عيّنة من الناس أجاب خمس وستون بالمائة منهم: نعم توجد خصومة، وأجاب خمس وثلاثون بالمائة بالنفي، فنحن أمام ظاهرة خطيرة، يقول النبي : ((لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) متفق عليه، وقال رجل للنبي : إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال : ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم الملّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) رواه مسلم.
فما أجمل أن يتعالى المسلم على أحقاده، ويكون همه رضا مولاه، فلا جزاء لمن عصى الله فيك بأفضل من أن تطيع الله فيه.
وإن الذي بيني وبين بني أبِي وبين بني عمي لَمختلف جدّا
إذا أكلوا لحمي وفَرتُ لحومَهم وإن هدموا مَجدي بنيتُ لهم مجدًا
ولا أحْمل الْحقدَ القديم عليهمُ وليس زعيم القوم من يحمل الحقدَا
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة المؤمنون، إن خطر قطع الرحم عظيم، وذنبَها جسيم، وعقوبتها معجلة، واقرؤوا إن شئتم قول ربكم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، ويقول النبي : ((ما من ذنب أجدر أن يُعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم)) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح.
ثم اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الأرحام درجات، فأعظمها عمودي النسب، وهما الأم والأب ثم ما تفرّع عنهما، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: ((أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك ثم أدناك أدناك)) رواه مسلم.
عباد الله، وإن من أعظمِ صوَر صلة الأرحام الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعاون على البر والتقوى، يقول الله تعالى لنبيه : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، وإنما خصهم الله بالذكر لتأكيد حقهم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: أتيت النبي وهو في قبة من أدمٍ حمراء في نحو من أربعين رجلاً فقال: ((إنه مفتوح لكم، وأنتم منصورون ومصيبون، فمن أدرك ذلك منكم فليتق الله وليأمر بالمعروف ولينه عن المنكر وليصل رحمه، ومثل الذي يعين قومه على غير الحق كمثل البعير يتردّى فهو يمدّ بذنبه)) رواه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي.
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بما أمركم به وأخذ عليكم الميثاق من صلة الأرحام، وتناسوا الأحقاد والضغائن، فلكم في نبيكم أسوة حسنة.
وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/4307)
طوفان تسونامي آية ودروس
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
سعد بن محمد المهنا
القطيف
19/1/1426
جامع الخفرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موجز أخبار الطوفان. 2- كل حركة في الكون بأمر الله وقدرته. 3- محدودية علم البشر وقدراتهم. 4- عظمة الله وجبروته في الطوفان. 5- أخذ الله للغافلين بغتة. 6- التذكير بنعم الله علينا. 7- هل يتعظ المفرطون بالحدَث؟ 8- مقارنة بين زلزال الدنيا والآخرة. 9- الإنكار على تفجير الرياض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله عباد الله، فبتقواه يُدفَع البلاءُ وينزل الرضا، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
أيها المسلمون، "اخرجوا اخرجوا" هذه آخر الكلمات التي سُمِعت صباح يوم الأحد، بعد أن أمر الله الأرض في قاع المحيط أن تتحرّك وتضطرب لثوانٍ معدودة، فتسير موجاتُ مَدٍّ أَرْسَلَت أمواجَها كالجبال، تسير بسرعة هائلة تجاوزت ثمانمائة كيلو في الساعة، وهي سرعة هائلة، واندفعت اندفاعًا عنيفًا ومهولاً، لتضرب السواحل الآسيوية، وتقتلع كل ما يواجهها من منشآت وبَشَر وسفن وأحجار ومراكب وأشجار وبيوت وسيارات، ابتلعت قرى بأكملها، فلم يبق لها أثر، وصارت خَبَرًا بعد أن كانت عَيْنًا، وغَمَرت المياهُ المدنَ فأصبح بعضها مقطوعًا عن اليابسة، ولا يمكن الوصول إليها إلا بالمروحيّات، وهذا الطوفان المائي والأمواج العاتية وصلت إلى شواطئ إفريقيا البعيدة عن مصدر الزلزال بنحو ستة آلاف كيلومتر، فقُتِل ما لا يقلّ عن أربعين صيادًا صوماليًّا، ووصلت هذه الأمواج إلى الشواطئ الأمريكية التي تبعد اثني عشر ألف كيلو، لقد كانت مدة هذا الطوفان والدوّامات المائية عشر دقائق فقط! لينتج عن هذه الدقائق أكثر من مائة وثلاثين ألف قتيل، وأضعافهم من المصابين، ويزيد عدد المشرّدين على مليون شخص.
ورغم مُضيّ خمسة أيام على الحَدَث فما زالت المئات من الجثث مبعثرة في الشوارع وفوق الأشجار وفي المزارع والحقول وتحت الأنقاض، وبعض الأماكن لم تصل إليها فرق الإنقاذ حتى الآن؛ نظرًا لتدمير الطرق والجسور. وقد تعالت الصَّيحات للمطالبة بدعم أكبر عملية إغاثية في التاريخ، وتزداد المخاوف من ارتفاع عدد القتلى إلى أضعاف مضاعفة بسبب تفشّي الأمراض المعدية؛ نظرًا لندرة المياه الصالحة للشرب وانتشار الحشرات وتعفّن الجثث وكثرة الروائح الكريهة والمياه الراكدة المختلطة بمياه الصرف الصحي والنفايات السامة، فأصبح ملايين الناس مهدّدين بعد أن كانوا آمنين مطمئنين.
عباد الله، إن للمسلم الموفق مع هذا الحَدَث العظيم مواقف ودروسا، منها:
1- أنّ كل حركة في هذا الكون إنما هي بأمر الله وقدرته، فهو الذي يخلق السببَ ويجعل له الأثر، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر [القمر:49]، وقال جلَّ وعلا: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]. فلا يُنسَبُ الحَدَثُ إلى قشرة الأرض وطبقاتها، ولا إلى مواقع بعض الدول، دون النظر إلى خالقها، أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون [الطور:35]، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62]. أصبح النبيُّ في الحديبية يومًا على أثر سماء ـ يعني نزول مطر ـ بعد صلاة الصبح، فقال: ((أتدرون ماذا قال ربكم؟)) فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرنا بِنَوْء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب)).
2- أين التطوّر العلمي والأقمار الصناعية التي تُصوِّر الإبرةَ؟! أين التقنيات العالية عن صَدّ هذا الحَدَث أو ردِّه؟! ها هو العالم بأسره يقف عاجزًا عن إزالة آثاره ومعالجة أضراره، فضلاً عن الوقوف في وجهه، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].
3- عظمة الله جلّ وعلا وقدرته، فهو الذي يُمسِك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالت هل يستطيع أحد إمساكها من الاضطراب والاهتزاز؟! إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [فاطر:41].
4- شهادة الضعف البشري والعجز الإنساني وحدود قدرته وقوته؛ إذ عجز عن توقّع مثل هذا الحَدَث أو الإخبار بقُربِهِ، وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، أبعد هذا يتكبّر الإنسان، ويطغى عن أوامر الله، ويستغلّ نفوذَه ومنصبه لظلم خلق الله؟!
5- سبحان مَن يَقْلِبُ الأمنَ خوفًا والطمأنينةَ فزعًا! لا حول لنا ولا قوة إلا بالله، يقول أحد الناجين وهو سائح برتغالي: "شاهدنا البحر يتراجع عدة أمتار، في الوقت الذي بدأت تتكوّن موجةٌ عاليةٌ بيضاء، أخذ كلُّ مَن على الشاطئ يراقبها بفضول أكثر منه خوفًا، وهذا يفسّر بالتأكيد ما شعرنا به من أمان زائف"، أَفَأَمِنتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً [الإسراء:68]، وقال جلّ وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:42-45].
6- أخذ العباد وهم يلعبون، لقد أهلك الله أقوامًا في هذا الحَدَث وقد اجتمعوا ابتهاجًا بأعياد رأس السنة الميلادية، وعند لحظة الضحى ـ ومنهم من يلهو بالغوص وبعضهم بالسباحة ـ إذ أتاهم قَدَرُ الله على غِرّة، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النحل:45، 46]، وقال سبحانه: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
7- إن هذا الماء الذي هو سبب في الحياة والبقاء ـ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30] ـ قَلَبَهُ الله تعالى بأمر منه فأصبح سببًا في الهلاك والدمار والضياع، فسبحان من يقلب الأسباب ويغيّر الأحوال! اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين.
ومن الدروس:
8- لقد أهلك الله عشرات الآلاف بهذا المخلوق الضعيف والسائل الخفيف الذي يبحث الكثير عنه، وتقوم الحروب من أجله، فسبحان الخالق وحده!
9- تذكّر ما أنعم الله به علينا من نِعم لا تُحصَى ولا تعدّ؛ صحة في الأبدان، وسلامة في الأنظار، وأمن في الأوطان، في وقت تُتَخَطّفُ البلادُ المجاورة من حولنا، ونشاهد آثار هذه الزلازل في عدة دول، بل قارات.
10- في ثوان معدودة فقد كثير من الناس أرواحهم، وذهبت أموالهم، وبارت سلعهم، وفقدوا أولادهم وأسرهم، وأُخرِجوا من بيوتهم وديارهم، فبعد القوة ضعف، وبعد الحياة أموات، وبعد الغنى فقر، وبعد الضحك بكاء، وبعد الآمال آلام، وبعد الطموحات أحزان، فقدت تلك الدول مكتسباتها ومنشآتها، وعادت سنوات إلى الوراء، وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم:43، 44].
11- ضرورة الرجوع إلى الله، ماذا فعل المُرابِي بعد سماعه ومشاهدته لقدرة الله وهو يحارب الله؟! ماذا فعل شارب الخمر ومتعاطي المسكر؟! ماذا فعل المتكاسل عن صلاة الفجر والعصر؟! ماذا فعل الراشي والمُرتشِي؟! ماذا فعل العاقُّ لوالديه بعد هذه الآية التي يرسلها الله تخويفًا لعباده؟! وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53]. فالحذرَ من التمادي في المعاصي؛ فإن الله يخوّف عباده، وما العذابُ عنّا ببعيد، وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا [الإسراء:60]، أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126]. فكم نحن بحاجة مع هزّة الأرض لهزّة قلوبنا وربطها بخالقها.
فلا تَغُرنَّك الدنيا وزينتُها وانظر إلى فِعْلِها في الأهل والوَطَنِ
وانظر إلَى مَنْ حَوَى الدنيا بأجْمعها هل راحَ منها بغير الزّادِ والكَفَنِ؟
يا نفسُ كفِّي عن العِصْيان واكتسبي فعلاً جميلاً لعلّ اللهَ يرحمنِي
12- إن هذا الزلزال الذي خَلّفَ هذا الدمار ليس كزلزال الآخرة العظيم الذي تُرَجُّ به الأرضُ رَجًّا، وتُنسَفُ الجبالُ نَسْفًا، فتكون هباءً مُنْبَثًّا، إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا [الزلزلة:1-3].
أيها المسلمون، في مساء يوم الأربعاء الماضي حدث تفجير في مدينة الرياض حرسها الله تعالى؛ لتستهدف أرواحًا مسلمة، لله ذاكرة، ولربّها مُصَلّية، ولأمر دينها وبلادها حافظة، وذلك من أشد أنواع الفساد في الأرض والإفساد بين الخلق، قال : ((لزوال الدنيا بأسرها عند الله أهون من أن يُرَاقَ دمُ مسلم)).
وهكذا تتجلّى في هذا الحَدَث خطوات الشيطان في الفتن، عندما ثارت بزعم إخراج الكفّار من جزيرة العرب، لتنتهي بقتل الإخوان والأقارب من المسلمين، نعوذ بالله من الفتن.
(1/4308)
وفاة خادم الحرمين الشريفين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الموت والحشر, محاسن الشريعة
عيسى بن درزي المبلع
حائل
30/6/1426
جامع الأمير سعود الفيصل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا راد لقضاء الله. 2- كل نفس ذائقة الموت. 3- حقارة الدنيا. 4- وجوب الاستعداد ليوم الرحيل. 5- ترابط الرعية مع الراعي. 6- منهج الإسلام في تداول الولاية العامة. 7- البيعة: حكم وأحكام. 8- المملكة بين الماضي الأليم والحاضر المشرق. 9- التحذير من أعداء الأمن والاستقرار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فأحسن الله عزاءكم، وجَبَر مُصاب الأمة بفقد ولي أمرها، وغفر الله له ولسائر موتى المسلمين، وأصلح الله خليفته من بعده، ووفّقه لإقامة شرعه ونصرة دينه وإعلاء كلمته، ورزقه البطانة الناصحة، وجعله رحمة على شعبه، وجمع به كلمة المسلمين، ورفع به راية الجهاد، وأغاظ به الأعداء.
عباد الله، لنا مع هذا الحَدَث العظيم الذي تَسَامع به من في المعمورة وقفات، فالسعيد من وُعِظ بغيره.
أولاً: أن قضاء الله لا رادّ له، كما قال جلّ وعلا: إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم:35]، وقال جلّ وعلا: وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ [الرعد:11]، فها هو ملك الموت تخطّى قوّات الجيش والحرس الخاصّ لينفّذ أمرَ الله تعالى، فالأمر لله أولاً وآخرًا. وقد قدّر الله جلّ وعلا مقادير الخلق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عام. فعلى هذا ينبغي للقلوب المؤمنة أن تتعلّق بربها جلّ وعلا، وتعتصم بحبله، فهو مالك الملك ومدبّر الأمور.
ثانيًا: أن الموت لا يدع أحدًا، لا ملِكًا ولا مملوكًا، ولا غنيًّا ولا فقيرًا، ولا ذكرًا ولا أنثى، ولا صغيرًا ولا كبيرًا، كما قال جلّ وعلا: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]، وقال سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]. فاستعدّ لساعتك يا عبد الله، وكن على حذر؛ فموت الأصحاء أكثر من موت المرضى، فتهيأ لملك الموت بصالح العمل قبل أن يفاجئك غافلاً مع طول الأمل.
ثالثًا: في هذا الحَدَث دليل على حقارة الدنيا وخِسّتها، فحياة نهايتها الموت والقبر ما أحقرها من حياة! فلو تُوُعِّدَ الإنسان بقطع يده بعد سنوات ما تلذّذ بمنام ولا طعام، فكيف وهو مُتَوَعَّدٌ بقبض روحه وسَلّ جسده من ملكه وداره إلى قبره وقراره؛ لذا بيّن حقيقتها بقوله: ((إن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضه)). فها هم الملوك كما ترون من القصور إلى القبور، ومن كرسي الحكم إلى الكفن، ومن ظهر الأرض وزخرفها إلى بطنها وديدانها؛ لذا فإن العقلاء طلّقوا الدنيا من قلوبهم ثلاثًا، واستعدّوا لدار لا موت فيها ولا بلاء ولا حزن ولا فناء ولا همّ ولا عناء.
رابعًا: في هذا الحَدَث تذكير بالتهيؤ للعرض على الله والمحاسبة على الصغير والكبير والقِنْطِير والقِطْمِير. قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]، فمهما عملت ـ يا عبد الله ـ من خير وشر حتى وإن خفي على العباد فإنه لا يخفى على ربّ العباد، قال تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]، وقال تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9]. فكن على حذر ـ يا عبد الله ـ من عمل يُعرَض عليك في قبرك، أو عند قيامك بين يدي ربك فيسوء وجهك، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]. فادّخر من العمل ما يسرّك يوم تلقى ربك وتُوارَى في قبرك.
خامسًا: في هذا الحَدَث اتضح مشهد عظيم يغبط عليه العالَمُ أجمع، وهو ترابط هذا المجتمع فيما بينه، وفيما بينه وبين ولاته، وما ذلك إلا ثمرة من ثمرات الإيمان وطاعة الرحمن، قال تعالى: لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال:63]، وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]. فإذا تحقق ترابط المجتمع تحقق الأمن، وإذا تحقق الأمن تحقق رغد العيش، ولا جامع للأمة اجتماعًا حقيقيًّا غير الإيمان، فإذا ضاع الإيمان ضاع الأمان، قال تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46]. فليحرص العقلاء على بقاء هذا الترابط، بل العمل على تقويته والوقوف أمام كل من يسعى لتفتيت هذه الروابط وتمزيقها.
سادسًا: في هذا الحَدَث تجلّى أثر الإسلام في ضبط أمور الولاية وحسن انتقالها دون بَلْبَلَة واضطراب وتمزّق واختلاف، فقد شرع الإسلام منهجًا لكيفية تولية الولاة ونصبهم:
فالطريقة الأولى: هي اختيار أهل الحل والعقد من العلماء والوجهاء لمن يرونه أهلاً للولاية بعد التشاور واتفاق الكلمة عليه، كما ولِّيَ أبو بكر حينما اجتمع أكابر المهاجرين والأنصار في سقيفة بني ساعدة وبايعوه، ثم بايعه الناس بعد ذلك تبعًا لهم، وقد قال عمر : (من بايع رجلاً من غير مشورة من المسلمين فلا يُبايَع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةً أن يُقتلا) رواه البخاري ومسلم، وقد أجمع العلماء على ذلك.
أما الطريقة الثانية: فهي العهد والاستخلاف، وذلك إذا أحسّ الخليفة بقرب أجله وأراد أن يستخلف على القوم أحدهم لأنه يقوم بمشاورة أهل الحل والعقد، فإنه يعهد إليه من بعده، كما استخلف أبو بكر عمرَ بن الخطاب رضي الله عنهما، وكما عهد عمرُ بالأمر إلى الستة الذين توفّي رسول الله وهو راض عنهم، وقد أجمع العلماء على ذلك.
سابعًا: في هذا الحدث يلزم كل مسلم معرفة معنى البيعة وصفتها، يقول : ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) رواه مسلم. والبيعة عند جمهور العلماء واجبة وجوبًا كفائيًّا إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ويعقدها أهل الحلّ والعقد من العلماء والوجهاء ورؤساء العشائر، وبقية الناس تَبَعٌ لهم، تعقد مع الوالي مباشرة ومع نوابه عنه في كل بلد، وتتضمّن السمع له والطاعة وعدم منازعته ما أقام كتاب الله وسنة نبيه وطبّق شرعه، فعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليُسر والمَنْشَط والمَكْرَه وعلى أَثَرَة علينا وعلى أن لا نُنازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بَوَاحًا عندكم من الله فيه برهان. رواه البخاري ومسلم. وقد كتب عبد الله بن عمر لعبد الملك بن مروان بعد أن اجتمع الناس عليه: (إنما أُقِرّ بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك بن مروان أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت، وإن بَنيّ قد أقروا بمثل ذلك) رواه البخاري.
وللبيعة عدة صور منها: المصافحة والكلام كما في بيعة الرضوان، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10].
ومنها الكلام فقط، وهذه تكون مع من لا يستطيع الحضور أو مع النساء، فقد روي أن أُمَيْمَة بنت رفيعة دخلت في نسوة تبايع، فقلن: يا رسول الله، ابسط يدك نصافحك، فقال: ((إني لا أصافح النساء، ولكن سآخذ عليكن)) ، فأخذ علينا. رواه مالك وابن ماجه. وقالت عائشة رضي الله عنها كما في البخاري: والله، ما مسّت يدُ رسول الله يدَ امرأة قطّ، غير أنه يبايعهن في الكلام.
ومن صفاتها الكتابة، كما بايع النجاشيُّ النبيَّ ، وكما بايع عبدُ الله بن عمر عبدَ الملك بن مروان.
ولا يحل نَكْث البيعة ونقضها إلا إذا كفر الحاكم؛ لقوله : ((إلا أن تروا كفرًا بَوَاحًا فيه عندكم من الله برهان)) ، وقال : ((من بايع إمامًا فأعطاه صَفْقَةَ يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)) رواه مسلم، وقال : ((من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر؛ فإنه ليس ينازعه أحد يفارق الجماعة شبرًا فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) رواه البخاري ومسلم.
ومن حق الوالي إعانته ومناصحته، قال : ((الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم، وقال : ((ثلاث لا يُغِلُّ عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم)).
اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرّ شرارهم، ووحّد كلمتهم على ما تحبّ وترضى يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، فاعلموا أنكم في هذه البلاد في نعمة لا يعرف فضلها ولا يلمس أثرها إلا العقلاء من كبار السن الذين عايشوا تغيّر الأحوال في هذه البلاد من الناحية الدينية والاجتماعية والمعيشيّة. بلاد غلب عليها الجهل والفقر، وانتشرت فيها البدع، فقيّض الله لها من أحياها. فقبل عشرات السنين ما كانت تلك البلاد تحكم بشريعة، وإنما يُرجَع في ذلك إلى العادات والأعراف والكَهَنة والطواغيت، مع انتشار الشرك والبدع والخرافات.
ومن الناحية العلمية قد غلب عليها الجهل، فلا يكاد يوجد في المدينة أو القرية إلا قارئ واحد، والكتب أندر من ذلك.
ومن الناحية الاجتماعية قد دَبَّت الفوضى والخلاف والقتال والتناحر بين القبائل العربية، القوي يأخذ الضعيف، فلا يجد الإنسان مَأمَنًا لنفسه وأهله، فضلاً عن ماله، بل كانت القبائل تتفاخر في تلك الجريمة من إراقة دماء المسلمين، في الوقت الذي قامت فيه الحرب العالمية الأولى والثانية بالطائرات والدبابات والصواريخ والراجِمات، وهنا يتقاتلون بالسيوف في صحاري نجد.
ومن ناحية عمارة الأرض والتطور والازدهار ما كانت الجزيرة إلا صحاري يجول فيه أهل البوادي، أو قرى من بيوت الطين، وحالة زهيدة، في الوقت الذي تُقام فيه ناطحات السحاب في أوروبا. فقيّض الله لهذه البلاد من جمع كلمتها، وأقام شرع الله فيها، ونهض بها من الحَضِيض إلى العلياء، وذلك بفضل صدق ولايتها وتكاتف أفراد المجتمع على ذلك، حتى بلغ بنا الحال خلال سنوات إلى هذا الخير والازدهار والتطور والأمن ورغد العيش، وما زلنا في مسيرة التطوير والارتقاء والقوة، ومع هذا نجد من أبناء هذه البلاد من لا يعرف قدر هذه النعمة، ويريدون أن يخرّبوا بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم. نعم، نحن لا ندعي الكمال في كل شيء، لا من الجوانب الدينية ولا الدنيوية، فالتقصير واقع في كثير من المجالات، لكن هذا لا يستغرب في مجتمع ناشئ، فدورنا في ذلك هو إكمال النقص والتعاون والتعاضد على إتمام مسيرة البناء والتطوير في جميع المجالات، لا هدم ما بُنِي وتنقّص ما كمل.
فلا نغترّ ـ عباد الله ـ بكثرة الناعِقِين وإرْجَاف المرجِفِين وازدراء الحاقدين والشانئين، فلننطلق في تفكيرنا من كتاب ربّنا وسنة نبينا ومعرفة حالنا وواقعنا وما يضرنا وما ينفعنا.
ولنعلم ـ عباد الله ـ أننا في هذه البلاد محاطون ومهددون بأعداء كثيرين، كل يتربص بنا، وكل ينتظر متى ينقضّ علينا، فالكفار من جميع أجناسهم من يهود ونصارى وغيرهم يفورون حقدًا وحسدًا وغيظًا على هذه البلاد وأهلها ودينها، ويدبّرون التدابير، ويديرون المؤتمرات والمؤامرات والمخططات لمحاولة إثارة الفتنة بين أهل هذه البلاد والاستيلاء عليها وإضعافها. والمبتدعة من رَوَافِض وصوفيّة وقُبُورية وخُرَافِيّة وغيرهم من المبتدعة أشد كرهًا للتوحيد ولما نحن عليه من كراهية اليهود والنصارى لنا ولديننا. وأهل الأفكار المنحرفة أذناب الشرق والغرب صناعة اليهود والنصارى من علمانيين وليبراليين وحَدَاثيين ممن يعيش بيننا أشد علينا خطرًا وأعظم ضررًا، وها هي رائحتهم المنتنة انبثقت عبر الصحف ووسائل الإعلام، وبدأت بعض مخططاتهم تظهر على الساحة، أحرق الله أوراقهم، وردّ كيدهم في نحورهم. والشهوانيون عُبّاد المادة والجنس واللهو كذلك سوسة بدأت تنخر في مجتمعنا؛ لتهدم أخلاقه، وتنشر الرذيلة والفساد الخلقي عبر طرقهم المختلفة. وكذلك الغُلاة وحملة فكر التكفير والتفجير والتدمير الذين سَلّوا سيوفهم وألسنتهم على إخوانهم المسلمين، وأراقوا دماءهم، وأشاعوا الخوف والرعب بين أهليهم ومجتمعهم، مُنفّذين لمخططات أعداء المسلمين، ظانّين أنهم بفعلهم مجاهدون وناصرون للحق، وهم في الحقيقة مفسدون وهادمون للحق وصادّون عن سبيل الله.
فعلينا ـ عباد الله ـ أن ندرك مسؤوليتنا في الحياة وواجبنا نحو ديننا وأمتنا ومجتمعنا، فنحن أمة قيادة وسيادة، ولا يتحقق ذلك إلا بالتفكير الصحيح وإحياء الهمة في القلوب واجتماع الكلمة وتوحيد الصف وبذل الجهد لتحقيق مرضاة الله وإقامة شرعه ودينه وعدله على أرجاء المعمورة، قال تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
(1/4309)
استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل شهر رمضان. 2- شهر رمضان فرصة لإزالة العداوة والبغضاء والشحناء. 3- محاذير ومخالفات يقع فيها كثير من الناس في رمضان. 4- الإعلام وسعيه في تضليل الناس. 5- رسالة إلى تائب. 6- رسالة إلى مذنب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
أيها المسلمون، ما أسرع تصرم الأيام وتعاقب الأزمان، فبالأمس ودعنا رمضان، وها نحن اليوم نستقبله، وهكذا أصبحت عملية الدنيا تدور بسرعة مذهلة، فأصبحت السنة كالشهر، والشهر كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، فأين المشمرون المسابقون؟! أين الصالحون المتقون؟! بل أين المذنبون والعاصون؟! وأين المقصرون المفرطون؟! هذا زمان التوبة والاستغفار وأوان الرجوع والانكسار.
عباد الله، لقد أظلكم موسم هذا الشهر العظيم، وحل بساحتكم هذا الضيف الكريم، رحمةً من الله بكم، ليقربكم سبحانه إليه بطاعته، فتنالوا عنده المنازل العالية، في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين)) ، وفي رواية للترمذي وابن ماجه وغيرهما: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)) ، وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك)).
كان سلفنا الصالح يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، وإذا بلغهم دعوا الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، وكانوا يقولون في دعائهم: "اللهم سلمنا لرمضان، وسلم رمضان لنا، وتسلمه منا متقبلاً".
أيها الإخوة، إن رمضان مزرعة الآخرة فهل من زارع؟! ورمضان فرصة للتائبين فهل من تائب؟!
أيها المسلمون، هبت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب، ووصلت البشارة للمنقطعين عن الله بالوصل وللمذنبين بالعفو وللمستوجبين النار بالعتق.
لما سلسلت الشياطين في شهر رمضان وخمدت نيران الشهوات بالصيام انعزل سلطان الهوى والشهوة، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل، فلم يبق للعاصي عذر.
يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصالحين ارتفعي، يا قلوب الصائمين لا تهجعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي، يا أرض الهوى ابلعي ماءك، ويا سماء النفوس أقلعي، وغيض نار الشهوة، واستوت النفوس إلى باريها وخالقها، وقيل: بعدًا للقوم الظالمين المسرفين.
عباد الله، إن شهر رمضان شهر مغنم وأرباح، فاغتنموه بالعبادة وكثرة الصلاة وقراءة القرآن والذكر، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)). وقيام رمضان يكون بأن تصلي مع الإمام صلاة التراويح حتى يقضي صلاته، روى أهل السنن من حديث أبي ذر أن رسول الله قال: ((إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسبت له قيام ليلة)).
أيها الإخوة، إن شهر رمضان فرصة لإزالة العداوة والبغضاء والشحناء، سواء كانت بينك وبين أقاربك أو بينك وبين الناس، واستكثروا في شهر رمضان من أربع خصال، اثنتان ترضون بهما ربكم، واثنتان لا غنى لكم عنها، فأما اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنها فتسألون الله الجنة وتستعيذون به من النار.
أيها المسلمون، إن كثيرًا من الناس يتجهزون لرمضان، لكن مع الأسف لا يتجهزون بالتقوى، يتجهزون بالمطاعم والمشارب، ويتجهزون بالأفلام والمسلسلات أو قل: بالقنوات الفضائية، فها هي القنوات العربية والغربية تعلن دعاياتها باستقبال رمضان؛ فسهرة ليلة الخميس وسهرة ليلة الجمعة وسهرة ليلة كذا وكذا، وأغان ومسلسلات وأفلام هابطة، بهذا يستقبل رمضان عند بعض المسلمين، وينتهي رمضان وهم على هذه الحالة، فسهر بالليل إلى قرب الفجر، ثم النوم العميق إلى قرب المغرب، فإذا قام قضى ما فاته من الصلاة وكأنه يمن على الله بصيامه.
وهكذا أصبحنا رهينة لأعداء الله ولقمة سائغة لهم، فهم حينما علموا عن شهر رمضان ومكانته عند المسلمين وأنه موسم للقربة ولرجوع الناس أجلبوا بخيلهم ورجلهم، وسلطوا سهامهم في شهر رمضان، وأعدوا العدة للانقضاض على روح العبادة في هذا الشهر بأنواع المعاصي التي يجرون إليها الناس.
فأنت ترى في الإعلانات والدعايات: بمناسبة حلول شهر رمضان سيعرض الفلم الفلاني، وهكذا أصبح رمضان موسم للمحرمات وعرض الأفلام.
وبمناسبة شهر رمضان خصومات على الاشتراك في القنوات الفضائية، الأوائل في الفسق والمجون ومبارزة الله بالمعاصي، التقسيط ثلاثة شهور مجانًا، تسهيلات في قيمة جهاز فك الشفرة خمس قنوات بكذا وثلاث قنوات بكذا، كل هذا بمناسبة حلول شهر رمضان، فإلى الله المشتكى. نعم، بهذا أشغل شهر الصيام في أيامنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.
أشغِل الناس في شهر رمضان بفوازير رمضانية وليس لها شأن برمضان، حتى المرأة ما سلمت من شر هذه القنوات؛ فهم يعرضون لها طبق اليوم وسفرة رمضانية، وليس هذا فحسب، بل بعد أن يذوق الناس طعم الفرحة عند فطرهم فإذا بها تشاركهم الفرحة فتعرض لهم سخافات وجهالات، مواقف كُومِيديّة الكَمِرا الخفيّة ونجوم الفكاهة، لكنهم يعرضون بمناسبة رمضان مسلسلات إسلامية ويعرضون التاريخ الإسلامي، وإذا هم يشوّهون التاريخ الإسلامي ويلطّخون تاريخ الأبطال والأماجد بحجة أنها تاريخ الإسلام، فهم يمثّلون دَورَ عمر بن عبد العزيز أو صلاح الدين أو خالد بن الوليد، أو دور الخنساء أو صفية أو عائشة رضي الله عنهم أجمعين.
وإذا هم يدسّون السمّ في العسل، فتأتي امرأة ماجنة فاجرة بدأت شهرتها بفلم ماجن مليء بالغرام والهيام والتفسّخ والتبذّل، فإذا هي تمثّل دور عائشة رضي الله عنها زوج النبي ، والتي نزلت في سببها 13 آية من كتاب الله تتلى إلى أن يشاء الله.
وقل مثل ذلك في الرجال، فمتى كان سعد بن أبي وقاص يتوقّف عن القتال أثناء المعركة من أجل أنه رأى امرأة أعجميّة، فجعل ينظر إليها ونسي المعركة والجهاد في سبيل الله، وأخذ يفكر في الحبّ والغرام. نعم، هكذا شوّهوا صورة التاريخ الإسلامي.
فيا أيها المسلمون، اغتنموا شهر رمضان بالتوبة النصوح والإقلاع عمّا حرم الله، وعليكم بقراءة القرآن وتدبّره وتفهّمه، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
اللهمّ أعنّا على استغلال أوقاتنا فيما يرضيك عنّا، واغفِر لنا وتب علينا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: رسالة أهديها إلى تائب، أهديها إلى رجل جاء إلى المسجد وصلى الفروض مع المسلمين بعد أن كان يصليها في بيته، رسالة إلى كل شاب كان مسرفًا على نفسه ثم أقبل في هذا الشهر الكريم على ربه ومولاه: أرأيت ـ يا أخي ـ كيف أن للصلاة لذّة وأنسًا في المساجد؟! أرأيت كيف أن دين الله يسر ولا شدة فيه؟! إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين رجل إلا غلبه. فنقول: فحيّهلا بك في قطار التائبين، ومرحبًا بك في قوافل السائرين.
وأبشر ـ يا أخي، يا من تركت الحرام وابتعدت عن رفقاء السوء، ويا من استبدل غناء الشيطان بكلام الرحمن، ويا من استبدل نظر المسلسلات والأفلام بالنظر في كلام الديان ـ أبشر بجنة عرضها السموات والأرض، أبشر بجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
اصبر ـ يا موفق ـ على طاعة ربك مولاك، فإنما الدنيا يوم دون يوم، كان للإمام أحمد نعل مقطّع، وكان كلما انقطع أصلحه حتى مضت عليه اثنتا عشرة سنة، فقيل للإمام أحمد: ألا تغير نعلك؟! فقال رحمه الله: نعل دون نعل وثوب دون ثوب ويوم دون يوم حتى نلقى الله.
وأقول لمن فرط في طاعة مولاه وأضاع نفسه واتبع هواه ولم يزدد في رمضان من الله إلا بعدًا ولا من الرحمن إلا مقتًا وردًا، أقول له: يا من ضيع عمره في غير الطاعة، يا من فرط في شهره بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟!
ويل لمن شفعاؤه خصماؤه والصور في يوم القيامة ينفخ
يا من أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، هذا أوان التوبة والرجوع، فتب إلى مولاك. يا أضاع نفسه وانهمك في المحرمات، هذا موسم تفتح فيه الجنان وتغلق فيه أبواب النيران.
عباد الله، هذا شهر رمضان الذين أنزل فيه القرآن، وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يتصدع، ومع هذا فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينقطع، ولا قيام استقام فيرضى فيه صاحبه أن يشفع.
قلوب خلت عن التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشاب هنا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فليتحق بالصفوة.
أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوى، وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والبصائر؟! أما لنا فيهم أسوة؟!
اللهم أيقظنا جميعًا من سبات الغفلات قبل الممات، اللهم لك الحمد كما هديتنا للإسلام وبلغتنا رمضان.
اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه إلى أن نلقاك وأنت راض عنا غير غضبان، وكما بلغتنا رمضان فأعنا على صيامه وقيامه وإتمامه، ووفقنا للقيام بحقك فيه وفي غيره، واجعل أعمالنا خالصة لوجهك صوابًا على سنة نبيك ، اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، أصلح أحوال المسلمين وانصرهم على من عاداهم...
(1/4310)
الإسراء والمعراج
سيرة وتاريخ, فقه
السيرة النبوية, الصلاة
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل أمة محمد على غيرها من الأمم. 2- تعريف الإسراء والمعراج. 3- خبر الإسراء والمعراج ملخصًا من الروايات الصحيحة. 4- عظم الصلاة في الإسلام. 5- بدع ومخالفات تقع في ليلة الإسراء والمعراج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله ربكم واشكروه على ما أنعم به عليكم من النعم الكبرى والآلاء الجسيمة العظمى، وأن جعلنا من أمة خير الأنام محمد ، وجعلنا الآخرين زمنًا الأولين منزلة وشرفًا، فأكرمُ الأممِ على اللهِ أمةُ محمدٍ ، وأفضلُ نبي بل أفضلُ مخلوق على الإطلاق هو نبينا محمد.
ومن نعم الله علينا أن فضل نبينا على سائر الأنبياء والمرسلين، وخصه بخصائص لم ينلها أحد من البشر، ولن يصل إليها أحد ممن تقدم أو تأخر، فمن خصائصه العظيمة ذلكم الإسراء والمعراج.
الإسراء حيث أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، المسجد الأقصى الذي تدنسه صهيون وتبني فيه معابدها وتمارس فيه طقوسها، نعم هو مسرى نبيكم محمد وثالث المسجدين، ولكن إلى الله المشتكى من ضعف المسلمين وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، فنحن في زمان استأسدت فيه الخفافيش.
والمعراج حيث عرج به إلى السماء، فدخل سماء تلو سماء، حتى وصل إلى مكان سمع فيه صريف الأقلام.
فهاكم خبر الإسراء والمعراج ملخصًا من الروايات الصحيحة المسندة، وهذه الروايات أغلبها في الصحيحين وما أذكر من غيرها فهو صحيح الإسناد.
فبينما النبي نائم في الحجر في الكعبة أتاه آت، فشق ما بين ثغرة نحره إلى أسفل بطنه، ثم استخرج قلبه فملأه حكمة وإيمانًا؛ تهيئة لما سيقوم به، ثم أتي بدابة بيضاء دون البغل وفوق الحمار، يقال لها: البراق، يضع خطوه عند منتهى طرفه، فركبه النبي وبصحبته جبريل الأمين، حتى وصل بيت المقدس، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إمامًا يصلون خلفه؛ ليتبين بذلك فضله وشرفه وأنه الإمام المتبوع.
ثم عرج به جبريل إلى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح له، فوجد فيها آدم عليه السلام، فقال جبريل: هذا أبوك آدم فسلِّم عليه، فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، وإذا على يمين آدم أرواح السعداء وعلى يساره أرواح الأشقياء من ذريته، فإذا نظر إلى اليمن سر وضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى.
ثم عرج به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به، فنعم المجيء جاء، ففتح له فوجد فيها يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وهما ابنا الخالة، كل واحد منهما ابن خالة الآخر، فقال جبريل: هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما، فسلم عليهما، فردا السلام، وقالا: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم عرج به جبريل إلى السماء الثالثة، فاستفتح فقال له أهل السماء الثالثة مثل ما قالوا، فوجد فيها يوسف عليه الصلاة والسلام، فقال جبريل: هذا يوسف فسلم عليه، فسلم عليه، فرد السلام، وقال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح.
ثم عرج به جبريل إلى السماء الرابعة فاستفتح، فقالوا مثل ما قال أولئك، فوجد فيها إدريس، فقال جبريل: هذا إدريس فسلم عليه، فسلم عليه، فرد السلام، وقال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح،.
ثم عرج به جبريل إلى السماء الخامسة فاستفتح، فقالوا مثل ما قال أولئك، فوجد فيها هارون بن عمران أخا موسى ، فقال جبريل: هذا هارون فسلم عليه، فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح،.
ثم عرج به جبريل إلى السماء السادسة فاستفتح، فقالوا مثل ما قال أولئك، ففتح له فوجد فيها موسى ، فقال جبريل: هذا موسى فسلم عليه، فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال: مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟! قال: أبكي لأن غلامًا ـ يعني محمدًا ـ بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، فكان بكاء موسى حزنًا على ما فات أمته من الفضائل، لا حسدًا لأمة محمد.
ثم عرج به جبريل إلى السماء السابعة فاستفتح، فقالوا مثل ما قال أولئك، ففتح له فوجد فيها إبراهيم خليل الرحمن ، فقال جبريل: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه، فسلم عليه، فرد عليه السلام وقال: مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح، وكان إبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور في السماء السابعة الذي يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يتعبدون ويصلون ثم يخرجون ولا يعودون، وفي اليوم التالي يأتي مثلهم فيخرجون منه فلا يرجعون إليه وهكذا. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: "ورأى إبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسندًا ظهره إليه لأنه الكعبة السماوية".
ثم رفع النبي فجاوز منزلة إبراهيم الخليل وغيره من الأنبياء، فسمع صريف الأقلام أقلام القدر بما هو كائن إلى قيام الساعة، ورأى سدرة المنتهى، فغشيها من أمر الله من البهاء والحسن ما غشيها حتى لا يستطيع أحد أن يصفها من حسنها، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح، ورأى رفرفًا أخضر قد سد الأفق، ورأى الجنة والنار، فأدخل الجنة فإذا فيها قباب اللؤلؤ وإذا ترابها المسك.
ثم فرض الله عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم وليلة، فرضي بذلك وسلم، ثم نزل فلما مر على موسى قال: ما فرض ربك على أمتك؟ قال: ((خمسين صلاة في كل يوم)) ، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك وقد جربت الناس بتلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال النبي : ((فرجعت فوضع عني عشرًا)) ، وما يزال يراجع ربه بطلب موسى حتى استقرت الفريضة على خمس، فنادى مناد: أمضيت فريضتي وخففت على عبادي، هي خمس ولهم أجر خمسين.
ثم نزل رسول الله حتى أتى مكة بغلس، وصلى بها الصبح، فلما أصبح أخبر قريشًا بما رأى، فكان في ذلك امتحان لهم وزيادة في الطغيان والتكذيب، وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60]، وقالوا: كيف تزعم ـ يا محمد ـ أنك أتيت بيت المقدس ورجعت في ليلة ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهرًا في الذهاب وشهرًا في الرجوع؟! فهات صف لنا بيت المقدس، فجعل النبي يصفه لهم حيث جلاه الله له، فجعل ينظر إليه ويصفه لهم فبهتوا وقالوا: أما الوصف فقد أصاب، وجاء الناس أبا بكر فقالوا: إن صاحبك يقول كذا وكذا، فقال: إن كان قاله فقد صدق، فسمي الصديق من يومئذ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم:1-9].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أخي، يا من تستمع إلي وقد جمعت نفسك بين يدي، أرأيت ـ يا أخي ـ كيف عظم الله أمر الصلاة، وكيف أعلى شأنها؟! ولو سبرت العبادات كلها لوجدتها مفروضة في الأرض، وليس ذلك فحسب بل وبواسطة جبريل، أما الصلاة ففرضها الله على نبيه وعلى أمته فوق سماواته، وكلم عبده محمدًا كفاحًا ليس بينه وبينه ترجمان، أفبعد هذا ـ يا أخي ـ تتكاسل عن الصلاة وتتأخر في أدائها؟! أم كيف ترجو ثوابًا وتؤمل عفوًا وقد قصرت في أدائها؟!
إنها كلمات أهمسها في أذنك أخي المقصر في الصلاة المضيع لشأنها، فهل نجد منك أذنًا صاغية أم قلبًا واعيًا؟! ولا أريد منك ـ يا أخي ـ أن تحافظ على هذه الصلوات فحسب، بل حافظ عليها وصلها مع الناس، ولا تصلي في بيتك وحدك، ألم تسمع إلى ربك وهو يقول: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]؟! أي: صلوها مع المصلين.
ولعلي أذكرك ـ يا أخي ـ ببعض أحاديث نبيك في أمر الصلاة مع الجماعة وبعض كلام صحابته الكرام، فلعلك قد نسيتها:
فعن ابن عباس أن النبي قال: ((من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر)) رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لقد هممت أن آمر فتيتي فيجمعوا لي حزمًا من حطب، ثم آتي قومًا يصلون في بيوتهم فأحرقها عليهم )) رواه مسلم، وعن أبي هريرة قال: أتى النبي رجل أعمى فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: ((هل تسمع النداء؟)) فقال: نعم، قال: ((فأجب)) رواه مسلم.
وهذا ابن مسعود كان يقول: (من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى بها يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف). يهادى بين الرجلين: يُرفد من جانبيه ويؤخذ بعضده يمشي به إلى المسجد.
وما يمنعك ـ يا أخي ـ من حضور الجماعة والصلاة معهم؟! لا أظن أن شيئًا يمنعك، لكن لعلك لم تجرب لذة الصلاة مع الجماعة، وإلا فإن صلاة الجماعة لا تأخذ من وقتك أكثر من عشر دقائق أو قل: ربع ساعة، فلِمَ تحرم نفسك هذه اللذة والأنس والراحة؟!
بالأمس القريب صلى معنا شاب صلاة الفجر، فلما انتهينا من صلاتنا جاءني وقد ارتسمت في وجهه علامات التأثر، جاءني وقد عبرت قسمات وجهه قبل ذبذبات كلماته، كلمني والكلمات تتزاحم في فمه، فما يدري بأيها يبدأ، فقال: إني لا أصلي مع الجماعة أحيانًا وأصلي وحدي في بيتي، فقلت له: لا، هداك الله، لا تفعل، أرأيت كيف لصلاة الجماعة من أنس وراحة ولذة وحلاوة؟! فقال: نعم والله.
فيا أخي المسلم، عاهد نفسك من الآن أن لا تفوتك صلاة الجماعة أبدًا.
أيها المسلمون، وقبل أن أختم حديثي إليكم نذكّركم أن واجبنا أن نستفيد من حادث الإسراء والمعراج العبرة والعظة، والتمسك بأوامر الله واجتناب مناهيه، ولا يكون حظنا منه إحداث البدع وإقامة الاحتفالات التي ما أنزل الله بها من سلطان، والتي حذر منها نبينا محمد.
ولو سلمنا لهؤلاء جدلاً أنه لا بأس بإحيائها وإقامة الاحتفالات فيها فنسألهم ونقول: هل تستطيعون أن تخبرونا في أي شهر وقع الإسراء والمعراج؟! فلن يستطيعوا تحديد الشهر فضلاً عن الليلة، فإن أحدًا لم يجزم بأنها في الشهر الفلاني، فضلاً عن تحديد ليلتها، لكنهم اتخذوا يومًا اختاروه لأنفسهم.
وكأن النعمة بهذه الآية العظيمة ـ أعني الإسراء والمعراج ـ لا تحصل إلا في تلك الليلة الواحدة في السنة، وليس لها أثر مستمر باستمرار الصلوات الخمس في اليوم والليلة، مستمر كلما قرأت هذه الآية من القرآن، لكنها التقاليد الفاسدة والطقوس الفارغة التي شابهوا بها اليهود والنصارى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
(1/4311)
البدعة والتحذير منها
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أعظم النعم إكمال الدين. 2- الإسلام عني كل العناية بالإنسان منذ أن كان نطفة وإلى أن يلقى الله تعالى. 3- تعريف البدعة والتحذير منها. 4- أسباب انتشار البدع. 5- البدعة أعظم ذنبًا وأشد جرمًا من المعصية. 6- بدع الجنائز وخطرها. 7- فضائل أبي بكر الصديق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا معاشر المسلمين، يقول الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
ذلكم هو دين الإسلام، الدين القيم الخالد، الصالح لكل زمان ومكان، والمشتمل على كل ما من شأنه إسعاد البشرية في دنياها وآخرتها، هو الدّين الخالص الذي جمعنا الله به بعد الفرقة، وأعزنا به بعد الذلّة، وألّف بين قلوبنا بعد التمزّق، فمن تمسّك به وحافظ عليه وقام به خير قيام مخلصًا عمله لله تعالى مقتديًا برسوله بفعل المأثور وترك المحظور دون زيادة أو نقصان سعد وفاز برضا الله تبارك وتعالى.
وأما من طلب الهدى من غيره واتخذ سبيلاً غير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان فذلك هو الخسران المبين الذي لا يعدله خسران، وأصبح من حزب الشيطان، أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].
أيها الإخوة الأحبّة، إن الله أكرمنا ومنّ علينا بهذه الرسالة الخالدة والدين الشامل الكامل فإنّ من أمعن النظر فيما شرعه الله لنا مما تضمنه الكتاب العزيز ودلت عليه السنة المطهرة علم أن النبي قد بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة على أكمل وجه، وتركنا على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك قد مرض قلبه، وخاسر قد طاش في مهاوي الضلال لبه.
إن هذه النعمة ـ أيها الإخوة ـ لهي من أكبر النعم على هذه الأمّة حيث أكمل الله تعالى لها دينها، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا يحتاجون إلى نبيّ غير نبيهم، ولا يحتاجون إلى شرعة جديدة غير شريعتهم، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115] أي: صدقًا في الأخبار وعدلاً في الأحكام، ذلكم دين الإسلام الشامل الكامل الذي شهد بصفائه وصلاحيته لكل زمان ومكان الأعداء قبل الأصدقاء، والحق ما شهدت به الأعداء.
فقد سجلوا إعجابهم بهذا الدين القويم الكامل الشامل الذي عني كل العناية بالإنسان منذ أن كان نطفة وإلى أن يلقى الله تعالى، بل إن الإسلام قد وضع آدابًا وقيمًا حتى في الأمور العادية التي اعتاد الناس القيام بها، فها هو الإسلام يعلمنا آداب السفر وآداب الزيارة وآداب الطعام والشراب وآداب النوم والدخول والخروج وآداب اللباس، بل حتى آداب قضاء الحاجة، فكيف يطلب الهدى من غيره؟! فقد قالت اليهود لسلمان : لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! كيف تقضون حاجتكم، فقال سلمان: أجل، نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم. أخرجه مسلم.
أيها المسلمون، ما دام ديننا بهذه المثابة العالية من التكامل والشمولية وأنه ما ترك طائرًا يطير في الهواء ولا سمكًا يسبح في الماء ولا وحشًا يجري في الصحراء إلا أعطى منه خبرًا، أمرًا أو نهيًا، فما بال الناس يطلبون رضا الله من غير طريقه الذي شرعه؟!
ولذلك لما كان هذا الإسلام بهذا التكامل السامي وهذا الشمول الوافي إذ لم يجعل لأي أحد كائنًا من كان أن يزيد أو يستدرك عليه أو يطلب رضا الله بغير ما شرعه له أو ما سنه له رسوله عليه الصلاة والسلام، لما كان الإسلام كذلك حرم الزيادة على دينه، أو فعل شيء لم يفعله رسول الله ولا صحبه الكرام، وهي البدعة التي جاءت الشريعة بالتحذير منها وبالنهي عنها، فقد كان الإسلام وما زال يحذر أشد التحذير من البدع والمبتدعين، وينهى عن الاختراع في الدين أو فعل عبادة مصطنعة ليس لها مثال سابق في قرون الإسلام الفاضلة، يقول النبي : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أي: رد على صاحبها وعلى العامل بها.
فالبدعة كما عرفها العلماء هي كل عمل أحدث في الدين يخالف الكتاب والسنة، أو لم يدل عليه الكتاب والسنة، واختراع عمل لم يدل عليه دليل بنية التعبد لله رب العالمين.
فمن أحدث أي عمل لم يدل عليه الكتاب والسنة ولم يكن له مثال سابق من مشكاة النبوة فهو رد على صاحبه، ولو كانت هذه الزيادة من عالم أو من حاكم أو من مجتمع أو من فرد أو من أمة أو من جماعة.
ولذلك كان السلف رحمهم الله من الصحابة فمن بعدهم يحذرون من البدع والمبتدعين ومن صحبة المبتدعين والجلوس معهم، لأن هؤلاء المبتدعين فتنة على العامة، وقد يزين الشيطان أعمالهم للناس فيقتدون بهم.
فهذا أبو بكر الصديق يقول: (إن الله اصطفى محمدًا على العالمين وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع)، وقال عبد الله بن مسعود: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)، ورأى أناسًا جالسين يجتمعون بعد الأذان في حلقات ومعهم الحصى، فيذكرون الله مائة مرة وهكذا حتى تقام الصلاة، فقال لهم: (عدوا سيئاتكم، ويحكم يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم! هؤلاء صحابة نبيكم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة أهدى من ملة محمد أو مفتتحو باب ضلالة)، قالوا: والله ـ يا أبا عبد الرحمن ـ ما أردنا إلا الخير، قال: (كم من مريد للخير لم يصبه).
أيها الإخوة، فإذا كان ابن مسعود قد أنكر هذه الهيئة التي يذكرون الله بها رغم أن الذكر الوارد فيها مشروع، لكنه أنكر عليهم الشكل والصفة وتخصيص هذا الوقت بالذات للذكر، فكيف لو اطلع ابن مسعود على هذه الأذكار التي يذكر الله بها بعض المسلمين اليوم، وهي لا تمت إلى ذكر الله بصلة، مما ابتدعه أصحاب الطرق الصوفية وغيرهم من الأذكار التي زينها الشيطان لهم كترديدهم بصوت واحد من قولهم: "هو هو"، أو "حي حي" وغير ذلك من ألوان الهذيان الذي لا يخرج من عقلاء، بل هم في مصاف المجانين بل أضل سبيلاً. بل يحذر السلف رحمهم الله من المبتدعة أشد التحذير، حتى إنهم لينهون من الجلوس إليهم أو النظر إلى أفعالهم أو الاستماع إلى كلامهم، حتى ولو كان قرآنًا يتلى.
فهذا محمد بن سيرين يدخل عليه رجلان من أصحاب البدع والأهواء فيقولان له: يا أبا بكر، نحدثك بحديث، قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله، قال: لا، لَتقومان عني أو لأقومن، قال: فخرجا، فقال بعض القوم: يا أبا بكر، وما كان عليك أن يقرءا عليك آية من كتاب الله تعالى؟! فقال: إني خشيت أن يقرءا علي آية فيحرفانها فيقرّ ذلك في قلبي.
أيها الإخوة في الله، وقد ذكر أهل العلم أسبابًا لانتشار البدع وفشوها بين الناس، مع أن دين الله كامل لا يحتاج إلى من يكمله أو يزيد فيه أو ينقص منه، ذكروا أسبابًا كثيرةً، منها انتشار الجهل وسكوت أهل العلم، فإن البدعة إذا ظهرت ورآها الناس وسمعوا بها وجب على أهل العلم إنكارها والتحذير منها، وإلا فقد يعجب بها بعض الجهلة أو أهل الأهواء، فتشيع بين الناس حتى تصبح سنة متبعة، فإن البدعة أول ما تظهر تظهر مستغربة مستنكرة مستهجنة، حتى تفشو بين الناس ويشيع أمرها ويستحسنه أصحاب الأهواء والضلال، ثم لا تلبث أن تنتشر انتشار النار في الهشيم أو أشد، ومن هنا جاء التحذير من البدع والتنفير من أصحابها ودعاتها ومروجيها.
أيها الإخوة، إن الحديث عن البدعة وأسبابها وأشكالها وأنواعها يطول جدًا، ولكن حسبي ما سأذكر لكم من مثال لما ابتدع في هذا العصر عصر التطور والرقي، بدعة وأي بدعة؟! إنها بدعة أقرب ما تكون إلى الشرك كما قال العلماء: إن البدعة بريد الكفر، فإن كانت البدع بريد الكفر فإن هذه البدعة لهي أسرع بريدًا وأقرب طريقًا. هذا ما ستسمعونه في الخطبة الثانية إن شاء الله.
اللهم ثبتنا على دين الإسلام، متبعين غير مبتدعين، هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن البدعة ـ أيها الإخوة ـ أعظم ذنبًا وأشد جرمًا من المعصية نفسها، فإن من شرب الخمر أو زنى يوشك أن يتوب ويعلم في قرارة نفسه أنه مذنب عاصي يسأل الله أن يهديه ويرده إليه، بينما صاحب البدعة لا يرى نفسه على منكر، بل يرى نفسه على صواب، بل ويتقرب بهذا العمل لله رب العالمين.
وعلى سبيل المثال لا الحصر من البدع المنتشرة في أوساط بعض المسلمين بدع الجنائز، نعم بدع الجنائز التي تفنن أهل الضلال والأهواء بإقامة الطقوس الدينية والخزعبلات الخرافية التي لم تخرج من مشكاة النبوة، ولم تر نور الكتاب والسنة، بل هي مأخوذة من دياجير النصارى وظلمات الخرافيين.
أيها الإخوة، إن خطر البدع في الجنائز أشد منه في غيرها، لأن البدع في الجنائز سيؤدي مع تقادم العهد وبعد الزمان إلى الشرك بالله، وعبادتها من دون الله، وتقديم القرب والقرابين إليها ولأصحابها، ولأن أول شرك وقع في الأرض هو عبادة القبور، فإن أول فتنة قوم نوح كانت بسبب موت صالحيهم وتعظيمهم وتعظيم قبورهم، حيث عكفوا على قبورهم وانقطعوا إليها، حتى أوحى الشيطان إلى جيل منهم أن يصوروا لهم صورًا حتى يكون أنشط لهم على العبادة، فصوروا لهم التماثيل والصور، فجمعوا بين فتنتين: فتنة القبور وفتنة التماثيل، حتى إذا انقرض جيل وأتى جيل عبدت من دون الله تعالى.
أيها الإخوة، لئن كانت البدع مذمومة فهي في القبور أشد ذمًا، ولئن كانت البدعة بريد الكفر فلهذه البدعة أسرع بريدًا وأقرب طريقًا، أعاذنا الله وإياكم منها، لأن الفتنة والشرك بقبر رجل يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبة أو حجر.
ولعظم هذا الأمر وقوة نفوذه بين الناس حسم الإسلام مادة هذا الباب، فأمر بأوامر لا تخالف، ونهى عن نواهي لا تفعل، وكل هذا سدًا لباب الشرك، ولعلم الإسلام أن البدع في القبور سيؤدي إلى شر عظيم وبلاء مستطير.
فقد نهى الإسلام عن الصلاة في المقبرة مطلقًا حتى ولو لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، وهذا النهي ليس بسبب نجاسة الأرض، بل إن النهي سد لباب الشرك وتعظيم القبور.
وها هو رسول الله يلفظ أنفاسه الأخيرة ويعالج سكرات الموت، ومع ذلك يحذر الأمة من أعظم بلاء ستبتلى به أو قد تقع فيه. تصور ـ يا أخي ـ أن الرسول في السكرات وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ماذا عسى أن تكون الكلمات التي يختم فيها حياته ويحذر بها أمته، تقول عائشة رضي الله عنها: لما نزل برسول الله طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها، فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذّر ما صنعوا. متفق عليه.
أيها الإخوة، ومن جمع بين سنة رسول الله في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادًا للآخر مناقضًا له، بحيث لا يجتمعان أبدًا، فها هو رسول الله نهى عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء المبتدعة يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى، ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء لا يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها فحسب، بل ويزينون القبور بأجمل ما يجملون من بيوتهم أو أشد، وهذا كله من البدع المنكرة التي يجب علينا إنكارها حتى لا ينشأ عليها الصغير ويهرم عليها الكبير، ولكننا نقول: هذه الأفعال من البدع المنكرة التي ترد في الكتاب والسنة، وكل ما يفعل في الجنائز وفي غيرها ولم يرد في الكتاب والسنة فهو رد على صاحبه كائنًا من كان.
فلم يوقد رسول الله لأحد من أصحابه قناديل يمشي بها، ولم يفعله أحد من أصحابه لرسول الله ، ولم تبن على قبورهم الأضرحة المزخرفة والمجملة والمدبجة بالذهب واليواقيت، ولم ترفع الأصوات عند حمل جنائزهم، ولم ينقل أن رسول الله أخذ يكبر ويهلل عند حمل جنازة أحد أصحابه، ولم ينقل أن رسول الله قال خلف جنازة أصحابه: "الله أكبر الله أكبر، أشهد أن الله يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، سبحانه من تعزز بالقدرة والبقاء، وقهر العباد بالموت والفناء"، ولم ينقل أنه صيّح وصاح أصحابه خلف جنازة ما: "استغفروا له يغفر الله لكم"، ولم ينقل أنهم رددوا الفاتحة أو قرأها واحد منهم، ولم ينقل أنه قال أو قاله أحد من أصحابه: "الفاتحة على روح فلان".
فهل أنتم أهدى من محمد ، أم أكمل إيمانًا منه وأعلم برضا الله تعالى، أم أن موتاكم أكرم عند الله من أصحاب رسول الله وأكرم عندكم من موت رسول الله؟! فها هو رسول الله قد مات ولم ينقل أن الصحابة فعلوا شيئًا من ذلك، ولم ينقل أن الصحابة كسوا ضريح رسول الله بالنقوش الجميلة والكسوة المذهبة وغير ذلك، وكل هذا ـ أيها الإخوة ـ لو لم يكن منه إلا تضييع أموال المسلمين لكان كافيًا، كيف وهو بدعة من البدع المنكرة؟!
ورحم الله أبا بكر الصديق حين حضرته الوفاة، نعم أبو بكر، أبو بكر الذي يقول عنه رسول الله : ((ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر)). أبو بكر الذي يقول عنه رسول الله : ((كل أحد أنا أمن منه على إسلامه إلا أبو بكر فلم أجزه على عمله)) ، أو كما قال عليه السلام. أبو بكر الذي لو وزن إيمان أمة محمد لرجح إيمان أبي بكر، ومع ذلك تحضره الوفاة وهو أمير المؤمنين، فتأتيه عائشة ابنته فتقول: يا أبي، بماذا نكفنك؟ فيقول: كفنوني بكفني هذا، فتقول عائشة: لكن ـ يا أبي ـ قد بلي وتغير، أفلا نشتري لك جديدًا؟ فماذا يقول أبو بكر؟! هل قال: ألبسوني حلة واكتبوا عليها نقوشًا من الآيات والأحاديث؟! هل قال: أقيموا لي مأتمًا وموائد تفرش هنا وهناك؟! ماذا قال أبو بكر؟! قال : يا عائشة، إن الحي أولى بالجديد من الميت، إذا أنا متّ فغسلوني وكفنوني وادفنوني بجوار رسول الله. فإن هؤلاء من أكمل المؤمنين إيمانًا بعد الأنبياء.
أيها الإخوة، إن أعظم قبر على وجه الأرض قبر رسول الله ، ومع ذلك لم ينقل أن الصحابة أو أحدا من السلف الصالح قبلوا ضريحه أو تبركوا بتربته مع حبهم له عليه الصلاة والسلام.
ومن البدع إقامة الرادفات والقراء للقرآن إظهارًا للحزن، وكأن القرآن يتلَى عند الحزن ويتبرَّك بقراءته دون العمل به أو التدبر لمعانيه.
(1/4312)
التوحيد
التوحيد
الأسماء والصفات, الألوهية, الربوبية
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أقسام التوحيد. 2- تعريف توحيد الربوبية وأدلته. 3- تعريف توحيد الألوهية وأهميته. 4- تعريف توحيد الأسماء والصفات والأمثلة عليه. 5- موعظة وتذكير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجل، فتقوى الله تعالى هي وصيّته للأولين والآخرين: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء:131].
أيها الناس، لقد قسّم علماء الإسلام التوحيد إلى ثلاثة أقسام، وإن كانت هذه الأقسام في حقيقتها إنما تصب في قسم واحد. وأما الأقسام فهي توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات. وهذه الأقسام الثلاثة كلّها ترجع إلى توحيد الألوهية. فما توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات إلا لتكميل مقام العبودية والألوهية لله رب العالمين.
أما توحيد الربوبية فمعناه أن الله وحده هو الخالق لهذا العالم، وهو الرب والرازق لهم، وهذا النوع من التوحيد لا ينكره المشركون، بل لم تذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على غيره، كما قالت الرسل عليهم الصلاة والسلام فيما حكى الله عنهم: قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [إبراهيم:10]، وقال تعالى حاكيًا عن أحوال المشركين وأنهم مقرون له بالخلق والتدبير: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [الزخرف:10].
وأشهر من عُرفَ تجاهُلُه وتظاهُرُه بإنكار الله عز وجل فرعون اللعين، وقد كان مستيقنًا به في الباطن كما قال له موسى عليه السلام: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ [الإسراء:102]، وفي قراءة الكسائي من السبعة: لَقَدْ عَلِمْتُ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ليكون هذا من كلام فرعون، أي: أنه مقرّ بذلك وأن الله خالق السموات والأرض، ولكن وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].
أما توحيد الألوهية ـ أو قل: توحيد العبادة ـ فهو الذي أرسل الله له الرسل وأمرهم بالدعوة إليه، وهو الذي لا يقبل الله من أحد صرفًا ولا عدلاً حتى يقرّ به ويعمل بمقتضاه، وإن أخل بشيء من أركانه فهو خالد مخلد في نار جهنم وبئس المصير.
وهو الأمر الذي قاتل عليه النبي القبائل، وحمل في سبيله السلاح، وراسل الملوك وخاطب الأمراء ودعا القبائل من أجل تحقيقه، وإلا فالكفار كانوا يقرون بأنه لا خالق إلا الله وأنه المصرف لهذا العالم، ومع هذا كله لم يدخلوا في مسمى الإسلام.
بل لا بد من إفراد الله بالعبادة وعبادته وحده لا شريك له، وهذا معنى لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله وحده لا شريك له، ولذلك لما قال النبي لكفار قريش ولصناديدهم: ((قولوا لي كلمة تدين لكم بها العرب والعجم)) ، فقالوا: نقول وألف كلمة، فما هي يا محمد؟ فقال: ((قولوا: لا إله إلا الله)) ، فقالوا: إلا هذه، أجعلت الآلهة إلهُ واحدًا؟! فأنزل الله ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:1-5].
فتوحيد الألوهية هو صرف جميع العبادات لله وحده؛ من نذر وذبح وصلاة وصيام وحج وعمرة وغير ذلك من أنواع العبادة.
أما توحيد الأسماء والصفات فعقيدة أهل السنة والجماعة فيه أنهم يثبتون لله سبحانه وتعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله ، من غير تحريف أو تعطيل أو تأويل أو تمثيل، وينفون عن الله من الصفات ما نفاه هو عن نفسه أو نفاه عنه رسوله. وأهل السنة والجماعة إذا أثبتوا الصفة لله لم يمثلوها بصفات خلقه؛ لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
فيجب عليك ـ أيها المسلم ـ أن تؤمن بكل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ، وإن كنت لا تعرف جميع الصفات والأسماء الواردة في الكتاب والسنة، فالواجب عليك أن تؤمن إيمانًا إجماليًا في أسماء الله وصفاته، وأما معرفة ذلك تفصيلاً فهذا لا يلزمك ولا يجب عليك، فإن لهذا أناسا متخصصين وهم أهل العلم، وإن استطعت أن تعرفها تفصيلاً فهذا نور على نور، ولكن ينبغي عليك أن تعتقد من قرارة قلبك أن الله موصوف بصفات الكمال ونعوت الجمال.
فاسمع لما قاله البحر الذي لا تكدّره الدلاء أعني شيخ الإسلام، علَم العِلم والعلماء رحمه الله، قال: ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ووصفه به رسوله محمد ، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون ـ أي: أهل السنة والجماعة ـ بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له ولا كفؤ له ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى.
ثم في سنة رسول الله ، فالسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه". وما وصف الرسول به ربه عز وجل من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك.
فمن ذلك مثل قوله : ((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) متفق عليه، وقوله : ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته)) متفق عليه، وقوله : ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) رواه البخاري ومسلم، وقوله في رقية المريض: ((ربَّنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع فيبرأ)) حديث حسن رواه أبو داود وغيره.
قلت: في هذا الحديث إثبات العلو لله: ((ربنا الله الذي في السماء)).
وقوله: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء)) حديث صحيح، وقوله: ((والعرش فوق ذلك، والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه )) حديث حسن رواه أبو داود وغيره، وقوله للجارية: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله، قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) رواه مسلم.
إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله عن ربه بما يخبر به، فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الناس، إنكم لم تتركوا سدى، وإنكم إذا تركتم اليوم فلن تتركوا غدًا، وإنكم واردو هوةٍ، فأعدوا لها ما استطعتم من قوة. وإن بعد المعاش معادًا، فأعدوا له زادًا.
ألا لا عذر فقد بُيّنت لكم المحجة، وأخذت عليه الحجة من السماء بالخبر، ومن الأرض بالعِبَر. ألا وإن الدنيا دار جِهاز وقنطرة جَواز، من عبرها سَلِم، ومن عمرها نَدِم. ألا وقد نصبت لكم الفخّ، ونثرت لكم الحَبّ، فمن يرتع يقَع، ومن يلقط يسقط.
وكان علي بن الحسين يعظ الناس ويقول: "يا نفس، حتَّامَ إلى الحياة رُكونُك، وإلى الدنيا وعمارتها سكونُك؟! أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك، وبمن وارته الأرض من أُلاَّفِك، ومن فُجِعْت به من إخوانك ونُقِلَ إلى دار البِلى من أقرانك؟!".
فهم في بطون الأرض بعد ظهورها مَحاسنهم فيها بَوَالٍ دواثر
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم وساقتهم نَحو الْمنايا المقادر
وخلَّوا عن الدنيا وما جمعوا لها وضمتهم تحت التراب الحفائر
كم اختلست أيدي المنون من قرون بعد قرون، وكم غيرت ببلاها وغيبت أكثر الرجال في ثراها.
انظر إلى الأمم الخالية والملوك الفانية، كيف أنستهم الأيام وأفناهم الحِمام، فانمحت آثارهم وبقيت أخبارهم.
يا قوم، الحذر الحذر، والبدار البدار من الدنيا ومكايدها وما نصبت لكم من مصايدها، وتجلت لكم من زينتها، واستشرفت لكم من بهجتها. وكيف يحرص عليها لبيب أو يُسرّ بها أريب وهو على ثقة من فنائها؟!
فإلى متى ـ يا أخي ـ ترقع بآخرتك دنياك وتركب في ذاك هواك؟! إني أراك ضعيف اليقين يا رافع الدنيا بالدين، أبهذا أمرك الرحمن أم على هذا دلك القرآن؟!
تُخرب ما يبقى وتعمُرُ فانيا فلا ذاك موفورٌ ولا ذاك عامرُ
فهل لك إن وافاك حتفُك بغتة ولَم تكتسب خيرًا لدى الله عاذر
أترضى بأن تُقضى الحياة وتنقضي ودينُك منقوصٌ ومالُك وافر
زينوا العلم بالعمل، واشكروا القدرة بالعفو، وخذوا الصفو ودعوا الكَدَرَ، يغفر الله لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.
(1/4313)
قيمة الدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الديون والقروض, الزهد والورع
خالد بن محمد الشارخ
الرياض
اللحيدان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة الناس بالدنيا. 2- حقيقة الدنيا. 3- ظاهرة تحمل الديون والقروض من أجل الكماليات. 4- حرمة الربا ومفاسده وأضراره. 5- رسالة إلى المدين وصاحب الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
أيها الإخوة في الله، إنه مع انفتاح الدنيا وتنوع زخرفها وخاصة في هذه الأيام أصبح الناس ـ وللأسف ـ يتهوكون في ظلمات هذه الدنيا، ويلهثون وراء سرابها، ويبذلون كلّ غال ونفيس في سبيل الحصول ولو على الحقير القليل من متاع هذه الدنيا، وهي دنيا مهما ازدان متاعها وكملت خيراتها فهي دنيا حقيرةٌ صغيرة، والذي يدلك على حقارتها وهوانها على الله أنك ترى الكفار فيها يتنعمون وبمتاعها يتلذذون، ولذلك يقول المصطفى : ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
ولعظم الفتنة بالدنيا حذرنا الله منها في كتابه العزيز فقال: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24]، وقال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45]، وقال تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا [الحديد:20]، وقال تعالى: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64].
ويقول النبي وهو يخاطب أصحابه: ((فوالله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)) متفق عليه. وما زال النبي يحذر أصحابه من خطر الفتنة بالدنيا، فقد كان يقول وهو على منبره والصحابة جلوس حوله: ((إن مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) متفق عليه.
بل كان الرسول يذكر أصحابه بحقارة الدنيا في كل وقت وفي كل فرصة تسنح، فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله مرّ بالسوق والناس كنفين ـ عن جانبين ـ فمر بجدي أسك ـ صغير الأذن ـ ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال: ((أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! ثم قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) قالوا: والله، لو كان حيًا كان عيبًا أنه أسك، فكيف وهو ميت؟! فقال: ((فوالله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) رواه مسلم.
أيها الإخوة في الله، وكما سمعتم فالدنيا لا تساوي شيئًا عند الله، وليست هي محط الثناء أو الذم، وليس الغني فيها هو الغني يوم القيامة، أو الفقير الحقير فيها هو الفقير الحقير يوم القيامة، كلا وألف كلا، بل يقول رسول الله : ((إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، وقليل ما هم))، يعني تصدق به عن يمين وشمال ومن خلفه، بل جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام )) رواه الترمذي وقال: "حديث صحيح"، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين، وأصحاب الجدّ ـ أي: أصحاب الغنى ـ محبوسون، غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار)) متفق عليه.
أيها المسلمون، ولكن مع علمنا اليقيني بهذا الأمر واستقراره في نفوسنا نجد الكثير من المسلمين ـ وأقول: الكثير منهم وللأسف ـ من يحاول جاهدًا أن يعيش عيشة الأغنياء المترفين حتى ولو كلفه ذلك كل شيء، فتجده يدخل في متاهات من الديون ومن القروض والتقسيطات في سبيل أن تكون له سيارة فارهة، وأن يكون له منزل فاخر ذو رخام جذاب ومدخل جميل وزخارف تأخذ العقول والألباب، كل هذا وتجده أحيانًا لا يمتلك إلا مرتبه الشهري، بل ربما لا يبقى له من مرتبه شيء يعيش به هو وأبناؤه، فقسط لسيارته، وقسط للأثاث، وقسط لدين هنا أو هناك.
وهكذا أثقلت كواهل الناس وأدخلت ذمَمهم بحقوق مالية كانوا في غنى عنها، وما ذلك ـ أيها الإخوة ـ إلا بسبب انفتاح الدنيا وتتابع الناس وراءها، واستجابتهم لكل جديد يحدث وكل موضة يطير بها الناس، وإلا ففي السابق كان الناس يكفيهم أن يعيشوا ببيت يكنفهم عن الناس، ويكنفهم عن حر الشمس وبرد الشتاء، أما الآن فأصبحت الناس تتساقط في هذه الهوة السحيقة، وتقع فيها دون وعي أو إرشاد، وبالمقابل فإن المستفيد من الشركات والمؤسسات وغيرها أصبحت هي الأخرى تدعو الناس لذلك، وأصبحت تمتص دماء هؤلاء المساكين في سبيل أن يوفروا لهم مركبًا فارهًا ومنزلا فاخرًا.
وربما تجد شبابًا وفي زهرة شبابهم متورطين بديون وأقساط وقروض، ولكن نحن ـ أيها الإخوة ـ قد نكون مشاركين في تكليف هؤلاء الشباب وإجبارهم في الدخول بأقساط وديون، ربما لا يخرجون منها إلا بعد دهر من الزمان، وربما نكون نحن المتسببين في ذلك من حيث نشعر أو لا نشعر، فها هي العوائل تغالي في المهور، فمهرٌ باهظ الثمن للزوجة، وعطية للأم، وعطية للأخ وهكذا، وربما يجبر الشاب على توفير سكن خاص لزوجه الميمون، وأن يكون المنزل مؤثثا بأجمل الأثاث وأحسنه. وهكذا يتكلف الشاب ويدخل في متاهات من الديون والأقساط، وما ذنبه إلا أنه أراد العفاف والزواج.
أيها الإخوة، وها نحن نسمع سويًا ونرى ما يعلن في الجرائد وغيرها عن عروض القرض الذي تفتحه هذه البنوك الربوية، وها هم لما علموا أن الناس سقطوا في متاهات الديون والأقساط فتحوا بابًا جديدًا من الشر، فالقرض لك من البنك مع فائدة سنوية مقدرة يأخذها منك البنك، وإذا تأخرت بالسداد فإن الفائدة تضاعف عليك. هذا أيها الإخوة، هذا بعينه ربا الجاهلية الذي قال عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع: ((ألا إن ربا الجاهلية تحت قدمي، ألا إن ربا العباس تحت قدمي)) ، بل هو أشد من ربا الجاهلية، سبحان الله.
أرأيتم ـ أيها الإخوة ـ ومع تطور العالم وصعوده في أجواء الرقي كما يزعمون ها هم يعودون مرة أخرى إلى الجاهلية الأولى، إن ربا الجاهلية الأولى قائم على أن الرجل يكون له على الرجل المال المؤجل، فإذا حلّ الأجل قال له: أتقضي أم تربي؟ فإن وفاه وإلا زاد هذا في الأجل، وزاد هذا في المال، فيتضاعف المال في ذمة المدين، فحرم الله ذلك بقوله: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، ولكن البنوك هذه الأيام وبعرضها الأخير قد زادت على ربا الجاهلية؛ فهم يأخذون فائدة على القرض حتى ولو سددت في الأجل المحدد، لكن الفائدة تزاد عليك إذا أخرت المال أكثر من ذلك.
إنه الربا أيها الإخوة، الربا الذي لعن النبي آكله وموكله وشاهديه وكاتبه، ويقول جل وعلا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ [البقرة:275]، وقال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، بل أخبر النبي أن درهمًا واحدًا من الربا أشد من ست وثلاثين زنية، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الربا اثنان وسبعون بابًا، أدناها كأن يأتي الرجل أمة)).
فالربا أنانية وجشع وقهر وهمجية وتخلف ومنبت ضغائن وحقد وكراهية، تهدم العُرَى الاجتماعية والروابط الإنسانية، وتضعف المروءة، بل وتقتلها.
يقول أحد العلماء: "والربا الملعون من أقدم عصوره وليد اليهود، وقد فشا في الجاهلية الأولى بسبب مجاورة اليهود، وما زال اليهود السبب في هذا العصر، وذلك بسبب سيطرة اليهود على البنوك والاقتصاد العالمي، مع ما يبثونه من تحبيبه وتزيينه بشتى الدعايات، وبواسطة عملائهم من النصارى المستشرقين والعرب المتفرنجين، ولذلك يقول الله تعالى عن بعض صفات اليهود، والتي منها أكل الربا والتي استحقوا عليها اللعنة الخالدة والمتواصلة، قال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:160، 161].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة، إني من هنا من على هذا المنبر أناصح إخواني المديونين أن يستغيثوا بالله في سداد دينهم، وليعلموا أن الله سيعينهم، وأنهم إذا اتكلوا على الناس واعتمدوا عليهم فإن الله لن يعينهم، قال رسول الله : ((من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن"، وأن لا يثقلوا كواهلهم بديون لا قِبَل لهم بها، وليعلموا أن ما لا يقدرون عليه اليوم سوف يقدرون عليه غدًا، ولا يستبطئوا رزقَ الله عليهم، فإن كل إنسان مكتوب له رزقه وأجله، ولكن توكّل على الله، ((ولو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا)).
وأما أنت ـ يا صاحب الدّين ـ فأذكرك بقول الله تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فعليك بالصبر على دينك، وأن لا تكلف أخاك المسلم ما لا يطيق، فقد تبتلى أنت أيضًا بدَين، فكما تحبّ أن يَصبر عليك الناس فاصبر على الآخرين.
(1/4314)
الجنة
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
سعد بن سعيد الحجري
أبها
جامع آل غليظ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العمل الصالح. 2- اغتنام الوقت في العمل الصالح. 3- وصف الحنة ونعيمها. 4- وصف أهل الجنة في الجنة. 5- نعيم أهل الجنة دائم لا يزول. 6- أفضل ما يعطاه أهل الجنة. 7- الجنة دار تشريف لا دار تكليف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: خلقنا الله تعالى للعمل، والعمل المطلوب هو العمل الصالح الذي أمر الله به الرسل، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]. وهو خير زاد يتزود به العبد، وخير لباس تزين به، وهو النجاة في الدنيا والنجاة في الآخرة, وهو الذي تحفظ به الأوقات وتدوم الطاعات وتتضاعف الحسنات وتغفر السيئات وترفع الدرجات، وهو الذي يسعد به الإنسان في الدنيا إذ يفرح بالطاعة ويتلذذ بها، قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، ويسعد به في الآخرة إذ يسهل عليه نزع الروح، ويوسع له في قبره، ويظله الله في ظله يوم القيامة، ويثقل ميزانه، ويأخذ كتابة بيمينه، ويمر على الصراط مسرعًا، ويدخل الجنة من أبوابها، ويتنعم بنعيمها.
ومن أراد النعيم الدائم فليغتنم الحياة الدنيا بالعمل الصالح, ويغتنم الشباب بالعمل الصالح, والصحة بالعمل الصالح، والغنى بالعمل الصالح، والفراغ بالعمل الصالح. والواجب أن نعمل قليلاً لنسعد الأبد، والحياة الدنيا قصيرة، قال الله تعالى: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]، وما هي إلا كمن أدخل إصبعه في البحر فلينظر بما يرجع.
ولقد أشغلها الصالحون بالعمل الصالح حتى الموت عملاً بقوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وكانوا يقولون: "لولا ثلاث ما أحببنا العيش أبدا: الظمأ لله في الهواجر، والسهر لله في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر". رحلوا من الدنيا وقد أحبوا لقاء الله واشتاقوا للجنة، يقول قائلهم:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
ولذا فإن الواجب أن نشغل دنيانا بطاعة الله واكتساب رضوانه، لنظفر بالمطلوب وننجو من المرهوب ونخلد في جنة عرضها السموات والأرض، ولزيادة الشوق إلى الجنة فإن الجنة هي الجزاء العظيم والثواب الجزيل الذي أعده الله لأوليائه وأهل طاعته، وهي نعيم كامل لا يشوبه نقص ولا يعكر صفوه كدر، وهي الدار الأبدية التي أعدها الله لأهل طاعته. فاستمع معي واقرأ معي بعض ما ورد في وصف هذا النعيم:
أولاً: فضلها، للجنة فضائل تفوق الحصر، فمما ورد في فضلها أنه لا مثل لها إذ فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، موضع السوط فيها خير من الدنيا وما فيها، يقول الله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، ويقول تعالى في الحديث القدسي الذي رواه أبو هريرة: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)) رواه البخاري، ويقول : ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري.
ثانيًا: أسماؤها، للجنة أسماء كثيرة وردت في القرآن، منها أنها تسمى الجنة، وقد ذكرت في القرآن بالأفراد حوالي 66 مرة، وذكرت بالجمع جنات 69 مرة، وتسمى جنه عدن، والعدن هو الإقامة الدائمة، قال تعالى: رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [غافر:8]، وتسمى دار المتقين قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل:30]، وتسمى دار السلام يقول تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الأنعام:127]، وتسمى جنات النعيم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ [لقمان:8]، وتسمى دار الرضوان يقول تعالى لأهل الجنة كما في الحديث القدسي: ((اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا)) متفق علية. وذكر ابن القيم من أسمائها دار الخلد ودار المتقين وجنة المأوى ودار الحيوان والفردوس والمقام الأمين ومقعد الصدق وقدم الصدق وغيرها.
ثالثًا: أبوابها، للجنة من الأبواب ثمانية، وسعة كل باب مثل ما بين مكة وهجر، كما في حديث أبي هريرة وفيه: ((والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة لكما بين مكة وهجر)) متفق عليه. وورد في سعة أبوابها أنها ما بين المصراعين مسيرة أربعين سنة، ففي حديث حكيم بن معاوية عن أبيه قال : ((وما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين، وليأتين عليه يوم وإنه لكظيظ)) رواه أحمد بسند صحيح.
رابعًا: درجات الجنة، الجنة عالية ودرجاتها عالية؛ لأن أهلها في عليين، ففي الجنة مائة درجة، يقول : ((إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجتين مثل ما بين السماء والأرض)) رواه الترمذي بسند صحيح. وقد ورد عند البخاري: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله)) الحديث. قال ابن القيم: "فإما أن تكون هذه المائة من جملة الدرج، وإما أن تكون نهايتها".
وأعلى درجات الجنة الوسيلة، ونرجو أن تكون لرسول الله ، قال : ((الوسيلة درجه عند الله ليس فوقها درجه، فاسألوا الله أن يؤتيني الوسيلة)) رواه أحمد بسند صحيح.
وأعلى أهل الجنة منزلة هم الذين غرس الله كرامتهم بيده وختم عليها فلم ترَ مثلها عين ولم تسمع مثلها أذن ولم يخطر على قلب بشر، وأما أدناهم منزلة فهم من يعطى مثل ملك ملك من ملوك الدنيا عشر مرات كما ورد من حديث المغيرة عند مسلم , وفي رواية: ((يعطى مثل الدنيا عشر مرات)) كما في حديث ابن مسعود الذي أخرجه البخاري ومسلم. وصاحب هذه المنزلة هو آخر من يدخل الجنة.
ودرجاتها تتفاوت حسب إيمان أهلها وكثرة أعمالهم، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد قال : ((إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما ترون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)) ، قالوا: يا رسول الله، منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم، قال: ((بل والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)).
خامسًا: تربتها، تراب الجنة المسك كما في حديث أنس قال : ((أدخلت الجنة وإذا ترابها المسك)) متفق عليه، وفي رواية أحمد والترمذي: ((الزعفران)). قال ابن القيم: "والجمع بينهما أن يكون التراب من الزعفران، فإذا عجن بالماء سار مسكًا، أو يكون زعفران باعتبار اللون ومسك باعتبار الرائحة، وهذا أجود".
سادسًا: أنهارها، في الجنة خمسة أنهار وقد تكون أكثر: نهر من ماء غير أسن، ونهر من لبن لم يتغير طعمه، ونهر من خمر لذة للشاربين، ونهر من عسل مصفى، قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى [محمد:15]، ونهر خامس وهو نهر الكوثر، قال تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وقال : ((الكوثر نهر أعطانيه الله في الجنة، ترابه مسك، أبيض من اللبن، أحلى من العسل، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر، آكلها أنعم منها)) ، وفي رواية: ((حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب ريحا من المسك)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.
سابعًا: عيونها، في الجنة عيون عذبة، منها عين الكافور، قال تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ [الإنسان:5، 6]، وعين التسنيم قال تعالى: وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ [المطففين:27، 28]، وعين السلسبيل قال تعالى: عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً [الإنسان:18].
ثامنًا: قصورها، في الجنة قصور مبنية من الذهب والفضة تَسُر الناظرين ويَتَنَعم بها الساكنون, قال : ((لبنة من ذهب ولبنة من فضه وما بينهما المسك، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد فلا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفني شبابهم)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح، وقال : ((فيها غرف يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، لمن أطعم الطعام وألان الكلام وتابع الصيام وصلى بالليل والناس نيام)) كما في حديث أبي مالك الأشعري عند أحمد وابن حبان وهو حديث حسن، وقال : ((في الجنة للمؤمن خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضا)) كما في حديث عبد الله بن حبيش عند مسلم. وبشرت خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه.
تاسعًا: نورها، في الجنة نور عظيم لا ينطفئ، ومما يدل على ذلك أنه لا يوجد في الجنة شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، قال شيخ الإسلام في الفتاوى: "والجنة ليس فيها شمس ولا قمر ولا ليل ولا نهار، لكن تعرف البكرة والعشية بنور يظهر من قبل العرش".
عاشرًا: ريح الجنة، للجنة رائحة عبقة زكيهً تملأ جنباتها، وهذه الرائحة يجدها المؤمن من مسافات شاسعة، ففي المسند وعند النسائي بسند صحيح قال : ((من قتل رجلا من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين سنة)) ، وفي صحيح البخاري قال : ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين سنة)) ، وقال : ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم.
الحادي عشر: أشجارها، فيها الحدائق والأعناب والنخيل والرمان والفاكهة والسدر المنضود وغيرها. وثمر هذا الشجر لا ينقطع، بل أكلها دائم وما له من نفاد، ومن أشجار الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام وما يقطعها كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه، ومنها سدرة المنتهى التي رآها عند معراجه، ووصف نبقها أنها مثل قلال هجر, والورقة الواحدة كآذان الفيلة، ففي الحديث قوله : ((حتى انتهى إلى سدرة المنتهى ونبقها مثل قلال هجر)) ، وورد قوله : ((مثل آذان الفيلة)) ، والحديث متفق عليه.
وسيقان أشجار الجنة من الذهب كما في حديث أبي هريرة، قال : ((ما في الجنة شجرة إلا وساقها من ذهب)) رواه الترمذي والبيهقي بسند صحيح. وكثرة أشجار الجنة بالإكثار من الذكر.
الثاني عشر: دوابها، في الجنة من الطير والدواب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:21]، وقال عن الكوثر: ((فيه طير أعناقها كأعناق الجزر)) أي: الجمال. رواه الترمذي وسنده حسن. وفيها نوق مخطومة كما في حديث المتصدق بناقته المخطومة، قال : ((لك بها عند الله سبعمائة ناقة مخطومة في الجنة)) رواه مسلم.
الثالث عشر: جَمَالهم، جَمَالُ أهل الجنة يفوق الخيال، قال : ((فأول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضواء كوكب دري في السماء)) كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه، و((يدخلون الجنة جردًا مردًا كأنهم مكحلون أبناء ثلاث وثلاثين)) كما في حديث معاذ عند الترمذي وأحمد وهو صحيح، و((أخلاقهم على خلق رجل واحد، وعلى صورة أبيهم آدم، ستون ذراعًا في السماء، لا يبصقون ولا يمتخطون ولا يتغوطون، رشحهم المسك)) كما في حديث أبي هريرة.
وأهل الجنة لا ينامون، يقول : ((النوم أخو الموت، ولا ينام أهل الجنة)) رواه ابن عدي وأبو نعيم وغيرهما قال الألباني: "والحديث صحيح من بعض طرقه عن جابر".
الرابع عشر: نساؤهم، لأهل الجنة في الجنة زوجات عفيفات جميلات، منهن نساء الدنيا، ومنهن الحور العين، فأما نساء الدنيا فزوجة المؤمن في الدنيا زوجته في الآخرة إذا كانت مؤمنة، قال تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:70]، وأما إذا تزوجت المرأة أكثر من زوج فهي لآخرهم كما في حديث أبي الدرداء: ((المرأة لآخر أزواجها)) رواه الطبراني بسند صحيح.
وأما الحور العين فهن حور عين كواعب أترابا عربا كأنهن الياقوت والمرجان، وفي الحديث المتفق عليه قال : ((ولكل واحد زوجتان، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن)) ، وعند البخاري قال : ((ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)). ويعطى المؤمن في الجنة قوة مائة رجل، فعن أنس أن النبي قال: ((يعطى المؤمن في الجنة كذا وكذا من النساء)) ، قيل: يا رسول الله، أويطيق ذلك؟! قال: ((يعطى قوة مائة رجل)) رواه الترمذي بسند صحيح.
_________
الخطبة الثانية
_________
الخامس عشر: طعامهم، يتفكه أهل الجنة في الجنة، ففيها ما تشتهيه الأنفس من المآكل والمشارب، قال تعالى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة:20، 21]، وقال: وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ [الزخرف:71]، وقال: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24].
وأول طعامهم زيادة كبد الحوت كما عند البخاري أن ابن سلام سأل النبي عدة أسئلة، منها عن أول شيء يأكله أهل الجنة، فقال : ((زيادة كبد الحوت)) ، وعند مسلم من حديث ثوبان أن يهوديًا سأل الرسول : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: ((زيادة كبد الحوت)) ، قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: ((ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها)) ، قال: فما شرابهم عليه؟ قال: ((من عين تسمى سلسبيلا)) ، قال: صدقت.
ولهم في الجنة ماء غير آسن ولبن لم يتغير طعمه وخمر لذة لشاربين وعسل مصفى، ولا يتغوطون من أثر الطعام والشراب، ولا يمتخطون ولا يبصقون، ويخرج أثر الطعام جشاء كجشاء المسك، قال : ((أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يتفلون ولا يتبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون)) ، قالوا: فما بال الطعام؟! قال: ((جشاء كجشاء المسك)) رواه مسلم.
السادس عشر: كسوتهم، في الجنة الألبسة الجميلة الناعمة والحلي الغالية والتيجان والأواني. فمن لباسهم السندسُ والإستبرقُ, وأساورُهم الذهب والفضة واللؤلؤ، قال تعالى: عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان:21]. ولما أعجب الصحابة بثوب حرير قال : ((لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أفضل من هذا)) رواه البخاري.
ولهم أمشاط من الذهب والفضة، ويتبخرون بعود الطيب مع أن روائحهم تفوح بالمسك، ففي البخاري من حديث أبي هريرة قال : ((وآنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووقود مجامرهم الألوة ـ أي: عود الطيب ـ ورشحهم المسك)). ومن حليهم التيجان، ففي ذكر خصال الشهيد قال : ((يوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها)) رواه الترمذي وابن ماجة بسند صحيح.
وثياب أهل الجنة وحليهم لا تبلى ولا تفنى، ففي صحيح مسلم قال : ((من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه ،ولا يفنى شبابه)).
السابع عشر: سوقهم، في الجنة سوق يسوقه أهل الجنة ويعودون منه بجمال أشد من جمالهم الأول، فقد روى مسلم عن أنس أن رسول الله قال: ((إن في الجنة لسوقًا يأتونه كل جمعة فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله، لقد ازددتُّم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم ـ والله ـ لقد ازدتُّم حسنًا وجمالاً)).
الثامن عشر: اجتماعهم، يزور أهل الجنة بعضهم بعضًا، ويجتمعون في مجالس طيبة، يتحدثون ويذكرون ما كان منهم في الدنيا وما من الله عليهم من دخول الجنة، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، وقال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:25-28]، وقال: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:27] إلى قوله: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ [الصافات:61].
التاسع عشر: أمانيهم، لأهل الجنة في الجنة ما يتمنون، قال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]. وقد ورد في الحديث بعض أمانيهم، فمنها رجل يريد الزرع لحبه له، فيكون البذر والنمو والنضج في آن واحد، روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إن رجل من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع، فقال له: ألستَ فيما شئت؟ قال: بلى، ولكني أحب الزرع، فبذر فبادر الطرف نباته ـ أي: سابق النظر ـ واستواؤه واستحصاده، فكان أمثال الجبال، فيقول الله تعالى: دونك ـ يا ابن آدم ـ فإنه لا يشبعك شيء)). وآخر يتمنى الولد فيحقق الله أمنيته في ساعة واحدة، حيث تحمل وتضع في ساعة واحدة، فقد روى الترمذي وأحمد وابن حبان بسند صحيح عن أبي سعيد أن النبي قال: ((المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة كما يشتهي)).
العشرون: أفضل ما يعطاه أهل الجنة، كل الجنة نعيم عظيم لا يمل منه أهل الجنة، وأفضل ما يعطونه رضوان الله تعالى عليهم، ففي حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير كله في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى ـ يا رب ـ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أكثر من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا)) متفق عليه.
وأحب شيء إليهم النظر إلى وجه الله الكريم، فعند مسلم والترمذي عن صهيب أن رسول الله قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟! قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى)).
الحادي والعشرون: الجنة دار نعيم لا دار تكليف، جعل الله الجنة للنعيم المقيم والجزاء العظيم، فليس فيها تكليف ولا عمل، وأما ما ورد في صفة أول زمرة يدخلون الجنة أنهم يسبحون بكرة وعشيا كما عند البخاري فهذا ليس من باب التكليف، وإنما من باب اللذة والنعيم، لحديث جابر عند مسلم: ((يلهمون التسبيح والتكبير كما تلهمون النفس)). فكما أن نَفَس الإنسان لذة لا كلفة فيه وهو من كمال الحياة، فكذلك التسبيح والتكبير هو نَفَسُهم لأن قلوبهم تنورت بمعرفة الرب تعالى وامتلأت بحبة، ومن أحب شيئًا أكثر من ذكره، قال شيخ الإسلام: "هذا ليس من عمل التكليف الذي يطلب له ثواب منفصل، بل نفس هذا العمل من النعيم الذي تتنعم به الأنفس وتتلذذ به".
ومن دخل الجنة لم يخرج منها، بل يخلد فيها أبد الآبدين، قال تعالى: ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [ق:34]، وقال تعالى: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]، والآيات في خلودهم الأبدي كثيرة، ويقول : ((يناد مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم تنعموا فلا تبأسوا أبدا)) ، ثم قرأ: أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]. رواه مسلم.
اللهم اجعلنا من أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(1/4315)
حفظ اللسان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, خصال الإيمان
سعد بن سعيد الحجري
أبها
جامع آل غليظ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سعة رحمة الله وعظيم عفوه. 2- أهمية التقوى وثمارها. 3- بم تتحقق التقوى؟ 4- نوافذ لهلاك العبد. 5- أهمية العناية بحفظ اللسان. 6- أقسام الكلام. 7- ثمرات قول الخير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، ولا تموتن إلا أنتم مسلمون. أطيعوه فلا تعصوه، واذكروه فلا تنسوه، واشكروه فلا تكفروه، وأنيبوا إليه وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون، واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون.
واعلموا أن الله أمهلكم ولم يهملكم، وأن رحمته وسعت كل شيء، في البر مع سعته، وفي البحر مع سعته، وفي الجو مع سعته، وسعت العقلاء، ووسعت غير العقلاء، رحمان رحيم، عفو غفور، لطيف ودود، يحب أهل الطاعة لطاعتهم وهو الغني عنهم، ويبغض أهل المعصية لمعصيتهم وهو لا يتضرر بهم، سبقت رحمته غضبه، يقول تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7].
والله تعالى أرحم بخلقه من أنفسهم، يجزئ على الحسنة عشرًا ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف، ويكتب السيئة إذا تركت من خوفه حسنة، ويمهل العاصي ست ساعات، فإن تاب لم تكتب سيئة، وإن لم يتب كتبت سيئة واحدة.
ومن رحمته بالنفس أنه نهى عن قتلها حتى من صاحبها، يقول تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، وقال للذي قتل نفسه: ((عبدي بادرني بنفسه، حرمت عليه الجنة)). وهو تعالى أرحم بالعبد من الأم الحنون بولدها، ففي غزوة حنين أسرت امرأة وولدها، فلما وجدت ولدها ألقت بنفسها عليه وضمته إلى صدرها، قال : ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟)) قالوا: لا يا رسول الله، قال: ((فالله أرحم بعباده من هذه الأم بولدها)).
ومن رحمته بخلقه تعالى أنه شرع لهم ما يتقون به المعاصي في الدنيا، ويتقون به النار في الآخرة؛ لأن المعاصي عذاب الدنيا، والنار عذاب الآخرة.
ومما شرع لهم ووصاهم به التقوى؛ لأنها وقاية من عذاب الله، تتضمن فعل الأوامر وترك النواهي، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]. والتقوى وقاية من الضيق والكرب والعسر، ووقاية من الفقر والحاجة والفاقة، يقول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وقال أحد السلف: "ما احتاج تقيّ قط".
والتقوى علامة على قبول العمل، والعمل المقبول هو أحب العمل إلى الله، وأحب العمل إلى رسوله، وأثقل الأعمال في الخيرات هو العمل الذي ينتفع به صاحبه، وإذا قبل الله العمل حفظ صاحبه في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. والتقوى صفة من صفات أهل الجنة لأنهم وقوا أنفسهم وأهليهم نارًا وقودها الناس والحجارة، وسلكوا طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، يقول الله تعالى: وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73].
والتقوى نجاة من النار؛ لأن التقوى أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية بفعل الأوامر وترك النواهي، يقول الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71، 72]، ويقول: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61]. والتقوى سبيل الفلاح وسبب الفوز في الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
ولأهمية التقوى فهي خير لباس يتزين به العبد؛ لأنه زينة القلوب، والإنسان بقلبه وليس ببدنه، يقول تعالى: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]. وهي خير زاد يتزود به العبد؛ لأنها زاد الآخرة وزاد الفطرة وزاد الملائكة وزاد الأنبياء والأولياء، يقول تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
والتقوى مقياس العباد ومقياس الأعمال، يقول الله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ويقول : ((إنما الأعمال بالنيات)). وقد اختار الله لها أشرف عضو في جسد الإنسان وهو القلب، يقول : ((التقوى ها هنا)) ثلاث مرات وأشار إلى صدره.
ولضرورتها للإنسان أمر بها في كل زمان، وأمر بها في كل مكان، وأمر بها على جميع الأحوال؛ لأن الله حي لا يموت، تزول جميع الملكيات إلا ملكه، ولأنه الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولأنه سميع يسمع جميع الأصوات، ولأنه بصير يبصر جميع المرئيات، ولأنه عليم يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يقول : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
ولا تتحقق التقوى إلا بفتح أبواب الطاعات ودوامها، ليكون الذكر وقاية من الضياع في النهار والضياع في الليل، وتكون الصلاة وقاية من الفحشاء والمنكر، وتكون الصدقة وقاية من الشح والبخل ومن الخطيئة ومن غضب الرب ومن ميتة السوء، ويكون الصوم وقاية من قول الزور ومن العمل به ومن اللغو والرفث ومن الشهوات، ويكون الحج وقاية من الرفث والفسوق.
ولا تتحقق التقوى إلا بامتثال الجوارح لأوامر الله واجتنابها لنواهي الله تعالى ومراقبتها لله، ولا تتحقق التقوى إلا بسد نوافذ الهلاك التي أهلكت الدنيا والآخرة، والتي أفسدت الأخلاق والفطر والقلوب، وفي فتح نوافذ الهلاك يضيع العمل ليكون هباءً منثورا، يتحسر صاحبه ويعض أصابع الندم، يقول الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، ويقول : ((لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاء، يجعلها الله هباءً منثورا)) ، قال الصحابة: من هم يا رسول الله؟ قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)).
وفتح نوافذ الهلاك يضيع العمر حتى يكون كأنه ساعة أو كأنه عشية أو ضحى أو يوم، يقول الله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [الأحقاف:35]، ويقول: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ [المؤمنون:112، 113].
وفتح نوافذ الهلاك يمرِّد الجوارح عما أمرت به، ولا تنتهي عما نهيت، ولا تصدق بخبر، ولا تطبق حكما، همها البطون والفروج والأهواء والشهوات، فلا الأبصار تبصر، ولا الأسماع تسمع، ولا القلوب تفقه، إن هم إلا كالأنعام، يقول الله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
واعلموا ـ عباد الله ـ أنّ أوسع نافذة للهلاك هي نافذة اللسان، صغير حجمه، كبير جرمه، وكان أوسع نافذة للهلاك؛ لأن أكثر الخطايا منه، فاللعن منه، واللغو منه، واللهو واللعب والاستهزاء والسخرية والغيبة والنميمة والكذب والافتراء والقيل والقال، ولو وقف الإنسان على عمله لعلم أن قوله ثلثا العمل أو أكثر، ولو كان الإنسان يشتري قرطاس الكتابة لترك الكثير من الكلام، ولو كان يعطي عن كل كلمة قرشًا واحدًا لترك الكثير من الكلام، فكيف إذا كان يعطي عن كل كلمة حسنة؟! يقول : ((أكثر خطايا ابن آدم في لسانه)) ، ويقول: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ، وقال مورق العجلي: "أنا أدعو الله من عشرين سنة أن يوفقني إلى ترك ما لا يعنيني، ولا أزال أدعو"، وقال ابن مسعود: (يا لسان، قل خيرًا تغنم، أو اسكت عن شر تسلم، من قبل أن تندم).
وكان اللسان أوسع نافذة للهلاك؛ لأنه أكثر الجوارح عملاً، لا يتقيد بزمان بل في كل زمان، ولا يتقيد بمكان بل في كل مكان، ولا مجال دون مجال بل على جميع الأحوال، فالإنسان يتكلم في النور والظلمة والقيام والقعود، ولو نظرنا إلى أكثر الجوارح عملاً في العبادات لوجدناه اللسان، فهو جارحة العمل في الذكر، وهو أكثرها في الصلاة، وهو نوع من أنواع الصدقة لقوله : ((والكلمة الطيبة صدقة)) ، وقوله: ((وبكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة)) ، وكفه هو الصيام الحقيقي، يقول : ((ليس الصيام من الأكل والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث)) ، ويقول: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)).
واللسان هو جارحة العمل في المجالس، وهو الذي يشغل المجالس، وهو جارحة العمل في تعليم العلم، وهو جارحة العمل في الدعاوى والحقوق.
وكان اللسان نافذة الهلاك لأنه ترجمان البدن، يترجم عن القلب وعن العين وعن الأذن وعن اليد وعن القدم وعن البطن وعن جميع الجسد، فكأنما يحمل الأوزار كلها، وكأنما ينقل إذًا البدن كله، ولربما دعا إلى فساد الجوارح كلها، أو دعا الغير إلى الفساد والإفساد، فهو مصدر خطر على الجسد، ومصدر خطر على المجتمع كله، يقول : ((إذا أصبح ابن آدم فإن الجوارح كلها تكفر اللسان وتقول له: اتق الله فينا، فإنما نحن بك؛ فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) ، ويقول: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف ونهي عن منكر أو ذكر الله، وإن العبد يتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في جهنم سبعين خريفًا)) ، ويقول: ((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة)) ، وقد كان السلف رحمهم الله يعدون كلامهم في الأسبوع، وقد ورد عن سليمان عليه السلام قوله: (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب).
_________
الخطبة الثانية
_________
ولنعلم ـ عباد الله ـ أن الكلام أربعة أقسام: قسم ضرر محض يجب الكف عنه واجتنابه؛ لأنه حرام يؤخذ عليه العبد ويكتب الله به سخطه إلى يوم القيامة، وقسم نفع محض، فهذا خير يجب الإكثار منه والمداومة عليه؛ لأنه رضوان الله الذي يكتب الله به رضوانه إلى يوم القيامة، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقد يغلب ضرره نفعه، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وقسم ليس فيه نفع ولا ضرر فهو من الفضول والضياع الذي يضيع العمل ويضيع العمر.
واللسان أخوف ما يخاف على العبد؛ لأنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، ولأن القول من العمل، ولأنها مملوكة ما دامت في صدر العبد، ومالكة إذا خرجت من لسانه. قال سفيان بن عبد الله الثقفي: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: ((قل: أمنت بالله، ثم استقم)) ، قال: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه وقال: ((هذا)) أي: اللسان. وقال معاذ بن جبل: كنت مع الرسول في سفر وكنت قريبًا منه، فقلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: ((لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)) ، ثم قال: ((ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل))، ثم تلا قول الله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، ثم قال: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)) ، ثم قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه وقال: ((كف عليك هذا)) ، فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!)).
والواجب على المسلم أن يحفظ لسانه بواحد من شيئين: إما بقول الخير ليكون من الأخيار، وإما بالصمت ليسلم من عهدة الكلام.
وبقول الخير ينال الإيمان الذي يأمن به في الدنيا وفي الآخرة، يقول : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) ، وبقول الخير ينال رضوان الله، ومن رضي الله عنه كان من حزب الله وكان من أهل الجنة، يقول : ((وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه)) ، ومن رضي الله عنه لم يسخط عليه أبدًا، فيوم القيامة يقول الله: ا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، فيقول الله تعالى: أرضيتم؟ قالوا: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟! قال: أعطيكم أفضل من ذلك؟ قالوا: وما أفضل من ذلك؟! قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا.
وبقول الخير يدخل العبد الجنة، يقول : ((من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)) ، ويقول: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) ، ويقول: ((إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وواصل الصيام وقام بالليل والناس نيام)) ، وبقول الخير ينجو الإنسان من النار، يقول : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة)) ، سمع رسول الله رجلاً يقول: أشهد أن لا إله إلا الله. قال: ((خرجت بها من النار)). وبقول الخير يتحقق الإسلام ويكون العبد من أفضل المسلمين، يقول : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ، ويقول: ((أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده)). وبالصمت ينجو الإنسان من عذاب الله، يقول : ((من صمت نجا)) ، ويقول لعقبة بن عامر لما سأله عن النجاة: ((أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)).
وقد عرف السلف خطورة اللسان فأمسكوه إلا عن الخير، ها هو أبو بكر يمسك لسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد)، وها هو عمر يقول: (من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به)، ويقول ابن مسعود: (والله، ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان)، ويقول: (يا لسان، قل خيرًا تغنم، وأمسك عن شر تسلم، من قبل أن تندم)، ويقول الربيع بن خثيم: "لا تكثر الكلام إلا من تسع: تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وسؤال الخير والتعوذ من الشر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتلاوة القرآن"، ويقول الحسن: "لسان المؤمن خلف قلبه، لا يقول الكلمة حتى يتدبرها، ولسان المنافق قبل قلبه، يقولها من غير تدبر"، ويقول أحد السلف: "صحبت الربيع بن خثيم عشرين سنة، فما قال إلا كلمة تصعد"، وقال آخر: "صحبت ابن عون ثنتي عشرة سنة، فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون".
(1/4316)
ذر في صور الرجال
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الكبائر والمعاصي, مساوئ الأخلاق
سعد بن سعيد الحجري
أبها
جامع آل غليظ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام هو دين الفطرة. 2- أهمية طاعة الله.3- عواقب وأضرار الكِبر. 4- أنواع الكبر. 5- التكبر صفة خاصة لله عز وجل. 6- سبل الوقاية من الكبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي قال عن نفسه: يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].
خلق الخلق لطاعته؛ لأنها الفطرة التي فطروا عليها، لا تبديل لخلق الله، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، ويقول : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)). ولوجود هذه الفطرة كان أهل الإسلام يزيدون ولا ينقصون، وكان من دخل في الإسلام قلما يخرج منه؛ لأنه دين الفطرة والطاعة والجبلة التي جبل الإنسان عليها إنسانا سويًا. ودليل ذلك أننا لا نجد كلفة ولا مشقة في أداء الطاعات؛ لأن الإنسان خلق لها، والله لم يجعل علينا في الدين من حرج، يقول تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13]، وفي الحديث القدسي: ((يقول تعالى: خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)).
والطاعة حق لله علينا، وحقه علينا عظيم، وفضله علينا عميم، وشرف لنا أن نؤدي حقه؛ لأنه الغني ونحن الفقراء، ولأنه الذي لا ينتفع بطاعة مطيع ولا يتضرر بمعصية عاصي، يقول تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واجد منكم ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)).
والطاعة رسالة الرسل التي أرسلهم الله بها، فلم يرسلهم لزرع الزروع، ولا لفتح المتاجر، ولا لتشييد العمائر، ولا للركون إلى الدنيا، ولكنه أرسلهم مبشرين لأهل الطاعة بالجنة التي عرضها السموات والأرض، وبالحياة التي لا موت بعدها، وبالشباب الذي لا هرم بعده، وبالصحة التي لا سقم بعدها، وبالغنى الذي لا فقر بعده، ومنذرين لأهل المعصية بالعذاب المقيم والعقاب الأليم.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الطاعة نعيم في الدنيا ونعيم في الآخرة؛ فهي نعيم في الدنيا تتنعم به القلوب وتسلم به وتنشرح به وتتنور به، وإذا تنعمت القلوب تنعم البدن كله، يقول عن نعيم مجالس الذكر: ((إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا)) ، قالوا: وما رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: ((حِلَقُ الذكر)) ، ويقول عن نعيم الذكر: ((لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس)) ، ويقول عن نعيم الصلاة: ((حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)) ، ويقول عن نعيم الصيام: ((للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه)) ، ويقول أحد السلف: "مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا ألذ ما فيها، قال: ذكر الله وطاعته"، ويقول محمد بن المنكدر: "لم يبق من لذة الدنيا إلا صلاة الجماعة وصلاة الليل ومصاحبة الصالحين"، ويقول ابن تيمية: "إنها لتمرّ بي ساعات أقول: إن كان نعيم الجنة مثل هذا النعيم إنه لنعيم عظيم"، ويقول آخر: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك بما نحن فيه من النعيم لجالدونا عليه بالسيوف".
والطاعة نعيم الآخرة لأنها أبواب الجنة، ففي الحديث: ((فمن كان من أهل الصلاة دخل الجنة من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دخل من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دخل الجنة من باب الريان، ومن كان من أهل الجهاد دخل الجنة من باب الجهاد)) ، ولأن بالطاعة تعطى غرف الجنة، ففي الحديث: ((أن في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها)). قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وواصل الصيام وصلى بالليل والناس نيام)) ، ولأن شجر الجنة تغرس بها، وبيوتها تبنى بها، يقول : ((من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة)) ، وقال: ((وإن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)) ، وقال: ((من صلى في يومه وليله ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة، أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الغداة)).
وما دامت الطاعة دام النعيم في الدنيا والآخرة، وإذا انقطعت الطاعة انقطع النعيم في الدنيا والآخرة. ومن حكمة الله أن قامت الحياة على المدافعة بين أهل الحق وأهل الباطل والابتلاء بالشر والخير، وأول عاص عصى الله من المخلوقات هو الشيطان الرجيم، وعليه إثم هذه المعصية وإثم من تبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا. وقد استحق بهذه المعصية لعنة الله، واستحق بهذه اللعنة الطرد من الجنة والطرد من السماء والحرمان من جوار الرب والحرمان من صحبة الصالحين وعدم قبول السماء له وعدم قبول الأرض له وبغض المخلوقات له وحرمانه من التوبة وحرمانه من الطاعة وخلوده في نار جهنم.
وأول معصية عصي الله بها هي معصية الكِبر، وقد أوبقت هذه المعصية دنيا الشيطان وآخرته، وجعلته شقيا إماما للأشقياء، يقول تعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ [البقرة:34].
ولقد دعا الشيطان أتباعه إلى الاتصاف بهذه الصفة، فأقفلت القلوب وأظهرت العيوب وضاعفت الذنوب واستحقت المرهوب، وقد أتعب الكبر صاحبه؛ لأنه حمل نفسه ما لا تطيق وكلفها بغير وسعها؛ بالتطاول على الناس واحتقارهم وتضييع حقوقهم، فضيع المتكبر حق نفسه، وضيع حق غيره، وبالكبر ضياع حق الله تعالى، فهو الذي منع المستكبر من الدعاء مع حاجته الماسة له واضطراره إليه، يقول تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
والكبر هو الذي منع أهل المناصب وأهل الأموال من الصلاة في المسجد؛ لأنهم يرون أنهم طبقة أعلى من الناس، ويرون أنهم غير مكلفين، وتناسوا أن الله لا ينظر إلى المناصب ولا إلى الأموال، ولكنه ينظر إلى القلوب والأعمال، وكم من أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، وتناسوا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنياهم بخمسمائة سنة، وقد وجد من تكبر على الله بالسجود وأقسم أن لا يسجد فابتلاه الله بالصداع في رأسه، ما كان يهدأ هذا الصداع إلا إذا سجد، ولا يظلم ربك أحدًا.
والكبر هو الذي حمل بعض الناس على ترك العمل بسنة الرسول ، ففي الحديث أن رجلاً أكل عند النبي بشماله فقال له : ((كل بيمينك)) ، قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعت)) ، ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه.
والكبر يمنع من تعلم العلم النافع لما فيه من مزاحمة العلماء بالركب وملاحقة مجالسهم، قال بعض السلف: "لا ينال العلم مستحي ولا مستكبر"، وطلب هارون الرشيد من الإمام مالك أن يعلمه علما خاصًا فقال: تعلم مع الناس، فجلس في مجلسه.
والكبر هو الذي يحمل بعض الناس على إسبال ثيابه تحت الكعبين والتبختر في مشيته، قال الله تعالى عن لقمان وهو يوصي ولده: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، ويقول : ((من تعظم في نفسه واختال في مشيته لقي الله وهو عليه غضبان)) ، وقال: ((من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)) ، ورأى عمر رجلاً يجر إزاره خيلاء فقال: (إن للشيطان إخوانا).
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الكبر مفتاح لكل شر ومغلاق لكل خير، منه ما يكون تكبرًا على الله تعالى مثل ترك أمره والوقوع في نهيه وعدم تصديق خبره وعدم تطبيق حكمه، وهذا هو بطر الحق الذي يعني رد الحق وعدم الإذعان له وعدم الانقياد لله وعدم الاستسلام له، ومن هذا النوع تكبر النمرود الذي قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت، قال: أنا أحيي وأميت، فعاقبه الله ببعوضة تسومه سوء العذاب حتى أهلكته، وكذلك تكبر فرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى، وقال: ما علمت لكم من إله غيري، فعاقبه الله بالجراد والقمل والضفادع والدم ثم الغرق ثم جهنم وبئس القرار.
ومنه ما يكون تكبرًا على رسل الله، وذلك بأذيتهم والتطاول عليهم ومخالفتهم والتحذير منهم وتكذيبهم، ومن ذلك قول فرعون وقوله لهم: أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ [المؤمنون:47]، وقول أهل مكة: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، وقول مسعود بن عمرو بن عمير: ما وجد الله أحدًا غيرك يرسله؟!
ومنه ما يكون تكبرًا على الخلق؛ وذلك بغمطهم حقوقهم واحتقارهم والتعالي عليهم، يقول : ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)). ومن هذا تكبر إبليس الذي قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].
ولنعلم ـ عباد الله ـ أن التكبر لله وحده، ولا تكون لأحد سواه كائنًا من كان، لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل؛ لأنه صفة لا تليق إلا بالله، يقول تعالى: وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجاثية:37]، ويقول : ((يقول الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما ألقيته في جهنم)).
والكبر كبيرة من الكبائر حرمها الله إلا في الحرب أمام الأعداء كما فعل أبو دجانة في غزوة أحد أمام الكفار، فقال : ((هذه مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن)).
وقد أعلن الله الحرب على المتكبرين فأبغضهم، قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل:23]. والكبر طريق إلى الضلالة وحرمان من الهداية، فهو صد عن سبيل الله واتباع لسبيل الشيطان، يقول تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]. والكبر موجب لعذاب الله وطريق إلى النار، يقول تعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ [العنكبوت:68]، ويقول : ((من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر كبه الله لوجهه في النار)) ، وقال: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل ـ الجافي شديد الخصومة ـ جَوَّاظ ـ الجموع المنوع ـ والمختال في مشيه مستكبر)) ، ويقول: ((احتجت النار وقالت: فيّ المتكبرون والجبارون، قال: أنت عذابي أعذب بك من أشاء)).
والكبر حرمان لصاحبه من الجنة، يقول : ((لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)) ، ويقول: ((من مات وهو بريء من الكبر والغلول والدَّين دخل الجنة)). والكبر سبب من أسباب الخسف، فقد خسف الله بقارون الأرض؛ لأنه جحد نعمة الله، ولأنه تكبر على عباد الله وخرج على قومه في زينته، وخسف الله بالمتكبر الذي أعجبته نفسه فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة، يقول : ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل رأسه إذ خسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)).
والكبر هلاك على الله لصاحبه حتى إذا أخذه لم يفلته، فقد كانت ناقة رسول الله العضباء لا يسبقها شيء، وفي يوم من الأيام جاء إعرابي على قعود له فسبقها بقعوده، فشق ذلك على الصحابة فقال : ((حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه)).
والكبر ذل وصغار يوم القيامة، حتى إن المتكبر يأتي يوم القيامة على صورة الذرة الصغيرة، يطؤه الناس ويستذلونه ويستطرقونه؛ لأنه كان يستذلهم ويستصغرهم ويحتقرهم، والجزاء من جنس العمل، يقول : ((يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولَس، تعلوهم نار الأنيار، ويسقون من عصارة أهل النار طينه الخبال)).
وأضرار الكبر كثيرة جدًا، وحتى يسلم المسلم من الكبر فإنه يدفعه بأمور:
منها استحضار الآيات التي حذرت منه وبينت عاقبته أهله، والتعوذ بالله منه، فإن الله تعالى يقول: إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ [غافر:27]، واستحضار الأحاديث التي حذرت منه أشد التحذير وتوعدت أهله بأشد الوعيد.
ومنها النظر في سير المتكبرين الذين بطروا الحق وغمطوا الناس حقوقهم وتعالوا على المخلوقين، وإمهال الله لهم ثم أخذه لهم أخذًا عزيزًا، ومن ذلك أخذه لأبي جهل الذي قالوا له: نرجع في بدر، فخرج مختالاً متكبرا وقال: والله، لا نعود حتى نرِد ماء بدر فننحر الجزور ونشرب الخمور وتضرب القينات على رؤوسنا بالطبول، قتله الله على يد شابين صغيرين ثم أجهز عليه ابن مسعود. وكذلك أحد المتكبرين الذي اعتدى على فقير وضربه قبل صلاة المغرب في رمضان، وتعالى عليه حتى أغمي على هذا المظلوم، فلما أفاق عند غروب الشمس وقت الإفطار رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم انتقم منه، وأجاب الله دعوته وأصيب هذا المتكبر بمرض السرطان في قدمه التي تعالى بها على هذا المظلوم، حتى بترت وحيل بينه وبينها.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومنها أن يعلم هذا المتكبر حقيقة أمره، من أنه بشر خلق من تراب والتراب تحت القدم، ومن أنه خلق من نطفة تعافها النفوس، وأنه يحمل البول والعذرة في جوفه والرجيع في أمعائه والدم في عروقه والمخاط في أنفه واللعاب في فمه والصمغ في أذنه والعرق في إبطه، وأنه خرج من مجرى البول مرتين: مرة عند خروجه نطفة ومرة عند خروجه مولودًا، ومن هذا حاله فلا يتكبر. قال أبو بكر لرجل زاجرًا له: كيف تتكبر وقد خرجت من مجرى البول مرتين؟! وقال مطرف بن عبد الله الشخير للمهلب بن أبي صفرة لما رآه يتكبر: هذه مشية يبغضها الله. قال: ألا تعرفني؟! قال: بلى، أوَّلك نطفة قذرة، وتحمل في أحشائك العذرة، وآخرك جيفة قذرة.
ومنها أن يعود المرضى الذين فقدوا لذة الطعام ولذة الشراب ولذة المنام ولذة القعود والقيام والصحة، يئنون من شدة المرض، ولربما فارقوا بعض جوارحهم، ويزور المقابر ويرى أن أهلها محبوسون بلا عمل، وأنهم إما في حفرة من حفر النيران، وإما في روضة من رياض الجنة، ويزور الفقراء المساكين الذين أذلهم الفقر والجوع والعري، ويعرف فضل الله عليه.
ومنها البعد عن حمية أهل المكر الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، والذين ينسونه الله ويقودونه إلى الهلاك ويدعونه إلى أبواب جهنم، وصحبتهم ضعف في العقل، قال محمد بن علي بن الحسين: "ما وجد الكبر عند أحد إلا ونقص عقله".
ومنها النظر في سبب التكبر؛ هل هو العلم؟ فإن موسى ذهب إلى الخضر يتعلم ثلاث مسائل، وإن الهدهد قال لسليمان: أحطت بما لم تحط به، وإن كان لنسب فإن الله أبطل موازين الجاهلية ولا ينظر إلى الأنساب، يقول تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ويقول : ((لينتهين أقوام عن فخرهم بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان)) ، وقال للذي انتسب إلى تسعة: ((هو في النار)) ، وإن كان تكبره للجمال فإنه صفة النساء ومن تشبه بقوم فهو منهم، وإن كان للمال فإنه ليس للإنسان من ماله إلا ما أكل فأفنى ولبس فأبلى وتصدق فأبقى.
ويدفع الكبر بالسجود؛ لأن الشيطان لما تكبر أبى أن يسجد، وإذا سجد ابن آدم ولى الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت أن أسجد فلم أسجد فلي النار. ويدفعه بالتواضع فإن الله قال لرسوله: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، وقال عن عباد الرحمن: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]، ويقول : ((من تواضع لله رفعه)) ، وقال: ((إن الله أوحى إلي أن تواضع)) ، وخيّر بين الملك والنبوة والعبودية فاختار العبودية والنبوة.
ومنها محاسبة النفس ومنعها من جموحها وتكبرها، فلقد كان عمر يلبس الثوب المرقع وهو أمير المؤمنين، وأبو هريرة يحمل الحطب على ظهره وهو أمير المدينة، وغيرهم كثير.
(1/4317)
استقبال رمضان بالتوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
أحمد حسن المعلم
المكلا
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على التوبة. 2- حال السلف الصالح مع شهر رمضان. 3- شروط التوبة النصوح. 4- سعة رحمة الله وفضله. 5- أسباب تعين على التوبة والإنابة. 6- نماذج من التائبين. 7- حقيقة الموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد: فيقول المولى سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، ويقول جل في علاه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ويقول سبحانه: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49، 50]، ويقول أيضًا رب العزة والجلال في حديث قدسي: ((يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى ، نستقبل في هذه الساعات القادمة ضيفا كريما وشهرا عظيما، لم يبعد بيننا وبينه إلا ساعات معدودة، فماذا أعددنا لهذا الضيف؟! وكيف نستقبل هذا الشهر العظيم شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان؟!
إن كثيرًا من الناس يستعدون لشهر رمضان المبارك بتوفير ما يحتاجونه من مستلزمات الحياة من طعام وشراب، وكأن شهر رمضان أصبح شهرًا للطعام وللأكل والشراب والنوم والخمول والكسل، لا شهرًا للطاعة والعبادة والجهاد والعمل.
هذا هو حالنا في هذه الأيام إلا من رحم الله، فأصحاب محمد وسلف هذه الأمة الصالح كانوا يستقبلون رمضان ويستعدون له ويتهيئون لقدومه قبل أن يأتي بستة أشهر يقولون: اللهم بلغنا رمضان، فإذا ما جاء رمضان أجهدوا أنفسهم في طاعة الرحمن وفي التقرب إلى الله الواحد الديان، فإذا انقضى هذا الشهر الكريم ودعوه بقية العام يقولون: اللهم تقبل منا رمضان، فكان عامهم كله رمضان، وكانت حياتهم كلها رمضان.
فرضي الله عنكم ـ يا أيها السلف ـ يوم علمتم أن الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في مرضاة الله، ويوم علمتم أن الحياة ليست حياة الأكل والشرب والشهوة، إنما هي حياة الطاعة والعبودية والاتصال بالله الواحد جل في علاه.
يا متعب الجسم كم تشقى لراحته أتعبتَ جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالْجسم إنسان
يا عامرًا لخراب الدار مجتهدًا بالله هل لخراب الدار عمران؟!
فزاد الروح أرواح المعالي وليس بأن طعمتَ ولا شربت
فأكثر ذكره في الأرض دأبا لتذكَر في السماء إذا ذكرتَ
ونادِ إذا سجدت له اعترافا بما ناداه ذو النون ابن متى
معاشر الأحبة، إن علينا أن نستقبل شهر رمضان بتوبة صادقة خالصة نصوح، نقلع فيها عن كل معصية، ونندم على ما مضى من أعمارنا في معصية الله، ونعاهد الله أن لا نعود لمعصيته.
قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وربه ولا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات، والعزم على عدم العودة إلى الذنب أبدًا، وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فيضاف شرط رابع لهذه الشروط الثلاثة، وهو أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً رده إليه، وإن كانت غيبة استحله منها، ونحو ذلك.
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن الْمنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
كلنا ذوو أخطاء يا عباد الله، وكلنا ذاك المذنب، والخطأ من طبيعة البشر، والمعصوم من عصمه الله سبحانه وتعالى، والكمال لصاحب الكمال سبحانه وتعالى، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون، فيستغفرون فيغفر الله لهم)). فلا بد من الخطأ والتقصير، فكلنا ذو خطاء، وكلنا ذاك المذنب.
ومن الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
تريد مبرَّأً لا عيب فيه وهل نار تفوح بلا دخان
ومن الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعدَّ معايبه
لكن المصيبة ـ يا عباد الله ـ أن نبقى على الخطأ، وأن ندوم على الذنب، وأن نُصِرَ على المعصية التي هي والله شؤم، وهي والله وحش وعذاب من الله الواحد الديان.
تفني اللذاذة ممن نال صفوتَها من الْحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها لا خير في لذة من بعدها النار
المعصية ـ يا عباد الله ـ قد تكون سببًا في أن يحبس الله سبحانه وتعالى عن الأمة الخير، ولو كانت في فرد واحد من الأمة لم يؤمر ولم ينه، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
ها هم بنو إسرائيل يلحق بهم قحط شديد على عهد موسى عليه السلام، فيجتمعون إلى نبي الله موسى عليه السلام فيقولون: يا نبي الله، ادع لنا ربك أن يغيثنا الغيث، فقام معهم وقد خرجوا إلى الصحراء وعددهم سبعون ألفًا أو يزيدون، فقال موسى عليه السلام: إلهنا اسقنا الغيث وانشر علينا رحمتك وارحم الأطفال الرضع والبهائم الرتع والشيوخ الركع، فما زادت السماء إلا تقشعًا والشمس إلا حرارة، فتعجب نبي الله موسى من ذلك، وسأل الله عن ذلك، فأوحى الله إليه أنّ فيكم عبدًا يبارزني بالمعاصي منذ أربعين سنة، فنادى في الناس حتى يخرج من بين أظهركم، فقال موسى: إلهي وسيدي أنا عبد ضعيف وصوتي ضعيف فأين يصل صوتي ويظهر وهم سبعون ألفًا أو يزيدون؟! فأوحى الله إلى موسى أن منك النداء ومنا البلاغ، فقام نبي الله موسى عليه السلام مناديًا في الناس قائلاً: يا أيها العبد العاصي الذي يبارز الله بالمعاصي منذ أربعين سنة، اخرج من بين أظهرنا، منك ومن ذنوبك منعنا القطر من السماء، فقام العبد العاصي ونظر ذات اليمين وذات الشمال فلم ير أحدا خرج، فعلم أنه المقصود فقال في نفسه: إن أنا خرجت من بين هذا الخلق افتضحت على رؤوس بني إسرائيل، وإن قعدت معهم منعوا القطر من السماء بشؤمي وشؤم ذنبي ومعصيتي، فما كان من هذا العبد العاصي إلا أن أدخل رأسه في الثياب نادمًا ومتأسفًا على فعاله ثم قال: يا إلهي ويا سيدي، عصيتك أربعين سنة وأمهلتني، وقد أتيتك طائعًا تائبًا نادمًا فاقبلني ولا تفضحني يا كريم، فما أكمل كلامه حتى ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرت كأمثال القرب، حتى ارتوت الأرض وسالت الأودية، قال موسى عليه السلام: إلهي وسيدي، سقيتنا ولم يخرج من بين أظهرنا أحد! فقال الله: يا موسى، أسقيتكم بالذي به منعتكم، فقال موسى: إلهي، أرني هذا العبد الطائع التائب، فقال الله: يا موسى، لم أفضحه وهو يعصيني، أفأفضحه وهو يطيعني.
فلا إله إلا الله ما أعظم شأن التوبة، ولا إله إلا الله ما أعظم رحمة الله بعباده وحلمه سبحانه وتعالى.
فيا أيها المذنب وكلنا ذاك المذنب، ويا من زل وأخطأ وأذنب، ويا من بارز الله بالمعصية، تب إلى الله وعد إلى رحابه قبل أن تفضح في يوم الفضائح وتندم حين لا ينفع الندم، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
من أعظم الأمور المعينة على التوبة ـ يا عباد الله ـ أن يستحضر العبد سعة رحمة الله سبحانه وتعالى، فهو القائل: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وهو القائل جل في علاه في حديث قدسي أخرجه الترمذي: ((يقول سبحانه: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)) ، وهو القائل سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، وفي الصحيحين: ((أن رجلاً أسرف على نفسه في الخطايا، فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبًا ثم أحرقوني بالنار ثم اسحقوني وذروني مع الريح، فلما توفي هذا الرجل وفعل أولاده بوصيته قال له الله: يا عبدي، ما الذي حملك على ما فعلت؟ قال: يا رب، خفتك وخشيت ذنوبي، فقال الله: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت له وأدخلته الجنة)) ، وفي صحيح البخاري أن سبيًا جاء إلى الرسول ، وإذا بامرأة من نساء السبي جاءت تبحث عن صبي لها فقدته، فأخذت تقلب الأطفال واحدًا واحدًا، ثم وجدت طفلها بعد مشقة وعناء فألصقته في بطنها وأخذت ترضعه، والرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته يرقبون الموقف ويرقبون المرأة وهي تذرف الدموع رحمة بوليدها، فيقول الرسول لأصحابه: ((أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟)) قالوا: لا يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)).
فلا إله إلا الله ما أعظم رحمة الله، وما أوسع رحمة الله، رحمته سبحانه وتعالى وسعت كل شيء، ورحمته جل وعلا سبقت غضبه، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، له سبحانه وتعالى مائة رحمة أنزل لنا في هذه الدنيا رحمة واحدة، منها يتراحم الخلق كلهم صغيرهم وكبيرهم، مؤمنهم وكافرهم، ناطقهم والأعجمي حتى الدابة لترفع رجلها ليرضع منها وليدها. فإذا كان يوم القيامة رفع الله هذه الرحمة إلى تسع وتسعين رحمة، حتى إن إبليس ليتقارب في ذلك اليوم ويظن أن رحمة الله ستسعه. فيا من رحمتك وسعت كل شيء، ارحمنا برحمتك.
يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم لديه
أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليه
يروى أن رجلاً من بني إسرائيل أطاع الله أربعين سنة، ثم عصى الله أربعين سنة، فلما نظر في المرآة رأى الشيب في لحيته فقال: يا رب، أطعتك أربعين سنة، وعصيتك أربعين سنة، فهل تقبلني؟ فقيل له: أطعت ربك فقبلك، وعصيته فأمهلك، وإن عدت إليه قبلك.
إن الْملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرمًا قد شبت في الرق فأعتقني من النار
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد: فمن أعظم أسباب التوبة ـ عباد الله ـ تذكر الموت والقدوم إلى الله والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى.
ذكر ابن قدامة في كتاب التوابين أن امرأة بغيا زانية كانت بارعة الجمال ولا تمكن من نفسها إلا بمائة دينار، رآها عابد ما عصى الله، فلما رآها أعجبته وفتنت قلبه وسلبت كبده، فذهب وعمل وكد حتى جمع المائة الدينار ثم جاء إليها في بيتها وقال لها: لقد أعجبتني فاشتغلت واجتهدت في العمل حتى جمعت لك المائة الدينار وها أنا ذا جئت بها، فقالت له: ادخل، وأخذت منه المائة الدينار، فدخل إلى غرفتها، وكان لها سرير من ذهب، فجلست على سريرها ثم قالت له: هلم إليّ، فتذكر ذلك العابد قيامه بين يدي الله وقدومه إلى الله فأخذته رعدة ورعشة وقال لها: اتركيني لأخرج ولك المائة الدينار، فقالت له البغي: عجبًا لك زعمت أنك تكد وتكدح لتجمع هذه المائة الدينار، فلما قدرت علي فعلت ما فعلت، قال: فعلته ـ والله ـ خوفًا من الله ومن مقامي بين يديه، فرق قلب تلك المرأة وخافت وارتعدت وتذكرت القدوم على الله فقالت له: لا أدعك حتى آخذ عليك عهدًا أن تتزوجني، فأعطاها العهد وأعطاها مكانه وهو يريد الخلاص منها، فخرج من عندها نادمًا على ما فعل وهو لم يقارف الفاحشة، وتابت تلك المرأة وكان سببًا في توبتها، ولا زال في نفس تلك المرأة أن تتزوج بمن كان سببًا في توبتها، فذهبت وبحثت عن مكان ذلك الرجل فلما رآها تذكر ذلك اليوم الذي كاد أن يقدم فيه على عمل الفاحشة بهذه المرأة، وتذكر موقفه أمام الله وقدومه على الله فشهق شهقة عظيمة ومات، فحزنت عليه هذه المرأة التائبة حزنًا عظيمًا وقالت: أما هذا فقد فاتني، فهل له من قريب أتزوجه؟! فقالوا لها: له أخ فقير تقي، فقالت: أتزوجه إن رضي حبًا لأخيه، فتزوجته، فكان من نسله ونسلها سبعة من الصالحين العابدين الزاهدين.
وها هو شاب في الثلاثين من عمره في أوج شبابه وشهوته وقوته، لكنه يخاف الله، واسمه الربيع بن خثيم، وكان في بلده فساق وفجار يتواصون على إفساد الناس، وهم في مكان وزمان يصدون عن سبيل الله، أتوا بزانية وقالوا لها: هذه ألف دينار، قالت: علام؟! قالوا: على قبلة من الربيع، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني، فذهبت إليه وتعرضت له في ساعة خلوة وأبدت له مفاتنها، فلما رآها صرخ فيها قائلاً: يا أمة الله، كيف بك لو نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين يدي الرب العظيم؟! أم كيف بك إن لم تتوبي يوم ترمين في الجحيم؟! فصرخت وولت هاربة تائبة عابدة عائدة إلى الله قائمة الليل صائمة النهار، حتى لقبت بعابدة الكوفة.
معاشر المسلمين، إن من أعظم فرص الحياة أن بلغنا الله هذه الساعات التي نتهيأ فيها لاستقبال شهر رمضان، ونسأله سبحانه أن يبلغنا هذا الشهر العظيم، فكم نعرف من الأهل والإخوان والأقارب والجيران صاموا معنا في العام الماضي وهم الآن تحت الجنادل والتراب وحدهم، أتاهم الموت، أتاهم هادم اللذات ومفرق الجماعات وآخذ البنين والبنات، فاحتضنهم من بين أيدينا، وأسكتهم ـ والله ـ فما نطقوا، وأرداهم فما تكلموا، كأنهم ـ والله ـ ما ضحكوا مع من ضحك، ولا أكلوا مع من أكل، ولا شربوا مع من شرب.
كم كنت تعرف عن صام في سلف من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ حيًا فما أقرب القاصي من الدانِي
الموت ـ يا عباد الله ـ يقسم الظهور، ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور، ويسكنهم القبور. الموت لا يستأذن شابًا ولا شيخًا ولا طفلاً، ولا يستأذن غنيًا ولا أميرًا ولا ملكًا ولا وزيرًا ولا سلطانًا.
أتيت القبور فناديتها فأين المعظَّم والْمحتقر
تفانوا جميعًا فما مُخبر وماتوا جميعًا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
الموت ـ يا عباد الله ـ أسرع وأقرب إلينا من شراك النعل، وما أسرعه في هذه الأيام وما أسهله، والحياة قنطرة، وهي ـ الله ـ جدّ قصيرة، إذا ولد الإنسان أذّن في أذنه اليمنى أذانًا بلا صلاة، فإذا مات الإنسان صليت عليه صلاة الجنائز بلا أذان، فكان حياة الإنسان قصيرة قصيرة، وكأنها كالوقت الذي بين الأذان والإقامة.
فهل من تائب إلى الله؟! وهل من عائد إلى رحاب الله؟! وهل من توبة صادقة؟! وهل من عودة حميدة؟!
يا شيخًا كبيرًا احدودب ظهره ودنا أجله، ماذا أعددت للقاء الله؟! وماذا بقي لك في هذه الدنيا؟! يقول سفيان الثوري: "إذا بلغ العبد ستين سنة فليشتر له كفنًا وليهاجر إلى الله".
ويا شابًا غرّه شبابه وطول الأمل، ماذا أعددت للقاء الله؟! متى تستفيق إن لم تستفق اليوم؟! ومتى تتوب إن لم تتب في هذه الساعات؟! ومتى تعمل إن لم تعمل في هذه اللحظات؟!
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن الْمنايا كالرياح عليك دائمة الهبوب
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليَل
ويرى نياط عروقها فِي مخّها والمخّ في تلك العظام النُحَّل
اغفر لجميع من تاب من زلاّته ما كان منه في الزمان الأوَّل
يا ابن آدم، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/4318)
أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الموت والحشر
أحمد حسن المعلم
المكلا
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق الخلق. 2- استغناء الله تعالى عن العباد وحاجتهم وافتقارهم إليه. 3- موعظة وتذكير. 4- الحث على التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد: فيقول المولى سبحانه: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115، 116]، ويقول سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:1، 2]، وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن النبي أنه قال: ((بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصير الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد ، ما الهدف والغاية من وجودنا؟ لم خلِقنا يا عباد الله؟ ولم أوجِدنا في هذه الحياة؟ هل خلقنا لنأكل ونشرب ونلبس، أو وجدنا لنجمع الأموال الوفيرة والكنوز والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، أم الهدف والغاية من وجودنا وخلقنا أن نتمتع بزخرف هذه الحياة وزينتها؟!
لا والله يا عباد الله، ما خلقنا في هذه الدنيا عبثًا، ولم نترك فيها سدى، أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [القيامة:36- 40].
لقد خلقنا ـ والله ـ لمهمة عظيمة وغاية جليلة، تبرّأت منها السموات والأرض والجبال، وأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملها الإنسان.
لقد خلقنا لتوحيد الله الواحد الأحد وإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
أحد السلف يمرّ على صبية صغار يلعبون وبينهم طفل صغير يبكي، فيظن الرجل أن هذا الطفل يبكي لأنه ليس له لعبة كما لهم لعب، فقال له: يا بني، أتريد أن أشتري لك لعبة؟ قال: ما لهذا أبكي يا قليل العقل، إنما أبكي لأن هؤلاء يفعلون غير ما خلقوا له، أولم يسمعوا قول الله وهو يوبخ أهل النار: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:115، 116]؟! فدهش الرجل من إجابة هذا الطفل الصغير، وقال له: يا بني، إنك لذو لب ـ لذو عقل ـ وإن كنت صغيرًا فعظني، فقال له الطفل بيتًا واحدًا:
فما الدنيا باقية لحي وما حيٌّ على الدنيا بباق
فرضي الله عنكم ـ أيها السلف ـ يوم علمتم أن هذه الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في طاعة الله، ويوم علمتم أن هذه الحياة ليست حياة أكل وشرب وجماع، وإنما حياة عبودية وتذلل وطاعة لله الواحد الأحد.
والله ـ يا عباد الله ـ إننا لفي غفلة عما خلقنا لأجله، وإن قلوبنا في قسوة لا يعلم بها إلا الله، وإننا بحاجة للتذكير بهذه القضية الكبرى في كل أسبوع بل في كل يوم وفي كل لحظة، فحاجتنا إليها أعظم من حاجتنا إلى الأكل والشرب والهواء، وأعظم من حاجتنا إلى النوم والجماع واللباس.
فزاد الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمتَ ولا شربتَ
فأكثر ذكرَه في الأرض دأبًا لتذكَرَ في السماء إذا ذَكَرتَ
وقال آخر:
يا متعب الجسم كم تشقى لراحته أتعبتَ جسمَك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلَها فأنت بالروح لا بالْجسم إنسان
يا عامرًا لخراب الدار مجتهدًا بالله هل لخراب الدار عمران
معاشر المسلمين، الله سبحانه وتعالى غني عنا وعن عبادتنا وطاعتنا، لا تنفعه طاعتنا، ولا تضره معصيتنا، بل نحن بحاجة إلى الله ونحن الفقراء إلى الله، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)) ، وفي الأثر الإلهي الآخر يقول رب العزة: ((إني إذا أطِعتُ رضِيتُ، وإذا رضيت بارَكت، وليس لبركتي نهاية، وإذا عصِيتُ غضِبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد. وعزتي وجلالي، لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينتقل إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره. وعزتي وجلالي، لا يكون عبد من عبيدي على ما أكره فينتقل إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب)).
فنحن ـ يا عباد الله ـ بحاجة إلى الله، ونحن مفتقرون إلى الله فلماذا نعصي الله؟! ولماذا لا نستشعر عبودية الله؟! ولماذا لا نستشعر حاجتنا لله وافتقارنا إلى الله؟!
فليتك تعفو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غِضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالَمين خراب
إذا صحّ منك الودّ يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب
والله، إن الإنسان إذا لم يرتبط بالله الواحد الديان فهو كالبهيمة بل هو أضلّ؛ لأن الله كرمه بالفعل وشرفه بالفكر وجعل له سمعًا وبصرًا وفؤادًا.
فيا أيها الإنسان، ما غرك بربك الكريم؟! ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟! وما الذي غرّك حتى تجاوزتَ حدود الله؟! وما الذي أذهلَك حتى انتهكتَ حرمات الله؟! من أنت يا أيها المسكين الحقير الذليل الفقير؟! أما أنت الذي تؤذيك وتدميك البقّة؟! أما أنت الذي تنتنك العرقة؟! أما أنت الذي تميتك الشرقة؟! أما أنت الذي تحمل في جوفك العذرة؟! أما أنت الذي تتحوّل في قبرك إلى جيفة قذرة؟! من أنت يا أيها المسكين؟! أما كنت نطفة؟! أما كنت ماءً؟! أما كنت في عالم العدم؟! قبل سنوات لم تكن شيئًا مذكورًا، وبعد سنوات أيضًا لن تكون شيئًا مذكورًا، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [الإنسان:1، 2].
مسكين هذا الإنسان، حقير هذا الإنسان، أتى من ماء، أتى من نطفة، أتى من عالم العدم، فلما مشى على الأرض تكبر وتجبر ونسيَ الله الواحد.
بصق الرسول يومًا في كفه فوضع عليها إصبعه ثم قال: ((قال الله عز وجل: ابن آدم، أنّى تعجِزني وقد خلقتُك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدّلتك مشيتَ بين بردَين وللأرض منك وئيد، فجمعتَ ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة)).
فيا أيها الإنسان، تفكر في نفسك، تفكر في ضعفك وعجزك وافتقارك، وتفكر في عظمة الله وفي ملكوت الله، انظر إلى السماء بلا عمد، انظر إلى الأرض في أحسن مدر، انظر من أجرى الهواء، ومن سير الماء، ومن جعل الطيور تناظم بالنغمات، ومن جعل الرياح غاديات رائحات من فجر النسمات، من خلقك في أحسن تقويم، أهذا يعصى؟! أهذا يكفر؟! أهذا يجحد؟!
والله، إنّ السماء بما فيها من ملكوت لا تعصِي الله، وإن الأرض لا تقوى على معصيته، وإن الجبال الرواسي الشامخات لا تعصي الله، وإن الشمس بحرارتها وقوتها لا تعصي، وإن القمر بجماله لا يعصي الله، فلا إله إلا الله، كيف استطاع هذا الإنسان الضعيف الحقير أن يعصي ربه وخالقه ومولاه؟! كيف تجرأ هذا الإنسان أن يعصي جبّار السموات والأرض الذي لا يعذّب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد؟!
والله ـ يا عبد الله ـ لن يبقى معك إلا ما قدمتَ من أعمال صالحة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فقال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، وأما في القبر فسوف يرجع أهلك ومالك، ولن يبقى معك إلا عملك، فإن كان عملك صالحًا أتاك رجل حسن الوجه حسن الثياب حسن الريح، فتسأله: من أنت؟! فوجهك الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح ولا أفارقك، وإن كان عملك خبيثًا فسوف يأتيك رجل قبيح الوجه قبيح الثياب قبيح الريح فتقول له: من أنت؟! فوجهك الذي يأتي بالشر، فيقول لك: أنا عملك السيئ ولا أفارقك.
وليت أن الأمر ينتهي عند هذا الحد، بل سوف تقف عاريًا حافيًا في يوم كان مقداره خميس ألف سنة، يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق على قدر ميل منهم، ويكون الناس في ذلك اليوم على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغ عرقه إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ عرقه ركبتيه، ومنهم من يبلغ عرقه حقويه، ومنهم من يبلغ حنجرته، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا.
فتفكر ـ يا عبد الله ـ يوم تقف بين يدي الله ليس بينك وبينه ترجمان، فتتلفت يمينًا فلا تجد إلا ما قدمت، وتتلفت شمالاً فلا ترى إلا ما قدمت، فتتلفت أمامك فلا ترى إلا النار، قد غضب الربّ غضبًا لم يغضب قبله ولا بعده قط. يوم تنصب الموازين فيقول الله: يا آدم، أخرِج بعث النار من ذريتك، فيقول آدم: وما بعث النار؟ فيقول الله: من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون، عندها تذهل كل مرضعة أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
فعجبًا لك يا ابن آدم، كيف تجتهد وتتعب وتنصب وتشقى من أجل خمسين أو ستين سنة في هذه الحياة الدنيا، وهذا لمن بلغ الخمسين أو الستين، ولا تجتهد ولا تعمل من أجل يوم واحد فقط مقداره خمسون ألف سنة، ومن أجل موقف خطير ومصير مجهول إما إلى نار وإما إلى جنة؟!
أما والله لو علم الأنام لِما خلِقوا لما هجعوا وناموا
لقد خلِقوا ليوم لو رأته عيون قلوبهم ساحوا وهاموا
مَماتٌ ثم حشر ثم نشر وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشر قد عمِلت أناس فصلّوا من مَخافته وصاموا
ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، اتقوا الله حقّ تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد: فقد جاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم أحد السلف الزاهدين العابدين، هذا الرجل أسرف على نفسه في المعاصي، فجاء إلى إبراهيم وقال له: عظني حتى لا أعود إلى معصية، قال له إبراهيم: إن استطعتَ على خمسة أمور فلن تعصيَ الله: إذا أردتَ أن تعصي الله فاعصه حيث لا يراك، قال: وكيف ذاك وقد وسع علمه السموات والأرض؟! قال: وإذا أردت أن تعصي الله فاخرج من داره، فقال: وكيف ذاك وكل ما في السموات والأرض ملك لله؟! قال: وإذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه، فقال: وكيف ذاك وكل ما في السموات والأرض رزق الله؟! قال: وإن أردت أن تعصي الله فإذا جاء ملك الموت فقل له: أخرني إلى أجل قريب، قال: وكيف ذاك وهو القائل: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]؟! قال: وإن أردت أن تعصي الله فإذا جاءك زبانية جهنم ليأخذوك معهم فلا تذهب معهم، فما كاد الرجل أن يسمع إلى هذه الخامسة حتى بكى بكاء شديدًا، وعاهد الله أن لا يعود إلى معصية.
فيا عبد الله، يا من أسرف على نفسه في المعاصي، يا من ابتعد عن الله، يا من أعرض عن الله، عد إلى الله فهو القائل: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وهو الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها، وهو القائل: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو جئتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئًا لغفرت لك على ما كان منك ولا أبالي)).
سبحان من نهفو ويعفو دائما ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يُعطي الذي يُخطِي ولا يمنعه جلاله من العَطا لذي الخَطَا
لا يغرنك ـ يا ابن آدم ـ ستر الله، فإن كنتَ ستِرت هنا فتذكّر الفضيحة يوم الفضائح والكربات، يوم تبيّض وجوه وتسودّ وجوه.
تعرّض لنفحات الله ـ يا عبد الله ـ ما دمت فوق الأرض قبل أن تصير في بطن الأرض، تزوّد من الأعمال الصالحة ما دمتَ في النور قبل أن تصير إلى ظلمة القبور، تعرّض لرحمة الله وأن تسمع للمواعظ قبل أن تسمع قرعَ نعالِ من ودّعوك وأودعوك في قبرك، تذكر ـ يا عبد الله ـ واتّعظ وأنت في المهلة قبل النقلة، وأنت في دار العمل قبل أن تصير إلى دار الجزاء.
فيا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي
واستغفري لذنوبك الرحمن غفار الذنوب
إن الْمنايا كالرياح عليك دائمة الْهبوب
يا ابن آدم، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/4319)
الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
أحمد حسن المعلم
المكلا
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الدعاء. 2- آداب الدعاء. 3- موانع إجابة الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وقال جل في علاه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((إن لله تبارك وتعالى ملائكة سيارة فضلاً يتبعون مجالس الذكر، فإذا وجدوا مجلسًا فيه ذكر قعدوا معهم، وحفّ بعضهم بعضًا بأجنحتهم حتى يملؤوا ما بينهم وبين السماء الدنيا، فإذا تفرقوا عرجوا وصعدوا إلى السماء، قال: فيسألهم الله عز وجل وهو أعلم بهم: من أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من عند عباد لك في الأرض يسبحونك ويكبرونك ويهللونك ويحمدونك ويسألونك، قال: وماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك جنتك، وقال: وهل رأوا جنتي؟ قالوا: لا أي رب، قال: فكيف لو رأوا جنتي؟ قالوا: ويستجيرونك، قال: ومم يستجيروني؟ قالوا: من نارك يا رب، قال: وهل رأوا ناري؟ قالوا: لا، قال: فكيف لو رأوا ناري، قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: قد غفرت لهم فأعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، قال: فيقولون: ربِّ، فيهم فلان عبد خطّاء إنما مرّ فجلس معهم، قال: فيقول: وله غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)).
إخوة الإسلام وأحباب أحباب الحبيب المصطفى محمد ، حديثنا اليوم عن الدعاء، والدعاء أمره عظيم وشأنه كبير، فهو حبل بين العبد وربه، وهو صلة بين العبد وربه، وفي الحديث يقول : ((الدعاء هو العبادة)) ، فالله سماه في كتابه عبادة فقال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وهذه الآية فيها وعد ووعيد؛ وعد من الله بإجابة الدعاء، ووعيد بالنار لمن استكبر عن عبادة الجبار ودعاء الواحد القهار.
فالله سبحانه وتعالى يحب من عباده أن يدعوه ويلجؤوا إليه ويظهروا فقرهم واحتياجهم له، بل إن الله سبحانه يبتلي العباد بالبلايا والرزايا حتى يتضرعوا إليه ويدعوه سبحانه أن يفرّج عنهم، يقول سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:142]، وفي الحديث يقول : ((من لا يسأل الله يغضب عليه)).
الله يغضب إن تركت سؤاله وترى ابن آدم حين يُسأَل يغضب
ولذلك فإنّ حاجة الدعاء لا تأتي عند كثير من الناس إلا في الأزمات، فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65].
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا ربّ ذنبًا جنيناه
كم نطلب الله فِي ضرّ يحلّ بنا فإن تولّت بلايانا نسيناه
ندعوه فِي البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطئ عصيناه
ونركب الْجوّ فِي أمن وفِي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
الخلائق كلها تدعو الله، والكائنات كلها تسبح الله، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44].
خرج نبي الله سليمان عليه السلام يستسقي بالناس، فمرّ في الطريق بنملة، وإذا هي قد انقلبت على ظهرها ورفعت يديها إلى الحي القيوم تقول: يا حي يا قيوم أغثنا برحمتك. لا إله إلا الله، من الذي أخبر النملة أن الله خلَقها؟! من الذي أخبر النملة أن الذي يحيي ويميت ويضر وينفع هو الله؟! إنه الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. بكى نبي الله سليمان وقال لقومه: عودوا فقد سقيتم بدعاء غيركم.
وورد عن روح الله عيسى عليه السلام أنه مرّ ببقرة في الولادة وقد اعترض ابنها في بطنها، فأخذت البقرة تنظر إلى السماء تطلب العون من الله، فأنطقها الله الذي أنطق كل شيء وقالت: يا حي يا قيوم، يسّر عليّ، ثم قالت: يا عيسى يا روح الله، أسألك أن تدعو الله أن يسهّل عليّ، فبكى عيسى ودعا الله أن يسهل عليه.
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبِّه أرداك؟!
قل لهذا الطبيب الذي يداوي الناس بإذن الله وعنده العقاقير والأدوية والبلاسم، قل له: من الذي أرداك؟! من الذي أماتك؟! من الذي قتلك؟ إنه الله.
أبو بكر الصديق قالوا له في مرض موته: ماذا تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي، قالوا له: ماذا تريد؟ قال: أريد المغفرة، قالوا: ألا ندعو لك طبيبًا، قال: الطبيب قد رآني، قالوا: فماذا قال؟ قال: يقول: إني فعال لما أريد.
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب: من عافاك؟!
إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام مرض فقال: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].
فانظر ـ يا عبد الله ـ إلى الأدب الرفيع، كيف نسب المرض إلى نفسه ونسب الشفاء إلى الله، مع أن الله هو الشافي والمعافي وهو الممرض وهو النافع والضار وهو المحيي والمميت.
معاشر الأحبة، الدعاء خير كله، وليس فيه خسارة أبدًا، يقول : ((ما من عبد يدعو الله تعالى بدعوة إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجلها له في الدنيا، وإما أن يدخرها له يوم القيامة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها)) ، ويقول أمير المؤمنين أبي السبطين علي بن أبي طالب : (عجبًا لكم! معكم الدواء ومعكم الداء، داؤكم الذنوب، ودواؤكم الدعاء والاستغفار)، ويقول جعفر الصادق : "عجبت لأربعة كيف يغفلون عن أربع: عجبت لمن أصابه ضرّ كيف يغفل عن قول الله تعالى: أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83] والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ [المؤمنون:75]، وعجبت لمن أصابه غَمّ كيف يغفل عن قول الله: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] والله سبحانه وتعالى يقول: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، وعجبت لمن يخاف كيف يغفل عن حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ والله تعالى يقول: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ [آل عمران:174]، وعجبت لمن يمكر به الناس كيف يغفل عن قول تعالى: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر:44] والله تعالى يقول: فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45]".
إخوة الإسلام، للدعاء آداب، ومن أعظم آداب الدعاء توحيد الله في الدعاء، فلا يجوز أن ندعو غير الله، فالدعاء عبادة، والعبادة لا يجوز أن تصرف إلا لمستحقها سبحانه وتعالى وحده.
ومن آداب الدعاء الجزم في الدعاء والثقة بالله في حصول الإجابة، فقد صح عن النبي من حديث أبي هريرة أنه قال: ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه)).
هذا أبو الدرداء كان جالسًا فجاءه جماعة يقولون له: إن بيتك قد احترق، فقال لهم أبو الدرداء: لا، ولا ينبغي له أن يحترق، كلمات سمعتها من رسول الله يقول: ((من قالهن حين يصبح لم يمسه السوء حتى يمسي، ومن قالهن حين يمسي لم يمسه السوء حتى يصبح: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أعلم أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم)) ، فقاموا معه حتى يروا الدار فإذا هي قائمة لم يمسها السوء وما حولها قد احترق.
ومن آداب الدعاء الخشوع والخضوع وإظهار الحاجة والفقر والاضطرار إلى الله وخفض الصوت ولينه، يقول سبحانه وتعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، ويثني الله سبحانه وتعالى على نبيه زكريا عليه السلام بقوله: إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا [مريم:3].
وسأل الصحابة الرسول قالوا: يا رسول الله، أربّنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]؛ ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري: ((أربعوا على أنفسكم، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا، إنكم تدعون سميعًا بصيرًا)).
ومن آداب الدعاء عدم الدعاء على الأهل والمال والولد، يقول : ((لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم)).
ومن آداب الدعاء تحري الأوقات الفاضلة كيوم الجمعة في الأسبوع ويوم عرفة في السنة ورمضان من الأشهر والسَّحَر من الليل والسجود في الصلاة وما بين الأذان والإقامة وعند نزول الغيث وعند السفر.
ومن الآداب الثناء على الله تعالى والصلاة والسلام على رسول الله والوضوء والسواك واستقبال القبلة ورفع اليدين في الدعاء، يقول : ((إن ربكم حي كريم، يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما خائبتين)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد: فهناك موانع تمنع من إجابة الدعاء، ومن هذه الموانع أكل الحرام، يقول سعد بن أبي وقاص : يا رسول الله، ادع الله لي أن أكون مستجاب الدعوة، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ((يا سعد، أطب مطعمك تستجب دعوتك)) ، وذكر الرسول في حديثه: ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!)).
ومن موانع إجابة الدعاء استعجال الإجابة، يقول : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي)).
وهذا موسى عليه السلام وقف داعيًا يقول: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]، وأخوه هارون عليه السلام يؤمن على الدعاء، فاستجاب الله دعاءهما وقال سبحانه: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا [يونس:81]، قال العلماء: "كان بين الدعاء والإجابة أربعون سنة".
فعلى المؤمن أن يدعوَ الله، وأن يلحّ على الله في الدعاء، ولا يعجل في الإجابة، وينتظر الفرج من الله، وكما قال الشاعر اليمني الموحد في قصيدته التي سماها الجوهرة:
لطافة الله وإن طال المدى كلمح الطرف إذا الطرف أتى
فكم فرّج بعد إياس أتى وكم إياس قد أتى بعد النوى
ومن موانع إجابة الدعاء الدعاء بالإثم وقطيعة الرحم، يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم)).
ومن موانع إجابة الدعاء عدم الصلاة على النبي ، يقول : ((كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي)) ، وفي رواية: ((حتى يصلي على النبي وآل محمد)) ، وكان عمر بن الخطاب يقول: (الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد إلا بالصلاة على النبي محمد ).
وسئل إبراهيم بن أدهم عن قول الحق سبحانه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] قالوا: فإنا ندعو الله فلا يستجيب لنا، فقال: "لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: عرفتم الله ولم تؤدوا حقه، وتأكلون رزق الله ولا تشكرونه، وقرأتم كتاب الله ولم تعملوا به، وادعيتم عداوة الشيطان وواليتموه، وادعيتم حبّ رسول الله وتركتم أثره وسنته، وادعيتم حب الجنة ولم تعملوا لها، وادعيتم خوف النار ولم تنتهوا من الذنوب، واشتغلتم بعيوب غيركم وتركتم عيوب أنفسكم، وادعيتم أن الموت حق ولم تستعدوا له، وتدفنون موتاكم ولا تعتبرون، فكيف يستجاب لكم؟!"
أسأل الله سبحانه وتعالى أن لا يعاملنا بما نحن أهله، وأن يعاملنا بما هو أهله، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة، وأسأله جل وعلا أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا.
سبحان من يعفو ونهفو دائمًا ولا يزال مهما هفا العبد عفا
يُعطي الذي يُخطي ولا يمنعه جلالُه من العطَا لذي الْخَطَا
يا ابن آدم، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/4320)
حديث للمرأة المسلمة
الأسرة والمجتمع
المرأة
أحمد حسن المعلم
المكلا
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العناية بالمرأة المسلمة. 2- دعاة الحرية. 3- تكريم الإسلام للمرأة. 4- حال المرأة في الغرب. 5- نماذج مشرقة وصفحات مضيئة في تاريخ المرأة المسلمة. 6- نصائح وتوجيهات للمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
عباد الله، فحديثنا اليوم عن المرأة المسلمة، وهذا الحديث ليس خاصًا بالنساء فحسب، بل هو للرجال والنساء، فالرجال قوامون على النساء، وعليهم تقع مسؤولية إنشاء الأسرة المسلمة، ((وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد ، نتحدث اليوم عن المرأة المسلمة وإني لأتخيل تلك الصحابية التي جاءت إلى النبي وقالت: يا رسول الله، إن الرجال يحضرون معك الجمعة والجماعة فاجعل لنا من نفسك يومًا يا رسول الله، فجعل لهم يوم الاثنين.
والذي يدعونا للحديث عن المرأة المسلمة أمور، منها كثرة الفتن والتي مدخلها النساء، وقد حذر الرسول منهن فقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أكثر فتنة بني إسرائيل في النساء)) ، وقال : ((عرضت علي النار فإذا أكثر أهلها النساء)) ، قيل: يا رسول الله، ما بال النساء؟ أو قالت امرأة: يا رسول الله، ما بال النساء؟ فقال : ((يكثرن العشير ويكثرن اللعن)) ، والعشير هو الزوج، ثم قال : ((لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك معروفًا قط)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((أخوف ما أخاف على أمتي النساء)) ، ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) أخرجاه في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد.
ومن الأمور أيضًا التي تدعونا للحديث عن المرأة المسلمة تقصيرُنا دعاةً وعلماءَ وطلبة علم وأولياء في جانب المرأة وفي الجانب الآخر، فهناك مؤامرات ودعوات مغرضة وزائفة تحيط بالمرأة، يبثها أعداء الله من المنافقين والمرجفين في الأرض، والذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، يدعون إلى ما يسمى بحرية المرأة، ويدندنون على هذا الوتر، ويطنطنون ويقولون: إن المرأة المسلمة مظلمة، وإنها شق معطل ورئة مهملة. كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا، قاتلهم الله. هؤلاء هم أعداء المرأة وقتلة المرأة، لا يريدون إلا أن تكون المرأة جسدا مشاعًا يفترسه ذئاب الأرض، يريدون من المرأة أن تخلع جلبابها وحياءها وشرفها وعفتها وكرامتها، يريدون للمرأة العار والدمار والشنار في الدنيا والآخرة، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
إن الإسلام هو الذي حفظ المرأة، وهو الذي صان المرأة، وهو الذي شرف المرأة وكرم المرأة، ولا يوجد تشريع أعطى حقوقًا للمرأة مثل تشريع الإسلام.
كانت المرأة قبل الإسلام سقط متاع، يُعيَّر بها الرجل، توأَد وتقتَل وهي حيّة، ليس لها كيان ولا وزن ولا قيمة ولا حتى إنسانية، فجاء الإسلام فجعلها إنسانة لها شأنها في المجتمع، فهي تمثل نصف الأمة، ثم هي تلد النصف الآخر، فهي أمة كاملة.
لقد حفظ الإسلام المرأة أمًّا كانت أو زوجة أو بنتًا أو أختًا أو عمة أو خالة أو جدة أو امرأة من نساء المسلمين، وإن الناظر في كتاب الله وفي سنة رسول الله ليرى صور التكريم التي أحاطها الإسلام بالمرأة، استمع معي ـ يا عبد الله ـ واستمعي ـ يا أمة الله ـ إلى بعض هذه الصّور، يأتي رجل إلى رسول الله ـ كما في الصحيحين ـ فيقول: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحبتي؟ فيقول له الرسول: ((أمك)) ، ثم قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)).
ويأتي رجل إلى رسول الله ـ كما في السنن وصحيح مسلم ـ فيقول: يا رسول الله، جئت أبايعك على الجهاد والهجرة وتركت أبويّ يبكيان، فقال له الرسول: ((ارجع إليهما ففيهما فجاهد)) ، وفي رواية: ((ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)).
وها هو الرسول يوصي بالنساء فيقول عليه الصلاة والسلام: ((استوصوا بالنساء خيرًا)) ، ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)) ، وفي رواية: ((وأنا خيركم لأهلي)) ، وعند مسلم من حديث أنس عن النبي : ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين)) وضم أصابعه. والجاريتان أي: البنتان.
هكذا ـ إخوة الإسلام ـ كرّم الإسلام المرأة وجعل منها جوهرة مصونة، يسعى الرجل لخدمتها وصيانتها، أما المرأة في الغرب فهي إن كانت عجوزًا فهي في الملاجئ وفي دور العجزة والمسنين، وإن كانت شابة فهي في المعامل والمصانع، تبيع أنوثتها وعفتها وطهارتها وحياءها وشرفها، فأيّ حرية هذه؟! وأي حياة تلك؟! إنه ـ والله ـ إذلال للمرأة وفسخ لفطرتها التي فطرها الله تعالى عليها.
وقد اعترف بهذه الحقيقة الغرب أنفسهم، تقول إحدى الكاتبات الغربيات تقول بالنص: "لأَنْ يشتغل بناتنا في البيوت خوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن بالمعامل، حيث تصبح المرأة ملوّثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد"، ثم تقول: "ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة".
إذا علم هذا ـ إخوة الإسلام ـ فإن على المرأة المسلمة أن تعتز بإسلامها وبإيمانها وبحجابها وببيتها، ففي ذلك عزتها وكرامتها، وعلى المرأة المسلمة أن تتشرف بعبوديتها لله سبحانه وتعالى.
وممَّا زادنِي شرفًا وفخرًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحْمد لِي نبيًا
على المرأة المسلمة أن تجعل من النساء المؤمنات القانتات العابدات الحافظات قدوة لها، عليها أن تقتدي بأمهات المؤمنين؛ بخديجة وفاطمة وعائشة وأسماء وأم سليم وأمثالهن من المؤمنات القانتات الحافظات.
سارة بنت هاران زوجة إبراهيم عليه السلام امرأة عابدة مؤمنة مخلصة حافظة لله عز وجل، حفظت الله عز وجل فحفظها الله، ذهب إبراهيم عليه السلام مع زوجته سارة إلى مصر، وكان على مصر ملك طاغية من الطغاة، فاجر من الفجرة، كان يغتصب النساء غصبًا، فاغتصب سارة من إبراهيم، فلما دخل بها اعتصمت بالله وأسلمت قلبها لله، وسألت الله أن يعصمها من هذا الفاجر، فلما اقترب منها الملك استعاذت بالله منه ودعت عليه، واستجاب الله دعاءها فخسفت رجليه في الأرض وما استطاع أن يقرب منها فرفع عنها، ثم اقترب منها ثانية فأعادت الدعاء الأول فخسفت رجله ثانية، وما استطاع أن يمسها ثم رفع عنها، وحاول الثالثة فحدث له نفس الأمر، ثم ابتعد عنها وقال: إنما قربتم لي شيطانًا خذوها، فذهبت وأعطاها الملك جارية، فذهبت إلى زوجها إبراهيم وقالت له: كفانا الله الفاجر، وأخدمنا جارية، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].
وهذا درس للنساء، فمن اعتصمت بالله وحفظت الله عز وجل، فإن الله يحفظها ويحمي عرضها وشرفها ويدافع عنها.
وها هي أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لما حفظت الله عز وجل حفظها الله، ودافع عن عرضها، وبرأ ساحتها، وأنزل براءتها من فوق سبع سموات، في آيات تتلى إلى أن يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومن عليها.
هاجر امرأة إبراهيم عليه السلام أيضًا أم إسماعيل عليه السلام امرأة مؤمنة موحدة، تتعلم منها المرأة المسلمة الثقة بالله والتوكل عليه سبحانه وتعالى والصبر في سبيله ومرضاته، خرجت هاجر مع زوجها إبراهيم إلى مكة، ومكة كانت صحراء قاحلة لا ماء ولا شجر ولا كلأ ولا أناس ولا حياة، تركها إبراهيم في الصحراء هي وابنها إسماعيل، فقالت له: يا إبراهيم، إلى من تكِلنا؟ قال إبراهيم: إلى الله، قالت: أمرَك الله؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا الله.
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها زوجة الحبيب محمد وأم المؤمنين وسيدة من سيدات نساء الجنة، أول من آمن بالرسول ، نصرت الرسول بنفسها ومالها وبكل ما تملك، فكانت مثالاً للمرأة المؤمنة الصادقة الوفية التي تقف مع الزوج وقت الأزمات والشدائد، فماذا كان جزاؤها؟ بشرها الله ورسوله بجنة عرضها السموات والأرض وهي ما زالت تمشي على وجه هذه الأرض، كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن جبريل أتى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: ((هذه خديجة قد أتتك بطعام فأخبرها بأن الله يسلم على خديجة)) ، فلا إله إلا الله، ما أعظم هذه المكانة، وما أعظم هذا الشرف، الله سبحانه وتعالى رب السموات والأرض يسلم على خديجة، ثم قال عليه السلام: ((وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا نصب فيه ولا وصب)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
أم سليم رضي الله عنها امرأة داعية إلى الله عز وجل، جاء إليها أبو طلحة الأنصاري بعد أن مات زوجها مالك، جاء إليها طالبًا خطبتها وكان مشركًا، فقالت له: أنت مشرك، وإذا أردت الزواج مني أسلم وسوف يكون إسلامك مهرًا لي، فما كان من أبي طلحة الأنصاري إلا أن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ، وكان إسلامه مهرًا لأم سليم، فكان أكرم مهر وأعز مهر في الإسلام، وكان إيمان أم سليم ودعوتها إلى الله الواحد الديان ثمنًا لروحها في الجنة، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: ((بينا أنا في الجنة وإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة في الجنة)).
وأما التضحية والبذل والعطاء فحدث ولا حرج، هند بنت عمرو بن حرام، والتي عرفنا خبرها في الجمعة الماضية، ولكن لا بأس من الإعادة فكما قيل:
كرر العلم يا كريم الْمحيا فتدبره فالمكرر أحلى
هند بنت عمرو بن حرام جاءها نبأ استشهاد زوجها في غزوة أحد، زوجها عمرو بن الجموع، فماذا قالت؟ قالت: أين رسول الله؟ ثم جاءها نبأ وفاة ابنها خلاد بن عمرو بن الجموح فقالت: أين رسول الله؟ ثم جاءها نبأ وفاة أخيها عبد الله بن عمرو بن حرام فقالت: أين رسول الله؟ فلما رأت الحبيب المصطفى تساقطت منها دموع المحبة الصادقة لله ولرسوله ودموع الفرحة وقالت: كل مصيبة تهون بعدك يا رسول الله.
الخنساء وخبرها غريب وعجيب، هذه المرأة مات أخوها صخر قبل أن تسلم، فحزنت عليه وبكت عليه سنين طويلة، لبست الصوف والخشن من الثياب، ورثته برثاء يعد من عيون الشعر الجاهلي، فلما أسلمت قدمت أبناءها الأربعة إلى معركة القادسية، فاستشهدوا جميعًا في سبيل الله، فلما جاءها خبر استشهادهم جميعًا في سبيل الله ماذا فعلت؟ ومعلوم أن الابن أغلى من الأخ، قالت: الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم في سبيل الله، وأرجو الله أن يجمعني بهم في مستقر رحمته. الله أكبر.
إخوة الإسلام، هذه نماذج مشرقة وصفحات مضيئة في تاريخ المرأة المسلمة، ينبغي أن تكون أسوة وقدوة لكل امرأة مسلمة ترجو الله والدار الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، اتقوا الله حق تقاته، واسعوا في مرضاته، وتدبروا القرآن الكريم، وتمسكوا بسنة خاتم النبيين، وتفقهوا في الدين، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
أما بعد: فيقول الرسول الكريم محمد مخاطبًا ابنته فاطمة الزهراء سيدة من سيدات نساء الجنة، يقول لها الرسول: ((يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك من الله شيئًا)) ، ونحن نقول لكل امرأة مسلمة: أنقذي نفسك من النار، فإنا ـ والله ـ لا نملك لك من الله شيئًا.
على المرأة المسلمة أن تتقي الله سبحانه وتعالى في نفسها، فتحفظ نفسها وحياءها وشرفها وجلبابها وبيتها، عليها أن تراقب الله في السر والعلن، وتعلم أن الله مطلع عليها، فتحفظ الله حتى يحفظها الله يوم تضيع الأفهام وتضل العقول.
على المرأة المسلمة أن تغض بصرها عن كل ما حرم الله، فلا تطلق بصرها إلى الحرام، قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]. وإذا ذكر المؤمنون في القرآن فهذا اللفظ يشمل الرجال والنساء، ولكن لمزيد من التأكيد يخاطب الله المؤمنات أيضًا فيقول سبحانه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31]. سئلت السيدة فاطمة بنت رسول الله رضي الله عنها: ما أحسن وصية للنساء؟ قالت: أن لا ترى المرأة الرجل ولا يراها الرجال.
على المرأة المسلمة أن تحفظ لسانها من الكذب والسب والشتم واللعن والغيبة والنميمة، وما أكثرها في مجالس النساء. على المرأة المسلمة أن تحفظ سمعها عن اللهو والفحش وعن كل ما حرم الله سبحانه وتعالى.
على المرأة المسلمة أن تحفظ حق زوجها، وأن تطيعه في طاعة الله عز وجل، فالزوج أوسط أبواب الجنة، إن حفظت المرأة حق زوجها دخلت من هذا الباب إلى الجنة، وإن ضيعت المرأة حقوق زوجها ضيعت طريق الجنة. فلا إله إلا الله كم للزوج من حقوق، ولا إله إلا الله كم للزوج من واجبات، يقول كما في حديث أم سلمة عند الترمذي: ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) ، ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي أيضًا من حديث أبي هريرة: ((لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) ، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح".
على المرأة المسلمة أن تهتم بتربية أطفالها وتنشئتهم تنشئة صالحة، فهذه وظيفتها الأولى ودورها في الحياة، فالمرأة هي التي تخرج الرجال، وهي التي تربي الرجال، وما وجد رجل عظيم إلا وخلفه امرأة.
فالأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبًا طيب الأعراق
على المرأة المؤمنة أن تعظم الله، وأن تعظم الرسول في قلوب أبنائها، فينشؤوا على محبة الله ومحبة رسوله.
على المرأة المسلمة أن تعظم أيضًا في قلوبهم صحابة رسول الله وآل بيته، وتقرأ عليهم سير الصحابة والصحابيات؛ حتى يكون هؤلاء الأخيار هم النجوم عند أبنائنا لا نجوم الفن والرقص والغناء؛ لأن كثيرا من أطفال المسلمين تربوا على أن العظماء هم المغنون والمغنيات والراقصون والراقصات والممثلون والممثلات الأحياء منهم والأموات، والمشتكى إلى الله سبحانه وتعالى.
أيتها المرأة المسلمة، إن السعادة ليست في الذهب والفضة وفي الزوج وفي السيارة والفلة، إن السعادة ـ والله ـ في الإيمان بالله سبحانه وتعالى والعمل الصالح، يقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
وأما من ملكت هذه المقومات الموهومة للسعادة من ذهب وفضة وزوج وسيارة وفلة ولكنها بلا إيمان وبلا طاعة للرحمن فوالله لن تذوق طعم السعادة ولن تذوق طعم الراحة، بل تعيش في ضنك وفي هم وغم وحزن لا يعلمه إلا الله، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
المرأة بإمكانها أن تعيش بلا ذهب وفضة وبلا زوج وسيارة وفلة، المهم أن تكون مؤمنة بالله طائعة لأوامر الله سائرة إلى مرضاة الله. فعودة ـ أيتها المرأة المسلمة ـ إلى الله، عودة إلى القرآن، عودة إلى سنة خير الأنام.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي نساء المسلمين، وأن يأخذ بنواصيهن إلى البر والتقوى، وأن يزينهن بزينة الإيمان والعمل الصالح.
يا ابن آدم، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان.
(1/4321)
خواطر من برد الشتاء
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
أعمال القلوب, مخلوقات الله
أحمد حسن المعلم
المكلا
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله على عباده. 2- العبرة والاتعاظ من تقلب الليل والنهار وتصرّم الليالي والأيام. 3- جنة العبودية. 4- من فضل الله على عباده ورحمته بهم تعظيم الأجور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصي نفسي المقصرة وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى.
ثم أما بعد: ففي الصحيحين أن النبي قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشدّ ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشدّ ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم)).
إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد رسول الله ، مِنْ نِعَمِ اللهِ سبحانه وتعالى على عباده أن جعل لهم فصولاً أربعة يتقلب فيها الزمان، على حرّ مصيف، ويبس خريف، وبرد شتاء، وحسن ربيع، تبعًا لحكمته البالغة ومشيئته النافذة وقدرته الباهرة، حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [القمر:5].
فأما المؤمن فيتذكر ويعتبر ويزداد إيمانًا إلى إيمانه، يأتي فصل الصيف بحرارته وشدته فيتذكر حرّ النار وسموم جهنم، ويتذكر قوله تعالى: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا [التوبة:81]، فيزداد يقينًا إلى يقينه، ويسارع إلى طاعة ربه وإلى مرضاة مولاه وإلى أعمال صالحة مباعدة عن النار. ويأتي فصل الشتاء ببرده وقساوته فيتذكر زمهرير جهنم، ويعلم أنه في موسم من مواسم الإقبال على الله، فيتزوّد للقاء الله سبحانه وتعالى، كما قال أحد السلف: "الشتاء جنة المؤمن؛ طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه".
هذا هو حال المؤمن، وأما المنافق فلا تذكّر ولا اعتبار، وإنما لهو ولعب وغفلة وبعد عن الله سبحانه وتعالى، حاله كحال القائل:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ويبس الخريف وبرد الشتاء
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لِي متى؟!
وهكذا المنافق والمعرض عن الله يبدّد حياته ويضيّع عمره في كل معصية ولهو، حتى يأتيه الأجل وهو على هذه الحالة، فيندم ولات حين مندَم، ويتمنى الرجوع إلى هذه الدنيا ليعمل ولكن هيهات هيهات، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ:54]، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:37].
معاشر المسلمين المؤمنين الموحدين، ما أعظم المؤمن وهو يستعذب الألم في سبيل الله سبحانه وتعالى، يوم يقوم العبد وهو يسمع النداء لصلاة الفجر: "حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم"، فينتفض من فراشه الدافئ، ويتخلى عن لحافه الوثير، ويعمد إلى الماء البارد، فيتوضأ في شدة البرد، ولسان حاله يقول: "أحبّه إلى الله أحبّه إلى نفسي"، وكما قال القائل:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ما أعظم المؤمن وهو في هذه الحالة، يباهي به الله ملائكته، ويقول سبحانه لملائكته: يا ملائكتي، انظروا لعبدي المؤمن، ترك فراشه الدافئ ولحافه الوثير، وقام إلى الماء البارد يتوضأ، وقام إليّ يناجيني ويدعوني، أشهدكم أني قد غفرت له، فأدخلته الجنة.
يا لعظمة المؤمن وهو يخرج من بيته في ظلام الليل الدامس وفي شدة البرد وهو يستحضر قوله عليه الصلاة والسلام: ((بشّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم : ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)).
إن على المؤمن أن يستشعر هذه المعاني، فيتذكر هذه الأحاديث حتى يزداد إيمانًا إلى إيمانه ويقينًا إلى يقينه وإقبالاً على طاعة ربه وشوقًا إلى مرضاة مولاه.
يتذكر المؤمن وهو يتوضأ بالماء البارد في شدة البرد قول الحبيب المصطفى محمد رسول الله : ((إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها مع الماء ـ أو مع آخر قطر الماء ـ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء ـ أو مع آخر قطر الماء ـ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ـ أو مع آخر قطر الماء ـ، حتى يخرج نقيًا من الذنوب)).
وهكذا ـ يا عباد الله ـ يستشعر المؤمن كل هذه المعاني وهو يتوضأ، فإذا أتم وضوءه رفع سبابته إلى السماء وأعلن الوحدانية: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فإذا فعل ذلك فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء.
وقل لبلال العزم من قلب صادق أرحنا بِها إن كنت حقًا مصلّيًا
توضأ بماء التوبة اليوم مُخلصًا به ترقى أبواب الجنان الثمانية
يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء)) ، زاد الترمذي بعد الشهادة: ((اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين)) ، وفي حديث أبي هريرة ـ كما في صحيح مسلم ـ يقول عليه الصلاة والسلام: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)).
وإسباغ الوضوء على المكاره أن تسبغ وضوءك في شدة البرد، يوم أن لا يمس المنافق الماء البارد ويتأذى من الماء البارد، فتقوم أنت يا أيها المؤمن والموحد، فتشرشر بالماء البارد على أعضائك الدافئة طلبًا للأجر والثواب من الله، فيحط الله عنك الخطايا كما تحات الشجرة ورقها في شدة البرد.
وهكذا ـ عباد الله ـ يستحضر العبد هذه المعاني حتى يزداد إقبالاً وشوقًا إلى طاعة الله، هذه إحدى الصالحات انكسر ظفرها فقالت: أنساني حلاوة ثوابه مرارة وجعه.
وأما كثرة الخطى إلى المساجد فما من خطوة يخطوها العبد إلى بيت من بيوت الله إلا وترفع إحداها درجة والأخرى تحط خطيئة.
وأما انتظار الصلاة بعد الصلاة فكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) ، كأنه مرابط في سبيل الله تعالى، وكأنه على ثغر من ثغور الإسلام، يحصل على هذا الأجر العظيم وهو باق في مكان لم يخسر جهدًا ولا وقتًا ولا درهمًا ولا دينارًا، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة)) ، قال عليه الصلاة والسلام: ((تامة تامة تامة)).
كم يبذل الإنسان من الجهد والوقت والمال إذا أراد أن يؤدّي فريضة الحج أو العمرة الكثير الكثير، ولكن من فضل الله على عباده ورحمته بهم أن يسر لهم هذه الأعمال اليسيرة وجعل لهم هذه الأجور العظيمة حتى ينشط الإنسان في طاعة ربه، صحيح أن هذا لا يسقط الفرض عن الإنسان، ولكن يظفر بهذه الأجور العظيمة.
وأيسر من هذا أن ينتظر الإنسان صلاة العشاء بعد أداء صلاة المغرب، ساعة واحدة يقرأ فيها كتاب الله أو يذكر الله أو يستمع للذكر والعلم فكأنه مرابط في سبيل الله تعالى.
إنها جنة العبودية يا عباد الله، والتي حرمها كثير من الخلق إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، إنها جنة الدنيا كما قال أحد السلف: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة"، ويقول الآخر: "إنه لتمر علي ساعات أقول فيها: لو كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن لكانوا إذًا في عيش طيب"، إنها جنة العبودية التي يقول في وصفها أحد السلف: "من مثلك يا ابن آدم؟ خُلِّي بينك وبين المحراب وبين الماء كلّما شئت، ودخلت على الله عز وجل وليس بينك وبينه ترجمان".
إنها جنة العبودية ـ يا عباد الله ـ يوم يدخل العبد في صلاته ويناجي ربه يقول العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فيقول الله: حمدني عبدي، ويوم يقول العبد: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فيقول الرب: أثنى علي عبدي، ويوم يقول العبد: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ فيقول الله: مجدني عبدي، ويوم يقول العبد: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فيقول الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4322)
الإمام الراحل
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الموت والحشر, تراجم
محمد بن معطش آل مزوي
بيشة
30/6/1426
جامع الدحو
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استخلاف الله للبشر في الأرض. 2- نظرة في تاريخ البشرية. 3- لمحة عن نشأة الدولة السعودية. 4- من مآثر الإمام الراحل فهد بن عبد العزيز. 5- مبايعة الملك عبد الله. 6- أمور تخفف المصاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقواه هي النجاة من المضائق والسلامة من العوائق والسلوى عند المصائب.
معاشر المسلمين، اقتضت حكمة الله تعالى أن يعيش البشر على هذه الأرض التي خلقهم منها، خلق الله آدم أبا البشر من تراب الأرض، ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه، فلما اكتمل خلقًا سويًّا أسجد له ملائكته وأدخله جنته، وبسبب المعصية أُخرِج من الجنة، وأُهبِط إلى الأرض يعمرها ويعبد الله فيها حتى يتوفّاه الله، وصدق الله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، فهذه الأرض هي المنشأ وفيها العمارة وإليها القبر، هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61]. وهذه الأرض التي استخلفنا الله فيها تفسد بسبب ذنوب البشر، حيث ينقسم البشر فيها إلى كفار وملحدين ومؤمنين موحّدين، فهذه سنة الله كما قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251].
ولقد فسدت الأرض مرات ومرات، وكلما فسدت الأرض أرسل الله رسلاً مبشّرين ومنذرين يصلحون ما أفسد الناس، ويعيدونهم إلى الجادّة والطريق المستقيم. ولا يزال هذا أمر الله في خلقه كلّما أفسدوا الأرض أرسل لهم رسلاً يدعونهم للتوحيد، ويعلمونهم ما يصلح لهم الدنيا والآخرة.
وانظروا أين قوم نوح، وأين قوم عاد وقوم صالح وقوم لوط وأصحاب الأيكة وأصحاب الرس وثمود وقرونًا بين ذلك كثيرًا؟ لقد بادوا.
وإن الله تعالى قد نظر إلى أهل الأرض عَرَبَهم وعَجَمَهم، فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب، ثم نظر إلى أهل الأرض فرحمهم، فأرسل لهم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب القرشي، فأكرمه بالرسالة، ومَنَّ على المؤمنين ببعثته، فكانت رسالته عالمية ودعوته عامة لجميع أهل الأرض؛ يهود ونصارى ومجوس ووثنيين وعرب وعجم على اختلاف ألوانهم وبيئاتهم، فأتم الله به الدين، وأقام به معالم الملة، ثم انتقل صلوات الله وسلامه عليه إلى جوار ربه بعد أن قال الله له وفيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، ثم توالى على نهج محمد الخلفاء الراشدون، فانتشر الإسلام في أرجاء الأرض.
ثم قامت دول وممالك وملوك وخلفاء، يخلف بعضهم بعضًا في نحو من ألف وأربعمائة سنة، وكل تلك النظم والدول التي قامت تتفاوت في اتباعها لنهج محمد ، والتاريخ يحمل في سِجِلاّته تاريخ هذه الأنظمة، إلا أن مما سجّله التاريخ بمدادٍ من ذهب على غُرّة جَبِين التاريخ ليصبح شامة في جبينه تلك المفاخر التي يزدان بها تاريخ الأئمّة الهداة أنصار الحق وبناة المجد ومحقّقي العدل والسلام في الأرض من أسرَة آل سعود الأَشَاوِس، تلك الأسرة المباركة العريقة النسب، العربية المَحْتِد، التي يرجع نسبها إلى بني ربيعة بن أسد، تلك الأسرة التي توالت على حكم الجزيرة العربية منذ أكثر من ثلاثمائة سنة، حيث لما أظلمت الدنيا وفسدت الأنظمة الحاكمة في ديار الإسلام خرج الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يدعو من قلب نجد إلى منهج محمد وإعادة الناس إلى ما كان عليه، ففاز بشرف النصر والمؤازرة مؤسس الدولة السعودية الأولى الإمام محمد بن سعود رحمه الله، فبنى دولة إسلامية تحكم بشرع الله، وتهتدي بهدي رسول الله ، وتلزم الناس به، ثم قامت الدولة السعودية الثانية على يد مؤسسها الإمام تركي بن عبد الله رحمه الله، ثم قامت الدولة السعودية الثالثة على يد مؤسسها الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل رحمه الله، الذي جمع الله له شَتَات الجزيرة، ووحّد له أهلها وأرضها، فأصبحت مملكة تستمدّ منهجها من كتاب الله وسنة رسوله.
وهذه الأدوار السعودية الثلاثة قد مر كل دور منها بظروف سياسية واجتماعية لها خصوصياتها، إلا أن الدور السعودي الثالث كان له من الظروف الحرجة والسياسات المعقّده ما يستوجب من كل مسلم أن يحمد الله تعالى على أن أوجد هذه الدولة وهذا الدور في تلك الظروف والحال.
هذا، ولئن كان الملك عبد العزيز رحمه الله قد أسس الدولة وبنى الأساس وجمع الشتات بمنّ الله تعالى فإن أبناءه الذين توالوا على الحكم بعده كان لهم ـ بعد الله ـ الفضل في الذبّ عن دين الله وأرض الله وعباد الله من عاديات الشرور التي تحيط بهم من كل جانب، وتفتح أبوابها من كل حَدَب وصَوْب؛ شيوعية حمراء ويهودية ملعونة تريد قهر الشعوب وسَحْق الإسلام وأهله. وتزامنت هذه الأنظمة الكافرة الحاقدة في زمن واحد، وإن كان بينها تباين فهدفها واحد، وهو احتلال أرض المسلمين وطَمْس هويتهم بشتى الطرق والوسائل.
فأخرج الله للأمة هذه الثُّلَّة الكريمة من ملوكِ الإسلام التي لعبت مع هذه الأنظمة بِحِنْكَة وسايَسَتْها بجدارة، مما كان له بفضل الله تعالى كسب المواقف والذبّ عن الدين والأرض، ففي الوقت الذي تعيش فيه بعض الأوطان ألوانًا من الفواجع وحالات من الزوابِع وتحلّ بهم القَوَارِع تعيش هذه البلاد استقرارًا ورخاءً وسُؤددًا ونماءً، بفضل الله تعالى ثم بفضل تمسك قادتها بالثوابت والأصول وإدارة الأحوال والظروف بما تفرضه سياسة الواقع.
غير أن مما يُذكر فلا يُنسَى ويُشهَر فلا يخفى تلك المواقف العِظَام والأفعال الجِسَام التي وقفها ملك هذا الزمان ومفخرة كل الأنام الملك الراحل فهد بن عبد العزيز رحمه الله، الذي أمسك الزمام، وكان الرُّبَّان الذي قاد السفينة بتوفيق الله إلى برّ الأمان وشاطئ السلام، وطَّدَ الأمن، ونظر إلى معاناة المسلمين في أرجاء الأرض، فجعلها موضع عنايتة، رغم ما واجهه من تحديات واعترضه من أزمات.
الشيوعية تحكم بالنار، وتهيمن سبعين عامًا على الشعوب بالقهر والنكال، وتريد الوصول إلى أرض الجزيرة، وحكام خَوَنة ومعتقدات فاسدة تساعد على انتشار هذا النظام، فأيّد الله هذا الهُمَام، وسخّر له من أنواع التسخير ما جعل ذلك النظام يندحر، حتى أصبحت بعض الدول التي لم تكن معروفة بل وعن معتقداتها وشعائرها ممنوعة تهلّل وتُجَلْجِلُ بالتكبير والتلبية، والمصحف الشريف يُطبع ويُرسل لهم، والمراكز الإسلامية والأكاديميات العالمية تفتح في تلك البلدان باسم الإسلام، وبدعم من بلاد الإسلام أرض الحرمين وخادم الحرمين.
أيها الإخوة، إن هذا الراحل العظيم يعجز اللسان من تعداد فضائله وسَرْد محاسنه، لكنّ الأمة تفخر بعظمائها، وتسطّر لأجيالها جوانب العظمة فيهم.
إني أقول: إن هذا الرجل عظيم، وقد شهدت على جوانب عظمته المواقف الجُلَّى والعَقَبات الكَأْداء التي جاوز بها بأمر الله البلاد والعباد، ووقوفه موقف الصلب أمامها. كما أن عظمة هذا الرجل تبرز في الدور البارز له في خدمة قضايا المسلمين، واهتمامه الظاهر بما يخص رموز الإسلام، حتى أصبح رحمه الله رمزًا من رموز الإسلام.
فهذا العمل النبيل الذي قام به تجاه أعظم توسعة عرفها التاريخ للحرمين الشريفين، وتذليل الصعاب للمسلمين الراغبين في القدوم إليهما. ثم ما كان يتحلّى به رحمه الله من حسن سياسته وحنكته وبُعد نظره في استعطاف أصحاب القرار في العالم لصالح قضاياه وما يهم أمته الإسلامية.
ولقد تجلّت العظمة في هذا الإمام في شخصيته حيًّا وميتًا، فيوم جنازته والصلاة عليه كانت مراسم التشييع والدفن على أساس وهدي نبوي كريم، لم يكن له كما كان لبعض القادة من طقوس بِدْعية ومواكب غير شرعية، بل كان الجثمان إلى الثرى في عظمته، كما ووري رسول الله فيه وأصحابه والخلفاء من بعدهم.
وهذا ترجمان يعبّر عن صدق العقيدة السلفية التي ينتمي لها هذا الإمام ومن معه على الشاكِلَة، لقد قال والده الملك عبد العزيز رحمه الله في ملتقى من ملتقيات الحج: "يقولون عنا: وهّابية! ونحن السلفية التي تسير على نهج السلف الصالح".
أيها الإخوة، إن الأمة اليوم في هذا الزمان المخيف تحتاج لأئمة وقادة ينهجون ذات النهج الذي نهجه هذا الإمام وأسلافه من قبله. وإن الآمال ـ بعد الله ـ معقودة بحمد الله في نائبه وخليفته الذي عاهد الله وعاهد الناس أن يكون القرآن دستوره والإسلام منهجه وإحقاق الحق والعدل سبيله، وفي ولي عهده الأمين، وهؤلاء هم أئمتنا العظماء، نعاهدهم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره.
ولقد انعقدت البيعة للملك عبد الله منذ بايعته الأسرة وأهل الحل والعقد، وهي بيعة العهد والميثاق، إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]. وأما البيعة العامة فهي التي تجلّت في صورة كتابة أو عن طريق الأمير والمحافظ ورؤساء المراكز كما صدر من توجيه كريم، فإن تعذر فيكون باستشعار عظمة البيعه، فإنها من قواعد الدين ومن مبانيه العظام، ومن بات وليس في عنقه بيعة للإمام فقد نَزَع ربْقَة الإيمان من عنقه.
رحم الله الملك الراحل والإمام الفقيد خادم الحرمين الشريفين فهد بن عبد العزيز، وبارك في أخويه خليفته ونائبه، وجمع لهما وبهما الشمل، وكتب على أيديهما صلاح البلاد والعباد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، لا راد لقضائه وقدره.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي كتب الموت على كل حي، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد بن عبد الله نبيه ورسوله، قال له ربه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقو الله عباد الله.
أيها الإخوة المؤمنون، إن الحزن واللوْعَة على الإمام الراحل، يخفّفها عدة أمور:
أولها: أن الموت حق، وتحفة المؤمن الموت.
ثانيها: أن هذه الأمة أمة مِعْطَاء، أنجبت ولا زالت تنجب العظماء.
ثالثها: أن هذا الإمام قد وضع أسسًا لانتقال السلطة والإمامة من بعده، وفي الملك عبد الله إن شاء الله وفي ولي عهده عوض عمن فات.
رابعها: أن هذا الراحل العظيم يُرجَى له خير، ويُشهد له بالخير من خلال سيرته العطرة وما خلّفه من ميراث عظيم، نسأل الله أن يثقل له الميزان، ويرفع له الدرجات، ويحسن عزاءنا فيه.
كما أنه مما ينبغي التنبيه عليه أن الله تعالى قال: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:67]، فالله تعالى قد اختار واصطفى من الأزمان أزمانًا، ومن البلدان بلدانًا، كما اصطفى من الملائكة والناس، ونحن في بلد كريم قد اصطفاه الله، وولّى عليه خيرة الحكاّم والولاة، ولن يضيع الله ما اصطفى، حيث الهدى وأرض المصطفى، فجدّوا في طاعة المولى، والتحموا صفًّا واحدًا ويدًا واحدة مع ولاة أمركم، وثقوا بنصر الله وتأييده.
ثم أكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد...
(1/4323)
فضل العلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
5/8/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلم النافع طريق إلى الجنة. 2- آيات من كتاب الله في فضل العلم. 3- فضل العلم في السنة المطهرة. 4- تفاني السلف في طلب العلم. 5- المراد بالعلم المحمود في نصوص الوحيين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنّه إذا كانَ العلمُ لدى كثيرٍ من الناسِ قوامَ الحياة وأساسَ النهضات وعمادَ الحضاراتِ ووسيلةَ التقدّم للأفراد والجماعاتِ فإنّه لدَى أُولي الألبابِ مِن عبادِ الرحمن فوقَ ذلك كلِّه؛ طريقٌ يسهِّل الله به دخولَ الجنَّة والحظوةِ فيها بالنّعيم المقيم الذي لا يفنَى ولا يبيد، كما بيَّن ذلك وأرشدَ إليه رسول الهدى صلوات الله وسلامُه عليه بقوله: ((ومَن سلك طريقًا يلتمِس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنّة)) الحديث أخرجَه مسلم في صحيحه وأصحاب السنَن عن أبي هريرة رضي الله عنه [1].
فهو بذلك سبَب السعادة في الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ لأنه كما قال معاذُ بن جبل رضي الله عنه: (معالم الحلال والحرام ومنارُ سبُلِ أهل الجنّة، وهو الأنيسُ في الوحشة والصاحِب في الغربَة والمحدِّث في الخَلوة والدّليلُ على السّرّاء والضراء والسّلاحُ على الأعداء والزَّين عند الأخلاّء، يرفَع الله به أقوامًا فيَجعلهم في الخيرِ قادَةً، تقتَصُّ آثارُهم ويُقتدَى بفِعالهم وينتَهَى إلى رأيهم؛ لأن العِلمَ حياةُ القلوبِ من الجهلِ ومصابيح الأبصارِ من الظّلَم، يبلغ العبدُ بالعلم منازلَ الأخيار والدرجاتِ العُلى في الدنيا والآخرة، به توصَلُ الأرحام، وبه يعرف الحلالُ من الحرام، وهو إمام العمَل، والعمَل تابِعُه، يُلهَمُه السّعداء، ويُحرَمُه الأشقياء) انتهى كلامه رضي الله عنه [2].
ولذا فليس عَجبًا أن تكونَ أوّل آية نزلت من كتابِ الله تعالى دعوةً إلى التعلم وتعظيمًا لشأن المعرفةِ وتنويهًا بقيمةِ القَلَم والقراءة؛ لأنهما طريقُ الوصول إليه ووسيلة النّهلِ من معينه، حيث قال سبحانه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، وأن ينهوِّهَ سبحانه بفضلِ العلمِ وأهله ورِفعة منزلتِهم وعلوِّ كَعبهم وشرفِ مقامهم ونفيِ المساواةِ بينهم وبين غيرهم حيث قال عزّ اسمه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، وأن يجعلَ للعلماء مقامَ الخشيةِ الحقَّة منه؛ لأنّ العلم أرشَدَهم إلى كمالِ قدرته وعظيمِ قوّتِه وبديعِ صِفاته، فزادَهم ذلك هيبةً منه وإجلالاً له، فقال عزّ مِن قائل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وأن يشبِّهَ العالمَ بالبصير والجاهلَ بالأعمى والأصمِّ، وأن يشبِّه كذلك العلمَ والإيمان بالنّور والجهلَ والكفرَ بالظلمات، ويَنفيَ المساواةَ بينهما كما تنتفي المساواةُ بين الظلِّ الذي يُنتَفَع به والحرورِ الذي يتضرَّرُ به، وكما لا يستوي الأحياءُ بنور العلمِ والإيمان ولا الأموات الذين نَسُوا الله وأعرَضوا عن نوره، فأمَات قلوبهم، فهِي لذلك لا تتأثَّر بموعِظَةٍ ولا تستجيب لداعي الهدى، فقال عزّ وجلّ: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ [هود:24]، وقال سبحانه: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:19-22]، وأن يقرِنَ ذكرَ أهلِ العلم بذِكر الملائكة في شهادتهم بالوَحدانيّة لله تعالى باستيقانِهم أنّه لا معبودَ بحقّ إلا الله، فعبدوه حقَّ العبادة، ونفَوا عنه الشّركاءَ، فقال جلّ وعلا: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].
وفي سنّةِ رسولِ الله ـ يا عبادَ الله ـ مِن هذا البابِ ما لا يكاد يستوعِبه الحَصر، فمن ذلك ما أخرجه الترمذيّ في جامعه بإسنادٍ صحيح عن أبي أمامةَ الباهليّ رضي الله عنه أنه قال: ذكِرَ لِرسول الله رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((فضل العالمِ على العابد كفضلِي على أدناكم)) ، ثم قال رسول الله : ((إنَّ الله وملائكتَه وأهل السموات والأرضِ حتى النّملَة في جحرِها وحتى الحوتَ ليصلّون على معلّمِ الناس الخير)) [3].
وإنّه لفضل قد بلَغ الغايةَ، ولِم لا يكون كذلك وقد بيَّن رسول الله أنَّ العلماء هم ورثة الأنبياء حقًّا، لأنّ الميراثَ الذي تركه الأنبياء هو العِلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من سَلك طريقًا يلتمِس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضَع أجنحتَها لطالب العِلم رضًا بما يصنع، وإنَّ العالم ليستغفِر له من في السموات ومن في الأرض والحيتانُ في جوف الماء، وإن فضلَ العالم على العابِد كفضلِ القمر ليلةَ البدر على سائرِ الكواكب، وإنَّ العلماءَ ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورَّثوا العلمَ، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر)) أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه في سننهم وابن حبان في صحيحه والبيهقي في شعَب الإيمان بإسنادٍ حسن [4].
وأخرجَ الطبرانيّ في معجَمه الأوسط بإسنادٍ حسن عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّه مرّ بسوق المدينة فوقَف عليها فقال: يا أهلَ السّوق، ما أعجزكم! قالوا: وما ذاك يا أبا هريرة؟! قال رضي الله عنه: ذاك ميراثُ رسول الله يقسَم وأنتم ها هنا! ألا تذهبون فتأخذون نصيبَكم منه؟! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد، فخرجوا سِراعًا ووقف لهم حتى رجعوا، فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة، قد أتَينا المسجدَ فدخلنا فيه فلَم نرَ فيه شيئًا يقسَم، قال أبو هريرةَ: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟! قالوا: بلَى، رأينا قومًا يصلّون وقومًا يقرؤون القرآنَ وقومًا يتذاكَرون الحلالَ والحرام، فقال أبو هريرةَ رضي الله عنه: ويحكم! فذاك ميراثُ محمّد [5].
وأخبر علَيه الصلاة والسلام أنَّ العلم النافِع هو أحدُ ثلاثِ خصال يستمِرّ ثوابُها موصولاً لصاحبها فلا ينقطِع بموته، فقال: ((إذا مات ابن آدَم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية أو عِلم ينتَفَع به أو ولدٍ صالح يدعو له)) أخرجه مسلم في صحيحه [6] ، إلى غير ذلك من نصوصِ الوحيَين الدالّةِ على فضلِ العِلم وأهلِه وشَرفِ منازلهم وكريمِ مآلهم؛ ممّا كان له أعظمُ الآثار وأعمَقها في نفوسِ السّلف الصالح رضوان الله عليهم، فهذا الإمام محمّد بن شهاب الزهريّ يقول: "لأَن أجلِس ساعةً فأتفقَّه أحبُّ إليَّ من أن أحيِيَ ليلةً إلى الصباح" [7] ، ويقول مصعب بن الزّبير رحمه الله لابنه: "تعلَّم العلمَ، فإن [كان] لك مالٌ كان لك جمالاً، وإن لم يكن لك مالٌ كان لك مالاً" [8] ، ويقول عبد الملك بن مروان رحمَه الله لبنيه: "با بَنيَّ، تعلَّموا العِلم، فإن كنتُم سادَةً فُقتُم، وإن كنتم أوساطًا سُدتُم، وإن كنتم سوقةً عِشتم" [9].
أفلا يجدُر إذًا بكلّ طالبِ عِلم وبكلّ آخذٍ منه بطرَف وبكلِّ ضارِبٍ فيه بسَهم أن يكونَ له في الإقبالِ عليه عَزمٌ ماضٍ لا ينثَني، وأن تكونَ له في طلَبه وفي الاشتِغال به نيّة خالصةٌ ومقصود حسَن؛ بأن يبتَغِي به وجهَ ربِّه الأعلى، لا ليصيبَ به عرضًا من الدّنيا، ولا ليباهي به العلماءَ أو يماريَ به السّفهاء أو ليصرفَ به وجوهَ الناس، وأن يذكرَ أنه إذا كان المؤمن القويُّ خيرًا وأحبَّ إلى الله من المؤمن الضعيفِ فإنَّ من القوّة المحبوبة عند الله تعالى قوّةَ المسلم في علمِه وعمَلِه المتمثلةَ في كمال المحبّة لهذا العلم ودَوام المدارسةِ له والاستكثارِ مِن البَحث في دقائقِه والكشفِ عن غوامِضه والاستعانة على التمكُّن من أزمَّتِه بالعمَلِ به وتعليمه. ولا ريب أنّ قوّةَ المسلم ـ يا عبادَ الله ـ هي قوّة لأمّته، وأنّ كلَّ ما يحرِزه من تفوّق أو يصيبه من نجاحٍ أو يبلغه من توفيقٍ عائدٌ أثرُه عليها لا محالة.
فاتقوا الله عبادَ الله، واحرِصوا على العنايةِ بهذا العلم وبذلِ أسباب التمكُّن منه ورعايةِ حقِّه بالإخلاص لله تعالى في طلبِه وتحمُّله وفي تعلّمه وإشاعته وبالعمَل بما يقتضيه، فإنَّ العِلمَ هو ثمرة العمَل وعمادُ الانتِفاع به ومبَعَث الرّفعةِ التي ذكرها الله بقوله: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].
نفعَني الله وإيّاكم بهَديِ كتابِه وبسنّة نبيِّه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائِر المسلِمين من كلّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2699)، سنن أبي داود: كتاب العلم (3643)، سنن الترمذي: كتاب العلم (2646)، سنن ابن ماجه: المقدمة (225).
[2] رواه أبو نعيم في الحلية (1/239).
[3] سنن الترمذي: كتاب العلم (2685) من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب صحيح"، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (8/234)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/124) وقال: "فيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد"، والحديث في صحيح الترغيب (81).
[4] سنن أبي داود: كتاب العلم (3641)، سنن الترمذي: كتاب العلم (2682)، سنن ابن ماجه: المقدمة (223)، صحيح ابن حبان (88)، شعب الإيمان (2/262، 263) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، ورواه أحمد (5/196)، وحسنه ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/254)، وهو في صحيح الترغيب (70).
[5] رواه الطبراني في الأوسط (1429)، قال المنذري في الترغيب (1/58) والهيثمي في المجمع (1/124): "إسناده حسن"، وهو في صحيح الترغيب (83).
[6] صحيح مسلم: كتاب الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] إنما روي هذا من كلام أبي هريرة رضي الله عنه وليس من كلام الزهري، أخرجه الدارقطني (3/79)، والقضاعي في مسند الشهاب (206)، والبيهقي في الشعب (2/266)، وأشار المنذري إلى ضعفه (1/58)، وفي سنده يزيد بن عياض وهو كذاب، وانظر: ضعيف الترغيب (67).
[8] انظر: إحياء علوم الدين (1/8)، ونشر طي التعريف (163).
[9] انظر: نشر طي التعريف (179).
_________
الخطبة الثانية
_________
إنَّ الحمدَ لله، نحمَده ونَستعِينه ونَستَغفِره، ونَعوذُ بالله مِن شرورِ أنفسِنا وسيِّئات أعمَالنا، من يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومن يضلِل فلا هادِيَ له، وأشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شَريكَ له، وأَشهَد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، اللّهمّ صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبِه.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إنّه وإن كانَ المرادُ بالعلم الميراثَ النبويَّ ألا وهو عِلم الكتاب والسنّة وما له تعلُّق بهما إلاَّ أنَّ الحقَّ أنه شامِلٌ أيضًا لكلِّ عِلمٍ تنتفع به الأمّة ويعلو به قدرُها ويعزّ به جانِبها ويكثر به خيرُها ويطَّرِد به تقدُّمُها وتأخذ به مكانَها بين الأمَم ويكون سببًا لرَسمِ الصورة الصحيحة الحقَّة لهذا الدين في رَبطِه بين الدِّين والدنيا وسعيِه بكافَّة شعائره وشرائِعِه لتحقيق السعادَةِ للمسلم في الحياتَين، ولأنَّ في العناية بعلوم الحياةِ على اختلافِ ألوانها عنايةً بعلوم الكتاب والسنّةِ ببيان جملةٍ وافرة من معانِيهِما بالاستعانةِ بما تقدِّمُه تلك العلومُ من فوائدَ وقواعد وما توفِّره من وسائلَ وما تستنِد إليه من كشوف ومخترعات؛ ولذا عدَّ بعضُ أهل العِلم تقصيرَ الأمّة المسلمة في علومِ الحياة المختلفة تقصيرًا شائِنًا بحقِّ دينِها وكتابها وسنّة نبيِّها في آخر الأمر؛ لذا كان لِزامًا عليها سدُّ هذه الثَغرة ورَدم هذه الفَجوة وتلافي هذا التقصيرِ.
فاتّقوا الله عبادَ الله، واحرِصوا على الاشتغال بكلِّ علمٍ نافع وكلّ عمل صالح تبلغون به رضوانَ الله.
واذكُروا على الدَّوَام أنَّ الله تعالى قَد أمَرَكم بالصّلاة والسَّلامِ على خاتَمِ النبيّين وإمامِ المتّقين ورحمةِ الله للعالمِين، فقال سبحانه في الكتابِ المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم عَلى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائه الأربعة...
(1/4324)
رسالة المعلم
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
5/8/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حلول الدخول المدرسي. 2- ضرورة استشعار المعلمين لعظم الأمانة.3- أهمية العناية بتربية النشء. 4- تعرّض شباب الأمة لحملات تغريبية وأخرى تضليلية. 5- المعلّم قدوة. 6- تحصين الشباب من الأفكار الدخيلة. 7- تحسيس الشباب بنعمة الأمن. 8- الرد على الطاعنين في المناهج. 9- أهمية الدعوة إلى الله تعالى في العملية التعليمية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوَى.
عبادَ الله، غَدًا السّبت السّادِس مِن شهرِ شعبَان لعام ستٍّ وعشرين وأربعمائة وألف، يستقبل أبناؤنا وبناتُنا عامًا دراسيًّا جديدًا، أسأل الله أن يكونَ عام خيرٍ وبركة، وأن يزوِّد الجميع بالتقوى، ويجعل العمل خالصًا لوجهه الكريم، إنّه على كل شيءٍ قدير.
أيّها المسلم، ليس الحديثُ عن العلم وفضلِه وعلوِّ مرتبتِه ومرتبةِ أهله، فذاك أمر مستقرّ في نفس كلّ مسلم، ولكن الحديث اليوم موجّهٌ إلى شريحةٍ من شرائح مجتمعنا، هي شريحة المعلِّمين والمعلّمات، أتحدَّث مع إخواني المعلِّمين ومع أخواتي المعلّمات ابتداءً من الحضانةِ وانتهاءً بالتعليمِ العالي إلى غير ذلك.
هذا الحديث معَهم حديثٌ حمل عليه قولُ النبيّ : ((الدين النصيحة)) ، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابِه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامَّتهم)) [1] ، يقول جَرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعتُ رسولَ الله على إقامِ الصّلاة وإيتاءِ الزّكاة والنّصح لكلّ مسلم [2].
أيّها المعلّم، أيّتها المعلمة، أتحدَّث معكم اليومَ في أمورٍ:
أوّلاً: أن يكونَ لدَى كلِّ معلّم ومعلّمة يقين بأنّ الأمانةَ كبيرةٌ والمسؤوليّة جسيمة، كيف لا وهي أمانةُ تربيّةِ النّشء وتعليمهم وتوجيههم؟! هذا النشء الذين هم اليوم صغار غَدًا سيكونون كبارا، وهم اليوم طلاَّب وغدًا معلِّمون وخبراء ومهندِسون وأطبّاء وأهل عِلمٍ وفضل، وهم الذين سَينزلون في ميادينِ العَمل. هذه الفئةُ الكبيرة من أبنائنا وبناتِنا لا بدّ أن يعتنيَ المعلّم وأن تعتنيَ المعلمة بها، فيعتني المعلِّم بتربيةِ أبنائنا تربيةً صالحة.
أيّها المعلّم، أيّتها المعلمة، ليس الهدَف أن نحضرَ مبكِّرًا، وأن نسجِّلَ الحضورَ في الساعة الأولى، وليس المهمّ أن أقضِيَ حصَصَ التعليم ثم أغادِر الفصلَ وأغادر المدرسةَ إلى يومٍ آخر. هذا هدفٌ من الأهداف وغاية من الغاياتِ، ليس الهدف مجرّدَ أن أعتنيَ بالمنهج وأحاولَ إكمالَه أو أخذ معظَمِه، وذاك أيضًا غاية ومقصود، لكن هنا أمرٌ مهمّ فوق هذا كلِّه، فمَطلوبٌ من المعلّم ومطلوب من المعلمة الاعتناء بالوقت، مطلوبٌ الاعتناء بالحصصِ الدّراسيّة، مطلوب العنايةُ بالمناهِج، مطلوب إيصال المعلومةِ إلى أذهان الطلاب والطّالِبات. هذا أمر مهِمّ ومسؤولية مهمّة، ولكن فوقَ هذا كلِّه العنايةُ بالتّربِية، بالسلوك والأخلاق، بالمعتقد والفِكر، أن نعتنيَ بأفكارِ أبنائِنا وبناتنا، ثم نعتني بالأخلاق والسّلوكِ، أن نربِّيَ الجميعَ تربيةً إسلاميّة صالحة، أن نخرجَ جيلاً متربِّيًا على القيَم والفضائل وحبِّ الخير والتمسّك بالإسلام قولاً وعملاً.
أيّها المعلّم، أيّتها المعلّمة، غيرُ خافٍ على الجميع الحملاتُ الشّرِسة على الإسلامِ وأهله، على الإسلام ومبادئه، على قِيَمه وفضائله، على آدابه وأخلاقِه، حملاتٌ انطلَقَت من خلال قنواتٍ فضائيّة متعدِدة متنوِّعةِ المشارب، كثيرٌ مِنهم يسعَون في هدم الإسلام، إمّا مباشرةً أو من وراءِ الستار، فقَنواتٌ توجِّه سِهامَها نحوَ ثوابِتِ الأمّة، نحو عقيدتِها، نحوَ إسلامها؛ لتشكِّك نشأَنا في عقيدَتهم الخالِصةِ وإسلامهم الحقّ. تحارِب الإسلامَ ومبادئه وفضائله وأخلاقَه، تَطعن في الثوابتِ لهذه الأمّة، في توحيدِ الله وفي طاعةِ رسوله ، تريد أن تقطَعَ الصّلةَ بين نشئِنا وبين دينِهم، بينهم وبين ماضيهِم المجيدِ وبين أسلافهم الذين مضَوا على الأخلاقِ والفضائلِ.
قنواتٌ أخرى توجِّه سِهامَها على الأخلاق والفضائل والسّلوك، تريد أن تصبَغَ شبابنا وفتياتِنا بصبغاتٍ خارِجَة عن مبدأ الإسلام وفضائله ومبادئه.
أيّها المعلم، أيّتها المعلمة، إذًا ما الواجب؟ الواجبُ أداءُ الوظيفةِ حقًّا ومحاولةُ توصيل المعلوماتِ إلى الطالب والطالبةِ، ثم مع هذا فلا تنسَ ـ أيّها المعلم ـ ولا تنسي ـ أيتها المعلمة ـ أنَّ المعلِّم إن صدَقت نيتُه فهو داعٍ إلى الله، هو داعٍ إلى الله وإلى دينه، وإن صدقَت نيّة المعلِّمة فهي إذًا داعيَة إلى الله وإلى دينه، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
أيّها المعلِّم، أيّتها المعلِّمة، إن النّشءَ ينظرون إلى معلِّمهم وإلى معلِّمَتهم، يتكرَّر عليهم في اليومِ عددٌ من المعلّمين، وعلى الفتَيات عدَد من المعلمات، وإنَّ أفكارَ شبابنا تتوجَّه إلى ذلك المعلّم، وقُلوب الفَتَيات إلى تلك المعلّمة، فأقوال المعلِّم تثبت في القلبِ، وأقوال المعلّمة تثبت في القلب.
إذًا أخي المعلم وأختي المعلّمة، لا بدّ من تصوّرٍ حقيقيّ لهذه المسؤولية الكبيرةِ، أن نحرصَ مع أدائِنا لمنهَجِنا الدراسيّ أن نكونَ دعاةً إلى الخير، نرشِد هذا النشءَ إلى الطريق المستقيم، نحذِّرُهم من سلوكِ الطريق غيرِ السوِيّ، نرشِدهم للقِيَم والفضائل، نحاوِل غَرزَ محبّةِ الإسلام في قلوبِهم، محبّة الله ومحبّة رسولِه، نعرِز في نفوسهم حبَّ الإسلامِ، حبَّ فرائضه وواجباتِه، حبَّ فضائله وآدابِه، حبَّ أخلاقه وقِيَمه، يَرونَ ذلك المعلّمَ وهو إن تكلَّم تكلّمَ بخير، مهذَّبَ اللّسان، لا ينطق إلا بخيرٍ، فليس بالسّبّاب ولا باللَّعّان ولا بالفاحِش ولا بالبذيء، بل خلُقٌ كريم وقَول حسَن وتربِية صَالحة. إن نَظروا إلى مظهَرِه فمَظهَر تمسَّك بالإسلام؛ ذلك المعلّم، فيقتدِي به ذلك النّشء، إن سمِعوا أقوالَه فأقوال حقّةٌ لا باطلَ فيها.
أيّها المعلم، وأيّتها المعلّمة، يعلَم الجميع ماذا يعاني منه بعضُ شبابِنا الذين انخَدَعوا بالأفكارِ الضالّة والآراءِ المنحرِفَة، زيَّن لهم الباطلَ من لا فِقهَ ولا بصيرةَ عنده، وزجّوا بهم في هاوِيَة سحيقةٍ، حسَّنوا لهم الباطلَ، أبعدوهم عن العلم والدّروس، زهَّدوهم في التعليم، قضَوا على قِيَمهم وفضائلهم.
شبابٌ في أوّل أعمارهم، زلَّت بهم القدَم نتيجة لمن لا فِقهَ ولا بصيرةَ عنده، فحذِّروا أبناءَنا وحذِّري ـ أيّتها المعلّمة ـ بناتِنا من تلكم الأفكارِ المنحرفة والآراءِ الضالّة والتصوُّرات الخاطِئة التي أهلَكَت بعضَ شبابنا، فصارت سببًا لوقوعِهم في الشّرِّ، فأساؤوا إلى أنفسِهم وإلى دينِهم وللآبَاء والأمّهات وإلى مجتَمَعهم المسلِمِ الفاضل.
فحذِّروا شبابَنا وفتياتنا من هذه الأفكارِ الغَريبة، متى ما شممتَ ـ أيّها المعلِّم ـ فِكرًا سيِّئًا فحاوِل إقناعَ الشّباب بالرجوع عن تِلكم الأفكارِ، حاول حِوارَهم وإقناعهم؛ عسى أن توفَّق لذلك، فإنَّ هذا النشءَ بحاجةٍ إلى معلِّم فاضل، يحمِل فكرًا صَالحًا وتربيّة حسنة وحبًّا لهذا النشءِ أن تزلَّ قدمُه فيما لا خيرَ فيه.
عِندَما تسمَع منهم اغتِرارًا وانخِداعًا ببعضِ المسلسَلات الهابِطة أو البرامِجِ الفاسِدة فحاول تصحيحَ الوضع، وأرشِدهم إلى الخير، وأبعِدهم عن الشّرّ قدرَ مستطاعِك. عِندَما ترَى من هؤلاء الطلاّب أو ترَى المعلِّمةُ من هؤلاء الطّالبات تخلّفًا عن الدّراسةِ وتسكّعًا في الطرقاتِ وأن يمضي على الشابّ أو الفتاةِ وقتٌ ما حضَرَ الطالب ولا الطالِبة فلا بدّ للمعلِّم مِن موقفٍ، ليسأَل عن ذلك الطالِبِ، ولتَسأَل المعلّمةُ عن تلكم الطالبة: ما الذي أخَّرهم عن الدّراسة؟! حتى نأمَن بتوفيقِ الله على قِيَمهم وأخلاقهم، ونقطَعَ خطَّ الرجعة عن المتربِّصين بأبنائنا وبناتِنا ومَن يحاولون إيقاعَهُم في المهالك والزّجّ بهم في الترهاتِ التي لا خيرَ فيها لدينٍ ولا دُنيا.
أيّها المعلم، إنّك قدوةٌ بأفعالِك، كما أنّك قدوة بأقوالك، فاتَّق الله، وادعُ إلى الخير، ورَبِّ التربيةَ الصالحة، واربِط حاضِرَهم بماضيهم، بما تبثُّه من وعيٍ إسلاميّ بعيدٍ عن الغلوّ والجفاء.
أيّتها المعلّمة، اتَّقي اللهَ في بنات المسلمين، وكوني مثالاً صالحًا وقدوةً لهنّ في الخير؛ في ملبَسك، في مظهَرِك، فيما تقولين وفيما تتصوّرين.
أيّها المعلم، أيّتها المعلمة، كم من أبنائِنا من قَضوا إجازَتهم خارجَ البلاد الإسلاميّة، وقد يرجِع بعضُهم منخدِعًا بفكرٍ أو متصوّرًا لأمرٍ هو خاطئ ضدّ الإسلام؛ لما يسمعه من تلكم الحملاتِ الشّرِسة، فلا بدَّ مِن تصحيحِ الوضع، ولا بدّ من إقامة ما اعوجَّ من الأخلاق، ولا بدّ من ردِّ الشباب والشابّات إلى سبُل الخير وتحذيرِهم من الانخِداع بالباطِل وأهلِه.
أيّها المعلّم، أيّتها المعلمة، بلادُنا ولله الحمدُ تعيش أمنًا واستِقرارًا ورَغَدًا من العيش، فلا بدّ للمعلِّم وللمعلِّمة أن يشعِروا أبناءَنا أنَّ هذه النعمةَ العظيمة التي نعيشها إنما هِي توفيقٍ من الله قبل كلّ شيء سببُها تحكيم هذه الشريعة واجتماع الأمّة بقيادتها على خيرٍ وتعاونٍ فيما يسعِد الأمّةَ في حاضرها ومستقبلها، بيِّنوا لهم فضائلَ الأمن وآثارَه الطيّبة، بيِّنوا لهم فضلَ اجتِماعِ الكلمة واتِّحادِ الصفّ، حذِّروهم من أن تخدَعهم الدعاياتُ المضلِّلة الذينَ الأمّة في أمنِها واستقرارها.
أيّها المعلّم، أيّتها المعلِّمة، أبناؤُنا قد اعتُنِي بتعليمِهم، هيِّئَت لهم المدارس والمعلِّمون، هيِّئ لهم أسبابُ الخير، فأرشِدوهم إلى شكرِ الله على هذه النعمة، أرشِدوهم إلى بِرِّ الأبوين وصلَة الرحم، أرشدوهم إلى التعامُل فيما بينَهم بالأخلاق والسِّيَر الفاضلة، كونوا ـ أيّها المعلم وأيّها الإداريّ ـ عيونًا ساهرةً على أخلاق أبنائِنا، ولتَكن المعلِّمة والإداريّة عَينًا ساهِرَة على أخلاقِ فَتَياتنا؛ لأنَّ الواجبَ على الجميع تحصينُ هذا النشء من أن تتسرَّب إليه المبادئُ والأفكار الضالّة والتصوّرات الخاطِئة والدِّعايات المضلِّلة ضدَّ الإسلام وأهله. وعلى رِجال الصّحافةِ أن يتَّقوا الله فيما يكتُبون، فلا يكتبوا إلاّ خيرًا، ولا يدعوا إلاّ خيرًا.
أيّها المعلّم، أيّتها المعلمة، إنَّ الأمّةَ المسلمة بأمَّسِ الحاجة إلى أن يُربَطَ حاضرُها بماضيها، وأن تُقوَّى الصّلَة بين الماضِي والحاضر، فمن يريد الفَصلَ بين نشئِنا وبين ماضِيه فإنما يريد إفسادَ أخلاقِه وإبعادِه عن الخير.
كَم نسمَع من أفكار سيّئةٍ تجعل مناهجَنا الطيّبة سببًا من أسبابِ الفسادِ والشّرّ، وتريد أن تدمِّرَ مناهجَنا، ويقولون: إنَّ مناهِجَنا انغلاقيّة عن العالم، لماذا؟! لا يريدون لشبابِنَا أن يفهَمَ شيئًا من دينِه، ولا يريدون لشبابِنا أن يتعلّمَ مبادئَ إسلامه. نحن لا نحارب العلمَ، ونحن ندعو إلى العلوم المختلفةِ التي فيها مصالح الأمّةِ مهما تكن العلوم ما لم يصادِم الشرعَ، فكلّ علمٍ نافعٍ للأمّة فإنّا ندعو إليه ونطالِب بِوضعِه في مناهِج تعليمنا، لكن لا على حسابِ مبادِئنا وقِيَمنا، فمناهِجُنا يجب أن تلقِّن نشأَنا من الصّغَر مبادئَ الإسلام وأخلاقَه وفضائلَه وواجباتِه، إضافةً إلى العلومِ المختلفة، والأمّة إنما توزَن بوجودِ العِلم فيها، والعِلم في بلادنا شقَّ طريقَه، فتعدَّدَتِ المدارس والجامعات، نسأل الله أن يكونَ الجميع خالصًا لوجه الكريم، وأن يؤدّيَ كلاًّ مهمَّته على ما يرضِي الله.
رِجالَ الصحافةِ، [أناشِدكم] أن تتَّقوا الله في أنفسكم، ولا تسمَحوا لأيِّ كاتبٍ أن يكتبَ مقالاً يضادّ فيه الأخلاقَ والقِيَم، ويدعو إلى حَربِ المنهاج الطيّبة، لا بدّ أن يَتعاون الجميعُ في سبيل مصالح الأمّة، فالمعلِّمون والمعلماتُ ورجال الصحافة والإعلام لا بدّ من تعاون الجميع فيما يسعِد هذا النشءَ ويرتقي به إلى معالِي الأمورِ؛ لأنّا سنكون غَدًا إن شاء الله نجني ثمارَ علومِ أبنائنا وبناتِنا، ونجِد منهم إن شاءَ الله من يسُدّ الثّغرَ ومن يقوم بالمهمَّة في جميعِ ميادين التعليم، لكن مع هذا كلِّه لا بدّ أن يكونَ لأخلاق الإسلام دورٌ هامّ في مناهجنا؛ حتى يجمَعَ أبناؤنا بين خَيرَيِ الدنيا والآخرة بتوفيقٍ من الله.
فالمناهج الحقّةُ وتعاليم الإسلامِ الحقّة هي سبب تعين نشأَنَا لأَن يتزوَّدوا من العلم؛ لأنَّ دينَنا يدعو إلى العِلم والتزوّدِ من كلّ علمٍ نافع للأمّة على اختلافِ فنونِ العِلم، لكن ينبغي للمسلِمين أن يكونَ بين علومِهم المختلِفة وبين علومِ شريعتهم ارتباط وثيقٌ؛ لأنّ العلمَ الشرعيّ ضرورةٌ للإنسان أعظَم من ضرورتِه للطّعام والشّراب. إنّه العلم الذي يتخَلّص به العبدُ من ظلُماتِ الجهل والضّلالِ، ويدخل إلى نورِ العلم والهدى.
فشبابُنا لا بدّ لهم شرعيّ، وأن تكونَ المناهج كذلك، ولا تنافيَ بين منهجِنا الإسلاميَ وبين العلوم المتعدِّدة، فإنَّ الجمع بين هذا ممكِنٌ؛ أن يكونَ لدى الطالب معرفةٌ ولو يسيرة بعلوم شريعته، بما بَعَث الله به نبيَّه محمّدًا ، أن يغرسَ في قلبِه حبّ الإسلامِ وأهلِه واعتقاد كمالِ هذه الشريعة وتمامِها، ولنحذِّر أبناءَنا من الأفكارِ الغريبَةِ والآراء الضالّة ومن يحمِلون فكرًا سيِّئًا ضدَّ الأمة وضدَّ أمنها وضدَّ اجتماع كلِمتها، لنحذِّرهم من هذا الباطِلِ.
ولا بدَّ أن تربِطَ المدرسةُ العلاقةَ بين أولياءِ الأمور وبين الطالِبات والطلاّب؛ لنضمنَ لأبنائنا الانتظامَ، ونبعِدَهم عمّن يريد إفسادَ عقولهم وأفكَارِهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هَذا، وأستَغفر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في كتاب الإيمان (55) من حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كَثيرًا طيِّبًا مبَاركًا فيهِ كمَا يحبّ رَبّنا ويَرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وَحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلَّى الله علَيه وعلى آله وصحبِه، وسلِّم تسلِيمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيَا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوَى.
عبادَ الله، يقول : ((مَن دَعا إلى هدًى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبِعَه إلى يوم القيامة لا ينقُص ذلك من أجورِهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الوِزر مثلُ أوزار من تبِعَه إلى يوم القيامة لا ينقُص ذلك من أوزارِهم شيئًا)) [1].
فكن ـ أيّها المعلّم ـ داعيًا إلى الله، وكوني ـ أيّتها المعلِّمة ـ داعيةً إلى الله، وكن ـ أيّها المدير وأيّها المفتِّش وأيّها المسؤول ـ داعيًا إلى الله.
إنَّ الدعوةَ إلى الله تكون بالتربيةِ الصالحة، بالقدوة الحسنةِ، بالكلِمات المؤثِّرة، بالنصيحة الهادفة؛ حتى يستقيمَ أبناؤنا. حذِّروا أبناءنا من دعاةِ الضلالِ، حذِّروهم ممّن يدعونهم إلى ترويجِ المخدِّرات والمسكراتِ، حذِّروهم ممّن يدعونهم إلى اجتِماعاتٍ مشبوهة لا يُعلم حقيقتُها، حذِّروهم مِن جلساءِ السّوء ومجالسِ الرّذيلةِ، الذين يحاوِلون الاختلاءَ بشبابنا ليُلقُوا في قلوبهم الشّرَّ والبلاء، يستخدِمونَهم ليروِّجوا المخدِّرات أو المسكرات، يستخدِمونهم ليبثُّوا السّمومَ المختَلِفة، فكونوا رُقَباءَ على أبنائنا وبناتنا.
وأيّها الآباء، وأيّتها الأمهات، لا بدَّ من حفاظٍ على أخلاقِ الأبناءِ والبنات، لا بدّ من الاحتياط دائمًا، والتوفيقُ بيَد الله، لكن من عمل صالحًا وجدَّ واجتهد فالله يعينُه ويوفِّقُه.
أسأل اللهَ أن يجعلَه عامَ خير وبركةٍ، وأن يزوِّد الجميعَ بالتقوى، وأن يحفظَ الجميعَ بالإسلام، إنّه على كل شيءٍ قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كِتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّد ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالَة، وعليكم بجَماعةِ المسلمين، فإنَّ يدَ الله علَى الجماعةِ، ومَن شذَّ شذَّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحمَكم الله ـ على نبيِّكم محمّد كمَا أمَركم بذَلِك ربّكم، قال تعَالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبَارِك على عَبدِك ورَسولِك محَمّد، وَارضَ اللَّهمّ عَن خلَفائه الرّاشِدين...
[1] أخرجه مسلم في العلم، باب: من سن سنة حسنة أو سيئة (2674) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/4325)
فضل التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
5/11/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عز العبد وصغاره. 2- التوبة من أعظم أنواع العبادة. 3- وجوب التوبة. 4- معنى التوبة. 5- شروط التوبة. 6- دعوة الله تعالى عباده إلى التوبة. 7- من حكم محبة الله تعالى للتوبة. 8- وقت التوبة. 9- التوبة من صفات الأنبياء والصالحين. 10- التحذير من الغرور والأمل والأماني الكاذبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّهَا المسلمون، فإنَّ تقواه فوزٌ وفلاحٌ وسعادة ونجاح.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ عزَّ العبد في كمالِ الذلّ والمحبّة للربّ جل وعلا، وأنَّ هوان العبد وصَغاره في الاستكبارِ والتمرّد على الله والخروجِ على أمره ونهيِه، بمحبَّةِ ما يكرهُه الله وبُغض ما يحبّه الله، فإنّه بذلك يناله الصَّغار والعَذاب من ربِّه، قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر:10]، وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
والعبادة بجميعِ شُعبها وأنواعِها هي التي يتحقَّق بها الذلُّ والخضوع والمحبَّة لله تعالى.
ومِن أعظمِ أنواع العبادةِ التوبةُ إلى الله، بل إنَّ التوبةَ العظمى هي أفضلُ العِبادة وأوجبُها على العبدِ، وهي التوبةُ من الكفرِ والنّفاق، قال الله تعالى عن هودٍ عليه الصلاة والسلام: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52]، وقال تعالى داعيًا المنافقين إلى التوبة: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:74].
والتوبةُ واجبةٌ علَى المكلَّفين جميعًا من كلِّ ذنبٍ كبير أو صَغير، قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8].
ومعنى التّوبةِ الرّجوعُ إلى الله بتركِ الذّنب الكبير أو الصغير، والتوبةُ إلى الله مما يَعلَم من الذنوب ومما لا يَعلَم، والتوبةُ إلى الله من التّقصير في شكرِ نِعَم الله على العبد، والتوبةُ إلى الله مما يتخلَّل حياةَ المسلم من الغفوَةِ عن ذكرِ الله عز وجل، عن الأغرِّ المزني رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أيّها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليومِ مائةَ مرّة)) رواه مسلم [1].
قال أهل العلم: "للتّوبةِ النصوح ثلاثةُ شروط إن كانت بين العبدِ وربِّه، أحدُها أن يقلِعَ عن المعصية، والثاني أن يندَمَ على فِعلها، والثالث أن يعزِمَ أن لا يعودَ إليها أبدًا، وإن كانت المعصيَةُ تتعلَّق بحقِّ آدميٍّ فلا بدَّ أن يردَّ المالَ ونحوه ويستحلّه من الغيبة، وإذا عفَا الآدميّ عن حقِّه فأجرُه على الله.
واللهُ قد رغَّب في التوبةِ، وحثَّ عليها، ووعَد بقَبولها بِشروطِها، فقال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وأخبر النبيّ بأنَّ جميعَ ساعاتِ اللّيل والنّهار وقتٌ لتوبةِ التائبين وزمَنٌ لِرجوع الأوّابين، عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((إنَّ اللهَ تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار ويبسُط يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل حتى تطلعَ الشّمس مِن مغربها)) رواه مسلم [2].
ما أعظمَ كَرمَ الرّحمن، وما أجلَّ فضلَه وجودَه على العبادِ، هؤلاء خلقُه يعصونَه بالليل والنهار، ويحلمُ عليهم، ولا يعاجِلهم بالعقوبة، بل يرزُقهم ويعافِيهم، ويغدِق عليهم النّعَم المتظاهِرَة ويدعوهم إلى التّوبَة والنّدَم على ما فرَط منهم، ويعِدُهم المغفِرةِ والثّواب على ذلك، ويفرَح بتوبةِ العبد أشدَّ الفرح، فإن استجاب العبدُ لربِّه وتاب وأناب وجَد وعدَ الله حقًّا، ففاز بالحياةِ الطيّبة في الدّنيا وحسنِ الثواب في الأخرى، وإن ضيَّع التوبةَ زمنَ الإمهال وغرَّته الشهواتُ والآمال عاقَبه الله بما كسَبَت يداه، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، ولا خيرَ فيمن هلَك مع رحمةِ أرحمِ الراحمين.
أيّها المسلم، هل لك أن تعلَمَ بعضَ الحِكَم لمحبّةِ الله لتوبةِ عبده وفرَحِه بها أشدَّ الفرح؟! نعَم، مِنَ الحِكَم العظيمة لمحبّة الله لتوبةِ التائبين أنَّ أسماءَ الله الحسنى تتضمَّن صفاتِه العلا، وتدلّ على هذه الصّفات العظمى، وهذه الأسماءُ تقتضِي ظهورَ آثارِها في الكَون، فاسمُ الله الرّحمنُ الرّحيم يدلّ على اتِّصاف الله جلّ وعلا بالرّحمة كما يليق بجلالِه، ويقتضي أن يوجدَ مخلوقًا مرحومًا، واسمُ الله الخالقُ يدلّ على اتِّصاف الله تعالى بالقدرةِ على الإيجادِ والخَلق، ويقتضي إيجادَ الله للمخلوقات من العَدَم، واسمُ الله الرازقُ يدلّ على اتِّصاف الله بإمدادِ الخَلق بالرّزق، ويقتضِي وجودَ مخلوقٍ مرزوق، واسمُ الله التوّابُ يدلّ على اتِّصاف الله بقَبول التوبةِ مهما تكرَّرت، ويقتضِي إيجاد مذنِبٍ يتوب من ذنبِه فيتوب الله عليه، وبقيّةُ أسماءِ الله الحسنى على هذا النّحوِ، كلٌّ منها يدلّ على ذاتِ الله العَظيم، ويدلُّ على صفةِ الله العُظمى التي يتضمَّنها ذلك الاسم، ويقتضِي كلُّ اسمٍ من أسماءِ الله الحسنى ظهورَ آثارِه في هذا الكون، قال الله تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50].
والمقصودُ أنَّ قبولَ توبةِ المذنِب مُقتضَى اسمِ اللهِ التوّاب، وثوابُ التّائب أثرٌ من آثارِ هذا القَبول، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25].
ومِنَ الحِكَم لمحبّةِ الله لتوبة التائبين أن الله تعالى هو المحسن لذاته ذو المعروف الذي لا ينقطع أبدًا، فمن أطاع الله بالتوبة أحسن إليه وأثابه في الدنيا والآخرة، ومن ضيع التوبة أحسن إليه في الدنيا وعاقبه في الأخرى بسوء عمله وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46].
ومن الحِكَم لمحبّةِ الله تعالى لتوبةِ عبدِه عفوُ الله وشمول رحمتِه للعصاة مع قدرتِه على العقاب، وفي الحديث: ((إن الله كتَب كتابًا عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي سبَقت غضبي)) رواه البخاري [3] ، إلى غير ذلك من الحِكَم التي لم نطَّلع إلاّ على القليل منها.
وتصحُّ التوبة من بعض الذنوبِ، ويبقى الذنبُ الذي لم يتُب منه مؤاخَذًا به، والتّوبةُ بابُها مفتوحٌ لا يغلَق ولا يُحَال بين العبدِ وبينها حتى تطلعَ الشمس مِن المغرِب، فعند ذلك يغلَق بابُ التوبة ولا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنَت من قبلُ أو كسَبت في إيمانها خيرًا، عن زِر بن حُبيش عن صفوانَ بن عسّال رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((إن الله فتح بابًا قِبَل المغرِب، عرضُه سبعون عامًا للتوبة، لا يغلَق حتى تطلعَ الشمسُ منه)) رواه الترمذيّ وصححه والنسائي وابن ماجه [4].
وقد وَعَد الله على التوبةِ أعظمَ الثواب وحُسن المآب، فقال تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70]، قال بعض المفسرّين: يجعَل مكانَ السيّئةِ التوبة، فيعطِيهِم على كلِّ سيّئة عمِلوها حسنةً بالنّدم والعَزم على عدَم العودةِ فيها.
وعن أنس رضي الله قال: قال رسولُ الله : ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عبده حين يتوب إليه من أحدِكم كان على راحلته بأرضِ فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابُه، فأيِس منها، فأتى شجرةً فاضطجع في ظلِّها وقد أيِس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمةٌ عندَه، فأخذ بخِطامها ثم قال من شدّةِ الفرح: اللهم أنت عبدِي وأنا ربُّك، أخطأ مِن شدّةِ الفرح)) رواه مسلم [5].
وأسعدُ الساعاتِ والأيّام على ابنِ آدم اليومُ الذي يتوبُ الله فيه عليه؛ لأنه بدونِ توبةٍ كالميِّت الذي انقطَع عملُه، وبالتوبة يكون حيًّا، عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال لما أنزل الله توبتَه في تخلُّفه عن غزوة تبوك: وانطلقتُ أتأمَّمُ رسولَ الله يتلقّاني الناسُ فوجًا فوجًا، يهنّئونَني بالتوبةِ ويقولون لي: لتَهنِك توبةُ الله عليك، فسلَّمتُ على رسول الله وأساريرُ وجهِه تبرُق، وكان إذا سُرَّ استنارَ وجهُه كأنه فِلقةُ قمر، فقال: ((أبشِر بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ ولدَتك أمّك)) رواه البخاري ومسلم [6].
والتوبةُ عبادةٌ عالِية المقام، قام بها الأنبياءُ والمرسَلون والمقرَّبون والصّالحون، وتمسَّكوا بعُروتها، واتَّصفوا بحقيقتِها، قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117]، وقال تعالى عن الخليلِ إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]، وقال عن موسى عليه الصلاةُ والسلام: فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143].
والمسلمُ مضطرّ إلى التوبة ومحتاجٌ إليها في حالِ استقامتِه أو حالِ تقصيره، يحتاج إلى التوبةِ بعد القُرُبات وبعدَ فعل الصالحات، أو بَعد مقارَفَةِ بعضِ المحرّمات.
يا أمَّةَ الإسلام، أذكِّر نفسي وأذكِّركم جميعًا بالتوبةِ إلى الله عزّ وجل، بالتمسُّك بالكتابِ والسنة والبُعد عن البِدَع والخرافاتِ والمحدَثات في الدِّين التي قطَّعت أوصالَ الأمة الإسلامية، وأحذِّرُكم ونفسي من كبائرِ الذنوب ليحفظَكم الله عزّ وجل من شرورِ أعداء الإسلام ومكرِهم وكيدِهم، فإنَّ أعداءَ الإسلام لن ينالوا مِن المسلمين إلاّ بغياب التّوبةِ عن الأمّةِ، ولم تتفرَّق الأمّةُ الإسلامية إلاّ باختلافِ مشاربها وباختلافِ أفهامِها، فاجعَلوا مشربَكم من معينِ كتاب الله وسنّةِ رسولِه ، واجعَلوا أفهامَكم تبَعًا لفَهم الصحابةِ والتابعين ومن تَبِعهم بإحسانٍ؛ يُصلِح الله لكم دنياكم وأُخراكم.
قال الله تعالى: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:3].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار (2702) بنحوه، ومرّة رواه عن الأغرّ عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب (2759).
[3] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7114، 7115) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في التوبة (2751).
[4] سنن الترمذي: كتاب (3535)، سنن ابن ماجه: كتاب (4070)، وأخرجه أيضا أحمد (4/240)، والحميدي (881)، والطيالسي (1168)، والطبراني في الكبير (8/56، 60، 66، 69)، وأبو نعيم في الحلية (7/308)، والبيهقي في الشعب (5/400)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (193)، وابن حبان (1321)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3137).
[5] صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: من الحض على التوبة... (2747). وهو عند البخاري في الدعوات مختصرًا (6309).
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب: حديث كعب بن مالك (4418)، صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك (2769).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيزِ الغفورِ، الحليم الشكور، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، أحمدُ ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له إليه تصير الأمور، وأشهد أن نبيَّنا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله سابقُ الخلق إلى كلِّ عملٍ صالح مبرور، اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ تفوزوا بمرضاته وجنّتِه، وتنجُوا من سخَطه وعقوبته، يقول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ [القصص:67]، وفي الحديث عن نبيِّنا : ((يقبَل الله توبَةَ أحدِكم ما لم يغرغِر)) [1].
فسارِع ـ أيّها المسلم ـ إلى التوبَةِ من كلّ ذنب، السّرُّ بالسرّ والعلانية بالعلانية، وداوم عليها بعد القرُبات أو الإلمام بشيءٍ من المحرمات، قال الله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58].
وإيّاك أيها المسلم، إيّاك وأماني الشيطانِ وغرورَ الدنيا وشهواتِ النفس والطمَعَ في فُسحةِ الأجَل، فتقول: سأتوب قبلَ الموت، وهل يأتي الموت إلاّ بغتةً؟! وأكثرُ الناس حِيل بينَه وبين التّوبةِ ـ والعياذ بالله ـ لعَدَم الاستعدادِ للموت وغَلَبة الهوى وطولِ الأمل، فأتاهم ما يوعَدون وهم على أسوَأ حال، فانتقلوا إلى شرِّ مآل. ومِنَ النّاس مَن وفِّق للتوبة النصوح بعد أن أسرفوا على أنفسِهم أو قصَّروا في حقِّ الله أو حقوقِ العباد، فصاروا من الصالحين والصّالحاتِ، ذكرُ سِيرتِهم توقِظُ القلوبَ الغافلة، ويقتدِي بها السائرون على الصِّراط المستقيم والآمُّونَ للنهج القويم.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيّدِ الأوّلين والآخرين وإمامِ المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرا...
[1] أخرجه أحمد (2/153)، والترمذي في كتاب الدعوات (3537)، وابن ماجه في الزهد (4253)، وأبو يعلى (5609) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (628)، والحاكم (7659)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3143).
(1/4326)
عداوة الشيطان للإنسان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجن والشياطين, الدعاء والذكر
يزيد بن الخضر ابن قاسي
بوزريعة
علي مغربي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدم عداوة الشيطان للإنسان. 2- لكل إنسان قرين من الشياطين. 3- خطوات الشيطان في الإغواء. 4- قصة إغواء الشيطان لعابد بني إسرائيل. 5- من وسائل الشيطان في إضلال البشر. 6- ضعف كيد الشيطان. 7- وسائل تحصين النفس والبيت من كيد الشياطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60، 61]، وقال تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5، 6].
ففي هذه الآيات الكريمة بيّن اللهُ سبحانه وتعالى عداوةَ إبليس للإنسان، وحذّر عباده منه، فأخبر جلّ وعلا أن الشيطان مُظهِر ومُبارِز لنا بالعداوة، فأمرنا بمعاداته أشدّ العداوة، ومخالفته أشدّ المخالفة، وتكذيبه فيما يغرّرنا به.
هذه العداوة القديمة ـ عباد الله ـ التي نشأت منذ أن خلق الله آدم عليه السلام ونفخ فيه الروح، قال تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:71-85].
فالشيطان هو العدوّ اللدُود للإنسان، فلا بد للمسلم أن يتذكّر هذه العداوة، وأن يجعلها نصب عينه، أن لا ينسى أبدًا أن هناك قَرِينًا من الشيطان مُلازِما له لا يفارقه، يتربّص به من يوم ولادته إلى يوم فراقه للحياة، يحاول هذا العدو هذا القَرِين إضلاله وإبعاده عن سبيل الله، وقد توعّد وأقسم بعزّة الله على إضلال بني آدم: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16].
والذي ينبغي على كل مسلم أن يعلمه أنّ كل إنسان له قرينه من الشيطان، فقد أخبرنا الرسول بذلك، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرج النبي من عندي ليلاً، فغِرْتُ عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: ((ما لك يا عائشة؟)) قلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟! فقال: ((أقد جاءك شيطانك؟!)) قلت: يا رسول الله، أَوَمعي شيطان؟! قال: ((نعم)) ، قلت: ومع كل إنسان؟! قال: ((نعم)) ، قلت: ومعك يا رسول الله؟! قال: ((نعم، ولكنّ ربي أعانني عليه حتى أسلَمَ)) ، وفي صحيح مسلم وأحمد قال رسول الله : ((ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينُهُ من الجن وقرينُهُ من الملائكة)) ، فأخبرنا النبي أن لكل إنسان عدوًّا وقرينًا من الشيطان يتربّص به جاهدًا ومحاولاً لإضلاله عن صراط الله المستقيم. ولله الحكمة البالغة في ذلك، فقد سلّطه الله على عباده ابتلاءً وامتحانًا، قال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:64].
والشيطان يستطيع أن يصل إلى فكر الإنسان وقلبه بطريقة لا ندركها ولا نعرفها، ويساعده على ذلك طبيعته التي خُلِق عليها، وقد ثبت في صحيح البخاري أن الرسول قال: ((إن الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم)) ، فهذه هي الوسوسة إذ سماه الله تعالى بالوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس، قال ابن كثير: " الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ أي: أن الشيطان جاثِم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذَكَر الله خَنَس".
فهكذا ـ عباد الله ـ الشيطان، يستغِلّ ضعف الإنسان، فإنّ للإنسان نقاط ضعف كثيرة، وهي في الحقيقة أمراض تقع في قلبه، فتصبح مدخلاً من مداخل الشيطان، ومن هذه الأمراض: الغضب والشهوة والكِبْر والعُجْب والغرور والحسد والعَجَلة والجهل والغفلة والكذب والظلم والطغيان والحزن والفرح وحبّ المال والافتتان بالدنيا والنساء وغيرها، وكلّ هذه منافذ يدخل منها الشيطان للوسوسة.
وإن للشيطان ـ عباد الله ـ هدفان: هدف بعيد وهدف قريب، أما الهدف البعيد فهو إدخال العباد إلى النار معه، وقد توعَّدَ بذلك، وأما الهدف القريب فهو إيقاع العباد في الشرك والكفر، وإيقاعهم في الذنوب والمعاصي.
وإن للشيطان ـ عباد الله ـ مكائد ومصايد يصطاد بها الإنسان، كما أن له أساليب عديدة لإضلاله، فالشيطان لا يأتي إلى الإنسان ويقول له: اترك هذه الأمور الخيّرة، ولا يأتي إلى الإنسان ويقول له: اترك الصلاة أو اكفر بالله، فلو فعل ذلك فلن يطيعه أحد، ولكن يأتيه بأساليب ذكية ومختلفة، ويتدرّج معه بخطوات متعاقبة ومتتالية، ولو تطلّب ذلك وقتًا طويلاً وزمانًا بعيدًا.
ومن أساليبه الخبيثة أنه يأتي ويُظهِرُ النُصحَ للإنسان، فالشيطان يدعو المرءَ إلى المعصية، يزعم أنه ينصح له، ويريد له الخير، وقد أقسم لأبينا آدم أنه ناصِحٌ له، كما أخبر تعالى: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]، وفي هذا الباب أحببنا أن نذكر قصة طريفة وقعت في بني إسرائيل، وذكرها وهب بن مُنبِّه أحد التابعين، وذلك على سبيل الاعتبار والحذر من أساليب الشيطان في إضلاله للإنسان:
إن عابدًا كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثةُ إخوة لهم أخت، وكانت بِكْرًا ليس لهم أخت غيرها، فخرج البعث في غزوة من الغزوات على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يُخَلّفون أختهم، فأجمع رأيهم على أن يُخَلّفوها ويتركوها أمانة عند هذا العابد من بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم، فأتوه وسألوه أن يُخَلّفوها عنده غاية رجوعهم من الغزو، فأبى ذلك عليهم، وتعوّذ بالله منهم ومن أختهم، فلم يزالوا به حتى أطاعهم، فقال: أنزلوها في بيت تحت صَوْمعتي، بعيدًا عنها، فأنزلوها في ذلك البيت، ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانًا ينزل إليها بالطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد إلى الصومعة، ثم يأمرها فتخرج من بيتها، فتأخذ ما وضع لها من الطعام، فبعد زمان ومدة تلطّف له الشيطان، فلم يزل يرغّبه في الخير، ويعظّم عليه خروج الجارية من بيتها نهارًا، ويخوّفه أن يتعرّض لها أحد أو يؤذيها عند خروجها، فقال له: فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها لكان أعظم أجرًا وأسلم لها من الخروج، فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها ووضعه على باب بيتها، فلبث على هذه الحالة زمانًا، ثم جاءه إبليس فرغّبه في الأجر وحضّه عليه، وقال له: لو تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك، فلم يزل به حتى فعل ذلك، فلبث على ذلك زمانًا، ثم جاءه إبليس فرغّبه في الأجر وحضّه عليه، فقال: لو كنت تكلّمها وتحدّثها فتأنس بحديثك، فهي مسكينة وحيدة، وقد استوحشت وحشة شديدة، فلم يزل به حتى حدّثها زمانًا، ثم أتاه إبليس فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدّثها وتقعد هي على باب بيتها وتحدّثك لكان أأنس لها، فلبث زمانًا على ذلك، ثم جاءه إبليس فقال: لو دخلت وحدّثتها بداخل البيت لكان أسلم لكما والسترة لها أفضل، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدّثها ويأكلان الطعام معًا، فلم يزل إبليس يزيّنها له ويحسّنها في عينيه حتى لمسها ووقع بعد ذلك ما لا يحمد عُقْباه، فحملت الجارية منه، ووضعت له غلامًا، فجاءه إبليس بعد ذلك فقال له: أرأيت إن جاء إخوة الجارية وقد ولدت منك كيف تصنع؟ لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك، فقال له إبليس: الحل هو أن تعمد إلى ابنها فتقتله وتدفنه، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل العابد ذلك، ثم بعد ذلك جاءه إبليس فقال له: أتظن أن الجارية ستكتم إخوتها ما صنعت بها أو أنها ستصبر على أنك قتلت ابنها؟! فالحل الوحيد لك هو أن تقتلها وتدفنها مع ابنها، فلم يزل به حتى قتلها وألقاها في الحفرة مع ابنها، وأطبق عليهما صخرة عظيمة.
وبعد فترة أقبل إخوتها من الغزو، فجاؤوا وسألوه عن أختهم، فعزّاهم في أختهم، وأخبرهم أنها ماتت بعد مرض شديد، وترحّم عليها وبكى عليها، وقال: كانت خير امرأة، وهذا قبرها، فانظروا إليه. فأتى إخوتها القبر، فبكوا أختهم، وترحموا عليها، فأقاموا على قبرها أيامًا، ثم انصرفوا إلى أهاليهم، فلما جَنّ عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم جاءهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر، فسألهم عن أختهم فأخبروه بقول العابد، فأكذبهم الشيطان، وأخبرهم أن العابد لم يصدقهم في أمر أختهم، وأنه قد أَحْبَلَ أختكم وولدت له غلامًا فقتلهما معًا خوفًا منكم، وألقاهما في حفرة خلف باب البيت، فاستيقظ الإخوة الثلاث على منام واحد متواطئ، فتعجّبوا من ذلك، فقال كبيرهم: هذا حلم ليس بشيء، فقال أصغرهم: والله لا أمضي حتى آتي إلى ذلك المكان فأنظر فيه، فانطلقوا جميعًا حتى أتوا البيت الذي كانت فيه أختهم، فبحثوا الموضع كما وصف لهم في المنام، فوجدوا أختهم وابنها مقتولين في الحفرة. فأمسكوا بالعابد وسألوه، فصدق قول إبليس فيما صنع بهما، فقدّموه ليُصلَب، فلما أوثقوه على خشبة أتاه الشيطان فقال له: لقد علمت أني أنا صاحبك الذي فتنتك بالمرأة حتى أَحْبَلتها وقتلتها وابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك وصوّرك خلّصتك مما أنت فيه من محنة، فكفر العابد، فلما كفر بالله تعالى، خلّى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه وقتلوه ومات على الكفر.
فهذه القصة ـ عباد الله ـ ذكرها ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس، وهي قصة يرويها المفسرون عند قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ [الحشر:16].
فهكذا الشيطان ـ عباد الله ـ فمن أساليبه أنه يتدرّج خطوة بعد خطوة، لا يكَلّ ولا يَمَلّ، ولقد رأينا من القصة السابقة مثالاً وعبرة في ذلك، فالشيطان إذا أراد من مسلم ترك الصلاة لا يأتيه ويوسوس له ويقول له: اتركها مباشرة، وإنما يسلك معه أسلوب التدرج خطوة بخطوة، يأمره بتأخيرها عن وقتها، ما زال الوقت، فيلهيه وينسيه، ثم ينشغل بأمور أخرى، فيصبح يتهاون فيها، ثم تتراكم عليه الصلوات ولم يصلها، ويأتي الليل فيحاول الإتيان بها وهو عاجز عنها، فتصبح صلاته غرامة بليل كما يسميها بعض الناس، وهكذا فبعد أيام أو أشهر يملّ الإنسان ويضعف، ويترك الصلاة وهكذا.
ومن أساليبه كذلك تزيين الباطل، وهذا هو السبيل الذي كان الشيطان ولا يزال يسلكه لإضلال العباد، فهو يُظهِر الباطلَ في سورة الحق، ويُظهِر الحقَّ في صورة الباطل، ولا يزال بالإنسان حتى يُحسّن له الحرام، ويزيّن له فعله، قال تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39، 40]، وقال الله تعالى: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ [النمل:24].
الشيطان ـ عباد الله ـ يزيّن الحرامَ، ويزيّن المعاصي، أعطاه الله القدرة على تزيين المعصية، إنه زيّن لقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مَدْين وقريش الشرك والكفر وعبادة الأصنام، وزيّن لهم المعاصي، إنه زيّن لقوم لوط الفاحشة، وزيّن للقرون الخالية المتمرّدة أنواع الذنوب والمعاصي، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:63].
ومن أساليبه كذلك لإضلال الإنسان الوعد والتمنية، فالشيطان يعد الناس بالمواعيد الكاذبة، ويُعلّقهم بالأماني المعسولة، تشجيعًا لهم ليوقعهم في المعاصي والضلال، فالشيطان مثلاً يعد المُقامِر والمُرابِي والسارق وآخذ الرشوة بالربح السريع والكثير، ويعد الظالم بالعزّة والنصر، قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [النساء:120].
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، برغم ما لهذا العدو اللدود من المكائد الخطيرة والأساليب الكثيرة لإضلال الإنسان إلا أن كيدَه ضعيف، فقد شهد بذلك ربّ العالمين، فقال جلّ وعلا: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، فكيد الشيطان ضعيف لمن آمن بالله وأطاعه، واتبع صراطه المستقيم، ولازم التوبة والاستغفار بعد كل زلّة وخطيئة، ففي الحديث الصحيح من رواية أحمد والحاكم: ((إن الشيطان قال: وعزّتك وجلالك، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب جلّ جلاله: وعزّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني)) ، وقال تعالى: إِنَّ الذِينَ اتقوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
وقد أرشدنا الله إلى ما يعصمنا من مكائد الشيطان ووساوسه، ومن أهم ذلك توحيد الله والتوكّل عليه والانقطاع إليه وإخلاص كل العبادات له، قال تعالى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99]، قال سبحانه مخاطبًا هذا المخلوق الشرّير: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌِ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، وقال تعالى عن إبليس الرجيم: قال فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83]، وعباد الله المخلصين هم الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم لله وحده لا شريك الله.
ومما يحصنك من مكائد الشيطان التعوّذ بالله من شرّه، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَاِن نَزْغٌ فَاْستَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ [فصلت:36].
ومما يُدفَع به كيدُ الشيطان ووساوسه تلاوة القرآن وسماعه، فالقرآن له خاصّية في طرده، وكلّما أكثر العبد من التلاوة حصّن نفسه من الشيطان الرجيم، فقد قال النبي : ((من قرأ آية الكرسي كل ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح)) ، وقال: ((من قرأهما ـ أي: خواتم سورة البقرة ـ في ليلة كَفَتَاه)) ، وفي رواية: ((لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام)). ومن ذلكم قراءة سورة البقرة في المنزل، فإنها تطرد عدو الله، يقول : ((لكل شيء سَنَام، وإن سَنَام القرآن سورة البقرة، وإن الشيطان يفرّ من البيت الذي يُسمَع فيه سورة البقرة)) ، فحصِّن بيتك بتلاوة سورة البقرة، فذاك خير لك.
ومما يَدفع كيدَ الشيطان مداومة ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار والدعاء، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي قال: ((إذا قال المؤمن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير مائة مرة في أول يومه كان ذلك حِرْزًا له من الشيطان في يومه، وكانت كعتق عشر رِقاب، وكُتِب الله له مائة حسنة)).
ومما يدفع شرّ الشيطان قراءة آية الكرسي وقُلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ والمعوذتين دُبرَ كل صلاة، و((إذا دخل المسلم المسجد فقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، قال الشيطان: حُفِظ مني سائر اليوم)).
أيها المسلمون، ومما يدفع مكائدَ عدوّ الله عنك في طعامك وشرابك ذكرك لربك جلّ وعلا عند دخول المنزل وعند الأكل والشرب، فيروي جابر بن عبد الله أن النبي قال: ((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند عشائه قال الشيطان لجنده: لا مبيت لكم الليلة ولا عشاء، فإن لم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر الله عند عشائه قال: أدركتم المبيت والعشاء)) ، فعدوّ الله لا يبعده عنك إلا ذكرك لربك، فهو الذي يبعده عنك، ويحصّنك من مكائده.
أيها المسلمون، إن المؤمن يحصِّن نفسه ويحصِّن بيته وولده من مكائد عدو الله، وإن مما تُحَصَّنُ به البيوت لإبعاد الشياطين هو عدم اتخاذ الصور والتماثيل، فقد أخبرنا الصادق المصدوق أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تماثيل أو صور، فأبعد ـ أخي المسلم ـ عن منزلك هذه الصور والتماثيل التي لا تُسمِن ولا تغني من جوع، وهي ذريعة للشرك، فوجود التماثيل والصور في بيتك يمنع من دخول الملائكة، وإذا لم تدخل الملائكة فمن المؤكّد أن تدخل الشياطين.
وإن مما تُحَصَّنُ به البيوت لإبعاد الشياطين هو عدم اتخاذ الكلاب؛ فإن وجود الكلب في المنزل لغير صيد ولغير حراسة يمنع الملائكة من دخول البيت، فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة، ووعد جبريلُ النبي أن يأتيه ساعة، فانتظره النبي حين حانت تلك الساعة، فلما تأخّر وفي يده عصا ألقاها وقال: ((ما يخلف الله ولا رسله وعده)) ، ثم نظر فإذا جِرْو كلب تحت سريره، فقال: ((ما هذا يا عائشة؟!)) فقالت: ما علمت دخوله، فأمر به فأُخِرج، فجاء جبريل فقال: ((انتظرتك في هذه الساعة، وجلست لك)) ، قال: ((إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب، منعني ذلك الكلب الذي في منزلك)). فينبغي على المسلم إذا اتخذ كلبًا أن يتخذه للحراسة وللضرورة، وأن لا يسكنه بيته، يخصّص له مكانًا خارج البيت أو في الحديقة حتى لا يمنع من دخول الملائكة، وقد تساهل الناس في أمر الكلاب في هذا الزمان، حتى أصبحنا نرى تلك الكلاب الصغيرة التي تُتّخذ من طرف النساء للفخر والزينة، وهي من عادات النصارى، وفي الحديث: ((من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد نقص من أجره كل يوم قِيراط)).
أيها المسلمون، هذه بعض التوجيهات المحمدية والإرشادات النبوية ينبغي على المسلم أن يأخذ بها؛ ليتحرّز بها من الشيطان، فقد أخبرنا : ((إن المسلم إذا خرج من منزله فقال: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال له الملك: هُدِيت وكُفِيت، وتنحّى عنه الشيطان وقال: ما لي برجل قد هُدِي وكُفِي ووُقِي)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لا يأكلنّ أحد منكم بشماله، ولا يشربنّ بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها)). فهذه نصائح لمخالفة الشيطان في طريقة أكله، وينبغي تربية الأولاد على هذا الأدب في الطعام مخالفة للشيطان.
وكما أرشد إلى ذكر الله حتى عندما يقرب الرجل زوجته فقال: ((لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنّبني الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتني فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولد لم يضرّه الشيطان أبدًا)).
وشرع لنا ذكر الله عند إرادة الخلاء، فكان إذا دخل الخلاء قال: ((بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث)) ؛ لأن الحُشُوش مأوى الشياطين، فيستعيذ بالله من شرّها، وإذا خرج كان يقول: ((غفرانك)).
فيا أخي المسلم، اصحب الذكر في كل أحوالك تسلم من شيطانك.
وفي حديث عند مسلم عن أبي سعيد مرفوعاً: ((إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فِيه؛ فإن الشيطان يدخل)).
والشيطان قد يعترض للإنسان في المنام فيخيفه بالأحلام فيحزن بذلك، فعن قتادة قال: قال رسول الله : ((الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئًا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثًا، وليتعوّذ من الشيطان، فإنها لا تضرّه، وإن الشيطان لا يتراءى بي)) ، وقال : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل. فإن "لو" تفتح عمل الشيطان)) ، فالمسلم دائمًا يفوّض أمره لله، وإن فاته أمر قال: قدّر الله وما شاء فعل.
فاتقوا الله عباد الله، واستعيذوا بالله من الشيطان، ومن هَمْزه ونَفْثه ونَفْخه، إِنَّ الذِينَ اَّتقوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201].
(1/4327)
إعصار كاترينا
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
28/7/1426
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة تغير حال المدينة المصابة بالإعصار. 2- انهماك الناس في تتبع آثار الإعصار. 3- الغفلة عن الحقيقة. 4- ما يصيب العباد فبسبب ذنوبهم. 5- الجواب على تساؤلات حول هذه الحقيقة الشرعية. 6- دروس وعبر من الحدث.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، تلك مدينةٌ كانت عامرةً، مبتهجة بمعالم الحضارة وزُخرفها، فاستحالت في سويعات أثرًا بعد عين، كانت الأنهار تجري من تحتها، فغمرتها فأجراها الله من فوقها، وغرقتْ في لجّة الطوفان، وفيها مفقودون ومشرّدون، وآخرون مكلومون محزونون، ومن وَراء ذلك خسائر مادية ومالية فادحة أصيب بها من لم يُصبْه الإعصار.
تلك بعض الآثار لدمار الإعصار، لم يلبث إلا عشيةً أو ضحاها، لكنه ترك آثارًا شاخصة لا تمحوها عشرات السنين.
حلّ الإعصار سريعًا ثم ارتحل، فاقتفاه الناس يكتبون آثارَه، فإذا آثاره ممتدةٌ خارجةٌ عن مسارِه، قد أصابت من لم يصبه الإعصار، فلئن كان الإعصارُ قد أصاب مدنًا يسيرة في ولاية من عشرات الولايات فإن آثاره قد أصابت الولاياتِ بأكملها، وكبّد دولتها خسائرَ جسيمة لا يكبِّدها فعلُ بشَر.
وانهمك الناس يتتبعون آثارَ الإعصار يحصون الخسائر والأضرارَ ويقدِّرونها، فيُعييهم إحصاؤها ويُجهدهم تقديرها، فيخرصونها خرصًا ويقدِّرونها تقديرًا يقارب الحقيقة ولا يصيبها.
وخاض فيه الإعلام وأهله، يقرؤون الحدث من زواياه العلمية والاقتصادية والبيئيّة، فقالوا عنه كلّ شيء، وفصّلوه تفصيلاً، وخاض قومُنا كالذي خاضه أولئك، وقرؤوا الحدَث القراءة نفسَها بتفسيراتها العلميّة الظاهرة، وتركوا التفسيرَ الأهم الذي يفسّر الحدث وأسبابه الحقيقية، وهو التفسير الذي ينفرد به المؤمن المصدّق بكتاب الله وآياته.
لقد قال قومنا ما قد قيل، وتركوا الحقيقةَ التي يجب أن تقال، ولم يتركوها سهوًا، بل عمدًا ترَكوها، حتى إذا قالها غيرهم وذكّر بها ووعظ استهجنوها منه، وسلقوه بألسنة حدادٍ، وقوّلوه ما لم تقل، وألزموا كلامه ما لا يلزَم، وحمّلوه ما لا يحتمل.
لقد تركوا أوّل شيء ينبغي أن يقال ويُذكَّرَ به إذا وقعت مثلُ تلك الكارثة، وهي الحقيقة التي هي الأولى بالذّكر في هذا المقام، فلا علينا أن لا نذكر غيرَها من أمر الكارثة، وهي أن ما أصاب أولئك فإنما هو عقوبة على ذنوب اقتَرفوها، فما أصيبوا إلاّ بشؤم معاصيهم، ولا يظلم ربك أحدًا.
حقيقة أكَّدها القرآن كثيرًا، فجلاّها بلسان عربيّ مبين يفهمه كلّ أحد، غير مشتبِه ولا ملتبس، فجلاها الله في قوله جل جلاله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وفي قوله: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وفي قوله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:96-100]، وفي قوله: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [النحل:45]، وفي قوله: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، وفي قوله: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا [الكهف:59]، وفي قوله: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59]، ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ [الأنعام:131]، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
فهذه الآيات وأمثالها تفسّر هذه الكوارث، وتجلي عن سببها الأكبر الذي هو فوق أسبابها الطبيعية الظاهرة، وهي أن الكوارث تسلّط على الناس بسبب ذنوبهم.
وليس يخفى عند تقرير هذه الحقيقة ما يتوارد على بعض العقول من تساؤلات تحول بينها وبين قبول هذه الحقيقة، فلا مندوحةَ عن التعرض لها بأجوبة مقنعة تزيل عن هذه الحقيقة ما ألصِق بها من لوازم باطلة؛ حتى تسلّم العقول بها، وتطمئن النفوس إليها، ولذا فإن التذكير بهذه الحقيقة يقتضينا أن نُتبعَها بجملة من اللّفتات اللازمة:
فأولاً: إذا وقعت الكارثة بقوم فليس من لازم ذلك أن يكونوا هم أفجر الناس، كما أنها لا تمنح تزكيةً ولا شهادةَ حُسنِ سيرةٍ وسلوك لمن لم يُصبْ بها، فقد تصيب العقوبة الفاسقَ والفاجرَ وثمةَ من هو أفسقُ منه وأفجر، وقد يَهلِكُ الظالم وينجو الأظلم، وإن كان كلٌّ مستحّق للعقوبة مستوجب للسخط، فإن منهم من تعجل له بعضُ العقوبة في الدنيا، ومنهم من تؤخّرُ عقوبته فتدّخر له وتضعّفُ في الآخرة، وقد يُعاقَب المذنبُ بعقوبةٍ لا يشعر بها الناس من أمراض نفسية أو مشكلات اجتماعية أو أزَمَاتٍ اقتصادية.
ينبغي أن نعلم أن العقوبات لا تنالُ الأولى بها فالأولى، فقد تخطئ الأَوْلَى وتصيب الأدنى لحكمةٍ يعلمها سبحانه، فإنّ الله يملي لبعض الظالمين استدراجًا ليزدادوا إثمًا، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:181، 182].
ثانيًا: يتساءل بعضهم وهو يسمع بهذه الحقيقة: فما بال الأطفال ومن في تلك الديار من المسلمين؟! ما ذنبهم؟! وما جريرتهم حتى يهلكوا مع من هلك؟! والجواب: إنه ليس للأطفال ذنب إذ هلكوا في الكارثة بلا شكّ، وقد يكون من هلك معهم من المسلمين غيرَ مستحقّ للعقوبة، لكنهم أصيبوا بها تَبعًا، ووجودهم لا يمنع حلول العقوبة إذا ظهر في قومهم الفسادُ والفجور، فإذا هلكوا فليس بهلاك عقوبة عليهم، وإنما هو حلول أجَل اقتضى أن يكونوا في عِداد أولئك القتلى في الكارثة، فعنه أنه قال: ((إذا أنزل الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)) أخرجه البخاري، وعنه أنه قال: ((العجب أن ناسًا من أمتي يؤمون هذا البيت حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم)) , فقلنا: يا رسول الله، إنّ الطريق قد تجمع الناس, قال: ((نعم، فيهم المستبصر ـ وهو المستبين القاصد لغزو البيت العامد له ـ والمجبور ـ أي: المكره ـ وابن السبيل ـ وهو سالك الطريق معهم وليس منهم ـ ، يهلكون مهلِكا واحدًا، ويصدرون مصادرَ شتى, يبعثهم الله على نياتهم)) أخرجه مسلم.
لقد استشكلت عائشة وقوع العذاب على من لا إرادة له في القتال الذي هو سبَب العقوبة، فوقع الجواب بأن العذاب يقع عامّا لحضور آجالهم، ويبعثون بعد ذلك على نياتهم.
وانظر هنا كيف هو شؤم المعاصي على الخلق جميعًا صالحهم وطالحهم محسنِهم ومسيئهم إنسهم وبهائمهم، لقد خسف بالجميع لشؤم الأشرار، ثم عند الحساب يعامل كل أحد بحسب قصده. وفي الحديث الصحيح المشهور: أنهلِك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبَث)).
إن هذه الحقيقةَ التي أكدها القرآن في آيات كثيرة ليس لها إلا معنًى واحدٌ لا يحتمل غيره، وهو أن العقوبة إذا حلت بأرض فإنما حلت بأرض فيها من الفساد ما يستوجب العقوبة، وليس من لوازمها أن من حلت بهم هم أفجر الناس، ولا أن من لم تحُلَّ به مُبرّأٌ من الإثم.
وعلى هذا فإذا قلنا: إن الإعصارَ حلّ عقوبةً بمن هلك به أو تضرّر فهذا لا يعني أننا نزكّي أنفسنا ونبرئُها من المعاصي إذ لم نُصب بتلك المصيبة، فنحن مؤمنون بأن الله لا يرسل بالآيات إلا تخويفًا، وأن الكارثة كما هي عقوبة بمن أصيب بها فهي موعظةٌ وتخويفٌ لغيره.
نرى هذه المشاهد تقع هنا وهناك، يُجريها الله من حولنا، ويصرفها برحمته عنا، فما يحملنا ذلك إلا على حمده سبحانه وشكرِه أن نجَّانا منها، وجعل غيرنا عبرةً لنا، ولم يجعلنا عبرةً لغيرنا. وإن من أعظم الغرور أن نظنّ ذلك لمزيّة فينا تجعلنا بمأمن من مكر الله وعذابه، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، ولا نقول كما قالت اليهود والنصارى: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، فليس بيننا وبينه صلةٌ ولا رابطة نسَب، ولا نرى نجاتنا منها إلا مزيد إنعام من الله وفضل، وهي صورة من صور الابتلاء، النجاة فيها بالشكر والاعتراف بالتقصير؛ حتى لا تنقلب من صورة رحمة بالنجاة إلى استدراجٍ وإملاء، كشأن من قال الله عنهم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:42-45].
إن صرفَ هذه الكوارث عنا يستوجب مزيدَ شكر للمنعم سبحانه، ويستوجب معه اعترافًا بتقصيرنا في جناب الله الذي هذا فضله وهذه نعمته، ونحن في قبضته وتحت تصرّفه، نعصيه ونفرّط في طاعته؛ فلنقل كما علمنا نبينا : نبوء بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...
_________
الخطبة الثانية
_________
ثالثًا: لم يبغتْ الإعصارُ الناسَ فجأة، ولا أتاهم على حين غِرّة، بل جاءهم وهم له مترقِبون متربّصون، جاءهم بعد أن رصَدوا مسارَه، وقاسوا خطورَته، وأنذروا به وحذّروا، فجاءهم على المسار الذي رسموه له وبالقوّة التي حدَسوها، ومع كل ذلك لم يستطيعوا له ردًّا ولا تحويلاً، فمهما بلغ الإنسان من العلم وأحاط بأسراره فستظل قدرته في حدودها البشرية المحدودة.
لقد أفادتهم علومهم في هذه الكارثة بعض الفائدة المرجوّة، فأمكنتهم من الفرار من مسار الإعصار، ونجوا من الموت بمشيئة الله ثم بما أفادتهم به علومهم، لكن علومهم على تقدّمها لم تمنعهم من أن تمسّهم العقوبة ببالغ الأذى والضرَر، فإن كانوا نجوا بجسومهم فإنهم لم ينجوا من بطشة العقوبة، واقرأ في تقديرات ما خسرته الولايات المتّحدة بسبب الإعصار لتدرك أن الإعصار مصابُ أمّة بتمامها لا مصاب ولاية أو مدينة، وأن العقوبة طالتها جميعًا وإن لم يحل الإعصار إلا ببعضها.
رابعًا: إن كون هذه الآيات تقع بأسباب مفسّرة لا يجرِّدها من مشاهد العبرة والتذكرة، ولا ينفي أن تكون عقوبة على ذنوب مستحِقة للعقاب، فما كان يخفى على النبي ولا عن أصحابه أن كسوف الشمس يقع لأن القمر حال دونها، ولا أن خسوف القمر يقع لأن الأرض حالت بينه وبين الشمس، بل كان ذلك معروفًا قبل زمنهم، ومع ذلك كانوا يرون فيها آيةً للعبرة والخوف.
وهكذا كلُّ كارثة؛ معرفةُ أسبابها لا يحجب ما فيها من نُذر التخويف، كما لا ينبغي أن ننشغل بدراسة أسباب حدوث الكوارث عن الالتفات إلى ما فيها من العبر والآيات.
فليعتبر أولو الأبصار والادّكار من كل ما يُجريه اللهُ سبحانه في هذه الحياة من آياتٍ يسوقُها ليتَّعظَ بها العباد وينيبوا، ويلجؤوا إلى ربهم ويتوبوا. هذه الكوارث التي نراها هي آيات عظيمة يرسلها الله تخويفًا، فلنجعل منها صلةً تصِلنا بربنا إذا نسينا وتذكِّرنا إذا غفلنا.
(1/4328)
كلمات للمعلمين والمعلمات
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, التربية والتزكية, العلم الشرعي
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
12/8/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم وأهله. 2- قُطب الرّحَى في العمليّة التعليمية. 3- فضل رجال التربية والتعليم. 4- عِظم رسالة المعلم. 5- وصايا للمعلم. 6- أمانة التربية والتعليم. 7- أهمية ربط العلم بالأدب. 8- ضرورة ربط العلم والتربية بالمعتقد الصحيح. 9- صفات المعلم الناجح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد، فاتقوا الله عبادَ الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282].
أيّها المسلمون، لا يشكّ أحدٌ ولا يتمارَى أنَّ مقامَ العلم وأهله مقامٌ لا يجَارى، وميدانَهم مَيدان سَبقٍ لا يُبَارى، وهل بنِيَت الأمجاد وشيِّدَت الحضارات عبر التأريخِ إلاّ على دعائِمِه وركائزه؟! وهل أمّةٌ سادت بغيرِ التعلُّمِ؟! إذ العِلمُ أشرف مطلوب وأجلّ مرغوب وأعظَم موهوب. العِلمُ منبَع الفوائِد ومعقِل الفَرائِد ومجمَع الشّوارد. العِلم شرَف الدهر ومجدُ العصر ووِسام الفخر وتاجُ الشرف لكلِّ قطر، وهو فَخار الزّمان وإكسيرُ الأمن والأمان وضمانةُ السَّعادةِ والاطمِئنان.
العِلم كَنز وذخر لا نفادَ له نِعمَ القرينُ إذا ما صاحِبٌ صَحِبا
وأبلَغ من ذلك وأعزُّ قول المولى جلّ وعزّ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
معاشرَ المسلمين، وإذا كان العالم اليومَ يتنادَى عبر هيئاتِه العالميّة ومنظّماته الدوليّة للإصلاح والتنميَة ومكافحة الجهلِ والفقر والتخلُّف والإرهاب فإنّه واجِدٌ في العلم النّافِع المبنيِّ على الإيمان الرّاسخ ضالّتَه المنشودَة، وفي إيجاد جيلٍ متسلِّحٍ بالعلوم والمعارِف جوهرتَه المفقودة.
ولعلَّ حديثَ المناسبة يحلو ونحن نَعيش مع أبنائِنا الطلابِ وفتياتِنا الطّالبات إشراقةَ عامٍ دراسيّ جديد وإطلالَةَ موسِمٍ متألِّق في العِلم والمعرفةِ والتحصيل، ترتسِم على محيَّاه بسَمَاتُ الأمل الخلاَّبة وإشراقاتُ الفألِ الجذّابة في هممٍ وثَّابة وحُلَل من الجلالِ والجمالِ والمهابَة؛ لتحقيق مستقبَلٍ أفضلَ بإذن الله، لدفع عجَلَة تقدُّمِ المجتَمع ونهضةِ الأمّة، وما ذلك على الله بعزيز.
إِخوةَ الإيمان، حَجَر الزاوية وقُطب الرّحَى في العمليّة التعليمية والتربويّة فئةٌ عزيزة على نفوسِنا غالِية في قلوبِنا، فِئة لها مكانتُها السّامِيَة ومنزلتُها السّامِقة في الدّين والمجتَمَع والأمّة، فِئة جديرَة بالاحترام والتّكريم والتقدير وحفيَّةٌ بالاهتِمام والإجلال والتوقير، حقيقةٌ بالعناية والرّعاية والتبجيل؛ لأنها في الأمّة بمنزلة الغرَّةِ والتّحجيل، كيف وقد جَاء التنويهُ بذِكرها في محكم التنزيل؟! ولا غروَ فلها في مجالها القِدحُ المعلَّى والدّور المجلَّى، كيف وهي للعقولِ بُناة وللفهومِ شُداة وفي الخَير سعاةٌ، للعلم قادَةٌ وللتّربية شادَة وللمعرِفة رَادَة وللتحصيل سادَة. وأجزم ـ يا رعاكم الله ـ أنّكم أدركتم بعد هذا النّعتِ الفريد المعنى المرادَ وبيتَ القصيد، إنها فِئة البَذل والعطاء والمكرُمات من المعلِّمين والمعلمات والمربِّين والمربّيات.
إخوةَ الإسلام، المعلّمون هم النّجوم السّاطعة والكواكب اللامعةُ في سماء العلومِ والمعارف النّافعة، هم المصابيح المتلألِئة والشموع الوضّاءة التي تحترِق لتضيء الطريقَ للأجيال الصاعِدة والناشئة الواعدةِ، هم حمَلة مشكاة النبوّة والمؤتَمَنون على ميراثِ الرسالة في التعليم والتربية، كادَ المعلِّم أن يكون رسولاً. أرأيتَ أعظمَ أو أجلَّ منَ الذي يبني وينشِئ أنفسًا وعقولاً؟!
فيا أيّها الإخوة المعلِّمون، يا من شرفتم بأعظمِ مهمّة وأشرف وظيفةٍ، هنيئًا لكم شرَفُ الرّسالة ونُبل المهمّة، فمهما عانَيتم وقاسَيتم ومهما جارَ البعض عليكم وهمَّش رسالتَكم المتألِّقة وقلَّل هيبتَكم المتأصِّلة وغمَطَكم حقَّكم الأدبيَّ والمعنويّ، ومهما أغفل أحدٌ دورَكم الرّائد ومهمَّتَكم المشرَّفة لا سيّما في عصرِ الثورةِ التقانيّة والقنوات الفضائيّة والشبَكات المعلوماتية، مع ذلك كلّه فستظلّون ـ زُملائي المدرّسين ـ المنهلَ العَذب الذي تستقِي منه الأجيالُ والنورَ المتوهّج الذي تسير الأمّةُ بهداه إلى مواطنِ العزّ والنصر والفَخار والرفعة.
ومهما نطَق اللّسان وسطّر البيان فسيظلّ عاجزًا أن يوفِيَّكم قدرَكم وينصِفكم حقَّكم، ويكفيكم ثناءُ ربِّكم جلّ وعلا ومدحُ نبيِّكم ، أخرج الترمذيّ وغيره أنّ رسول الله قال: ((إنَّ الله وملائكته وأهلَ السموات وأهل الأرض حتى النملةَ في جُحرها ليصلّون على معلِّم الناس الخير)) [1]. الله أكبر، يا له من فضل عظيم وشرفٍ جسيم، لا ينتَظِر بعدَه المعلِّم من أحدٍ جزاء ولا شُكورًا.
أعِزّائي المعلمين، أخَواتي المعلِّمات، ومع عِظَم التشريف يعظُم التّكليف، فاللهَ اللهَ في الاضطِلاعِ بحَمل الرّسالة وأداءِ الأمانة على خيرِ وَجه، لقد ائتَمَنتكم الأمّة على أعزِّ ما تملِك، على عقولِ فلَذات أكبادِها وأبكار ثمراتِ فؤادها، أليس يقضي الطالبُ سحابةِ وقتِه وشطرَ يومِه متقلِّبًا في أعطاف قِلاع التعليم وحصون التربية؟! وهي المحاضِن المأمونة والأرحامُ السّليمة التي تلِد أجِنّة متسلِّحَةً بالأمن والإيمان، والتي من أهمِّ أركانها معلِّمون ناضِجون مهَرة وأساتِذَة طامحون بَرَرة، ولكن وا حَرَّ قَلباه وا عَظمَ خَطبَاه إذا خيَّب البعضُ الظنونَ، فانسلَّ في هذهِ العمليّة المهِمّة مندسّون في تموُّجَات عقديّة وفكريّة وسلوكيّة وانتِماءات وولاءاتٍ طائفيّة وحزبية.
فيا أيّها المعلم المبارَك، اجعَل طَوعَ بنانك وخَفقَ جنانك أصلَ الأصول الإخلاصَ لله في هذه المهمّة العظيمة، ولا يعزُب عن بالِك ـ يا رعاك الله ـ وأنت جنديٌّ في ميدان التعليم والتربية أن التعليمَ قُربة وعبادَة يزدَلَف بها إلى الله، فإن فقَد المعلّم هذا الأصل انتقَل من أفضل الطاعات إلى أسوَأ المخالفات، ومن أعالي الدّرجات إلى أحطِّ الدركات. فاستمسِك ـ أخِي المعلّم ـ أقرَّ الله بك الأعينَ بهذا الأصل الأصيل، فبِقَدر تحقُّقِه لديك تجنِي الثمارَ بيدَيك، غفَرَ الله لنا ولَك ولوالدينا ووالدَيك.
أمّةَ الإسلام، الجيل أمانة، والتعليم والتربيةُ أمانة، وأيّ ضَربٍ مِن التهاوُن والتقاعُس في أداء هذه الأمانة فإنّه لون من ألوان الخيانةِ، والله عزّ وجلّ يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. ويا لله، ما أعظمَ هذه الأمانة، وما أخطَرَ التفريطَ فيها، لا سيّما في هذه الأعصارِ المتأخّرة حيث التحدّيات الخطِرَة والمستجدّات المتلاحِقَة والمتغيِّرات المتسارِعة والأزَمات المتتابِعة. فلعمرو الحقّ، كم نحن بحاجةٍ ماسّة إلى العواصِم من هذه القواصِم، ولعلَّ من حمِّلوا أمانةَ التربية والتعليم أولى ثم أَولى مَن يتحلَّى برَونَق هذه الرّسالة العظيمة من حيثيَّةٍ مهمّة، أحسبُ أنها من أهمِّ ما يتحلَّى به المعلّمون، ذلكم هو جانِب القدوَة والتزام أخلاقيّات هذه المهمّةِ الجسيمة، وذلك بحسن السمتِ والهديِ الصالح وجماليّات الباطن والظاهر ومُراعاة كريمِ السجايا والشمائل ونُبل الأخلاق والفضائل، إذ أقبَحُ ما يرى المتلقِّي من معلِّمه وهو يرمُق سلوكَه أن يخالف فعلُه قولَه، فإن وقع المعلّم في هذا الدّرك فهلاَّ لنفسِه كان ذا التعليم، طبيبٌ يداوي الناسَ وهو سقيم، وأبلَغُ من ذلك قولُ الحق تبارك وتعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:3]. وهل أبرَزت تلك التناقضاتُ التربويّة إلا جيلاً يعيش معرّةَ التناقضِ والازدواجيّة وما تخلِّفُه من آثارٍ نفسيّة واجتماعيّة خطيرة. فأعيذك بالله ـ أيّها المعلّم الفاضل ـ أن تكون مسهِمًا في شيءٍ من ذلك بصورةٍ أو بأخرى، فما ذاك إلا طعنةٌ نجلاء بخنجَرٍ مسمومٍ في خاصِرة الفكر الصّحيح والمنهج السليم، ولذلك فإنَّ مسؤوليّة اختيارِ الأكفاءِ من المتصدِّين للرسالة التربويّة والتعليميّة مسؤوليّة عظمى، فلا يصَدَّر في هذا المجالِ كلُّ دعِيٍّ معوز ولا يعيَّنُ كلُّ متصحِّرِ الفكر مفلِس، حتى لا تُلاكَ هذه المهمّةُ العظيمة في كلِّ نادٍ ومجلس. ومِن هنا تأتي ضرورةُ حسنِ الإعدادِ ودورات التدريب والإمدادِ، ترقِّيًا في مدارِج السموِّ بهذه الرسالة الكبرى ورِجالاتها وجميعِ المنتسِبين إليها.
ومما يجدُر التذكير به في هذا الصدَد ربطُ العِلم بالأدب، فهما صِنوَانِ لا يفترقان، وعلى هذا درَج السلفُ الصالح رحمهم الله، وهو من أعظمِ حِلية المعلِّم الموفَّق، عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: "كانوا يتعلَّمون الهديَ كما يتعلَّمون العلم" [2] ، وعن رجاء بن حَيوَة رحمه الله أنه قال لرجلٍ: "حدِّثنا ولا تحدِّثنا عن متماوتٍ ولا طعّان" رواهما الخطيب في الجامع [3] ، وقال ابن المبارَك رحمه الله: "نحن إلى قليلٍ منَ الأدب أحوجُ منّا إلى كثيرٍ من العلم" [4] ، وقال ابن وهب: "ما تعلَّمنا من أدَبِ مالك أكثرُ مما تعلَّمنا من عِلمِه" [5] ، وقال الآجري في أخلاق العالم: "ويؤدِّب جلساءَه بأحسَن ما يكون من الأدب" [6] ، فالعِلم حَرب للفتَى المتعَالي كالسيلِ حَربٌ للمكان العالي، في تواضُعٍ جمّ وطلاقةٍ في المحيَّا وتصوُّنٍ عن الهيشَاتِ واللّغَط، فإنَّ الغلَط تحت اللّغط.
وإذا المعلِّم ساء لحظَ بَصيرةٍ جاءت على يدِه المعارِفُ حُولاً
مع الحذَر مِن إقحام المتعلِّمين فيما لا يدرِكونه ويَفهمونه، يقول علي رضي الله عنه: (حدِّثوا الناسَ بما يعرِفون، أتريدونَ أن يكذَّبَ الله ورسوله؟!) [7] ، وفي أثَرِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه: (إنّك لم تحدِّثِ الناسَ بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان لبعضِهم فِتنة) [8].
عزيزي المعلّم، أختي المعلّمة، لا بدّ من ربط العلم والتربيةِ بالمعتَقَد الصحيح والمنهجِ السليم والدين الحنيفِ الذي شرفنا جميعًا بالانتساب إليه، رَبّوا الأجيال على منهَج الوسطيّة والاعتدال، فلا غلوَّ ولا جَفاء، علِّموهم قِيَم التسامُح والرِّفقِ واليسر ورفع الحرج، حذِّروهم من الأفكارِ المنحرِفة والمسالك الضالّة والتيّاراتِ المخالِفة للحقّ، سواء في جانِبِ الغلوّ في الدين أو التحلّل من القِيَم والثوابت والانسِياق وراءَ عَولمة الفكر وتغريبِ الثقافة، فكلا طَرفَي قصدِ الأمور ذميم. وأجزِم أنّه عند تحقيقِ ذلك كلِّه أنّ الأمّة ستسعَد بحمدِ الله ومنِّه بجيلٍ لا كالأجيال، فريدٍ من نوعِه عقيدةً ومنهجًا وسلوكًا.
وبعد: يا أمّة التربية والتّعليم، تلك شذَرةٌ من صِفات وآدابِ المعلّم الناجح؛ لإيجاد جيل ناجِح ونشءٍ صالح، تقرّ به أعيُن الأسرة والمجتمع والأمّة. فبورِكت جهود المعلّمين الأكفِيَاء، وسدِّدت أقوالهم وأفعالهم، ولا حرَمهم الله ثوابَ بَذلهم وعطائهم، فثَغرُهم من أهمِّ الثغور المعنويّة، فكم نفع الله بهم البلادَ والعِباد، وكم تعلَّمتِ الأجيال منهم كيف يكون البذل والعطاء، في منهَجٍ متميّز وفكر نيِّر وإبداع متألّق، سيَكون بإذن الله رصيدًا لهم في دنياهم وذخرًا لهم في أخراهم، وكان الله في عون العاملين لخدمةِ دينهم وصلاحِ مجتمعهم وأمّتهم، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب العلم (2685) من طريق القاسم أبي عبد الرحمن عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب صحيح"، وهو أيضا عند الطبراني في الكبير (8/234)، وذكره الهيثمي في المجمع (1/124) وقال: "فيه القاسم أبو عبد الرحمن وثقه البخاري وضعفه أحمد"، والحديث في صحيح الترغيب (81).
[2] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/79).
[3] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/139).
[4] انظر: مدارج السالكين لابن القيم (2/376).
[5] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/509).
[6] أخلاق العلماء (ص52).
[7] أخرجه البخاري في العلم (127).
[8] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (1/11)، من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عنه به، وهذا سند منقطع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله بارِئ النّسم وخالق اللَّوح والقلم، أحمده تعالى وأشكُره على ما أسدَى وأنعم، وأشهد أنّ نبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله الهادي إلى السبيل الأقوم، صلى الله عليه وعلى آلِه وصحبه وسلّم.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي الزاد والعدّة ومتنزَّل المحامِد ومعراج السموّ ومبعَث القوّة والمعينُ على العِلم والعمل والسلامة من الفتَن والعِصمة من المحن.
أيها الإخوة الأحبّة في الله، ومن أهمِّ صفاتِ المعلِّم الناجِح أن يكونَ حسَن الألفاظ، دقيقَ الألحاظ، متشبِّعًا بِفكرتِه، إيجابيًّا في طرحه، مراعيًا الفروقَ الفرديّة بين طلابه وتلاميذه، متجدِّدًا في أسلوب عرضِه، لا يقف في العِلمِ عند حدِّ الشهادة المؤقَّتة، بل العلم عنده كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "من المحبرة إلى المقبرة" [1].
ومن أهمِّ سماته الوقوفُ عند حدود علمه وعَدمُ الجرأة على الفتوى والقولِ على الله بغير علم وسؤال مَن هو أعلَم منه وعَدم الاستنكاف من قول: "لا أدري"، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا نسي العالم كلمة "لا أدري" فقد أصيبَت مقاتِله) [2] ، ويقول عطاء: "لا أدري نِصف العلم" [3].
وليحذر المعلّم الفاضل من أن يكونَ متنمِّرًا في العلم متطفِّلاً على غَير فنِّه، فمن تحدَّث في غير فنِّه أتى بالعجائب. وليَحذر أن يكونَ أبا شِبرٍ في العلم فقد قيل: "العِلمُ ثلاثةُ أشبار، من دخل في الشِّبر الأول تكبَّر، ومن دخل في الشّبر الثاني تواضَع، ومَن دخل في الشبر الثالث علِم أنه لا يعلم" [4]. كما يحذَر من التصدُّر قبل حينِه، فمن تصدّر قبلَ حينه هوى في حينِه، ولا يفرح بزلاَّتِ العلماء، ولا يتتبّعُ سَقَطات النبلاء، ولا يقحِم نفسَه وطلاّبَه فيما يوغِرُ الصدور ويبعَث على الفرقةِ والاختِلاف والشرور، فإن فعَل ذلك فأنَّى له أن يخرِجَ جيلاً متوشِّحًا بسِربال الأدَب خشيةَ الخراب والعطب؟!
أختي المعلمة، وليست مسؤوليتُك التربويّة بأقلَّ من مسؤوليّة المعلم، بل قد تكون أعظمَ لما تمثّله المرأة من مكانةٍ عظمى في هذا الدين والمجتمعِ والأمة، فالله اللهَ في الالتزام بالتربية والتعليم على ما يميِّز المرأةَ المسلمة في حِجابها وعفافِها وحِشمتها، وما يجافيها عن كلِّ ما يخِلّ بكرامتها ولا يناسِبُ طبيعتَها وأنوثتَها من جوانب الاختلاطِ المحرَّم والتبرّج المذموم.
ربّوا البنات على الفضيلة إنها بالخافقين لهنّ خيرُ وثاق
وإنَّ من فضل الله علينا في هذهِ البلاد المبارَكة ما ننعَم به من خصوصيّة مميَّزة في مناهج التعليم وأهدافِه وغاياتِه، تواؤمٍ فذٍّ بين مُدخَلات التعليم ومخرَجَاته، فالمقرَّرات والمناهج بحمد الله مفاخِرُ ومباهج، وإنَّ مسؤوليّةَ المعلّم في ذلك أن يربطَ طلاّبه بالولاء لله ثم لدِينه وولاةِ أمرِه وعلمائه وبلاده، وأن يعزِّزَ فيهم انتماءَهم لعقيدتهم وبلادِهم الإسلاميّة التي هي قِبلَة المسلمين ومَهبط الوحيِ وأرض الحرمَين والرّسالة الخالدة، أدام الله عليها وعلى سائر بلادِ المسلمين أمنَه وأمانه، إنه جواد كريم.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
ثم صلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على معلِّم البشرية كما أمركم بذلك ربّكم ربّ البريّة، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين نبيِّنا محمّد بن عبد الله، على آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغرِّ الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين...
[1] انظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي (1/399).
[2] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/840)، وأخرجه أبو نعيم في الحلية من قول سفيان بن عيينة (7/274).
[3] أخرجه الدارمي في مقدمة سننه من كلام الشعبي (180).
[4] انظر: تذكرة السامع والمتكلم (ص65).
(1/4329)
جنود الخفاء
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الزكاة والصدقة, قضايا المجتمع
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
12/8/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفاضلة الله تعالى بين عباده في الرزق. 2- ما جاء في فضل الفقير المؤمن. 3- فضل الإحسان للفقراء وقضاء حوائجهم. 4- صور من زهد السلف. 5- حال النبي. 6- فضل الإنفاق في سبيل الله. 7- خطورة المال. 8- الوصية بالصبر والتقوى. 9- الصيام في شعبان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى؛ فعند الله للأتقياءِ المزيد، ولهم النجاةُ يومَ الوعيد.
أيّها المسلمون، فاضَل الله بينَ عِباده بالرِّزق والعطاءِ ابتلاءً لهم وامتِحانًا، قال جلّ وعلا: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام:165]. أغنى من شاءَ منهم بفضله، وأفقَر آخرين بحِكمته، قال عز وجلّ: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ [الفرقان:20].
وفي المجتمَع فئةٌ هم أكثرُ أهلِ الجنة، أعلَى الله منزلتَهم وإن احتقَرهم بعضُ الخلق، أدناهم الله مِنه وإن جفَاهم النّاس، يقول عليه الصلاة والسلام: ((اطَّلعتُ في الجنّة فرأيتُ أكثرَ أهلها الفقراءَ، واطّلعتُ في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) متفق عليه.
هم أقرَب النّاس إلى الأنبياءِ وأكثرُ أتباعِ الرّسل، قال جل شأنه حكايةً عن قوم نوحٍ عليه السلام: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]، وقال هرقل لأبي سفيان: سألتُك عن أتباعِ محمّد، فذكرتَ أنّ ضعفاءهم اتَّبعوه، قال: وهم أتباعُ الرسل. رواه البخاريّ.
أمر الله نبيَّه أن يكون إقبالُه عليهم، وأنزلَ الله العتاب في الإعراضِ عنهم: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى [عبس:1-4].
من لم يدنُ منهم أو يَأمر بالإحسانِ إليهم كان موبَّخًا في كتابِ الله: كَلاَّ بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الفجر:17، 18].
صرَف الله عنهم فِتنةَ هذه الأمّة، قال : ((لكلِّ أمّة فتنةٌ، وفتنة أمّتي المال)) رواه الترمذي.
يغضَب الله على من بخَسهم حقًّا من حقوقِهم، أصحابُ الجنة الذين ذكرَهم الله في سورة القلَم منعوا الفقيرَ تكثُّرًا لأموالهم، فأحرَق الله زروعَهم، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ [القلم:19، 20].
دعَواتهم حريَّةٌ بالإجابة لخلوِّ قلوبهم من التعلُّق بزُخرف الحياةِ، قال ابن القيم رحمه الله: "والله عند المنكسِرة قلوبُهم".
خيرُ الأطعمة ما شهِدوها، قال : ((شرُّ الطعامِ طعامُ الوليمة؛ يُدعَى لها الأغنياء ويُترَك الفقراء)) متفق عليه، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يأكُل حتّى يؤتى بمسكين يأكل معه. متفق عليه.
إطعامُهم موجِبٌ للجنان، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أفشوا السّلام وأطعِموا الطعامَ وصلّوا والناس نِيام تدخُلوا الجنّةَ بسلام)) رواه الترمذي.
الساعي عليهم كالمجاهدِ والعابد، قال : ((الساعِي على الأرملة والمسكينِ كالمجاهد في سبيلِ الله أو كالذي يصوم النّهارَ ويقوم اللّيل)) متفق عليه، وكان نبيّنا محمد أقربَ الناس إليهم، يتلمَّس أحوالهم، ويقضِي حاجاتِهم، يقول سهل بنُ حنيف رضي الله عنه: كان رسول الله يأتي ضعفاءَ المسلمين ويزورهم ويعودُ مرضاهم ويشهَد جنائزهم. رواه أبو يعلى، وكان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يكنَى بأبي المساكين؛ يحِبُّهم ويسكُن بجانبهم ويكثِر من الصدقة عليهم.
في مجالستِهم نماءُ المال وصفاءُ النفس وزهدٌ في الدنيا وتذكير بالنِّعم وشَحذٌ للهمم إلى الآخرة، في القُرب منهم تتفتَّح أبواب الرّزق، يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال الله عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِق عليك)) رواه البخاري، وبهم تدفَع الآفاتُ والشرور، قال عليه الصلاة والسلام: ((هل تنصَرون وترزَقون إلا بضعفائكم؟!)) رواه البخاري، قال المناوي رحمه الله: "بسبَبِ كونِهم بين أظهرِكم، أو بِسبب رِعايَتِكم ذِمامَهم، أو ببَركة دعائهم".
وكان الخلفاء يطلُبون النصرَ بإكرامهم والبذلِ لهم، يقول الخليفة نور الدين رحمه الله وهو يقرِّب الفقراءَ إليه ويحنو إليهم: "هم قومٌ يقاتلون عنِّي وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطِئ" أي: بالدعاء.
فأكرِم نفسَك بإكرامهم وقضاءِ حوائجهم، ولا تحتقر فقيرًا لقلَّة ذاتِ يده؛ ففي الفقراء عظماءُ وجهابِذة وحفّاظ ونُبَلاء. الإمام البخاريّ رحمه الله جمع كتابَه الصحيحَ الذي هو غرّةٌ في جبينِ الزّمان لم يكن عندَه ما يشترِي به طعامًا، بل كان يأكل من نباتِ الأرض، والإمام أحمدُ رحمه الله ـ الذي قال عنه الذهبيّ: "هو الإمام حقًّا وشيخ الإسلام صِدقًا" ـ يرهن نعلَيه عند خبّاز على طعامٍ أخذه منه.
وأشرَف قرنٍ في الزّمان قرنُ صحابةِ رسول الله ، مسَّ الجوع بطونَهم، يقول المغيرة رضي الله عنه: كنّا في بلاءٍ شديد نمُصّ الجلدَ والنوى من الجوع. رواه البخاري. وراوِيَة الإسلام حاوِي العلم أبو هريرة رضي الله عنه كان أحدَ أعلام الفقراء يقول: لقد رأيتُني وإني لأخِرّ فيما بين مِنبر رسولِ الله إلى حجرةِ عائشة مغشِيًّا عليَّ، فيجيء الجائِي فيضَع رجلَه على عنقِي ويظنّ أني مجنونٌ، وما بي جنون، ما بي إلاّ الجوع. رواه البخاري.
ونبيُّنا محمّد كان يبيت اللياليَ المتتابعَة طاوِيًا هو وأهله لا يجِدون عشاء. متفق عليه. وخرج مِن داره مِرارًا من شدّةِ الجوع، ورَبط على بطنِه حجَرًا وحجَرين تخفيفًا لألمه، يقول أبو طلحة رضي الله عنه: سمعتُ رسولَ الله ضعيفًا من الجوعِ عليه الصلاة والسلام، ولم يخلِّف دِرهمًا ولا دينارًا ولا شاةً ولا بعيرًا. وخرج أبو بكر وعمَر رضي الله عنهما من دارِهما من ألَم الجوع، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: خرَج رسول الله ذاتَ ليلة فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال: ((ما أخرجكما من بيوتِكما هذه الساعةَ؟!)) قالا: الجوع يا رسولَ الله، قال: ((وأنا والذي نفسِي بيده لأخرجَني الذي أخرَجَكما)) رواه البخاري.
فلا تتعالَ على فقيرٍ؛ ففِيهم مجابُ الدعوة المقرَّب من الله، قال النبيّ : ((رُبَّ أشعثَ مدفوع بالأبواب لو أقسَم على الله لأبرّه)) رواه مسلم.
والفقراء يحملون زادَ الأغنياء للآخِرة، ولولا المساكينُ ما انتفَع الغنيُّ بغناه، وللفَقير فضلٌ على الغنيّ في قَبول صدقته، فإن قبِلها الله منكَ رفعَك الله بها درجاتٍ، وطريقُ الغِنى والسّعةِ في الأغلَب طريقُ عَطب، والزمان ذو تقلُّبٍ، تصبِح غنيًّا وقد تمسِي فقيرًا، فاحفَظ مالَك بالإنفاقِ، ولا تردَّ فقيرًا بلا عطاء، فما اشتكى فقيرٌ إلاّ مِن تقصيرِ غنيّ، يقول ابن العربي رحمه الله: "يستحَبّ في الجملةِ أن لا يرجعَ الفقيرُ خائبًا؛ لئلاّ يتعيَّن له حقٌّ فيتوجَّه على المسؤولِ عِتاب أو عِقاب".
فشاطِرِ الفقراءَ أفراحهم وآلامَهم بالبشاشةِ والابتِسام، واجعَل الفقيرَ أحدَ أفراد أسرتِك، وأحبَّه وادنُ منه مع حسنِ الملاطفة واللّين، وتأسَّ بذوِي الكرَم والتواضعِ والسّخاء، يقول عثمان رضي الله عنه: (حُبِّب إليَّ من الدّنيا ثلاثة: إِشباع جائِعٍ وكسوَة العارِي وتلاوة القرآن).
واخفِض له جناحَ الذلِّ بالعطاء، فالإنفاق عليه من أسبابِ الثّبات على الدّين، سئِل النبيّ : أيُّ الإسلام خير؟ قال: ((تطعِم الطعامَ وتقرأ السلام على مَن عرفت ومَن لم تعرف)) رواه البخاري.
واليسيرُ منَ البذلِ يستُر منَ النار، يقول عليه الصلاة والسلام: ((يا عائشة، استتِري من النار ولو بشقِّ تمرة؛ فإنها تسدّ من الجائع مسدَّها من الشبعان)) رواه أحمد. والصدقة تدفع البلاءَ، وتقي مصارعَ السوء، وتطفئ الخطيئة، وتهوِّن شدائدَ الدنيا والآخرة، ويستظلّ صاحبها فيها في المحشر حتى يقضَى بين الخلائق، وتحفَظ المال وتنمّيه، وتجلب الرزقَ، وتحبِّب العبدَ إلى الله، وتدعوه إلى سائر أعمال البرّ فلا تستعصي عليه.
والمنفِق تتيسَّر له أمور الحياة، قال عز وجل: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10]، وفي صبيحة كلِّ يوم يدعو ملك للمنفِق مالَه، يقول النبي : ((ما من يومٍ يصبح العبادُ فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللّهمّ أعطِ منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللّهمّ أعطِ ممسِكًا تلفًا)) متّفق عليه.
والغنيُّ الجشِع لا لنفسِه انتفَع، ولا ببَذله للفقراء ارتفَع. والمال يعرِض له الشرُّ بعارضِ البخل أو الإسرافِ في إنفاقه، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38]. والمال كالحجَر في اليد؛ لا ينتفَع به إلاّ إن فارقَ الكف،َّ والممسِك يندم إذا دنَا أجلُه، قال جلّ وعلا: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10].
والمالُ صاحِبٌ لا يُؤمَن أن ينقلِب عدوًّا فيحرمَ صاحبَه الثواب، وإنما يحمَد المالُ إذا قرُب من الخير والفقيرِ، قال عليه الصلاة والسلام: ((نعم صاحب المسلِمِ هو لمن أعطَى منه المسكينَ واليتيم وابنَ السبيل)) متفق عليه.
والمرءُ يبتلَى على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابةٌ زيدَ فيه، ولا ينجو العبد من الابتلاء إلا بالصّبر والتعلّقِ بالله. وعلى الفقير ملازمةُ التّقوى؛ فبها تتيسَّر على المعسِر أبواب الرّزق، قال عز وجل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]. وبمداومةِ الاستغفار يغدق المال، قال سبحانه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]. والتجِئ إلى الله بالدّعاء، وسَله فتحَ أبواب رحمته وخيره، فهو الكريم الوهّاب يعطي من يشاء بغيرِ حساب، وأحسِن الظنَّ بربك، وانتظر فتحَ أبواب الرّزق لك، ولا تعجل في تفريج الكربِ، ولازم الصبرَ فقد يكون الربّ مدَّخِرًا لك خيرًا في أخرَاك، قال عليه الصلاة والسلام: ((يدخُل الفقراءُ الجنّة قبل الأغنياء بخمسمائة عام)) رواه الترمذي.
ولا تركَن إلى الأسباب وحدَها في طلب الرّزق، بل اجعل معها سؤالَ ربّك، فالمكتوب من الرزق قد يصل إلى الضعيفِ العاجز ويَضيق على الجلد القويّ، وكلّ شيء عنده بمقدَار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة:273].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَلى إحسانِه، والشّكر له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وحدَه لا شَريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أن نبيّنا محمّدًا عبده ورَسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابِه.
أمّا بعد: أيّها المسلِمون، الإخلاصُ واقتِفاء أثرِ النبيِّ في التعبُّد شَرطَان في قَبول العمل، وكان النبيّ يكثِر الصيامَ في شهر شعبان، تقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ رسول الله استَكملَ صيامَ شهرٍ إلا رمَضان، وما رأيته أكثرَ صيامًا منه في شعبانَ. رواه البخاري.
ولم يَكن النبيّ يخصُّ النّصفَ من شَعبان بالصّيام، ولا ليلتَها بالإحياء.
ومَن كان عليه صيامٌ مِن أيّام رمضانَ المنصرِم فليبادِر إلى صيامه قبل إدراكِ شهر رمضان.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه فقال في محكَم التنزيلِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على نبيّنا محمّد...
(1/4330)
هيئة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر والأقلام المسمومة
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عمر القنصل
أبها
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- أثر القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الفرد والمجتمع. 4- حرمة الدماء المعصومة في الإسلام. 5- مقترحات للقضاء على ظاهرة الانحرافات العقدية والفكرية والتطرف عند الشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثمّ أمّا بعد: أمّة الإسلام، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ كما وصّاكم الله بهذا فقال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِيْنَ أُوْتُوْا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوْا اللهَ [النساء:131].
عباد الله، إنّ من نعم الله عزّ وجلّ على هذه الأمّة أن جعلها أمّة واحدة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، تأمر بالمعروف بالمعروف، وتنهى عن المنكر بلا منكر، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر عبادةً لله وديانةً لله وخوفًا من لعنة الله لو تَقَاعَسَت أو قصّرت في واجبها تجاه الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، كما لعن الله التّاركين له فقال تعالى: لُعِن الّذِيْنَ كَفَرُوْا مِنْ بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصُوْا وَكَانُوْا يَعْتَدُوْن كَانُوْا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوْهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوْا يَفْعَلُوْن [المائدة:78، 79].
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لأنّ في ذلك سرّ البقاء وأمانًا من العذاب، فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ اْلقُرُوْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوْا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ اْلفَسَادِ فِيْ اْلأَرْضِ إِلاَّ قَلِيْلاً مِمَّنْ أنَجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِيْنَ ظَلَمُوْا مَا أُتْرِفُوْا فِيْهِ وَكَانُوْا مُجْرِمِيْنَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اْلقُرَىْ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُوْنَ [هود:116، 117]. فالأمّة الّتي يقع فيها الفساد أيًّا كان نوعه وفي أيّ صورة من صوره ثم يوجد في تلك الأمّة من ينهض لدفعه أمّةٌ ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتّدمير، أمّا الأمّة الّتي يظلم فيها الظّالمون ويفسد فيها المفسدون ويَتَبَجَّحُ فيها الرُّويْبِضةُ على المصلحين ثمّ لا ينهضُ من يدفع الظّلم والفساد أو يكون فيها من لا يستنكر إنكارًا يؤثّر في الواقع الفاسد فإنّ سنّة الله تعالى تحقّ عليها، ولعنة الله تَحُلّ عليها، إنْ بهلاك الاستئصال، أو بهلاك الانحلال والاختلال، أو بهما معًا. إنّ البلاد الّتي لا يزال المصلحون ينهون فيها عن الفساد لهي بلاد محميّة مأمونة من بطش الجبّار جلّ جلاله، إنّهم لا يؤدّون واجبهم لربّهم ولدينهم فحسب؛ إنّما هم يَحُولُون بهذا دون أُممهم وغضب ربّهم واستحقاق النّكال عليهم.
فلا بد إذًا من وجود جماعةٍ تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لا بدّ من سُلطة في الأرضِ تدفع وتدعم هذه الجماعة الآمرة بالمعروف النّاهية عن المنكر، وهذا ما يدلّ عليه النّصُّ القرآنيّ الكريم: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى اْلخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِاْلمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ وَأُلَئِكَ هُمُ اْلمُفْلِحُوْنَ [آل عمران:104]، فهناك دعوةٌ إلى الخير، وهناك أيضًا أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، والأمر والنّهي لا يقومُ به إلاّ ذو سلطانٍ، سلطة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتُطاع، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُوْلٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ [النساء:64].
ودينُ الله عزّ وجلّ ليس مجرّد وعظٍ وإرشادٍ وبيانٍ، فهذا شطر، أمّا الشّطر الآخر فهو القيام بسلطة الأمر والنّهي على تحقيق المعروف ونفي المنكر من الحياة البشريّة، وصيانة أخلاق الأمّة المنبثقة من دينها من أن يعبث بها ذو هوى أو شهوة أو مصلحة، وأيضًا ضمانة هذه الأخلاق والمبادئ من أن يقول فيها كلّ امرئٍ برأيه وتصوّره، زاعمًا أن هذا هو الخير والمعروف والصّواب، فلو طُوي بساطُ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لاضْمَحَلّت الدّيانة، وعمّت الفترة، وفشت الضّلالة، وشاعت الجهالة، واسْتَشْرَى الفسادُ، وخربت البلاد، وهلك العباد، عندها يستولي على القلوب مداهنة الخلق، وتنمحي منها مراقبة الحقّ، ويسترسل النّاسُ في اتّباع الهوى والشّهوات استرسال البهائم، ويتعذّر من تأخذه في الله لومة لائم. سوق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر يجب أن تبقى قائمة، وصقورها يجب أن تبقى على رؤوس الفواسق حائمة، فهي الملاذ بعد الله تعالى من انتشار الجريمة والارتكاس في عالم البهيمية.
لأجل هذا وغيره امتلأ القرآن الكريم بنصوص الدّعوة للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وكثر حديث المصطفى في الأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن ترك النّهي عن المنكر، ونادى السّلف بذلك، وأجمعت الأمّة على ذلك، فقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُوْنَ إِلَى اْلخَيْرِ وَيَأْمُرُوْنَ بِالمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ اْلمُفْلِحُوْنَ [آل عمران:104]، وهذا دليلٌ واضحٌ في اختصاص الآمرين بالمعروف والنّاهين عن المنكر بالفلاح، وحينما وصف الله جل وعلا المؤمنين وصفهم بهذا الوصف، والّذي يلفت أهميّته من المكانة أنّ الله قدّمه على الصّلاة فقال تعالى: وَاْلمُؤْمِنُوْنَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُوْنَ بِاْلمَعْرُوْفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ اْلمُنْكَرِ وَيُقِيْمُوْنَ اْلْصَّلاَةِ [التوبة:71].
ولم يكتف القرآنُ الكريم بالحثّ على الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر حتى جاء التّحذير والتّرويع في حقِّ التاركين له، ولكن بقارعة من القَوَارِع الّتي تَسْحَقُ من وقعت عليه، فقال تعالى: لُعِنَ اْلَّذِيْنَ كََفَرُوْا مِنْ بَنِيْ إِسْرائِيْلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوْا يَعْتَدُوْنَ كَانُوْا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوْهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوْا يَفْعَلُوْنَ [المائدة:78، 79]. وبيّن جلّ جلاله أن النّجاة عند نزول العذاب هي من حقّ الآمرين بالمعروف والنّاهين عن المنكر فقط، أمّا من عداهم فهو هالك، سواءٌ فاعل الذنب أو السّاكت عنه، فقال تعالى: فَلَمَّا نَسُوْا مَا ذُكِّرُوْا بِهِ أَنْجَيْنَا اْلَّذِيْنَ يَنْهَوْنَ عَنِ اْلسُّوْءِ وَأَخَذْنَا اْلَّذِيْنَ ظََلَمُوْا بِعَذَابٍ بَئِيْسٍ بِمَا كَانُوْا يَفْسُقُوْنَ [الأعراف:165].
هذه المساحة الواسعة في القرآن الكريم لهذه الشّعيرة الدّينيّة تُعطينا مدلولاً على أهميّتها، وأنّها ركيزةٌ من ركائز الدّين، التّفريط فيها ضياعٌ للديّن وانحلالٌ للمؤمنين واختلالٌ في نظام الآمنين.
ويحذّرنا المعصوم من التّهاون في هذا فيقول: ((كلا واللهِ، لتأمرنّ بالمعروفِ، ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكرِ، ولَتَأْخُذُنَّ على يدِ السّفيه، وَلَتَأْطِرُنَّه على الحقِّ أَطْرًا، أو ليضربنّ الله قلوبكم بقلوب بعضٍ، ثمّ ليلعنكم كما لعن بني إسرائيل)) ، وفي المسندِ وغيره قوله : ((يا أيّها النّاس، إنّ الله يقول: لتأمُرنَّ بالمعروف وَلَتَنْهَوُنَّ عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يُستجاب لكم)).
فالدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تكليفٌ ليس بالهيّن ولا اليسير إذا نظرنا إلى طبيعته واصطدامه بشهوات النّفس ونزوات النّاس ومصالح بعضهم ومنافعهم وغرور بعضهم وكبريائهم، ففي النّاس الغاشم والمتسلّط، والهابط الّذي يكره الصّعود، والمسترخي الّذي يكره الاشتداد، والمنحلّ الّذي يكره الجدّ، والظّالم الّذي يكره العدل، والمنحرف الّذي يكره الاستقامة، وفيهم الّذين ينكرون المعروف ويعرفون المنكر، ولا تنجُو الأمّةُ ولا تُفلحُ البشريّةُ إلاّ أن يسودَ الخيرُ ويكون المعروف معروفًا والمنكر منكرًا، فإذا ما عُرِف المعروف وأُنكِر المنكر تميّزت السنّة من البدعة، وعُرِف الحلال من الحرام، وأدرك النّاسُ الواجب من المسنون والمباح من المكروه، ونشأت النّاشئةُ على المعروف وأَلِفَتْه، وابتعدت عن المنكر وأنكرته، وصَلَحت البلاد، وأمن العباد، وعمّ الخيرُ والرّزق، وزاد البرّ والرّفق، ولم يجد الأعداءُ في المجتمع من يستهويه أو يستميله، ولم يجد الجهّال مبرّرًا لجنوحهم إلاّ بتأويله.
إذا كانت سوق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر دائرة وعرباتهم في الطّرقات سائرة وأعراضُهم من الكتّاب المشبوهين مُصَانة اختفت الجريمة أو كادت، وأمن النّاس على أنفسهم ونامت، أمّا إذا جرّ القِيانُ والمشوّهون أقلامهم بالزّور والبهتان على أهل الخير والمعروف وسوّدوا صفحات الصّحف بمدادٍ قاتمٍ نابعٍ من قلوبٍ مُجَخِّيَةٍ قد تلبَّدت بالرّان وتقيّأت القَطِران فإنّ ذلك نذير شؤم وعلامة لؤم، وناقوس خطرٍ يدقُّه أصحاب المشارب البعيدة المُلْتَاثَة الّذين شَرِقوا بالفضيلة، واستماتوا على نشر الرّذيلة، يجرُّون الأمَّة بأقلامهم وأكاذيبهم إلى المهالك، ويُحسِّنون لها بسوئهم سيّئ المسالك، قلوبُهم قلوب الذِّئابِ، وألسنتهم بالخير أشحّةً، وأقلامهم على أهل الخير حِدَاد، استغلّوا الحريّة المُتاحة في البهتان والوقاحة، يتعاوَوْن في الصّحفِ على الفضيلة كما تتعاوى الذِّئابُ في شتّى الشِّعاب على الشّاة العائرة، كأنّهم من دينٍ ونحن من دين، وكأنّهم في سَفِينٍ ونحن في سَفِينٍ، فماذا يريد هؤلاء وقد جعلوا من أقلامهم سِهامًا مسمومةً على هيئات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وعلى التّعليم الدّعويّ الّذي هو من سياسة هذا البلد المسلم المبارك؟! ألا يتّقون الله عزّ وجلّ ويقولون قولاً سديدًا، ويعلمون أنّهم غدًا مُحاسبون على ما قدّمت أيديهم وكَتَبَتْه وما تلفّظت به ألسنتهم وكَذَبَته؟! فليكتبوا ما شاؤوا؛ فاليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل، فاعمل ما شئت فإنّك به مُدان.
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِيْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى مَا فِيْ قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِيْ الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيْهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالْنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والّذكر الحكيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الدّاعي إلى رضوانه، صلوات ربّي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
ثمّ أمّا بعد: أمّة الإسلام، لقد مَنّ الله عزّ وجلّ على هذه البلاد بنعمٍ كثيرة لا تُعدّ ولا تُحصى، أكبرها وأعظمها نعمة الإسلام والأمن والأمان، نسأل الله تعالى أن يُديمها علينا وعلى بلادنا، وأن يمنحها من حُرِمَها من المسلمين. مساجدنا بالخير صَدّاحة، وإعلامنا وتعليمنا لا يرفضُ الدّين ولا يزدري المتديِّنين، فنحن حكومةً وشعبًا ننتمي لهذا الدّين العظيم الّذي عُرِف بالتّسامح ونبذ العنف واحترام الغير وتجريم قتل النّفس بغير حقٍ، فكلٌ منّا يعلمُ في هذا البلد المبارك وعن طريق التّعليم الدّينيّ حُرمة الاعتداء على الآخرين، سواء في دمائهم أو أموالهم أو أعراضهم ونحو ذلك، وقد قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيْهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيْمًا [النساء:93]، والرّسول يقول: ((لا يحلّ دم امرئٍ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث: النّفسُ بالنّفس، والثّيبُ الزّاني، والتّارك لدينه المفارق للجماعة)). وحُرمة المسلم أعظم عند الله تعالى من حرمة الكعبة المشرّفة.
معرفة هذه المسائل ونحوها هي الّتي تضبطُ الأمن في المجتمع المؤمن، ونحن في هذا البلد المسلم نعرفُ هذا وندركه، ونعرف أنّ ترويع المؤمن عند الله عظيم، فكيف بقتله؟! ألم يخبرنا النّبيّ أن من أشار إلى أخيه المسلم بحديدة لعنته الملائكة حتّى يضعها ولو كان مازحًا؟! هذه الأمور عرفناها من خلال تعليمنا الدّينيّ الّذي تربّينا عليه منذ نعومة أظفارنا في مراحلنا التّعليميّة الابتدائيّة، وإذا حُرِم غيرنا هذا ونحوه لعدم إدخالهم التّعليم الدّينيّ في المدارس فذاك خطأٌ شنيعٌ يتحمّلون نتيجته ويبوؤون بإثمه. ولهذا نرى النّاس من حولنا يدفعون ثمن التّعليم والإعلام العلمانيّ؛ دماءً تُسفك، وأعراضًا تُهتك، وأموالاً تُنهب، وعجزًا أمنيًا واضحًا في ملاحقة الجاني أو حماية المجني عليه. غير أنّ الانفتاح على ثقافة الآخر وسهولة التّواصل بين الشّعوب وازدحام الفضاء بالإرساليّات الإعلاميّة ووجود المغرضين لهذا البلد من أبنائه ـ بكلّ أسف ـ في الدّاخل بافتعال نقاط ساخنة يثيرونها حول الدّين والتّعليم الدّينيّ والهيئات الخيريّة ورجال الحسبة ونحو ذلك، تجعل بعضًا من الشّباب المتحمّس يُصدّق ما يُقال في الخارج عن هذا البلد وأهله حكّامًا ومحكومين.
ولا شكّ أن التّطاولَ من بعض الكتاب المشبوهين على الرّموز الدّينيّة قد يشكّل جماعات عنفٍ وتكفير يصعبُ احتواؤها وإقناعها، وما هؤلاء التّسعة عشر الّذين ظهرت صورهم وأسماؤهم في الصّحف المحليّة إلاّ دليلاً على ما أقول. يجب علينا ونحن نطارد الجاني الّذي يحمل سلاحًا أن نُطارد الجاني الآخر الّذي يحمل قلمًا مسمومًا، فذاك صنيعة هذا، وهذا ضحيّة ذاك، وكلاهما سفيهٌ يجب أن يؤخذ على يديه ويُؤْطَر على الحقّ أَطْرًا. يجب علينا ونحن نطارد أولئك أن نتلمّس الخللَ، وننظر من أين خرجوا، ولم خرجوا، فإذا عرفنا النّبع المُلْتَاث الّذي تلوّثوا به ردمناه؛ لئلا يلوّث غيرهم. يجب أن نضع النّقاط على الحروف، وأن نتحدّث بوضوح، وأن نستمع بشفافيّة، وأن نتعاون جميعًا، فكلّنا في سفينة واحدة، الرّبان مسؤول، والخادم مسؤول، فكلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته.
وحتّى نقضي على هذه الظّاهرة الخطيرة والغريبة على هذا البلد المبارك علينا ما يلي:
أوّلاً: تكثيف البرامج الدّينيّة إعلاميًا وتعليميًا، فما يُصادُ أمثال هؤلاء إلاّ من خلال جهلهم بالدّين.
ثانيًا: عدم السّماح للكَتَبَة المرتزقة أن يستغلّوا الحريّة الصحفيّة المسموح بها؛ ليوجّهوا نقدهم للدّين وللمتديّنين بحجّة بعض الأخطاء الفرديّة، أو بدعوى حريّة الرّأي. فديننا أعزّ من أرواحنا، وما كلّ واحد يقارع الحجّة بالحجّة، وما كلّ واحد يُحكّم العقل ويستشير أهل العلم والرّأي.
ثالثًا: يجب أن لا ندع فرصةً للأفّاكين في الخارج المتسوّلين على أبواب لندن وواشنطن لينفُذوا داخل عقول شبابنا، نقضي على البطالة والفقر، ونستثمر أموالنا داخل بلادنا، ونحمي علماءنا من همز العَلمانيين وغمزهم.
رابعًا: كما نحمي علماءنا من الهمز والغمز نحمي حكّامنا من ذلك أيضًا، فلهم علينا حقّ السّمع والطّاعة في المعروف، لا نعتقد عصمتهم، ولا نعتقد كفرهم، ليسوا ملائكة ولا شياطين، بل هم مثلنا يجورون ويعدلون، ويُخطئون ويُصيبون، وخير الخطّائين التّوابون.
خامسًا: أن من أحدث في هذا البلد فهو ملعون، ومن آوى محدثًا فهو ملعون أيضًا، وذلك بنص المعصوم.
سادسًا: أن نتعاون جميعًا على الإصلاح، فليس الخطأ عيبًا، ولكن العيب في التّمادي فيه والإصرار عليه.
سابعًا: فتحُ باب الحوار مع مثل هؤلاء الشّباب من قبل علماء متخصّصين يثق فيهم هؤلاء الشّباب؛ لمعرفة ما يدور في أذهانهم، وما ينقمون من غيرهم.
ثامنًا: طرح القضايا المهمّة ومناقشتها بشفافيّةٍ ومصداقيّة، وإظهار رأي الشّرع فيها مُدعّمًا بالدّليل الشّرعيّ والعقليّ؛ لقطع الطّريق على الجهّال أو أنصاف المتعلّمين أن يُفتوا في مثل هذه القضايا فيَضِلوا ويُضلّوا، شريطة أن يكون الحوار في منأى عن الأمن؛ لنأمن من ادّعاء القناعة أو التّدليس في المعلومات.
تاسعًا: يجب أن تُزوّد الهيئات بمجموعة من طلبة العلم المتخصّصين الحكماء العقلاء الّذين يعرفون ما يقولون وما يذرون، ومتى يكون ذلك القول والفعل.
عاشرًا: إبلاغ الخطباء بتجديد الطّرح، والابتعاد في خطب الجمعة عن المواضيع الّتي لا تمسّ حياة النّاس، فالنّاس عمومًا والشّباب على وجه الخصوص يتلقّون كمًّا رهيبًا من المعلومات من شتّى القنوات، منها المكذوب ومنها المبالغ فيه.
حادي عشر: نشر الوعي بين فئات النّاس عمومًا عبر وسائل الاتّصال المتنوّعة، وفضحُ مخطّطات الأعداء الحقيقيين والمقنّعين، انطلاقًا من قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِيْنَ سَبِيْلُ الْمُجْرِمِيْنَ [الأنعام:55]، ففي استبانة سُبُل المجرمين إيضاحٌ لسُبُل المهتدين، مع الحرص قدر المستطاع على الإصلاح الحقّ وعدم إعطاء الآخر فرصةً للتّخريب بدعوى الإصلاح.
هذه في نظري أسبابٌ مهمّةٌ لا أدّعي كمالها، وإن كنتُ أعتقد أّنها تلامس الواقع وتُشخّص الدّاء وتضع الدّواءَ، آمل أن تُؤخَذ بمحمل الجدِّ، كما آمل أن تُكلّف الجامعات بوضع الحلول المناسبة لهذه الظّاهرة الخطيرة، أعني ظاهرة الكتّاب المتمرّدين والشّباب المتحمّسين الجاهلين، كي نأمن من أولئك أن يستفزّهم هؤلاء، فالكل في سفينة واحدةٍ يجب أن نتشبّث بها؛ لنوصلها بإذن ربّها جلّ وعلا لبرّ الأمان، وجميع الرّكاب عليهم مسؤوليات على قدر أماكنهم، وكلٌّ مسؤولٌ عن موقعة.
أكثروا من الصّلاة على من أمركم الله بالصّلاة والسّلام عليه...
(1/4331)
الأبطال بين حقيقة التاريخ وتزوير الإعلام
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الإعلام, تراجم
عمر بن سعيد المبطي
نجران
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر الإعلام السلبي في صياغة المفاهيم. 2- مفهوم البطولة بين الحقيقة والتضليل. 3- وقفات مع حياة البطل حمزة بن عبد المطلب &. 4- أبطال القنوات الإعلامية. 5- وصايا وتوجيهات لمن يهمّه الأمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم ومخافته، وأحذّركم ونفسي من عصيان أمره ومخالفته، حيث يقول سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
أيها الناس، في خِضَمّ هذا الزَّخَم الإعلامي الكبير والذي يجتاح العالم عامّة وعالمنا الإسلامي خاصة تتبدّل بعض الحقائق، وتَتَزَعْزَعُ بعض الأصول، ويضطرب الأمر على المسلم، فيخفى عليه الحقّ مرّات ومرّات، بل إن الأمر الجَلَل ـ عباد الله ـ أن يصل ذلك التأثيرُ للإعلام إلى موازين المؤمن، لتنقلب لديه الأمور، فيرى الحق باطلاً، ويرى الباطل حقًّا، والعياذ بالله.
ولذا نقف ـ أيها الأحبة ـ وقفة في هذا اليوم المبارك مع أُنموذج من ذلك، نبرهن به على صحة ما نقول، وليقوم الجميع بعد ذلك بالحذر والتحذير من مغَبّة هذا الطرح الإعلامي على أخلاقنا وسلوكياتنا، بَلْهَ على عقائدنا وتصوّراتنا وموازيننا، وليتّضح الحقُّ لكل صادق، وليظهر النور لكل ذي عينين، وليتبيّن الأمر لبعض أصحاب النفوس الطيبة منا، الذين لا يزالون يُنيطون ذلك الإعلام أنواط الشرف، ويقلّدونه أوسمة الفِخَار على رؤوس بيوتهم.
وهذا المثال ـ عباد الله ـ والذي يبرهن على ما يُقال في هذا اليوم هو مصطلحٌ عظيم طالما كان دافعًا للعَلْياء، ورمزًا للقدوة في الخير والفداء، وطالما أذكى ـ وخاصّة في نفوس الأجيال الصاعدة ـ روح الخيرية وبذل الغالي والنفيس لإرضاء ربهم، ولصالح دينهم ورِفعة أمتهم، فلهذا المصطلح دور عظيم في الإصلاح والترشيد ورفع أفراد المجتمع، بل الأمة إلى مصافّ الأمم الفعّالة المنتجة، ألا وهو مصطلح البطولة.
وأما مع انعكاس الأمور بهذا الطرح في هذه الأعوام فقد استحال الغَرْبُ شَنًّا، وعادت الصَّبا دَبُورًا، فأصبح مصطلح البطولة رمزًا للهو، والنجومية سبيلٌ لسفاسِف الأمور وطرحٌ لمعاليها، ليصبح بعد ذلك هَمُّ الأجيالِ المسلمة تلك القدوات الضالة، والتي لُبّسَ عليها بأنها هي صور النجومية والبطولة.
ونعرض الآن إلى صورتين متقابلتين من نماذج الأبطال؛ ليرى المسلم أي القدوات هي التي تؤثر التأثير الإيجابي، وأيها عكس ذلك.
فالصورة الأولى: هي وقفة مع سيرة بطل عظيم من أبطال هذه الأمة، اشتُهِر بأنه أسد الله ورسوله ، إنه عمّ الحبيب ، إنه حمزة بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه وأرضاه. وإنني واقفٌ مع سيرته وقفات، وذاكرٌ من سيرته عجبًا.
أيها الأحبة، بعدما أخذت دعوة الحبيب صلوات الله وسلامه عليه تصل إلى مسامع الناس في مكة، وباتت البيوتات تتحدّث بشأن هذا الرجل الصادق الأمين الذي لم يعهدوا عليه ولو كَذْبةً واحدة، كان من الناس من آمن بالله ورسوله سرًّا؛ خوفًا من بطش طغاةِ مكةَ وعُتاتِها، ومنهم من أحبّ هذه الدعوة ودخلت قلبه، لكنه لم يؤمن بعد، من هؤلاء ذلك الحمزة أسد الله ورسوله. وبالرغم من كونه عمًّا لرسول الله إلا أنه كان قريبًا منه في السِّن، فهو يعرفه صديقًا في الصغر معرفةً حقّة، ولم يعهد عليه الكذب أبدًا، وكان أيضًا يتوارد لسمع حمزة البطل ما يقول كبراءُ قريشٍ عن ابن أخيه، وكان يفكّر دائمًا فيما يقال، فقد كان شجاعًا جسورًا بطلاً ذا عقل راجح حكيم.
حتى جاء اليوم الموعود، وخرج حمزة كعادته ليمارس هواية الصيد، ويقضي جزءًا من نهاره ليعود إلى مكة متوجّهًا للكعبةِ يطوفُ بها كعادته قبل أن يعود إلى بيته، وفي يومه ذلك وعند عودته تلقّته أَمَةٌ لعبد الله بن جدْعان يبدو الذُّعْرُ من عينيها، لتخبره بما لقي ابنُ أخيه الحبيب من أبي الحكم بن هشام أبي جهل فرعون هذه الأمة من أنه سبّ الحبيبَ نبينَا وشتمه وبلغ منه ما يكره. ومضت تشرح له وتفصّل ما صنع أبو جهل لعنه الله برسول الله وحمزة يسمع منها صامتًا، ونار الغضب تضطرم في فؤاده، ثم صمت حمزة بُرْهة، وثبّت قوسه بيمينه فوق كتِفه، وهمَّ إلى الكعبة يبحث عن أبي جهل؛ ليصنع أمرًا هامًّا طالما فكّر فيه حمزة رضي الله تعالى عنه.
نعم، وجد أبا جهل متوسّطًا قومه في ساحة الكعبة، فتقدّم نحوه بخطوات ثابتة مِلؤها الجُرْأةُ والشجاعة؛ لأنه البطل، واستَلّ قوسه من على كتفه، وهوى مباشرةً على أبي جهلٍ فضربه ضربة قوية أنزفه الدم من رأسه، وزأر به: (أتشتم محمدًا وأنا على دينه أقول ما يقول؟! ألا فرُدَّ ذلك عليّ إن استطعت)، وإنما صعق القوم ليس بتلك الضربة على رأس سيدهم، بل صعقهم قول هذا الفتى أنه على دين محمد، وهو أقوى فتيانِ مكةَ، ومن خيرةِ شبابِها، ليعلن اعتناقه للدين الجديد، ذلك الخطر الذي يهدّد أصنام قريش. فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل سيدَهم، فقال أبو جهل بخبثه ودهائه: دعوا أبا عمارة، فإني ـ والله ـ قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا.
أيها المسلمون، هذا هو أسد الله يعلن انتماءه لدين الإسلام، لتبدأ مرحلةٌ جديدةٌ من حياته يذود فيها عن حِمَى الدين، وينشر الدعوة بما هو ميسّر له وبما يستطيع؛ لأن مفهوم الإسلام تَبَلْوَر في أذهانهم على نقاء، فأيقنوا أن الانتماء للإسلام معناه حمل همومه والدفاع عن حياضه ومعايشة آماله وآلامه، لا أن إسلامه فقط تأدية الشعائر الظاهرة بالجوارح فحسب، ثم لا ولاء ولا براء ولا تفكير في هذا الدين ولا حِمْلانًا لهمومه أو سعيًا جادًّا لرفعة أهله والنهوض بهم مهما كانوا من أي قطرٍ أو لون. فقد أعز الله الإسلام بحمزة وأصبح متنفّسًا للضعفاء، وشعر المسلمون بأن هناك قوة ستحميهم بعد الله تعالى، فاندفعوا نحو الإسلام.
وبدأت ثمار تلك البطولة لحمزة تظهر، فأصبح يشقّ طريق الدعوة. وانظر معي ماذا يثمر معنى البطولة الحقّة في نفوس البشر: فأول سرية خرج فيها المسلمون للقاء العدو كان أميرها حمزة، وأول رايةٍ عقدها رسول الله لأحد من المسلمين كانت لحمزة، ويوم التقى الجمعان في غزوة بدر كان الدور كبيرًا لحمزة. يذكر ابنُ هشامٍ طرفًا من أحداث ذلك البطلِ في بدرٍ فيقول: ثم خرج بعده عتبةُ بنُ ربيعة، بين أخيه شيبةُ بنُ ربيعة وأبيه الوليدُ بن عتبة، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة، فخرج إليه فتيةٌ من الأنصار ثلاثة، وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمّهما عَفْراء ورجل آخر يقال: هو عبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله : قم يا عُبيدةَ بنَ الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي، فلما قاموا ودنوا منهم قالوا: من أنتم؟ فعرّف كل واحد بنفسه، قال عبيدةُ: عبيدة ـ يعني أنا عبيدة ـ، وقال حمزةُ: حمزة، وقال عليُ: علي، فقالوا: نعم، أكفاء كرام. فبارز عبيدةُ ـ وكان أسنَّ القوم ـ عتبةَ بنَ ربيعة، وبارز حمزةُ شيبةَ بنَ ربيعة، وبارز عليٌ الوليدَ بن عتبة. فأما حمزةُ فلم يمهل شيبةَ أن قتله، وأما عليٌ فلم يمهل الوليدَ أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين، وكلاهما أثبت صاحبه، وكرّ حمزةُ وعليٌ بأسيافهما على عتبة فقضيا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه جريحًا. ثم انطلق ذلك البطل يَفْري في صفوف القوم في بدر، يدافع عن الله ورسوله، حتى لا يكاد يصادف من الكفار صِنديدًا إلا فَلَقَ هامته.
أيها المسلمون، إن الشهادة منحة عظيمة من الله، وشرف رفيع لا يناله إلا الصادقون الأبطال، وهذا أوان موعدها مع بطلنا.
لولا المشقَّةُ سادَ الناسُ كلُّهُمُ الجودُ يُفْقِرُ والإقْدَامُ قَتّالُ
لم تهدأ بالٌ لزعماءِ قريش وهم يخطّطون للنيل من رسول الله ، وثانيًا ذلك الأسد الذي أوقع فيهم الكثير من الخسائر في بدر. نعم، ذلك الأسد الذي تهابه الكلاب الضالة. فبدأ كفار قريش يرسمون دورًا لأحد عبيدها وهو وحشي، ووعدوه بالحرية مقابلَ قتل حمزة، ومهما كانت نتيجة المعركة القادمة معركة أحد فعليك أن تقتل فقط حمزة. وبدأت من طرفها هندُ بن عتبة تحرّض وحشي، وتعده بالذهب إن هو فعل، فقد علمت أنه قتل أباها وأخاها وعمّها وابنَها.
وحان وقت معركة أحد، تلك المعركة التي خالف فيها الرماةُ أمرَ رسول الله ، وتركوا الجبل ونزلوا للغنائم يجمعونها، ففوجئوا بالفرسان من خلفهم، ليُثْخِنوا فيهم الجراح. وبدأ يهتزّ ميزان المعركة، فبعد أن كان لصالح المسلمين مال لصالح قريشٍ وزعمائها. وهذا وحشي قاتل حمزة ندعه يصف لنا بنفسه حالة حمزة رضي الله تعالى عنه في تلك المعركة العظيمة فيقول : كنت رجلاً حبشيًا أقذف بالحربة قذف الحبشة، فَقَلّما أخطئ بها شيئًا، فلما التقى الناسُ خرجتُ أنظرُ حمزةَ وأتَبَصّرُه حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأَوْرَق يهدُّ الناس بسيفه هدًّا، ما يقف أمامه شيء. ثم يتابع وحشيٌ حديثه فيقول: فوالله، إني لأتهيأ له أريده، وأستتر منه بشجرة لأتَقَحّمه أو ليدنو مني، إذ تقدّمني إليه سباع بن عبد العُزّى، فلما رآه حمزةُ صاح به: هلمّ إليّ، ثم ضربه ضربةً فما أخطأ رأسه، نعم.
تلك المكارم لا قَعْبان من لَبَنٍ وهكذا السيفُ لا سيفَ ابنِ ذي يَزنِ
وهكذا يفعل الأبطال إن غضبوا وهكذا يَعْصِفُ التوحيدُ بالوَثَنِ
ثم تقدم وحشي وهزّ حربته، ثم أطلقها لتستقرّ في أحشاء البطل وتنفذ من خلفه، فصرخ حمزة، ورأى وحشيًا، وهمّ به، فانخلع قلب وحشي، ولكنّ المنيّة عاجلت البطل فسقط شهيدًا رحمه الله برحمته الواسعة.
وهذا شاهد آخر للحَدَث، وهو جابر بن عبد الله حيث يقول: فَقَدَ رسولُ الله حمزة حين فاء الناس من القتال، فقال رجل: رأيته عند تلك الشجرات وهو يقول: أنا أسد الله وأسد رسوله، اللهم أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ـ يعني أبا سفيان وأصحابه ـ وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء بانهزامهم، فحنا رسول الله نحوه، فلما رأى جنبه بكى بأبي هو وأمي، ولما رأى ما مُثّل به شهق ، ثم قال: ((ألا كُفِّن؟!)) ، فقام رجل من الأنصار فرمى بثوب عليه، ثم قام آخر فرمى بثوب عليه، فقال : ((يا جابر، هذا الثوب لأبيك، وهذا لعمي حمزة)) ، ثم جيء بحمزة فصلّى عليه، ثم يجاء بالشهداء فتوضع إلى جانب حمزة فيصلي، ثم ترفع ويترك حمزة، حتى صلّى على الشهداء كلهم. أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
فوقع الخبر على الحبيب ـ كما ترى ـ كالصاعقة، وحزن لذلك حزنًا شديدًا على صديقه وعمه ورفيق دَرْبه وأخيه من الرضاعة وأسد الله ورسوله رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فأقسم ـ وهو في ذلك الحزن العميق ـ أن ينتقم من فُلُول قريش فيُمثّل بسبعين منهم إن أقدره الله عليهم، فنزل قول الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128].
ويعود نبينا الحبيب إلى المدينة حزينًا أسيفًا كَسِيفًا، فيرى نساءَ الأنصار يبكون قتلاهم في أحد، فتتقاطر الدموعُ على وجْنَتيه الشريفتين بأبي هو وأمي ، ويقول: ((ولكنّ حمزة لا بواكي له، ولكنّ حمزة لا بواكي له)) ، فطَفِقْن نساءُ الأنصار يقلن: نحن نبكيه ونندبه يا رسول الله، نحن نبكيه ونندبه يا رسول الله، فنهاهن عن ذلك وأبى النياحة.
نعم، هكذا تنتهي حياة الأبطال.
فإمّا حياةٌ تسرّ الصديقَ وإمّا مماتٌ يغيظُ العِدَا
ويعمّ الحزنُ صحابةَ رسول الله كذلك، فتنطلق قرائحُ شعرائهم، إذ يقول حسان :
دع عنك دارًا قد عَفَا رسْمُها وابكِ على حَمزة ذي النائِلِ
مالَ شهيدًا بين أسيافكم شُلّت يدا وحشيِّ من قاتلِ
وقال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه:
بكتْ عينيّ وحُقَّ لها بكاها وما يُغنِي البكاءُ ولا العَوِيلُ
على أسدِ الإله غداةَ قالوا أحمزة ذاكم الرجل القَتِيلُ
أُصيب المسلمون به جميعًا هناك وقد أُصِيب به الرسولُ
اللهم صلِّ وسلّم على رسولك ونبيك محمد.
روى الحاكم والطبراني في الكبير والأوسط والضياء في المختارة من حديث علي وابن عباس وجابر رضي الله عنهم مرفوعًا: ((سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله)) ومال الألباني إلى تصحيحه.
نعم أيها المسلمون، إن فقدان الأبطال وقت حاجتهم مُصابٌ عظيم، وإنما تُعرف قيمتُهم بعد فقدانهم، وتُعرف قيمة الدعاة والمصلحين والصالحين والمجاهدين بعد فقدانهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: عباد الله، وقفنا معًا على صورة صادقة من صور البطولة، وقد أحس كل مؤمن اليوم بذلك الأثر في قلبه عندما سمع أحداثَ ذلك البطل، ونَمَى عنده ـ بلا ريب ـ حسُّ الفداء والتضحية من أجل رِفعة دينه وعلوّ أمّته. فكيف لو توالى على النفس ذكرُ مثل هذه النماذج عبر وسائل الإعلام وقنوات التربية ومجالس الآباء والأبناء والأمهات والبنات؟! لكان المجتمع غير المجتمع، ولكان حال القوم غير ما نرى. ومن هنا علمنا من أين أتت أمّتنا. نعم، إنه بقطع ذلك الحبل الوثيق بين سلف هذه الأمة وخلفها، بين مصادر التمكين وذخائر الغَلَبَة وبين القُدُرات والطاقات، لتُهْدَر بعد ذلك فيما سيأتي بيانه.
وإن الصور البطولية لسلف أمتنا واسعة حيوية شاملة، تشمل خيري الدنيا والآخرة، وليست في مجال واحد فقط كما يُنعت به أتباع ذلك السلف فيقال زُورًا وبُهْتانًا: آحادي الاتجاه، وقد رأينا دعوة الحوار والتعددية واضحة جلية في أزمة الدَّمْج الماضية، وهل تشكّل رأي الحَفْنة أم رأي الغَلَبة، والله المستعان على ما يصفون. بل ما ذُكر اليوم هو أُنموذجٌ لها في مجال واحد فقط.
أيها المسلمون،
وما فتئ الزمانُ يدور حتى مضى بالمجد قومٌ آخرونَا
وأصبح لا يُرى في الرَّكْب قومي وقد عاشوا أئمتَّهُ سِنينا
وآلمني وآلمَ كلَّ حُرِّ سؤالُ الدهرِ: أين المسلمونا؟!
وها هي الصورة المقابلة للبطولة، وها هو المسخ العجيب الذي أفرزته لنا وسائل الإعلام من تصوير الأبطال والنجوم، إنهم كل ساقطٍ وساقطة، ديدنهم الحب والخنا، وشعارهم الرذيلة، ودِثارُهم حرب الفضيلة. فيقولون: بطل الفلم فلانة، وبطل الأغنية فلان، وضاعت الأمة بين أبطال الفلم ونجوم الأغنية، ورحمة الله على حمزة. ولو طلبت من أحد أشبالنا أو حتى من أحدنا أن يعدّ لك عشرة من الأبطال فقد يَتَلَعْثَم، ولكن أبطال الزور الإعلامي لا يعجز الكثير عن عدِّ أسمائهم اللامِعَة.
فالخطر ـ عباد الله ـ أن تكون هذه الأمة تنافس الأمم، وتدخل في معتركها بأمثال هؤلاء الأبطال. والخطر كل الخطر على أجيالنا أن ندعها على تلك الوسائل التي تُحسّن القبيح وتُقبّح الحسن، حتى تمسخ معنى البطولة والقدوة في أذهانهم. وعُد إلى بعض أشبالنا اليوم واسألهم عن ذلك.
ولمّا قامت مشكورةً تلك الوسائل بعرض أحداث أبطالنا من الصحابة والتابعين لم تنس مبدأها، أن البطولة هي العشق الغرام، فصورت أحداث الصحابة مطعَّمة بألوان العشق والهيام؛ لتُجهِز بذلك على البقية الباقية، على معاني البطولة الحقّة في الأذهان، وتنقلب معاني القدوة في النفوس. وها هي المسلسلات الرمضانية للصحابة والتابعين خير شاهد على ما يقال.
إن الوصية ـ عباد الله ـ بعد كل ذلك أن نتقي الله في أبصارنا وعقولنا وأوقاتنا، وأيضًا في فَلَذَات أكبادنا، فلا نجعلهم عرضة لهذه الوسائل الإعلامية التي تمسخ عقولهم، وتثنيهم عن المعالي، وتدمّر عواطفهم؛ لتشعلها نارًا لا يستطيع تفريغها في مثل مجتمعنا، وحتى في المجتمعات المُنْحَلّة ما أظن أن قوّة الإثارة العاطفية والتي يتلقّاها المراهق ـ خاصة وهو في الغالب عَزب ـ تُشبعها ولا مجتمعات الانحلال، فكيف بمجتمعنا المحافظ عمومًا؟! وأظن أن ذلك مراد القوم.
إنها رسالة إلى الآباء والمربّين وساسة الإعلام ومنظّري البرامج وواضعي المناهج وكل من حمّله الله مسؤولية هذه الأمة، أن يتقوا الله في الأمة، ولا يضلّلوها عن مصادر عزّتها، ويقطعوا عليها حبل كرامتها بين أمم الأرض، فها هي تسير على أيديهم في آخر الرَّكْب. وليتق الله الذين جعلوا مثل هذه الدعوات للأمة بالرجوع إلى سالف عزتها فأسموها بغير اسمها زورًا وتضليلاً؛ بدعوة للرجوع للقديم والتخلّف عن رَكْب الحضارة، ولا أدري أي حضارة يريدون؟! أحضارة المَوَاخِير أم حضارة الصواريخ؟! ولعمرو الله، لقد تركوا الثانية وتشبّثوا بالأولى، ولعمرو الله، ما جاءت شريعة السماء بمثل هذا، وإنه لطعن في الرسول والمُرسِل.
واسمع من شواهد ذلك إلى ما يقول مدير البرامج بإحدى القنوات الفضائية في مقابلة صحفية: "نطمح أن تكون برامج رمضان لهذا العام مليئة بالجاذبية والإثارة والتنوّع، نريد أن نستغلّ هذا الشهر ـ واسمع الاستغلال ـ نريد أن نستغلّ هذا الشهر الذي يرتفع فيه مُعدّل المشاهدين بمقدار كبير لتقديم رسالتنا الإعلامية برؤية عصرية تناسب مرحلة العولمة الإعلامية والثقافية التي نشهدها".
عباد الله، هذا خبر القوم، فهل من غَيْرة تَأنفُ من هذا؟! وهل من عقول تعي القول؟! إنني أنادي من على هذا المنبر إلى مقاطعة ذلك التضليل الذي يُمارَس على أمّتنا عبر تلك القنوات الضالة التي شحنت كل وسائلها من جرائد ومجلات وقنوات وغيرها بالدعاية لها، فلنتق الله، ولنصحو من رقدتنا.
وهذه ـ عباد الله ـ بعض وصايا، لعل الله أن يجعل فيها تداركًا وإصلاحًا:
أولاً: نبذ ومقاطعة كل مصدر يُصوّر لنا أنّ البطولة والمعالي هي سَفَاسِف الأمور، من الحبّ والخَنَا والسرقة والاغتصاب وسائر ألوان العصيان.
ثانيًا: إيجاد البدائل النقيّة الأهداف التي تعيد للأمة التصور الصادق لمعنى القدوات، وترفع من معاني البطولة الحقّة، من البذل والتضحية والإنتاج الفعّال النافع للأمة.
ثالثًا: التركيز في المناهج التعليمية للناشئة على إيضاح الصورتين من القدوات: القدوات الصادقة العالية، وكذا القدوات المضللة الهابطة. وذلك بالطرق المحببة المناسبة لهم، كالقصة والمثال ونحوها.
رابعًا: إحياء ذكر القدوات المعاصرة، من العلماء والمصلحين وكل شخص نافع للأمة، وليس في مجال واحد فقط، بل في سائر المجالات التي ترفع الأمة إلى مقام يرضى عنه ربها، وتحقق الاستخلاف الحق الرباني على هذه الأرض.
خامسًا: قيام الآباء والأمهات وسائر المربين وأئمة المساجد والخطباء بعرض صور الأبطال الصادقة للناشئة عبر الوسائل الممكنة والتركيز على ذلك.
سادسًا: قيام وسائل الإعلام بكافة ألوانها بعرض القدوات الصحيحة النافعة عبر وسائلها، بدلاً من تلك القدوات الهابطة، وذلك وفق الطرائق الشرعية السليمة، وعلى جميع المستويات، عبر قصة أو مقال أو تمثيل ونحوها.
سابعًا: على كل من وهبه الله قدرة التأليف أن يسخر طاقته في التأليف في هذا المجال، من إبراز القدوات الصالحة للمسلمين. وعلى الآباء والمربين زيارة المكتبات وانتقاء ما يناسب الناشئة من تلك الكتب التي تتحدث عن القدوات الصالحة، وحثهم وتشجيعهم على قراءتها، ككتاب صور من حياة الصحابة، وكذلك صور من حياة الصحابيات، جزى الله مؤلفها خيرًا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز في أهل طاعتك...
(1/4332)
حقوق البنات
الأسرة والمجتمع
الأبناء, المرأة, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
12/8/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قسمة الذرية بين العباد. 2- ظلم المرأة في الجاهلية. 3- تكريم الإسلام للمرأة. 4- فضل رعاية البنات. 5- هدي النبي مع البنات. 6- الوصية بحسن تربية البنات. 7- حقوق البنت على الأب. 8- التحذير من دعوة تحرير المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، حِكمةُ الرّبِّ جَلّ وعلا اقتضَت أن يَكونَ جِنس بَني آدمَ رجالاً ونِساء، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]. هذه حكمةُ الرّبِّ جلّ وعلا، خلَق آدمَ مِن تُرابٍ، خَلَق حوّاء من ضِلعِ آدَم، هو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا. كوَّن جنسَ البشَر مِن والنساء والرجالِ؛ ليبقَى النوعُ الإنسانيّ وتَعمر الدّنيا وينفذ قضاءُ الله وقدَره.
وأخبرنا جلَّ جلالُه أنّه قسّم العبادَ نحوَ هذا أقسامًا، فمِن عباده من جعل ذرّيَّته إناثًا، ومن عباده من جعل ذريّتَه ذكورًا، ومِن عباده من منحَه الجنسَين الذكورَ والإناث، ومِن عباده من جعَله عَقيمًا لا يولَد له، وكلّ ذلك بحِكمتِه وعدله ورحمتِه وكمالِ عِلمه، قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50]، فهو عليمٌ بهذه الأصناف كلِّها، وهو القادِر على إيجادِها، تعالى وتقدَّس لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].
أيّها المسلِم، لقد كانت الجاهليّة قبل الإسلام جاهليّةُ العرَب قبلَ الإسلام ـ وذاك معروفٌ عندهم ـ فقد كانوا قبل الإسلام في جَهالةٍ جهلاء وضلالةٍ عمياء، لا يعرفون معروفًا ولا ينكِرون منكرًا، كانوا في جاهليَّتِهم يكرَهون البنات، ويصِفون مَن ليس عنده إلاّ بنات بأنه أبتَر الذِّكر، ولِذا وصَفوا نبيَّنا بذلك لما رأَوا مَوتَ أطفالِه وبقاءَ بناتِه فقالوا: إنّه الأبتَر، فردَّ الله عليهم بقوله: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]، فذكرُه باقٍ.
كانوا في جاهليَّتِهم يكرهون البناتِ كراهيّةً شديدة، وإذا بشِّروا بالبنات ضَجروا وتأثَّروا وظهَر ذلك باسوِداد وجوهِهِم وتغيُّر ألوانهم كراهيةً للبنات واستِثقالاً لهنّ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]، يختفِي عن الناسِ حياءً مِنهم، ويفَكِّر: أيدسُّه في التراب؟! يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ.
فإن أمسَك البنتَ أمسكها وهو محتقِرٌ لها، متسخِّط من وجودها، آيِس من نَفعها؛ لا يريد إلاّ ولَدًا ينفَعه ذهابًا ومجيئًا، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ، فكان من أخلاقهم وأدَ البنات، ولِذا قال الله: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9]. يأخُذُها ويحفِر لها الحفرة ويهيل التّراب عليها قسوةً في قلبِه وكراهيّة لها، تتعلَّق به ولكن قسوة القلبِ وسوء التربية جعلَه يقسو عليها ويدفنها ويئِدها ويكرَهها ويستثقلها. هكَذا في جاهليّتهم.
فجاء الإسلام بالخَير، وجاء الإسلام بالرّحمة، وجاء الإسلام بالعَدل، وجاء الإسلام بمكارمِ الأخلاق وفضائلِ الأعمال، وجاء الإسلام بما يَملأ القلبَ رحمةً وحنانًا وشفَقة. جاء الإسلام بكلِّ خير، وانتشَلَهم من ذلك الظلم والطغيان إلى ساحلِ الأمان والاستقرار، فجاءَ الإسلام بكتابه وسنّة رسولِه ليوضح ما للبناتِ مِن فضل ومكانةٍ في المجتمع المسلِم.
فأوّلاً وقبل كلِّ شيء رغَّب النبي في كفالةِ البناتِ والإحسانِ إليهنّ وتربيتهنّ والقيام بحقهنّ وأنَّ وجودَهنَّ خَير للعبدِ في دينه ودنياه، سعادة له في دنياه، وسعادة له يوم لقاءِ ربِّه. تذكر عائشة رضي الله عنهما أنَّها أتتها امرأةٌ تسألها معها ابنتان لها، تقول عائشة: فلم تجِد عندي سوَى تمرتين فقط، تقول عائشة أمّ المؤمنين: لم يكن عندي في بيتِ رسول الله شيءٌ أطعِهما به سِوى تمرتين فقط، فأعطَت الأمَّ التمرتين، فأعطت كلَّ واحدةٍ تمرةً ولم تطعَم منها شيئًا، أتَى النبيّ بيتَه فأخبرته عائشة بما رأت قال : ((من أعالَ جارِيَتين حتى يبلُغا كانتا له حِجابًا من النار)) ، وفي بعض الألفاظِ أنها أعطَتها ثلاثَ تمرات، فدَفعت لكلِّ بنتٍ تمرة، فأكَلَت البنتان التمرتين، وأرادتِ الأمّ أن تأكلَ الثالثة فاستطعمتها البنتان فأعطتهما ولم تأكل شيئًا، فصنيعُها أعجَب عائشةَ، فأخبرت بها النبيّ فقال: ((إنَّ الله أوجَب لها بهنَّ الجنة وأعتقها بهنّ منَ النار)) ، فكونُها آثَرت البنتَين على نفسِها وأطعمَتهما وبقِيت جائعةً جعَلَها الله سَببًا للعِتق من النّار والفوزِ بدخول الجنّة، وفي الحديث: ((الرّاحمون يرحمهم الرحمن، ارحَموا من في الأرضِ يَرحمكم من في السماء)).
أيّها المسلم، لا تضجَر من وجود البنات، ولا تستثقِلِ البنات، واقصِد بذلك وجهَ الله والدارَ الآخرة، ربِّهِنّ فأحسِن التربية، وعُد عليهن بالخير، ألِنِ الجانبَ لهن، أنفِق عليهنّ، وابذُل جهدَك فيما يسعِدهنّ؛ فحسناتٌ مدَّخرة لك يومَ القيامة، قال بعض السّلف: "البنون نِعمة، والبَنات حسَنات، والله يحاسِب على النّعمة ويُجازِي على الحسَنات"، قال بعضُ السّلَف في قولِه: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا [الشورى:49] بدَأ بهنّ ليبيِّنَ للعرب ما كانوا عليه من فسادِ الأخلاق في وَأد البناتِ، فجاء بِذكرهنّ حتى يُعلَم أهميَّتُهن في ذلك.
والله جلّ وعلا أعطى أبانا إبراهيمَ ذكورًا ولم يعطِه إناثًا، وأعطى لوطًا عليه السلام البناتِ ولم يعطه ولدًا، وأعطى محمّدًا ذكورًا وإناثًا، لكن ماتَ إبراهيم آخِرُ أبنائِه في حياتِه، وماتَت بعضُ بناتِه بعدَ موته صلوات الله وسلامه عليه إلى يَوم الدّين.
أيّها المسلم، فالبناتُ يرحمهنّ ذو القلبِ الرحيم ويشفِق عليهنّ ذو الخُلُق الطّيِّب ويحسِن إليهنّ صاحِب المروءَةِ والإحسان، لا ينظر إلى ما يَرجوه منهنّ، وإنما يرجو من الله الفضلَ والإحسانَ، في الحديث: ((من كفَل ثلاثَ بنات أو ثلاثَ أخوات كنَّ سِترًا له من النار)) ، والنبي يرغِّب فيقول أيضًا: ((من أعالَ جاريتَين حتى يبلغا جاء يومَ القيامة أنا وهو كهاتين)) وجمع بين أصابعه.
أيّها المسلم، إذا علمتَ هذا الأمرَ واستقرَّ في فكرك أنَّ تربيةَ البنات نعمةٌ وأنَّ وجودهنّ نعمة لك من اللهِ ورحمة من الله لك ليظهرَ كمال رضاك بقضاءِ الله وقدره، قال قتادةُ رحمه الله: "إنَّ الله بيَّن للعرب سوءَ أخلاقهم وسوءَ أفعالهم في كراهيّتهم البنات، فلَرُبَّ جاريةٍ خير من غِلمان، وربَّ غلام صار سببًا لهلاك أهلِه ومصائبهم"، وقال رحمه الله: "كان العربُ في الجاهليّة يغذِّي الرجل كلبَه ويقتل ابنتَه"؛ لأنهم يكرهون البنات في مجتمَعهم، فجاء الإسلام بعكس قلوبهم القاسيَة، جاء بالرحمة والشفقة والإحسان.
هذا محمّد كان رقِيقًا مع البناتِ، محسنًا إليهنّ، رفيقًا بهنّ، كان يحمِل بنتَ بنتِه أمامة في صلاته، إذا قام رفعها، وإذا سجد وضعها، وكان يكرِم بناته ويرفق بهنَّ صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين. أسرَّ إلى فاطمةَ في آخر حياته فبَكت، ثم أسرَّ إليها فضحِكت، تقول عائشة: أحِبّ أن أسأَلَها فاستحيَيتُ حتى مات رسول الله فقلت: يا فاطمة، أسرَّ لك الرسول فبكيتِ وأسرّ لك فضحكتِ، قالت: أمّا الآن فنَعَم، أسرَّ لي فبكيتُ بأن أخبَرني بقربِ رحيله من الدّنيا فبكيتُ عليه، وأسرَّني بأنِّي سيّدةُ نساء العالمين في الجنّة فضحِكتُ، فرضي الله عنها وأرضاها.
أيّها المسلم، أيّتها المسلمة، إنَّ إكرامَ البناتِ نِعمة، وإنّه حسناتٌ يسوقها الله لمن شاءَ من عباده.
أيّتها الأمّ الكريمة، اعتني بالبناتِ العنايةَ الصحيحة واهتمّي بشأنها فهي الأمّ مستقبَلاً، هي الأمّ ومربّيَة الجيل، فإذا ربِّيَت تربيةً صالحة وأنشِئَت نشأة خيريّة ظهر أثَر تربيَّتها على بَيتها على أبنائِها وبناتها، فأعدِّيها للمستقبَل الإعدادَ الصحيح، أعدِّيها لأن تتحمَّل مسؤوليّتها وأن تكونَ راعية في بيت زوجها، تحسِن الرّعاية والقيادة، ولا تجعَليها كلَّةً عليك فغدًا تفقِد هذه الأمور، ربّيها تربية صالحةً، نشِّئيها على الخير، على العفّة والصيانة والحِشمة، على البُعد عن الرذيلة، على القيام بشأن المنزل، على التدبِير النافع، حتى إذا انتقَلَت إلى زوجها فهي الفتاةُ المربّاة المعدَّة، التي يسعَد بها زوجها بتوفيقٍ من الله، فتربِّي البنين والبناتِ التربية الصالحةَ النافعة.
أيّها الأب الكريم، إنَّ حقوقَ البنات عليك كثيرةٌ، فأوّل حقٍّ عليك أن تشكرَ الله إذ وهب لك البناتِ، وتعلم أنّ قضاءَ الله لك وقسمَه لك خير من رأيِك لنفسك، فالله أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين.
أيّها الأب الكريم، إنَّ مِن حقوق بناتك عليك أوّلاً أن تزوِّجَهنّ إذا تقدَّم لهنّ الكفء الذي ترضَى دينَه وأمانته، يقول نبيّك : ((إذا أتاكم من ترضَونَ دينَه وأمانتَه فزوِّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير)) ، أجَل فتنة وفساد كبير، وكم من رجالٍ منعوا بناتهن الزواجَ، لماذا؟! البنتُ موظَّفَة ولها مرتَّب يريد أن يمتصَّ ذلك المرتَّب ويستولِي عليه وما يهمُّه البنت أصبحَت عانسة أم غير عانسة، كلّ ذلك لا يؤثِّر في نفسيّة هذا الأبِ اللئيم. ومنهم من يقول: أريد أن أقتَصَّ منها قدرَ ما أنفقتُ عليها قبلَ أن تتوظَّف، إذًا فهو لم يعمَل عملاً خالصًا لله ولم يكن صادقًا في تعامُله.
أيّها الأب الكريم، صداقُ الفتاةِ إذا دفِع إليها هو حقٌّ لها وملك لها، وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء:4]. إذًا فصداقُها حقّ لها، وإن أخذتَ شيئًا فاتَّق الله في الأخذ، لا تأخُذ ما يضرّها ويضعف من مكانَتِها.
في عهدِ النبي توفِّيَ رجل وترك ابنتَيه وزوجتَه فاستولى عمُّ البنتَين على المالِ ولم يعطِهما شيئًا، جاءَت الأمّ تقول لرسول الله: توفِّي سعد بن الربيع خلَّف بنتَين استولى العمّ على المال لا يمكِن أن تزوَّجا وليس لهما مال، فأنزل الله آيةَ المواريث، فأمرَه النبيّ أن يُعطيَ الزوجة الثمنَ والبنتَين الثلثَين ويأخذ ما بقِي، هكذا شرعُ الله.
أيّها الأب الكريم، واختَر لها الصالح ممّا يغلب على ظنِّك أهليتُه لها ومناسبَته لها؛ لأن هذه أمانة في عنقِك، فلا تتساهل بالمسؤوليّة، والبعضُ قد يتقصَّى حقًّا للبِنت التي أمّها معه ويتساهَل في بنتٍ أمّها ليست مع الزّوج، فلا تنظر لهذا ولكن حقِّق الأمرَ بما يعود على الفتاةِ في خيرِها حاضرًا ومستقبلاً على قدرِ استطاعتك، والله يقضي ما يشاء.
أيّها الأب الكريم، كم من أبٍ جعل زواجَ ابنته مصدَرًا لثرائِه، فهو لا يزوِّجها حتى يشرَط له قسمٌ خاصّ به، فيتحمَّله الزوج ولا مصلحةَ له من ذلك، يقول: الفتاة مهرُها أربَعون وأنا أريد نِصفَ المهر أو أريد أربعينَ مثلَ تلك الأربعين، لماذا؟! يقول: لا يمكن أن تذهبَ الفتاة منّي بلا شيء لا بدَّ أن أقتطِع من صداقِها أو يعطيني زوجُها مثلَ ما أعطاها، هذا كلُّه خطأ يفعله أحمقُ جاهل لأنّه يريد الاستغلالَ ولا يريد الخيرَ والصلاح.
أيّها الأب الكريم، إذا طلِّقَت الفتاة ثم أرادتِ العودةَ إلى زوجها والطلاقُ أقلّ من الثلاث فلا تحل بينها وبين ذلك والله يقول: وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ [البقرة:232].
أيّها الأب الكريم، إنَّ المرأة تستأذَن في زوجٍ خطبها، وتخبَر بحالِ مَن تقدَّم لخطبتها، ويُشرَح الأمرُ لها ويوضَح الأمر أمامها؛ حتى تكونَ الصّورة واضحةً لها؛ ولذا كانوا في جاهليَّتهم يزوِّجون الفتياتِ على الأهواء لا على مرادِ الفتاة، فإنّ الحياة الزوجيّةَ تشقَى بها البنت والزوج دون الأمّ والأب، إذًا فسنّة محمّد تقول: ((لا تنكَح الأيّم حتى تستأمَر ولا البِكر حتى تستأذَن)) ، قالوا: وما إذنها يا رسول الله؟ قال: ((أن تسكتَ)).
أيّها الأب الكريم، إنَّ البعضَ من الناسِ ربما منَعوا البناتِ الميراثَ، ويقولون: البنت تقتطِع من مالنا ما تذهَب به إلى أولادِ الآخرين، فلا يورثونها فجاء الإسلام بهذه الآيات: يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ [النساء:32].
أيّها الأب الكريم، في الجاهلية الباطلة الضالّةِ كانت المرأة إذا توفِّي عنها زوجُها يلقِي عليها أحدُ أقاربِه ثوبَها فيحجِزها عن كلّ أحَد، فجاء الإسلام ليمنعَ ذلك، وليجعل الأمرَ باختِيَارها. في جاهليّتهم أيضًا كانوا يتَّخِذون البنات وزواجَ البنات لمصلحة زواج الآباءِ أو الأولياء، فإذا خُطِب من أحدِهم ابنته لا يزوِّجها حتى يزوِّجوه هو، وقد يكون غيرَ مناسبٍ لتلك الفتاة الأخرى؛ ولذا جاء الإسلام فنهى عن نكاح الشِّغار، فيقول عبد الله بن عمر: إن النبيَّ نهى عن نكاح الشغار وقال: ((لا شِغارَ في الإسلام)). والشغارُ أن لا يزوِّج الفتاةَ الأبُ حتى يزوِّج الخاطِب منه بنته أو أخته، فإذا لم يفعل لم يفعَل، وهذا من الخطأ لأنَّ الأمرَ لا يرجَع فيه لمصالح الأب والأم، وإنما ينظَر فيه لمصالح الفتاة، فكم فتاة خاطِبُها خير وقد تكون أنتَ لست خيرًا لتلك الفتاة ولا ترغَب فيك، فلا تخضِع زواجَها لمصلحتك الخاصّة، وإنما انظر لمصلحتها فوق كل اعتبار.
أيّها الأب الكريم، إنَّ العنايةَ بتربيّة البنات والقيامَ على ذلك خيرَ قيام مسؤوليّة الأب ومسؤوليّةُ الأم جميعًا، فيا أيّتها الأم رغِّبي البنت في الخير، وحثِّيها على التستُّر، وامنعيها من السّفور و[ترك] الحجاب، وقولي لها: إنّ هذا خلُق جاهليّ والحِجاب خلقٌ إسلاميّ، والله يقول: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]. مريها بالستر، وربِّيها على الحجاب، وحُثّيها على ذلك ورغّبيها، وكوني قدوةً صالحة لها في طاعة الزّوج وفي التستّر والعفّة والبعد عن رذائل الأمور، فتنشَأ الفتاة ترى أبًا صالحًا وأمًّا طيّبَة وبيتًا سعيدًا، فتنشأ النّشأةَ الطيّبَة، أمّا إذا كان الأب مستهتِرًا أو الأمّ مستهترة وربما كانا متساهِلين في الأخلاق لا يبالون فربما نشأ النشء على هذا الخلق السيّئ، فيكون الأب خائنًا لأمانتِه والأمّ خائنة لأمانتها.
أيّتها الأمّ الكريمة، احرصي على التوفيقِ بين الزّوج والفتاة، ولا تكوني سببًا للتفريقِ بينهما، وكلما شعرتِ من الفتاة ضَجرًا من زوجها أو عدَم رغبة فلا توافقِيها في أوّل الأمر، حاولي التسديدَ قدرَ الاستطاعة، وحاولي حملَ البنت على الصبرِ والتحمل، وعالجي قضايَا الاختِلاف بين بنتِك وزوجِها بما أمكَنَ من العِلاج، ولا تفتَحي لها بابَ التمرّد على الزوج، ولا تغلقي عنها النصيحةَ والتوجيه، وكوني عونًا لها على الخيرِ مع الأب، فإنَّ السعيَ في الإصلاح والتوفيق خيرٌ من الفرقة والاختلاف.
فلنتَّق الله في بناتنا وأبنائنا، ولنَقم بالواجب علينا، أسأل الله أن يوفِّق الجميع لما يرضيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، مِن بَعضِ القضايا أنّ بعضَ الأمّهات أو بعضَ الآباء عندما تأتِيهم فتاتُهم مطلَّقة أو نحو ذلك يستثقِلونها ويسأَمون منها وربَّما خاطَبوها بالخطاب السيّئ وقالوا: أنتِ وأنتِ وفعلتِ وفرضت الزوج وإلى آخره.. فجاء الإسلام ليعالِجَ هذه القضيّة، فقال النبيّ لأحَد أصحابه: ((ألا أخبِرك بأفضل الصدقة؟)) قال: نعم يا رسول الله، قال: ((نفقتُك على البنتِ المردودةِ عليك لا عائلَ لها غيرك)) ، يعني أنّ نفقتَك عليها إذا ردَّت إليك من أمرٍ بينها وبين زوجها وأنت العائِلُ لها بعدَ الله فتلك أفضلُ الصدقة خلافًا لمن يَنفر منها ويقرّعها بالكلام السيّئ والتوبيخ، فإنَّ القلوبَ بيد الله، الله الذي يجمعها والله الذي يفرّقها، والله حكيم عليم.
أيّها المسلم، نسمَع دائمًا أو نقرَأ في بعض صحفِنا وفي قراءةِ بعض كتَّابنا هجومًا على المرأةِ المسلمة، هجومًا على أخلاقها، وهجومًا على قِيَمها، هجومًا على فضائلها، هجومًا على تمسّكها بدينها. فِئةٌ من أبنائنا ـ هداهم الله سواءَ السبيل ورزَقهم البصيرةَ في دينهم ـ أخَذوا على عاقِتهم الدعوةَ للفتاةِ المسلِمة أن تكونَ امرأةً سافرة متحلِّلَة من أخلاقها مقلِّدَة ومتشبِّهةً بغيرِها من نساءِ الكفَرَة الماردين ويرونَ هذا عِزًّا وشرفًا، بل المصيبةُ أن يقول بعضُهم: نظهِر صورَتَنا أمام الغرب بأن ندعوَ الفتياتِ إلى السفور والاختلاطِ بالرجال وعدم التفريق بينه وأنَّ المرأة مع الرّجل الأجنبيّ يكونان سواء يمارسون العملَ الواحد، هذه صورة الأمّة التي يريدون أن يخرِجوها صورةً حسنة، يأبى الله أن تكونَ صورة حسنة، فالصورة الحسنةُ للمجتَمَع المسلم أن يظهَر المجتمع متمسِّكًا بدينه، متمسِّكًا بقِيَمه وفضائله، مربِّيًا الأبناء والبنات على الخير، واضعًا كلَّ شيء في موضعه. وعندما ندعو أن تكون الفتاة المسلِمة فتاةً غربية تقلِّد غيرَها من نِساء الكافرات في ملبَسِها وفي عاداتها وأخلاقها إذًا نحن نسعى في نقلِها من فطرتها السليمة إلى أن نجعلَها توافِق الفطَرَ المنحلَّةَ المنحطّة.
إنَّ مَن يكتب ويدعو إلى جنسِ هذه الأفكار لو راجَع نفسَه قليلاً لو عاد إلى تاريخِ إسلامه وأمّته ذاك التاريخ المجيد، إلى ذلك المجتمع الإسلاميّ الذي طال ما حكَم العالمَ قرونًا عديدة، إنما حكَمَهم بالقِيَم والفضائل، بهذا الدّين وأخلاقه القيِّمة التي تمكَّنت مِن نفوس أتباعه حتى صاروا صورةً حيّة، يمثِّلون الإسلامَ قولاً وعملاً في كلِّ المجالات.
فليتَّق الله أيّ كاتب يكتب ويدعو إلى أن تخالطَ المرأة الرجالَ وأن تسافرَ وحدها وأن تكونَ ممثِّلةً لأمّتِنا أو تكون أو تكون، كلُّ ذلك مخالِف لشرعِ الله مخالفٌ لكتاب الله مخالف لسنّة محمد.
فليتقِّ المسلمون ربَّهم في دينهم، ليتّقوا ربَّهم في أبنائهم وبناتهم، ليَعلموا أنَّ شرعَ الله هو الخلُق القيِّم وهو الخلق المثاليّ، وأنّ من يريد ببناتنا أمرًا خلافَ شرع الله فإنما هو داعٍ للباطل والضلال، داعٍ للفجور والفِسق والعصيان، نسأل الله أن يهدِيَ ضالَّ المسلمين، وأن يثبِّت مطيعَهم، وأن يحفظ على بناتِنا عوراتهنّ، وأن يجعلَهنّ فتياتٍ مسلمات متمسِّكات بدينهنّ ثابِتات على أخلاقهنّ، وأن يعمَّ الجميع بالتمسّك بهذا الدين علمًا وعملاً ظاهرًا وباطنًا، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالة، وعليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجمَاعةِ، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى نبيِّكم محَمّد كما أمَرَكم بذلِك ربّكم، قال تعَالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك علَى سيدنا محمّد سيد الأولين والآخرين، وارضَ اللَّهمّ عن خلفائِه الرّاشدين...
(1/4333)
التعليم الشرعي
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, العلم الشرعي
مبارك بن سليمان آل سليمان
الرياض
12/8/1426
الإمام أحمد بن حنبل
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المقارنة بين التعليم في بلاد الإسلام وبلاد الكفر. 2- من علامة صحوة الأمة الإسلامية العناية بالتعليم الشرعي. 3- فضل العلم الشرعي. 4- آداب طالب العلم. 5- وصايا للمعلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن الله عز وجل قد أمركم بالتقوى فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ [النساء:1]، فاستجيبوا لأمره جل وعلا واتقوه في جميع أحوالكم تنالوا مطلوبكم في الدنيا والآخرة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5].
معاشر المسلمين، تدرك الأمم جميعها أهمية العلم، ولذلك لا تجد دولة من الدول إلا وهي تتيح التعليم لأبنائها، وتجعل له وزارة خاصة، وتخصص له ميزانية مستقلة، وإن كانت غاية كل دولة من التعليم تختلف من دولة إلى أخرى بحسب معتقدها وتصورها للحياة، فإن كانت دولة تؤمن بالله واليوم الآخر إيمانًا صحيحًا فإنها تجعل للعلم الذي يصل المتعلمين بالله رب العالمين وينفع صاحبه في الدار الآخر فوزًا برضوان الله تعالى وجنته، تجعل لهذا العلم وهو العلم بالدين نصيبًا وافرًا في مناهجها التعليمية، ولهذا قام التعليم في هذه البلاد على الرفع من شأن العلم الشرعي الديني، وتخصيص كل فرع من فروعه بمادة مستقلة انطلاقًا من سياستها التعليمية المحكمة التي تنص على أن غاية التعليم فهم الإسلام فهمًا صحيحًا متكاملاً، وغرس العقيدة الإسلامية ونشرها، وتزويد الطالب بالقيم والتعاليم الإسلامية وبالمثل العليا، وإكسابه المعارف والمهارات المختلفة، وتنمية الاتجاهات السلوكية البناءة، وتطوير المجتمع اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، وتهيئة الفرد ليكون عضوًا نافعًا في بناء مجتمعه.
أما إذا كانت الدولة دولة كافرة أو دولة علمانية تجعل الدين شأنًا شخصًا وترتكز سياستها التعليمية على عمارة الدنيا فحسب وتنظيمِ علاقة الناس بعضهم ببعض دون اهتمام بعلاقتهم بخالقهم ورازقهم ومدبر شؤونهم كفرًا بنعمة الله وجحودًا لحقه عليهم، فإنها لا تقيم للدين والعلم الشرعي وزنًا، أو تقصره على الأخلاق والآداب والسلوك، دون أحكام الاعتقاد وأحكام العبادات والمعاملات وغيرها، ولذلك فإن من الجهل الدعوة إلى تقليص العلوم الشرعية أو قصرها على جانب من الدين وإهمال الجوانب الأخرى التي هي أكثر أهمية بشهادة أهل العلم بالله وشريعته.
أيها المؤمنون، إن من علامة صحوة الأمة الإسلامية ومن الدلالة على وعيها وإدراكها لمصدر عزتها العناية بالعلم الشرعي من قبل المسؤولين فيها؛ وذلك بدعمه والتشجيع على تعلمه وإكرام أهله وإعطائه الوزن المناسب في خططها الدراسية، وهو ما عليه الحال في هذه الدولة المباركة إن شاء الله، ونسأل الله عز وجل أن يثبتنا عليه، وأن يبصر القائمين على التعليم بأهميته والتمسك به، وأن يرد كيد الكائدين من المغرضين أو الجاهلين في نحورهم. ومن علامة صحوة الأمة أيضًا العناية بالعلم الشرعي من قبل أفرادها، وذلك بالتوجه إليه والحرص عليه حفظًا وفهمًا وتطبيقًا.
أيها الإخوة، يدرس الطلاب في مدارسهم نوعين من العلوم: علومًا شرعية وما يرتبط بها من علوم اللغة العربية، وعلومًا دنيوية.
أما العلم الشرعي فهو العلم الذي جاءت الأدلة الشرعية المتكاثرة في بيان فضله وفضل تعلمه وعلو منزلته ورفعة شأن حملته في الدنيا والآخرة، يقول الحق جل وعلا: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9]، ويقول تعالى: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، ويقول المصطفى : ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وأورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) صححه ابن حبان.
وإن الواجب على عموم المتعلمين الذي يدرسون العلوم الشرعية من بين المواد التي يدرسونها أمور منها:
أولاً: الإخلاص لله تعالى في تعلم هذه العلوم، وذلك لإدراك فضيلة تعلم العلم الشرعي وما أعده الله تعالى من الأجر لمن تعلمه، فإن من تعلم هذا العلم بلا نية كان حظه التعب ولا نصيب له من الأجر، بل إنه متعرض للعقوبة إن كان إنما يتعلمه للدنيا، يقول : ((من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها. صححه الحاكم وابن حبان.
وليعلم أن الإخلاص في تعلم هذه العلوم لا يفوت غرضًا من أغراض الدنيا، ولكن الموفق من وفقه الله.
ثانيًا: الحرص على تعلم هذه العلوم، فإن فيها بيانًا لما يجب على المسلم من حقوق الله تعالى وحقوق عباده، وإنه من الشرف للمسلم ـ ومما هو محل للغبطة ـ أن يكون المسلم على بصيرة من دينه؛ وذلك لحاجته إليه في جميع أحواله، ولذلك يقول : ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها)) متفق عليه.
ثالثًا: تطبيق ما تعلمه الطالب من هذه العلوم، فإن ثمرة العلم العمل.
وإنه يلحظ في هذا الجانب قصور كثير من الطلاب، فإنك ترى بعض الطلاب لا يحسن أداء الصلاة رغم تكرر تعليمها له، فلا يأتي بأركانها وواجباتها على الوجه المطلوب، وقد لا يأتي بالأذكار والأدعية المشروعة فيها، وربما صلى بعض الطلاب بلا وضوء، وإنك ترى كثيرًا من الطلاب يأتون منكرًا من الأمور في أقوالهم وأفعالهم وهيئاتهم، ومنهم الذين يؤذون المؤمنين في أنفسهم ومحارمهم، إلى غير ذلك من التصرفات التي يتعلمون في مدارسهم ما يحملهم على تركها لو كانوا يعملون بما يعلمون.
وفي هذا الخصوص تتعين الوصية إلى المعلمين وأولياء الأمور بتربية الطلاب على العمل بالعلم، وترغيبهم في ذلك، ومتابعتهم وتشجيعهم على ذلك بالكلمة الطيبة والجائزة والهدية، وتذكيرهم بما تعلموه، وأن الحجة قائمة عليهم بعد أن من الله عليهم بالعلم.
وإن مما ينبغي التنبيه عليه في هذا الشأن أن التقصير الذي يلحظ على الطلاب وضعف تطبيقهم لما تعلموه ليس مسؤولية المناهج وحدها، بل الكفل الأعظم والنصيب الأوفى في ذلك يعود إلى أسباب كثيرة، من أخطرها وأشدها وأسرعها تأثيرًا وسائل الإعلام المختلفة، ولا سيما القنوات الفضائية الهابطة، فضلاً عن تأثير الأصدقاء والأقارب ودعاة السوء، ولذلك فإن من الظلم البين والاصطياد في الماء العكر الدعوة إلى تغيير المناهج الشرعية بدعوى أنها لا تحدث التأثير المطلوب.
أيها الإخوة، أما النوع الثاني من العلوم وهي العلوم الدنيوية فإن تعلمها أمر مطلوب شرعًا إذا كانت الأمة بحاجة لها وكان تعملها ينتج ثمرة ملموسة، بل إن تعلمها في هذه الحالة من فروض الكفايات التي يؤجر المسلم إذا تعلمها بنية أداء هذا الفرض؛ لأنه أمر واجب شرعًا وجوبًا كفائيًا، بمعنى أنه إذا قام به من يكفي من المسلمين سقط الإثم عن الباقين، ولذلك لا يجب على كل الناس أن يتعلموا هذه العلوم، بل يكفي أن يتوجه إليها من تقوم به الكفاية، لا أن تشغل بها الأمة جميعها رجالها ونساؤها.
وعلى كل فينبغي أن تستحضر النية الصالحة في تعلم هذه العلوم، بأن ينوي المسلم بتعلمها نصرةَ الدين وتقديمَ النفع للناس والتعرفَ على آيات الله في الكون والنفس وإغناءَ الأمة عن الحاجة إلى أعدائها.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن مما لا يخفى ما للمعلم من شأن في قضية التربية والتعليم، وما هو ملقى عليه من مسؤولية عظيمة، إذا هو استشعرها وأداها على الوجه المطلوب كان له التأثير البالغ الحسن على طلابه علمًا وسلوكًا، ولذلك فإن مما يوصى به المعلم ـ وهو أهل لأن تؤخذ عنه الوصية ـ أمور منها:
الأول: أن يحرص المعلم على التمكن في مادته العلمية بحسب تخصصه، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك فإن على المعلم أن يكون قريبًا من العلم ودروسه وأهله وكتبه، وأن يهتم بشأن التحضير لدروسه فإن ذلك مما لا يستنكف عنه العلماء، ويحتاج إليه العلماء الكبار فكيف بمن هو دونهم؟!
الثاني: الشفقة على طلابه والرحمة بهم، وتذكر أن ما يكون فيهم من قصور وما يحصل منهم من تقصير إنما هو بسبب ضعفهم وجهلهم وضعف إدراكهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة، وإذا احتاج إلى تأديبهم فليكن ذلك بالقدر الذي يُحصّل المقصود، ويعلم معه أن المعلم لم يرد به إلا التأديب وليس الانتقام والغضب لنفسه.
وليعلم أن ما يصدر من الطلاب من تصرفات غير مناسبة على نوعين: نوع يستحق الطالب بسببه العقوبة، كاعتداء الطالب على زميله أو معلمه، وفي هذه الحالة ينبغي أن تحال القضية إلى من بيده العقوبة ليقدر العقوبة المناسبة، بحيث تكون بقدر الذنب ويحصل بها الزجر، ونوع يستحق الطالب عليه التأديب كتقصيره في أداء واجباته، وفي هذه الحالة ينبغي أن يتخذ في ذلك الأدب المناسب الذي يمنع الطالب من المعاودة، ويعرف معه الطالب أنه مستحق لذلك التأديب، وللتأديب وسائله الكثيرة، وليس الضرب وسيلته الوحيدة أو المفضلة.
الثالث: الحرص على تربية الطلاب التربية الصالحة، وتنشئتهم على مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب وتطبيق أحكام الشرع، وأن يكون ذلك همًا للمعلم يضيفه إلى همّ التعليم، فقد وصف الله عز وجل نبيه بالأمرين معًا: التربية والتعليم، بل قدم التربية على التعليم؛ وذلك ـ والله أعلم ـ أن التربية هي المقصودة والتعليم وسيلة من وسائلها، يقول الباري تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الجمعة:2].
ولذلك فإن مما ينبغي أن يحرص عليه المعلم أن يكون قدوة صالحة لطلابه، في أقواله وأفعاله، وفي ملبسه ومظهره، وإذا ابتلي بأمر كالدخان وغيره فينبغي أن يتخلص منه جهده، وأن لا يفعله أمامهم أو على علم منهم، كما ينبغي له أن يحرص على نصيحتهم وتذكيرهم بين فترة وأخرى، وأن يهديهم الكتب النافعة والأشرطة المفيدة، فإن المعلم مرب وواعظ كما هو معلم ومدرس، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
أيها المسلمون، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد...
(1/4334)
الأهبة لشهر التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
آثار الذنوب والمعاصي, الصوم
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
19/8/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل شهر رمضان. 2- الاستعداد لمواسم الخيرات. 3- آثار الذنوب والمعاصي. 4- التحذير من الإغراقِ في الترفيهِ. 5- إثبات دخول الشهر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى ـ أيها الناس ـ وراقبوه سِرًّا وجهرًا، واجعَلوا تقواكم لكم عدَّة وذخرًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيّها المسلمون، يدور الزّمانُ دورتَه، وتذهب الليالي والأيامُ سِراعًا، وها هو عامُنا يطوِي أشهرَه تِباعًا، وإذا بالأمّة ترقُب ضَيفًا عزيزًا قد بدَت أعلامُه واقتَربت أيّامه والتَمَعت في الأفقِ القريب أنوارُه، إنّه شهرُ رمضانَ المبارك، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، شَهر الرّحمة والمغفِرة والعِتق من النّيران، شهرُ التّوبات وإجابة الدّعوات وإقالة العثَرات. شهرٌ تصفَّد فيه الشياطين وتغلَق أبواب الجحيم وتفتَح أبواب الجنة وينادِي منادٍ كلَّ ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغيَ الشرّ أقصر. شهرٌ يفرَح به كلُّ مسلم مهما كان حاله، فالمحسِن يزداد إحسانًا وإيمانًا، والمقصِّر يستغفِر ويبتغي فيه من الله رحمةً ورضوانًا، فهو شهرُ خيرٍ وبرَكة وإحسانٍ على كلّ المسلمين. شهرٌ تَبتَلّ فيه الأرواحُ بعدَ جفافِها ورُكودِها، وتأنَس فيه النفوس بعد طولِ إعراضها وإِبَاقها. رمَضان مِلءُ السَّمع والبصر، فهو حديث المنابِر وزينة المنائِر وحياةُ المساجد، من صامَه إيمانًا واحتسابًا غفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه، فيه ليلة القَدر، هي خيرٌ من ألف شَهر، مَن قامها إيمانًا واحتِسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه كما ثبتَ بذلك الخبَر عن النبيّ في الصحيحين وغيرهما [1].
أعظَم القُرُبات فيه الصوم الذي افترَضَه الله تعالى تحقيقًا للتقوى فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، فهو شهرُ تربية النّفوس وتزكِيَتها. رَمضانُ شهرُ القِيام والتراويح والذِّكر والتسابِيح، شَهر البرّ والإحسان والعطفِ على الفقراء والمحتاجين، شهرٌ جعَله الله مصباحَ العام وواسِطة النِّظام وأوسَطَ أركان الإسلام، أنزَل الله فيه كتابَه، وفتَح للتائِبين أبوابَه، فالدّعاء مَسموع والعمَل مَرفوع والخير فيه مَجموع، تُستَر فيه العُيوب وتغفَر الذنوب وتلين القلوب وينفِّس الله عن الحزينِ المكروب، في صحيح مسلمٍ أنَّ النبيَّ قال: ((ورمضانُ إلى رَمَضان مكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتنِبَت الكبائر)) [2] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قال: ((قال الله عزّ وجلّ: كلّ عمَل ابن آدم له إلا الصوم؛ فإنّه لي وأنا أجزِي به)) رواه البخاري ومسلم [3].
أيّها المسلمون، إنَّ مَواسِمَ الخير فُرَص سَوانِح، بينما الموسم مقبلٌ إذ هو رائح، والغنيمةُ فيها ومِنها إنما هي صَبرُ ساعة، فيكون المسلم بعد قَبول عمله من الفائِزين ولخالقِه من المقرَّبين. فيا لله، كم تُستَودَع في هذه المواسم من أجور، وكم تخفُّ فيها من الأوزارِ الظهور، فاجعلنا اللّهمَّ لفضلك وشهرِك مدركين ولرضوانك حائزينَ، ووفِّقنا لصالح العملِ، واقبَلنا فيمن قبِلَ، واختم لنا بخيرٍ عند حضور الأجل.
عبادَ الله، وإذا نزَلَت بالمسلم مواسمُ الخيرات تهيَّأ لها واستعدِّ ونشطَ لكسبها وجدَّ، والسَّعيد من وفِّق لاغتنامها وسلَك الطريقَ الموصِل للقَبول، والمحرومُ من حرِمَ خيرَها، وكَم من صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوع والعطَش، وكم من قائمٍ حظُّه من قيامه التَّعب والسّهَر، نعوذ بالله من الحِرمان؛ لِذا شمَّر الخائِفون، وفاز سراةُ اللّيل، ورَبِح المدلِجون، وعند الترمذيّ بسند صحيح عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ قال: ((من خاف أدلَج، ومن أدلَجَ بلغ المنزِل، ألا إنَّ سلعةَ الله غالية، ألا إنَّ سلعة الله الجنة)) [4].
ولقد وصَف الله تعالى أهلَ السعادة بالإحسان مع الخوفِ فقال سبحانه: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:21]، كما وصفَ الأشقياءَ بالإساءة مَع الأمن. إنَّ الخوفَ والرّجاءَ هما الحادِيان إلى طاعةِ الله ورضوانه مع محبَّته سبحانَه، وفي قولِ الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]، قالت عائشة رضي الله عنها: سأَلتُ النبيَّ عن هذه الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قالت عائشة: أهُم الذين يشربون الخمر ويسرِقون؟ قال: ((لا يا بنتَ الصدِّيق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدَّقون وهم يخافون أن لا يُقبَل منهم، أولئك يسارعون في الخيرات)) رواه الترمذي وغيره بسند صحيح [5].
أيّها المسلمون، من أرادَ الصلاةَ تطهَّر لها، وكذا من أراد الصّيام والقيامَ وقَبول الدعاء فعَليه أن يتطهَّر من أدرانِ الذنوب وأن يغسِلَ قلبَه من أوحالِ المعاصي، والتي لها آثارٌ سيّئة على العبادَة خاصَّة، فالتّوبةُ والاستِغفار من أولى ما تُستَقبَل به مواسمُ الخير، فكيف نلقَى الله تعالى وندعوه ونَرجو خيرَه وبِرَّه وإِحسانَه ونحن مثقَلون بالأوزارِ، فالمعَاصي تحرِم العبدَ من إجابةِ الدعاءِ كما في صحيح مسلم أنَّ النبيَّ ذكَر الرّجلَ يطيل السّفَر أَشعثَ أغبر يمدُّ يدَيه إلى السّماء: يا رَبِّ، يا ربِّ، ومَطعمُه حرام، ومَشرَبه حَرام، ومَلبَسه حَرام، وغُذِّي بالحرام: ((فأنَّى يستَجَاب لذلك؟!)) [6]. كما أنَّ المصِرَّ على المعصية مخذول لا يوفَّق للطّاعات، فهو يشعُر بالوَحشَة والانقِباض من صُحبَةِ الأخيار والصُّلَحاء، وينفِر من مجالسهم، ولا يُشارِكُهم عبادَتَهم، ولا يصطَفُّ معهم في قيامِهم لله، ويستثقِل العباداتِ، ولا ينشَط للطاعات، ولا تتَحمَّل نفسُه الصبرَ على الصّيام وطولِ التضرُّعِ والقِيام، كما أنَّ المعاصيَ توجب القطيعةَ بين العبد وربّه، فإذا وقَعَت القطيعة انقطَعَت عنه أسبابُ الخير واتّصلت به أسباب الشرّ، فأيّ عيشٍ لمن قطِعَ عنه الخير والتوفِيقُ من مولاه الذي لا غِنَى له عنه طَرفَةَ عين؟! ومِن آثارِ الذّنوب أيضًا الحِرمانُ مِن استغفارِ الملائكةِ كما قالَ تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم الآية [غافر:7، 8].
وقد أجمَع العارفون على أنَّ الذنوبَ تضعِف سيرَ القلبِ إلى الله وتعوقُه، وأنَّ القلوبَ لا تعطَى مُناها حتَّى تصِل إلى مَولاها، ولا تصِل إليه حتَّى تكونَ صحيحةً سليمَة؛ لذا قال الله عزّ وجلّ: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
فاتَّقوا الله تعالى أيَّها المسلمون، واستقبِلوا شَهرَكم بالتّوبَةِ والاستغفار وهجرِ الذنوب وردِّ المظالِمِ وإخلاصِ العِبادَة لله وحدَه واتِّباع السّنّة والعَزيمةِ المقرونةِ بالهمَّةِ الصادِقة للظَفَر بخير هذا الشّهر الكريم وإظهارِ الفرَح والاستبشار به والحذَرِ من التذمُّر والتسخُّط، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
كما ينبغي الاستِعدادُ بالتفقُّه في الدّين ومعرفةِ الإنسان كيف يعبد ربَّه كما أمرَه على بصيرة، فإنه يُؤتَى لمسلمٍ يمارِس عبادَاتِه من صلاة وصيامٍ وزكاة وحجٍّ وغيرها على جهلٍ أو تقليدِ عوام، حتى إذا طافَت السّنين وتكاثَرت المخالفاتُ جاء بعدَ الفواتِ يسأل: كيف يرقِّع ما فاتَ؟ ولو كانَ الأمرُ لدنيا لرَأيتَه قُطرُبًا لا يتوقَّف عن السؤالِ والبَحثِ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، أوَلَيس الدين أولى بالبحثِ والسؤال والاستعداد والاهتمام؟! خصوصًا وقد كثُرَت بحمد الله وسائل التعلُّم بما لا نظيرَ له في السابق، ولكن أين الحريصُ على دينِه وصِحَّة عبادته؟! وقد قال الله عزّ وجلّ: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
وبعد: أيّها المسلمون، هذه إشارةٌ لبعض فضائلِ رمَضَان وحثٌّ على الاستعدادِ له واجتِناب ما يحرِم فضلَه، فاللّهمّ بلِّغنا رمضان، ووفِّقنا فيه لصالحِ الأعمال، وتقبَّل منّا يا ربَّ العالمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
بارَكَ الله لي ولكم في الكِتاب والسّنّة، ونفَعنا بما فيهِما من الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ تعالى لي ولَكم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان (35)، صحيح مسلم كتاب: صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم: كتاب الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري: كتاب اللباس، باب: ما يذكر في المسك (5927) واللفظ له، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151).
[4] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب: ما جاء في صفة أواني الحوض (2450)، وأخرجه أيضا عبد بن حميد (1460)، والبيهقي في الشعب (1/512) من طريق يزيد بن سنان التميمي عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر"، وصححه الحاكم (4/343)، لكن تُعقِّب، فإن يزيد بن سنان ضعيف، وبكير بن فيروز مقبول، قال ابن طاهر كما في فيض القدير (6/123): "الحديث لا يصح مسندًا، وإنما هو من كلام أبي ذر". ولكن للحديث شاهد يتقوى به، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2335).
[5] سنن الترمذي: كتاب التفسير، باب: ومن سورة المؤمنون (3175)، وأخرجه أيضا أحمد (6/205)، وابن ماجه في الزهد، باب: التوقي على العمل (4198)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2537).
[6] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1015) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الواحدِ المعبود، والحمد لله الرّحيمِ الوَدود، أسبَغَ علينا نعمَه ظاهرةً وباطنة، فكلُّ نعمةٍ من فضلِه وإلى فضله تعود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله، أكرم من صلّى وصام وتهجَّد لله وقام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد: أيّها المسلمون، فإذا كان رَمَضان هو شهرُ الجدِّ والتّشمِير والمسارَعة إلى الخيراتِ والتعرُّض للنّفَحات فليَحذَر المسلم من الإغراقِ في الترفيهِ والاستعداد بجَلب الملهِيات التي تلهِي النفسَ عن العبادةِ وتبعِدها وتصدُّها عن الطّاعة، سِيَما وأنَّ كثيرًا من الملهِيات اليومَ تحوِي المعاصيَ والمنكرات، فمن الخُذلان أن تعمَرَ الأسواق وتهجَرَ المساجد أو تهدَرَ الليالي الفاضِلَة في تقليب الفضائيّات، والتي تجلب بخَيلِها ورَجلها في هذا الشهر الكريم، في ليالٍ تَنزَّل فيها الرّحماتُ وتفيض النَّفَحات، فيا خسارةَ من أدرك رمضانَ ولم يُغفَر له.
عبادَ الله، وكلِمةٌ أخيرة لا بدَّ منها، وهي أنَّه مع الوضوحِ الشّديدِ في التوجيهِ النبويِّ حيالَ إثبات دخولِ الشهر حيث يقول النبي : ((صوموا لرؤيَتِه وأفطروا لرؤيته)) [1] وكثرةِ الأحاديث المتوافِقَة على الطريقةِ السّهلةِ الواضحة لإثباتِ دخولِ الشّهر وبالرغم من إسنادِ هذا الأمرِ إلى جهاتٍ موثوقَةٍ عُليَا تتَّخِذ كلَّ استِعداداتِها وتتابِع إثباتَ دخولِ الأشهر السابقة ودعوةِ جميع المسلمينَ لتحرِّي رؤيةِ الهلال إلا أنّه مع بدايةِ كلِّ رمضان يحلو لبعضِ العامّة التشويشُ والتشكيك بلا علمٍ ولا بصيرةٍ والخوضُ في صحّةِ دخول الشهرِ، يتَّكِئ أحدُهم على أريكَتِه، يلوك ما لا يعلَم، يصوِّب ويخطِّئ وهو يجهَل أبسَطَ مبادِئ الإثبات، كأنّه رأَى وعلِم، وهذا والله من الخذلان، وهو من كيدِ الشيطان ليشكِّكَ الناس في عباداتهم ويكدِّر عليهم صَفاءَ صِيامهم. فاتَّقوا الله عباد الله، وليحذَر المسلم أن يقولَ ما لا يعلم، أو يكونَ وسيلةً لكيد الشيطان من حيث لا يعلم.
هذا وصلّوا وسلّموا على من أمركم الله بالصلاة عليه في محكَم التنزيل فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد صاحبِ الوجه الأنوَر والجبين الأزهر، وارضّ اللّهمّ عن الأربعة الخلفاء...
[1] أخرجه البخاري في الصوم، باب: قول النبي : ((إذا رأيتم الهلال...)) (1909)، ومسلم في الصيام (1081) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/4335)
ركن الزكاة
فقه
الزكاة والصدقة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
19/8/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الزكاة. 2- الحكمة من مشروعية الزكاة. 3- مسائل متفرقة في أحكام الزكاة. 4- إثم مانع الزكاة. 5- وصايا لأهل اليسر والمال. 6- النيابة في إخراج الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلِمون، اتقوا الله فإنَّ تقواه أفضل مكتَسَب وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، الإسلام دينُ الملّةِ المستقيمة والشريعةِ العادِلة، تتجلَّى في أحكامِه حِكَمُه وفي تشريعاتِه محاسِنُه وفي تكاليفِه آثارُه ومقاصده وفضائلُه وفي أركانه عظَمَته ورِفعته، ورُكن الزّكاة هو ثالِث أركان الإسلام ومبانِيهِ العِظام، فريضةٌ واجِبة في آيٍ وأَخبار وإجماعِ علَماء المسلمين على مرِّ الأعصَار، حقٌّ معلوم وجُزء مَقسوم وسَهم محتوم، أوجَب الله على كلِّ من ملَك نصابًا إخراجَه إلى من لا مالَ له يَقيه ولا كِفاية عِنده تُسعِفه وتحميه، وِقايةً لمالِ المزَكّي من الآفات، وسَببًا للزيادة والتَّضعيف وحصولِ البركات. في إيجابِها مواساةٌ للفقراء ومَعونة للبُؤَساء والضعفاء وصِلة بين ذوِي الحاجاتِ والأغنياء وعونٌ على مجانبة البخل والشّحِّ والإباء عن العطاء. كم سدَّت مِن خَلّة، وكَم جبرت من فاقَة، وكم فرَّجت عن معسِر كُرِب ومِسكينٍ مدقِع وفقير مملِق، فضائلُها لا تعَدّ وبَركاتها لا تحَدّ. وكلُّ ما يبعَث على العطف والشّفَقة والرّحمة والإحسان فأجدِر به حمدًا، وكلُّ ما صدَّ عن ذلك فأخلِق به ذمًّا. بُرهانٌ وعنوان على صِدق الإيمان، وفُرقان بين المنافقِ الجَموع المَنوع وبين المؤمن الخاضِعِ للحقِّ الواجِبِ المشروعِ.
يجِب إخراجُها علَى الفَور بوضعِها في مواضِعها وصرفِها في مصارِفها وإيصالها إلى مستحقِّيها، وهم ثمانِيَةُ أصناف، لا يجوز صرفُها إلى غيرِهم مِن بناء المساجد والقناطِر وتكفينِ الموتَى ووَقف المصاحف وغيرِها من جِهات البر والخير لقوله جلَّ في علاه: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60].
مَن جحَد وجوبَها كفَر، ومن منعها أخِذَت منه قَهرًا، وقيل: يأخذ الإمامُ معها الشَّطرَا، فعن بهزِ بنِ حكيم عن أبيه عن جدِّه أن رسول الله قال: ((من أعطاها مؤتجِرًا فله أجرها، ومن مَنَعها فإنَّا آخذوها وشطرَ ماله، عزمةً من عزَمات ربِّنا عزّ وجلّ، لا يحلّ لآل محمّدٍ منها شيء)) أخرجه أحمد وأبو داودَ والنسائيّ وصححه الحاكم [1]. ومَن حبسها تهاونًا وأمسَكَها تكاسلاً وكتمَها بخلاً وغيَّبها شحًّا أو أنقَصَها أو أخَّرها عن وقت وجوبها مع إمكانِ أدائها وداعي إِخراجها فهو عاصٍ وآثم ومعتدٍ وظالمٌ، لا يسلَم مِن تبِعَتها ولا يخرج من عُهدتها إلاّ بإخراجِ ما وجَب في ذمّتِه منها وتعلَّق بماله من حقِّها. ومَن مضَت عليه سنون لم يؤدِّ زكاتَها لزِمَه إخراجُ الزكاة عن جميعها والتّوبةُ والاستغفار عن تأخيرِها.
يا مَن جمع المال وأوعَاه ومنَع حقَّ الله فيه وأوكاه وكنزه وأخفاه سَتَنال عِقاب ما بخِلت، وستُعايِن شؤمَ ما عمِلتَ، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الهدَى : ((من آتَاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاتَه مُثِّل له يومَ القيامة شجاعًا أقرَع له زبيبتان، يُطوّقه يومَ القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمَتَيه ـ يعني بشِدقَيه ـ ثم يقول: أنا مالُك أنا كنزك)) ، ثم تلا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران: 180] أخرجه البخاري [2] ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((ما مِن صاحبِ ذهبٍ ولا فضّة لا يؤدِّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة صفِّحَت له صفائِح من نار فأحمِي عليها في نار جهنَّم، فيُكوَى بها جَنبه وجبينُه وظهره، كلَّما رُدَّت أُعيدت له، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يُقضَى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، ولا صاحبِ إبلٍ لا يؤدِّي منها حقَّها ـ ومِن حقِّها حلبُها يومَ وِردِها ـ إلاّ إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاعٍ قَرقَرٍ أَوفرَ ما كانَت، لا يفقِد منها فصِيلاً واحدًا، تطؤُه بأخفافِها وتعضّه بأفواهها، كلّما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنَة، حتى يقضَى بين العباد فيرى سبيلَه إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار، ولا صاحب بَقَر ولا غنَم لا يؤدّي منها حقَّها إلا إذا كان يوم القيامة بُطِح لها بقاع قَرقَر لا يفقِد منها شيئًا، ليس فيها عَقصاء ولا جَلحاءُ ولا عَضباء، تنطَحُه بقرونها وتطؤُه بأظلافها، كلّما مرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألفَ سنة، حتى يقضَى بين العباد فيَرى سبيلَه إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النار)) أخرجه مسلم [3]. يا لها من عقوبةٍ مغلَّظة ترجُف منها القلوبُ المؤمِنة.
يا مانِع الزَّكاة، أنسِيتَ أن الأموالَ عارِيَة عند أربابها وودِيعة عند أصحابها؟! أنَسيتَ أنّ الزّكاة يعود نفعُها عليك ويرجِع ثوابها إليك؟! فحذارِ حذار أن تكونَ ممّن يراها نقصًا ويعدّها غُرمًا وخسارًا، فلا ينفِق إلاّ كرهًا، ولا يرجو لما يُعطي ثوابًا.
يا عَبد الله، زكِّ مالَك بإخلاصٍ واحتساب، زكِّ مالَك بانشراحٍ وطِيب نفسٍ رجاءَ الثّواب، فعن عبدِ الله بنِ معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاثةٌ من فعلَهنّ فقد طعِم طعمَ الإيمان: من عبد الله وحدَه وأنّه لا إله إلا الله، وأعطى زكاةَ ماله طيِّبةً بها نفسُه رافِدَةً عليه كلَّ عام، ولا يعطي الهرِمة ولا الدَّرِنة ولا المريضة ولا الشّرط اللئيمة، ولكن من وسَط أموالِكم، فإنَّ الله لم يسأَلكم خيرَه ولم يأمُركم بشرِّه)) أخرجه أبو داود [4].
يا أهلَ المال والرِّياش والكسب والمعاش، ارحموا السائلَ المحروم، وأَعطوا الفقيرَ المعدوم، وتصدَّقوا على المسكين المهموم الذي لا يجِد ما يقوم به وكِفايَتِه وكفاية من يمون.
يا أهلَ البَذل والسّخاء والإنفاق والعَطاء، أبشِروا بحسنِ الجزاءِ والخَلَف والبركة والنّماء، فقد قال الصادق المصدوق : ((ما نقَصَت صدقةٌ من مال)) أخرجه مسلم [5].
يا مَن وفَّقك الله لأدائها وأعانَك على إخراجها، جعلها الله لك طَهورًا ونورًا وقربَة وهناءَةً وسرورًا، وآجَرك الله فيما أعطَيتَ، وبارك لك فيما أنفَقتَ، قال جل في عُلاه: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، فقد فاز المستغفِرون.
[1] مسند أحمد (5/2)، سنن أبي داود: كتاب الزكاة، باب: في زكاة السائمة (1575) واللفظ له، سنن النسائي: كتاب الزكاة، باب: سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلا لأهلها (2449)، مستدرك الحاكم (1/554)، وصححه أيضا ابن خزيمة (4/18)، وحسنه الألباني في الإرواء (791).
[2] صحيح البخاري: كتاب الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة (1403).
[3] صحيح مسلم كتاب الزكاة (987).
[4] سنن أبي داود: كتاب الزكاة، باب: في زكاة السائمة (1582)، وأخرجه أيضا البيهقي في السنن الكبرى (4/95)، والشعب (3/187)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1046).
[5] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا وسيِّدَنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، يُستحَبّ للمسلِم أن يلِيَ تفرقةَ زكاته بنفسِه، وله أن يَعهَد بتوزيعها إلى مَن يثِق به مِن الأُمَناء الأقوياء، ولا يجوز للوكِيلِ استثمارُ أموالِ الزكاة ولا الاتِّجارُ بها، ويجِب على من وكِلَ إليه توزيعُ مالٍ زكويّ أن يعجَلَ بإخراجه لمستحقِّيه، ولا يجوز له تأخيرُه بلا مَصلَحةٍ معتبرة.
ومن تولَّى قِسمةِ زكاةٍ نيابةً عَن معيَّن فلا يعَدّ من العاملين عليها، ولا يستحِقّ فيها، ولا يجوز له الأخذ مِنها، إلاّ أن يكونَ فقيرًا فيُعطَى منها قَدرَ كِفايته. وأمّا العاملون عليها الذين هم من أهلِها فهم جُباتها وسُعاتها وحُفّاظها وقُسَّامها الذين يبعثهم الإمام لأخذها ويولِّيهم على تحصيلِها.
أيّها المسلمون، الزّكاةُ أنواع وأقسامٌ ومسائِل وأحكام، فاسأَلوا أهلَ العلم عمَّا أشكَل، وراجِعوا أهلَ الذّكر عمَّا أقفَل، واستعينوا بالعلم على أداءِ الواجب وبالصّبر على شكرِ الواهِب القائِلِ في الكتاب المجيد: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
أيّها المسلمون إن الله أمَرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيَّه بكم أيّها المؤمنون من جنِّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلّ وسلِّم على النبي المصطفى المختار، اللّهمّ صلِّ عليه ما تعاقب اللّيل والنهار، اللّهمّ صلِّ عليه وعلى المهاجرين والأنصار وجميعِ الآل والصّحب الأخيار.
اللّهمّ أعِزّ الإسلامَ والمسلمين...
(1/4336)
عداوة الشيطان للإنسان ـ 1
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, الجن والشياطين, الفتن, الكبائر والمعاصي
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الحديث عن عداوة الشيطان. 2- الحكمة من خلق الشيطان. 3- أسباب عداوة الشيطان للإنسان. 4- أساليب الشيطان في إغواء الإنسان. 5- وسوسة الشيطان وطرقها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
أيها الإخوة، موضوعنا في هذه الخطبة هو من الأهمية بمكان، ومع عظم أهميته إلا أنك تجد قصورًا بعدم الاهتمام به عند كثير من المسلمين، بالرغم من أن القرآن الكريم والسنة المطهرة قد عنيا به أشد العناية، إنه موضوع عداوتنا الأبدية لعدونا اللدود الشيطان الرجيم.
إن تحذير الله تعالى لعباده من الشيطان جاء في القرآن أكثر وأعظم من تحذيره من النفس، فإن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته، ولذلك أمر الله بالاستعاذة من شر الشيطان في عدة مواضع من كتابه: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون:97، 98].
أيها الإخوة، إن كل واحد منا معه قرين من الشياطين يأمره بالشر، ويوسوس له، ويصده عن الطاعة، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله خرج من عندها ليلاً، قالت: فغرت عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: ((ما لك يا عائشة؟ أغرت؟)) فقلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟! فقال رسول الله : ((أقد جاء شيطانك؟)) قالت: يا رسول الله، أوَمعي شيطان؟ قال: ((نعم)) ، قلت: ومع كل إنسان؟ قال: ((نعم)) ، قلت: ومعك يا رسول الله؟! قال: ((نعم، ولكن ربي أعانني عليه حتى أسلم)).
أيها المسلمون، إن الله جلّ وعلا له الحكمة البالغة في خلقه، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، ولذلك دائمًا ما تختم كثير من الآيات في القرآن الكريم بصفتي العلم والحكمة، كقوله تعالى: وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ [الزخرف:84].
وربما قد يسأل أحد نفسه: ما الحكمة من خلق الشيطان؟! والجواب: إن الله تعالى خلق إبليس لحكمة أرادها سبحانه من خلقه، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، فلا يُشترَط في الإيمان بالغيب معرفة الحكمة، وإلا أصبح نصيب الإيمان في القلب ضئيلاً، حيث إن الإنسان يجهل أشياء كثيرة لا يحيط بعلمها إلا الله الذي خلقها وأوجدها، فعلم الإنسان لا يساوي ذرة في هذا العالم الفسيح بالنسبة إلى علم الله، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]. ولذلك أول وأعظم صفة يتصف بها المتقون هي الإيمان بالغيب، قال تعالى: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:1-3].
ولقد اجتهد بعض العلماء في استنباط بعض الحكم من خلق الشيطان، وذكروا أشياء كثيرة، وسأقتصر على بعضها، فمن هذه الحكم:
1– إظهار قدرة الله على خلق المتضادّات مثل خلق الليل والنهار، والداء والدواء، والحياة والموت، وكذلك خلق الشيطان الذي هو أصل الشر وخلق جبريل، فجعل الله جلّ وعلا الطيب منحازًا إلى روح جبريل عليه السلام، والخبيث منحازًا إلى روح إبليس الخبيثة.
2– من الحكم في خلق الشيطان إظهار مراتب العبودية لعباد الله المؤمنين، فالعبودية والمحبة والصبر والطاعة لله تعالى تظهر عند مجاهدة المؤمنين للشيطان وحزبه.
3– ومنها ظهور حلم الله وعفوه ومغفرته وستره على عباده، بعد إغوائهم من قبل الشيطان، وتوبتهم إلى ربهم، وهذه حكمة ظاهرة.
4– وكذلك من الحكم حصول العبرة والخوف والعظة لجميع العباد بما حصل لعدو الله إبليس، من الإهانة والذل وسوء العاقبة، بسبب عصيانه أمر الله تعالى واستكباره على ربه جلّ وعلا.
أيها الإخوة، إن من أسباب عداوة الشيطان للإنسان استكبار الشيطان وعدم سجوده، فعندما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم استكبر إبليس وامتنع عن السجود وكان من جملة الملائكة؛ لأنه رأى أن الله جلّ وعلا قد خصّ آدم عليه السلام بأنواع الكرامة وعلو المنزلة عنده تعالى، حيث ميّزه وكرّمه على سائر خلقه، وخلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، بخلاف غيره من المخلوقات، وخلقة على أحسن هيئة وقوام، وأسجد له ملائكته، وعلّمه أسماء كل شيء من مخلوقاته، وأسكنه جنته، حينئذ بلغ الكبر من عدو الله إبليس كل مبلغ، وثار الحقد والحسد الدفين في نفسه، والله جلّ وعلا يخبرنا بهذه الحقيقة في قوله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة:34]، وقال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر:28-33].
إن إبليس كان من جملة الملائكة، يعبد الله، ثم طُرِد بسبب استكباره وجحوده وحسده، وقد عامله الله بنقيض قصده، فعندما كان قصده التكبّر كان عاقبة هذا التكبر أن أخرجه الله صاغِرًا حقيرًا ذليلاً متّصفًا بنقيض ما كان يحاوله من العلو والعظمة، قال تعالى: قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ [الأعراف:18]. وبعد أن كان مرافقًا للملائكة في المَلَكُوت الأعلى، صار رأس الشر وقائد الفساد في الأرض، فإبليس يستحق هذا من الله تعالى؛ لأن تنقّصه لآدم وازدراءه به وترفّعه عليه يعتبر مخالفة للأمر الإلهي ومعاندة للحق، ولم يكتف إبليس بذلك، بل أخذ يتكلّم بكلام لا يجدي، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12].
لقد كان طرد إبليس من الجنة وهبوطه إلى الأرض ومفارقة الحياة الملائكية في جوار رب البرية سببًا من أسباب عداوته للإنسان وحقده عليه وحربه لبني آدم، فما إن حَكَمَ الله تعالى على إبليس بالطرد والإبعاد من الجنة حتى طلب من الله أن يُنْظِرَهُ إلى يوم البعث والنشور، فلمّا تحقّق له وعد الله تعالى بإنظاره إلى يوم القيامة أخذ يرعد ويتهجّم ويتوعّد هذا الإنسان بالغواية والإضلال؛ لأنه يرى أن هذا الإنسان هو السبب الرئيس في طرده من الجنة وهبوطه إلى الأرض، فأخذ عزمًا موثّقًا وعهدًا مؤكّدًا أن يجتهد كل الاجتهاد في صرف بني آدم عن دخول تلك الجنة.
أيها المسلمون، إن عداوة الشيطان للإنسان عداوة قديمة ومتوارثة في ذرّيته وأتباعه، فقد أعلن إبليس هذه العداوة منذ خلق الله عزّ وجلّ آدم عليه السلام، فعن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((لما صَوَّرَ الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يُطِيفُ به، ينظر ما هو، فلما رآه أَجْوَفَ عرف أنه خُلِقَ خلقًا لا يَتَمَالك)) رواه مسلم.
ولذلك حين غضب الجبّار جلّ وعلا على إبليس بسبب استكباره وكفره وجحوده لنعم ربه قال إبليس متوعّدًا لآدم وذريته: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17].
إن عداوة الشيطان لنا ـ أيها الإخوة ـ تبدأ من ولادتنا، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول يقول: ((ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهِلّ صارخًا من مَسّ الشيطان، غير مريم وابنها)) ، ثم يقول أبو هريرة: وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36] رواه البخاري. وهذا الطعن من الشيطان للمولود هو بداية التسليط، ثم يستمر ويستمر مسلسل التسليط حتى نهاية عمر الإنسان.
أسأل الله أن يعيذنا من شرّ الشيطان، إنه سميع عليم.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أعظم على عباده المِنّة بما دفع عنهم كيد الشيطان، وردّ أمله وخيّب ظنه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، قائد الخلق وممهّد السنة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن شدة عداوة الشيطان لنا تكمن في أنها من عدو خفي، فهو يأتي للإنسان ويؤثر فيه من حيث لا يراه، كما قال تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، فهذا العدو يحتاج إلى مواجهة الإنسان له واتقاء خطره بمثل مستوى أساليبه التي يدخل بها على الإنسان، فيجب أن نقاومه كما نقاوم الجراثيم الفتّاكة التي لا نراها، ولا نستطيع أن نقاومه إلا بالاستعانة والاستعاذة بالله.
أيها الإخوة، إن الشيطان له خطوات وأساليب يستخدمها لإغواء بني آدم، فمن ذلك أنه يأمره بالفحشاء والمنكر، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]. إن مخالفة إبليس لربّه جلّ وعلا كانت خروجًا عن أمر الله، ولذلك سعى في إيقاع الإنسان بنفس تلك المعصية، من خلال سعيه لخروج الإنسان عن طاعة الله بفعل الفحشاء والمنكر.
إن الشيطان حين يدعو الإنسان للفحشاء والمنكر لا يدعوه بصوت مسموع، ولكنه بما آتاه الله من قدرة على النفوذ إلى بدن الإنسان وجَرَيانه منه مجرى الدم، فإنه يستخدم عدة وسائل في ذلك، فمنها الوسوسة، فهو يصل إلى صدر الإنسان، ويوسوس له بطريقة لا ندركها، حتى يقوده إلى مهاوي الرَّدَى والخسران، فالوسوسة هي أساس وبداية كل الشرور والذنوب والمعاصي، ولذلك جاءت الاستعاذة من شر وسوسة الشيطان في سورة الناس بثلاث صفات من صفات الله، هي الرب والملك والإله.
وقد استخدم إبليس وسيلة الوسوسة لأول مرة مع أبينا آدم عليه السلام وزوجه حواء، حتى أغراهما بالأكل من الشجرة، يقول تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:20، 21]، فهو قد أظهر وأكّد لهما أنه ناصح، وكان يُبْطِنَ العداوة والكره لهما. فالوسوسة حيلة من حِيَل إبليس في دخوله على الإنسان، وهو مستمر في حيلته ومواظب عليها لا يفتر عنها، إذ يوسوس للإنسان بالأمور القبيحة والأفكار الرديئة، ولكن المؤمن الحق حين يصيبه الشيطان بالوسوسة يتذكّر ويبصر فلا يقع في فَخّ غوايته، بل ينتبه من الغفلة فيكون أشد اتقاءً من قبل، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
إن وسوسة الشيطان هي دليل ضعفه وعجزه أمام عباد الله المؤمنين، إذ لا يستطيع تجاوزها إلى تحقيق مقصده الخبيث، فالوسوسة نهاية كيد الشيطان ومكره بالمؤمن، فهي والله مكيدة ضعيفة، قال تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]. إن الشيطان يستخدم الوسوسة في صراعه مع الإنسان، خاصة كلما توجه العبد إلى ربه وأقبل عليه، فإن الوسواس الخَنّاس ينشط في وسوسته؛ كي يصرفه عن إقباله على ربه سبحانه.
والوسوسة الشيطانية أنواع وأصناف منها:
1- التلبيس بالحق، فيقول للإنسان: تنعّم بالملذّات فإن العمر طويل، والصبر عن الشهوات صعب، فإذا تذكّر العبد وعد الله ووعيده وجدّد إيمانه ويقينه خَنَسَ الشيطان وهرب.
2- وتكون الوسوسة بتحريك الشهوة وهيجانها وتزيينها في عين الإنسان.
3- وأيضًا هناك الوسوسة التي تكون بمجرد الخواطر وتذكر ما قد نسيه الإنسان، وتعتبر الصلاة من أعظم المجالات التي يستغلّها الشيطان في وسوسته للإنسان، قال رسول الله : ((إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضُرَاط حتى لا يسمع التأذين، فإذا قُضِيَ النداء أقبل، حتى إذا ثُوِّبَ ـ أي: الإقامة ـ أدبر، حتى إذا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يذكره، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلّى)) رواه البخاري.
وللحديث بقية بإذن الله في خطب قادمة.
أسأل الله أن يعيذنا من هَمَزات الشياطين، ونعوذ به ربّنا أن يحضرونا. اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، نعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن شر الشيطان وشركه، وأن نقترف لأنفسنا سوءًا، أو نجرّه لمسلم...
(1/4337)
وسائل الشيطان في إغواء الإنسان ـ 2
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, الجن والشياطين, الفتن, الكبائر والمعاصي
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أساليب الشيطان في الإغواء النزغ بين المسلمين. 2- طرق استهواء الشيطان للإنسان. 3- خطوات الشيطان. 4- نسيان ذكر الله. 5- إغواء الشيطان للإنسان بأسلوب الوعد والوعيد. 6- موقف إبليس وأتباعه يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، تحدثنا في الخطبة الماضية عن عداوة الشيطان للإنسان من بداية ولادته إلى نهاية عمره، وذكرنا غفلة المسلمين عن هذه العداوة، مما تسبّب في وقوعهم في كثير من المزالق والمصائب والذنوب، ثم ذكرنا أن من أسباب عداوة إبليس للإنسان أن إبليس يرى أن الإنسان هو السبب الرئيس في إخراجه من الجنة وفقده لمكانته كمَلَك في الملأ الأعلى، ولذلك يسعى الشيطان جاهدًا في الانتقام من هذا الإنسان؛ كي يكون رفيقًا معه في جهنم والعياذ بالله، ثم ذكرنا بعض أساليب الشيطان في إغواء الإنسان.
وسنواصل في هذه الخطبة ـ بإذن الله ـ ذكر أساليب أخرى للشيطان في إغواء بني آدم حتى نحذر ونستعد ونقاوم كيد الشيطان بنا، وحتى لا يستدرجنا الشيطان فيهوي بنا في مهالك الرَّدَى والخسران. فأقول وبالله التوفيق:
من أساليب الشيطان في إغواء الإنسان النَّزْغ، والنَّزْغ هو الكلام الذي يُفسِد العلاقة بين الناس، فالنَّزْغ وسيلة شيطانية يستخدمها الشيطان في خطته الماكرة لإضلال الإنسان وغوايته، ولقد أخبرنا الله عزّ وجلّ في كتابه عن نَزْغ الشيطان وحذّرنا منه، فقال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].
فالشيطان يسعى إلى التَّحرِيش وإثارة العداوة والبغضاء بين الناس، وشحن النفوس بالغِلّ والغضب، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه: استبّ رجلان قرب النبي ، فاشتد غضب أحدهما، فقال النبي : ((إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) ، فقال الرجل: أمجنون تراني؟! فتلا رسول الله : وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200]. رواه مسلم.
وهذا يفسر لنا ـ أيها الإخوة ـ ما نرى من قَطِيعة وبُغض وغِلّ بين المسلمين بسبب ما ذكرنا من نَزْغ الشيطان بينهم، فالشيطان يجتهد جاهدًا لقطع الروابط بين المسلمين، فربما فلَتَت الكلمة بين اثنين، فينْزَغ الشيطان إلى الآخر فيجعله يحملها على غير محملها، فيأتي الرد السيئ ليشعل نار الشحناء والبغضاء بينهما، فإذا المودّة والمحبة انقلبت جفوة وعداوة. عن جابر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن الشيطان قد أَيِس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحرِيش بينهم)) رواه مسلم.
فكم أوقع الشيطان من عداوة بين المسلمين، وخاصة حين تكون العلاقة بين الناس فيما يرضي الله تعالى كعلاقة الأرحام والأقارب مع بعضهم البعض، أو كعلاقة الإخوة في الله، وقصة يوسف مع إخوته خير دليل على ذلك، قال الله عزّ وجلّ: وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:100].
والشيطان ينزغ الإنسان من عدة جهات، فأحيانًا ينزغه من جهة لسانه ليتلفّظ بألفاظ فاحشة بذيئة أو كفرية أو شركية والعياذ بالله، وربما انتقل نزغ اللسان إلى اليد، فيقع الشر والخصومة والعداء، ولهذا الغرض نهى النبي أن يشير المسلم إلى أخيه بالسلاح، فربما نزغ الشيطان إليه فقتل أخاه بسلاحه فيقع في النار، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار)) رواه البخاري.
أيها السلمون، من أساليب الشيطان في المكر ببني آدم الاستهواء، والاستهواء هو أن يُزيّن الشيطان للإنسان هواه، فيفسد هواه وعقله وقلبه. ولقد أخبرنا الله تعالى بهذه المكيدة الشيطانية الخفيّة، فقال تعالى: قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71].
ولقد استهوى الشيطان وزيّن الباطل لكثير من الناس، فكم حَسّنَ من قبيح وزيّن من فاحش وجَمَّل من رذيلة ومَلَّحَ من ذميم وأعمى عيونًا لترى الفواحش والمنكرات والمحرمات في قالب مزخرف وصورة حسنة، وهي تخفي في حقيقتها السمّ والداء الدَفِين، فهو يظهر الباطل في صورة الحق مع تزيينه بالشهوات؛ كي تندفع إليه النفوس المريضة، لتقع فريسة للشيطان الذي يتربص بها الشر ويقودها إلى هلاكها وخسرانها.
والشيطان حين يُزيّن الباطل للإنسان فإنه بالمقابل يظهر الحق في صورة قبيحة ومُسْتَهْجَنَة؛ لينفّر النفوس عن الحق، فلا تتبعه وتدعو إليه، فالشيطان هو الذي أوحى إلى أوليائه تسمية المرأة المحتشمة بحجابها الشرعي رَجْعِيّة ومُتَخَلِّفة، وهو الذي تلاعب بكثير من القنوات الفضائية حتى جعلهم يدعون إلى الباطل وينفرون من الخير، وهو الذي جعل البعض يكره الدين وأهله، وهو الذي جعل المعروف منكرًا والمنكر معروفًا عند بعض الناس، وهو الذي جعل الناس يسمون أم الكبائر الخمر بالمشروبات الروحية، وهو الذي زيّن أفلام الرذيلة الواقعية كإستار أكاديمي وغيرها، فسَوّل للبعض أنها فن وجرأة وبراءة وشُهرة، وهو الذي زين للبعض أكل أموال الناس بالباطل باسم الذكاء والفِطْنة، وهو الذي جعل البعض يُسمّي الربا الحرام فوائد بنكية، وهو الذي زيّن للبعض معاكسة بنات المسلمين وهتك أعراضهن وفضح أهلهن باسم التسلية، وهو الذي هوّن من عِظَم ذنب رؤية صور النساء عبر الجوّال أو الشاشة أو الحاسب الآلي حتى صار الكثير لا يعدّونه ذنبًا.
أيها الإخوة، من أساليب الشيطان في إضلال الإنسان أسلوب التدرج بالخطوات، ولذلك حذّرنا الله تعالى من اتخاذ خطوات الشيطان والاسترسال معها، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [النور:21]، وقال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين [الأنعام:142].
فالشيطان حين يدعو الإنسان للمعصية فإنه لا يدعوه إليها مباشرة، بل يقرّبه منها خطوة خطوة، وشيئًا فشيئًا، حتى يقع في الفخّ الذي نصبه له، فهو يدعوه أوّلاً إلى المعصية، ويزيّنها في نفسه، ويدخل على النفس من الباب الذي تحبّه وتميل إليه، فهو يجري من الإنسان مجرى الدم، ثم يحبّب النظر إلى المعصية فتحسن في عينه، ثم يدعوه إلى الاقتراب منها ثم ارتكابها، وهو في ذلك يوسوس له بأن هذه المعصية من اليسير فعلها، وليس هناك ما يدعو إلى التردّد، حتى يزيل هيبة المعصية من قلبه، ثم يؤمّنه من عاقبة فعلها، بأنه لن يطلع عليه أحد، وأنه فِعْل ينتهي في وقته، وليس له مُطالِب، ويوحي بأن هذه فرصة نادرة فعليه اغتنامها والتلذّذ بها، وربما لن تحصل له مرة أخرى، وهكذا يقود الشيطان هذا الإنسان المسكين إلى المعاصي عن طريق تلك الخطوات الشيطانية المتتابعة، حتى يملأ قلبه وفكره ومشاعره وهمّه في الرغبة المُلحّة في فعلها، ونقله من معصية إلى أخرى أكبر منها، ولا يدعه الشيطان إلا وهو غارق في أوحال وأقذار المعاصي والآثام، فيبتهج عند ذلك الشيطان ويفرح أشدّ الفرح؛ لأنه كسب إنسانًا يكون رفيقًا له في نار جهنم، إن لم يتداركه الله برحمته فيتوب من ذنوبه.
أسأل أن يبصّرنا بخطوات الشيطان حتى نحذر منها، وأن يرزقنا العصمة من الشيطان الرجيم، إنه جواد كريم.
بارك الله لي ولكم بهدي كتابه وسنة رسوله. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله وأتوب إليه من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه توّاب غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلم ما كان وما يكون وما تسرّون وما تعلنون، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق المأمون، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين يهدون بالحق وبه يعدلون، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم يبعثون.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، من وسائل الشيطان مع المسلم أن ينسيه ذكر الله، فهو يلهي المسلم عن طاعة ربه، وأول ما ينسيه ذكر الله، قال الحق جلّ وعلا: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ [المجادلة:19]. ويعتبر نسيان العبد لربه من أكبر الذنوب وأخطرها في الدنيا والآخرة، ولذلك نهى الله عباده عن الغفلة وحذّرهم من عاقبتها، فقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:19].
أيها الإخوة، من الأمور التي نغفل عنها ولا تخطر ببالنا أن الشيطان يُنسِي الإنسان حتى مصالحه ومنافعه الدنيوية، فقد أخبرنا الله عن ذلك في قصة صاحب موسى عليه السلام حين أنساه الشيطان الحوت، فطال الطريق عليهما، واستمرّا في المشي بالسفينة حتى اليوم التالي، قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيه إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63]. ففي الآية دليل واضح على أن النسيان من الشيطان، فالشيطان يشغل الإنسان بوساوسه حتى يشغل فكره فيعتريه النسيان، وقد حكى الله لنا أيضًا قصة يوسف عليه السلام، فقد لبث في السجن بضع سنين بسبب إنساء الشيطان للرجل الذي خرج من السجن، وأوصاه يوسف عليه السلام أن يذكره عند ملكه، قال تعالى: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ [يوسف:42]، فقد أنساه الشيطان مدة طويلة من ثلاث إلى تسع سنوات من أن يتذكر يوسف عليه السلام في السجن.
أيها الإخوة، من أساليب الشيطان وخططه في التلاعب بالإنسان وعده ووعيده، فهو يعد الإنسان في الدنيا بوعود كاذبة، فقد وعد المشركين في معركة بدر بأنهم سينتصرون على المسلمين، وأنهم أقوى منهم وأكثر عددًا، وأنه ناصر لهم، حيث أتاهم في صورة رجل هو سُرَاقَة بن مالك، ومن المعلوم أن الشياطين لهم قدرة على التشكّل بباقي المخلوقات، وهذا معروف، وعندما بدأت المعركة وحين رأى الشيطان ملائكة الله فرّ وخذل المشركين، والله تعالى يُبيّن لنا ما جرى في كتابه العزيز فيقول تعالى: وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمْ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:48].
إن من وعد الشيطان للإنسان أن يُورِدَه الموارد التي يُخيّل إليه أن فيها مصلحته، ثم يفاجأ أن فيها هلاكه، ويتخلى الشيطان عنه، ويشمت به، ويضحك منه، فيأمره مثلاً بالسرقة والزنا والقتل، ثم يدل أصحاب الحق عليه، ويفضحه عندهم، كما قال تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16].
ولقد بيّن لنا ربنا تعالى في كتابه هذا الأسلوب الماكر من الشيطان لإيقاع الناس في الخطايا بما يعدهم من مواعيد كاذبة عاقبتها الخسران والندامة، قال تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [النساء:120]، وقال رسول الله : ((إن للشيطان لَمَّةً بابن آدم وللمَلَك لَمَّةً، فأما لَمَّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لَمَّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فيحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم)) ، ثم قرأ: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة 268]. رواه الترمذي وغيره وابن حبان وصححه.
أيها الإخوة، أوصيكم ونفسي بالحذر من الشيطان الذي يحتال على الإنسان بوعده ووعيده، فيوسوس للإنسان أنه لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة، وبذلك يستخفّ الإنسان بأن يقول له: لا مضرّة البتّة في فعل المعاصي، وينفّره عن الطاعة بأن هذه العبادات لا فائدة فيها، وأنها متعبة، فيستجيب لوعده ووعيده النفوس الضعيفة التي تنساق مع أباطيله، وأما من آمن بموعود الله فإن نفوسهم أسمى وأرفع من أن تستجيب للشيطان وأكاذيبه؛ لعلمهم الصادق أن هذا العدو لا يصدقهم النصيحة، ولا يوفيهم العهد والوعد، كما فعلها من قبل مع أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام، وهذا في الدنيا.
وأما في الآخرة فإن إبليس سيقف خطيبًا في يوم القيامة يكشف زيف وعوده وبطلانها، ويعلن براءته من أتباعه، وبراءته من كل من استجاب لغوايته ووعوده؛ ليزيدهم حزنًا إلى حزنهم، وغمَّا إلى غمّهم، وحسرة إلى حسرتهم، وفي ذلك اليوم الحق سيعلن الشيطان الحقيقة التي طالما كان يخفيها في الدنيا، ويدعو إلى خلافها، وهي صِدْق الله ورسوله ، فماذا يقول؟ قد أخبرنا الله علاّم الغيوب بما سيحدث مستقبلاً للشيطان وأتباعه في يوم القيامة: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم:22].
أيها المسلمون، وبما أنه قد ظهر لنا كيد الشيطان وخطورته ومكره بنا وإفساده لمستقبلنا الدنيوي والأخروي فما الحل والعلاج؟ وما أساليب الوقاية من شر الشيطان؟ هذا هو عنوان الخطبة القادمة بمشيئة الله تعالى، وأسأل الله الإعانة على ذلك.
اللهم اجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، اللهم اعصمنا من الشيطان الرجيم...
(1/4338)
وسائل مقاومة الشيطان ـ 3
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجن والشياطين, الدعاء والذكر
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية ذكر الله في مواجهة الشيطان. 2- أثر الاستعاذة والبسملة في التحصين من الشيطان. 3- من مواضع الاستعاذة والبسملة. 4- الاعتصام بالكتاب والسنة سبيل للوقاية من الشيطان. 5- دور الإخلاص في الوقاية من الشيطان. 6- خطورة التشبه بالشيطان وموالاته. 7- صور التشبه بالشيطان وموالاته. 8- أهمية التوبة في الوقاية من كيد الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم على أعمالكم محاسبون.
أيها الإخوة، تحدثنا في الخطبة الماضية عن وسائل الشيطان في إغواء الإنسان، وحديثنا في هذه الخطبة هو عن وسائل مقاومة الشيطان.
فمن وسائل مقاومة الشيطان ذكر الله، وذكر الله هو أعظم الأسلحة المفيدة في مواجهة الشيطان وكيده، حيث يَتَصَاغَرُ عدو الله ويَخْنَس ويَنْدَحِر ذليلاً أمام قذائف الذكر، فما من مولود إلا على قلبه الوسواس، فإن ذََكَر الله خَنَس حتى يكون مثل الذباب، ولو لم يكن للعبد من الذكر إلا هذه الفائدة ـ وهي العصمة من الشيطان ـ لكفى بها أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى.
وأما إذا غفل العبد عن ذكر الله التَقَمَ الشيطانُ قلبه وافترسه، وألقى إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله، قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36]، أي: أنّ مَن غفل عن ذكر الله يُرسل الله عليه شيطانًا يكون له قرينًا.
أيها الإخوة، إن نصوص الكتاب والسنة جاءت بأذكار يتحصّن بها الإنسان من كيد الشيطان، فمن هذه التحصينات الاستعاذة، والاستعاذة هي الالتجاء والاعتصام والاستجارة بالله من شر الشيطان الرجيم، فالشيطان الرجيم لا يقدر على دفعه وكفّه عن الإنسان إلا الله تعالى الذي خلقه، وهو المطّلع عليه، ويراه في جميع أحواله. ولأهمية الاستعاذة في حياة المسلم في حربه مع الشيطان وفي الوقاية منه وردت الاستعاذة في عدة مناسبات، فمن ذلك الاستعاذة بالله من وسوسة الشيطان في الصلاة، وعند رؤية الحلم المزعج، وعند دخول الخلاء، وعند ثورة الغضب، وعند دخول المسجد، وكذلك يستعاذ بالله تعالى من الشيطان عند تشكيكه للإنسان بربه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولْيَنْتَهِ)) رواه البخاري ومسلم.
ومن صور الاستعاذة الاستعاذة بالله من شر الشيطان في الصباح وفي المساء، فعن أبي هريرة أن أبا بكر قال: يا رسول الله، مرني بكلماتٍ أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت، قال: ((قل: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، رب كل شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه)) ، قال: ((قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك)) رواه البخاري.
إن المسلم الذي يداوم على الاستعاذة في أحواله كلها بلا شك أنه سيُحفظ من الشيطان سائر يومه.
أيها المسلمون، ومن طرق الوقاية من الشيطان البسملة، والبسملة من أقوى الأسلحة للوقاية من شرور الشيطان، ولها صور ومناسبات كثيرة، منها ذكر البسملة في صباح كل يوم ومسائه، فعن أبان بن عثمان قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله : ((ما من عبد يقول صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، لم يضره شيء)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
وكذلك البسملة عند الخروج من البيت وقاية من الشيطان، فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ : بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كُفِيتَ ووُقِيتَ وتنحَّى عنه الشيطان)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
وأيضًا البسملة عند الأكل تمنع مشاركة الشيطان فيه، فعن حذيفة قال: كنا إذا حضرنا مع النبي طعامًا لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرة طعامًا فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله بيدها، ثم جاء أعرابي كأنما يدفع فأخذ بيده، فقال رسول الله : ((إن الشيطان يستحل الطعام ـ أي: يتمكّن من أكله ـ أن لا يُذكَر اسم الله عليه، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحلّ بها، فأخذت بيدها، فجاء بهذا الأعرابي ليستحل به، فأخذت بيده، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها)) رواه مسلم.
ومن صور البسملة الدعاء عند جماع الرجل أهله، فعن ابن عباس أن النبي قال: ((لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضي بينهما ولد لم يضره)) أخرجه البخاري ومسلم.
ومن مناسبات البسملة ذكر اسم الله عند غلق الأبواب، فعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((إذا كان جنح الليل ـ أو أمسيتم ـ فكفّوا صبيانكم؛ فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل فحلّوهم، فأغلقوا الأبواب، واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابًا مغلقًا...)) الحديث. أخرجه البخاري.
أيها الإخوة، ومما يُقاوَم به الشيطان قراءة آية الكرسي عند النوم، فإن من قرأها عند نومه لن يزال معه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح.
وأيضًا قراءة الآيتين من آخر سورة البقرة تحفظ الإنسان وتبعد الشيطان، قال رسول الله : ((إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، فأنزل منه آيتين فختم بهما سورة البقرة، ولا يُقرَءان في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان)) حديث صحيح رواه النسائي وغيره، وقال : ((من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مائة مرة، كانت له حِرْزًا من الشيطان)) كما جاء في البخاري.
وكذلك سورة الإخلاص والفلق والناس من أعظم ما يُقاوِم به الإنسان شر الشيطان ووساوسه، فقد أوصى رسول الله الصحابي عبد الله بن خُبَيب وقال له: ((اقرأ: قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
أيها المسلمون، ومن الوسائل العظيمة في الوقاية من العدو اللّدود الاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بدين الله عز وجل، فهو أعظم سلاح في مقاومة الشيطان وشره، فمن اعتصم بالله كان من أولياء الله المتقين، وحزبه المفلحين وجنده الغالبين.
ومن أقوى الأسلحة للتصدّي لكيد الشيطان الإخلاص، فالإخلاص هو الحاجز المنيع بين الشيطان والإنسان، وهو أحد الأسلحة الربانية والعلاجات الوقائية للمسلم في حربه الشرسة مع عدوه الشيطان الرجيم، وهذه الحقيقة الثابتة أقر بها الشيطان نفسه واعترف بها في قوله: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39، 40]. فبيّن أن سلطان الشيطان وإغواءه إنما هو لغير المخلصين؛ لأن الشيطان يعلم أن كيده لا يفيد عند أهل الإخلاص؛ لأنهم لا يقبلون منه، فعلينا أن نعلم جميعًا أنَّ نصيب الشيطان منا بقدر خُلُوِّنا من الإخلاص، فالقلب إن لم يكن خالصًا لله متوجّهًا إليه تملّكه الشيطان واستحوذ عليه.
ومن الوقاية من كيد الشيطان لزوم الجماعة، فالالتزام بالجماعة أحد الحصون المنيعة ضد مكائد الشطان، ولذلك حثنا الرسول على لزوم الجماعة فقال: ((عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، من أراد بَحْبُوحَة الجنة فليزم الجماعة)) الحديث صححه الألباني.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الإخوة، ومن وسائل الوقاية من الشيطان عدم موالاة الشيطان وعدم التشبّه به، وموالاته تحدث بأمور، منها الاستعانة بالسَّحَرَة والكَهَنَة والمشعوذين، فمن لجأ إليهم صار وليًّا للشيطان، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119].
ومن صور موالاة الشيطان والتشبه به الأكل والشرب والأخذ والعطاء بالشمال، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ليأكل أحدكم بيمينه، وليشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطي بشماله، ويأخذ بشماله)) حديث صحّحه المنذري في الترغيب والترهيب.
ومن صور التشبّه بالشيطان العَجَلَة، قال رسول الله : ((الأَنَاة من الله، والعَجَلَة من الشيطان)) والحديث حسّنه الترمذي في البر والصلة. حيث إن الشيطان يُروّج شرّه على الإنسان عند الاستعجال من حيث لا يدري.
ومن صور التشبه بالشيطان الجلوس بين الظل والشمس، ولذلك نهى النبي أحد الصحابة أن يجلس بين الظل والشمس وقال: ((مجلس الشيطان)) أخرجه الحاكم في المستدرك وصححه.
ومن صور الموالاة والتشبه بالشيطان التبذير، قال تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27].
ومن صور موالاة الشيطان الكِبْر، فالكِبْر هو سبب شقاء إبليس وخروجه من الجنة، وسيدخل بسببه النار، ولذلك من تحلّى بهذه الصفة فليعلم أنها من التشبه بالشيطان وموالاته، والشيطان من أعظم ما يدخل على الإنسان عن طريق الكِبْر.
أيها الإخوة، بعد معرفة ما تقدّم من العلاجات الوقائيّة لمحاربة الشيطان فإنه ينبغي أن نعلم ونتيقن أن تلك العلاجات لا فائدة فيها، ولا تعطي ثمارها إلا بالتوبة الصادقة إلى الله جل وعلا من جميع الذنوب في الظاهر والباطن، فإنه لو تحقّق شيء من تلك العلاجات بلا توبة فإن نتائجها تكون سريعة الزوال ومفعولها ضعيف التأثير، إذ الإنسان الذي يحارب الشيطان بتلك الأسلحة الربانية وهو مُصِرّ على الذنوب والآثام فقد حارب عدوه الشيطان من باب، وترك أبوابًا أخرى مُشْرَعَة أمام عدوه لينفذ إليه منها، ولذلك نرى الشخص الذي يذهب إلى الراقي فيقرأ عليه من أذى الجن والشياطين، فإذا ما تعالج نجده بعد فترة يعود إليه مرضه، ويرجع للراقي، وعندما يسْتَفْصِلُ هذا الراقي عن حاله يجده ما زال مُصِرًّا على ذنب من الذنوب. قيل للحسن : ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه ثم يعود ثم يستغفر ثم يعود؟! فقال: "ودّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملّوا من الاستغفار".
فعلينا غيظ الشيطان وإرغامه بالتوبة، ولنقبل على ربنا الغفور الرحيم الذي يغفر الذنوب جميعًا، ولنخيّب بتوبتنا إلى ربنا كيد وأهداف الشيطان بنا.
أيها المسلمون، إن التوبة الصادقة حصن منيع للإنسان ضد مكائد الشيطان في صراعه الدائم، وإنها علاج وقائي ومباشر لكل الأمراض والمصائب التي يصيب بها الشيطان الإنسان، فإن التائب قد لجأ إلى ربه تعالى ومولاه واحتمى بحماه، وكفى بالله حافظًا وعاصمًا، وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
أسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يعصمنا من الشيطان الرجيم، وأن لا يجعل له إلينا سبيلاً، وأن يوفّقنا للتوبة النصوح، ويجعل خير أعمالنا خواتيمها.
اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا وما لم نعلم...
(1/4339)
الظلم والتظالم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, مساوئ الأخلاق
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الظلم في الكتاب والسنة وأقوال السلف. 2- من صور الظلم وأنواعه. 3- عاقبة الظلم في الدنيا والآخرة. 4- الحث على التخلص من المظالم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، التي بها السعادة في دنيانا وأخرانا.
أيها الإخوة، حديثنا اليوم عن خُلُق ذميم وذنب جسيم وأذى عظيم، يأكل الحسنات، ويجلب الويلات، ويُورِث العداوات، ويسبّب القطيعة والعقوق، ويحيل حياة الناس إلى جحيم وشقاء وكَدَر وبلاء، إنه الظلم ـ يا عباد الله ـ، فقد حذّر الله من الظلم، فقال في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلم على نفسي وجعلتُه بينكم محرّمًا فلا تظالموا)) رواه مسلم، وعن جابر أن رسول الله قال: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) الحديث رواه مسلم.
قال ميمون بن مهران: "إن الرجل يقرأ القرآن وهو يلعن نفسه"، قيل له: وكيف يلعن نفسه؟! قال: "يقرأ: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] وهو ظالم"، وقال سفيان الثوري رحمه الله: "إن لقيتَ الله تعالى بسبعين ذنبًا فيما بينك وبين الله تعالى أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد"، أي: بظلمك أحدًا من عباد الله، وذُكِر عن أبي بكر الوراق أنه قال: "أكثر ما ينزع الإيمان من القلب ظلم العباد"، وكان يزيد بن حكيم يقول: "ما هبتُ أحدًا قطّ هيبتي رجلاً ظلمتُه، وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله، يقول: حسبي الله، الله بيني وبينك". فالظلم حرام، وحتى ظلم الكافر لا يجوز، فما بالك بظلم المسلم؟!
أمَا واللهِ إن الظُلْمَ لُؤْمٌ وما زال المسيءُ هو الظَّلُومُ
إلى الدَّيانِ يومَ الدِّينِ نمضي وعند اللهِ تجتمعُ الْخُصُومُ
ستعلمُ يا ظَلُومُ إذا التقينا غدًا عند الإلهِ مَنِ المَلُومُ
أيها المسلمون، إن صور الظلم التي يقع فيها الناس كثيرة جدًّا، فأعظمها وأكبرها وأشدها عذابًا ونَكالاً الشرك بالله، قال تعالى على لسان لقمان: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
ومن الظلم الذنوب والمعاصي عمومًا، فإنها ظلم العبد لنفسه، قال تعالى: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1].
ومن أنواع الظلم ظلم العباد بعضهم لبعض، وأشدّ الظلم عندما يقع من الأقارب، كما قال الشاعر:
وظُلْم ذوي القُرْبى أشدُّ مَضَاضَةً على النفس من وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ
فمن ذلكم ظلم الرجل لزوجته والتعدّي عليها بالضرب والإهانة والتجريح وعيبها وعيب أهلها وعدم القيام بما يجب لها من حقوق شرعية، سواء في النفقة أو التعامل الحسن والكلمة الطيبة وتقدير ضعفها وعاطفتها وحاجتها، والله جلّ وعلا ورسوله يأمران الزوج بالإحسان لزوجته وعدم ظلمها في أدلة كثيرة ليس هذا مجال ذكرها.
ومن أنواع الظلم الميلُ مع بعض الزوجات دون بعض، وقد أخبر فقال: ((من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشِقُّهُ مائل)) أخرجه أبو داود وغيره وإسناده صحيح.
ومن أنواع الظلم تفضيل بعض الأولاد على بعض عدوانًا وطغيانًا، فنبينا لما أُرِيدَ منه أن يشهد على تفضيل رجل لأحد أولاده قال: ((اتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)) ، وقال في الحديث الآخر: ((لا تُشْهِدْني على جَوْر، أَشْهِدْ على هذا غيري)) رواهما البخاري. فجعله جَوْرًا، وامتنع من الشهادة عليه؛ لأنه من الظلم. ومن أعظم ظلم الرجل لأولاده أن يتركهم بلا أمر ولا نهي، ولا يُؤَدّبهم ولا يُوجّههم.
ومن صور الظلم ـ عباد الله ـ منْع البنات من الزواج بهدف جمع الأموال والثروات من أموالهم إن كن موظفات، وهذا حرام وظلم وعدم مروءة، نسأل الله العافية.
ومن أنواع الظلم المعاملات الربوية، فقد بيّن تعالى أنها ظلم؛ لأنه أخذ مال بغير حق، قال تعالى: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279].
ومن أنواع الظلم أكل أموال اليتامى بغير حق، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
وحذّر تعالى المسلم من قتل نفسه، وبيّن أن الانتحار من ظلم الإنسان لنفسه، قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30].
وأخبر أن مُمَاطَلَة الغني للحق الواجب عليه ظلم منه لصاحبه، كتأخير أداء الحق من ثمن المَبِيع أو القرض أو غير ذلك، يقول ((مَطْلُ الغني ظلم)) الحديث أخرجه مسلم.
ومن صور الظلم الشائعة أكل أموال الناس بالباطل، وذلك عن طريق السرقة أو الغشّ أو عن طريق الرشوة أو عن طريق التدليس، كمن يأخذ أرض غيره أو بعضها بمستندات مزوّرة أو أيمان كاذبة، ففي الحديث: ((من ظلم قَيْدَ شِبْرٍ من الأرض طَوَّقَهُ الله من سبع أَرَضِين)) أخرجه مسلم.
ومن الظُلم ظلم الرجل لجيرانه بأن لا يقوم بحقّ الجوار لهم, وأن لا يَكُفّ الأذى عنهم.
ومن أنواع الظلم ظلم العُمّال والخادمات في البيوت، وعدم إعطائهم حقوقهم في وقتها، واستغلالهم بغير حق.
ومن أنواع الظلم ظلم الناس في أعراضهم بالغيبة والنميمة والاستهزاء، وفي الحديث: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)) الحديث أخرجه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون، إن الظلم مَرْتَعُهُ وَخِيم وشؤمه جسيم وعاقبته أليمة، وقد توعّد الله أهله بالعذاب والنكال الشديد، فقال تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا [الفرقان:37]، وقال تعالى: وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ [آل عمران:57]، وقال: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:42، 43]، وإنه ـ والله ـ لوعيد تنخلع له القلوب الحية، وتقشعرّ له الجلود المؤمنة، وكفى به زاجرًا عن الظلم أو الإعانة عليه.
ويقول سبحانه: أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]، ولكل ظالم حظّ من هذه اللعنة بقدر مَظْلَمَته فليسْتَقِلّ أو ليسْتَكْثِر، ويقول تعالى: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف:65]، ويقول مُهدّدًا بسوء العاقبة وشؤم المُنْقَلَب: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
وبيَّن سبحانه وتعالى أن الظالم محروم من الفلاح في الدنيا والآخرة، ومصروف عن الهداية في أمور دينه ودنياه ما لم يتب، فقال: إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [القصص:37]، وقال: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، ويقول سبحانه: فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:41]، ويقول تعالى: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ:42].
كل تلك الآيات وغيرها جدير بمن سمعها أن يقف ويتأمل، ويحذر أن يحل عليه غضب الجبّار جلّ وعلا فينتقم منه بسبب ظلمه لعباد الله.
ولشناعة الظلم، وكثرة أضراره، وعظم الأذية به؛ جعل الله تعالى عقوبته مُعَجّلة في الدنيا قبل الآخرة، ولذلك حذَّر النبي من دعوة المظلوم فقال: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) رواه البخاري ومسلم.
لا تَظْلِمَنَّ إذا ما كُنتَ مُقْتَدِرًا فالظلمُ ترجع عُقْبَاهُ إلى النَّدَمِ
تنامُ عيناك والمظلومُ مُنْتَبِهٌ يدعو عليك وعينُ اللهِ لَم تَنَمِ
ويقول النبي : ((ثلاثة لا يردّ الله دعاءهم: الذاكر الله كثيرًا، والمظلوم، والإمام المُقْسِط)) والحديث حسّنه الألباني في صحيح الجامع، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا، ففجوره على نفسه)) والحديث حسّنه الألباني في صحيح الجامع. فإذا كان هذا شأن دعوة الفاجر فما بالك بدعوة التقي الصالح؟!
أَتَهْزَأُ بالدعاءِ وتَزْدَرِيهِ وما تدري بِما صَنَعَ الدعاءُ
سِهَامُ الليلِ لا تخطي ولكن لها أَمَدٌ وللأَمَدِ انقضاءُ
فاحذر ـ يا أخي ـ أن تكون غَرَضًا لدعوات المظلومين ومَحلاً لسهامهم الصائبة.
واحذر من المظلوم سَهْمًا صائبًا واعلم بأن دعاءه لا يُحْجَبُ
وفي الحديث: ((إن الله ليُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يفْلِتْهُ)) ، ثم قرأ رسول الله : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] رواه البخاري ومسلم.
وفي صحيح مسلم عن أبي مسعود قال: كنت أضرب غلامًا لي بالسوط، فسمعت صوتًا من خلفي: ((اعلم أبا مسعود)) ، فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله ، فإذا هو يقول: ((اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود)) ، قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: ((اعلم ـ أبا مسعود ـ أنّ الله أقدر عليك منك على هذا الغلام)) ، قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا.
ولما حُبِس خالد بن بَرْمَك وولده في نَكْبة البَرَامِكَة المعروفة قال ولده: يا أبتي، بعد العزّ صرنا في القيد والحبس! فقال: يا بني، دعوة المظلوم سرت بليل، غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها.
وما مِن يدٍ إلا يدُ الله فوقَها ولا ظالِمٌ إلا سَيُبْلَى بأظْلَمِ
أسأل الله أن يجعلنا من المُقْسِطين، وأن لا يجعلنا من الظالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه تواب رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلم، إن تكن وقَعتَ في مظلمة لأحد من الخلق فتخلّص منها اليوم، خلّص نفسك من مظالم العباد، رُدّ الحقوق إلى أهلها، انجُ بنفسك من التبِعات ما دمت قادرًا في هذه الدنيا، قبل أن ينزل بك الموت، وترى ملائكة الجبّار، وترى مَلك الموت، وتتمنّى ساعة تعيش في الدنيا لتردّ المظالم، ولا ينفعك ذلك. وَلَوْ تَرَى إِذِ ?لظَّـ?لِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ?لْمَوْتِ وَ?لْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـ?تِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
فيا أخي المسلم، أنت المحاسب، أنت المُعذَّب، أنت المُعاقَب، إنّ ما أكلتَ من مظالم العباد ينساها الناس، ولكنها محفوظة عند الله، أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، فإياك والمُمَاطَلة، وإياك والتَّسْوِيف، وإياك واللجوء إلى الحِيَل والخداع، وإياك أن تخدعك نفسك بأنك ذو مكر وخداع ودهاء، تأخذ حقوق الناس، وتستطيع بكل ما أوتيت من جدل وقوة وضعف مَن أمامك، أنقذ نفسك قبل الوقوف بين يدي الله، ?لْيَوْمَ تُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ?لْيَوْمَ إِنَّ ?للَّهَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [غافر:17].
وليعلم كل من يقع في شيء من الظلم أن صاحب الحق وإن لم يستوفِ حقّه اليوم فسوف يستوفيه في موقف أشد صعوبة وأقسى، يوم يقوم الناس لرب العالمين، غدًا يوم القيامة، يستوفيه حينئذ خيرًا من ذلك، يستوفيه حسنات أحوج ما يكون صاحبها إليها، بل أعظم من ذلك يتحمل سيئات من ظلمه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((مَن كانت له مَظْلَمَة لأحد من عِرْضِه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذ منه بقدر مَظْلَمَته، وإن لم تكن له حسنات أُخِذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه)) أخرجه البخاري.
اللهم إنا نعوذ بك من الظلم وشرّ عاقبته، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا...
(1/4340)
الوالدان
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الوالدان, فضائل الأعمال, مكارم الأخلاق
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية بر الوالدين ومنزلته. 2- وجوب طاعة الوالدين في غير معصية. 3- ما جاء في حق الأم على ولدها. 4- ما جاء في حق الأب على ولده. 5- فوائد بر الوالدين. 6- التحذير من عقوق الوالدين. 7- نماذج من بر السلف بآبائهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ [النساء:131].
أيها الإخوة، حديثنا اليوم عن عبادة من أفضل القرب التي تقرّبنا إلى ربنا عز وجل، وهي سبب لحصول الرزق والتوفيق إلى كل خير في الدنيا والآخرة. ونظرًا لأهميتها فقد قرنها الله مع عبادته في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، فمن ذلك قوله تعالى: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، إنها عبادة بر الوالدين.
ونظرًا لعظم حق الوالدين فإن الله جل شأنه قرن شكره بشكرهما، فقال تعالى: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ [لقمان:14]، حيث إن بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، وهو مُقدَّم حتى على الجهاد في سبيل الله، سئل النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) متفق عليه، وروى مسلم في صحيحه: أقبل رجل إلى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله عز وجل، قال: ((فهل من والديك أحد حي؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله عز وجل؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) ، وفي رواية البخاري أنّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)) ، وفي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: ((هل بقي من والديك أحد؟)) قال: نعم، أمي، قال: ((قابل الله في برّها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج معتمر ومجاهد)).
وقال رجل لابن عباس : إني نذرت أن أغزو الروم، وإنّ أبواي منعاني، فقال: (أطع أبويك؛ فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك)، حتى إن سفيان الثوري ذهب إلى أبعد من ذلك فقال: "لا يغزو إلا بإذنهما، وإن كانا مشركين".
أيها الإخوة، مما يؤكد فقه الصحابة لمسألة بر الوالدين ما حدث في قصة كلاب بن أمية المشهورة، فقد أرسل عمر بن الخطاب كلابًا أميرًا على جيش للجهاد في إحدى الغزوات، وعندما علم أبو كلاب برحيل ابنه تأثّر تأثّرًا شديدًا لفراق ابنه كلاب، وقال هذه الأبيات المحزنة:
لِمن شَيْخَانِ قد نَشَدَا كِلابَا كتابَ الله لو عَقَلَ الكتابَا
أُنادِيهِ فيُعْرِضُ فِي إبَاءٍ فلا وأبي كلابٍ ما أصابا
إذا سَجَعَتْ حَمامةُ بَطْن وادٍ إلى بيضاتِها أدعو كِلابا
تركتَ أباك مُرْعِشَةً يداه وأمّكَ ما تسِيغُ لها شَرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس الشَّرابا
فسمع عمر بن الخطاب هذه الأبيات من أبي كلاب، فاستدعى كلابًا على الفور، وعندما حضر كلاب وأبوه لا يعلم بحضوره، فسأله عمر: كيف كان برّك بأبيك؟ فقال: إني أحلب له كل يوم وأسقيه اللبن، فقال له عمر: احلب هذه الشاة، واستدعى عمر أبا كلاب وقدّم له اللبن وهو لا يشعر بوجود ابنه عند عمر، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدَي كلاب، فبكى عمر وقال لكلاب: جاهد في أبويك. قال ابن عبد البر: "هذا الخبر صحيح".
أيها الإخوة، ومما يؤكد عظم حق الوالدين أنهما حتى لو كانا كافريْنِ فيجب برّهما، فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهمَا قَالَتْ: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة مشركة، أفأصِلها؟ قال: ((نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ)) رواه البخاري.
بل الأمر ـ أيها الإخوة ـ أعظم من كونهما كافرين، بل وحتى لو كانا يأمران ولدهما المسلم أن يكفر بالله فيجب أن يبرهما، ويحسن إليهما، لكن لا يطيعهما في الكفر، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].
أيها الأخ المسلم، إن حق أمك عليك عظيم جدًّا، ولو تأمّلت ما في هذه الأدلة التي سأذكرها لنذرت نفسك لخدمتها ليلاً ونهارًا، ولن تستطيع أن توفّيها شيئًا من حقها عليك، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا ?لإِنسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ إِحْسَـ?نًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَـ?لُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]. وروى البخاري أنه جاء رجل إلى النبي فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من برّ الوالدة)، وقال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: "تعشَّ العشاء مع أمك تقر به عينها، فهو أحب إلي من حجة تحجها تطوّعًا"، وقال : ((دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال: كذلك البر)) ، وكان أبر الناس بأمه. والحديث في السلسلة الصحيحة.
أيها الإخوة، وقد وردت نصوص أيضًا في فضل وعظم حق الوالد عند الله عز وجل، قال النبي : ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) والحديث رواه الترمذي وصححه ابن حبان.
ومن عظيم مكانة الوالد أن الله يستجيب دعاءه على ولده، فقد قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)) حديث حسن.
فاسع ـ أخي المسلم ـ في إرضاء والدك حتى تنال الخير العظيم، وتوفّق في أولاد يحسنون إليك كما أحسنت أنت إلى أبيك، واحذر أن تعقّه فيدعو عليك.
أيها المسلمون، إن لبر الوالدين فوائد كثيرة تعود على الولد، فلماذا نفرط في هذا الخير العظيم؟!
فمن هذه الفوائد سعة الرزق وطول العمر، فعن رسول الله قال: ((من سرّه أن يُمَدَّ له في عمره ويُزادَ له في رزقه فليبرّ والديه وليصل رحمه)) والحديث حسن بهذا اللفظ، وأصله في الصحيحين.
كما أنه بفضل بركة بر الوالدين تحصل ـ بإذن الله ـ حسن الخاتمة، فعن علي بن أبي طالب أن النبي قال: ((من سره أن يُمَدَّ له في عمره ويُوسَّعَ له في رزقه ويُدفَعَ عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)) والحديث إسناده جيد.
وقد جعلَ اللهُ البرَّ بِالْوَالِدَيْنِ بابًا للفوْزِ برضاهُ سبحانهُ، ففي الحديثِ أنَّ رسُولَ اللهِ قَالَ: ((رِضا الرَّبِّ فِي رِضا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا)) والحديث في صحيح الجامع.
ومن الفوائد كذلك أن نكسب بر أولادنا لنا في المستقبل، وأيضًا من الفوائد استجابة الدعاء من الله لمن بر والديه، وكذلك في بر الوالدين تكفير للذنوب والآثام.
أيها المسلمون، لا أظن بمن سمع تلك الأحاديث والآيات الواردة في فضل بر الوالدين أن يتردد في برهما، خاصة وقد جاءت نصوص أخرى تحذر وتنذر وتتوعد من عَقَّ والديه، فمن ذلك أن النبي قال: ((كل الذنوب يؤخّر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) رواه مسلم.
إن عقوقَ الوالديْن يعتبر من كبائرِ الذّنُوبِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ)) رواه البخاري، وَعَدَّ رَسُولُ اللَّهِ من الثَلاثَةِ الذينَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: ((الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ)) والحديث في صحيح الجامع.
والله تعالى لا ينظر يوم القيامة إلى من عَقّ والديه، ولا يدخله الجنة، ففي الحديث الذي خرّجه النَّسائي والحاكم وصحّحه عن رسول الله أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر اللهُ إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، ومدمن الخمر، والمنانُ عطاءَه)) ، وقد دعا رسول الله على من أدرك والديه ولم يدخل بهما الجنة، فقال : ((رَغِمَ أنفُهُ، ثم رَغِمَ أنفُهُ، ثم رَغِمَ أنفُهُ)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)).
ومن خطورة أمر العقوق أن من تسبّب في أن يشتم والديه فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، فقد قال الرسول : ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) ، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمّه)) رواه مسلم.
ولذلك حذر السلف من مصاحبة الشخص العاق لوالديه، فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لا تصحب عاقًّا لوالديه؛ فإنه لن يبرّك وقد عَقّ والديه".
أيها الإخوة، هذا والد يخاطب ابنه العاق بأبيات تقطع القلب، فيقول:
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي إليها مَدَى ما كنتُ فيك أؤمّلُ
جعلتَ جزائي غِلْظَةً وفَظَاظَةً كأنك أنت الْمُنْعِمُ الْمتفضِّلُ
فليتكَ إذا لَم تَرْعَ حقَّ أُبَوّتِي فعلتَ كما الْجارُ المجاورُ يفعلُ
فأوليتني حقَّ الْجوار ولم تكن عليّ بِما لِي دون مالك تبخلُ
أسأل الله أن لا يجعل من بيننا من هو عاق لوالديه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فهي وصية الله لنا ولمن قبلنا: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ [النساء:131].
أيها الإخوة، حديثنا اليوم عن عبادة من أفضل القرب التي تقرّبنا إلى ربنا عز وجل، وهي سبب لحصول الرزق والتوفيق إلى كل خير في الدنيا والآخرة. ونظرًا لأهميتها فقد قرنها الله مع عبادته في مواضع كثيرة من كتابه العزيز، فمن ذلك قوله تعالى: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، إنها عبادة بر الوالدين.
ونظرًا لعظم حق الوالدين فإن الله جل شأنه قرن شكره بشكرهما، فقال تعالى: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ [لقمان:14]، حيث إن بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، وهو مُقدَّم حتى على الجهاد في سبيل الله، سئل النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) متفق عليه، وروى مسلم في صحيحه: أقبل رجل إلى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله عز وجل، قال: ((فهل من والديك أحد حي؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله عز وجل؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) ، وفي رواية البخاري أنّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)) ، وفي حديث إسناده جيد أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أشتهي الجهاد ولا أقدر عليه، قال: ((هل بقي من والديك أحد؟)) قال: نعم، أمي، قال: ((قابل الله في برّها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاج معتمر ومجاهد)).
وقال رجل لابن عباس : إني نذرت أن أغزو الروم، وإنّ أبواي منعاني، فقال: (أطع أبويك؛ فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك)، حتى إن سفيان الثوري ذهب إلى أبعد من ذلك فقال: "لا يغزو إلا بإذنهما، وإن كانا مشركين".
أيها الإخوة، مما يؤكد فقه الصحابة لمسألة بر الوالدين ما حدث في قصة كلاب بن أمية المشهورة، فقد أرسل عمر بن الخطاب كلابًا أميرًا على جيش للجهاد في إحدى الغزوات، وعندما علم أبو كلاب برحيل ابنه تأثّر تأثّرًا شديدًا لفراق ابنه كلاب، وقال هذه الأبيات المحزنة:
لِمن شَيْخَانِ قد نَشَدَا كِلابَا كتابَ الله لو عَقَلَ الكتابَا
أُنادِيهِ فيُعْرِضُ فِي إبَاءٍ فلا وأبي كلابٍ ما أصابا
إذا سَجَعَتْ حَمامةُ بَطْن وادٍ إلى بيضاتِها أدعو كِلابا
تركتَ أباك مُرْعِشَةً يداه وأمّكَ ما تسِيغُ لها شَرابا
فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس الشَّرابا
فسمع عمر بن الخطاب هذه الأبيات من أبي كلاب، فاستدعى كلابًا على الفور، وعندما حضر كلاب وأبوه لا يعلم بحضوره، فسأله عمر: كيف كان برّك بأبيك؟ فقال: إني أحلب له كل يوم وأسقيه اللبن، فقال له عمر: احلب هذه الشاة، واستدعى عمر أبا كلاب وقدّم له اللبن وهو لا يشعر بوجود ابنه عند عمر، فقال الأب: إني لأشم رائحة يدَي كلاب، فبكى عمر وقال لكلاب: جاهد في أبويك. قال ابن عبد البر: "هذا الخبر صحيح".
أيها الإخوة، ومما يؤكد عظم حق الوالدين أنهما حتى لو كانا كافريْنِ فيجب برّهما، فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهمَا قَالَتْ: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغبة مشركة، أفأصِلها؟ قال: ((نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ)) رواه البخاري.
بل الأمر ـ أيها الإخوة ـ أعظم من كونهما كافرين، بل وحتى لو كانا يأمران ولدهما المسلم أن يكفر بالله فيجب أن يبرهما، ويحسن إليهما، لكن لا يطيعهما في الكفر، قال تعالى: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].
أيها الأخ المسلم، إن حق أمك عليك عظيم جدًّا، ولو تأمّلت ما في هذه الأدلة التي سأذكرها لنذرت نفسك لخدمتها ليلاً ونهارًا، ولن تستطيع أن توفّيها شيئًا من حقها عليك، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا ?لإِنسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ إِحْسَـ?نًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَـ?لُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]. وروى البخاري أنه جاء رجل إلى النبي فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (إني لا أعلم عملاً أقرب إلى الله من برّ الوالدة)، وقال هشام بن حسان: قلت للحسن: إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء، قال الحسن: "تعشَّ العشاء مع أمك تقر به عينها، فهو أحب إلي من حجة تحجها تطوّعًا"، وقال : ((دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال: كذلك البر)) ، وكان أبر الناس بأمه. والحديث في السلسلة الصحيحة.
أيها الإخوة، وقد وردت نصوص أيضًا في فضل وعظم حق الوالد عند الله عز وجل، قال النبي : ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) والحديث رواه الترمذي وصححه ابن حبان.
ومن عظيم مكانة الوالد أن الله يستجيب دعاءه على ولده، فقد قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)) حديث حسن.
فاسع ـ أخي المسلم ـ في إرضاء والدك حتى تنال الخير العظيم، وتوفّق في أولاد يحسنون إليك كما أحسنت أنت إلى أبيك، واحذر أن تعقّه فيدعو عليك.
أيها المسلمون، إن لبر الوالدين فوائد كثيرة تعود على الولد، فلماذا نفرط في هذا الخير العظيم؟!
فمن هذه الفوائد سعة الرزق وطول العمر، فعن رسول الله قال: ((من سرّه أن يُمَدَّ له في عمره ويُزادَ له في رزقه فليبرّ والديه وليصل رحمه)) والحديث حسن بهذا اللفظ، وأصله في الصحيحين.
كما أنه بفضل بركة بر الوالدين تحصل ـ بإذن الله ـ حسن الخاتمة، فعن علي بن أبي طالب أن النبي قال: ((من سره أن يُمَدَّ له في عمره ويُوسَّعَ له في رزقه ويُدفَعَ عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)) والحديث إسناده جيد.
وقد جعلَ اللهُ البرَّ بِالْوَالِدَيْنِ بابًا للفوْزِ برضاهُ سبحانهُ، ففي الحديثِ أنَّ رسُولَ اللهِ قَالَ: ((رِضا الرَّبِّ فِي رِضا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا)) والحديث في صحيح الجامع.
ومن الفوائد كذلك أن نكسب بر أولادنا لنا في المستقبل، وأيضًا من الفوائد استجابة الدعاء من الله لمن بر والديه، وكذلك في بر الوالدين تكفير للذنوب والآثام.
أيها المسلمون، لا أظن بمن سمع تلك الأحاديث والآيات الواردة في فضل بر الوالدين أن يتردد في برهما، خاصة وقد جاءت نصوص أخرى تحذر وتنذر وتتوعد من عَقَّ والديه، فمن ذلك أن النبي قال: ((كل الذنوب يؤخّر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) رواه مسلم.
إن عقوقَ الوالديْن يعتبر من كبائرِ الذّنُوبِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ)) رواه البخاري، وَعَدَّ رَسُولُ اللَّهِ من الثَلاثَةِ الذينَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: ((الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ)) والحديث في صحيح الجامع.
والله تعالى لا ينظر يوم القيامة إلى من عَقّ والديه، ولا يدخله الجنة، ففي الحديث الذي خرّجه النَّسائي والحاكم وصحّحه عن رسول الله أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر اللهُ إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، ومدمن الخمر، والمنانُ عطاءَه)) ، وقد دعا رسول الله على من أدرك والديه ولم يدخل بهما الجنة، فقال : ((رَغِمَ أنفُهُ، ثم رَغِمَ أنفُهُ، ثم رَغِمَ أنفُهُ)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)).
ومن خطورة أمر العقوق أن من تسبّب في أن يشتم والديه فقد ارتكب كبيرة من الكبائر، فقد قال الرسول : ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) ، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمّه)) رواه مسلم.
ولذلك حذر السلف من مصاحبة الشخص العاق لوالديه، فقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: "لا تصحب عاقًّا لوالديه؛ فإنه لن يبرّك وقد عَقّ والديه".
أيها الإخوة، هذا والد يخاطب ابنه العاق بأبيات تقطع القلب، فيقول:
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي إليها مَدَى ما كنتُ فيك أؤمّلُ
جعلتَ جزائي غِلْظَةً وفَظَاظَةً كأنك أنت الْمُنْعِمُ الْمتفضِّلُ
فليتكَ إذا لَم تَرْعَ حقَّ أُبَوّتِي فعلتَ كما الْجارُ المجاورُ يفعلُ
فأوليتني حقَّ الْجوار ولم تكن عليّ بِما لِي دون مالك تبخلُ
أسأل الله أن لا يجعل من بيننا من هو عاق لوالديه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
(1/4341)
غض البصر
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, الفتن, الكبائر والمعاصي, المرأة
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استهانة الناس بالنظر المحرم في هذا الزمان. 2- أهمية البصر ومنزلته من الحواس. 3- خطورة النظر المحرم. 4- استغلال الأعداء للمرأة في الإفساد. 5- آثار النظر إلى الحرام وعواقبه. 6- الأسباب المعينة على غض البصر. 7- فوائد غض البصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، قال عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الإخوة، لقد استهان كثير من المسلمين في هذه الأيام في النظر المحرم إلى النساء، وهذا شيء مشاهد، ويعلمه الجميع، فترى كثيرًا من الناس يستهينون في النظر إلى النساء الأجانب في الأسواق وفي أماكن تجمّعات الناس وعبر ما يُعرَض في كثير من القنوات الفضائية ومن خلال أجهزة الجوالات والحاسبات الآلية، والله جل في علاه يقول لعباده المؤمنين: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]، فأين نحن من أمر الله لنا بالغضّ من البصر؟!
عباد الله، إن البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأقرب طرق الحواس إليه، وما أكثر السقوط من جهته، ولذلك بدأ الله تعالى في الآية فأمر بالغضّ من البصر قبل حفظ الفرج، لماذا؟ لأن البصر هو أقرب طريق للقلب.
كما أن غض البصر ليس مختصًّا بالرجال، بل الأمر موجّه كذلك للنساء، حيث أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بغض أبصارهن وحفظ فروجهن: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ الآية [النور:31].
أيها الإخوة في الله، إن إطلاق البصر في المحرمات ذنب عظيم ينبغي عدم الاستخفاف به والتهاون فيه، حيث يقول الرسول الله : ((العينان زناها النظر، والأذنان زناهما الاستماع)) والحديث في الصحيحين، وقال رسول الله لعلي: ((يا علي، لا تُتْبِعِ النظرةَ النظرة؛ فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة)) رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، وفي الصحيح عن جرير بن عبد الله البَجَلِي قال: سألت النبي عن نظرة الفَجْأَة ـ وهو البَغْتَة من دون قصد ـ فأمرني أن أصرف وجهي.
إن معظم المصائب والذنوب والخطايا أولها نظرة، ألم تسمعوا قول الشاعر:
كلُّ الحوادِثِ مَبْدَؤُها مِن النَّظَرِ ومُعْظَم النارِ من مُسْتَصْغَرِ الشَّررِ
كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلب صاحبها فَتْكَ السِّهامِ بلا قَوْسٍ ولا وَتَرِ
والمرءُ ما دام ذا عين يقَلّبُها في أَعْيُنِ الغِيدِ موقوفٌ على الخَطَرِ
يسرُّ مُقْلَتَه ما ضرَّ مُهْجَتَه لا مرحبًا بسرور عاد بالضرَرِ
أيها المسلمون، لقد تفنَّن أعداؤنا وأعداء الفضيلة والطهر والعفاف في إغواء وإفساد وإغراء المسلمين ليلاً ونهارًا من خلال إفساد المرأة واستخدامها آلة وألعوبة لتحقيق مخططاتهم، وهذا ـ أيها الإخوة ـ مِصْداق لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ففي صحيح البخاري عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاء)) ، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ)).
ولذلك عرف المفسدون أثر المرأة في إفساد المجتمع، فجَنّدوا طاقاتهم، وكدحوا واجتهدوا من أجل حَفْنَة مال حرام قليل لا بارك الله في جهودهم، وسَيُسْألون عن هذا المال يوم القيامة، وسَيُسْألون عما تسبّبوا به في إفساد مجتمعات المسلمين بهذا الإغواء، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
أيها المسلمون، إن مَن أطلق لبصره العَنَان فينظر للنساء الفاسدات في القنوات الفضائية أو في المنتزهات أو في الشواطئ أو في الأسواق أو عبر الجوالات أو أجهزة الحاسب الآلي سيصاب بأمر عظيم يفسد عليه دينه، ألا وهو فساد القلب، فالنظرة تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، فهي بمنزلة الشرارة من النار تُرمَى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله أحرقت بعضه. ولقد قيل: "الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم بعده"، ورحم الله القائل:
وكنتَ متى أرسلتَ طَرْفَكَ رائدًا لقلبك يومًا أتعبتك المناظِرُ
رأيتَ الذي لا كله أنت قَادِرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ
أي: إذا أرسلت نظرك فإنك ترى ما لا تقدر على تحصيله، ولا تصبر على عدم حصول بعضه، وهذا من عجائب النظر. فهو سهم ترميه فيعود إليك.
وقال غيره:
يا راميًا بسهام اللحْظِ مجتهدًا أنت القَتِيل بما ترمي فلا تُصِبِ
أيها المسلمون، ألا يخاف من لم يغضّ بصره أن يحدث له الجزاء في الدنيا قبل الآخرة؟! والجزاء من جنس العمل، وكما تدِين تُدَان، وكما مرّ معنا في الحديث أن العين تزني وزناها النظر، ولهذا يقول الشافعي رحمه الله:
عفُّوا تعفّ نساؤكم في المَحْرَمِ وتَجنّبوا ما لا يليقُ بِمسلمِ
إن الزنا دَيْن فإن أقرضتَهُ كان الوفَا من أهل بيتك فاعلمِ
مَن يزْنِ يُزْنَ به ولو بجدارِه إن كنتَ يا هذا لَبِيبًا فافهمِ
وقد توعّد الله من يخون ببصره إلى ما لا يرضيه جل وعلا، فقال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ [غافر:19]، وخائنة الأعين هو نظر المُسَارَقَة، وهو النظر الذي يخفيه المرء من جليسه حياءً أو خوفًا أو احترامًا، والله جل وعلا وتقدّس أولى وأولى أن يُسْتحيى منه جل شأنه، وقد قال سبحانه وتعالى عمّن يخشى الناس ولا يخشى الله في السر: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [النساء:108].
أيها الإخوة، إن من عقوبات النظر المحرّم إبطال الطاعات، وبسببه يُصابُ المرء بالغفلة عن الله والدار الآخرة، فإن القلب إذا شُغِل بالمحرمات أورثه ذلك كسلاً عن ذكر الله وملازمة الطاعات، بل إن عين الناظر للحرام لا قيمة ولا دِيَة لها في الشريعة، فمن تعمّد النظر في بيوت الناس مُتَجَسِّسًا تهدر عينه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لو اطّلع أحد في بيتك ولم تأذن له فخَذَفْتَهُ بحصاة ففَقَأَتْ عينه ما كان عليك جناح)) متفق عليه.
عباد الله، إن تقوى الله عز وجل والخوف من عقابه ودعاءه والاستعانة به وشكره على نعمه أكبر مُعِين على التخلّص من النظر الحرام، فإن من تمام شكر نعمة البصر أن لا يُعصَى الله عز وجل بها، وعلينا أن نتذكّر عظيم الجزاء عند الله لمن غضّ بصره، وأنّ مَن ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه.
ليس الشجاعُ الذي يحمي مَطِيّته يومَ النزالِ ونارُ الحربِ تشتعِلُ
لكن فتًى غضَّ طرفًا أو ثنى بصرًا عن الحرام فذاك الفارسُ البطلُ
إن الخوف من سوء الخاتمة وترك صحبة الأشرار يعين كذلك على ترك النظر الحرام، فإن الشخص يأخذ من صفات من يخالطه، و((المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يُخَالِل)) ، كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إن المسلم الذي رزقه الله بزوجة عليه أن يتذكّر أن الله أغناه بحلاله عن حرامه، فليشكر هذه النعمة، وإذا تعرض لنظرة مسمومة فعليه أن يبادر بعلاج ما يقع في قلبه من أثر تلك النظرة، ففي الحديث أن رسول الله قال: ((إن المرأة تُقبِل في صورة شيطان، وتُدبِر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأتِ أهله؛ فإن ذلك يرد ما في نفسه)) رواه مسلم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الإخوة في الله، إن لغض البصر عن الحرام فوائد وثمرات نجنيها في الدنيا والآخرة ينبغي التأمل فيها حتى لا تضيع منا هذه الخيرات، في مقابل حصول الحسرات من عدم غض الأبصار.
فمن فوائد غض البصر تخليص القلب من ألم الحسرة، وبغض البصر يحصل للقلب قوة وثبات وشجاعة ونور وإشراق يظهر في العين وفي الوجه وفي الجوارح، ومن غض بصره آتاه الله الحكمة، ولا تكاد تخطئ فراسته، وتجده مسرورًا وفرحًا ومُنشرِحًا، ويحس باللذة أعظم من اللذة والسرور الحاصل بالنظر، فلذة العِفّة أعظم من لذة الذنب.
إن غض البصر سبب لمحبة الله والأنس به، وبه يسد على الشيطان مدخله إلى القلب، وغض البصر يخلص القلب من أسر الشهوة، فإن الأسير هو أسير شهوته وهواه، ومتى أسرت الشهوة والهوى القلب سامته سوء العذاب.
إن غض البصر طريق للجنة، فعن عبادة بن الصامت أن النبي قال: ((اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) حديث حسن.
أيها الإخوة، المسلم مطلوب منه أن يمتثل قول رسوله : ((اتق الله حيثما كنت)) ، ومُطالَبٌ أيضًا أن يراقب ربه في الخلوات، كما هي حاله أمام الناس، ولا ينتهك حرمات الله إذا خلا بها بمفرده. والمسلم مُطالَبٌ بإقامة المعروف وإنكار المنكر، كلٌّ بحسب جهده وموقعه، وكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته، الأبُ راع ومسؤولٌ عن أهل بيته، فلا يسمح بالمجلات الخليعة ولا البرامج المدمرة التي أصبحت تزرع الضلالات والفتن بدخول البيت، على المسلمين أن يحذروها، وأن يقوا أنفسهم وأهليهم منها.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ومن الذين يقولون: سمعنا وأطعنا، اللهم ارزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة...
(1/4342)
التحذير من أذية المسلمين
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
محمد أحمد حسين
القدس
19/8/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة انتشار الآفات الاجتماعية بين المسلمين. 2- وجوب حفظ الضرورات الخمس. 3- حرمة دماء وأعراض الأنفس المعصومة. 4- التحذير من أذية المسلمين ماديًّا أو معنويًّا. 5- رمضان فرصة للمراجعة والتغيير. 6- توالي الهجمات الاستيطانية على القدس. 7- عوامل عزة الأمة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، تجتاح مجتمعَنا آفاتٌ اجتماعية كثيرة، كالمخدرات والاتّجار بها وتعاطيها ومعاقرة الخمور، وما ينتج عنها من جرائم القتل والزنا والسّطْو على البيوت والممتلكات وسرقة الأموال والمحتويات واستعمال السلاح لأتفه الأسباب، مما يؤدي إلى جرائم القتل أو الإصابات والجراحات التي لا سبب لها إلا الانفلات الأمني والأخلاقي وغياب الوازع الديني الذي يهذّب النفوس ويزكّي الأخلاق، حتى غدا المجتمع ـ مع شديد الأسف ـ كأنه مجتمع يعيش حياة الجاهلية بعصبيّتها المُنْتِنة وثاراتها الغائرة وقَبَلِيّتها المُتَناحِرَة، فقد تقدّمت الرذيلة، وتراجعت الفضيلة، وغدا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وقد أغلقت القلوب على نكتة سوداء، حتى أصبحت لا تميّز بين الخير والشر، أو تراهما سِيّان، ولا تغيير لهذا الواقع المؤلم إلا بتغيير النفوس، مِصْدَاقًا لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
أيها المسلمون، لا عذر لمسلم ـ فردًا كان أم جماعة أم حكومة ـ أن يقتل مسلمًا بغير حق، كما قرّر الدينُ الحنيف والشرعُ القويم؛ لأن دماء المسلمين معصومة وحُرُماتها مَصُونة، والرسول يقول: ((لا يحلّ دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
لقد ضمنت شريعتنا الغَرّاء حفظ الضرورات التي لا تقوم الحياة إلا بها ـ وعلى رأسها حق الحياة ـ بحفظ النفس والعقل والنَّسْل والدين، وبهذا سبقت شريعتُنا السمحة كلَّ المواثيق الدولية التي تدَّعِي محافظتها على حقوق الإنسان، في الوقت الذي تُسَامُ شعوبٌ كثيرة ظلمَ الدول الاستعمارية، وتُذْبَحُ شعوبُها قَرَابِين للمصالح الدولية، تحت شعارات الحرية والديمقراطية والعولمة والأفكار الوافدة.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، وكما حرّم الإسلامُ دمَ المسلم إلا بحق حرّم إيذاءَ المسلم في عِرْضِه أو ماله أو ترويعه بالسلاح وغيره، فقال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، وقال رسول الله : ((لا يُشِير أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من حفر النار)) ، فهل يرعوي أولئك الذين يتباهون بإشهار السلاح في وجوه الآمنين فيستعملونه لتخويف الأبرياء لنهب أموالهم أو لتحقيق مصالح آنية من شأنها نَشْر البَلْبَلَة والفوضى بين أبناء المجتمع؟! والرسول يقول: ((مَن مَرّ في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نَبْل فليمسك أو ليقبض على نِصَالها بكفّه؛ أن يصيب أحدًا من المسلمين بشيء)) ، فكم هي الإصابات التي وقعت جرّاء استعمال السلاح في الأفراح أو الاستعراض بين أبناء شعبنا الذي قدّم الكثير من التضحيات وهو يتحدّى رصاص المحتلّين واحتلالهم.
أيها المسلمون، لقد حرّم الله إيذاء المؤمنين بأي صورة من صور الإيذاء المادي أو المعنوي، فالإيذاء المادي كالقتل والجروح والاعتداء على الأموال بالسرقة أو الإتلاف، والإيذاء المعنوي بفُحْش الكلام وقَذْف الأعراض أو الوِشَاية للأعداء أو الغيبة والنميمة بهتك الحرمات وإشاعة الفتنة وإساءة الظن، فقد نهانا الله تعالى عن سوء الظن بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، ونهانا تعالى عن استخدام الجوارح والحواس في غير رضوان الله فقال تعالى: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
فعلى المسلم أن يسخّر حواسّه وجوارحه في عمل الخير، حتى لا تشهد عليه يوم القيامة بما اقترف، لقوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24].
إن انتشار الأذى المادي والمعنوي في المجتمع يؤدّي إلى قطع المودّة وإثارة الفتنة وانتشار الخصومة، ويهيج العداوة والبغضاء، ويفرّق الجماعة، ويمزّق الوحدة، ويهضم حق المؤمنين، ويطعنهم في الصميم، وعلاج ذلك أن ينهض كل فرد وجماعة وفَصِيل ومسؤول بواجبه في جمع الكلمة وتوحيد الصف والتصدّي لكل مظاهر الفساد والفتنة، فالرسول يقول: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أرأيت إن كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: ((تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره)) ، قال رسول الله : ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، هلاّ جعلنا من شهر رمضان المبارك الذي يحلّ على أمتنا بعد أيام قلائل موسمًا لمراجعة أحوالنا، ومائدة لفعل الخير، وفرحة للتوبة من الذنوب، ومحطة للتزود بالإيمان والتقوى، حتى نتغلّب على شهوات النفس، ونقهر دواعي الشر والفساد والجريمة، ونوقف حالة الفوضى التي يعيشها شعبنا المرابط؛ لأن مسؤولياتٍ جِسَامًا تقع على عاتق هذا الشعب، فيجب أن ينهض بها، وعلى رأسها رعاية المسجد الأقصى المبارك الذي تُحْدِقُ به الأخطار، ويطمع به الأعداء ضمن محاولات ومخطّطات للتدخّل في شؤونه، وفرض واقع جديد فيه لا يرضى به مسلم يحمل عقيدة الإيمان وتحرّكه عزة الإسلام.
كما تتعرّض المدينة المقدسة لهجمة استيطانية غير مسبوقة، إمعانًا في تهويدها وطَمْس معالم حضارتها الإسلامية وقَلْع جذورها العربية، في الوقت الذي تُهَرْوِل فيه دول العُرُوبة والدول التي تسمّي نفسها دولاً إسلامية لتطبيع علاقاتها مع حكومة الاحتلال الإسرائيلية، فلا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن أمتكم الإسلامية تملك من عوامل الوحدة والقوة ما يجعلها في مقدمة الأمم إن هي أخذت بهذه العوامل منهجًا لحياتها، فالعقيدة الإسلامية تجمعها على التوحيد والإيمان، والشريعة الإسلامية توحّدها في بيان الأحكام والاحتكام، ومواردها من الثروات الهائلة وموقعها الجغرافي الذي يجعلها تتوسّط أمم العالم عوامل قوة تدفعها لمقدمة رُتَب الأمم، بدلاً من السير في ذيل القافلة. فهلاّ أخذت أمتنا بهذا المنهاج العظيم الذي أعزّ سلفَنا الصالحَ وأورثنا هذه الديار المباركة أرضًا وديارًا إسلامية؟!
ورحم الله الفاروق عمر فاتح هذه البلاد حينما قال: (نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزّة في غيره أذلّنا الله).
(1/4343)
النبي كأنك تراه (1): أهمية الأخلاق
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
التربية والتزكية, الشمائل, مكارم الأخلاق
محمد بن حمد الخميس
الدمام
6/6/1425
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اصطفاء الله تعالى لمن يشاء من عباده. 2- ارتباط أركان الإسلام بتزكية الأخلاق. 3- وجوب التوافق بين باطن الإنسان وظاهره. 4- شذرات من أخلاق النبي قبل الإسلام وبعده. 5- ما جاء من الأحاديث في منزلة حسن الخلق والحث عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، قال الله جلّ شأنه وتقدّست أسماؤه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68]. فربّنا جلّ جلاله هو المتصرّف بالخلق والتدبير والتقدير، فيخلق ما يشاء ومَن يشاء، ويختار مِن خلقه ما يشاء، ويصطفي مَن يشاء، فليس لأحد اختيار ولا تصرّف في مُلْكه سبحانه جلّ في علاه، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: "فالله الذي يقسم الفضل بين أهل الفضل على حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح، وهو الذي يرفع بعض الناس فوق بعض درجات" اهـ.
فالله قسم الناس فمنهم السيد والمَسُود، ومنهم الحاكم والمحكوم، وجعل التفاضُل حتى بين الرسل، قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [البقرة:253].
وكان من أمره سبحانه اختيار محمد وتفضيله على العالمين، فخصّه بأفضل الكتب وأكملها، وجعل شريعته الخاتمة والمُهَيْمِنة على الشرائع كلها، قال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48].
وجعل الله تعالى مدار شريعة محمد على تزكية النفوس وتطهيرها وإصلاح الأخلاق وتنقيتها، ولهذا صح عنه قوله: ((إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق)) أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصحّحه الألباني. فكأنّ النبي حَصَر بعثته على تقويم الأخلاق وإتمام مكارمها، ولذلك فإن المتأمل في أركان الإسلام يجد أنها جميعًا تدعو إلى تقويم الأخلاق وتهذيب الطِّباع واستقامة السلوك، فالصلاة تُبعِد المسلم عن الرذائل، وتطهّره من سوء القول والعمل، قال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والزكاة ليست ضريبة تُدفَع أو مالاً يُبذَل مجردة عن المعاني والحكم، إنما هي لتطهير النفس وتزكيتها، قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]، والصوم ليس حرمانًا من الطعام والشراب والنكاح، بل هو خطوة إلى كفّ النفس عن شهواتها المحظورة ونَزَوَاتها المنكورة، قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري، والحج ليس رحلة خالية من المعاني الأخلاقية، إنما هو سبيل إلى إبعاد النفس عن سَفَاسِف الأمور، قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].
فهذه أركان الإسلام العظيمة وعباداته الجليلة، ليست طقوسًا مُبْهَمَة، ولا أعمالاً مجردة لا معنى لها، بل هي في مجملها لها صِلات وثيقة تعمل في نَسَقٍ واحد يكمل به بناء الأخلاق الشامخ، إنها عبادات مختلفة في مظهرها، ولكنها جميعًا تلتقي عند الغاية التي بُعِث محمد من أجلها: ((إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
معاشر المؤمنين، إن المظهر وإن كان مطلوبًا في الإسلام ولكنه لا يُغنِي عن الجوهر، إن تقويم السلوك الظاهر فقط والحرص على العبادات والشعائر مجردة من معانيها وحكمها بناءٌ على غير أساس، وكل بناء على غير أساس عُرْضَة للانهيار كما قال : ((إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)) أخرجه مسلم، فما فائدة الصلاة إذا كان المصلي بذيء اللسان فاحش الكلام سيئ الخلق؟! وما فائدة الزكاة إذا كان المزكّي يأكل أموال الناس بالباطل ويماطل في حقوقهم؟! وما فائدة الحج إذا كان الحاج يكذب في حديثه ويخلف وعده ويخون أمانته؟! وصدق الرسول حينما قال: ((إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
لقد بُعِث نبينا ليصدّق ما يدعو إليه بعمله، فكانت أخلاقه عنوانًا لدعوته وبرهانًا على نبوته وتبيانًا لصدق رسالته، ولهذا أثنى الله عليه بثناء يتردّد في سمع الوجود، ويتلوه الملأ الأعلى والمؤمنون، ولا تُنْسِيه سَرْمَدِيّة الزمان، قال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. وجاء في صحيح مسلم أن سعد بن هشام سأل أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خُلق النبي فقالت: أليس تقرأ القرآن؟! قال: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن. قال ابن كثير رحمه الله: "صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا سَجِيّة له وخُلُقًا تطبّعه، وترك طبعه الجِبِلّي، فمهما أمره القرآن فعله، ومهما نهاه عنه تركه".
كان عظيمَ الخلق بعد بعثته وقبل البعثة، فالمشركون لم يجدوا منه إلا أفضل الأخلاق، حتى لقبوه بالصادق الأمين، ولما فاجأه الوحي قال لزوجه خديجة رضي الله عنها: ((لقد خشيت على نفسي)) ، قالت: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتُقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الدهر. رواه البخاري. ما ذكرته خديجة رضي الله عنها مآثر حسنة وأخلاق كريمة ومعاملات سامية تدفع الأذى عن صاحبها بإذن الله تعالى.
وأما بعد بعثته فزاد حلمه حلمًا وكرمه كرمًا وعظمته عظمة صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.
وصف أمير الشعراء في هَمْزِيّته المشهورة النبي قائلاً:
يا أيها الأُمّي حَسْبك رُتْبةً ـــ في العلم أنْ دَانَت بك العلماءُ
يا مَن له الأخلاق ما تهوى العُلا ـــ منها وما يَتَعَشّقُ الكُبراءُ
لو لم يقم دينٌ لقامت وحدَها ـــ دينًا تُضيء بنوره الآناءُ
على هذه الأخلاق الحميدة تربّى الجيل الأول من الصحابة، إذ لم يكتف النبي لإصلاحهم بالتعاليم المرسلة أو بالأوامر والنواهي المجرّدة، بل أدّبهم بخلقه وهذّبهم بسلوكه، فتمثّلت فيهم صورة الإسلام المشرقة، حتى أصبحوا مصاحفَ تمشي على الأرض في أخلاقهم، وانتشروا في الدنيا، فرأى الناس فيهم نماذج فريدة من البشر، فدخلوا في دين الله أفواجًا، فتحوا البلاد، وقبل ذلك كسبوا قلوب العباد بسيرتهم العطرة قبل أن يصلوا إليها بجيوشهم، ونحن لا خير فينا إذا لم نَسِر على منوالهم ونتشبّه بهم.
فتَشَبّهوا إن لم تكونوا مثْلَهم ـــ إنّ التشبُّهَ بالكرام فَلاحُ
أيها الإخوة المؤمنون، إن المتأمل في أحاديث الحبيب محمد يجد أنها رفعت من منزلة الأخلاق الفاضلة وأصحابها، وجعلتها ميدان سَبْق ليتنافس فيه المتنافسون، قال : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)) رواه الترمذي بسند صحيح، وقال : ((أنا زعيم ـ ضامن ـ ببيت في رَبَض الجنة ـ أدناها ـ لمن ترك الجدال ولو كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) رواه أبو داود بسند صحيح. فهنيئًا لكم ـ يا أصحاب الأخلاق الحسنة ـ ببيت في أعلى الجنة.
وقال : ((إن أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا)) رواه الترمذي بسند صحيح، وقال : ((ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق، وإنّ الله ليبغض الفاحش البذيء)) رواه الترمذي بسند صحيح. وبيّن النبي أنّ صاحب الأخلاق الحسنه يدرك العابد الزاهد، فقال : ((إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) رواه الترمذي بسند صحيح.
إن حسن الخلق منحة ربّانية ومِنّة إلهية، لا يعطيها الله عزّ وجلّ إلا لمن يصطفيه ويحبّه، ولله درّ الشاعر حينما قال:
فالناس هذا حظُّهُ مالٌ وذا ـــ عِلْم وذاك مكارم الأخلاقِ
فإذا رُزِقت خليقةً محمودة ـــ فقد اصطفاك مُقَسِّمُ الأرزاقِ
فالمال نعمة تحتاج إلى علم حتى ينفقه صاحبه فيما شرع، والعلم بحاجة إلى الأخلاق حتى ينفع صاحبه الأمة، وكما قيل:
فالْمالُ إنْ تدّخِرْهُ مُحَصّنًا ـــ بالعلم كان نهايةَ الإملاقِ
والعلم إن لَم تكتنفه شَمائلٌ ـــ تُعْلِيهِ كان مَطِيّة الإخفاقِ
لا تحسبنّ العلمَ ينفعُ وحدَهُ ـــ ما لَم يُتَوَّجْ ربُّهُ بخَلاقِ
أيها الأحبة في الله، إننا في هذه الأيام وفي هذا الزمان أحوج ما نكون إلى الأخلاق الحسنة، عملاً وسلوكًا يتجَسّد في قولنا وفعلنا، وفي حِلِّنا وتِرْحَالِنا، وفي عُسْرِنا ويُسْرِنا، وفي بيعنا وشرائنا، وفي عهودنا ووعودنا، وفي غضبنا ورضانا، مع أهلنا وأصحابنا، وخير مَن نتأسّى بأخلاقه ونقتفي آثاره ونقلّد أفعاله هو الحبيب محمد ، وكما قال عنه شاعره حسّان:
إمامٌ لهم يهديهم الحقَّ جاهدًا ـــ مُعَلِّمُ صِدْقٍ وإن يطيعوه يَسْعَدُوا
لذلك سيكون حديثنا في الأسابيع القادمة ـ بإذن الله تعالى ـ عن سلسلة مواضيع في الأخلاق تحت عنوان: "النبي كأنّك تراه"، نوضّح من خلالها نماذج عملية من أخلاق النبي ؛ لنلتمس من سيرته العطرة النور الذي يضيء ظلامَ التخبّط الذي تعيشه الأمة الآن، ولنستنشق منها الرحيقَ المختوم لحياتنا، بدلاً من التأثّر بالأخلاق الغربية بريحها الذي زَكَم أنوفَنا بزَهَمِهِ ودَخَنِه، سائلين الله تعالى التوفيق والسداد، وأن يرزقنا حسن الأخلاق.
فإذا رُزِقَت خَلِيقةً محمودةً ـــ فقد اصطفاك مُقَسِّمُ الأرزاقِ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه، إنه هو البرّ الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4344)
النبي كأنك تراه (2): الأدب وحسن المعاملة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
التربية والتزكية, الشمائل, مكارم الأخلاق
محمد بن حمد الخميس
الدمام
13/6/1425
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الأدب. 2- سلوك النبي العملي مع زوجاته. 3- مواقف من حسن أخلاق النبي مع زوجاته. 4- سوء المعاملة من أكبر أسباب الطلاق. 5- سلوك النبي مع الأطفال.
_________
الخطبة الأولى
_________
نتناول بمشيئة الله في خطبتنا هذه وفي الأسابيع القادمة سلسلة ذهبية لأخلاق خير البرية محمد ، وهي بعنوان: "النبي كأنك تراه"، وأول الأخلاق العظيمة التي نتنسّم رحيقها من أخلاق النبي هو خلق الأدب وحسن المعاملة.
تعريف الأدب، قال ابن منظور رحمه الله: "سُمِّي الأدب أدبًا لأنه يؤدّب الناس ـ يجمع الناس ـ على المحامد وينهاهم عن القبائح"، وقال ابن القيم رحمه الله: "الأدب هو استعمال الخلق الجميل واستخراج ما في الطبيعة من كمال" اهـ.
ولقد كان نبينا أكمل الناس خلقًا وأجملهم أخلاقًا ، فقد طبّق بأفعاله أقواله وأظهر المعنى الحقيقي للإسلام كسلوك عملي يظهر أثره في معاملة الناس ومخالطتهم، فكان نِعم القدوة ونِعم الأسوة، كما قال الله سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. ونحن مأمورون باتباعه ، قال عزّ من قائل: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
أحبتي في الله، أعيروني القلوب والأسماع لنرى ونعي معالم منيرة في أدب النبي وإحسانه المعاملة لكل من عامله، ومن هذه المعالم سلوكه العملي مع زوجاته.
عن عائشة قالت: ما ضرب رسول الله بيده خادمًا له قطّ ولا امرأة، ولا ضرب رسول الله بيده شيئًا قطّ، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين أمرين قطّ إلا كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه حتى تنتهك حرمات الله عزّ وجل فينتقم لله. رواه البخاري.
أحبتي في الله، إن الله جعل الزوجة موضع السكن وموطن الرحمة للزوج، فقال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21]، وأمرنا بالإحسان إليها وحسن معاشرتها حتى وإن بدا منها ما نكرهه، فلعل الخير فيها ونحن لا نعلم، قال سبحانه: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
وقد ضرب النبي بأخلاقه أروع الأمثلة العملية في معاملة الزوجة، وجعل الخيرية فيمن أحسن معاملة زوجته، فقال : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) رواه الترمذي بسند صحيح.
جاء نسوة إلى الرسول يشكون أزواجهن، فأعلن الرسول على الملأ: ((لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم)) رواه أبو داود بسند صحيح.
كان الرسول قمّة شامِخة في حياته كلها، إذ ما كانت تشغله الأعباء الجسام التي ينهض بها لتكوين الأمة المسلمة وتوحيد الكتائب عن أن يكون زوجًا مثاليًّا مع زوجاته في حسن المعاشرة ودَمَاثَة الخلق، فمن ذلك ما ترويه عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله في سفر فسابقته فسبقته، فلما حملت اللحم وبَدُنَت سابقته فسبقها، فقال: ((هذه بتلك)) رواه أبو داود بسند صحيح.
أخلاق عالية، ومعاملة مثالية راقية، رسول الله يتسابق مع زوجته ليدخل عليها السرور والفرحة بهذه المعاملة الراقية، ليسمو بالحياة الزوجية لتكون أقدس علاقة وأقوى رباط، لا تزيدها العواصف والمشاكل الزوجية إلا قوة إلى قوتها، ويُشعِر الأمةَ بأن العلاقة الزوجية يجب أن تتجاوز التعامل من خلال الأوامر والنواهي فقط، ويجب أن لا تقتصر على المعاملة الحازمة الجادّة الجامدة، بل تتخطّاها إلى مزاح ظريف ولهو بريء وسباق يُدخِل السرور على القلوب والمرح على النفوس، وذلك لأن النفوس تملّ وتكلّ وتتعب وتنصب، وتحتاج إلى ما يريحها، وأكثر ما يريحها التعامل الراقي الذي ليس فيه انتقاص ولا احتقار ولا ازْدِراء.
روت عائشة أن النبي كان جالسًا فسمع ضَوْضَاء الناس والصبيان، فإذا الحبشة يرقصون، يعني بالحِرَاب، فقال: ((يا عائشة، تعالي فانظري)) ، فوضعت خدّي على مَنْكِبَيه، فجعل يقول: ((يا عائشة، ما شبعت؟!)) فأقول: لا؛ لأنظر منزلتي عنده، ولقد رأيته يُرَاوِحَ بين قدميه ، يعني من طول المدة. وفي رواية في الصحيحين: يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف.
إن المسلم حينما يتأمّل مثل هذه المواقف في حسن المعاملة فإنه يَحَار من عظمتها وسموها ورقيّها، ويتعجب من تبسّطه لإدخال السرور على أهله.
إنه الإسلام، هذا الدين العظيم الذي أمر الأزواج بحسن المعاملة مع الزوجات، فالمرأة تحتاج إلى من يتلطّف معها ويسعدها ويشيع فيها روح الأنس والرضا والرحمة، ويشعرها أنها في ظلّ زوج كريم يحميها ويرعاها، ويهتم بشؤونها، ويوفر لها حاجاتها المشروعة، ويتجمّل لها بالزينة التي أباحها الشرع، ويعطيها من وقته واهتماماته، فلا يشغل عنها وقته كله في أعماله أو هواياته أو مسئولياته أو أصحابه، فإن الإسلام راعى للمرأة هذه الحقوق، ولم يأذن للزوج بشغل وقته كله حتى ولو بالعبادة، كما قال : ((إن لزوجك عليك حقًّا)) حسّنه الألباني.
ولهذا كان النبي أفضل الناس في معاملته لزوجاته، فقد كان يراعي في عائشة ـ إذ كانت صغيرة ـ حُبَّها للّعِب، فلم يسفّهها، ولم يعنّفها، بل كان يُسَرِّبُ إليها البنات لكي يلعبن معها باللُّعَب، عن عائشة رضي الله عنها قالت: إنها كانت تلعب بالبنات عند رسول الله ، وقالت: كانت تأتيني صواحبي فكنّ يَنْقَمِعْنَ من رسول الله ، فكان رسول الله يُسَرِّبُهُن إليّ. رواه مسلم. يَنْقَمِعْنَ: يختفين منه حياءً وهَيْبةً.
ومن حسن معاملته لزوجاته إسماعُهُنّ ما يحلو لهنّ من كلمات الثناء والنداء العَذْبَة التي تحبّها النساء من الأزواج، فقد كان النبي يُثنِي على عائشة ويُرَخِّمُ نداءها، فعن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله يقول: ((فضل عائشة على النساء كفضل الثَّرِيد على سائر الطعام)) رواه مسلم، وروى البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله يومًا: ((يا عائش، هذا جبريل يُقْرِئك السلام)) ، فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته، ترى ما لا أرى ـ تريد رسولَ الله ـ. انظروا كان يُثنِي عليها، ويناديها باسم مُحَبَّبٍ عندها.
وكان من حسن معاملته إكرامُ صديقات زوجته بعد مماتها، عن عائشة قالت: كانت عجوز تأتي النبي فيَهِشُّ ـ الهَشَاشَة بالفتح: الارتياح والخِفّة للمعروف ـ ويكرمها، فقلت: بأبي أنت وأمي، إنك لتصنع بهذه العجوز شيئًا لا تصنعه بأحد! قال: ((إنها كانت تأتينا عند خديجة، أما علمتِ أنّ كَرَم الودّ من الإيمان؟!)) أورده المتقي الهندي في كنز العُمّال، وقال: "سنده صحيح".
نعم، إنّ كَرَم الودّ من الإيمان، وحسن معاملة الزوجة من الإيمان، والصبر عليها من الإيمان، فقد كان نساء النبي يراجِعْنَه الحديث وهو رسول الله ، وتهجره الواحدة يومًا كاملاً إلى الليل، وجرى بينه وبين عائشة كلامٌ حتى أدخل أبا بكر حَكَمًا بينهما. كل هذا مع جلالته وعظمته ، فأحسن إليهنّ، وصبر عليهنّ.
أحبّتي في الله، إنّ إحسان معاملة النساء والصبر عليهنّ كما كان يفعل رسول الله لهو كفيل بأن يملأ البيت بسحائب الرحمة، وأن يظلّه بظلال المحبة، ويبعد عنه غشاوة العداوة وضجيج الخلاف الذي يجعل شبح الطلاق مُخَيِّمًا فوق كثير من بيوتنا، فممّا لا يخفى على أحد زيادة معدّلات الطلاق في مجتمعنا، ورد في الدليل الإحصائي لوزارة العدل بالمملكة لعام 1423هـ أن نسبَة الطلاق بالمملكة مقارنة بعقود الزواج وصلت إلى 24 في المائة، بمعنى أنّ كلَّ ثلاث حالات زواج يقابلها حالة طلاق.
ولعل من أكبر أسباب ذلك هو سوء معاملة الزوج لزوجته، وعدم تفهّمه لطبيعة المرأة وطريقة تفكيرها، فهو في عمل وانشغال وخروج وانتقال وسفر وارتحال، يأمر وينهى، ويرغب ويتمنّى، كل ذلك يفكّر في نفسه فقط، ولم يوفّر الجو المناسب والمناخ الملائم للحياة الزوجية الآمنة، يغضب لأتفه الأسباب، ويقيم الدنيا ولا يقعدها حتى ولو في أمر الطعام أو الشراب، فإذا تأخّر الطعام أو لم تُوَفّق زوجته في إعداده ثار وغضب، وقد كان رسول الله لا يعيب طعامًا قط، إن أحبّه أكله، وإن كرهه تركه. رواه البخاري. وكان يلتمس الأعذار.
ألا فلنتق الله في زوجاتنا، ولنستوص بهنّ خيرًا، كما قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عَوَانٌ عندكم، ليس تملكون منهن شيئًا غير ذلك)).
ومن معالم حسن معاملته إحسان معاملة الأولاد، عن عبد الله بن بُرَيْدَةَ أن أباه حدثه قال: رأيت رسول الله يخطب، فأقبل حسن وحسين عليهما السلام وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل النبي فأخذهما فوضعهما في حِجْره، فقال: ((صَدَق الله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، رأيت هذين فلم أصبر)) ، ثم أخذ في خطبته. رواه أبو داود بسند صحيح.
إنه لَسلوك عظيم أن يحسن الإنسان معاملة أبنائه حتى في المواقف العظيمة، النبي ينزل من فوق المنبر وأمام الجموع ليحمل أسباطه صلوات الله وسلامه عليه، ثم يكمل خطبته.
ومن ذلك أيضًا ما رواه ابن ماجه أن يعلى بن مُرَّة حدّثهم أنهم خرجوا مع النبي إلى طعام دُعُوا له، فإذا حسين يلعب في السِّكَّة، قال: فتقدم النبي أمام القوم، وبَسَط يديه فجعل الغلام يفرّ ها هنا وها هنا، ويضاحكه النبي حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه والأخرى في فَأْس رأسه فقبّله، وقال: ((حسين مني وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسينًا، حسين سِبْطٌ من الأَسْبَاط)) ، وفَأْس الرأس أي: قَفَا الرأس. صحّحه الألباني. سبحان الله! يُضاحِك ولده بين أصحابه، ويقبّله بين جموع الرجال؛ ليعلّمهم كيف يعاملون أبناءهم.
ومن ذلك حمله لأولاده في الصلاة، عن أبي قتادة يقول: بينما نحن في المسجد جلوس خرج علينا رسول الله يحمل أُمَامَة بنت أبي العاص بن الربيع وأمها زينب بنت رسول الله ، وهي صبيه يحملها على عاتقه، فصلى رسول الله وهي على عاتقه؛ يضعها إذا ركع، ويعيدها إذا قام، حتى قضى صلاته، يفعل ذلك بها. أخرجه البخاري.
مَن منّا يصبر على ولده في الصلاة كما يفعل النبي ؟! مَن منّا يحسن المعاملة مع ولده كما يفعل النبي ؟!
فإذا رحمتَ فأنت أمٌّ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرُّحَمَاءُ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه، إنه هو البرّ الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4345)
النبي كأنك تراه (3): العفو
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
التربية والتزكية, الشمائل, مكارم الأخلاق
محمد بن حمد الخميس
الدمام
18/7/1425
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف العفو وكظم الغيظ. 2- عفو النبي عن أخطاء زوجاته. 3- عفو النبي عن أخطاء خادمه. 4- عفو النبي عمن أساء إليه. 5- تمني النبي الخير لمن أساء إليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، ما زلنا سويًّا نَنْهَلُ من سيرة النبي العطرة، نقطف من بستان أخلاقه الزهرة تلو الزهرة، ونتنسّم من شمائله العَذْبة النقيّة ما نصلح به سلوكنا، ونقوّم به حياتنا، ونرفع به درجاتنا.
وحديثنا اليوم عن خلق عظيم من أخلاقه العظيمة التي وصفها الله جميعها بالعظمة، حيث قال سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. سنتحدّث اليوم عن خلق كَظْم الغيظ والعفو عند المقدرة.
والغيظ هو سَوْرَةُ الغضب وشدّته، مما يحدث تغيّرًا في نفس المغتاظ نتيجة حرارة ثوران دمه ورغبته في الانتصار، وكَظْم الغيظ هو حفظ النفس وكفّ الغضب الشديد عن إمضائه مع القدرة على إيقاعه، أما العفو فهو الصّفح وعدم المعاقبة على الجَرِيرَة والخطأ.
ولقد نال النبي من هذا الخلق أعلاه وأرفعه، وأظهر من آيات الصفح والعفو جميلها وجليلها، فقد عفا النبي عن أخطاء من أساء إليه، سواء كان المخطئ قريبًا أو بعيدًا، عدوًّا أو صديقًا، ما لم يكن مُنتهِكًا لحرمات الله، كما قال عنه أنس بن مالك: وما انتقم رسول الله لنفسه قط، إلا أن تُنتهَك حرمة لله فينتقم. رواه مسلم.
فهَلُمّ بنا لنرى صفحات مضيئة من عفو النبي ، وأول هذه الصفحات عفوه عن أخطاء زوجاته.
روى البخاريّ عن عائشة: كان المسلِمون يعلَمون حُبَّ رسول الله لعائشة، فإذا أراد أحدهم أن يهديَ إلى رسول الله هديّة أخَّرَها، حتى إذا كان رسول الله في بيت عائشة بعث صاحب الهدية إلى رسول الله في بيت عائشة، فأرسلت زوجاتُ النبي أمَّ سلمة يطلبن منه أن يأمر الصحابة أن يرسلوا هداياهم مع النبي حيث كان، ففعلت، فقال لها: ((لا تؤذيني في عائشة؛ فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة ـ يعني فراشها ـ إلا عائشة)) ، فقالت: أتوب إلى الله ورسوله، ثم أرسلن فاطمة، فقال لها: ((يا بُنيّة، ألا تحبّين ما أحب؟!)) قالت: بلى، فرجعت وأخبرتهنّ بما يحب رسول الله، فأرسلن زينب بنت جحش رضي الله عنها ـ وكانت بها حِدَّة رحمها الله ـ فأتت النبي فأغلظت، وقالت: إن نساءك ينشدنك العدل في بنت أبي قُحَافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبّتها، تقول عائشة: وأنا أرقب رسول الله، وأرقب طَرْفَه: هل يأذن لي فيها؟ فلم تبرح زينب حتى عرفتُ أن رسول الله لا يكره أن أنتصر، قالت: فلما وقَعْتُ بها لم أَنْشَبْها ـ لم أُمْهِلها ـ حتى أَنْحَيتُ عليها ـ أَفْحَمْتُها ـ، فتبسّم رسول الله وقال: ((إنها ابنة أبيها, إنها ابنة أبي بكر)).
انظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيف عرف رسول الله طبيعة المرأة وضعفها في المواقف وسرعة ثورتها، حتى إنها لم تدرك وصفها لرسول الله بترك العدل، بل وأسرعت إلى عائشة وسبّتها ورسول الله جالس، بل وأغلظت القول للنبي بأكثر من ذلك، وعلى الرغم من هذا كله لم يؤاخذها ولم يعاتبها، بل ترك المجال لعائشة أن تدفع عن نفسها، وعفا هو عن حقّه.
ومن ذلك أيضًا ما حَدَث من عائشة عندما أهدت بعض زوجات النبي إليه قَصْعَة بها طعام ـ وهو في بيت عائشة ـ فغارت عائشة رضي الله عنها، وكسرت الصَّحْفَة، فقال النبي: ((غارت أمكم، غارت أمكم)) ، ثم قال: ((صَحْفَة مكان صَحْفَة، وإناء مكان إناء)) أخرجه البخاري.
ومن صفحات عفوه عفوه عن خادمه ، عن أنس بن مالك قال: خدمت النبي عشر سنين، فما قال لي قط لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ رواه مسلم. لا شكّ أن الخادم يخطئ، وتتعدّد أخطاؤه، ولكن مع العفو تقلّ هذه الأخطاء حتى تكاد تنعدم. فهذا رسول الله طيلة عشر سنين لم يؤاخذ أنسًا على خطأ فعله، حتى إن أنسًا ـ كما ورد في روايات صحيحة ـ طلب منه رسول الله فعل شيء فأقسم أنس أن لا يفعله، ومع ذلك لم يعنّفه رسول الله، ولم يعاقبه، بل طلب منه برفق في وقت آخر ففعله.
أيها الأحبة في الله، إن الخدم فئة من إخواننا، جعلهم الله تحت أيدينا، وأمرنا بالإحسان إليهم، نطعمهم مما نطعم، ونسقيهم مما نشرب، ولا نكلّفهم فوق طاقتهم، فإن كلّفناهم فوق طاقتهم فلنُعِنْهُم عليه، قال : ((إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)) أخرجه البخاري. فإن أخطأ الخدم فلا نسارع إلى عقوبتهم، ولنعفو عنهم ونصفح، حتى ولو تعدّد منهم الخطأ.
عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام فصمت، ثم أعاد عليه الكلام، قال : ((اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)) رواه أبو داود وصحّحه الألباني.
من صفحات عفوه عفوه عمن أساء إليه، عن أنس قال: كنت أمشي مع رسول الله وعليه بُرْد نَجْرَانِي غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجَبَذَهُ بردائه جَبْذَة شديدة، فنظرت إلى صَفْحَة عاتِق النبي وقد أثّرت به حاشية الرداء من شدة الجَبْذَة، ثم قال: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت النبي إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء. أخرجه البخاري. سبحان الله! رجل غليظ الطباع سيئ المعاملة يؤلم النبي ولا يحسن المعاملة، ومع ذلك يضحك النبي في وجهه، ويأمر له بالعطاء، يكظم غيظه ويعفو، بل ويتفضّل بالعطاء.
عن جابر بن عبد الله قال: غزوت مع النبي قِبَل نجد، فلما قَفَل رسول الله قَفَلْتُ معه، فأدرَكَتهم القَائِلةُ في واد كثير العَضَاة، فنزل رسول الله تحت شجرة وعلّق بها سيفه، ونمنا نومة، فإذا رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابي، فقال: ((إن هذا اختَرَط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا، فقال: من يمنعك مني؟ فقلت: الله، فسقط السيف من يده)) فأخذ النبي السيف، وقال: ((من يمنعك مني؟)) فقال: كن خير آخذ، فعفا عنه النبي ولم يعاقبه. رواه البخاري.
تأمل ـ يا رعاك الله ـ إلى هذه الأخلاق السامية الفاضلة، يكظم غيظه عمن أراد قتله، ثم يعفو عنه، فهو يعلم الجزاء العظيم لمن كظم غيظه، قال : ((من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيّره من الحور العين ما شاء)) رواه الترمذي بسند حسن.
لم يتوقف عفو النبي على ترك عقوبة من أساء إليه، بل إنه يتمنّى له الخير، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت لرسول الله : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العَقَبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كِلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقَرْن الثَّعَالِب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني، فقال: إن الله عزّ وجلّ قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني مَلَك الجبال وسلّم عليّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا مَلَك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أُطْبِقَ عليهم الأَخْشَبَين؟)) فقال له رسول الله : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك)) رواه البخاري.
فعلى الرغم من شدة إيذائه إلا أنه تمنّى لهم الخير، ولم يُرِد بهم الضر، بل بلغ عفوه أنه كان يدعو للقوم بعد ما أصابوه في غزوة أحد، عن ابن مسعود قال: كأني أنظر إلى النبي يحكي نبيًا من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه قومه فأَدْمَوه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)) رواه البخاري. دعا بهذا نوح عليه السلام، ثم رسول الله في غزوه أحد.
وأعظم من ذلك عفوه عن أهل مكة الذين آذوه وآذوا أصحابه، بل وأخرجوه منها وهو كاره، كما قال : ((والله، لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)) حديث صحيح. وبعد أن مَكَّنه الله من رقابهم عفا عنهم.
نسأل الله أن يرزقنا العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه، إنه هو البرّ الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4346)
النبي كأنك تراه (4): اللين والرفق
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
التربية والتزكية, الشمائل, مكارم الأخلاق
محمد بن حمد الخميس
الدمام
25/7/1425
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الرفق ومنزلته. 2- حث النبي على الرفق. 3- رفق النبي بنسائه. 4- رفق النبي بأبناء المسلمين. 5- رفق النبي بالجاهل. 6- رفق النبي بعامة المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن الإنسان لا يتميّز في إنسانيته عن غيره إلا بقلبه وروحه، لا بأكوام لحمه وعظامه، فبالقلب والروح يعيش الإنسان ويشعر وينفعل ويتأثّر ويرحم ويتألّم، بل ويكون من الأحياء.
أقْبِلْ على النفس فاستكمل فضائلَهَا فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ
وإن من أبرز مظاهر تميّز الإنسان وسموّ أحاسيسه اتصافه باللين والرفق، فاللين والرفق صورتان من صور كمال الفطرة وجمال الخلق التي تحمل صاحبها على البر والتقوى، قال الغزالي رحمه الله: "الرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق" اهـ.
ولقد كان النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه أرفق الناس وألين الناس، كما شهد بذلك فعله وسلوكه وأخباره ، فقد كان يحب الرفق، ويحث الناس على الرفق، ويرغّبهم فيه، عن أبي الدرداء عن النبي قال: ((من أُعطِيَ حظَّه من الرفق فقد أُعطِيَ حظَّه من الخير، ومن حُرِم حظَّه من الرفق حُرِم حظَّه من الخير)) رواه الترمذي بسند حسن صحيح.
فالرفق خير كله، يهدي الله إليه من يشاء، ويصرف عنه من يشاء، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: ((إذا أراد الله بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق)) رواه أحمد وصحّحه الألباني.
وكان النبي يحثّ الناس على الرفق، ويرغّبهم فيه، وخصَّ من وَلِيَ أمرًا من أمور أمته بالذكر حتى في دعائه، فقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله يقول في بيتي هذا: ((اللهم من وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه، ومن وَلِيَ من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم فارفق به)) رواه مسلم.
ولم يقف أمر النبيّ بالرفق عند حد الإشارة إليه بالقول، ولكن أراد أن يهدي الناس إليه بفعله، وما أدراك ما رفق النبي ! إنه الشمس في واضِحَة النهار، والبدر المنير في حَالِك الظلام، ولا يحتاج إلى ما يدلّل عليه.
وليس يصحُّ في الأذهان شيءٌ إذا احتاج النهارُ إلى دَليلِ
كان النبي أرفق الناس وأرغبهم في الرفق، يرفق بالإنسان والحيوان والطير ، بل يرفق حتى بأعدائه ، فمن مظاهر رفقه ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا. رواه مسلم. فكان الرفق سلوكًا ومنهجًا يتعامل به في كل حياته.
ومن ذلك رفقه بنسائه، روى مسلم في صحيحه عن أنس أن النبي أتى على أزواجه وسَوَّاق يسُوقُ بهنّ يُقال له: أَنْجَشَة، وكان يَحْدُو للإبل ببعض الشعر حتى تسرع على حِدَائه، فقال له النبي : ((ويحك يا أَنْجَشَة، رُوَيدًا سَوْقَك القوارير)) ، وفي رواية: ((لا تكسر القوارير)) ، يعني نساءه ، فأمره بالرفق في السير بهن، قال أبو قِلابَة: "تكلّم رسول الله بكلمة لو تكلّم بها بعضكم لعِبْتُمُوها عليه"، وفي رواية: (( يا أَنْجَشَة، لا تكسر القوارير)) ضَعَفَة النساء، وأَنْجَشَة كان أحد عبيد النبي. قال العلماء: سمّى النساءَ قواريرَ لضعف عزائمهنّ تشبيهًا بقارورة الزجاج لضعفها وإسراع الانكسار إليها؛ لأن النساء يضعفن عند شدّة الحركة، ويُخَاف ضررهنّ.
ومن رفقه بنسائه أن يوقف الجيش حتى تبحث عائشة عن عِقْد لها فقدته، عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبَيْدَاء ـ أو بذات الجيش ـ انقطع عِقْد لي، فأقام رسول الله على التِمَاسِه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟! أقامت برسول الله وبالناس معه وليسوا على ماء، ليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبستِ رسول الله والناس ليسوا على ماء، وليس معهم ماء، قالت: فعاتبني أبو بكر، وقال ما شاء الله أن يقول، وجعل يطعن بيده في خَاصِرَتِي، فلا يمنعني من التحرّك إلا مكان رسول الله على فخذي، فقام رسول الله حتى أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمّم فتيمّموا، فقال أُسَيد بن الحُضَيْر وهو أحد النُّقَبَاء: ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر، فقالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العِقْد تحته. رواه البخاري.
تأمل يا عبد الله، قائد جيش وإمام أمة يوقِف الجيشَ والماء يكفي شربهم فقط، وذلك رفقًا بزوجته حتى تبحث عن عِقْدها الذي فقدته، فيكون ذلك الرفق وهذا الحبس للجيش سبب رحمة للجيش وللأمة جميعًا بنزول آية التيمّم.
ومن مظاهر رفقه بأهله أنه كان إذا هَوِيت زوجته الشيء تابعها عليه، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع النبي ولا نرى إلا أنه الحج، فلما قدمنا تطوّفنا بالبيت، فأمر النبي من لم يكن ساق الهدي أن يحل، فحل من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن فأحللن، قالت عائشة رضي الله عنها: فحضت، فلم أطف بالبيت، فلما كانت ليلة الحَصْبَة قالت: يا رسول الله، يرجع الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة؟! قال: ((وما طفت ليالي قدمنا مكه؟)) قلت: لا، قال: ((اذهبي مع أخيك إلى التنعيم فأهِلّي بعمرة، ثم موعدك كذا وكذا)) رواه مسلم، وفي رواية زاد في الحديث: قال الراوي: وكان رسول الله رجلاً سهلاً إذا هَوِيت الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر فأهَلّت بعمرة من التنعيم.
وكان من مظاهر رفقه رفقه بأبناء المسلمين، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الآخر، ثم يضمهما، ثم يقول: ((اللهم ارحمهما، فإني أرحمهما)) رواه البخاري، وعن جابر بن سمرة قال: صليت مع رسول الله صلاة الأولى، ثم خرج إلى أهله وخرجت معه، فاستقبله وِلْدَان، فجعل يمسح خدَّي أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدّي، قال: فوجدت ليده بردًا أو ريحًا كأنما أخرجها من جُونَة عطّار. رواه مسلم.
وكان من مظاهر رفقه رفقه بالأمهات حتى في الصلاة، عن أنس أن النبي قال: ((إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، وأسمع بكاء الصبي فأتجوّز؛ مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه)) رواه البخاري. ما أعظم هذه الرحمة! وما أجلّ هذه الشفقة!
ولله درّ القائل فيه :
وإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌ هذان في الدنيا هما الرحماءُ
ومن مظاهر رفقه رفقه بالجاهل، عن أنس قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله : مَهْ، مَهْ، فقال النبي : ((لا تُزْرِمُوه، دعوه)) ، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله دعاه فقال له: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن)) رواه الترمذي بسند صحيح. انظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيف رفق بهذا الأعرابي الجاهل، ولم يعنّفه، بل ونهى أصحابه أن يقعوا به.
يا أيّها الأمّي حسبُك رُتبةً في العلم أنْ دانت بك العلماءُ
وقد أحسن من قال عنه :
إمامٌ يهديهمُ الْحقَّ جاهِدًا مُعلّم صِدْق وإن يطيعوه يَسْعَدُوا
عَفُوٌّ عن الزلاّت يقبل عذرَهم وإن يُحسنوا فاللَّهُ بالخير أجودُ
ومن مظاهر رفقه رفقه بالمسلمين عامة، عن أبي مسعود الأنصاري قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، لا أكاد أدرك الصلاة مما يطوّل بنا فلان، فما رأيت النبي في موعظة أشد غضبًا من يومئذ، فقال: ((أيها الناس، إنّ منكم لمنفرّين، فمن صلى بالناس فليخفّف؛ فإن فيهم المريض والضعيف وذا الحاجة)) رواه البخاري. ومن ذلك لما أخبرته عائشة عن امرأة عندها ذكرت من صلاحها أنها أعبد أهل المدينة، وقيل: إنها تقوم الليل ولا تنام أبدًا، فقال لها النبي : (( مَهْ، عليكم بما تطيقون، فو الله لا يملّ الله حتى تملّوا)) رواه البخاري.
فنسأل الله أن يرفق بنا، ويرزقنا الرفق، إنه برّ رؤوف رفيق رحيم.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4347)
النبي كأنك تراه (5): الإيثار
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
التربية والتزكية, الشمائل, مكارم الأخلاق
محمد بن حمد الخميس
الدمام
3/8/1425
جامع الهدى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الإيثار. 2- صور من إيثار النبي. 3- الإيثار من علامات الإيمان. 4- صور من الإيثار في مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
ثم أما بعد: أيها الأحبة، حديثنا اليوم عن هدي جميل وسلوك حميد وخلق عظيم من أخلاقه ، وهذا الخلق هو الإيثار.
والإيثار هو تقديم الإنسان غيره على نفسه فيما هو في حاجة إليه من أمور الدنيا ابتغاء ثواب الآخرة، فهو أعلى درجات المعاملة مع الناس، يجلب حبّهم، ويطرد غضبهم، ويُذهِب حسدهم، فضلاً عما يجده صاحب الإيثار من الثواب الكبير والأجر العظيم والخير العَمِيم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أحبتي في الله، لقد بلغ رسول الله في الإيثار ذروته وقمّته، إذ كان أجود الناس بالخير قليله وكثيره، فقد كان كما قال الشاعر:
مُتَيَّمٌ بالنَّدَى لو قال سائلُه: هَبْ لي جميعَ كَرَى عَيْنَيْكَ لم يَنَمِ
تروي لنا سيرته العطرة صورًا من إيثاره كشمس مُشرِقة في نهار السالِكين ونجم ساطع في ليل المهتدين، ومن ذلك إيثاره أصحابه على نفسه وهو جائع، الرسول كان يؤثر أصحابه الفقراء بشرب اللبن قبله، ولم يشرب إلا ما فضل بعدهم، وكان جائعًا مثلهم ، روى البخاري عن أبي هريرة قال: والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرّ أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثم مرّ بي أبو القاسم فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، قال: ((أبا هريرة)) ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الْحَقْ)) أي: اتبعني، ومضى فتبعته، فدخل فاستأذن فأُذِن لي، فدخل فوجد لبنًا في قَدَح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟)) قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: ((أبا هريرة)) ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الْحَقْ إلى أهل الصُّفَّة فادعهم لي)) ، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصُّفَّة؟! كنت أنا أحق أن أصيب من هذا اللبن شَرْبَة أتقوّى بها، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بُدّ، فأتيتهم فدعوتهم، فأقبلوا فاستأذنوا، فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: ((أبا هريرة)) ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم)) ، قال: فأخذت القَدَح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يَرْوَى، ثم يردّ عليّ القَدَح، ثم أعطيه الآخر فيشرب حتى يَرْوَى، حتى انتهيت إلى النبي وقد رَوِيَ القوم كلهم، فأخذ القَدَح فوضعه على يده، فنظر إليّ فتبسّم، فقال: ((أبا هريرة)) ، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((بقيت أنا وأنت)) ، قلت: صدقت يا رسول الله، فقال: ((اقعد فاشرب)) فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب)) فشربت، فما زال يقول: ((اشرب)) حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مَسْلكًا، قال: ((فأرني)) ، فأعطيته القَدَح، فحَمِدَ الله وسمّى، وشرب الفَضْلَة. رواه البخاري.
وفي الحديث ـ زيادة على إيثاره أصحابَه ـ تربيةُ غيره على الإيثار؛ لأن أبا هريرة هو الذي تعرّض للرسول لشدة جوعه، يريد الحصول على ما يقيم صُلْبَه، فجعله ينادي أهل الصُّفَّة، وطلب منه أن يسقيهم كلهم قبله، وهذا ما كان يخافه أبو هريرة، ولأنه خاف نفاد اللبن، فكثّره الله تكريمًا لرسوله.
من ذلك إيثاره بثياب يحتاج إليها، وإعطاؤها لرجل من المسلمين، روى البخاري عن سهل بن سعد قال: جاءت امرأة إلى النبي بِبُرْدَة مَنْسُوجَة فيها حاشِيَتُها، فقالت: يا رسول الله، أكسوك هذه، فأخذها النبي محتاجًا إليها، فرآها عليه رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله، ما أحسن هذه فاكسنيها، فقال: ((نعم)) ، فلما قام النبي لامَه أصحابُه، وقالوا: ما أحسنتَ حين رأيتَ النبي أخذها محتاجًا إليها ثم سألتَهُ إياها وقد عرفتَ أنه لا يُسأل شيئًا فيمنعه، فقال: رجوت بركتها حين لبسها رسول الله لعلّي أكفّن فيها. رواه البخاري.
ما قال: لا قَطّ إلا في تشهّده لولا التشهّدُ كانت لاؤُهُ نَعَمُ
أحبّتي في الله، الإيثار هو علامة الإيمان والمظهر الخارجي للحب الصادق تجاه الإخوان، حيث التفاني والتضحية من أجل الآخرين لوجه الله، والمؤمن الصادق هو الذي يقدّم نفسه للخَطَر ليسلَم الآخرون، ويؤخّرها عند المكاسب ليغنموا، والمؤمن الصادق هو الذي يُتعِب نفسه من أجل راحة الآخرين، ويسهر ليله حتى ينام إخوانه، وهو لا يقيم وزنًا لحطام الدنيا حتى يقاتِل عليه أو ينفرد به.
فالأنصار لم يحبّوا إخوانهم المهاجرين ويتطهروا من الحسد تجاههم فحسب، بل وآثروهم على أنفسهم، ووصلوا من الإيثار سَنَامَه حينما تنازلوا عن حظّهم من الغنيمة رغم حاجتهم الشديدة، قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، فهم لم يجعلوا عَوَزَهُم وحاجتهم الشديدة تبريرًا لترك الإيثار.
ولا يغيب عنا أن الإيثار هو قمة الفضيلة، وأن بلوغها بحاجة إلى عملية تربوية متواصلة، وذلك بالاستعاذة بالله سبحانه من الحرص والبخل وشُحّ النفس، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. فبالقدر الذي يسعى الإنسان إلى المزيد من العلم والتقدّم ينبغي أن يسعى إلى تزكية نفسه وكمال أخلاقه، وإنما اعتبر القرآن الوقاية من شُحّ النفس هي الفلاح؛ لأن شُحّ النفس رأس كل خطيئة وانحراف في حياة الإنسان، فهو أساس الكفر والشرك والظلم والحسد، قال : ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُّحّ؛ فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على سَفْك دمائهم واستحلال محارمهم)) رواه مسلم. شُحّ النفس يؤدي إلى الأنانية وحبّ الذات، وهذا يؤدي بشكل طبيعي إلى الحسد والظلم.
ومجتمع الصحابة ضرب للبشرية أروع الأمثلة في الإيثار والبُعد عن شُحّ النفس، روى الإمام البخاري أنه لما قدم المهاجرون المدينة آخى رسول الله بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الرَّبِيع، قال سعد لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالاً فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلّقها، فإذا انقضت عدّتها فتزوجها، قال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلّوه على سوق بني قَيْنُقَاع، فما انقلب إلا ومعه فضل من أقط وسمن، ثم تابع الغُدُو، ثم جاء يومًا وبه أثر صُفْرَة، فقال النبي : ((مَهْيَم؟!)) قال: تزوجت، قال: ((كم سُقْتَ إليها؟)) قال: نَوَاة من ذهب. رواه البخاري.
إن سعدًا لم يكتف بعرض نصف ماله على أخيه عبد الرحمن بن عوف ، وكان المال كافيًا للنفقة على نفسه ولأداء مهر لامرأة يتزوجها والإنفاق عليها، لم يكتف سعد بذلك، بل أراد أن يتساوى هو وأخوه في الإسلام في كل ما يملك. وإذا كان سعد الأنصاري قد وصل إلى تلك القمة من الإيثار، فإن عبد الرحمن المُهَاجِرِي قد وصل إلى قمة الزهد والقناعة والاستغناء بالله عن الناس، فآثر أن يسعى بنفسه في كسب رزقه حتى أغناه الله.
إن المجتمع الذي يوجد فيه من يُؤثِر غيره على نفسه كما يوجد فيه من يزهد فيما عند غيره ويقتنع بما يؤتيه الله ويفضّل أن يُنفِقَ على نفسه من كَسْب يده، إنّ هذا المجتمع جدير بأن يعيش في أمن واستقرار، يظله الحب والتعاون والوئام.
ومن الأمثلة الرائعة للإيثار في مجتمع أصحاب رسول الله قصة الأنصاري وامرأته مع ضيف رسول الله ، حيث آثراه بقوت صبيانهما الصغار، وباتوا طَاوِين من أجل إشباع الضيف، روى الإمام البخاري عن أبي هريرة : أن رجلاً أتى النبي فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله : ((من يضيف هذا؟)) فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله ، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوّمي صبيانك، فهيّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونوّمت صبيانها، ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طَاوِيين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله فقال: ((ضحك الله الليلة، أو عجب من فعالكما)) ، فأنزل الله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. رواه البخاري مسلم. إن النفس الزكيّة هي التي تظهر شفافيتها عند مواطن الاختبار والاعتبار، فهي تجود حتى بزادها، وتؤثر على نفسها حتى بأعزّ ما تملك.
وقدمت لنا أم المؤمنين عائشة صورًا في إيثارها مشرفة كالأكاليل في رؤوس الأعمال، ومن ذلك ما رواه البخاري عن عمر قال لابنه عبد الله: اذهب لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل لها: إن عمر يقرئك السلام، ثم سَلْها أن أدفن مع صاحبي في قبر النبي وقبر سيدنا الصديق وقبر فارغ، السيدة عائشة تركته لنفسها؛ لأنه قبر والدها وزوجها، هذا القبر الفارغ رغب فيه سيدنا عمر، فقال: استأذن لي أم المؤمنين عائشة، ثم سلها أن أدفن مع صاحبي، قالت: والله كنت أريده لنفسي، فلأوثرنه اليوم على نفسي.
إن حب المرأة لزوجها المحسن إليها بعد موته يتضاعف، وتتمنّى دائمًا أن تدفن بجواره، فكيف إذا كان هذا الزوج هو رسول الله ؟! إن الإنسان إذا ضَنَّ بشيء مثل هذا لا يُلام عليه، ومع ذلك فإن أُمّنا عائشة رضي الله عنها آثرت أميرَ المؤمنين عمر، وأذنت له أن يدفن بجوار رسول الله وبجوار أبيها، وقدمت بذلك أروع أمثلة الإيثار رضي الله عنها.
ولها رضي الله عنها موقف عظيم آخر في الإيثار يرويه الإمام مالك في الموطأ أنه بلغه عن عائشة زوج النبي أن مسكينًا سألها وهي صائمة وليس في بيتها إلا رغيف، فقالت لمولاة لها: أعطيه إياه، فقالت: ليس لك ما تفطرين عليه! فقالت: أعطيه إياه، قالت: ففعلت، قالت: فلما أمسينا أهدى لنا أهلُ بيت شاة، فدعتني عائشة، فقالت: كلي من هذا، فهذا خير من قُرْصِك. وبهذه النماذج المنيرة والمواقف العطرة امتلأت سيرة أتباع النبي.
فمن نوادر القصص في الإيثار ما أورده القرطبي قال: قال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رَمَقٌ سقيته، فإذا أنا به، فقلت له: أسقيك؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا أنا برجل يقول: آه آه، فأشار ابن عمي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فأشار أن نعم، فسمع آخر يقول: آه آه، فأشار هشام أن انطلق إليه فجئته فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
ما أعظم الإيثار في هذه اللحظة! وما أجلّ هذه الشَّرْبة الهنيئة التي سيتجرّعها كلُ واحد منهم في الجنة بإذن الله بسبب إيثاره لإخوانه بالشراب قبله حتى وافته المنية!
اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنّا بعدهم، ولا تحرمنا أجر الإيثار مثلهم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4348)
روضة الصائمين
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل القرآن. 2- حالنا مع القرآن. 3- آداب قراءة القرآن. 4- هجر القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نعم إنه روضة الصائمين وسلوة الطائفين ودليل السالكين ولذة قلوب المتقين، إنه كلام رب العالمين المنزّل على سيد المرسلين بلسان عربي مبين هدى للمتقين ونورا للمؤمنين، ((أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)).
والقرآن في رمضان له مذاق خاص؛ فهو روضة الصائمين وحداء القائمين ولهج القانتين العابدين. القرآن أعظم أنيس ونديم وخير جليس، هو حلاوة وجمال وعِزّ وكمال. القرآن محض سعادة الإنسان ومديم الخير والبركة والإحسان، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
يا صائمون، هل ترومون روضة فيها أطايب النعم ونفائس المنن، وفيها ما لذ وطاب، أغنى عن الأخلة والأحباب، إنها روضة القرآن، غاية السعادة ومنتهى اللذة والسرور.
كرم عظيم جليل، تذرف منه العيون، وتصدع القلوب، وتقشعر الجلود، ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [فصلت:21]. وإذا كانت هذه حال الصخور الصماء تخشع وتتصدع لو أنزل عليها القرآن فقل لي بربك يا محب: ما هي حال قلوبنا مع كتاب ربنا؟! كم مرة قرأنا القرآن في رمضان؟! وكم سمعنا فيه من حكم ومواعظ وعبر؟! ألم نقرأ صيحة عاد وصاعقة ثمود وخسف قوم لوط؟! ألم نقرأ الحاقة والزلزلة والقارعة وإذا الشمس كورت؟! فيا سبحان الله! ما هذا الران الذي على القلوب؟! أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
أفَقُدَّت قلوبنا بعد ذلك من حجر، أم خلقت من صخر صلد؟! ألا فليت شعري، أين القلب الذي يخشع والعين التي تدمع؟! فللَّه كم صار بعضها للغفلة مرتعا وللأنس والقربة خرابا بلقعا، وحينئذ لا الشباب منا ينتهي عن الصبوة ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا في الخلوة والجلوة، وصار بيننا وبينه كما بين الصفا والمروة، فلا حول ولا قوة إلا بالله. أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:24، 25].
يا صائمون، القرآن عِزُّكم وشرفكم، فاقرؤوه حق قراءته تغنموا وتسعدوا وتفوزوا بالثواب الكبير والنعيم المقيم، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]. ولما تركت الأمة العمل بالقرآن أصابها الذل والهوان.
أخي الحبيب، قراءة القرآن مطلوبة ومرغوبة في كل وقت وحين، ففيها عظيم الأجر وكبير الفضل وجزيل النوال، وفي رمضان يعظم تأكدها ويزداد نفعها وخيرها وبركتها، فخليق بالصائمين أن يجعلوا جُلَّ وقتهم مع كتاب ربهم، وفي الحديث: ((من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول: آلم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)).
عباد الله، هذه بعض آداب قراءة القرآن:
أولاً: الإخلاص، فيجب على قارئ القرآن أن يخلص في قراءته ويبتغي بذلك وجه الله، وفي الصحيح: ((إن أول من يقضى يوم القيامة ـ وذكر منهم ـ رجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمة فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: عالم وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار)).
ثانيًا: ينبغي لقارئ القرآن أن يتنظف ويتطهر ويستاك.
ثالثًا: أن يبدأ القارئ قراءته بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم؛ وذلك لأنه طهارة للفم من اللغو والرفث، فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]. أما إذا كان القارئ سيقرأ سورة من بدايتها فليقل بعد الاستعاذة: بسم الله الرحمن الرحيم.
رابعًا: أن يحسن القارئ صوته بقراءة القرآن، فعن البراء بن عازب أن رسول الله قال: ((زينوا القرآن بأصواتكم؛ فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا)) رواه الحاكم وصححه الألباني.
خامسًا: التخشع أثناء القراءة، فلا ينبغي للقارئ أن يقرأ كتاب ربه وهو على حال لا تدلّ على خشوعه أو تأثره، أو كأنه يقرأ صحيفة أو مجلة، بل على المسلم أن يقرأ القرآن ويستحضر أن القرآن يخاطبه وأنه المقصود بالخطاب، ويقرأ بتلاوة مجودة، ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أن رجلا قال له: إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة، فقال عبد الله: هَذًّا كَهَذِّ الشعر، إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع. وذكر شعبة رحمه الله أن أبا جمرة قال لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، وربما قرأت القرآن في ليلة مرة أو مرتين، فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة واحدة أعجب إلي من أن أفعل ذلك الذي تفعل، فإن كنت فاعلا ولا بد فاقرأ قراءة تسمع أذنيك ويعيها قلبك. وقال النبي : ((لا يفقه من قرأ القرآن أقل من ثلاث)). وذكر ابن رجب رحمه الله أن هذا النهي في غير الأوقات الفاضلة كرمضان، ولا يعني هذا أن يكون هَمُّ المؤمن في قراءة القرآن تكثير الختمات، بل ينبغي للمسلم الموفق أن لا يجفو فيمضي عليه الشهر ولم يختم كتاب الله، وأن لا يغلو فيتعدّى هدي النبي.
فاحرص ـ يا عبد الله ـ على تدبر القرآن، فإن الغاية من إنزال القرآن هو تدبره والعمل به، قال الحسن البصري رحمه الله: "نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا".
ثم إياك إياك والحذر الحذر من هجران القرآن والإعراض عن قراءته وتدبره والعمل به، يقول ابن القيم: "هجران القرآن أنواع، أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه، والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به، والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم، والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منا، والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فلا يطلب الشفاء والتداوي به، وكل هذا داخل في قوله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض".
وصلى الله على نبينا محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4349)
أي رمضان رمضانك؟!
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
التربية والتزكية, الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن إبراهيم السبر
العريجاء
جامع الأميرة موضي السديري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أماني الأنفس قبل رمضان. 2- شذرات من فضائل رمضان. 3- من ثمرات الصيام. 4- أصناف الناس في استقبال شهر رمضان. 5- ما ينبغي أن نكون عليه في رمضان. 6- رمضان فرصة حقيقية للتغيير.
_________
الخطبة الأولى
_________
لطالما حدثْنا أنفسنا باهْتِبَال فرصة رمضان، ولكم مَنَّيْنَاها بصلاحها فيه، ولطالما عاهدنا أنفسنا قبل دخوله بأَوْبةٍ حَقّةٍ وتوبةٍ صادقةٍ ودمعةٍ حارةٍ ونفسٍ متشوّقةٍ، ولكن كلما أتى قضى الشيطانُ على الأمنية، وخَاسَتِ النفسُ الأمارةُ بالسوء بعهدها وغدرت، فثابت لياليَ ورجعت أيامًا، ثم عادت لسالف عهدها كأنْ لم تَغْنَ بنور رمضان وضيائه.
وها نحن ـ أيها الأحبة في الله ـ يطالعنا شهرٌ وموسمٌ من الخير جديد، فأيُ رمضانٍ يكونُ رمضانُك هذه المرة؟! هل هو رمضانُ المسَوِّفِين الكسالى، أم رمضان المسارعين المجدين؟! هل هو رمضان التوبة، أم رمضان الشِقْوَة؟! هل هو شهرُ النعمةِ، أم شهرُ النِّقْمة؟! هل هو شهر الصيام والقيام، أم شهر الموائد والأفلام والهيَام؟! هذا ما يعْتَلِجُ بالفؤاد ويدُور بالخَلَد.
ها هو هلال رمضان قد حلَّ، ووجه سعدِهِ قد طلَّ، رمضان هلَّ هلاله، وخيّمت ظلاله، وهَيْمَنَ جلاله، وسَطَع جماله، لقد أظلّنا موسم كريم الفضائل، عظيم الهبات والنَّوَائل، جليل الفوائد والمكارم. أيام وليالي رمضان نفحاتُ الخير ونسائم الرحمة والرضوان، فما ألذّها من أيام معطّرةٍ بالذكر والطاعة، وما أجملها من ليالٍ منوّرةٍ بابتهالات الراغبين وحنين التائبين.
رمضان المنحةُ الربّانية والهبةُ الإلهية، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
شهرٌ يَفُوقُ على الشهورِ بليلةٍ مِن ألفِ شهرٍ فُضّلت تَفْضِيلا
طُوبى لعبدٍ صَحَّ فيه صيامُهُ ودعا الْمهيمنَ بُكْرَةً وأَصِيلا
وبِلَيْلِهِ قد قامَ يَختمُ وِرْدَهُ مُتَبَتِّلاً لإلَهِهِ تَبْتِيلا
رمضان أشرُف الشهور، وأيامُه أحلى الأيام، يعاتِبُ الصالحونَ رمضانَ على قلة الزيارة وطول الغياب، فيأتي بعد شوقٍ ويَفِدُ بعد فراق، فيجيبه لسانُ الحال قائلاً:
أهلاً وسهلاً بالصيامْ يا حَبِيبا زارنَا في كل عامْ
قد لقيناك بحبٍّ مُفْعَمٍ كُلُّ حُبٍّ في سوى المولى حَرامْ
فاقْبَلِ اللهمَّ ربي صومَنا ثُم زدنا من عَطَايَاك الجِسَامْ
لا تُعَاقِبْنا فقد عاقَبَنا قَلَقٌ أسهرنا جُنْحَ الظَّلامْ
أخي الحبيب، إن رمضانَ فرصةٌ من فرصِ الآخرةِ التي تحمل في طَيَّاتها غفرانَ الذنوب وغسْلَ الحَوْب، وكم تمر بنا الفرص ونحن لا نشعر. هذه فرصة وما أعظمها، تحملُ سعادةَ الإنسان الأبدية، فأين المبادرون؟! وأين المسارعون؟!
إن الصيام هو المدرسة التي يتعلمُ منها المسلمون، ويتهذّب فيها العابدون، ويتَحَنَّثُ فيها المُتَنَسِّكون.
جاء شهرُ الصيامِ بالبركاتِ فأكرِمْ به من زائرٍ هو آتِ
نعم، إنه شهر البركات والرحمات، فرمضان شهر الطاعة والقُرْبَى والبر والإحسان والمغفرة والرحمة والرضوان والعتق من النيران، ففي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا دخل رمضان فُتحَت أبواب الجنة، وغُلِّقَت أبواب جهنم، وسُلْسِلت الشياطين)) ، وعنه قال: قال رسول الله : ((إذا كان أولُ ليلةٍ من رمضانَ صُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدَةُ الجن، وغُلِّقَت أبواب النيران فلم يُفتَح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقْبِل، ويا باغي الشر أقْصِر، ولله عتقاءُ من النار، وذلك كُلَ ليلة)) رواه الترمذيُ وابنُ ماجه والنسائيُ وحسّنهُ الألبانيُ.
الصيامُ يُصلِح النفوسَ، ويدفع إلى اكتساب المحامد والبُعد عن المفاسد. به تُغفر الذنوبُ، وتُكفَّر السيئات، وتزدادُ الحسنات، يقول المصطفى : ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
نعم يا عبد الله، رمضانُ سببٌ لتكفير الذنوب والسيئات إلا الكبائر، قال : ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مُكَفِّرَات لما بينهنّ إذا اجتُنِبت الكبائر)) رواه مسلم، وقال : ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفّرها الصلاة والصوم والصدقة)) متفق عليه.
رمضان فيه إجابةُ الدعوات وإقالةُ العَثَرات، قال : ((لكل مسلمٍ دعوةٌ مستجابةٌ يدعو بها في رمضان)) ، ويقول : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم)) رواه أحمد.
هذه هي فرصة رمضان، فأيُ رمضانٍ يكونُ رمضانك؟! وتلك هي نعمة رمضان، فماذا أنت فاعل؟! وماذا أنت صانع؟!
أتى رمضانُ مزرعةُ العبادِ لتطهيرِ القلوبِ من الفسادِ
فأدِّ حقوقَهُ قولاً وفعلاً وزادكَ فاتَّخذهُ للمَعَادِ
فمن زَرَع الحبوبَ وما سَقَاها تأوَّهَ نادِما يومَ الحصَادِ
إن شهرًا بهذه الصفات وتلك الفضائل والمكرمات لحَريّ بالاهْتِبَال والاهتمام، فهل هيّأت نفسك ـ أخي المسلم ـ لاستقباله وروَّضْتَها على اغتنامه؟! عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، يُفْتَحُ فيه أبوابُ الجنة، ويُغْلقُ فيه أبواب الجحيم، وتُغَلُّ فيه الشياطين، فيه ليلةٌ خير من ألف شهر، مَن حُرِمَ خيرها فقد حُرِمْ)) رواه أحمدُ والنسائيُ وصحّحه الألباني.
لقد كان الرسولُ يبشّر أصحابه بقدوم رمضان وإتيانه، كُل ذلك شَحْذًا للهِمَم وإذْكاءً للعزائم وتهيئةً للنفوس، حتى تُحسنَ التعامل مع فرصةِ رمضان، وحتى لا تفوِّتها، وهذا شأن السلف الصالح رحمهم الله تعالى، قال مُعَلّى بنُ الفْضَلِ عن السلف: "إنهم كانوا يدعون الله جلّ وعلا ستة أشهر أن يبلّغهم رمضان، ويدعونه ستةً أخرى أن يتقبّله منهم"، وقال يحيى بنُ كثيرٍ رحمه الله كان من دعائهم: "اللهم سلِّمني إلى رمضان، وسلِّم لي رمضان، وتسلَّمَه مني فتقبّله".
أيها الأحبة في الله، قدوم رمضان تلو رمضان يدل على تعاقب الأيام، فالأيام تمضي، والسنون تجري، وكُلٌّ إلى داع الموت سيُصغِي:
تَمرّ بنا الأيامُ تَتْرَى وإنَّما نُسَاقُ إلى الآجالِ والعينُ تنظرُ
فلا عائدٌ ذاك الشبابُ الذي مَضَى ولا زائلٌ هذا الْمَشِيبُ المُكَدّرُ
عباد الله، ها هو شهر العزة والكرامة، شهر الجهاد والنصر، شهر الجدية والعزيمة، ها هو قد أتى، فهل آن للأمة أن تنفضَ عنها غبارَ التبعية؟! هل آن لها أن ترفعَ عن نفسها أسباب الذلة والهوان؟!
لقد زارنا رمضان مرات عديدة، فما زارنا في مرة إلا وجَدَنا أسوأ من العام الذي قبله؛ أممٌ مُتَناثِرَةٌ، وقلوبٌ مُتَنافِرَة، ودولٌ متقاطِعةٌ، وأحزابٌ مُتصارِعة، وفتنٌ مُحْدِقَةٌ، وشهواتٌ مُفرقةٌ، الأمة في مَسَاغِبِها ومجاعاتها وأمراضها.
رمضان أتى بخيراته وبركاته، فكيف حال الناس؟! بل كيف حال الأمة الإسلامية؟! رمضان آتٍ والأمةُ تَمِيدُ بها الأرض جرّاءَ تسلّط الأعداء على ديارها، الأرضُ المباركةُ تعاني الذلة والهوان. رمضان آتٍ والأمة لا زالت تغالب الصليب في أفغانستان والعراق، واليهود في فلسطين، والإلحادَ والشيوعيةَ في الشيشان، وتقاسي الأمرَّين وهي توصَمُ ظلمًا وزورًا بالغلّو والتطرّف والإرهاب.
رمضان آتٍ ـ يا عبد الله ـ فأيُ رمضان يكون رمضانك؟! وما استعدادك؟! وما مراسم استقبالك له؟! فالناس في استقباله أقسام، فهل أنت ـ يا أخي ـ من القسم الفَرِحِ بقدومه؛ لأنه يزداد به قُرْبَى وزُلْفَى إلى ربه جل وعلا، وهذا شأن المؤمنين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58]، ونبينا محمد على رأس هؤلاء، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله أجودَ الناس، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل في كل ليلة، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المُرْسَلَة. متفق عليه.
وهناك صنف ثان ـ وأعيذك بالله من حاله ـ لا يعرف ربه إلا في رمضان، فلا يصلي ولا يقرأ القرآن إلا في رمضان، وهذه توبةٌ زائفةٌ ومخادِعةٌ وتَسْوِيلٌ من الشيطان، وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان.
ويا حسرة على أقوام تُعَساء يستقبلونه بالضَّجَر والتضايق والحرج، على أنه شهر جوع نهاري وشبع ليلي. إن بعض العصاة يرونه مانعًا لهم من شهواتهم ومن مآربهم الباطلة، فهم كالذئاب في الليل تَعْوِي، وكالجيف في النهار تَخُور كما يَخُور الثور. ويا عجبًا هل يُتَأفَّف من شهر الرضوان والرحمة؟! لا والله، بل هو شهر الخير والنعمة والبركة. إن الواحد من هؤلاء ـ هداهم الله ـ يُحس بالحرمان من الشهوات، ولذلك تراهم إذا قدم رمضان غيرَ فرحين بقدومه؛ لأن هؤلاء يريدون أن يغترفوا من حَمْأَة اللذة المحرمة، حتى لقد قال بعض التُّعَساء من أولاد الخلفاء كما ذكره الحافظ ابن رجب في الوظائف:
دعانِيَ شهرُ الصوم لا كان من شِهْرِ ولا صُمتُ شهرًا بعده آخرَ الدهرِ
فلو كان يُعْدِيني الأنامُ بقوةٍ على الشهر لاسْتَعدَيتُ قومي على الشهرِ
والذي حصل لهذا الشاب أن ابتلاه الله بمرض الصَّرَع، فكان يُصْرَعُ في اليوم مراتٍ وكراتٍ، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر، نسأل الله تعالى حسن الختام.
أيها المسلم، إن من نعم الله تعالى عليك أن مدّ في عمرك، ومدّ في أنفاسك، وجعلك تدرك خيرات هذا الشهر العظيم، فاحمدوا الله ـ عباد الله ـ أن بلَّغكم، واشكروه على أن أخَّركم إليه ومكَّنكم، فكم من طامعٍ بلوغَ هذا الشهر فما بلغه، كم مؤمِّل إدراكَه فما أدركه، فاجأه الموت فأهلكه.
أيها المسلمون، بلغناهُ وكم حبيب لنا فقدناه، أدركناه وكم قريبٍ لنا أضجعناه، صُمناه وكم عزيز علينا دفناه.
يا ذا الذي ما كفَاهُ الذنبُ في رجب حتَّى عصى ربَّه في شهر شعبانِ
لقد أظلك شهرُ الصّوم بعدهُما فلا تصيّره أيضًا شهرَ عِصْيانِ
واتل القُرَان وسبِّح فيه مجتهدًا فإنه شهر تسبيح وقرآنِ
كم كنت تعرف ممن صام في سَلَفٍ من بين أهل وإخوان وجيرانِ
أفناهم الْموتُ واستبقاك بعدَهم حيًا فما أقرب القاصي من الداني
يا عبدَ الله، يا أمةََ الله، هل يأتي عليكما رمضان وأنتما في قوةٍ وعافيةٍ؟! فكم من إنسان صام رمضان الفائت في عافيةٍ وصحة وقوة يأتي عليه رمضان القابل وهو قعيدُ الفراش أسيرُ المرضِ. هل يأتي عليك رمضان وأنت في أمن وأمان على نفسك وأهلك ومالك؟!
يا عبد الله، يا مَن تعيش آمنًا مُستقِرًّا تتلذّذ بخيرات الله، خِلْ نفسَك واحدًا من هؤلاء الذين يصومون وهم أُسارى أو يتسحّرون ويفطرون على الحدود وفي الملاجئ، خِلْ نفسك واحدًا من أولئك الذين يحتاجون إلى الفِطْر دفاعًا عن الملة والدين، خِلْ نفسك جائعًا مطرودًا شريدًا كما يحصل للمسلمين الفلسطينيين وغيرهم من المسلمين في غير ما مكان، الذين يعانون آلام الحصار والتشرذم والشتات وتسلط الكفار والفجار.
رمضان شهر الشعور بإخوانك المسلمين، فأي رمضان رمضانك؟! هل شعرت بإخوانك في أقاصي الأرض ومغاربها؟! لا بد للمسلم الصائم أن يشعر بآلام المسلمين، وأن يستشعر حال إخوانه في كل مكان، فإذا جاع تذكر أن آلاف البطون جوعى تنتظر لقمةً، فهل من مُطعِم؟! وهو إذا عطش تذكّر أن آلاف الأكباد عطشى تنتظر قطرةً من الماء، فهل من ساقٍ؟! وهو إذا لبس تذكر أن آلاف الأجساد قد لحقها العري، فهل من كاسٍ؟! يشعر بنعمة الله جلا وعلا عليه أن أعطاه السحور والإفطار وغيره محروم، أن ألبسه وغيره عارٍ، فالحمد لله على نعمائه.
رمضان شهر العبادة، فأيُ رمضان رمضانك؟! هل اتخذت منه فرصة لتربية نفسك على العبادة؟! فالصيام يربينا على العبادة، فلئن كان المسلم يعبد ربه جل وعلا في سائر شهوره وأيامه إلا أنه يأخذ في رمضان دورةً عباديةً يزيد فيها من جُرُعَات الطاعة ونَكَهاتِ الإيمان والإخلاص، حتى يقوى على ما تبقى من الشهور، ويجعل هذه الفرصة مُنطَلَقًا إلى فعل الخيرات، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره. أخرجه مسلم.
وليالي رمضان تاج ليالي العام، ودُجَاها ثمينة بظلمائها، فيها تصفو الأوقات وتحلو المناجاة، قال : ((أفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل)). ورمضانُ شهر القيام، يقول النبي : ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. وقيام رمضان أمر مشروع، فعلى المسلم أن يحرص على أداء صلاة التراويح، وأن يكملها مع الإمام حتى ينصرف، قال : ((من قام مع إمامه حتى ينصرف كُتِب له قيام ليلة)) رواه أهل السنن وهو صحيح. فلله الحمد والمنة، يقومُ المصلي ساعةً من الليل مع الإمام فكأنما قام الليل كله.
ولا ننس ـ أيها الإخوة ـ الاهتمام بالفرائض أولاً، والمواظبة عليها في المساجد جماعة، فالله عز وجل يحب التقرب إليه بالفرائض، فلا ننس الفرض ونهتم بالنوافل والمستحبات.
رمضان شهر النفحات والبركات، فلماذا لا نقوم رمضان؟! لماذا لا نجرّب لذّة القرآن، ولذّة المناجاة والدعاء؟! لماذا لا نجرّب وقت الأسحار وهَجِيع الليل؟! لماذا لا ننطرح بين يدي مولانا؟! فربنا ينزل في ثلث الليل الأخير نزولاً يليق بجلاله وعظمته يعرض نفحاته ورحماته، فلماذا لا نتعرّض لرحمات الله؟!
قُم في الدُّجَى واتْلُ الكتابَ ولا تَنمْ إلا كنومة حائِرٍ وَلْهَانِ
فلربّما تأتي المنيّة بغتةً فتُسَاقُ من فُرُشٍ إلى أكفانِ
يا حبّذا عينانِ في غَسَقِ الدُّجَى من خشية الرحمن باكيتانِ
فالله ينزلُ كُلّ آخر ليلةٍ لسمائه الدنيا بلا نُكْرَانِ
فيقولُ هل من سائلٍ فأجيبَه فأنا القريبُ أجيبُ منْ نادانِي
ولكن يا حسرةً على المحرومين، ويا حسرةً على المفتونين الذين يجعلون وقت السحر ووقت الاستغفار وقت النزول الإلهي فرصةً للعب واللهو ومشاهدة القنوات وتقليب الأبصار في الغانياتِ والمومساتِ، يا حسرةً على العباد.
رمضان شهر التقوى، فأي رمضان يكون رمضانك؟! هل درّبنا نفوسنا ووطَّنَّاها على هجر المعاصي؟! فرمضان فرصة لترك الذنوب، فالمعنى السامي للصيام أنه يجمع بين التقوى الحسية والتقوى المعنوية، فمن أخلّ بواحدةٍ منهما فما استكمل الصيام، ولذا قال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. يؤكد هذا المعنى ـ أيها الصُوَّام ـ قول النبي : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري، قال بعض السلف: "أهون الصيام ترك الطعام والشراب".
فيا أهل اللهو والعبث، ويا أهل البرامج والفوازير والمسابقات، نبيكم يقول: ((ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث)) رواه ابن حبان، هذا هو الصيام، فإذا تحقق فيه ذلك كان جُنَّةً من المعاصي. الصيام الذي لا يمنعك من النظر إلى الحرام والسب والشتم والتلاحي والخصام والغيبة والنميمة والقِيل والقال والولوغ في الأعراض فليس بصيام، إنما الصيام من اللغو والرفث، إذا تحقّق هذا كان جُنَّةً من المعاصي، وبالتالي جُنَّةً ووقايةً من النار، قال : ((الصيام جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بها العبد من النار)) رواه أحمد وحسّنه الألباني، وقال أيضًا: ((الصيام جُنَّة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفثْ ولا يفسقْ ولا يجهلْ، فإن سابَّه أحدٌ فليقل: إني صائم)) رواه الشيخان، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
وقال الصحابيُ الجليلُ جابرُ بنُ عبد الله : (إذا صمتَ فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع عنك أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينةٌ، ولا يكنْ يومُ صومِك ويومُ فطرِك سواءً)، ويقول الإمام أحمد رحمه الله: "ينبغي للصائم أن يتعاهد صومَه من لسانه، ولا يماريَ في كلامه، كانوا إذا صاموا قعدوا في المساجد وقالوا: نحفظُ صومنا، ولا نغتابُ أحدًا".
إذا لَم يكن في السمع مني تَصَاوُنٌ وفِي بصري غَضٌّ وفِي مَنْطِقِي صَمْتُ
فحظِّي إذًا من صومي الجوعُ والظَّمَا فإن قلتُ إني صمتُ يومي فما صمتُ
أيها الأحبة، كان سَلف الأمّة يستعدون لرمضان بهممٍ عالية وعزائمَ قويةٍ وإراداتٍ ماضية؛ ليغتنموا رمضان في طاعة الله، ليجعلوه منطلقًا للخيرات ومنطلقًا إلى التوبة وإصلاح النفس والحال، ومع ذلك فإننا نجد عجبًا من بعض الناس، يستعدون لرمضان، ولكن بما يُفسد على الناس صومهم، ويهدم أخلاقهم، ويبعدهم عن تحسس واستشعار معاني الصيام والقيام، فيستعدون باللهو والعبث، وبما يفسد حرمة هذا الشهر الكريم، يستعدون لنا بالمسرحيات وبالمسلسلات وبالأفلام التي وإن لم تكن هابطة أو خالعة أو عارية ـ كما يقولون ـ فلا تعدو عن كونها مُبعِدةً للناس عن صومهم وقيامهم وعباداتهم. إنها مسلسلات جعلت هدفها الاستهزاء بسنة سيد المرسلين والسخرية بعباد الله الصالحين ومحاربة ثوابت الدين، فمرةً يغمزون اللحية والغيرة، وتارة يحتجون على المحرم للمرأة الخ... ناهيك عن تصويرهم للمستقيم على دينه المتمسك بسنة نبيه بصورة الأَبْلَه والموسوس والمتناقض، أما ظهور الفاتنات من النساء فحدّث ولا حرج.
يسبُّون دينَ الله في شهر صومهم فعن دينهم صاموا وبالكفر أفطروا
وبعض المفتونين يدير "الريموت" على أجساد العرايا، ففي الليلة الواحدة يدور الواحد منهم على العالم شرقًا وغربًا، يفسد صيامه بالنظر الحرام، وباللهو الحرام، وبالفعل الحرام.
إنني أقول لمن ابتلوا بهذه القنوات أو المجلات أو بتضييع أوقاتهم فيما لا يفيد ولا ينفع: لماذا لا نفكر أن نبدل السيئة بالحسنة؟! لماذا لا نغتسل بماء التوبة النصوح من حَمْأَة الخطايا؟! لماذا لا نجعل هذا الشهر الكريم بداية لأن نهجر هذه القاذورات، سِيّما ونفوسنا مهيأة للخيرات؟!
لعلها ـ أيها الأحبة في الله ـ أن تكون بداية النهاية ـ إن شاء الله ـ لكل شيء يُبعِد عن الله ويُسخِطه، ولعلها أن تكون بداية الانطلاقة الحقيقية في المسارعة إلى الخيرات وإرضاء رب الأرض والسماوات.
رمضان شهر التوبة، فأي رمضان يكون رمضانك؟! صعد رسول الله المنبر فقال: ((آمين، آمين، آمين)) ، فقيل: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، آمين! فقال : ((إن جبريل عليه السلام أتاني فقال: من أدرك شهرَ رمضان فلم يُغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين)) أخرجه ابنُ خزيمة وابنُ حبان وانظر صحيح الترغيب والترهيب.
فالوحَى الوحَى قبل أن لا توبة تُنال، ولا عثرةَ تُقال، ولا يُفدَى أحدٌ بمال، فحُثّوا حَزْم جزمكم، وشدّوا لِبْدَ عزمكم، وأروا الله خيرًا من أنفسكم، فبالجدّ فاز من فاز، وبالعزم جاز من جاز، واعلموا أن من دام كسله خابَ أمله وتحقَّق فشله.
يا عبد الله، هذا أوان الجد إن كنت مجدًّا، هذا زمان التعبّد إن كنت مستعدًّا، هذا نسيم القبول هَبّ، هذا سيل الخير صَبّ، هذا الشيطان كَبّ، هذا باب الخير مفتوح لمن أحبّ، هذا زمان الإياب، هذا مغتسلٌ بارد وشراب، رحمة من الكريم الوهاب، فأسرعوا بالمتاب، قبل إغلاق الباب. فبادر الفرصة، وحاذر الفَوْتَة، ولا تكن ممن أبى، وخرج رمضان ولم ينل فيه الغفران والمنى.
ها هو موسم التوبة والإنابة، فباب التوبة مفتوح، وعطاء ربك ممنوح، فمتى يتوب من أسرف في الخطايا وأكثرَ من المعاصي إن لم يتب في شهر رمضان؟! ومتى يعود إن لم يعد في شهر الرحمة والغفران؟! فبادر بالعودة إلى الله، واطرق بابَه، وأكثر من استغفاره، واغتنم زمنَ الأرباح، فأيام المواسم معدودة، وأوقات الفضائل مشهودة، وفي رمضان كنوز غالية، فلا تضيِّعها باللهو واللعب وما لا فائدة فيه، فإنكم لا تدرون متى ترجعون إلى الله، وهل تدركون رمضان الآخر أو لا تدركونه. وإن اللبيب العاقل من نظر في حاله، وفكَّر في عيوبه، وأصلح نفسه قبل أن يفجأه الموت، فينقطع عمله، وينتقل إلى دار البرزخ، ثم إلى دار الحساب.
جعل الله صيامنا صيامًا حقيقيًّا مقبولاً، وجعله إيمانًا واحتسابًا، إيمانًا بما عنده، واحتسابًا لثوابه، كما أسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم وسائر المسلمين ممن صام الشهر، واستكمل الأجر، وفاز بليلة القدر، كما أسأله أن يجعلنا ممن يصومونه ويقومونه إيمانًا واحتسابًا، اللهم اكتب صيامنا في عداد الصائمين، وقيامنا في عداد القائمين.
وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4350)
الغفلة عن شكر النعم
الإيمان
خصال الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
26/8/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة اغتنام فرصة رمضان. 2- عبادة الشكر. 3- فضل الشكر والأمر به. 4- حقيقة الشكر. 5- مقام الشكر في أذكار اليوم والليلة. 6- بماذا تعرَف النعم؟ 7- كثرة نعم الله تعالى. 8- أسباب التقصير في الشكر. 9- آثار الشكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رحمكم الله، فلِلَّه درّ أقوامٍ اتَّقوا، وتذكَّروا فأبصَروا، وبادَروا بالأعمالِ الصالحات وشمّروا وما قصَّروا، الليلُ روح قلوبهم، والصّوم غذاءُ أبدانهم، والصِّدق عادَة ألسنتِهم، والموت نصب أعيُنهم، بادَروا في الحِذار، وسابَقوا إلى الخيرات بأيدي البِدَار، صابِرون صادقون قانِتون ومنفقون ومستغفِرون بالأسحار.
أيّها المسلمون، بين أيديكم شهرٌ عظيم مبارَك، أسأل الله العليَّ القدير أن يبلِّغَنا صيامَه وقيامه وأن يعينَنا على ذكرِه وشُكره وحسنِ عبادته.
حقٌّ على كلّ مسلِم أن ينظرَ في نفسِه بعد أن أنظَر الله له في أجلِه وأدناه من بلوغِ هذه الفرصةِ العظيمة وهذا الموسمِ الكريم، فرصةٌ عَظيمة ليعودَ فيها المسرِفون على أنفسِهم في توبةٍ واهتداء والتِزامٍ بدِين الله والحفاظِ على شعائِرِه، وحَسبُ مَن صامَه إيمانًا واحتِسابًا أن يغفرَ الله له ما تقدَّم من ذنبه كما صحَّ بذلك الخبر عن الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام [1].
أيّها المسلمون، الحديثُ عن الشهر الكريم وآدابِه وأحكامه ودروسِه حديثٌ طويل لا ينقضِي وذو شجونٍ لا ينتَهي، فهو رياض الصالحين وجنّات المتعبِّدين، أبواب الخيرِ فيه مفتَّحَة، وطرُق الفضل فيه مشرَعَة، وميادين التنافسِ فيه مبذولَة، وحسبُ المتأمِّل أن يقفَ عند واحدةٍ من إحدَى مواقِفِ التأمّل؛ إنها إحدى وقفَاتِ المقدِّمات في استقبالِ الشهر وإقباله، تلكم هي نِعمة الشُّكر على بلوغِه.
معاشِرَ المسلمين، الشكرُ عبادة عظيمةٌ وخلُق كريم، الشكر نِصف الإيمان، والصَّبر نِصفه الثاني. ويا ترى أيّها المتأمِّلون، هل شهر رمضانَ المبارك هو شهرُ الشكر كما هو شهر الصبر؟! الشكر من شُعَب الإيمان الجامعة؛ وذلكم أنَّ كثيرًا من شعَبِ الإيمان مردُّها إلى حقيقةِ الشّكر أو آثارِه أو مظاهِرِه، بل إنَّ الصبرَ والشكر يتقاسمَان الشعبَ كلَّها، وفي التنزيل العزيز: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [إبراهيم:5].
لقد أمَرَ الله بالشّكر ونهى عن ضدِّه: وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وأثنى علَى أهلِه، ووصَفَ به خواصَّ خلقه، وجعَلَه غايةَ خلقِه وأمرِه، ووعَد أهلَه بأحسن جزائِه، وجعله سببًا للمزيدِ من فضلِه وحَارسًا وحافظًا لنعمَتِه، وأخبر أنّ أهلَه هم المنتفِعون بآياته، بل أخبر أنّ أهلَه هم القليلون مِن عبادِه، واشتقَّ له اسمًا مِن أسمائه فسمّى نفسه شاكِرًا وشكورًا، بل تفضَّل سبحانه وأنعَم فسمَّى الشاكرين مِن خلقه بهذين الاسمَين، فأعطاهم مِن وصفه وسمّاهم باسمه، وحَسبُك بهذا محبّةً للشاكرين وفَضلاً ومنزلة.
أيّها المسلمون، وحقيقةُ الشكر الاعترافُ بالإحسان والفضلِ والنّعَم وذِكرُها والتحدُّث بها وصَرفها فيما يحبّ ربُّها ويرضَى واهبها. شُكرُ العبد لربِّه بظهورِ أثَر نعمتِه عليه، فتظهَر في القلب إيمانًا واعترافًا وإِقرارًا، وتظهَر في اللسان حمدًا وثناء وتمجيدًا وتحدّثًا، وتظهَر في الجوارح عبادةً وطاعة واستعمالاً في مَراضي الله ومُباحاتِه.
عِباد الله، إذا ما امتَلأ القلبُ شُكرًا واعتِرافًا ورَصدًا للنّعَم ظهر ذلك نطقًا ولهجًا بذكر المحامِد، وعليكم أن تتأمَّلوا كم جاءَ في السنة من أذكارِ الشكر والحمد والثناءِ على الله ربِّ العالمين في أحوالِ العبدِ كلِّها؛ يَقظَةً ومَناما، وأكلاً وشُربًا ولبسًا، ودخولاً وخروجًا وركوبًا، وحَضرًا وسَفرًا، بل في أحوال العبد كلِّها أفعالاً وأقوالاً.
استعرِضوا على سبيلِ المثالِ: أوّلَ ما يستيقِظُ العبدُ من منامِه يبادر بهذا الذّكر الجميل الرقيق معلِنًا الاعترافَ بالفضل والنّعمة والشّكر للمنعِم المتفضّل قائلاً: الحمد لله الذي عافاني في جسدِي وردَّ عليَّ روحي وأذِن لي بذكرِه، ويقول: اللّهمّ ما أصبح بي من نِعمة أو بأحدٍ مِن خلقك فمنك وحدَك لا شريكَ لك فلَك الحمد ولك الشكر، في أذكارٍ رقيقة إيمانية كثيرةٍ من أذكار الصباح والمساء والأكلِ والشرب والدخول والخروج والسفرِ والإقامة، يختِمها إذا أوى إلى فراشه بقوله: الحمدُ لله الذي أطعَمَنا وسَقانا وكَفانا وآوانا، فكم من لا كافي له ومؤوِي، سبحانك ربَّنا لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيتَ على نفسِك، نسألك أن تعينَنا على ذكرِك وشكرِك وحسن عبادتك.
معاشِرَ الأحبَّة، تُعرَف النّعَم بدَوامها، وتعرَف بزوالها، وتُعرف بمقارَنَتها بنظيراتها، وتعرَف بمزيدِ التفكّر فيها، كما تعرَف بتوافرِها وعظيمِ الانتفاع بها، ولكن مَع الأسف كلِّ الأسف أنَّ الغفلةَ عن هذه النّعَم بل عن المنعِمِ بها سِمَة أكثرِ البشَر، وقَليلٌ من عبادِ الله الشاكرون.
إنَّ نِعَم الله تحيطُ بالعبادِ مِن كلِّ جانب ومن كلّ جِهة؛ مِن فوقهم ومن تحتِ أرجلِهم وعن أيمانهم وعَن شمائِلهم، وكثرتُها ومظاهِر آثارِها لا تقَع تحت حَصرٍ؛ في البرّ والبحر والأرض والسّماء والنّفس والناس، وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10]، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23]، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمْ الْكَافِرُونَ [النحل:80-83].
عبادَ الله، وأهلُ هذا الزمان أحدَث الله لهم من النّعَم وزاد لهم في الفضل وكاثر عليهم من الخيراتِ ما لم يكن في السابِقين من أسلافهم، جُمِعت لهم النّعَمُ السابقة والنّعَم الحاضِرة، وما تأتي به المكتَشفات والمختَرعات والعلوم والمعارِف أعظمُ وأكبر في شؤون دنياهم كلِّها؛ عِلمًا واقتصادًا وفِكرًا وإنتاجًا وكَسبًا واحتِرافًا ونَقلاً واتِّصالاً وطِبًّا وعِلاجًا، نَباتًا وحَيوانًا، في المأكلِ والمشرب والملبَس والمسكَن والمركَب، فتحٌ في العلومِ والمعارف والآلاتِ والأدوات، تحسَّن بها أسبابُ المعاش، ومع كلِّ هذا لا تجِد أكثرَهم شاكرين، فَرِحين بما عِندهم من العِلم.
مَعاشر الأحبَّة، يجدُر بالعبد أن ينظُر ويتفكَّر في أسباب التَّقصير في الشّكرِ والدّخول في دائرةِ كُفران النّعَم والغفلةِ عنها وعدَم الإحساس بها واستحضارِ وجودها والنّظر في أثرِها، فكثيرٌ مِنَ النّعَم لا يعرِفها الإنسان إلاّ حين يفقِدها كالمصباح لا تعرِف فَضلَه إلاَّ حين ينطفِئ؛ ومِن أجلِ هذا فإنَّ رصدَ النّعَم وبذلَ الجُهد في تعدَادها والإحاطة بما يمكِن الإحاطةُ به منها ممّا يبعِد عن الغفلةِ والنكران، فيَعتَبِر بما عَرَف وأحصَى؛ ليكتَشِف كثرَتَها والعَجزَ عن الإحاطةِ بها وإحصائِها، وربُّنا سبحانه عدَّد علينا جملةً من نِعَمه في موضعين من كتابه ثمّ قال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34، النحل:18]، ممّا ينبِّه أنَّ علينا أن نبذُلَ ما نستطيع لتذكُّرِ نعمةِ ربّنا؛ لعلَّنا نقوم بما نقدر عليه من الشّكر والبُعد عن الغفلةِ والنّكرانِ.
وانظروا ـ رَحمكم الله ـ في بعضِ التأمُّلات، فلو تأمَّل العبدُ في نعمةِ الإيمان وآثارِه لانتقَل إلى الأمنِ والسّكينة والبركَةِ والرّاحة والرِّضا والصّلاح، ولو تأمَّل في نعمةِ الصّحة وتشعُّبها وآثارها لانتقل إلى نِعمٍ لا حصرَ لها من سلامةِ الجوارح والعقلِ والقوَى والحركة والمشي والعمَل والأكل والشرب والنّومِ والتعلُّم، ولو كان سقيمًا لتكدَّر عليه ذلك كلُّه وأكثر منه.
ومِن أسباب الغفلةِ عن الشكر نِسبةُ النّعمة إلى غيرِ مُورِدها والمنعِمِ بها، فتَرَاه ينسِبها إلى نفسه: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78] وبسبب جِدِّي واجتهادِي وكفاءَتي وصبرِي وكِفاحِي، أو ينسِبها إلى أسبابِها وينسَى مسبِّبَها وربَّها، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]. غَفَلوا فضَلّوا، وظنّوا أنَّ العلومَ والمهارات والآلاتِ هي الموجِدة والمحدِثة؛ ممّا أدَّى إلى قسوةٍ وغفلة، بل أدَّى إلى نُشوبِ صراعاتٍ وحروب. غاب عن الغافِلين أنهم وما يملِكون وما يعلَمون وما يعمَلون كلُّهم لله ومِنَ الله وبالله وحدَه لا شريكَ له، لا يملِكون ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30]، وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ [القصص:77]. والأسبابُ لا يُنكَر أثرُها ولا الأخذُ بها، ولكنّ المنكورَ الغفلةُ عن ربِّ الأرباب ومسبِّب الأسبابِ لا إلهَ إلا هو.
يا عبدَ الله، ومما يضعِف الشكرَ ويورِث القسوةَ والغفلة والجفاءَ أن يُبتلَى العبدُ بالنظر إلى ما عند غَيره وينسَى ما عندَه أو يحتَقِرُ ما عنده ويتقالُّه، وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]، وفي الحديث: ((انظُروا إلى من هو أسفَل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فَوقَكم؛ فهو أجدَر أن لا تزدَروا نعمةَ الله عليكم)) [2]. فحقٌّ على العبدِ أن يشتغلَ وينصرف إلى ما أعطاه الله، بل إلى مَا ابتلاه الله به منَ النّعَم والفَضل، هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ [التكاثر:8]، لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة:48].
ألا فاتَّقوا الله رحمكم الله، واختبروا أنفسَكم، فأنتم في استقبالِ شهرٍ كريم، فضلُ الله فيه عظيم ونفحاتُه معروضةٌ، فاستبشروا واعملوا واشكروا وافعَلوا الخيرَ وأَرُو الله من أنفسِكم خيرًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:32-34].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهديِ محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الرقاق (6490)، ومسلم في الزهد والرقائق (2963) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله لا مانِعَ لما وهَب، ولا واهب لما سلَب، أحمده سبحانه وأشكره، فطاعته أفضَل مكتَسَب، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، هو المرجوّ لكشف الشدائد والكُرَب، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمَدًا عبد الله ورسوله الأسوَةُ والقدوة في كمال الخلُق وحسنِ الأدَب، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي المقاماتِ والرُّتَب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المنقَلَب.
أمّا بعد: فإنَّ من آثار الشّكر امتلاءَ القلب بالإيمانِ والرّضا بالله سبحانه والثّقةَ فيما عندَه والشعورَ بالحياةِ الطيِّبة وسلامةَ القلبِ من الغلّ والحسَد وضيقِ الصدر والبُعدَ عن الاشتغال بعيوبِ النّاس والتّطلُّعِ إلى ما عِندهم وما في أيديهم، ناهيكم بالشعور بالعِزّة والقناعة والكفايةِ والسلامة من الطّمَع وذلّ الحِرص، ومن ثَمَّ تظهر الآثارُ في القبول عند الناس وحبِّهم ومعرفةِ الدنيا وقدرِها ومنزلتها، بل يترقَّى الحال بالعبدِ الشكور إلى بلوغِ اليقين بالله والرّضا بأقداره في رِزقِه وحُكمِه وحِكمته وتَفاوتِ الناس في أعمَالهم وكُسوبِهم، بل تتجلَّى حِكمةُ الله البالغةُ في أنّه لم يجعَل مكاسبَ الناس وأعمالَهم خاضِعةً لمقاييسِ البشَر في ذكائِهم وعلومِهم وسعيِهم.
سبحانَك ربَّنا وبحمدك، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك، اللّهمّ أعِنّا على ذكرِك وشكرِك وحُسن عبادتِك.
ألا فاتَّقوا الله رحمكم الله، واذكروه واشكروه على نِعَمه يزِدكم.
هذا، وصلّوا وسلّموا على نبيِّكم محمد المصطفى ورسولكم الخليل المجتبى، فقد أمَرَكم بذلك ربُّكم جلّ وعلا فقال عزّ قائلاً عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد الأمين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4351)
رحمة الكبار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
19/8/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين الرحمة. 2- رحمة آخِري هذه الأمة بأوائلها. 3- مراحل الإنسان. 4- نصائح لكبار السن. 5- الحث على رحمة الكبار واحترامهم. 6- عناية الشريعة بكبار السن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عِبادَ الله، دينُ الإسلام الذي أكمَله الله وأتمَّ بهِ عَلينا النّعمة ورَضِيَه لنا دينًا هو دِينُ الرّحمة، هوَ دِين الإحسانِ، هو الدّين الّذي عرَف لكلٍّ حَقَّه، ومحَمّد نبيُّ الرّحمةِ، والرَّحمةُ من صفاتِ رَبِّنا جلّ وعلا، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف:58]، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، ومحَمّد رَحمةٌ لِلعالمِين أجمَع، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. أجَل، رَحمة لِكلِّ العَالمين، فالَّذينَ آمَنوا بهِ وَاتَّبعوه رحِمَهم الله به في الدّنيا والآخرَةِ، والّذين خَضَعوا لأحكامِه وعَاشوا تحتَ ظلِّ عَدالةِ الإسلام رُحِموا؛ فاحتُرِمت حقوقُهم، وحقِنَت دماؤهم، وصِينَت أعراضُهم وأموالُهم.
أيّها المسلِم، جاءَ الإسلامُ بالرّحمة بِكلِّ ما تَعني هذهِ الكلِمةُ، فقَبل كلِّ شَيء ربُّنا وسِعَت رحمتُه كلَّ شيء، في الكتاب الذي كتبَه وهو موضوعٌ عندَه فوقَ عرشِه: ((إنَّ رحمَتي سبَقَت غضَبي)) [1]. نَعم، رحمةُ اللهِ سَبقت غضبَه، كَم يعصيهِ الخلقُ وهو يحسِن إِليهم، وكَم يسيئون وَهو يَرحمهم ولا يُعاجِلهم بالعقوبةِ، وإن تَابوا وأنَابوا إليهِ قَبِل توبَتَهم وبدَّل سيِّئاتهم حسناتٍ.
ومحمّد أرحَمُ الخلقِ بالخلقِ في دَعوتِهم إلى الله والإحسانِ إليهم وتعليمِ جاهِلهم والرِّفق بهِم وتحمُّل كلِّ الأذَى في ذاتِ الله، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
أيّها المسلِم، رحمةٌ يرحَم بها العالم الجاهلَ فيعلِّمُه ويرفُق به، رحمةٌ يرحَم بها الكَبيرُ الصّغيرَ فيَعطِف عليه، رحمةٌ يَرحَم بها الغَنيّ الفقيرَ فيُحسِن إليه ويواسِيهِ، رَحمةٌ يرحَم بها الحاكِم المحكومَ فيسعَى فيما ينفَعُهم ويدفَع عنهم ما يضرّهُم مستَعينًا بالله في كلِّ أحوالِه، رَحمةٌ ترحَم بِها الأمّ ولدَها ويرحَم بهَا الأب الأولادَ، رحمةٌ يرحم بها القريبُ رَحِمَه ويَرحم بها الجار جارَه إلى غير ذلِكَ.
أيّها المسلِم، وإنَّ دينَ الإسلامِ قامَ على الرّحمةِ والإحسانِ والعدلِ في كلِّ الأحوالِ.
أخِي المسلِم، لقد أخبَرَ الله جلّ وعلا عَن تَابعِي هذهِ الأمّة المحمّدية بقوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
نعَم، يرحَم بها الأواخِرُ الأوائِلَ، فيعرِفون لمَن سبقَهم فَضلَه، ويَعرِفون له سَابِقَتَه، ويعرِفون لَه مكانتَه، ويعرِفون له جِهَادَه وجِدّه ونَشاطَه، يَرحَمون أصحَابَ محمّد ، يَعرِفون لهم سَابِقَتَهم وجِهادَهم وتَضحيَتَهم معَ سيّد الأوّلين والآخرين، يَرحمونهم فيَدعونَ لهم دائمًا، ويترحَّمون عليهم، ويعرِفون للصِّدِّيق وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وسائرِ العشَرَة المبشّرين بالجنّة وأهلِ بدرٍ وبيعةِ الرّضوان ومَن أنفقوا قبلَ الفتح وجاهَدوا ومَن أنفَقوا بعدَه وجاهدوا، فيعرِفون لهم حقَّهم، ويتَرضَّون عَنهم، ولا يبحَثون عن مَساوِئِهم، وإن بَلغَهم خطَأٌ عن أحدٍ قالوا: هكَذا البَشَر يخطِئون، لكنّهم يحسِنون الظنَّ بهم وأنَّ مرادَهم الخيرُ. يَعرِفون لعلَماءِ هذه الأمّة السابقين فَضلَهم ومكانتَهم، فيقرؤون لهم، ويَتَرحَّمون عليهم، وإن وجَدوا خطأً قالوا: سنّةُ الله في الخلقِ، وكلُّنا خطّاءٌ، وخير الخطّائين التوّابون، لا يُخفون الحسَناتِ وينشرُون المسَاوِئ، ولكن يَعرِفون لكلٍّ حقَّه، ويعرِفون لكلٍّ فَضلَه. هكَذا المنصِفونَ الصّادِقون الّذين يُريدُون الخيرَ ويقصدونه، قال مالكٌ إمامُ دار الهِجرة النّبويّة: "ما منّا إلاّ رادٌّ ومَردود عليه إلاّ صاحِب هذا القبرِ" [2] ، يعني محمّدًا الّذي لا يَنطِق عن الهوَى إن هو إلاّ وحيٌ يُوحى.
أيّها المسلِم، مِن أنواعِ الرّحمةِ رَحمةُ الصغارِ بالكِبار وشَفَقة الصِّغار على الكِبارِ، فكما أنَّ الكبيرَ يَرحَم الصغيرَ فكذلك الصِّغار يَرحمون كبارَهم ويَعرِفون قدرَهم ومكَانَتَهم.
أيّها المسلِم، إنَّ الله جلّ وعلا أخبَرنا عَن مبدَأ أمرِنَا ونهايَتِه فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54]، قوَّتُنا بَين ضَعفَين: ضعفٍ في أوَّل الأمرِ وضعفٍ في آخِر الأمر، فبَينَما هو يخرُج من بطنِ أمِّه ضعيفًا خفيفًا تمضِي به السنون والأيّام تِلوَ الأيّامِ حتى يبلُغ أشدَّه ويستكمِل قواه ويتلذَّذ بِلذَّة الشباب وفَترةِ الشباب فيرَاها أحسنَ اللّحَظاتِ وأسعدَ السّاعات، وما هو إلاّ أن تتحوَّل هذه القوّة إلى ضعفٍ ووهن وعجزٍ، فتتحوَّل القوّةُ إلى ضعفٍ والقدرة إلى العجزِ، عند ذلكَ يَضعُف السَّمع ويقِلّ البصَر وتتبَاطأ الحرَكاتُ ويقلّ الممشَى، وربما لزِمَ الفراشَ لهَرمِه وكبَر سنّه.
إذًا أخِي، وقد بَلَغتَ من السنِّ ما بلغتَ وأصبحتَ في المشيبِ بعد الشباب وفي الكِبَر بعد الصّغَر وفي الضّعف والوَهن والعجزِ بعد القوَّة والقدرةِ وسائرِ الأحوال، فماذا يَلزَمك؟ مَاذا تفكِّر فيه؟ اعلَم أنَّ ما مَضَى لن يَعودَ، طُوِيَت صحائفُ الأعمالِ بما أودَعتها من خَيرٍ أو ضِدّه، فما المهمّ؟ المهمّ التّوبةُ إلى الله والإنابةُ إلى الله والاستغفار وأخذُ العدَّة والاحتِياط، ((أعذَرَ الله بعبدٍ بلَّغه السّتّينَ)) [3] ، يعني: ما جعَل الله له عذرًا بَعدَما بلغ الستين، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ [فاطر:37]، قيل: الشَّيب، وقيل: الستون سنة، وقيل: مبعث محمد.
أيّها الشَّيخ الكَبير، أقبِل عَلى ربِّك، وتَدارَك ما مضَى مِن سنينِك وأيّامك، وأكثِر مِنَ الاستغفارِ والتّوبة إلى اللهِ، فإنَّ اللهَ يمحو بالتوبةِ ما مضَى منَ الذّنوب، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110].
أيّها الشّيخُ الكَبير، جبَر الله كَسرَك وأحسَنَ إليك، ففِي الله عِوَضٌ عن كلّ شيءٍ، وفي رجاءِ الله سلوةٌ عن كلِّ شيءٍ، فقَوِّ ثِقتَكَ بِربّك، وأحسِنِ الظنَّ به، فهو عندَ حسنِ ظنِّ عبدِه بِه، تعرَّف إليه فيما بقِيَ من عمرك بذكرِه ودعائه والالتجاءِ إليه، وسَله حُسنَ الخاتمة والوَفاةَ على الإسلام؛ لتلقاه وهو عَنك راضٍ بتوفيقِه ومنَّتِه وفضلِهِ.
أيّها الشّيخُ الكبير، مَضَى الشبابُ بما مضَى فيه، ومَضت سنون الشبابِ والقُوّة، وجاء دورُ الضّعف والعجزِ، فما عليكَ إلاّ أن تلجأَ إلى ذي الجلالِ والإكرامِ ليرحمَ ضعفَكَ وليُقيلَ عثرتَك وليحسنَ إليك وليشمَلَك بعمومِ فضلِه، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62].
أيّها الشبابُ المسلم، دِينُكم يدعُوكم إلى احتِرامِ كِبارِكم والإحسانِ إِليهِم.
أيّها الشّابُّ المسلِم، الرّحمةُ بالكبيرِ والإحسانُ إليه أدَبٌ من آدابِ الإسلام وسنّةُ محَمّد سيِّد الأنام صَلَوات الله وسلامه عليه، إِكرامُ الكبارِ سنَّة الأنبياءِ وخُلُق الصالحين الأوفياءِ.
أيّها الشابِّ المسلِم، اعرِف لهذا الشيخِ الكبيرِ مكانتَه، اعرِف له حقوقَه الّتي طالَ ما ضيِّعَت، واعرِف له أَحاسِيسَه ومشاعرَه التي طال ما جُرحَت، واعلَم له حقَّه ومكانتَه.
أيّها الشابّ المسلِم، كم نشاهِدُ من شبابٍ تجاهَلوا الكِبارَ، إن تحدَّثَ الكبير قاطَعَه الصّبيان، وإن أبدى مَشورةً قاطعه السفهاءُ والأرذال، فهوَ يموت كَمدًا مما يرَى من سوءِ المعاملة.
أيّها الشابّ المسلِم، فللكِبارِ حقٌّ عليكَ؛ رَحمتُهم والإحسان إِليهم، ولا سيَّما الوالدين والأرحام؛ فإنَّ الله يقول: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23].
أخي المسلم، كَم يعاني الكبيرُ ممّا يعاني من النّشء [من] عدَم الاحترام والتّقديرِ، أصبَح الكبيرُ غريبًا في بَيتِه ثَقيلاً حتّى على أولادِه وأحفادِه، من يؤَنِّسه بالكلام؟! من يرُدّ الصوت عليه؟! من يسأله عن حَاجتِه؟! من يهتمّ بشأنِه؟! إنَّها المصيبةُ العظمَى. كم من شبابٍ ضيَّعوا كبارَهم من آباء أو أمّهاتٍ أو أرحامٍ، مِن أعمامٍ وعمّات وأخوالٍ وخالات، إن جلَس مع الكبيرِ لحظةً استَثقَلها واستطالَها، وإن جلَس مع الأصدقاءِ الليلَ كلَّه فكأنها دقائق وثواني. الأب يئنّ في مرَضٍ، والأمّ تئنّ ممّن يخدمها، فإمّا خادِم لا يرحَم، وإمّا حياةٌ على ملَل، وأنتَ في صحّةٍ وقوّةٍ، فاعرِف لهذا الشيخِ حقَّه، اعرِف لهذه المرأةِ الكبيرةِ الأمِّ حقَّها وفضلَها، اعرِف للقرابَة حقَّهم، والطف بهم، وارحَمهم، وأَحسِن إليهم، في الحديثِ: ((إنَّ من إجلالِ الله إكرامَ ذي الشيبةِ من المسلمين وحَاملِ القرآن غيرِ الغَالي فيهِ والجافي عَنه)) [4]. ارحَم الكبيرَ يَرحمك الله، ومَن رحِم كبيرًا في سنِّه هيَّأ الله له مَن يحسِن إليه عندَ كبرِه، والجزاءُ من جنسِ العمل.
أتَى الصّدِّيق رضيَ الله عنه عامَ الفتح بأبيه أبي قُحَافةَ إلى النبيِّ لكَي يبايِع النّبيَّ ويعلنَ إسلامَه، فقالَ النبيّ للصدِّيق: ((ألا تركتَ الشيخَ في بيتِه فنأتيهِ نحن)) [5] ، فصلوات الله وسلامُه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين. ((ألا تركتَ الشيخ في بيتِه حتى نأتي)) ، هكذا يعامل رسول الله المسِنِّين، وهَكذا يرحَمهم ويُشفِق عليهم، وهكذا يعلِّم أَصحابَه كيفَ التعاملُ معَ الكِبار. كان إذا تحدَّث الصغير قال: ((كبِّر كبِّر)) [6] ، فيُقدِّم الكِبارَ ليتَحدّثوا تأدِيبًا للصّغار؛ ليعلَموا حقَّ الكبارِ وفضلَ الكِبار.
أيّها المسلم، وكان يحترِم الكِبار ويقدِّمهم ويَضَعهم في المكانِ المناسبِ لهم، هكَذا هديُ الإسلام، هَكذا الرّحمةُ الإيمانيّة التي يملِيها الإيمانُ الصادقُ والإسلام الحقّ.
أيّها المسلِم، هذِه الخِصالُ عند أهلِ الإسلام خاصّة، الذين يرتَبط بعضُهم ببعضٍ برابطةِ الإيمان، فالكبار يحسِنون، والصّغار يرحَمون، والكِبار يرحمون، فـ ((الرّاحمون يرحمُهم الرحمن، ارحَموا مَن في الأرضِ يرحمكم من في السّماء)) [7].
أيّها المسلِم، الرّحمةُ مِن أهلِ الإيمانِ رحمةٌ لإخوانِهم المؤمنين، ورحمةٌ حتّى على غيرهم، رحمة بالبهائِم، رحمة بها والإحسان إليها، ((إذا قتَلتُم فأَحسِنوا القِتلة، وليحِدَّ أحدُكم شَفرتَه، وليُرِح ذبيحتَه)) [8] ، وقائل لِرسول الله : إني أذبَح الشاةَ وأرحمها، قال: ((الشاةُ إن رحمتَها رحِمَك الله)) [9].
أيّها الشابّ المسلم، إذا مَررتَ بالمسِنّ الكبيرِ فارحَم ضَعفَه وعَجزَه، وإن احتَاج إليك فَاقضِ حاجتَه، وإن طَلبَ منك أمرًا تَستطيعه فحقِّق الأمرَ، فإنَّ الله سيجعل لك في كبَرك من يعامِلكَ بتلك المعاملةِ الحسنَة، لا يَغرَّنَّك الشبابُ والقوّةُ والمال والجاه، فكأنّك لا تَرَى الناسَ شيئًا، يمرّ بكَ الكَبير وكأن ما مرَّ بك، لا ترحَم كبيرًا، ولا تحنو على صَغير، هذه القوّة التي خدَعَك بها الشباب وغرَّك بها شبابك، فإنّ الأيامَ آتيةٌ، وستعود ضعيفًا بعد قوّتِك وعاجِزًا بعد قدرتِك ووهنًا بعد تحرُّكِك.
فيا شبابَ الإسلامِ، لنتخلَّق بأخلاقِ إِسلامِنا، ولنعرِف لكبارِنا حقَّهم.
أيّها الشيخُ الكبير، أنتَ كبيرٌ في القَلبِ والنّفس والعَين، طالما عَمِلتم وربَّيتم وبذَلتم واجتَهدتم، وستكونونَ قدوةً لصغارِكم في أعمالِكم وأَخلاقكم، وتدارَكوا نَقصَ شبابكم بالتّوبةِ إلى الله والاستغفارِ والنّدَم علَى ما مَضَى، وقولوا دائمًا: اللّهمّ اجعَل خيرَ أعمارِنا أواخِرها، وخيرَ أَعمالِنا خواتيمَها، وخيرَ أيّامِنا يومَ نلقاك فيه.
أيّها المسلِم، إنَّ هذا الأدَبَ الرّفيعَ في الإسلامِ خلُقٌ يتخلَّق بهِ المسلِمون، فتقوَى الرّوابِط بين الأمّة المسلِمة، رابطةُ الإيمان التي تحقِّق لهم مَعانيَ الرّحمة في أسمَى معانِيها وأجلِّها، هذا دِين الإسلامِ.
أيّها الشابّ المسلِم، كم مِن ابنٍ يفرّ من أبِيه، وكم من ابنٍ يفرّ من أمِّه، وكم من ابنٍ يفرّ من عَمِّه وخاله وعمّته وخالتِه، كَم يفرّ الأبناءُ من آبائِهم وأمَّهاتهم، فلو يَستطيعون أن يُلقوهم في البِحار لألقَوهم فيها، يبحَثون عن دارِ المسنِّين ليجعَلوهم فيها حتّى ينسَوهم ولا يعرِفوا حالهم، انتُزِعت الرّحمةُ من قلوبهم، فقُلوبهم قاسِيَة لا تَرحَم أحدًا، أمّا المؤمِن حقًّا فهو بخلافِ ذلك، في القَلبِ رَحمة، في القَلب إحسانٌ، في القَلبِ عَطفٌ، في القلب رِفق بالكبار وإحسان إليهم وتذكُّر حالهم، لا تَرفَعِ الصوت عليهم، ولا تخاطبه بسوءٍ، اعرف له ضعفَه وعجزَه وسوءَ كِبَره وقِلّةَ تحمُّله وصَبرِه، فارحمه يرحمك الله، وأحسِن إليه يحسنِ الله إليك.
أسأل اللهَ أن يوفِّقَني وإيّاكم لصالحِ القولِ والعملِ.
أقول قولي هذَا، وأَستغفِر الله العَظيمَ الكريم الجليلَ، وأسأله جَلّ وعلا أن يشمَلنا برحمته أجمعين، إنّه وليّ ذلك والقادِرُ عليه.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7404)، ومسلم في التوبة (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] انظر: البداية والنهاية (14/140).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ((أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجلَه حتى بلَّغه ستين سنة)).
[4] أخرجه أبو داود في الأدب (4843)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (8/163) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وحسنه النووي في رياض الصالحين (173)، وابن حجر في التلخيص الحبير (2/118)، والألباني في صحيح الترغيب (98). وقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد (357)، وابن أبي شيبة (6/421) عن أبي موسى موقوفا، قال ابن عبد البر في التمهيد (17/430): "وقد روي مرفوعا من وجوه فيها لين".
[5] أخرجه أحمد (6/349)، والطبراني في الكبير (24/88) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وصححه ابن حبان (7208)، والحاكم (4363)، وقال الهيثمي في المجمع (6/253): "رجاله ثقات". وجاء من أوجه أخرى: عن أبي بكر، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وعن الزهري مرسلا.
[6] رواه البخاري في الجزية (3173)، ومسلم في القسامة (1669) من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (925).
[8] أخرجه مسلم في الصيد والذبائح (1955) عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (3/436، 5/34)، وابن أبي شيبة (5/214)، والبخاري في الأدب المفرد (373)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1100)، والطبراني في الكبير (19/22، 23، 24) والأوسط (2736، 3070)، وأبو نعيم في الحلية (6/343)، والبيهقي في الشعب (7/481) عن قرة بن إياس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (7562)، وقال الهيثمي في المجمع (4/41): "رجاله ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (26). وفي الباب عن معقل بن يسار وضرار بن الأزور رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ لله ربِّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَمَا يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عَليه وعلَى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بَعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، في سنَّة رَسولِ اللهِ حُقوقٌ لِلكبارِ مَعلومَة من سنَّته :
فَأوّلاً: كانَ يَبدَأ بالكِبار في الكلامِ فيقول للصِّغار: ((كبِّر كبِّر)) [1].
ثانِيًا: نجِد في سنّتِه إيصاءً لأئَمَّة المصلِّين أن يرفقوا بالكبار فيقول : ((أيّكم أمَّ النّاسَ فليخفِّف؛ فإنَّ وراءَه الصّغيرَ والكبير والمرِيضَ وذا الحاجةِ)) [2] ، وقال له رَجل: يا رسولَ الله، إني أترك صلاةَ الفَجر من أجلِ فلانٍ مما يطيل بِنا، قال: فغضِب النّبيّ غضبًا لم يغضَب مثلَه وقال لذلك الإمام: ((أفتّان أنت يا معاذ؟! إنَّ مِنكم منفِّرين، أيّكم أمَّ الناس فليخفِّف، فإنَّ وراءَه الصغيرَ والكَبير والمريضَ وذا الحاجةِ)) [3].
وجاءَ الإسلامُ ليجعلَ الكبيرَ الذي ضعُفت قوّته عن الصّيام أن يكتَفيَ بإطعام مدٍّ عَن كلّ يوم، فقال جل جلاله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، وهم العاجِزون الذين لا يَطيقونَ الصّومَ أن يُطعَمَ عن الكبير والمريضِ عن كلّ يوم ما يقارِب الكيلو والنِصف أي: خمس وأربعين كيلو من الأرز أو الحبّ عن الشّهرِ كلِّه. وجاءَته امرأةٌ في حجَّة الوَداع فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبي أدركَته فَريضةُ الله شَيخًا كَبيرًا لا يَستطيع الثبوتَ على الرّاحلة، أفأَحُجّ عنه؟ قال: ((نَعم، أرَأَيتِ لو كَان على أبيكِ دَين أكُنتِ قاضِيَتَه؟! اقضُوا اللهَ، فالله أحقُّ بالقضاء)) [4].
مرَّ رَجلٌ بابن عمَر وهو يطوف بالبَيت حاملاً أمَّه علَى كتِفِه يطوف بها، قال: يا عَبدَ الله بن عمر، أتَراني قمتُ بحقِّ أمّي؟ قال: يَا هذا، لاَ والله، ولا طَلقة من طلقاتِ الوِلادةِ، ولكنَّك محسِن والله يثيبك [5].
كان كِبارُهم يحترِمون صِغارَهم، ويشفِقون على كِبارهم، سواء الأقارب أو غير الأقارب، بل الأقارب والأرحام متأكِّد أمرُهم أن يؤدِّب الناسُ بعضهم بعضًا، فيعرِف الصغير للكبير مكانتَه، فيقدِّمه في مجلسِه، ويبدَأ به في الكلامِ، ويرفُق به، ويرحمه، هكذا المؤمنون حقًّا، وكم منَّ الله على بعضِ الفئاتِ منَ الناس فاحتَرم كبيرُهم صغيرَهم، فتستطيع أن تميِّز فارقَ العمر بينهم بتقديم كبيرهم ولو يومًا واحدًا.
هكذا الإسلام دعا إلى هذا الخلُقِ الكريم ورغَّب فيه، فالمطلوبُ منّا تأديبُ صِغارنا وحثُّهم على احترامِ الكِبار وبثّ تلك الروح الطيِّبة فيهم، وأنّ الصغيرَ لا يتقدَّم الكبيرَ لا في الخروجِ ولا في الدّخولِ ولا في الركوب ولا في المجالسِ، حتى يكونَ بين المسلِمين الارتباطُ العظيم الذي جاءَت به شريعةُ الإسلام. رَزقني الله وإيّاكم التأدّبَ بآدابِ الإسلامِ والثباتَ عليه، إنّه وليّ ذلك والقادِر عليه.
أيّها الأبُ الكريم، أبناؤُك على اختلاف مراحِلِ أعمارهم أدِّبهم، وقل للصّغير: لا تجلِس قبلَ الكبير، وقل للصّغير: لا تتقدَّم علَى الكبير، وقل للصّغير: لا تأخُذ أشياء قبلَ الكبير، فإذا بدأنا بأنفسِنا في بيوتِنا وبَين أبنائِنا ثم أقاربِنا ثم المسلِمين ولزِمنا هذا الأدَبَ وكانَ الصغير يتأخَّر ولَو هو أعلَى مرتَبة ومكانةً لكن لإظهارِ الأدَبِ الإسلاميّ كما يكون ذلك بين مَن منَّ الله عليهم بهذا الخلُقِ الكريم فالتزَموه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهَديِ هديُ محمَّد ، وشَرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعَةٍ ضَلالة، وعَليكم بجَماعَةِ المسلِمين، فإنّ يدَ اللهِ علَى الجمَاعةِ، ومَن شَذّ شذَّ في النّارِ.
وصلّوا على نبيكم محمّد كما أمَركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الرّاشدين...
[1] تقدم تخريجه.
[2] أخرجه البخاري في الأذان (703)، ومسلم في الصلاة (467، 468) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه البخاري في الأذان (702، 704)، ومسلم في الصلاة (466) عن أبي مسعود رضي الله عنه نحوه، وليس فيه: ((أفتان أنت يا معاذ؟!)).
[4] أخرجه البخاري في الحج (1852) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت: إن أمي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: ((نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمّك دين أكنت قاضيته؟! اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)).
[5] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/18)، البيهقي في الشعب (6/209)، وهو في صحيح الأدب المفرد (11).
(1/4352)
رمضان والأقصى
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
26/8/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم رمضان. 2- التحذير من المعاصي. 3- أحوال السلف في رمضان. 4- حياة المؤمن كلها رمضان. 5- ملاحظات صادرة عن دائرة الأوقاف. 6- مكر الحكومة الإسرائيلية.
_________
الخطبة الأولى
_________
نحن اليوم في السادس والعشرين من شهر شعبان، فالشهر قد انقضى عنكم أكثره، ودنا رحيله، شاهد للمحسنين بما قدَّموا من عمل صالح، وبما أخلصوا فيه من متَّجر رابح، وهو شاهد على المفرِّطين بأوزارهم. أظلكم الموسم الذي هو أعظم منه غنيمة وسعادة، وأوفر منه في طلب الحسنى وادخار الزيادة، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، ويُصَفَّد فيه كل مارد شيطان، فأعدّوا لقدومه عُدَّة، واسألوا الله تعالى التوفيق إلى أن تكملوا العِدَّة، والحذر الحذر من التفريط والإهمال، والتكاسل عن صالح الأعمال، فهمّة الصالحين فيه القيام والصيام، والكف عن فضول الكلام، والسلامة من جميع الآثام، والاشتغال بذكر الملك العلاّم، وهمة الغافلين التلذّذ بألوان الطعام، وتضييع أوقاته بالغفلة والمنام، وسيتبين لكم يوم الفصل الأوضح أي الفريقين أسلم وأربح.
إذا العشرون مِن شعبان ولَّتْ فواصِل شُرْبَ ليلك بالنهارِ
ولا تشربْ بأقْدَاح صِغَار فإن الوقتَ ضاق على الصِّغَارِ
عباد الله، من أراد الله به خيرًا حبَّب إليه الإيمان، وزيّنه في قلبه، وكرَّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، فصار من الراشدين، ومن أراد به شرًّا خلَّى بينه وبين نفسه، فاتبعه الشيطان، فحبَّب إليه الكفر والفسوق والعصيان، فكان من الغاوين. فالحذر الحذر ـ يا عباد الله ـ من المعاصي، فكم سلبت من نعم، وكم جلبت من نقم، وكم خرّبت من دِيَار، وكم أخلت دَيَّارًا من أهلها فما بقي منهم أحد، كم أخذت من العصاة بالثأر، كم محت لهم من آثار.
عباد الله، أين أحوالنا اليوم من أحوال السلف الصالح؟! كان دهرهم كله رمضان، ليلهم قيام، ونهارهم صيام. باع قوم من السلف جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهّبون له ويستعدّون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيّأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، ردّوني عليهم.
عباد الله، الدنيا كلها شهر صيام المتقين، يصومون فيه عن الشهوات والمحرمات، فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم، واستهلّوا عيد فطرهم. من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجّل ما حرَّم الله عليه قبل وفاته عُوقِب بحرمانه في الآخرة وفواته، اقرؤوا قوله تعالى: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [الأحقاف:20]. وقد ورد في الحديث الشريف قول رسول الله : ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة)) ، وفي حديث آخر: ((لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنّت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها)).
وكان السلف الصالح يدعون الله تعالى ستة أشهر أن يبلّغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبّل منهم الصيام.
يا ذا الذي ما كفَاهُ الذنبُ في رجب حتى عصى ربَّه في شهر رمضانِ
لقد أظلَّك شهرُ الصوم بعدهُما فلا تصيّره أيضًا شهر عِصْيانِ
واتْلُ القرآنَ وسبِّحْ فيه مجتهدًا فإنه شهرُ تسبيحٍ وقرآنِ
يا معشر التائبين، صوموا عن شهوات الهوى لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولنّ عليكم الأمل باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.
إلهنا ومولانا أنت الملك الكريم، وكل معبود سواك باطل، إليك رغب القاصدون، وابتغوا إليك الوسائل، وها نحن ببابك واقفون، وبكرم جودك عارفون، نشكو إليك مرض القلوب، فأنت الشافي والمعافي، نسألك دواء الغفلة، ونستعين بك على إصلاح النفوس، فقد طال تَجَافِيها، ونلتجئ إليك في دفع شرِّها يا رب العالمين.
عباد الله، انظروا إلى قيام السلف الصالح في قيام رمضان، قال السائب بن يزيد: لما جمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس لقيام رمضان قدم أبي بن كعب وتميما الداري يصليان بالناس، فكان القارئ يقرأ بالمائتين، وكنا نعتمد على العصي من طول القيام، ولا ننصرف إلا في بزوغ الفجر. وروى عبد الله بن أبي بكر عن أبيه رضي الله عنهم قال: كنا ننصرف من قيام رمضان فنستعجل الخدم بالطعام مخافة أن يطلع الفجر. وكان الشافعي رضي الله عنه يختم في رمضان ستين ختمة.
تعبوا والله قليلا، واستراحوا كثيرا، وتبوّؤوا من رياض الجنة مقيلا، والبائس المسكين من لم يجد للحاقهم سبيلا، والمغبون من رضي بحظّ العاجل بديلا.
هناك ملاحظات صادرة عن دائرة الأوقاف بمناسبة حلول شهر رمضان:
1- منع التسول والباعة من دخول المسجد الأقصى.
2- منع جمع التبرعات في ساحات المسجد منعا باتا.
3- اتخاذ جانب الحيطة والحذر من أي جسم غريب أو شخص مشبوه.
4- الحذر من السراقين والنشالين وبخاصة وقت الازدحام.
5- عدم استعمال السيارات ووقفها عند أبواب المسجد وفي الطرقات.
6- التعاون مع حرس المسجد الأقصى ولجان حفظ النظام.
7- بالنسبة لصلاة التراويح سوف تقام بعد أذان صلاة العشاء بنصف ساعة إن شاء الله.
نسأل الله تعالى أن يجعل هذا الشهر الفضيل شهر عز ونصر وفتح للإسلام والمسلمين.
أيها المسلم، إذا لم تقدر على القيام والصيام فاعلم أنك محروم بذنوبك، فالجاهل يظن أن المؤمنين القائمين عبدوا الله بصحة الأجسام وقوة الأركان، لا والله، ولكن عبدوا الله بصحة القلوب وقوة الإيمان، أكلهم أكل المرضى، ونومهم نوم الغرقى، وكلامهم كلام الخائفين بين يدي ملك جبار، وعزمهم عزم الهارب من سيل مغرق أو نار محرقة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، نجحت الحكومة الإسرائيلية بتلميح سياستها والحصول على شهادة حسن سلوك ـ إن جاز التعبير ـ من الأنظمة العربية والمجتمع الدولي نتيجة انسحابها من قطاع غزة، كما حصل رئيس الحكومة شارون على شهادة رجل سلام عن جميع الممارسات القمعية التي انتهجها، ولا تزال تنتهجها حكومته ضد شعبنا الفلسطيني المسلم على مدار عشرات السنين.
وقد استغلت الحكومة الإسرائيلية المظلة الدولية الأمريكية الداعمة لسياستها، وبعد أن ضمنت تطبيع علاقاتها مع العديد من الدول العربية سرا وعلانية اتجهت صوب أكبر دولتين إسلاميتين باكستان وأندونيسيا، واللتين تضمان زهاء أربعمائة مليون مسلم، بهدف إقامة علاقات دبلوماسية معهما، فاختراق حاجز المقاطعة لإسرائيل لم يتوقف عند الدول العربية فقط، إنما امتد ليشمل العالم الإسلامي.
أيها المسلمون، إن واقع الأمر ومن خلال استمرار عمليات الاغتيالات والقصف العشوائي للبنية التحتية في قطاع غزة أن إسرائيل خرجت من داخل القطاع لكسب التأييد الدولي، وجعلت منه سجنا كبيرا يحاط بالآليات والدبابات العسكرية.
وفي ظل التعتمة الإعلامية على واقع الأمر فإن إسرائيل ـ وعلى لسان رئيس وزرائها الذي يخوض معركة رئاسة حزب الليكود الحاكم ـ حددت سياستها المقبلة مع الفلسطينيين على النحو الآتي:
أولا: لا انسحاب من الضفة الغربية، بل سيتم تعزيز قبضتها عليه من خلال إحكام السيطرة العسكرية وتعزيز المستوطنات وتوسيعها.
ثانيا: لا مجال للتفاوض على حق الفلسطينيين في العودة إلى أرضهم وديارهم.
ثالثا: لا مجال للحديث أو التفاوض على القدس، وتعتبرها العاصمة الأبدية لدولة إسرائيل على حد زعمهم.
رابعا: التدخل السافر في الشأن الفلسطيني الداخلي، وتعطيل الانتخابات الفلسطينية المزمع أجراؤها في مطلع العام القادم إذا شاركت فيها الفصائل الفلسطينية المناهضة لعملية التسوية، وما الاعتقالات الجارية في الضفة الغربية للعديد من القادة السياسيين والدرسين والعاملين إلا توطئة للحيلولة دون إدراج قوائم المعارضة الفلسطينية في الانتخابات، ودون إجراء انتخابات نزيهة وحرة تشارك فيها كل قطاعات وفعاليات الشعب الفلسطيني كأمر فلسطيني داخلي.
خامسا: استمرار بناء الفصل العنصري، وعدم توقف عملية البناء رغم المظاهرة التي تشارك فيها الفلسطينيون، معربين عن رفضهم واستنكارهم الشديدين لهذا الجدار، وقد سمحت إسرائيل بهذه المظاهرة لتظهر أمام العالم أنها دولة ديمقراطية، تعطي حرية الرأي للأقليات الموجودة، وأن احتجاج الفلسطيني سيذهب أدراج الرياح.
سادسا: تضييق الخناق على أهل القدس وإغلاق مؤسسات مهنية وإعلامية واجتماعية وخيرية.
سابعا: عدم إدراج قضية المعتقلين الفلسطينيين في أية مفاوضات قادمة.
ثامنا: استمرار الحفريات الإسرائيلية وحفر الأنفاق تحت أساسات الحرم القدسي الشريف، وفي ذلك انتهاك للمقدسات الإسلامية واستهانة بالمسلمين، عدا ذلك من المخاطر التي تؤدي إلى تصدع وانهيار أساسات الحرم القدسي الشريف لا قدر الله.
أيها المسلمون، إزاء هذه المعطيات فهل سيكون هناك سلام؟!
إن على الذين يتباكون على السلام ويسارعون إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل أن يدركوا أن الأرض الفلسطينية لا تزال محتلة، وأن إسرائيل ترفض الانصياع للقرارات الدولية الداعية إلى الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967. وعلى العالم الإسلامي أن يدرك ويعلم علم اليقين أن المسجد الأقصى المبارك رمز عقيدة المسلمين في بين المقدس، لا يزال يرزح تحت نير الاحتلال، وإذا كان الفلسطينيون قد نذروا أنفسهم للدفاع عنه بالمهج والأرواح فهذا لا يعني أن تتنصل الأمة الإسلامية من مسؤوليتها الدينية بالدفاع عن الأقصى، والواجب على أمتنا أن تعمل جاهدة لإقامة دولة الإسلام، فهي وحدها الكفيلة لرفع الظلم عنها، وبغير ذلك فلن نفلح أبدا ولا تقوم لنا قائمة.
(1/4353)
على مائدة الإفطار
فقه
الصوم
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- للصائم فرحتان. 2- توجيهات وأحكام خاصة بوقت الإفطار وما يتعلق به. 3- مخالفات ومحاذير يقع فيها كثير من الناس بعد الإفطار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فهنيئا لك أخي الصائم، نعم هنيئا لك وأنت على مائدة الإفطار، هنيئا لك وأنت في ختام هذه العبادة الجليلة، هنيئا لك هذا الانقياد إلى من إليه المرجع والمآب.
أخي الصائم، ها قد انتهى وذهب التعب وثبت الأجر إن شاء الله، فحق لك أن تفرح في هذا الوقت عند إفطارك؛ فإن للصائم فرحتين كما أخبر النبي فيما رواه البخاري ومسلم: ((للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه)). أما الفرحة الأولى فها أنت تنعم بها، وأسأل الله العلي العظيم أن يبلغنا جميعا الفرحة الثانية.
أخي الصائم، أقدّم لك هذه المائدة من التوجيهات والأحكام الخاصة بوقت الإفطار وما يتعلق به من أحكام. أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
أولى هذه المسائل: متى يفطر الصائم؟ يفطر الصائم إذا غابت الشمس ولا عبرة بالحمرة الشديدة الباقية بعد مغيب الشمس، قال النبي : ((إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم)) أخرجه البخاري (1853) ومسلم (1100).
فالمعتبر ـ أخي الصائم ـ كما ذكر ابن القيم في الهدي مغيب الشمس لا الأذان أو المدفع. قال شيخنا محمد بن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (6/439): "فالمعتبر غروب الشمس لا الأذان، لا سيما في الوقت الحاضر حيث يعتمد الناس على التقويم ثم يربطون التقويم بساعتهم، وساعاتهم قد تتغير بتقديم أو تأخير، فلو غربت الشمس وأنت تشاهدها والناس لم يؤذنوا بعدُ فلك أن تفطر".
المسألة الثانية: على ماذا يفطر الصائم؟ السنة أن يفطر على رطب، فإن لم يجد فتمر، فإذا لم يجد فماء؛ لحديث أنس قال: كان رسول الله يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإذا لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء. أخرجه أبو داود (2356) والترمذي (694). فعلى الصائم أن يراعي هذا الترتيب الذي جاءت به السنة، فلا يقدم الماء على التمر ولا التمر على الرطب إن وجدوا جميعا.
المسألة الثالثة: أذكار وأدعية تقال عند طعام الإفطار:
أولاً: التسمية قبل الأكل والحمد بعده. واعلم ـ أخي الصائم ـ أن التسمية واجبة عند الأكل، وإذا نسيتها وتذكرتها في أثناء الأكل فقل: بسم الله أولَه وآخره، وإذا انتهيت فاحمد الله، يقول : ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمد الله عليها ويشرب الشربة فيحمد الله عليها)) رواه مسلم (2734). وقد جاءت السنة بصيَغ متنوعة في الحمد بعد الطعام منها: ((الحمد لله حمدًا كثيرا طيبًا مباركًا فيه، غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا)) رواه البخاري (5458). ومنها: ((الحمد لله الذي أطعمني ورزقني من غير حول مني ولا قوة، من قاله غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه الترمذي (3458) وابن ماجه (3285). ومنها: ((ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر أن شاء الله)) رواه أبو داود (2357) وهو حديث حسن. وأما حديث: ((اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت)) فلا يصح كما في زاد المعد.
ثانيًا: الدعاء، يقول النبي كما في حديث أبي هريرة: ((ثلاث لا يرد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم)) أخرجه الترمذي.
ثالثًا: إجابة المؤذن، وهذا ليس خاصا برمضان، بل هو مشروع في هذا الوقت من رمضان وفي غيره، ولكن نبهت عليه لأن بعض الصائمين يغفل عن هذه السنة حين فطره.
وبالمناسبة فإني أذكر هنا السنن الواردة عند سماع الأذان: أن يقول مثل ما يقول المؤذن، وأن يقول بعد تشهد المؤذن الرابع: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولاً، وأن يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد فراغ الأذان مباشرة بأي صيغة، والأفضل الصلاة الإبراهيمية، وأن يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته.
رابعًا: السنة تعجيل الفطر، اعلم ـ أخي الصائم ـ أن السنة تعجيل الفطر، قال : ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)) أخرجه البخاري (1856) ومسلم (1098). قال ابن عثيمين رحمه الله عند ذكره لهذا الحديث: "وبهذا نعرف أن الذين يؤخرون الفطر إلى أن تشتبك النجوم كالرافضة أنهم ليسوا بخير". وقال عليه الصلاة السلام: ((لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) رواه أبو داود (2353). وعن مالك بن عامر قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد ، أحدهما يعجل الإفطار ويعجّل الصلاة، والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة؟ قالت: أيهما الذي يعجّل الإفطار ويعجّل الصلاة؟ قال: قلنا: عبد الله بن مسعود، قالت: كذا كان يصنع رسول الله. رواه مسلم (1099).
وهنا مسألة وهي: من أفطر غالبًا على ظنه أن الشمس غربت فبان أنها لم تغرب فلا شيء عليه وصومه صحيح.
أيها المسلمون، وماذا بعد الإفطار؟! يقع كثير من الصائمين في أخطاء تنقص من أجورهم وتذهب حسناتهم؛ وذلك بما يفعلونه من معاصي بعد فطرهم كمشاهدة المسلسلات الذي صار أمرًا طبيعيًا عند الكثير، بل حتى عند من يتوسم به الخير، وغير ذلك من السهر وقضاء الأوقات في ما لا يرضي الله.
فيا ـ أيها الصائم ـ اتق الله، اتق من أنعم عليك بهذه النعم، وغض الطرف عمّا حرم مولاك مما يعرض عبر وسائل الإعلام من دش وتلفاز. أهذا جزاء من أنعم عليك وأتم عليك هذه النعمة؟! تشكره بما يغضبه من سماع موسيقى أو مشاهدة مسلسل أو غيرها من البرامج التافهة؟! تذكر أن لله عتقاء من النار عند الفطر، فاتق الله أيها الصائم، وتذكر قول النبي : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)). يقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: "إن وصيتي للجميع من الرجال والنساء والصوّام وغيرهم هي تقوى الله جل وعلا في جميع الأحوال، والمحافظة على أداء الواجبات في أوقاتها على الوجه الذي شرعه الله، والحذر كل الحذر من التشاغل عن ذلك بنوم أو غيره من المباحات أو غيرها، وإذا كان التشاغل عن ذلك بشيء من المعاصي صار الإثم أكبر والجريمة أعظم".
وصلى الله على نبينا محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4354)
قلبك في رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أمراض القلوب
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العناية بصلاح القلب. 2- أنواع القلوب. 3- صفات صاحب القلب الحيّ. 4- آثار حياة القلوب. 5- آثار مرض القلب. 6- أسباب مرض القلب. 7- مظاهر حياة القلب وصحته. 8- مظاهر موت القلب وضياعه وفساده. 9- أنواع أمراض القلوب. 10- علامات مرض القلب بالشبهة. 11- علاج القلوب. 12- إشكال ودفعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نعم إنه قلبك يا عبد الله، نعم إنه قلبك محطّ نظر الإله ومنبع العمل ومحركه وأصله وأساسه المخاطب بأوامر الله جل وعلا، قال : ((إن الله لا ينظر إلى أعمالكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)). فما حال قلبي وقلبك في أعز وأشرف زمان في رمضان؟!
ولهذا ـ أيها الصائم وأيتها الصائمة ـ هذه وقفة محاسبة مع النفس، بل مع أعز شيء في النفس، مع ما بصلاحه صلاح العبد كله، وما بفساده فساد الحال كله. وقفةٌ مع ما هو أولى بالمحاسبة وأحرى بالوقفات الصادقة، يقول : ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وخُصّ القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب والحث على صلاحه والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثرًا فيه والمراد المتعلق به من الفهم الذي رُكب فيه". ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)). ويقول الحسن رحمه الله: "داوِ قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولن تحب الله حتى تحب طاعته".
أيها الصائم، من عرف قلبه عرف ربَّه، وكم من جاهل بقلبه ونفسه والله يحول بين المرء وقلبه، يقول ابن مسعود : (هلك من لم يكن له قلبٌ يعرف المعروف وينكر المنكر). إذًا لا بد في هذا من محاسبةٍ تَفُضُّ تغاليق الغفلة وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعًا. من لم يظفر بذلك فحياته كلها ـ والله ـ هموم في هموم وأفكارٌ وغموم وآلامٌ وحسرات.
أيها الأخ الصائم، وأيتها الأخت الصائمة، إن في القلب فاقةً وحاجةً لا يسدها إلا الإقبال على الله ومحبته والإنابة إليه، ولا يلمّ شعثها إلا حفظ الجوارح واجتناب المحرمات واتقاء الشبهات. وإن معرفة القلب من أعظم مطلوبات الدين ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين؛ معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته وحركاته ولفتاته، والحذر من كل هاجس، والاحتياط من المزالق والهواجس، والتعلق الدائم بالله فهو مقلب القلوب والأبصار، جاء في الخبر عند مسلم رحمه الله من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)) ، ثم قال رسول الله : ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)).
ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]. يقول الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم: "والقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات"، وقال ابن القيم رحمه الله: "وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله، فسلم من محبة غير الله معه ومن خوفه ورجائه والتوكل عليه والإنابة إليه والذل له وإيثار مرضاته في كل حال والتباعد عن سخطه بكل طريق، وهذا هو حقيقة العبودية التي لا تصلح إلا لله سبحانه وتعالى وحده". فالقلب السليم هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما.
والقلوب ـ أيها المحب ـ أربعة:
1- قلب تقي نقي فيه سراج منير، قلب محشو بالإيمان ومليء بالنور الإيماني، وقد انقشعت عنه حجب الهوى والشهوات وأقلعت عنه تلك الظلمات، مليء بالإشراق ولو اقترب منه الشيطان لحرقه، وهذا هو قلب المؤمن.
2- وقلب أغلف مظلم؛ وذلك قلب الكافر، وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88]. وهذا القلب قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس فيه، ولهذا قيل لابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها، فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخرب؟!
3- قلب دخله نور الإيمان وألقى النور فيه، ولكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف من الهوى، وللشيطان عليه إقبال وأدبار، وبينه وبين الشيطان سجال، فهو لِما غلب عليه منهما، وقد قال الله في أقوام: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ [آل عمران:167].
4- وقلب مرتكس منكوس فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر وأبصر ثم عمي، فَمَا لَكُمْ في المنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أركسهم بِمَا كَسَبُواْ [النساء:88].
وفي القلب قوتان: قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، وقوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه، ومن عرفه واتبعه فهو المنعم عليه السالك صراط ربه المستقيم. يقول ابن القيم رحمه الله: "وهذا موضع لا يفهمه إلا الألبّاء من الناس والعقلاء، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العالية والنفوس الأبية الزكية".
إذا كان الأمر كذلك ـ أيها المحب ـ فاعلم أن صاحب القلب الحيّ يغدو ويروح ويمسي ويصبح وفي أعماقه حسٌ ومحاسبة لدقات قلبه وبصر عينه وسماع أذنه وحركة يده وسير قدمه، إحساس بأن الليل يدبر والصبح يتنفس، قلب حي تتحقق به العبودية لله على وجهها وكمالها؛ أحب الله وأحب فيه، يترقى في درجات الإيمان والإحسان، فيعبد الله على الحضور والمراقبة، يعبد الله كأنه يراه، فيمتلئ قلبه محبةً ومعرفةً وعظمةً ومهابةً وأُنسًا وإجلالا، ولا يزال حبه يقوى وقربه يدنو حتى يمتلئ قلبه إيمانًا وخشية ورجاء وطاعة وخضوعًا وذلاً، قال : ((قال الله تعالى: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)). كلما اقترب العبد من ربه اقترب الله منه، ((من تقرب إليّ شبرًا تقربتُ إليه ذراعًا)). فهو لا يزال رابحًا من ربه أفضل مما قدّم، يعيش حياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، فاذكروني أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)).
أصحاب القلوب الحية صائمون قائمون خاشعون قانتون، شاكرون على النعماء صابرون في البأساء، لا تنبعث جوارحهم إلا بموافقة ما في قلوبهم، تجردوا من الأثرة والغش والهوى، اجتمع لهم حسن المعرفة مع صدق الأدب، وسخاء النفس مع رجاحة العقل، هم البريئة أيديهم، الطاهرة صدورهم، متحابون بجلال الله، يغضبون لحرمات الله، أمناء إذا ائتمنوا، عادلون إذا حكموا، منجزون ما وعدوا، موفون إذا عاهدوا، جادون إذا عزموا، يهشون لمصالح الخلق ويضيقون بآلامهم، في سلامة من الغل وحسن ظن بالخلق وحمل الناس على أحسن المحامل، كسروا حظوظ النفس وقطعوا الأطماع في أهل الدنيا، جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله قال: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)) ، فهي سليمة نقية خالية من الذنب سالمة من العيب، يحرصون على النصح والإخلاص والمتابعة والإحسان، همتهم في تصحيح العمل أكبر منها في كثرة العمل، لِيَبْلُوَكُمْ أيكم أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]. أوقفهم القرآن فوقفوا، واستبانت لهم السنة فالتزموا، يُؤْتُونَ مَا أتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبّهِمْ راجِعُونَ [المؤمنون:60]. رجال مؤمنون ونساء مؤمنات بواطنهم كظواهرهم بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، وهمتهم عند الثريا بل أعلى، إن عُرفوا تنكَّروا، تحبهم بقاع الأرض وتفرح بهم ملائكة السماء، هذه حياة القلوب وهذه بعض آثارها.
أما القلوب المريضة فلا تتأثر بمواعظ ولا تستفزها النذر ولا توقظها العبر. أين الحياة في قلوب عرفت الله ولم تؤد حقه، قرأت كتاب الله ولم تعمل به، زعمت حب رسول الله وتركت سنته؟! يريدون الجنة ولم يعملوا لها، ويخافون من النار ولم يتقوها. رُب امرئ من هؤلاء أطلق بصره في حرام فحُرم البصيرة، ورب مطلق لسانه في غيبة فحرم نور القلب، ورب طاعم من الحرام أظلم فؤاده. لماذا يُحرم محرومون قيام الليل؟! ولماذا لا يجدون لذة المناجاة؟! إنهم باردو الأنفاس غليظو القلوب ظاهرو الجفوة، القلب الميت الهوى إمامه والشهوة قائدة والغفلة مركبه، لا يستجيب لناصح، ويتَّبع كل شيطان مريد، الدنيا تُسخطه وترضيه، والهوى يصمه ويعميه، ماتت قلوبهم ثم قبرت في أجسادهم، فما أبدانهم إلا قبور قلوبهم، قلوب خربة لا تؤلمها جراحات المعاصي، ولا يوجعها جهل الحق،ّ لا تزال تتشرب كل فتنة حتى تسود وتنتكس، ومن ثم لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا.
يا أيها الصائم، وأيتها الصائمة، إن غفلة القلوب عقوبة، والمعصية بعد المعصية عقوبة، والغافل لا يحس بالعقوبات المتتالية، ولكن ما الحيلة؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله. يقول بعض الصالحين: "يا عجبًا من الناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه ". شتان بين من طغى وآثر الحياة الدنيا وبين من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، تمرض القلوب وتموت إذا انحرفت عن الحق وقارفت الحرام، فَلَمَّا أزاغوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، تمرض القلوب وتموت إذا افتتنت بآلات اللهو وخليع الصور، نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُم [التوبة:67]. كل الذنوب تميت القلوب وتورث الذلة وضيق الصدر ومحاربة الله ورسوله. يقول الحسن رحمه الله: "ابن آدم، هل لك بمحاربة الله من طاقة؟! فإن من عصى الله فقد حاربه، وكلما كان الذنب أقبح كان في محاربة الله أشد، ولهذا سمى الله أكلة الربا وقطاع الطريق محاربين لله ورسوله لعظم ظلمهم وسعيهم بالفساد في أرض الله"، قال: "وكذلك معاداة أوليائه فإنه تعالى يتولى نصرة أوليائه ويحبهم ويؤيدهم، فمن عاداهم فقد عادى الله وحاربه".
أخي المسلم، إن هناك علامات تدل على مدى الحياة في القلب، وهذه العلامات مستقاة ومستخلصه من النصوص القرآنية التي سيقت في معرض بيان قلوب المؤمنين.
فمن تلك المظاهر حسن الانتفاع بالعظة والاستبصار بالعبرة والظفر بالثمرة، فإن العمل الصالح هو ثمرة العلم النافع.
ومن تلك العلامات أو المظاهر وجَلُ القلب من الله وشدة الخوف منه، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2]، وَبَشِّرْ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الحج:34، 35]، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60].
ومنها القشعريرة في البدن عند سماع القرآن ولين الجلود والقلوب إليه، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
ومنها خشوع القلب لذكر الله، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ [الحديد:16].
ومنها الإذعان للحق والخضوع له، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [الحج:54].
ومنها كثرة الإنابة إلى الله، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:33].
ومنها الأنس بذكر الله خلاف الذين يشمئزون منه، وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ [الزمر:45].
ومنها تعظيم شعائر الله، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
ومنها التضرع إلى الله والفزع إليه وقت الشدة، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43].
ومنها الطمأنينة بذكر الله، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
ومنها السكينة والوقار، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ [الفتح:18].
ومنها شدة التعلق بالله ودوام ذكره واطمئنان القلب بذلك والاهتمام بصحة العمل بتصحيح النية وتحقيق المتابعة.
عباد الله، وكما أن هناك علامات لحياة القلب كذلك هناك علامات تدل على موت القلب وفساده، نسأل الله العافية.
فمن تلك العلامات قلة الانفعال في الرغائب وقلة الإشفاق والرحمة، فقلوب أهل المعاصي معرضة عن كتاب الله وسنة رسوله، فهي مظلمة بعيدة عن الحق لا يصل إليها شيء من نور الإيمان وحقائق الفرقان.
ومنها إيثار الدنيا على الآخرة، كما في حديث جابر قال: قال : ((تكون فتنة يموت فيها قلب الرجل كما يموت فيها بدنه؛ يصبح مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
ومنها حب الشهوات، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ [القصص:50].
ومنها شدة الغفلة.
ومنها هوان القبائح عليه والرغبة في المعاصي.
ومنها عدم إنكار المنكر، فإن كان القلب لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا نكس فجعل أعلاه أسفله.
ومنها انحباس الطبع وضيق الصدر والشعور بالقلق والضيق بالناس، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:125].
ومنها عدم التأثر بآيات القرآن.
ومنها عدم التأثر بالموعظة عامة وبالموت ولا رؤية الأموات خاصة.
ومنها التكاسل عن أعمال الخير، وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:54].
ولله در العلامة الشيخ محمد بن عتيق حينما قال قصيدة له بهذا الشأن، هذه بعض أبياتها:
فيا أيها الباغي استنارةَ قلبه تدبّر كلا الوحيين وانقَد وسلِّما
وعين امتراض القلب فقد الذي له أريد من الإخلاص والجد فاعلما
وموثِر مَحبوب سوى الله قلبه مريض على جرف من الموت والعمى
فجماع أمراض القلوب اتّباعها هواها فخالفها تصح وتسلما
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، اعلموا أن أمراض القلوب على نوعين:
1- أمراض شبهة، وهذا أشد أنواع المرض؛ وما ذاك إلا لكثرة الشبهات في عصرنا الحاضر، ما بين تيارات فكرية ضالة صارت تشغل الناس من علمانية وقومية واشتراكية وشيوعية، وممارسات إعلامية على مستوى العالم الإسلامي اليوم تبث الشبة وتشكك بالثوابت، فالمسلم اليوم كالقابض على الجمر من كثرة المعارضين وكثرة الفتن المضلة، فتن الشبهات والشكوك والإلحاد، وفتن الشهوات، حيث يترتب على كثير من هذه الفتن اعتقاد غير الحق المفضي إلى مرض القلب، بل موته أحيانا كثيرة، عياذًا بالله.
عباد الله، ذكر العلماء جملة من العلامات تدل دلالة واضحة على مرض القلب بالشبهات، وينبغي لمن وجد في نفسه أي علامة منها أن يسارع إلى معالجة قلبه، ومن أبرز تلك العلامات وأظهرها اتباع المتشابه من القرآن وإظهار الإيمان باللسان دون مواطأه القلب والتمرد على حكم الله ورسوله والمسارعة في موالاة الكافرين والرغبة في المعصية والتقاعس عن الجهاد.
2- أمرض الشهوات، الشهوات باب واسع يدخل تحته كل مشتهى، ومن المشتهيات مباح ومنها ما هو محرم. ومفسدات القلوب هي الشهوات المحرمة، ومنها تتولد أمراض القلوب كالشح والبخل والحسد والغل والحقد والجهل والغي والغم والهَمَّ والحزن والغيظ والكبر والعجب والظلم، وغيرها من الأمراض التي لا تدخل تحت حصر أعاذنا الله منها. ولكن يجمعها اتباع الهوى بغير هدى من الله، وفي ذلك يقول الله جل جلاله: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
أيها الإخوة، إذا أردت ـ يا عبد الله ـ شفاء قلبك وعافيتك فعليك بصدق اللجوء إلى الله والإكثار من النوافل وبسحّ الدموع والصلاة بالليل والناس هجوع، ودواء قلبك أيضًا بملازمة الأذكار وصحبة الأخيار فإنهم خير معين بعد الله على شفاء القلب السقيم وسلوك الصراط المستقيم، قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن أسباب حياة القلوب الإقبال على الله وتعظيمه، وتدبر الوحي بشقيه القرآن والسنة، والشوق إلى الله والإنابة إليه والندم على المعاصي والحذر من الوقوع فيها، ومخالفة هوى النفس، والاستعداد للآخرة، وصحبة الصالحين. ومن أسباب موت القلوب الغفلة عن الله، وإيثار محبوب سوى الله، وترك الاغتذاء بنافع وترك الدواء الشافي الوحي وذكر الله، وكثرة الضحك. وأما حقيقة مرض القلوب فهي فقدان الإخلاص لله والحب له، وجامع أمراض القلوب اتباع الهوى. نسأل الله أن يحيي قلوبنا بنور معرفته وذكره وشكره، فحياة القلب وإشراقه مادة كل خير، وموته وظلمته مادة كل شر".
عبد الله، احرس قلبك ـ أخي المسلم ـ أن يتسلل إليه الشيطان بشبهة خبيثة أو شهوة محرمة أو آفة مفسدة، احذر الغفلة والغافلين، قال الله تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]. وسُئل بعض العلماء عن عِشقِ الصور فقال: "قلوب غفلت عن ذكر الله فابتلاها الله بعبودية غيره". فالقلب الغافل مأوى الشيطان، يقول الحسن رحمه الله: "المؤمن قوَّام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على أقوام حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وشق الحساب على أقوام يوم القيامة أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة".
فحاسبوا أنفسكم رحمكم الله، وفتشوا في قلوبكم، وعليكم بالاهتمام بأعمال القلوب. كثير من الناس يهتم بالأعمال الظاهرة وهذا أمر حسن ومطلوب، ولكن هؤلاء يغفلون عن أصل هذه الأعمال ومادتها وهي الأعمال القلبية، فهذه الأعمال هي الأصل وهي الأهم. ((إن الله لا ينظر إلى أعمالكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)) ، ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)).
ومن ثم فتأمل معي ـ رعاك الله ـ هذا الحديث العظيم، والذي من خلاله نعرف أهمية أعمال القلوب، أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا عند رسول الله فقال: ((يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة)) ، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان من الغد قال النبي مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حالة، فلما قام النبي تبعه عبد الله بن عمرو ـ أي: تبع ذلك الرجل ـ فقال: إني لاحيت أبي فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي، قال: نعم. قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تعار من الليل ذكر الله عز وجل وكبر حتى نام لصلاة الفجر. قال عبد الله: فلما مضت الثلاث الليالي وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله يقول ثلاث مرات: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) ، فطلعت أنت، فأردت أن آوي إليك فأنظر عملك فأقتدي بك، فلم أرك عملت ثمة عملا، فما الذي بلغك ما قال رسول الله ؟! قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا حسدًا على خير أعطاه الله إياه. فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لا يخلو جسد من حسد، فالكريم يحصيه، واللئيم يبديه". فالله الله بأعمال القلوب، والحذر الحذر من معاصيها.
عباد الله، هناك إشكال عند بعض الناس وهو أن بعض الناس عنده فهم خاطئ، ومن ذلك أنك إذا حدثت أحدًا ونصحته بالالتزام بالسنة الظاهرة كاللحية مثلاً أجابك قائلاً: المهمّ القلب والحديث يقول: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى أعمالكم)) ، والتقوى ها هنا، ويشير إلى قلبه. فنقول لهؤلاء: هذا فهم خاطئ؛ نعم المهم والأصل صلاح القلب، وصلاح المظهر مع خراب الباطن لا ينفع، لكن نقول إن صلاح القلب له علامات، ومن أشد وأهم علاماته صلاح الظاهر، يقول النبي : ((ألا أن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله)). إن صلاح الظاهر دليل على صلاح القلب، وفساده نتيجة فساد باطنه.
وصلى الله على نبينا محمد...
(1/4355)
وبالأسحار هم يستغفرون
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, الصوم, فضائل الأعمال
عبد الله بن راضي المعيدي
حائل
جامع عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نماذج وصور مشرقة لسلفنا الصالح في اغتنام الليل. 2- فضل وقت السحر. 3- مسائل وأحكام متعلقة بالسحور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فإن سجود المحراب واستغفار الأسحار ودموع المناجاة بالليل سِيمَا يحتكرها الخواص من المؤمنين، ولئن توهّم الدنيويّ جنتَه في الدنيا في الدينار والدرهم والنساء والقصر المنيف فإن جنة المؤمن في محرابه.
نعم يا محب، وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:18]، في آخر ساعات الليل وفي الثلث الأخير منه بالتحديد لأهل الإيمان وعباد الرحمن وأهل الصيام والقيام موعد مع ربهم وإلههم ومحبوهم، الواحد الديان الرحيم الرحمن، شعارهم فيه: وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ، وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]، يقول الحسن رحمه الله عنهم: "مدُّوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون". وكان ابن عمر يصلّي ثم يقول لمولاه نافع: يا نافع، هل جاء السحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح. ويقول الفضيل بن عياض: "بكاء النهار يمحو ذنوب العلانية، وبكاء الليل يمحو ذنوب السر". وكان أيوب السختياني يقوم الليل كله ويخفي ذلك؛ فإذا كان عند الصباح رفع صوته كأنه قام تلك الساعة.
عباد الله، السحر وقت غافلات الغافلين، والوساد العريض للنائمين، يتعرض فيه أرباب العزائم للنفحات الرحمانية والألطاف الإلهية والمنح الربانية، حينئذ تكون العبادة أشقّ وأخلص، والنية أدق وأمحص.
المستغفرون بالأسحار نجاتهم في مناجاتهم وصِلتهم في صلاتهم، فهنيئًا لك ـ يا أخي الصائم ـ هذا الوقت العظيم، هذا الوقت الذي هو شريف بحدّ ذاته، وفي رمضان يزداد شرفًا وأهميةً وفضلاً، يقول العلامة السعدي رحمه الله: "وللاستغفار بالأسحار فضيلة وخصيصة ليست لغيره".
فكيف يليق بنا أن تنام أعيننا في وقت ينزل فيه الملك المتعال نزولاً يليق بجلاله كما قال : ((فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) أخرجه البخاري (1145) ومسلم (758).
فيا ترى هل فكر كل واحد منّا في استثمار هذا الوقت العظيم الذي هو من آكد مظانّ إجابة الدعاء؟! ترى ما هي أحوال الناس مع ثلث الليل الآخر؟! بل كم من شاك لنفسه قد غاب عنه هذا الوقت المبارك، كم من مكروب غلبته عينه عن حاجته ومقتضاه، كم من مكلوم لم يفقه دواءه وسر شفائه، كم وكم وكم.
ألا إن كثيرًا من النفوس في سبات عميق، إنها لا تكسل في أن تجوب الأرض شمالها وجنوبها شرقها وغربها، باحثة عن ملجأ للشكوى أو فرصة سانحة لعرض الهموم والغموم، غافلة غير آبهة بالالتجاء إلى كاشف الغمّ وفارج الهَمَّ ومنفّس الكرب، بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88]، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
فالله الله أن يغلبك النوم فتُضيّع وقت الإجابة والمغفرة والعطاء، قال : ((نعم العبد عبد الله لو كان يقوم الليل)). فما أحوجنا للتعرض لنفحات العزيز الغفار، والانطراح بين يديه في أوقات الأسحار، عله تعالى أن يغفر الذنب ويستر القبيح ويعفو عن الزلل ويوفقنا إلى صالح العمل.
المؤمنون تتجافى جنوبهم عن وطء المضاجع، كلهم بين خائف مستجير وطامع، تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع، ورعوا أنجم الدجى طالعًا بعد طالع، واستهلت عيونهم فائضات المدامع، ودعَوا: يا مليكنا يا جميل الصنائع.
عباد الله، يجب علينا المحافظة على السحور وعدم التهاون به، ففي الصحيحين قال رسول الله : ((تسحروا فإن في السحور بركة)). وقد فسرت البركة بتفاسير عدة، من أحسنها ما ذكره الحافظ ابن حجر: "البركة في السحور تحصل بجهات متعددة؛ وهي اتباع السنة ومخالفة أهل الكتاب والتقوي به على العبادة والتسبب للذكر والدعاء وقت مظنة الإجابة".
أيها المسلمون، ومما ينبغي أن يُعلم أن السحور يحصل بأقل ما يتناول المرء من مأكول أو مشروب، ولو بجرعة ماء كما في الحديث عند أحمد. كما ينبغي أن يُعلم أن السنة في السحور تأخيره إلى ما قبل طلوع الفجر، قال النبي كما في المسند: ((لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطور وأخروا السحور)) ، وعن أنس بن مالك قال: تسحر رسول الله وزيد بن ثابت ثم قاما فدخلا في صلاة الصبح، فقلت لأنس: كم كان بين فراغهما ودخولهما في الصلاة؟ قال: قدر ما يقرأ الإنسان خمسين آية. أخرجه البخاري (551). والضابط هنا كما ذكر شيخنا ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "أن يكون بين السحور وأذان الفجر المقدار الذي يكفيه للأكل".
عباد الله، ألا وإن من فضائل السحور أنه فارق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، وفي الصحيح قال : ((فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)). ومن فضائله أنه مظنة مغفرة لله تعالى، لما رواه أحمد عن أبى سعيد الخدري أن النبي قال: ((فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين)).
أيها الإخوة، ومما يجب على الصائم الإمساك عن الطعام والشراب إذا استبان طلوع الفجر ولا عبرة بتوقيت المؤذن؛ لأنه قد يتقدم أو يتأخر إلا إذا كان المؤذن أمينًا يقظًا حريصًا على إصابة أول الوقت فحينئذ يوثق به ويعتمد، قال : ((المؤذنون أمناء المسلمين على فطورهم وسحورهم)) صححه الألباني في صحيح الجامع (6647).
ومما يُحرص عليه وجود التمر في السحور؛ يقول النبي : ((نعم سحور المؤمن التمر)) أخرجه أبو داود (2345).
وهنا مسألة يجب معرفتها، وهي من أكل متسحرًا شاكًا في طلوع الفجر أو يغلب على ظنه عدم طلوعه فلا شيء عليه وصومه صحيح.
وصلى الله على نبينا محمد...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4356)
إعلامنا والأحداث
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
الإعلام, جرائم وحوادث
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
29/2/1426
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الإعلام في العصر الحديث وخطره. 2- صور من انحرافات وتضليل الإعلام. 3- موقف الإعلام المجحف من أحداث الفئة الضالة. 4- كلمة لرجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
في عصر يموج بالأحداث المتسارعة المُلتهبة والوقائع المتلاحقة المشتعلة تبرز أهمية وجود إعلام صادق وشَفّاف ينقل إليك الصورة واضحة من الموقع، ويجعلك تتابع الحدث لحظة بلحظة، ويحلّله لك والتراكماتِ الناشئةَ عنه بصدق وحياد، خاصّةً في ظلّ عولمة مفروضة على الضعيف؛ ليخضع من خلالها للقوي، فأصبح العالم قرية صغيرة يتأثّر شرقها بما يحدث في غربها، ويؤثّر شمالها في جنوبها.
ولكن نظرًا لأن العولمة المفروضة مُصطبِغة بصبغة أمريكية كافرة فقد أثّرت بشكل أو بآخر في إعلام الدول عمومًا، والإسلامية منها خصوصًا، فأصبح يُظهر الأحداثَ ويفسّرها كما يهواه ذلك الإعلام الكافر، هذا مع غَضّ الطرف عن تلك الأيدي الخبيثة الظاهرة منها والخفيّة التي انتسبت إلى الإسلام اسمًا ورسمًا، وهي أبعد ما تكون عنه، بل من أشد أعدائه مَخْبَرًا ومضمونًا.
لقد أصبح الإعلام العالمي يفسّر كل ما يحدث من عنف على سطح الأرض على أنه صنيعة إرهاب، وإذا قيل: إرهاب فالمراد: الإسلام، ليس إلا.
فحين يدافع شعب مسلم ضعيف عن أرضه ويقاتل غاصبًا محتلاًّ معتديًا ليطهّر ثراه من دَرَنِه ودَنَسِه سواء في فلسطين والعراق فهذا هو الإرهاب بعينه، ولكن حين تقصف الطائرات المباني وتدمّر الجرّافات المنازل ويُقتّل الأبرياء من الشيوخ والنساء والصبيان فهذا حقّ للدفاع مشروع؛ خاصةً إذا كان المُعتدَى عليه مسلمًا يُخشى من أي حركة أو سكنة يُحدثها.
وحين يُعاقَب مجرم على جرمه في بلد الإسلام كما جاء به شرع الله فإن هذا يوصف بأنه تخلّف ورجعية؛ وإن كان قد انتقص دين الله أو شعيرة من شعائره فجُوزِيَ بما يستحق، فهذا اعتداء على الحرية الفكرية ومناقضة لحقوق الإنسان التي كفلها له النظام العالمي، ولكن حين يحدث أنّ مُنصِفًا يصف الإسلام بما هو الحق فإن هذا جريمة لا تُغْتَفَر وإيذاء لمشاعر العامة، فلا بد من إيقافه وإسكاته.
وحين يتحرك أحد في بلد الإسلام بسوء فإن قُوى الكفر تهبّ لنجدته باسم الديمقراطية والحرية، أما إذا كان هذا بحق في بلد كافر فإن أشد العقوبات تنزل به، ولا يُسمح لأحد بالتدخّل؛ لأن هذا شأن داخلي. وهكذا دَواليك، سلسلة لا تنتهي من الكذب والتزييف والخداع.
وحتى لو قلنا: إن هذا شأن الإعلام الكافر ـ وليس بعد الكفر ذنب ـ فإن الكلام ينسحب إلى إعلام الدول المسلمة الذي خضع طوعًا أو كرهًا لما يسعى إليه الغرب، بل أصبح بعضُ الأذناب ممن يتسمون بالإسلام يبادرون باتهام الدين وشعائره وشرائعه في كل ما يحدث من تفجير وتخريب وتدمير؛ قُربانًا لأسيادهم الكفرة، وتزلّفًا لأوليائهم من المنافقين، وصاروا يمجّدون رموز الكفر والإلحاد وأصنام الفسق والمجون باسم التفاني في خدمة الإنسانية وتحقيق الأهداف النبيلة.
وليكون الكلام تطبيقًا وواقعًا لا تنظيرًا وتأصيلاً انظروا إلى الهالة الإعلامية التي أحدثها الإعلام ووسائله في الحديث عن رأس النصرانية الحاقدة على الإسلام، والمتابعة الدقيقة لوضعه الصحي المتردّي حتى أهلكه الله، ثم التَّأبِين بذكر محاسنه وخدماته الجليلة، بل وحتى في سعيه الدؤوب للتقارب مع اليهودية، واعتذاره عن عدم تدخّل كنيسته فيما شهدته الكِذبة العالمية في المحرقة النازِيّة التي افتراها اليهود، ولا يزال العالم بأسره يُسدّد فاتورتها ويدفع تعويضاتها. مع أن ذلك النصراني الهالك الذي أمضى عمره يحمل أثقاله وأثقالاً مع أثقاله لم يتودّد للمسلمين يومًا، ولم يقل كلمة حق نحوهم، ولم يقدّم اعتذارًا مماثلاً كالذي قدّمه لليهود فيما جناه أجداده بحق المسلمين في الأندلس ومحاكمِ التفتيش التي ما عرف العالم ـ حتى الحديث ـ مثيلاً لها في نكالها وعذابها. ولا يزال الإعلام ـ حتى بعد هلاك رمز الصليب ـ يتابع أحداث دفنه التي تنتهي إلى جهنم وبئس المصير؛ وما يجدّ في شأن الكنيسة بعده.
وشاهد آخر قريب منه؛ حين كان الإعلام يتابع الأيام الأخيرة بلحظاتها في حياة ممثل ماجن عاش عمره، بل قضى حتى آخر لحظات حياته في ظلام الفن والتمثيل. فهل شهدت حياة عَلَم من أعلام المسلمين المعاصرين التغطية ذاتها من إعلام الدول المسلمة؟! على الرغم من أن أعلام الإسلام ليسوا بحاجة لذلك؛ فالميزان ميزان الله، لا ميزان الخلق. وأما ذلك النصراني ومن على شاكلته فهذا من تعجيل طيّباتهم لهم في الحياة الدنيا.
أيها المسلمون، يقال هذا الكلام وبلاد الحرمين تشهد أحداثًا مؤلمة لا يرضاها مسلم عاقل، ولا يفكّر يومًا أن هذا يحدث على أرضها. وإذا كان الله قد قدّر أن يحدث هذا فإن علينا أوّلاً أن نحمد الله ونثني عليه على ما يقدّره لنا، وأن نعلم أن ما يقدّره الله لا بد أن يكون خيره أكثر من شره، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله. ثم إن علينا أن ننظر إلى كل ما يحدث بميزان القسط والعدل، فلا حَيْف ولا تطفيف، ولا إسراف ولا إجحاف، وهذا ـ وللأسف ـ قد خلت منه كثير من وسائل الإعلام إلا من رحم الله، وقليل ما هم.
لقد استغلّ بعض ضعاف النفوس وطائفة من ناقصي العقل والدين مثل هذه الأحداث فصاروا يسبّبونها من غير مسبِّباتها، ويبنونها على غير أسسها، ويتّهمون البريء ويبرّئون المتهم، دفع بعضَهم في ذلك النفاقُ المتوغّلُ في قلبه، وآخرون منهم دفعه حمقُهُ وجهلُهُ، وساعدهم في شيء من ذلك تولية بعض الأمر لغير أهله. صار بعضهم يحمّل المناهج الدراسية ـ خصوصًا الشرعية منها ـ المسؤولية عن ذلك، ووجّه آخرون الاتهام إلى عقيدة الولاء والبراء وشعيرة الجهاد، وشنّعت طائفة على مدارس تحفيظ القرآن الكريم، ونقول: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].
لقد أصبح هؤلاء الكتّاب والصحفيون يُظهرون هذه التهم الكاذبة وأمثالها بالخط العريض، ويجعلونها عنوانًا ومدخلاً لكتاباتهم، ويغدون ويروحون عليها، فما من جريمة تحدث ولا من خَطْبٍ يحِلّ إلا وينسبونه إليها، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
إن هؤلاء يتحمّلون إثمهم في كذبهم وإثم ما قد أفضت إليه كتابتهم من حمْل بعض الآباء ممن قصر عقله وعلمه على صرف أولاده عن مدارس تحفيظ القرآن وعن صحبة الأخيار ومجالستهم؛ بحجة أنهم سبب رئيس لحمْل مثل تلك الأفكار المنحرفة، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79].
لقد صرّحت فئة ممن ضلوا أن سيرهم إلى سراديب التكفير والتدمير كان بسبب بُعدهم عن العلم الشرعي الصحيح، بل ونصّ بعضهم على أنه لم يكمل دراسته النظامية.
وأما عقيدة الولاء والبراء وشعيرة الجهاد فهما من أصول هذا الدين العظيمة التي وُجدت معه، وبُني عليها، فلا ينفك عنها، ولا هي تنفك عنه. فإذا أخطأ أحدٌ في فهمهما أو تطبيقهما على الوجه الصحيح أفنحمّل الدين سبب ذلك، أو نتهّم عقولنا القاصرة الناقصة؟! وإذا كان بعض من ضلّ قد شارك في الجهاد أيام أفغانستان، فهل يكون سبب ضلاله أنه جاهد هناك؟! فماذا نقول عن مئات ذهبوا وعادوا وما تلوّثوا بتفكير أو تكفير؟!
ثم إن الأفكار التي انتشرت في أفغانستان وغيرها قد أصبحت الآن تقدّم في قوالب خادعة مزيفة برّاقة إلى أبنائنا وفي بيوتنا، من خلال تلك الوسائل الفتّاكة، أعني شبكات الإنترنت، وما أدراك ما هيه؟!
وأما مدارس تحفيظ القرآن فقد وُجدت مع بزوغ فجر الإسلام، ولم تخرّج قطّ داعية إلى بدعة أو منظّرًا لشبهة، بل وحتى في عصرنا نراها تخرّج المئات بل الآلاف ممن يحمون الأمة، ويدافعون عنها، ويقودون سفينتها إلى برّ الأمان.
أيها المسلمون، لئن جرّ الهوى ونقص العلم وقلة الدين فئة من أبناء المسلمين لتشرّب سموم فكرية تنفثها طائفة ممن أغواهم الشيطان وحادوا عن طريق الحق، نقلوها عنهم بالسماع والمشافهة أو عن طريق الإجازة والوجادة، فصاروا يحملون راياتهم على هذه الأرض وبين أبنائها؛ فإن هذا لا يعني أن نُطفّف في الموازين.
نعم، إن أولئك الذين ضلّوا فسلكوا سبيل التكفير والتدمير وتساهلوا في سفك الدم الحرام بغير حلّه واستهانوا بأمن الناس وأرواحهم قد حادوا عن الصراط المستقيم، وضلوا عن السبيل القويم، فما جنينا مما جاؤوا به واستوردوه من أفكار إلا الخراب والدمار وإهلاك الحرث والنسل وإتلاف الأنفس والأموال والديار. وكم سمعنا وشاهدنا من المواجهات الدامية الشرسة معهم، وآخرها ما حدث خلال هذا الأسبوع، فماذا نتج عن ذلك كله؟! والله ما نتج لنا إلا إزهاق أرواح وإتلاف أموال وترويع آمنين.
إن المصيبة تعظم مع أولئك الزائغين وأمثالهم أنهم لا يفعلون ذلك عن شهوة يعلمون حرمتها ولا ينقصهم إلا التوبة عنها، إنما يتخذون ما يصنعونه من تكفير وتفجير ديانة لله يتقربون بها إليه، وهذا يعني أن المرء لا يمكن أن يتخلّى عما يدين الله به إلا بشيء أقوى منه، وفي هذا تتجلّى أعظم الصور التي تؤكّد على أهمية العلم الشرعي وتلقّيه عن أهله المعروفين به والراسخين فيه.
وإذا كنا نريد الحق والحق فقط فإن الواجب علينا ـ وقد ذقنا شيئًا من مرارة ما ترتكبه هذه الفئة المنحرفة وتجرّعنا الغُصَص من ذلك ـ أن نسعى إلى تصحيح أوضاعنا، وننظر في الأسباب الحقيقية للانحراف الفكري والخُلُقي فنتفاداها، وقبل ذلك وبعده أن نلجأ إلى الله أن يصلح نياتنا وذرّياتنا، وأن يحفظ علينا أَمْننا والنعم التي أنعم بها علينا، وعلينا أن ننظر بعين البصر والبصيرة، وأن نَزِن الأحداث والوقائع بميزان العدل والحق؛ فإن الله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المائدة:8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إن من الواجب علينا ونحن نعيش هذه الأحداث المريرة المؤلمة أن نتذكّر أبناءنا وإخواننا على خط النار الذين يتصدون لمواجهة تلك الأفكار المنحرفة بمواجهة أربابها، ويعرّض أحدهم نفسه للهلاك لذلك. إننا نقول لإخواننا رجال الأمن: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128]، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35]، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُه [آل عمران:140]، وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ [النساء:104]، واعلموا أن المؤمن لا يصيبه نَصَب ولا وَصَب ولا تعب حتى الشوكة يُشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه، فأمره كله خير، شُكْرٌ في السرّاء، وصبْرٌ في الضرّاء.
احفظوا الله يحفظكم، وأنّى لعبد حفظه الله أن يناله أحد بسوء؟! ((من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمّة الله)) ، والهجوا بالأذكار صباح مساء؛ فهي حافظة بإذن الله، واثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون.
وإننا نوصيكم بتقوى الله والإخلاص له، فإنكم في جهاد ما أخلصتم ذلك لله، اجعلوا قتالكم لإعلاء كلمة الله وردّ الشبهة والفتنة والبدعة عن دين الله؛ فإن ذلك في سبيل الله، وقدوتكم إمام المجاهدين يقول: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)) ، ولا يخفاكم فضل الجهاد والمجاهدين في سبيل الله، وإياكم أن تقاتلوا حميّة أو شجاعة أو ليحمدكم الناس أو لأي هدف من أهداف الدنيا الدنيّة؛ فإن في أول ثلاثة تسعّر بهم النار يوم القيامة رجلاً قاتل ليُقال: جريء، فقيل له في الدنيا، ثم يؤمر به فيُسحب إلى النار. نسأل الله لكم النصر والتسديد، إنه على كل شيء قدير.
وإن من الجهاد في سبيل الله ـ عباد الله ـ أن يتصدّى أولو الشأن لدحض شبه هؤلاء الضالين وإبطالها؛ فإن المواجهة ليست مع أشخاص، بل مع أفكار، وإذا قتلتَ شخصًا فإنك لم تقتل فِكره بكل حال، بل ربما بقي ليحمله بعده مثله، وهكذا.
ولهذا فإن الواجب على الصالحين المصلحين والناصحين المخلصين أن يتصدّوا لهتك أستار هذه الشبه وهدمها، عسى الله أن يطفئ نارها ويخمد جذوتها، إنه خير مسؤول.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في هذه البلاد من رجال الأمن والهيئات والباذلين المخلصين الذين يجاهدون في سبيلك لإعلاء دينك وكلمتك...
(1/4357)
الإرهاب
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
2/4/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر الإعلام في تشكيل حياة الناس وأفكارهم. 2- خطورة سلاح المصطلحات. 3- المراد بالإرهاب في الكتاب والسنة ولسان العرب. 4- حقيقة الإرهاب بين الواقع والإعلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
في ظل الثورة الإعلامية الضخمة والانفجار المعلوماتي الهائل والتسارع الرهيب في العولمة وما ترتب عليها من أحداث سيطر الإعلام من حيث يشعر الناس أو لا يشعرون على ثقافات كثيرين وأفكارهم، فصار هو المحرّك الأول لها، يحبون من يحبه الإعلام، ويبغضون من يبغض، ويوالون من يوالي، ويعادون من يعادي، يرضون عمن يمجّده الإعلام أمامهم ويقدسونه ويجعلونه أسطورة ومثالاً للحضارة الإنسانية، ويسخطون على من يذمه فيكيلون له أحطّ المعاني وأخسّها.
عباد الله، إن هذا التغير في السيطرة الإعلامية ليس إلا شكلاً من أشكال الحرب المتنوعة التي يقودها المحرك الأول للإعلام العالمي: الصهيونية العالمية على الإسلام بالدرجة الأولى، ثم للسيطرة على العالم بالدرجة الثانية؛ إذ هم يعلمون أنه لن تقوم لهم قائمة ودولة الإسلام شاهدة.
وإن من أبرز أسلحة هذه الحرب الإعلامية سلاح المصطلحات الذي شاع وانتشر مؤخرًا، فصار الإعلام يصوغ المصطلحات ويشكّلها كيفما شاء، ثم يطلقها على من شاء متى شاء. وهذا السلاح وإن كان معروفًا من القديم إلا أنه طُوّر وعُدِّل، واستفيد له من التقنية الحديثة فصار إلى ما صار إليه الآن.
لقد كان استخدام المصطلحات موجودًا في الصراعات الحضارية بين الأمم، بل حورب به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكان أعداؤهم يجلبون الألفاظ والمصطلحات التي هي أعلام على معان سيئة، ويسقطونها على دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام لتنفير الناس، يقول ابن القيم رحمه الله في الصواعق: "فأشد ما حاول أعداء الرسول محمد من التنفير عنه سوءُ التعبير عما جاء به، وضربُ الأمثال القبيحة له، والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترّين المخدوعين، فوصلت إلى قلوبهم، فنفرت منه، وهذا شأن كل مبطل" اهـ.
وعلى العكس، فقد كان الأعداء يأخذون الألفاظ السليمة والصالحة فيجعلونها أعلامًا على ما يدعون إليه مما ينفر الناس منه؛ فيسهل تضليل الناس والتلبيس عليهم، وتأمل في مسمى: العلمانية، الذي يعني فصل الدين عن الحياة وكيف اشتق من العلم لتقبله النفوس وتُسيغه. وقس على هذا: الإصلاح، والتقدّمية، والعقلانية.
ولكن مهما بُدّلت الألفاظ وحُسّنت العبارات فلن يتغيّر من الحقائق شيء. يقول ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: "ولو أوجب تبديل الأسماء والصور تبدّل الأحكام والحقائق لفسدت الديانات وبُدّلت الشرائع واضمحلّ الإسلام، وأي شيء نفع المشركين تسميتهم أصنامهم آلهة وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟!" اهـ.
عباد الله، ومصطلح "الإرهاب" من أحدث ما أُنتج من هذا السلاح؛ وهو من أشدّه فتكًا في العقول والأفكار، فما تردّد على المسامع مؤخرًا لفظ ما تردد هذا المصطلح، لقد تَمَنْطَقَ به الكثيرون حتى ممن لا يحسن الحديث، واتخذه سيفًا يسلّه على من كرهه وعاداه.
ولست في هذا المقام أسعى إلى ما عجز عنه الآخرون من تحديده بحدٍّ جامع مانع، لكني سأقف مع أصل هذا المسمى في لسان العرب ثم في لسان الشارع، ولنقارن بعدها بين ما نصل إليه وما هو عليه الآن.
ولكن ينبغي أن نعلم أوّلاً أنّ هذا المسمى جاء تعريبًا لمصطلح غير عربي، وبناء على هذا فقد كان علينا أن نعلم مراد أهل تلك الثقافة من إطلاق هذا المسمى، حتى نضع له ما يساويه من لغتنا، فلا نزيد ولا ننقص؛ لأن إطلاق اسم "الإرهاب" على ما أراده أولئك أدخل ما هو خارج عنه، وأخرج ما هو داخل فيه، مما كان فيه خدمة لأغراض الأعداء وأهدافهم. إضافة إلى أنه أدّى إلى خلاف في ضبطه في إطار معيّن وحدّه بحدّ واضح، وهذا أمر طبيعي، إذ إن جذور الخلاف تعود في كثير من الأحوال إلى اختلاف المفاهيم أو الجهل بحقائق الأمور، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن كثيرًا من نزاع الناس سببه ألفاظ مجملة مبتدعة ومعان مشتبهة" اهـ.
إن أصل "الإرهاب" في اللسان العربي هو الراء والهاء والباء، وهي تدور حول معنى الخوف والفزع، فالإرهاب هو التخويف والإفزاع.
وإذا تعرضنا لدراسة هذا المصطلح في نصوص الكتاب والسنة نجد أنه استُخدِم في معاني عظيمة، فالرهبة من الله عز وجل من أجلّ عبادات القلوب وأعمالها المطلوبة شرعًا، يقول الله سبحانه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، وقال عزّ شأنه في نعت أنبيائه عليهم الصلاة والسلام: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، وكان من جملة دعاء النبي كما عند ابن ماجه بسند صحيح: ((ربّ اجعلني لك شَكّارًا، لك ذَكّارًا، لك رهّابًا)).
وأيضًا فإن إعداد القوة لإرهاب أعداء الله وأعداء المؤمنين من الأمور المأمور بها شرعًا وعقلاً؛ لما يتحقّق بها من المصالح ويندفع بها من المفاسد، قال الله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60]، وكل أمّة تحاول أن تظهر شيئًا من مكنون قوتها وتبرزَه ليرهبها عدوها.
أما الإرهاب بالمصطلح الحديث فهو كألفاظ المبتدِعة المجمَلة التي يُراد بها حقّ وباطل؛ ولذا فليس لنا أن نقرّه بإطلاق أو نردّه بإطلاق؛ بل لا بد من الاستفصال عن مُراد المتكلّم به، فإن أراد به العدوان على الناس في دينهم أو دمائهم أو عقولهم أو أموالهم بكافّة صنوف العدوان من التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق والإفساد في الأرض وإلقاء الرعب بين الناس وترويعهم فلا شك أن هذا إرهاب مذموم، يردّه ديننا الحنيف ويمنعه، بل تمنعه كافّة الأديان والعقول السليمة، يقول الله سبحانه: وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
وأما إذا أراد المتكلّم به دين الإسلام بشكل عام أو وَصَف به شعيرة من شعائره كالجهاد وعقيدة الولاء والبراء أو قَصَد به تطبيق شرع الله بإقامة الحدود وتحكيم كتاب الله أو التمسّك بشريعة الله كما أمر الله كإطلاق اللحى ولزوم المرأة حجابها الشرعي أو إزالة شيء من آثار الجاهلية التي يجب طمسها وإزالتها فهذا إطلاق مردود جملة وتفصيلاً، ولا نقبله ولا شكلاً من أشكاله؛ بل هذا ديننا وهذه شرعتنا فيها فلاحنا ونجاتنا وبها مجدنا وعزّنا ونصرنا؛ إن ابتغينا السيادة والريادة والقيادة للعالمين فبتمسّكنا بها ولزومنا إياها.
ويا ليت قومي يعلمون أن أساس إطلاق مصطلح الإرهاب هو إرادة المعنى الأخير بإلصاقه بدين الإسلام وأتباعه؛ ليقف العالم الكافر وأذنابه من جهلة المسلمين وَغَوْغَائهم وحَمْقَاهم في وجه دين الإسلام ونشره بين العالمين، ولكن وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إننا حين نقول: إن إطلاق الغرب لمصطلح "الإرهاب" هو استهداف لديننا لا نقوله من فراغ، أو تهجّمًا عليهم وظلمًا لهم، لكنها الحقيقة وما ينطق به لسان الواقع، وإلا فما تفسير تهجّمهم على الدين إذا قام بالعمليّة رجل مسلم بغضّ النظر عن كون الإسلام يقرّها أو أنه خالف الإسلام بارتكابها. إن الحديث أولَ ما ينطلق إلى وصفه بأنه مسلم إرهابي، أما إذا قام بالعملية يهودي أو نصراني فلا يُنسب إلى دينه شيء، بل لا يعدو التصرف حماقة منه وشذوذًا إنسانيًا.
ولماذا يوصف أصحاب الأرض وأهل الحق في فلسطين والشيشان والعراق وأفغانستان بأنهم متمرّدون إرهابيون، حتى في حق الدفاع المشروع عن أرضهم الذي تكفله لهم ـ كما يُزعَم ـ كافّة الأعراف والمواثيق الدولية، ولا يوصف الطغيان الكافر من قِبَل الصهاينة في فلسطين ولا من القوات الصليبية الأمريكية وحلفائها في العراق وأفغانستان ولا من الروسية المُلحِدة في الشيشان بشيء من ذلك.
بل حتى على سبيل التسليم لهم في وصف المدافعين بأنهم إرهابيون لِمَ لم يُطلق الوصف نفسه على المتمرّدين في تيمور الشرقية النصرانية أو في هاييتي أو في ليبيريا؟! بل سعوا في تحقيق هؤلاء لمساعيهم، فمنحوا الأولى استقلالها، وأطاحوا بالنظام الحاكم في الأُخريين.
لماذا يُعدّ قتل من خان الله ورسوله والمؤمنين وباع آخرته بدنياه ضربًا من الإرهاب ولا يعدّ استهداف الشيخ أحمد ياسين أو الدكتور عبد العزيز الرنتيسي أو غيرهما من رموز الجهاد الإسلامي في الأرض إلا نوعًا من الدفاع المشروع ومطاردة المجرمين ومُنظِّري الإرهاب؟! لماذا يوصف استهداف الأنفاق الإسبانية أو المسارح الروسية أو المباني الأمريكية إرهابًا ولا يوصف ضرب المسيرة السلمية في رفح أو قصف حفل العرس العراقي أو استهداف المهاجرين الراحلين في الشيشان وأفغانستان بأنه إرهاب؟! بل لا يعدو الحديث الدعوة إلى ضبط النفس!!
يا مسلمون، أفيقوا من سباتكمُ، فالشمس ما أصبحت كاليوم تِبيانًا.
أيها المسلمون، أفيقوا. أيها المسلمون، أفيقوا. أيها المسلمون، أفيقوا. والله وبالله وتالله، ثلاثة أيمان لا أحنث فيها، إنها حرب على الإسلام لا على الإرهاب، ولاجْتِثَاث المسلمين لا الإرهابيين.
(1/4358)
الزلازل
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, أشراط الساعة, جرائم وحوادث
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
22/2/1426
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من وقوع المصائب والكوارث. 2- من علامات آخر الزمان كثرة الزلازل. 3- الأسباب الحقيقية وراء وقوع الزلازل. 4- دعوة للمحاسبة والمراجعة بعد البلاء. 5- شبهات حول الزلازل والجواب عنها.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد أجرى الله أمور عباده منذ أن خلقهم إلى أن يقبضهم على التقلّب بين شدّة ورخاء ورَغَد وبلاء وأَخْذ وعطاء، فسبحانه من إله علم عواقب الأمور وصرّف الدهور، فمنع وأعطى، ومنح وامتحن، فجعل عباده مُتقلّبين بين خير وشر ونفع وضر، ولم يجعل لهم في وقت الرخاء أحسن من الشكر، ولا في أيام المحنة والبلاء أنجع من الصبر، فطوبى لمن وُفِّق في الحالين للقيام بالواجبين، فشَكَر عند السراء، وصَبَر عند الضراء، وابتهل إلى الله عند كلا الحالين بالتضرع والدعاء.
عباد الله، إن الله لا يخلق شرًّا محضًا، فكم من شرّ في نظر الناس يحمل في طيّاته خيرًا كثيرًا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. فقد يبتلي الله عباده لتستيقظ النفوس الغافلة، ولتَلِين القلوب القاسية، ولتدمع العيون الجامدة. وإن من ذلك أن يُهلِك من حولهم لتحصل لهم بذلك العظة والعبرة، قال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنْ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27]، لعلهم يستيقظون من غفلتهم ويراجعون أنفسهم.
وإنّ الله ليمسّهم بشيء من التضييق لئلا يتمادوا في الطغيان ويغرقوا في العصيان، فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]، فإن لم يرجعوا عن غِيّهم ويتوبوا إلى الله من إعراضهم عن أوامر الله زاد لهم الله في النعيم، وجعلهم يتقلّبون في النعيم، حتى تزيد غفلتهم وإعراضهم، فيأخذهم على غِرَّة.
روى الإمام أحمد بسند صحيح عن عقبة بن عامر عن النبي قال: ((إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)) ، ثم تلا قول الله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44، 45]. يأخذهم على غِرّة حتى يكون ذلك أشد ما يكون عليهم، أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [يوسف:107]، أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النحل:45، 46]، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
عباد الله، لقد كثرت الزلازل المروِّعة التي دمّرت الإنسان والعمران، وقد تتابع وقوع ذلك في سنين متقاربة، حتى كان من آخرها ذلك المدمّر في جنوب آسيا الذي تبعه طوفان أهلك الحرث والنسل، وألحق الخراب بالدور والمساكن والمرافق، وكانت آخر الإحصائيات قرابة ثلاثمائة ألف قتيل، ناهيك عن أرقام الجرحى والمصابين والمشرّدين، وقدر الخسائر والأضرار التي لحقت بالمنشآت والمباني. وكل ذلك كان في لحظات قليلة، ثم جاء بعده خلال هذه الأيام زلزال مقارب له في الشدة والقوة، وليس بينهما سوى ثلاثة أشهر.
إنه جندي من جنود الله، وعذاب الله يسلّطه على من يشاء، لا يستطيع المخلوق الضعيف أن يقف أمامه مهما بلغت قوته.
ولا شك أن هذه عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والفساد، وفيها لمن حولهم عبر وعظات لا يدركها إلا أولو الألباب، وهي تظهر قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرّك لبضع ثوان، فينتج عن ذلك هذا الدمار وهذا الهلاك وهذا الرعب.
روى الإمام أحمد عن صفية أنها قالت: زُلزِلت المدينة على عهد عمر بن الخطاب، فقال: (يا أيها الناس، ما هذا؟! ما أسرع ما أحدثتم! لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا)، وقال كعب : "إنما تُزلزَل الأرض إذا عُمل فيها بالمعاصي، فترعد خوفًا من الربّ جلّ جلاله أن يطّلع عليها"، وقال بعض السلف لما زلزلت الأرض: "إن ربكم يسْتَعْتبكم".
ولقد جاءت النصوص بأن ذلك يكثر في آخر الزمان، وأنه من عذاب الله لهذه الأمة، جاء في الحديث الذي رواه الإمامان أحمد والبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يُقبَض العلم، ويتقارب الزمان، وتكثر الزلازل، وتظهر الفتن، ويكثر الهَرْج)) ، قيل: الهَرْج؟ ـ أي: ما هو؟ ـ قال: ((القتل القتل)). وقد ثبت عنه أن عذاب هذه الأمة في الدنيا: ((الفتن والزلازل والقتل)) أخرجه أبو داود.
عباد الله، وإن مما يُؤسَف له ويدعو إلى العجب ما درجت عليه وسائل الإعلام من إظهار هذه الكوارث على أنها ظواهر طبيعية، وأنّ سببها تصدّعٌ في باطن الأرض ضعُفت القشرة عن تحمّله، فترتّب من جَرّاء ذلك حدوث تلك الهزّات المُزلزِلة. والسؤال الذي يوجّه إلى هؤلاء وأمثالهم: مَن الذي قدّر لهذا الصدع أن يحدث؟ ومن الذي أضعف قشرة الأرض أن تتحمّله؟ أليس هو الله؟! إنما كان ذلك بسبب فشوّ المنكرات واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير والغفلة عن مكر الله. لقد جاءهم الزلزال بعد هجوع الناس، جاءهم بياتًا وهم لا يشعرون، فاللهم إنا نسألك عفوك ولطفك.
ثم يأتي بعد حدوث الزلزال من يبقى يقدّر الخسائر في الأموال والممتلكات ومدى تأثير ذلك على عجلة الاقتصاد، ويتناسى قول الله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، ويتعامى عن قول الله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:21]، ويُعرض عن قول الله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
وأدهى من ذلك وأمرّ أن يظهر بعض الكتّاب الناقصين القاصرين في العقل والدين، ويعترضوا أن يكون ذلك من آثار الذنوب، بل ويقول قائلهم مُلْبسًا الحقّ بالباطل: ما هو ذنب شعوب فقيرة للغاية في شرق آسيا لكي يحلّ بها هذا الدمار الشامل؟! إن الله أكثر رأفة ورحمة بعباده من أن يضعهم تحت هذه القسوة!
فيا سبحان الله! ما أشدّ حمقهم ونقص عقولهم! ألم يطّلع هؤلاء وأمثالهم من سَقَط الكُتّاب على قول الله جلّ وعلا: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وقول الله سبحانه: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ، ثم يختم الله الآية: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]؟! ألم يقل الله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]؟! ألم يقل الله: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]؟! إنها سنّة الله فيمن يغيّر حاله من الشكر إلى الكفر، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62]، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
ولماذا لم يعترض عمر على ما فعله الله بأهل المدينة وهم خير القرون وأفضل هذه الأمّة، بل شَدّد النكير عليهم، وبيّن أنها إنما زُلزِلت بسبب ما أحدثوه من التفريط والعصيان، وأقسم أنها إن عادت لا يساكنهم فيها أبدًا؟! أفنترك كل هذا لعبارة مثل هؤلاء وعقولهم؟!
لقد كان بعض العقلاء الأمريكيين من غير المسلمين أكثر تعقّلاً من هؤلاء حين صرّحوا بأن الشذوذ الجنسي والزنا والإجهاض من الذنوب الكبيرة التي ستجلب الدمار لأمريكا، وهو سبب ما يحصل فيها من الأعاصير والفيضانات والحرائق والأمراض الفتّاكة وغيرها. فهل هؤلاء العقلاء المنتسبون إلى ديار الحرية والديمقراطية المزعومة متشدّدون؟!
إن حال من ينكر أن هذه الحوادث بسبب الذنوب كحال من ذكرهم الله في كتابه العزيز، فإذا أصابهم الكرب والضرّ قالوا: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]، فهذا أمر طَبَعِيّ لا علاقة له بذنوب العباد، فيواصلون في إعراضهم وفجورهم ويقولون: إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:137].
إننا إذ نتعاطف مع إخواننا المسلمين هناك ونتألّم أشدّ الألم لما حلّ بهم ونسأل الله تعالى أن يرحم ضعفهم ويرفع الضرّ والبأساء عنهم؛ فإنه يجب علينا وعليهم أن نحاسب أنفسنا، ونصحّح أوضاعنا، وأن نسعى جاهدين لإزالة المنكرات والفواحش التي هي سبب حصول البلايا والمحن. وقد روى الطبراني والحاكم وحسّنه الألباني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلّوا بأنفسهم عذاب الله).
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما جرى حولكم، ولنتُب إلى الله جميعًا، فإن الله هو التواب الرحيم، ولنتذكر قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الواجب علينا أن نتقي الله تعالى، ونتوب إليه من ذنوبنا، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر، ونأخذ على أيدي سفهائنا، قبل أن يحلّ بنا ما حلّ بمن حولنا، ولنعلم جميعًا أن الذي جعل غيرنا عبرة لنا قادر على أن يجعلنا عبرة لغيرنا، وأن ما وقع إنما هو من كسب الناس، قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
قال الإمام ابن باز رحمه الله: "فالواجب عند الزلازل وغيرها من الآيات والكسوف والرياح الشديدة والفيضانات البِدَار بالتوبة إلى الله سبحانه والضراعة إليه وسؤاله العفو والعافية والإكثار من ذكره واستغفاره، كما قال عند الكسوف: ((فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)). ويستحبّ أيضًا رحمة الفقراء والمساكين والصدقة عليهم لقول النبي : ((ارحموا ترحموا، الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) ، وقوله : ((من لا يَرحم لا يُرحم)). وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يكتب إلى أمرائه عند وجود الزلزلة أن يتصدّقوا. ومن أسباب العافية والسلامة من كل سوء مبادرة ولاة الأمور بالأخذ على أيدي السفهاء وإلزامهم بالحق وتحكيم شرع الله فيهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" إلى آخر ما قال رحمه الله.
عباد الله، وإن مما يُشكل على بعض الناس أنه قد يكون العذاب شاملاً لبقعة فيها قوم من الصالحين المُنكِرين على قومهم، فيقال: لا إشكال في ذلك، فإن هلكوا معهم فهو موعد آجالهم، ثم يُبعثون على نيّاتهم، كما قال النبي : ((يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم)) ، فقالت عائشة: يا رسول الله، كيف يُخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟! قال: ((يُخسف بأولهم وآخرهم، ثم يُبعثون على نيّاتهم)) متفق عليه.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا والنعم التي أنعمت بها علينا...
(1/4359)
الشائعات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
18/3/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إذا حرّم الله أمرًا حرّم الوسائل الموصلة إليه. 2- تاريخ الإشاعة. 3- أثر الإشاعة. 4- الإنترنت ونشر الشائعات. 5- منهج الإسلام في التعامل مع الإشاعات. 6- عقوبة نشر الشائعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد جاء الإسلام بحفظ دماء الناس وأعراضهم وأموالهم وكافة حقوقهم وما يكفل لهم طيب العيش وهناء البال كالأمن والصحة والغذاء ونحو ذلك، ونهى عن كل ما يسوؤهم أو يسيء إليهم أو ينقص من تلك الحقوق أو يثير الفوضى ويخلّ بالأمن، بل جعل المؤمن من أَمِنه الناس، والمسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده.
وإذا حرّم الله أمرًا حرّم الوسائل الموصلة إليه والموقعة فيه، فلما منع الشرك سدَّ الذرائع الموصلة إليه، فمنع من اتخاذ القبور مساجد أو البناء عليها أو إسراجها، ولما حَرّم الزنا قال: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء:32]، فمنع من الوقوع فيما يثير شهوة الإنسان المحرمة من النظر المحرّم أو السماع المحرّم أو الخلوة بالأجنبية أو مسّها، ولما حرّم الربا حرّم الصور المفضية إليه كبيع العِينة وغيره.
وإن من أعظم الطرق المفضية إلى انتشار الفوضى واضطراب الأمور بثَّ الشائعات المختلقة والافتراءات الأثيمة التي عَرِيت تمامًا عن أي وجهٍ من وجوه الحق، خاصة في أوقات الأزمات والفتن، حينما تكون الأمة في أَمَسّ الحاجة إلى توحيد الكلمة واتحاد الصف وضبط الأمن.
عباد الله، إن تاريخ الإشاعة قديم قِدَم هذا الإنسان، وقد ذُكر في كتاب الله عز وجل نماذج من ذلك منذ فجر التاريخ، وبقراءة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصصهم نجد أنّ كلاً منهم قد أثير حوله الكثير من الإشاعات من قبل قومه، ثم يبثّونها ويتوارثونها أحيانًا، ولا شك أن تلك الإشاعات كان لها الأثر في جعل بعض المعوّقات في طريق دعوة أولئك الأنبياء والرسل.
فهذا نوح عليه السلام اتُّهِم بإشاعة من قومه بأنه: يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ [المؤمنون:24]، فيتزعّم ويتأمّر، وقيل له: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف:60]، ويُشاع عنه بأنه مجنون.
وهذا نبي الله هود عليه السلام يُشاع عنه الطَّيْش والخِفّة والكذب، كما قال تعالى: إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ [الأعراف:66]، ويُتَّهم بالجنون: إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54].
ثم هذا موسى عليه السلام يحمل دعوة ربه إلى فرعون وملئه وقومه، فيملأ فرعون سماء مصر، ويُسمّم الأجواء من حوله بما يطلق عليه من شائعات فيقول: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِه [الشعراء:34، 35]، ويتّهمه بالإفساد: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26].
وأما في عهد النبي وأصحابه ومن بعدهم فخذوا على سبيل المثال حين أُشِيع بأن مشركي مكة قد أسلموا رجع من رجع من المهاجرين هجرة الحبشة الأولى، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب، فدخل منهم من دخل، وعاد من عاد، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان هو فارًّا بدينه منه.
وفي معركة أحد عندما أشاع الكفارُ أن الرسول قُتِل فَتّ ذلك في عَضُد كثير من المسلمين، حتى إن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال.
وفي حمراء الأسد بعد غزوة أحد مباشرة تأتي الشائعة: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ [آل عمران:173].
ومن أعظم الشائعات التي هَزّت المجتمع الإسلامي بأكمله وجعلته يصطلي بنارها شهرًا كاملاً إضافة إلى أنها كلّفت أطهر النفوس البشرية على الإطلاق وأطهر البيوت رسول الله وبيوته آلامًا الله يعلم قدرها، إنها شائعة الإفك التي أطلقها رأس النفاق عبد الله بن أُبيّ بن سلول لعنه الله، فراجت وماجت في المجتمع المدني؛ فمنهم من تلقّاها بلسانه، ومنهم من سكت، ومنهم من ردّها وقال: مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].
وبعد عهد النبي كانت الشائعة السبب الأول والرئيس في قتل الخليفة الراشد المهدي عثمان بن عفان. تجمّع أخلاط من المنافقين ودَهْمَاء الناس وجَهَلَتِهم، وأصبحت لهم شوكة، وقُتِل على إثْرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته وقطع الماء عنه، بل كان من آثار هذه الفتنة أن قامت حروب بين الصحابة الكرام كمعركة الجمل وصِفِّين، فمن كان يتصوّر أن الإشاعة تفعل كل هذا؟! بل خرجت على إثرها الخوارج، وتزندقت الشيعة، وترتب عليها ظهور المرجئة والقدرية الأولى، ثم انتشرت البدع بكثرة، وظهرت فتن وبدع وقلاقل كثيرة، ما تزال الأمة الإسلامية تعاني من آثارها إلى اليوم.
ولو قرأت التاريخ لوجدت صفحاته مليئة بشائعات غيّرت حياة كثير من الناس، وربما ألغتها، ودفنتهم تحت التراب.
إن هناك فئات وأصنافًا من الناس في كل مجتمع قلوبها مريضة، وأرواحها ميتة، وذممها مهدرة، لا تخاف من الله، ولا تستحي من عباد الله، مهنتهم ووظيفتهم وهوايتهم نشر الشائعات في أوساط الناس، تتغذّى على لحوم البشر، وترتقي على أكتاف وحساب غيرها.
ومن أعظم الوسائل المعينة لهم على فتنتهم شبكات الإنترنت، حيث صارت هذه الشبكات لهم مسرحًا يعبثون فيه بأمن الناس وأديانهم وعقولهم، فانساق وراءهم بعض العامة والجهلة، ففُتِنوا بفتنتهم، ووقعوا في تقليدهم، فصارت تلك المواقع والمنتديات مصدرًا رئيسًا لهؤلاء الغَوْغاء، يصدرون عن آرائها وما يبث فيها، ولا يكاد ينزل فيها خبر عن شخص أو دولة أو حكومة أو أمة إلا وينتشر انتشار النار في الهشيم في كافة المنتديات وبشتى صور العرض، وبتفنّن في جذب الانتباه.
صار كثير من الناس ـ وخصوصًا الشباب ـ يصدرون الأحكام بناء على ما يكتب على صفحات تلك المنتديات، دون معرفة وتوثّق من مصدرها. فإذا كان العلماء قد ضعّفوا رواية معلوم العين ومجهول الحال فما بالك برواية مجهول العين والحال؟!
ونطقت الرُّوَيْبِضَة في شبكات الإنترنت، وهو الرجل التافه الذي يتكلم في أمر العامة، صار كثير ممن لا يُعرفون وهم في الحقيقة ناقصو علم وعقل، وليس لهم من الأمر شيء، صاروا يتكلّمون في أمر الأمة ويوجهون، ويحكمون على الناس وأديانهم، ويكفّرون ويبدّعون من يشاؤون.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إننا نعيش في زمن كثر فيه ترويج الإشاعة، ولكي لا تؤثر هذه الإشاعات على المسلم بأي شكل من الأشكال فلا بد أن يكون هناك منهج واضح محدد لكل مسلم يتعامل به مع الإشاعات، وهذا المنهج يتلخص في أمور:
الأول: أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم، قال الله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12].
الثاني: أن يتوثّق من صحة النقل، ويطلب المسلم الدليل عليه، قال الله تعالى: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13].
الثالث: أن يَكِل أمره إن كان من أمور العامة إلى أولي الأمر الذين يستنبطونه منهم: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
وأخيرًا، فإن عِظم شأن الشائعة أورد فيها عقوبة عظيمة لمتولّي كِبَرِها، عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله : ((إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق...)) ثم ذكر الحديث، وكان مما قال : ((فأتينا على رجل مُسْتَلْقٍ على قفاه، وإذا آخر قائم بكَلُّوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شِقّي وجهه فيُشَرْشِرُ شِدْقه إلى قفاه، ومِنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحوّل إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصحَّ ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى)) ، ثم جاء خبره في آخر الحديث، حيث قال له الرجلان: ((إنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة فتبلغ الآفاق)) رواه البخاري.
(1/4360)
انكشف القناع
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
19/2/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا تخلو أقدار الله من خير. 2- من فوائد الحرب على العراق. 3- من سنن الله عدم دوام الظلم. 4- التجاء النبي إلى الله في الشدائد.
_________
الخطبة الأولى
_________
إنّ كل ما يجري في هذا الكون في أرضه وسمائه ويابسه ومائه ليجري بعلم الله وتقديره وحكمته البالغة. وله في ذلك سُنن ونواميس كونية لا تتبدّل ولا تتغيّر.
وإن من الواجب على كل مؤمن أن يعلم أن ما يقدّره الله في هذا الكون لا يكون شرًّا محضًا، بل لا بد أن يكون فيه خير، علمه الإنسان أو جهله، اطّلع عليه أو لم يطلع عليه بعدُ.
ومن ذلك ما يحدث الآن على أرض العراق من الحرب الشَرِسة التي تشنّها الجيوش المحتلّة المُدَجَّجَة بكافة أنواع الأسلحة ضد شعب أعزل لا تبلغ قوته المادية عُشْر مِعْشار قوتهم، بل لا مجال للمقارنة بينهما، وما نتج وينتج عن ذلك من القتلى والجرحى في صفوف إخواننا هناك.
أيها المسلمون، وإن من المِنَح التي حملتها هذه المِحْنة وضوحَ الصورة الحقيقية أكثر وأكثر لأمريكا وأذنابها، قَدِموا بزعمهم لهدف إزالة أسلحة الدمار، فجاؤوا بالدمار والبَوَار. وأقبلوا على قولهم بالحرية، فما زادوا الشعب إلا استرقاقًا واستعبادًا. إنما جاء هؤلاء لمطامع عقدية واقتصادية وسياسية ليس هذا المقام محل بيانها، ولما رأوا أن الشعب انتفض وأبى الخضوع والخنوع لهم جاسوا خلال الديار، وأهلكوا الحَرْث والنسل، ولم يرقبوا في عباد الله إلاًّ ولا ذِمّة.
لقد تكشفّت الحقائق، ولم تعد هناك أقنعة، فأمريكا التي طَبَّلت حول الإنسانية وحقوق الإنسان قُلُوب قوّاتها خَوَاء من ذلك، والدليل ما يفعلونه بالمسلمين الآن في العراق ومن قبلها أفغانستان.
نادَوا في الفَلُّوجة بترحيل النساء والأطفال والشيوخ والعجائز لئلا يصيبهم القصف العنيف، فلما نزح أولئك المستضعفون رموهم بالصواريخ والقذائف وقتلوا فيهم وجرحوا، ومنعوا كافة المعونات ـ بل حتى المواد الإسعافية ـ من دخول المدينة، ولم يسلم منهم حتى المصلّون في بيوت الله، فأي إنسانية يحملون؟! وبأي حقوق يهْتِفون؟!
ورسالة سريعة إلى أذناب أمريكا في بلاد المسلمين الذين اغترّوا بحضارتها الزائفة وقِيَمها الزائلة، وطَبّلوا وطَنْطَنُوا حولها، وأَزْكموا أنوفنا بكتاباتهم التي يدعون فيها المسلمين ليحذوا حذوها في الديمقراطية والحرية والعدالة، ألا تزالون معجبين بها وبعدالتها؟! وهل ستظلّون مُقَدّرين للحرية التي لا تعدو كونَها تمثالاً على أرضها؟! هل العدل والديمقراطية في التسلّط على بلاد المسلمين ونهب ثرواتها وخيراتها؟! وهل الحرية هي التدخل في شؤون العراق وغيره من بلاد المسلمين؟! ومنذ متى كانت لها الوصاية على العالم الإسلامي، فلا ينفذ تصرّفهم إلا بإذنها؟!
أيها المسلمون، ومن العجائب ـ والعجائبُ جَمّة ـ أنّ العالم بأسره يقف موقف المتفرّج، وكأن الشأن شأن داخلي لا يعني أحدًا، ولا يحق لأي طرف خارجي التدخل فيه، بل لم يتحرك حتى الصليب الأحمر الدولي ولا أي منظمة دولية! فأين مجلس الأمن الذي يدّعون، أم هو معني بأمن غير المسلمين؟! وأين الأمم المتحدة، أم هي خاصة بالمتحدة ضد الإسلام والمسلمين؟! وأين ذهبت الأعراف والمواثيق الدولية، أم أنّ من بنودها أن يلتزم بها المسلمون فقط دون غيرهم؟!
وإن تعجب فاعجب لما يردّده الإعلام العالمي من وصف هذا الاحتلال بالاحتلال الحلال، وهو وإن لم يصفه مَقَالاً فقد وصفه حالاً، فلم نر الإعلام العالمي استنكر هذا التدخّل غير الشرعي في هذا البلد، ولم نره اعترض ـ ولو مجرّد اعتراض ـ على سفك الدماء وإزهاق أرواح الأبرياء والتسلّط على خيرات البلد ونهب ثرواته ومُقدّراته.
أيها المسلمون، إن من سُنن الله تعالى أن الظلم والبغي لا يدوم، بل لا بد أن ينقشع ويزول، وهذا حكم عام يشمل الأفراد والملوك والأمم والدول، فكم من ظالم سُلِّط عليه من هو أقوى منه بحق أو بغير حق فصار ذليلاً عند الخلق، وكم من ملك جَبّار ظالم أذهب الله ملكه بسبب ظلمه، وكم من أمّة عَتَت وظلمت فأخذها الله وأبادها فكأنها لم تكن، وكم من دولة تجَبّرت وبغت واعتدت فأزالها الله، وبددّ ملكها، ومزّق شعبها، ومحا أثرها.
تأمّل في نصوص الكتاب والسنة تجد أن زوال كثير ممن مضوا كان بسبب الظلم، يقول الله تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف:59]، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [الحج:48]، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52]، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
ولقد جاوزت أمريكا الحد في الطغيان والجبروت والتكبر والظلم والبغي في الأرض بغير الحق، فاستجمعت بذلك الأسباب الموجبة للزوال والانهيار، و((إن الله ليُمْلِي للظالم حتى إذا أخذه لم يفْلِته)).
نسأل الله أن يُعجّل زوال عرشها وتبديد جيشها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الله سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين، والمسلم لا غنى له عن ربه، فهو في حاجة دائمة إليه، وتزداد الحاجة عند الشدائد والكروب، وأزمان الفتن وضيق الحال.
وإن المتأمل في سيرة النبي وأحواله ليرى العجب منه في تعلّقه بربه واللجوء إليه والإلحاح على الله بالدعاء والطلب وعدم اليأس، مع أن دعاءه مُجَاب ورغبته محقّقة، أما عند مُدْلَهِمّات الأمور ومفارق الطُّرُق ومضايق الأحوال فإن نبينا يلجأ إلى ربه ويلح عليه في المسألة، حتى إن أصحابه رضي الله عنهم ليشفقون عليه ويرحمونه من شدة تضرعه وسؤاله.
قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]: " إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ : تستجيرون به من عدوكم، وتدعونه للنصر عليهم، فَاسْتَجَابَ لَكُمْ : فأجاب دعاءكم بأني ممدكم بألف من الملائكة يُردِفُ بعضهم بعضًا، ويتلو بعضهم بعضًا"، ثم ساق بسنده عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما كان يوم بدر ونظر رسول الله إلى المشركين وعدتهم ونظر إلى أصحابه نيّفًا على ثلاث مائة، فاستقبل القبلة فجعل يدعو ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض)) ، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر الصديق فوضعه عليه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: كفاك يا نبي الله ـ بأبي أنت وأمّي ـ مناشدتك ربك؛ فإنه سيُنجز لك ما وعدك، فأنزل الله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ.
وأخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال يوم بدر: ((اللهم أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تُعبد)) ، فأخذ أبو بكر بيده فقال: حسبك، فخرج وهو يقول: ((سيُهزم الجمعُ ويُولّون الدُّبُر)).
وقد أخبرنا القرآن الكريم أن الدعاء عند مواجهة العدو من أمضى الأسلحة وأقواها، قال تعالى عن عباده المجاهدين: وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:147]، وقال تعالى مبينًا للمسلمين أن تفويض الأمور إليه سبحانه يفيد في وقت الأزمات وتحزّب الأحزاب: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175]، وقال تعالى عن جُند طالوت حين رأوا جُند جالوت وفَرّ منهم مَن فَرّ: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ [البقرة:250، 251].
وهكذا كل مسلم تنزل به نازلة أو تحلّ به أو بإخوانه نَكبة يلجأ إلى ربه بالدعاء والضَّرَاعة، في الصحيحين كان رسول الله يقول حين يفرغ من صلاة الفجر من القراءة ويكبّر ويرفع رأسه: ((سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)) ، ثم يقول وهو قائم: ((اللهم أنج الوليد بن الوليد وسَلمة بن هشام وعَيّاش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وَطْأتَك على مُضَر، واجعلها عليهم كَسِني يوسف، اللهم العن لحْيان ورِعْلاً وذَكْوان وعُصَيّة عَصَت الله ورسوله)).
اللهم إنا نسألك أن تعزّ الإسلام وتنصر المسلمين...
(1/4361)
فبما كسبت أيديكم
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
11/3/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقارنة بين حاضر المسلمين وماضيهم. 2- أثر الذنوب في تردّي أحوال المسلمين. 3- تحذير السلف من شؤم المعاصي. 4- أسباب تدهور الأوضاع الأمنية في البلاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
في صدر الإسلام والعصور المفضّلة كان عدد المسلمين أقلَّ بكثير مما هم عليه الآن، ونسبتهم إلى سُكّان الأرض أقلَّ من نسبتهم إليهم الآن، ومع ذلك كان النصر والتأييد حليف أصحاب تلك القرون، وكانت الفتوحات تَتْرَى على دولة الإسلام أرضًا بعد أرض، وديارًا تتلوها ديار، حتى غَطّت دولة الإسلام مساحة شاسعة وأراضي واسعة من هذه المعمورة، وما لم يكن من الدول تحت حكمها اضطرّ أهلها لدفع الجِزْية للمسلمين.
أما في هذا الزمان فعدد المسلمين جاوز المليار، وهم خُمس سكان العالم، وفي بلادهم الثروات الطبيعية، بل بلادهم أغنى البلاد في مقدّراتها ومكنوناتها، ومع ذلك فلا ترى أمة تتجرّع الذل والهوان ـ مع كل هذه الإمكانات ـ كأمّة الإسلام. تسلّط عليهم الأعداء، بل تسلّط عليهم أحقر خلق الله وأجبنهم وهم اليهود، ومع ذلك فكثير منهم كأنّ الأمر لا يعنيهم، بل لا يزالون يتنازعون ويتصارعون على متاع الدنيا الزائل ونعيمها الفاني.
لقد تسابق كثير من المسلمين إلى أصفار المليار؛ ليقوموا مقامها، وقنعوا بذلك، ورضوا به، فركنوا إلى الدنيا وملذّاتها، وأعرضوا عن طريق الله القويم وصراطه المستقيم، وما سعوا إلى جمع كلمتهم وتوحيد صفهم ضد عدوهم؛ فصاروا إلى ما صاروا إليه الآن.
أيها المسلمون، إن ما يصيب المسلمين من المحن والبلايا والفتن والرزايا لهو بسبب أنفسهم وما اكتسبته أيديهم، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إن الذنوب ـ عباد الله ـ باب كل شرّ وطريق كل فتنة، حتى ولو كانت من الصغائر، بل ولو ذنبًا واحدًا.
لقد أُخرج آدم من الجنة بمعصية واحدة ارتكبها، وهي الأكل من الشجرة التي نُهي عنها، ولُعِن إبليس وطُرِد حين عصى وأبى أن يسجد لآدم، ودارت الدائرة على المسلمين يوم أُحد وفيهم رسول الله حين عصى الرماةُ أمرَه، ونزلوا عن الجبل دون أمره، وكان أَمَرَهم أن لا ينزلوا حتى يكون هو الذي يأمرهم، وحين أعجبتهم كثرتهم يوم حُنَين حتى قال قائلهم: لن نغلب اليوم من قِلّة فلم تُغنِ عنهم كثرتهم شيئًا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولّوا مُدْبِرين، ثم أنزل الله نصره على رسوله وعلى المؤمنين.
عباد الله، لقد توافرت النصوص وتضافرت في التحذير من الذنوب وبيان شيء من آثارها السيئة، وأنها كانت سبب العقاب والهلاك الذي حَلّ بالأمم السابقة.
في المسند وابن ماجه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنت عاشر عشرة رهط من المهاجرين عند رسول الله فأقبل علينا بوجهه فقال: ((يا معشر المهاجرين، خمسُ خصالٍ إذا ابتُلِيتم بهنّ، وأعوذ بالله أن تدْركوهنّ: ما ظهرتِ الفاحشة في قوم حتى أعلنوا بها إلاّ ابتُلوا بالطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولا نقص قومٌ المكيالَ والميزان إلا ابتُلوا بالسنين وشدَّة المُؤْنة وجَوْر السلطان، وما منع قومٌ زكاةَ أموالهم إلاّ مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا، ولا خفَر قومٌ العهدَ إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تعملْ أئمتُهم بما أنزل الله جل وعلا في كتابه إلا جعل الله بأسهم بينهم)) ، وفي المسند أيضًا من حديث أم سلمة: ((إذا ظهرت المعاصي في أمّتي عمَّهم الله بعذاب من عنده)) ، وفيه أيضًا عنه أنه قال: ((جُعِلت الذلة والصغار على من خالف أمري)) ، وعن أبي هريرة قال: قال النبي : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكَلَة إلى قصعتها)) ، قال قائل: ومن قِلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟! قال: ((لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكنّكم غُثاء كغُثاء السيل، تُنْزع المهابة من قلوب عدوكم، ويُجعل في قلوبكم الوهن)) ، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) رواه أبو داود.
ولقد تفطّن السلف الصالح إلى آثار المعاصي فحَذِروها وحذّروا منها، استمعوا إلى الصديق يبعث جيشًا فيوصيهم: (إنكم لن تُنصروا على عدوكم إلا بعد تقرّبكم من الله وبعدهم عنه، فإذا تساويتم ـ يعني: في المعاصي ـ كانت الغلبة لأكثركم عدة وعتادًا).
وعمر يوصي سعد بن أبي وقاص يوم بعثه إلى القادسية: (آمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، وعدّتنا ليست كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة) اهـ.
ولما تزلزلت المدينة قال عمر : (إن الله يستعتبكم فأعتبوه)، ثم قال: (والله لئن عادت مرة أخرى لا أساكنكم فيها).
إن المعاصي ـ عباد الله ـ تُهِين المرء على الله، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18]، قال الحسن رحمه الله: "هانوا عليه فعصوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم". ولما بكى أبو الدرداء يوم فتح قبرص فقيل له: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! قال: (ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة ظاهرة قاهرة لهم الملك فصاروا إلى ما ترى).
وإذا هان الخلق على الله لم يعبأ بهم ولم يجب دعوتهم، روى الترمذي وغيره عنه أنه قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عذابًا من عنده، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم)).
اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شرّ أنفسنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحال التي نعيشها في بلادنا اليوم توجب علينا أن نراجع أنفسنا، ونتأمّل فيما اقترفته أيدينا من الذنوب.
لقد كنا نعيش جسدًا واحدًا، همّنا وسعينا وهدفنا واحد، آمنين مطمئنين، فأصبحنا نجد بين أظهرنا أحزابًا وجماعات ما خطر بأذهاننا أنها ستكون، يكفِّر بعضها بعضًا، ويبدّع بعضها بعضًا. وما كنا نحلم مجرد حلم أن يحصل ما حصل من تلك الأعمال التخريبية الإجرامية، حتى إن الأبرياء يُستهدفون بلا جُرْم ارتكبوه. لو قيل لأحدنا أن يتخيل قبل عقد من الزمان أو عقدين أن تكون حالنا كما هي عليه الآن ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
إن ما وصلت إليه حالنا ـ عباد الله ـ هو بسبب أنفسنا، وما أصابنا فبما كسبت أيدينا، ويعفو الله عن كثير.
انتشرت وسائل الخنا والعُهر والفجور بكافة أشكالها وألوانها: القنوات الفضائحية، والبرامج الساقطة، والمجلات الهابطة التي تدعو إلى إقامة العلاقات المحرمة بين الفتيان والفتيات، وارجعوا إلى مراكز الهيئات لتروا القضايا بأنواعها، والتي خلّفتها تلك الوسائل المجرمة.
وتساهَلَ كثير من الأولياء في تربية أولادهم وأهليهم، فصرنا نرى الملابس النسائية الضيّقة والعارية، والعباءات المُزَرْكَشة والمُخَصّرة، وترجّلت كثير من النساء حتى صرن يزاحمن الرجال في مواقعهم الخاصة بهم، وصار طبيعيًا أن تظهر المرأة بكامل زينتها على شاشات التلفاز مذيعة أو مراسلة، فهل انتهى الرجال وعُدموا حتى تقوم المرأة بهذه المهمة التي تنافي حياءها وحشمتها؟! بل والله انقلبت الحال فصار الرجال هم الذين يلزمون حافات الطريق والنساء يسلكن وسطه!
وعلى العكس، تأنّث كثير من الشباب، فصاروا يلبسون المُخَصّر والضيّق، وأصبح هَمّ أحدهم مظهره وزِيّه، يبقى أمام المرآة وعند الحلاّق وقتًا طويلاً يُزيّن وجهه وشعره. جاهر كثيرون بمعصية الله، وما عادوا يبالون بغضب الله وغيرته حين ترتكب محارمه.
أصبحنا نقرأ ونسمع كثيرًا من أبناء المسلمين ـ أحفاد الصحابة رضي الله عنهم ـ من يهزأ بشيء من دين الله أو ينتقصه أو ينسب تخلّف المسلمين وتأخّرهم إلى تمسّكهم بدينهم وتشبّثهم به، ويصف شعائر الدين بأنها عادات بالية وتقاليد قديمة.
وأجلب كثير من جنود الشيطان من المحسوبين على المسلمين بِخَيلهم ورَجِلِهم ـ وهو دَيْدنهم في الفتن ـ فطالبوا بإظهار المرأة من بيتها، وإقامة الأندية الرياضية لها، ومشاركتها في المحافل المحلّية والإقليمية والدولية؛ زاعمين أنّ في هذا رَدًّا على أعدائنا الذين يَصِمُوننا بالمتزمِّتين المتشدِّدين، ومواكبة للحضارة والمدنية السائدة، وأنه من إعطاء المرأة حقوقها. فنسأل الله السلامة من حال هؤلاء مُنْتَكِسِي الفِطَر والعُقُول.
إنّ أعداءنا وأذنابهم من العلمانيين والمنتسبين إلى الإسلام لن يهنأ لهم بال حتى يروا دُور السينما والنوادي الليلية وبيوت الزنا منتشرة في هذه الأرض الطاهرة، ويُباع الخمر عَلنًا، ويُشرب على الموائد بجوار الحرمين الشريفين، وتَسِير المرأة سافرة عن ثُلُثيّ جسدها بكامل زينتها في الشوارع. ويتمنّون أن ينبذ الناس كتاب الله وراءهم ظِهْرِيًّا، وأن يحكّموا القوانين الوضعيّة، وتُعطَّل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عباد الله، إن طريق الإصلاح الحقيقي لحالنا التي وصلنا إليها يبدأ من إصلاح المرء لنفسه أوّلاً، ثم لأهل بيته، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أوجب الله. فإذا أصلح كل إنسان بيته صار المجتمع ـ بإذن الله ـ صالحًا، وكان رجاله ونساؤه وشبابه وفتياته دِرْعًا واقيًا من تسلّل الفساد أو انتقال جرثومته إليه.
نسأل الله أن يصلح شباب المسلمين وفتياتهم...
(1/4362)
في بيت النبوة (1)
سيرة وتاريخ
الشمائل
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
3/6/1424
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طبيعة الحياة الزوجية. 2- تعامل النبي مع تلصُّص زوجه عليه. 3- حال النبي في بيته. 4- ملاطفة النبي أزواجه. 5- موقف النبي مما يحدث بين أزواجه من النزاع.
_________
الخطبة الأولى
_________
للبيوت أسرارُها، وللعلاقات الزوجية سماتُها، وفي حياة كل زوجين أفراح وأتراح، فيومًا تطيب العشرة بين الزوجين، فيصبحان وكأنهما أسعد زوجين، ينعمان بعيشة هَنيّة وحياة زوجية هانئة هادئة، ويومًا يحدث في البيت ما يُعكّر صفوه ويُكدّر هناءه، فتتباعد القلوب، وتستوحش النفوس، ويضيق البيت على سعته بساكنيه، وبين هذين اليومين أيام وأيام تكون شَوْبًا من المودّة والبغض وخليطًا من الحب والكراهية، فيا ترى هل هناك بيت يخلو من المشاكل والمنغّصات بين الزوجين؟! ومَن الزوج المثالي الذي يحسن إدارة منزله ويجيد قيادة مركب العائلة حتى لا تغرقه أمواج الشقاق ويبتلعه طوفان المشكلات؟!
أيها الأحبة، ليس منا أحد يدّعي أنه ذلك الرجل، ولكن دعونا نرحل إلى منزل زوج مثالي كان قدوة عظيمة في فن إدارة منزله، إنه زوج لا كالأزواج، رجل كان على خُلُق رفيع ومنهج حميد، استطاع بحكمته وبرفقه ولينه أن يدير منزله أحسن إدارة، لم يكن يماثله أحد في الخُلُق والعدل، ولم يكن أغنى الناس، بل كان من أقلّهم مالاً، تمضي عليه الأيام والليالي الكثيرة ولم يذق طعامًا مطبوخًا، كان بيته صغيرًا، لا باحات فيه ولا ساحات، ولا ملاحق ولا مقدّمات، بل كان منزله مُكونًا من حجرات قليلة، في كل حجرة منها تسكن إحدى زوجاته، هذا الرجل كان يحمل رسالة عظيمة، وقد وُكِلت إليه مهمة جسيمة، ولكن مهمته تلك لم تشغله عن إصلاح منزله ورعاية أسرته والترفّق مع مشاكل البيت.
ومع أنه كان قمّة في الخلق واللين والصفح عن المخطئ والعفو عن الجاهل إلا أنه لم يخل بيته من المشكلات الزوجية، ولم يسلم بيته من حدوث المنغّصات والمكدّرات، مثله مثل سائر بيوت الناس.
إنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، هذا النبي الكريم الذي اصطفاه ربه من بين الخلائق أجمعين، زكّاه ربه فقال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، وقد أمرنا ربنا جلّ وعلا بالتأسّي به: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. فصلّى الله عليه وسلّم ما تعاقب الليل والنهار.
عباد الله، تعالوا بنا نسائل زوجاته أمهات المؤمنين فنسمع منهن ما كان يقع في بيت محمد من بعض المكدّرات والمشكلات، وكيف تعامل معها هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ولننظر ولنقارن بين ما قد نفعله نحن حيال ما يقع في بيوتنا وبين ما فعله محمد.
عباد الله، لو اكتشف أحدنا أن زوجته تشكّ في بعض تصرفاته، وربما تلصَّصَت على أقواله أو أفعاله أو تبعت خطواته هنا أو هناك، يدفعها إلى ذلك الرِّيبة وسوء الظن، ماذا سيصنع بها زوجها؟ وما موقفه من هذه الأنثى الضعيفة التي تجرح كبرياءه بشكّها وتهدّد قوامته برصدها ومتابعتها؟ أيلطمها ويسبّها، أم يتفوّه بطلاقها، أم يبادلها الشكّ والرِّيبة ويضع تصرّفاتها تحت مجهره وبين عينيه؟! ربما فعل أحدنا ذلك كله أو بعضه، ولكن دعونا نعرض ذلك على بيت محمد ، وهل وقع شيء من ذلك، وما الذي صنعه أفضل الخلق ؟
تحدثنا أمّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قائلة: ألا أحدثكم عن النبي وعني، قالوا: بلى، قالت: لما كانت ليلتي التي كان فيها النبي عندي انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه، وبسط طرف إزاره على فراشه، فاضطجع، فلم يلبث إلا ريثما ظن أن قد رقدتُ فأخذ رداءه رويدًا، وانتعل رويدًا، وفتح الباب فخرج، ثم أجافه ـ أي: أغلقه ـ رويدًا، فجعلتُ دِرْعِي في رأسي، واختمرت وتقنّعت إزاري، ثم انطلقت على إثره حتى جاء البَقِيع، فقام فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت ـ والإحضار العدْو ـ فسبقتُه، فدخلتُ فليس إلا أن اضطجعت فدخل، فقال: ((ما لك يا عائشُ حَشْيا رابيةً؟)) ـ يعني أنّ نفَسَها مرتفع ـ قالت: لا شيء، قال: ((لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير)) ، قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، فأخبرته، قال: ((فأنتِ السّواد الذي رأيت أمامي؟)) قلت: نعم، فلَهَدَني في صدري لَهْدَة أوجعتني ـ ومعنى لَهَدَني: دفعني ـ ثم قال: ((أظننتِ أن يحيف الله عليك ورسوله؟!)) قالت: مهما يكتم الناس يعلمْه الله.
ثم انظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى أَرِيحيّته وسعة صدره وهو يبيّن لها في آخر الليل السبب الذي دعاه إلى ما صنع، قال: ((فإن جبريل أتاني حين رأيتِ فناداني، فأخفاه منك، فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك وقد وضعتِ ثيابك، وظننتُ أن قد رقدتِ، فكرهت أن أوقظكِ، وخشيتُ أن تستوحشي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم)) الحديث، رواه مسلم في صحيحه.
ومثال آخر، لو طلبت زوجة أحدنا منه أن يساعدها في تنظيف المنزل أو ترتيب أركانه فما عساه يقول في جوابها؟ أيوافق مستبشرًا، أم يُكشّر غاضبًا وكأنّ رجولته قد انتقصت؟! أمّا محمد بن عبد الله فتقول عنه زوجه عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه البخاري عن الأسود قال: سألت عائشة: ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـ تعني خدمة أهله ـ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة.
ومن ظن أنه قد يخلو بيت من المشكلات فقد أبعد النُّجْعَة وطلب محالاً، فإذا كان محمد وهو سيد البشر وأفضلهم وأتقاهم ونساؤه أمهات المؤمنين ولم يكن لربه سبحانه أن يزوجه إلا من ذوات الفضل والخلق والمعدن الكريم، ومع ذلك لم يخل بيته من تلك المشكلات المعتادة في البيوت فبيوت غيره من الناس أحرى.
ها هو عمر بن الخطاب يحدثنا عما علمه وسمعه وشاهده فيقول: كنا ـ معشر قريش ـ نغلب النساء، فلما قدمنا على الأنصار إذا قوم تغلبهم نساؤهم، فطفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار، فصخِبتُ على امرأتي فراجعتني ـ أي: رادَدَتْنِي في القول وناظرتني فيه ـ فأنكرت أن تراجعني، قالت: ولِمَ تنكر أن أراجعك؟! فوالله، إن أزواج النبي ليراجعنه، وإن إحداهن لتهجره اليوم إلى الليل، فأفزعني ذلك، وقلت لها: قد خاب من فعل ذلك منهن، ثم جمعتُ عليّ ثيابي فنزلت فدخلتُ على حفصة ـ زوج النبي ـ فقلتُ لها: أي حفصة، أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل؟! قالت: نعم، قلت: قد خبت وخسرت، أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلِكي؟! الحديث، أخرجه البخاري.
لقد كان رسول الله الحاكم السياسي والقائد العسكري والمفتي الشرعي، ومع ذلك كله كان الزوج الشفيق والأب الرحيم، فهل يعي رجال المسلمين وشبابهم تلك النماذج النبوية الرائعة؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
ومع كل تلك الأعمال التي كان رسول الله يتحملّها ويقوم بها على أكمل وجه؛ فلم يكن بالذي يحول بين أهله وبين ما أباح الله تعالى من اللهو المباح، هذه عائشة تحدث قائلة: والله، لقد رأيت رسول الله يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله وهو يسترني بردائه؛ لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللهو. أخرجه مسلم في صحيحه.
بل إنه لم تمنعه هيبته ولا وقاره عن أن يسابق زوجه عائشة رضي الله عنها، فتسبقه مرة ويسبقها في المرة الأخرى، وهو رسول رب العالمين وسيد الأولين والآخرين.
بل إن بيته لم يكن يخلو مما يكون بين الضرائر من النزاع والشقاق والتنافس، ومع هذا كان مثالاً للزوج الحكيم الحليم الذي لا تأخذه العزة بالإثم أو يعجل في العقاب، أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن نساء رسول الله كُنّ حزبين، فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسَوْدة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله ، وكان المسلمون قد علموا حب رسول الله عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هدية يريد أن يهديها إلى رسول الله أخّرها، حتى إذا كان رسول الله في بيت عائشة بعث صاحب الهدية إلى رسول الله في بيت عائشة، فكلّم حزبُ أم سلمة فقلن لها: كلمي رسول الله يكلم الناس فيقول: من أراد أن يهدي إلى رسول الله هدية فليهدها حيث كان من بيوت نسائه، فكلمته أم سلمة بما قلن فلم يقل لها شيئًا، فسألنها فقالت: ما قال لي شيئًا، فقلن لها: فكلّميه، حتى تكرر ذلك ثلاثًا فما زاد أن قال لها: ((لا تؤذيني في عائشة؛ فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلا عائشة)) ، فقالت: أتوب إلى الله من ذاك يا رسول الله، ثم إنهن دعون فاطمة بنت رسول الله فأرسلت إليه تقول: إن نساءك يُنشدنك العدل في بنت أبي بكر، فقال: ((يا بُنيّة، ألا تحبّين ما أحب؟!)) قالت: بلى، فرجعت إليهن فأخبرتهن، فقلن لها: ارجعي إليه فأبت، فأرسلن زينب بنت جحش فأتته فأغلظت وقالت: إن نساءك يُنشدنك الله العدل في بنت ابن أبي قُحَافة، فرفعت صوتها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة فسبّتها، حتى إن رسول الله لينظر إلى عائشة هل تكلّم، فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النبي إلى عائشة وقال: ((إنها بنت أبي بكر)).
وأخرج مسلم في صحيحه عن أنس قال: كان للنبي تسع نسوة، فكان إذا قسم بينهن لا ينتهي إلى المرأة الأولى إلا في تسع، فكنّ يجتمعن كل ليلة في بيت التي يأتيها، فكان في بيت عائشة، فجاءت زينب فمدّ يده إليها، فقالت عائشة: هذه زينب، فكفّ النبي يده، فتَقَاوَلَتا حتى استَخَبَتَا ـ أي: اختلطت أصواتهما وارتفعت ـ، وأقيمت الصلاة، فمر أبو بكر على ذلك فسمع أصواتهما فقال: اخرج ـ يا رسول الله ـ إلى الصلاة، واحث في أفواههن التراب، فخرج النبي ، فقالت عائشة: الآن يقضي النبي صلاته فيجيء أبو بكر فيفعل بي ويفعل، فلما قضى النبي صلاته أتاها أبو بكر فقال لها قولاً شديدًا، وقال: أتصنعين هذا؟!
وأخرج البخاري عن أنس قال: كان النبي عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بصَحْفَة فيها طعام، فضربت التي النبيُ في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصَّحْفَة فانْفَلَقت، فجمع النبي فِلَقَ الصَّحْفَة، ثم جعل يجمع فيها الطعام الذي كان في الصَّحْفَة، ويقول: ((غارت أمُّكم)). ثم حبس الخادم حتى أُتِي بصَحْفَة من عند التي هو في بيتها، فدفع الصَّحْفَة الصحيحة إلى التي كُسِرت صَحْفَتها، وأمسك المكسورة في بيت التي كَسَرت.
فلله درّه من مُربّ، عدل في التعامل، ورفق بالجاهل، لا صراخ ولا زعيق ولا تهديد ولا وعيد، فسبحان من أدّب نبيه فأحسن تأديبه.
وبعد: أيها المسلمون، هذا غَيْض من فَيْض، وتلك صور قليلة مما حفلت به كتب السنة موضحةً كيف كان النبي يتعاهد أزواجه، ويصبر على ما قد يُثِرْنه من المشكلات التي تقع في بيوته، ناهيكم عما ورد من أقواله الكثيرة في وجوب إحسان عشرة الزوجات وتحمّل أذاهنّ، فقد كان كثيرًا ما يوصي بهن، ويبين حقوقهن، وينهى عن ظلمهن، فليكن لنا فيه أسوة حسنة، ومن أراد السعادة في حياته العملية والزوجية فليتق الله ربه وليقتد بنبيه.
(1/4363)
في بيت النبوة (2)
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الشمائل, قضايا الأسرة, مكارم الأخلاق
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
10/6/1424
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ملاطفة النبي لزوجاته. 2- مراعاة النبي لمشاعر زوجاته. 3- رفق النبي بزوجاته. 4- حفظ النبي الودّ لخديجة حتى بعد موتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد جاءت نصوص الوحيين مُستفيضة بذكر حقوق الزوجين وواجباتهما، خاصّة على أن يقوم كلٌ منهما بما عليه من حق شريكه، وإن البيت الذي لا تقوم أركانه ولا تُبنى أساساته على نور من الكتاب والسنة لحري أن لا يدوم بنيانه إن بُني.
عباد الله، هذه دعوة وعودة سريعة لتلك الرحلة الماتعة التي عشنا جزءًا منها في الجمعة الماضية بين جَنَبات ذلك البيت الرائع الجميل الذي عاش بين جدرانه أفضل وأكمل وأعظم زوج وطئت قدمه الأرض عليه الصلاة والسلام، عاش فيه مع تسع نسوة هن زوجاته أمهات المؤمنين رضي الله عنهن وأرضاهن. ورغم كل المهام العظام التي كان يتحملها من قيادة الأمة ودعوة العالمين لدين الله، ورغم ضيق العيش وقلة ذات اليد إلا أن هديه عليه الصلاة والسلام كزوج كان أكمل هدي وأتمه، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
فلنقارن ـ يا عباد الله ـ بين تلك الصور الفذّة الفريدة في لطفه وبرّه ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه وبين كثير من النماذج التي تحدث من الرجال في بيوتهم.
لقد كان ينادي عائشة بترَخِيم اسمها تلطّفًا وتودّدًا، فيقول: ((يا عائش، هذا جبريل يقرئك السلام)) رواه البخاري ومسلم.
ويوضح في غير ما موضع المكانة الرفيعة للمرأة عنده، يسأله عمرو بن العاص فيقول: أي الناس أحب إليك؟ فيقول: ((عائشة)).
وتروي رضي الله عنها عن حسن معاشرته فتقول: كنت أغتسل أنا ورسول الله من إناء بيني وبينه تختلف أيدينا عليه، فيبادرني إليه حتى أقول: دع لي، دع لي. وتدافعا عند الخروج من الباب مرّة.
ويضرب أروع الصور في لِين الجانب ومعرفة الرغبات العاطفية والنفسية للزوجة. تروي عائشة رضي الله عنها تقول: كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي فيضع فاه على موضع فيّ، وأتَعَرَّق العِرْق ـ أي: آخذ ما على العظم من اللحم ـ فيتناوله ويضع فاه في موضع فيّ. بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.
وعنها رضي الله عنها قالت: ما عاب رسول الله طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. رواه البخاري.
ولا تنس ـ يا رعاك الله ـ ذَيْنك الموقفين اللذين تقدما معنا، البسيطين في فعلهما، العظيمين في تأثيرهما: أولهما حين كانت عائشة تنظر من فوق عاتقه للحبشة وهم يلعبون بحرابهم في المسجد وهو يسترها، فما ينصرف حتى تكون هي التي تنصرف. وأما الآخر فحينما كانت رضي الله عنها معه في سفر، فأمر الناس فتقدّموا، ثم قال لها: ((تعالي أسابقك)) ، فسابقته فسبقته، ثم خرجت معه في سفر وقد سمنت وبدنت، فأمر الناس فتقدّموا، ودعاها ليسابقها فسبقها، ثم قال لها ملاطفًا ممازحًا وهو يضحك: ((هذه بتلك)).
وأخرج الشيخان عنها رضي الله عنها أنها قالت: كنت ألعب بالبنات ـ أي: بتماثيل البنات ـ عند رسول الله ، وكانت تأتيني صواحبي فيَنْقَمِعْنَ من رسول الله إذا رأينه ـ أي: يستترن منه ـ فيُسرِّبُهنّ إليّ. أي: يردّهن ويرسلهنّ إليّ فيلعبن معي.
وقدم من غزوة فدخل على عائشة، فهبّت ريح فكشفت ناحيةً عن بنات لُعبٍ لها، فقال: ((ما هذا؟)) قالت: بناتي. ورأى بين ظهرانيهن فرسًا له جناحان، قال: ((فرس له جناحان؟!)) فقالت: أَوَما سمعت بأن لسليمان خيلاً لها أجنحة؟! فضحك حتى بدت نواجِذُه.
وفي الحديث المشهور المسمّى بحديث أمّ زَرْع، وملخّصه أنّ إحدى عشرة امرأة جلسن فتعاهدن وتعاقدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، حتى جاء الدور على الأخيرة ـ أم زَرْع ـ، فجعلت تمدحه وتثني عليه لجميل صنيعه معها مع أنه طلقها، وفي آخر الحديث يخاطب النبي عائشة مداعبًا: ((كنت لك كأبي زَرْع لأم زَرْع، غير أني لم أطلقك)).
بل تأمّل وتأمّل وتأمّل ـ يا رعاك الله ـ وصف جابر بن عبد الله رضي الله عنهما لحجة النبي ، كما رواها الإمام مسلم في صحيحه. فإن النبي أمر عائشة حين حاضت وقد أحرمت أن تُدخِل العمرة في الحج، فلما انقضى الحج قالت: يا رسول الله، يصدر الناس بعمرة وحجة وأرجع أنا بحجة؟! قال جابر: وكان رسول الله رجلاً سهلاً إذا هويت شيئًا تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر، فأهَلَّت بعمرة من التنعيم. قال النووي: "معناه إذا هويت شيئًا لا نقص فيه في الدين أجابها إليه، وفيه حسن معاشرة الأزواج، لا سيما فيما كان من باب الطاعة" اهـ.
فانظر كيف كانت رعاية المصطفى لزوجته وحبيبته أم المؤمنين عائشة، وقد كان دخل بها وهي حديثة السن صغيرة، انظر كيف كان يرعى مشاعرها وينتبه إلى متطلّباتها وما تهفو إليه نفسها من المباحات، فيوفّر ذلك لها على قدر طاقته: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
_________
الخطبة الثانية
_________
إن العلاقة بين الزوجين لا تنقطع بالموت، بل يبقى حبل الود بإكرام أهل ود الزوج أو الزوجة حتى بعد موته، ولنا في نبينا الأسوة الحسنة في مثل هذا.
لقد كانت خديجة رضي الله عنها بمواقفها مع رسول الله خير معين له على دعوته ونشر رسالة الخير بين العالمين، فقد واسته بنفسها ومالها في أحلك الظروف وأشدها، فقد كانت كلماتها الرقيقة له حين عودته من حراء إبّان نزول الوحي بَلْسَمًا شافيًا، شدَّت من أزره، وعاضدته على أمره، بل وكانت أول من آمن به. ولم يكن رسول الله بالذي ينسى فضلها، وحاشاه عليه السلام، لم يتزوج عليها حتى ماتت، ولم يرزق ولدًا إلا منها ما عدا إبراهيم.
جاء جبريل عليه السلام إلى النبي وقال: هذه خديجة قد أتتك ومعها إناء فيه إدام أو طعام، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشّرها ببيت في الجنة من قَصَب، لا صَخَب فيه ولا نَصَب. وقال : ((سيدات نساء أهل الجنة)) ، وفي رواية: ((خير نساء العالمين أربع: مريم وفاطمة وخديجة وآسية)).
تقول عائشة رضي الله عنها كما عند مسلم: ما غِرْتُ للنبي على امرأة من نسائه ما غِرْتُ على خديجة؛ لكثرة ذكره إياها، وما رأيتها قط.
وكان رسول اللّه إذا ذبح الشّاة يقول: ((أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة)) ، قالت: فأغضبته يومًا فقلت: خديجة؟! فقال رسول اللّه : ((إنّي قد رُزِقت حُبّها)).
واستأذنت هالة بنت خويلدٍ أخت خديجة على رسول اللّه ، فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك فقال: ((اللّهمّ هالة بنت خويلدٍ)) ، فغِرْت فقلت: وما تذكر من عجوزٍ من عجائز قريشٍ، حمراء الشّدقين، هلكت في الدّهر، فأبدلك اللّه خيرًا منها؟! زاد الإمام أحمد أن النبي قال: ((أبدلني الله خيرًا منها؟! قد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله أولادها وحرمني أولاد النساء)).
وبعد: أيها المسلمون، فهذا غَيْض من فَيْض، وتلك صور قليلة مما حفلت به كتب السنة موضحةً كيف كان النبي يتعاهد أزواجه.
هذا هو هدي المصطفى، إنه نموذج رفيع فيما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وما ينبغي أن يعامل به الرجل زوجته بالرفق واللين ورعاية مشاعرها ومتطلّباتها المباحة التي لا تغضب الله ورسوله.
(1/4364)
نصرة الرسول
الإيمان
الإيمان بالرسل
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
4/7/1425
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال العرب في الجاهلية. 2- من فضائل المصطفى. 3- الحق ما شهدت به الأعداء. 4- استمرار مسلسل الاتهامات والافتراءات الموجهة للنبي. 5- حملة "مليون ضد محمد". 6- واجبنا في الدفاع عن النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد كان العرب قبل الإسلام في جاهلية جَهْلاء وظلام مُطْبِق، قبائلَ متفرّقة تعيش على رعي الأغنام، وتتبع مَواقِع القَطْر، يعبدون الأصنام، ويأكلون المَيْتات، ويشربون الخمور، ويقترفون الفواحش، ويَئدُون البنات، ويُسيئون الجوار، ويقطعون الأرحام، ويأكل القوي الضعيف، حياتهم قتال وتناحر وفرقة واختلاف، تستعر نار الحرب لأتفه الأسباب، وتبقى جَذْوتُها مشتعلة سنين عدَدًا.
ثم أَذِن الله لليل أن ينجلي وللصبح أن يَنْبَلِج وللظلمة أن تَنْقَشِع وللنور أن يُشَعْشِع، حيث أرسل الله رحمةً للعالمين أفضل البرية وأشرف البشرية الرسول الكريم والصادق الأمين والرؤوف الرحيم بالمؤمنين محمدًا، صلى الله عليه وسلم ما هطلت الأمطار وأورقت الأشجار وأظلم الليل وأسفر النهار ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، كان ـ بأبي هو وأمي ـ صلوات الله وسلامه عليه رحمة من الله للأنام ورسول الهدى والسلام والحامل الأول لراية الإسلام، أخرج الله به العباد من ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [الجمعة:2، 3].
سيد ولد آدم، وأفضل الخليقة على الإطلاق، أحبّه الله واصطفاه، واختاره واجتباه، جمع له بين الخلّة والتكليم، وجعله أكثر الأنبياء أتباعًا، وأعلاهم قدرًا ومقامًا، وأخذ على النبيين الميثاق لئن بُعِث ليؤمِنُنّ به: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81]، وبشّرَ به في الكتب المنزّلة: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].
شرح الله له صدره، ووسّعه وهيّأه لتقبل شرع الله وقدره، فكان أخشى الخلق لله، وأتقاهم له، وأكرمه بالصبر والحلم؛ فكان يعفو عمن ظلمه، ويقابل السيئة بالحسنة، ووضع عنه وزره، فغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ورفع له ذكره، فلا يدخل أحد الدين إلا بشهادتَي التوحيد والرسالة مقرونتين لا تنفكّان: توحيد الله بالعبودية والرسالة لمحمد ، ولا تولج الجنة إلا من طريقه، وقرن اسمه باسمه يُرفعان للنداء بالصلاة، فتردّد جَنَبات الأرض ذَيْنك الاسمين وتَيْنك الشهادتين، ولا يؤمن أحد حتى يكون محمد أحبّ إليه من نفسه ووالده وولده والناس أجمعين.
بلغ في الدنيا يوم المعراج مبلغًا ما بلغه إنس ولا جن ولا ملك، وخصّه الله بالمقام المحمود يوم القيامة الذي تحمده عليه كل الخلائق، وأعطاه الوسيلة في الجنة، وهي منزلة لا تنبغي إلا له.
أكرم الله به هذه الأمة فخصها بأفضل الكتب وخير الشرائع، وجعلها خير الأمم. جاء إلى رعاة الغنم فجعلهم بفضل الله سادة الأمم، فتح قلوبهم قبل بلادهم، فما رآه أحد إلا أحبّه وغضّ الطرف عنه إجلالاً ومهابة وإكبارًا.
أرسله الله شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.
شَهْمٌ تُشِيد به الدنيا برُمّتها على الْمنائر من عُرْب ومن عَجَمِ
أحيا بك الله أرواحًا قد اندثرت فِي تربة الوهم بين الكأس والصنمِ
نفضت عنها غبار الذلّ فاتّقدت وأبدعت وروت ما قلتَ للأممِ
ربّيت جيلاً أبيًّا مؤمنًا يَقِظًا حسوا شريعتك الغَرّاء فِي نَهَمِ
فمَن أبو بكر قبل الوحي مَن عمر ومَن علي ومَن عثمان ذو الرحمِ
مَن خالد مَن صلاح الدين قبلك مَن مالك ومَن النعمان فِي القممِ
مَن البخاري ومَن أهل الصِّحاح ومَن سفيان والشافعي الشَّهْم ذو الحِكَمِ
مَن ابن حنبل فينا وابن تيمية بل الملايين أهل الفضل والشَّمَمِ
مِن نهرك العذب يا خير الورى اغترفوا أنت الإمام لأهل الفضل كلهم
أيها المسلمون، تلك بعض شمائل هذا النبي الكريم عليه من ربه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ما ترك باب خير إلا دلّ الأمّة عليه، ولا باب شرّ إلا حذّرها منه.
بل لقد شهد له حتى أعداء دينه وملته، يقول العالم الفرنسي ساديو لويس: "لم يكن محمد نبي العرب بالرجل البشير للعرب فحسب، بل للعالم لو أنصفه الناس؛ لأنه لم يأت بدين خاص بالعرب، وأنّ تعاليمه الجديرة بالتقدير والإعجاب تدل على أنه عظيم في دينه، عظيم في أخلاقه، عظيم في صفاته، وما أحوجنا إلى رجال للعالم أمثال محمد نبي المسلمين".
ويقول الإنجليزي إدوارد لين: "إن محمدًا كان يتّصف بكثير من الخصال الحميدة، كاللُّطف والشجاعة ومكارم الأخلاق، حتى إن الإنسان لا يستطيع أن يحكم عليه دون أن يتأثّر بما تتركه هذه الصفات في نفسه من أثر، كيف لا وقد احتمل محمد عِدَاء أهله وعشيرته بصبر وجَلَد عظيمين، ومع ذلك فقد بلغ من نُبْله أنه لم يكن يسحب يده من يد من يصافحه، حتى ولو كان يصافح طفلاً، وأنه لم يمرّ يوم من الأيام بجماعة رجالاً كانوا أو أطفالاً دون أن يُقرئهم السلام، وعلى شفتيه ابتسامة حلوة".
ويقول العالم الفرنسي لوزان: "رسول كهذا الرسول يُجْدر باتّباع رسالته، والمبادرة إلى اعتناق دعوته، إذ إنها دعوة شريفة، قوامها معرفة الخالق، والحث على الخير، والردْع عن المنكر، بل كل ما جاء به يرمي إلى الصلاح والإصلاح، والصلاح أنشودة المؤمن، هذا هو الدين الذي أدعو إليه جميع النصارى".
ويقول الإيطالي إماري: "لقد جاء محمد نبي المسلمين بدين إلى جزيرة العرب يصلح أن يكون دينًا لكل الأمم؛ لأنه دين كمال ورقي، دين دَعَة وثقافة، دين رعاية وعناية".
ويقول الألماني كارل بيكر: "لقد أخطأ من قال: إن نبي العرب دَجّال أو ساحر؛ لأنه لم يفهم مبدأه السامي، إن محمدًا جدير بالتقدير، ومبدؤه حريّ بالاتباع، وليس لنا أن نحكم قبل أن نعلم، وإن محمدًا خير رجل جاء إلى العالم بدين الهدى والكمال".
ومع كل تلك الشهادات التي أغنى الله بها نبيه بمدحه في ذلكم الوصف العظيم الذي تضمنه القرآن تلك المعجزة الخالدة إلى يوم الدين: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، مع كل هذا فإن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه لم يسلم من الأذى والشتم والتنقص منذ أن بعثه الله بالهدى ودين الحق.
ألم يوصف بالجنون والسحر والكهانة والشعر؟! ألم يوضع على ظهره سَلى الجَزُور؟! ألم يكونوا يغمزونه ويهمزونه ويلمزونه؟! ألم يوصف بأنه أبتر لا يبقى له ولد ولا ذِكْر؟! ألم يلاحقه السفهاء من أهل الطائف فأدموا عَقِبَه الشريف؟! ألم يُشجّ وجهه يوم أحد وتُكسَر رَبَاعيته؟!
لكن سنة الله هي حفظه لنبيه وخذلان من تعرّض له، يقول الله جل شأنه: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر [الكوثر:3]، وقال تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67]، وقال جلّ شأنه: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ [البقرة:137]، وقال عزّ من قائل: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وقال سبحانه: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95]. قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله عند هذه الآية: "وهذا وعد من الله لرسوله أن لا يضرّه المستهزئون، وأن يكفيه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة، وقد فعل تعالى، فإنه ما تظاهر أحدٌ بالاستهزاء برسول الله وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قتلة" اهـ.
ولا يزال مسلسل الفِرَى والأكاذيب والدعاوى والأباطيل وتلفيق التهم بجناب النبي ، والذي بدأه كفّار قريش ومشركو العرب لإطفاء نور الله والصدّ عن سبيل الله متصلاً بصنيع أحفادهم وسُلالاتهم الكافرة، حيث يطلقون كل يوم تهمة يلصقونها في حق نبينا وإمامنا محمد ؛ مستغلّين بذلك حرب الأحزاب الكافرة على الإسلام المتخفية بلباس الحرب على الإرهاب، فيحاولون الهجوم على شخص نبينا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، ويصفونه بأنه متوحّش وسفّاح يحب قطع الرؤوس وإراقة الدماء، وما إلى ذلك مما نبرأ منه إلى الله، ونُنَزّه عنه جَنَاب نبينا ، ونقول بملء أفواهنا لنسمع الكون كله: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16].
هل يُعقل أن يكون النبي متوحّشًا سفّاحًا وهو الذي يقبل بصلح الحديبية على ما كان يظهر من بنوده من الضعف والهزيمة؟! وهل يُعقل أنه مَصّاص للدماء وهو الذي دخل مكة فاتحًا، وهي التي طرده منها أهلها، ثم لا يأمر بقتالهم إلا من قاتل منهم؟! وهل يُعقل أنه يُغذّي الإرهاب بفكره ودعوته وهو الذي كان يوصي بعوثه وسراياه بالدعوة أولاً، ثم الجزية، ثم بقتال المقاتلة وأن لا يتعرّضوا للنساء ولا للصبيان ولا للشيوخ؟!
ويسعى أعداء الله النصارى في الصدّ عن سبيل الله فيطلقون مؤخّرًا حملتهم الخاسرة: "مليون ضد محمد"، التي يُطبّلون لها، ويُجَيّشون جهودهم وجنودهم لأجلها؛ فقد نشرت صحيفة ألمانية خبر هذه الحملة التي أطلقتها رابطة الرهبان لنشر الإنجيل بدعم مباشر ورعاية من الفاتيكان تحت مرأى ومسمع العالم الإسلامي وغير الإسلامي. والمنظمة المذكورة يعمل بها نحو مليون شخص ليل نهار وفي كل مكان من أجل وقف انتشار الإسلام في العالم بكل قوة، وتشويه صورة النبي محمد ، ونعته بأبشع الصفات. وهي منظمة ذات نفوذ قوي واسع؛ فهي تصرف لمشاريع التنصير سنويًا نصف مليار دولار، وتمتلك المنظمة سلسلة من المرافق المخصصة للخدمة العامة حول العالم، منها ثنتان وأربعون ألف مدرسة، وألف وستمائة مستشفى، وستة آلاف مركز خدمات طبية أولية، وثمانمائة مركز لمساعدة مرضى الالتهاب الكبدي الوَبَائي، واثنا عشر ألف مركز لمساعدة الفقراء والمُعْوِزِين، تُقدّم جميعها خدمات مجانية.
إن هذا المشروع التنصيري الذي ينضَحُ بُغْضًا لسيد الخلق نبينا لَيوضّح كذب المتعصّبين من أهل الملل الأخرى في دعوى التسامح وما يُسمّى حوار الأديان؛ ذلك أن ما يظهرونه خلاف ما يبطنونه، وهو مصداق قول ربّنا جلّ وعلا: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة:8]، وقال سبحانه: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
ثم إن هذه التوجّهات البغيضة لَتوضّح مدى ضلال النصارى وبعدهم عن هدي المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ذلك أن الأنبياء والرسل كلهم قد جاؤوا بملّة واحدة هي توحيد رب العالمين وإنِ اختلفت شرائعهم، فقد قال الله سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وقد قال إمامهم محمد : ((أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لِعَلاّت، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد)) رواه الشيخان واللفظ للبخاري. والواجب على جميع المكلّفين من الجن والإنس أن يعرفوا للأنبياء والرسل قدرهم؛ امتثالاً لأمر مُرسِلهم سبحانه وتعالى، وأن يحذروا من تنقّص أحد منهم أو تكذيبه؛ لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لبقيتهم.
وإنك لتعجب بعد كل هذا من بعض أبناء المسلمين الذين لا يزالون يخطبون ودّ النصارى وحبّهم، وينادون بالتسامح والحوار مع الأديان. نحن نقرّ بأن دينهم سماوي محرّف، ونقر بأن رسولهم رسول كريم من عند الله، بل هو من أولي العزم من الرسل، وأن الإنجيل نزل من عند الله، لكنهم حرّفوه. أما هم فلا يُقرّون بديننا ولا نبينا ولا كتابنا، فكيف نتحاور معهم؟! كيف نجلس سويًا على طاولة واحدة وهم لا يعترفون بنا ولا يروننا شيئًا؟! وصدق الله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَروا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إن لهذا النبي العظيم علينا حقوقًا، أعظمها الإيمان به واتباعه ومحبته وتوقيره وتَعْزِيره والتمسّك بسنته ولزوم منهجه وطريقته والدفاع عنه وعن دينه وشرعته. قال شيخ الإسلام: "إن تَعْزِيره عليه الصلاة والسلام نصره ومنعه، وتوقيره إجلاله وتعظيمه، وذلك يوجب صون عرضه بكل طريق، بل ذلك أولى درجات التَعْزِير والتوقير، فلا يجوز أن نصالح أهل الذمّة على أن يُسمعونا شتم نبينا ويُظهروا ذلك، فإن تمكينهم من ذلك ترك للتعْزِير والتوقير، بل الواجب أن نكفّهم عن ذلك ونزجرهم عنه بكل طريق" اهـ.
ولئن كان هناك "مليون ضد محمد" فإننا مليار مع محمد ، وإن الواجب علينا أن نجابه أولئك، ونتولّى الدفاع عنه وبيان صورته الصحيحة بذكر مواقف من سيرته العطرة، وأن نربّي أنفسنا وأبناءنا على ضوء سنته وسيرته ونسير على منهاجها.
وعلى كل واحد منا أن يقدّم ما يستطيع في سبيل الدفاع عن إمامه وقدوته وسيده ونبيه محمد ، ولسان حاله يقول:
فإن أبي ووالده وعِرْضِي لعِرْض محمدٍ منكم فِدَاءُ
اللهم اجعل حُبّك وحبّ رسولك محمد أحبّ إلينا من أنفسنا وأبنائنا ومن الماء البارد على الظمأ، اللهم ارزقنا اتباعه، وأكرمنا بشفاعته، وأَوْرِدْنا حوضه، وارزقنا مُرافَقته في الجنة...
(1/4365)
شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
26/8/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بنعم الله تعالى. 2- فضل العبادات. 3- اختيار الله تعالى أفضل الأوقات للفرائض. 4- فضل الصوم ورمضان. 5- آداب الصيام وأخلاق الصائم. 6- الحث على استقبال رمضان بالتوبة. 7- الحث على الاجتهاد في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى بطاعتِه، فتقوَى الله أفضَل أحوالِ العِباد والزادُ ليوم المعادِ، من اتَّصَف بها فاز بجنات النعيم، ومن جانب التقوَى هوَى في درَكاتِ الجَحيمِ.
عبادِ الله، تذكَّروا ما أسبَغَ عليكم ربّكم من النعمِ الظاهرة والباطنة، حيث منَّ عليكم بأفضلِ رسول، وأنزلَ عليه أفضلَ كِتاب، وشرع لكم أتمَّ وأكملَ شريعة، وجَعَلكم خيرَ أمّة أخرِجَت للناس، وبنى دينَكم على خمسةِ أركان: شهادةِ أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا رسول الله وإِقام الصلاةِ وإيتاءِ الزكاة وصومِ رَمَضان وحجِّ بيتِ الله الحرام. وجميعُ العباداتِ مبنيّة على هذه الأركانِ الخمسة وتابِعة لها ومكمِّلة لها.
والعِبادات هي التي تطهِّر القلوبَ وتزكّيها وتنوِّرها وتهذِّب النفوسَ وتربّيها على كلّ خير وتقوِّم الأخلاقَ وتعلِيها، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14، 15]، وقال تعالى: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [فاطر:18]، وقال تَعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
واختَارَ الله للفرائضِ أوقاتًا فاضلةً شريفة، تضاعَف فيها الحسنات، ويعظم فيها الثوابُ والبركات، ولولا أنَّ الله تعالى بيَّن لنا أعيانَ العباداتِ وكيفيّة كلِّ عبادة وشرَع لنا التقرّبَ إلى الله بها لما عرَفنا ذلك، قال الله تعالى: وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء:113]، وقال تعالى: كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:151، 152].
وشَرائِعُ الإسلامِ يكثُر خيرُها وتنمو بَرَكاتها ويعظُم أجرُها بِسبَبِ نفعِها لصاحبِ العمَل الصالح وبِسبَبِ نفعِها للغَير كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30]، وكما قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36]، وكما قال النبي : ((مَن كان يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمت، ومَن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليكرِم جارَه، ومن كان يؤمِن بالله واليومِ فليكرِم ضيفَه)) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه [1].
والصومُ عبادَةٌ عظيمةُ القدرِ، تثمِر تقوَى الله تعالى والخوفَ منه، وقد اختار الله لهذه العبادةِ أفضلَ الشهور، وجمعَ الله في شهرِ رمضانَ من الفضائِل والخيراتِ ما لم يجتمِع في غيرِه، فاختار الله هذا الشهرَ المبارك لفريضةِ الصيام الذي هو سرٌّ بين العبد وربِّه وقربةٌ لله تعالى تقِي العبدَ غضبَ الله وعقابه، ويُعظم الله بها جزاءَه وثوابَه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((كلُّ عمل ابن آدمَ له يضاعَف؛ الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضِعف، قال الله تعالى: إلاّ الصوم فإنّه لي وأنا أجزي به؛ يدع شهوتَه وطعامه من أجلي. للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربّه، ولخَلوف فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المسك)) رواه البخاري ومسلم [2] ، وعن سهل بن سعدٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((في الجنّةِ بابٌ يدعَى الرّيّان، يدخل منه الصائِمون، لا يدخل منه غيرهم، مَن دخَلَه لم يظمَأ أبدًا)) رواه البخاري ومسلم [3].
وقد كان رسول الله يبشِّر أصحابَه برمضانَ ليعرِفوا فضلَه ويستعِدّوا له، عن سلمانَ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((أتَاكم شهرُ رمضان، شهرٌ جعل الله صيامَه فريضةً وقيامه تطوّعًا، من تقرَّب فيه بفريضةٍ كان كمن أدّى سبعينَ فريضةً فيما سواه، ومن تقرَّب فيه بنافلةٍ كان كمن أدّى فريضة، وهو شهر الصبر والصبر ثوابُه الجنة، شهرٌ يُزاد في رِزق المؤمن فيه، من فطَّر فيه صائمًا فلَه مثلُ أجره من غيرِ أن ينقصَ من أجره شيء)) [4]. فرمضانُ شهرُ الصّبر بجميع أنواعه؛ ففيه الصبرُ على طاعةِ الله والصبر عن مَعصيَة الله والصّبر على أقدار الله، والله تعالى يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
وفي رمضان تفتَّح أبواب الجنة، وتغلَق أبواب جهنّم، وتصفَّد الشياطين؛ لأنّ أسبابَ الخير تكثُر وأسبابَ الشرِّ تقِلّ وتضعُف، والشياطينُ يُحال بينَها وبين الإفساد في الأمّة لكثرةِ تِلاوة القرآن وفِعل الخيرات وتركِ المنكراتِ وتنزُّل الرحمة من الربّ جلّ وعلا أكثرَ منها في غيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دخَل رمضان فتِّحَت أبواب الجنة، وأغلِقَت أبواب جهنّم، وسُلسِلَت الشياطين)) رواه البخاريّ ومسلم [5] ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((إذا كان أوّل ليلةٍ من رمضانَ غلِّقت أبواب النّار فلم يفتَح منها باب، وفتِّحت أبواب الجنة فلم يغلَق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير هلمَّ وأقبل، ويا باغيَ الشّرِّ أقصِر، ولله فيه عُتقاءُ من النار، وذلك كلَّ ليلة حتى ينقضِيَ رمضان)) رواه الترمذي [6] ، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنَّ الجنة لتزيَّن من السنةِ إلى السنةِ لشهر رمضان، فإذا دخل شهر رمضان قالتِ الجنة: اللّهمّ اجعَل لنا في هذا الشهرِ مِن عبادك سكّانًا)) رواه الطبراني في الأوسط [7].
وفي رمضانَ ليلةُ القدر، عبادتُها أفضلُ من عبادة ألفِ شهرٍ ليس فيها ليلة القدر، من قامَها إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه.
وفي رمضان يضاعَف ثواب الإنفاقِ في سبيل الله إذا أنفَقَ العبد في سبلِ الخيرِ، وكان رسول الله يدارِس جبريلَ القرآنَ، وفي آخر سنةٍ عرَض عَليه القرآن مرَّتين [8] ، فلَرَسول الله حينَ يَلقاه جبريلُ أجودُ بالخير من الريحِ المرسَلَة [9].
وفي رمضانَ نزَل القرآن الكريم الذي هدَى الله به القلوبَ، وهو غِذاء الأرواح، والإكثارُ من تلاوتِه في رمضان من أعظمِ العبادات، وله خاصيّةٌ وتأثيرٌ في رمضان على المسلم أكثَر من غيره؛ لأنَّ الصومَ يضعِف مجاريَ الشيطان ومسالكَه، ويكسِر سَوْرَة النفس الأمّارة بالسوءِ، ويضعِف سلطانَ البدَن، فتقوى الروحُ، فتحتاج إلى غِذائها وهو القرآن الكريم، فيقوَى خوفُ الله تعالى، وتتخلَّق النفوس بالقرآنِ، فتنقادُ لأوامرِه، وتبتعِد عن نواهيه. والقرآنُ معجزةُ الرّسولِ العظمَى التي تخاطِب العقلَ البشريَّ بجميع أنواعِ الأدلّةِ؛ ليسلكَ الصراطَ المستقيم، وليتمسَّك بهذا الدين القويم.
وفي رمضان يعظُم ثواب القُرُبات والطاعات، ففي الحديث عن النبيِّ قال: ((عمرةٌ في رمضانَ تعدِل حجّةً معي)) ، وفي لفظ آخر: ((عُمرة في رمضان تعدِل حجّة)) [10].
واحرِصوا ـ رحمكم الله ـ على الصلاةِ جماعةً، فما أعظمَ خسارةَ مَن فاتته صلاةُ الجماعة، فكيف يحافِظ على الصومِ ثم يتساهل في صلاةِ الجماعة؟!
وداوِموا على صلاةِ التراويح فإنَّها من أسبابِ مغفرة الذنوب، ففي الحديث: ((من قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفِرَ له ما تقدّم من ذنبه)) [11] ، وفي الحديث أيضًا: ((مَن قام مع الإمام حتى ينصرِفَ كتِبَ له قيامُ ليلةٍ)) [12].
وقد جعَل الله تعالى رَمضانَ لمن صامَه سببًا لمغفِرَة الذنوب والفوز بالجنة والنجاةِ من النار، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن صام رمَضان إيمانًا واحتِسابًا غفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه)) رواه البخاري [13].
والصومُ عبادة عالِيَة الدّرَجة عظيمة الأجورِ، عن أبي أمامةَ رضي الله عنه قلت: يا رسول الله، مُرني بأمرٍ ينفعني الله به، قال: ((عليك بالصومِ؛ فإنّه لا مِثلَ له)) رواه النسائيّ [14].
أيّها المسلم، إذا صُمتَ فليصُم سمعُك وليَصم بصَرك وجوارحُك وقَلبك عن المحرّماتِ، عن أبي عبيدَةَ قال: قال رسول الله : ((الصّومُ جُنّة ما لم يخرِقها)) رواه النسائيّ [15] ، وفُسِّر ذلك: ما لم يخرِقها بغيبة أو كذب. وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من لم يدَع قول الزورِ والعمَلَ به فليسَ لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه)) رواه البخاري وأبو داود [16] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((رُبَّ صائمٍ حظّهُ من صيامِه الجوعُ والعطش، ورُبّ قائمٍ حظُّه من قيامِه السّهَر)) رواه الطبراني [17]. وإذا سابَّ الصائمَ أحدٌ فلا يردّ عليه جهلَه وليقل: إني صائم.
ويجِب على الصائمِ أن يبيِّتَ نيةَ الصيام منَ الليل، وليحذَر أن يفطرَ بغير عذرٍ، فمن أفطرَ يومًا مِن رمضان من غير عذرٍ لم يجزِه صيامُ الدهر وإن صامَه.
وزكّوا أموالَكم، فهي حقٌّ لله تعالى للفقَراء، وحصِّنوها بالصدقاتِ؛ فالله تعالى يقول: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
قال الله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:148].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكِيم، ونفعنا بهديِ سيّدِ المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستَغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6018)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (47).
[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1904)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151).
[3] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1896)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1152).
[4] رواه الحارث في مسنده (318 ـ بغية الباحث ـ)، وابن خزيمة (3/191-1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، وابن عدي في الكامل (5/293) من حديث سلمان رضي الله عنه، قال أبو حاتم : "هذا حديث منكر"، وكذا قال الألباني في ضعيف الترغيب (589).
[5] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3277)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1079).
[6] سنن الترمذي: كتاب الصوم (682)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الصيام (1642)، وأبو نعيم في الحلية (8/306)، والبيهقي في الكبرى (4/303)، وصححه ابن خزيمة (1883)، وابن حبان (3435)، والحاكم (1532)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (1331).
[7] المعجم الأوسط (3688) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا تمام في الفوائد (1127)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (51/225)، وقال الهيثمي في المجمع (3/347): "أخرجه الطبراني وقال: لم يروه عن الأوزاعي إلا أحمد بن أبيض. ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله موثقون".
[8] أخرجه البخاري في المناقب (3624)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2450) عن فاطمة رضي الله عنها. وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1902)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2308) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[10] أخرجه البخاري في كتاب الحج (1782، 1863)، ومسلم في كتاب الحج (1256) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[11] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] أخرجه أحمد (5/159)، وأبو داود في الصلاة (1375)، والترمذي في الصوم (806)، والنسائي في قيام الليل (1605)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (403)، وابن خزيمة (2206)، وابن حبان (2547)، والألباني في الإرواء (447).
[13] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (38)، وأخرجه أيضا مسلم في صلاة المسافرين (760).
[14] سنن النسائي: كتب الصيام، باب: فضل الصيام (2221)، وأخرجه أيضا أحمد (5/248، 249، 255، 257، 264)، والروياني (1175)، والطبراني في الكبير (8/91)، وأبو نعيم في الحلية (5/175، 7/165)، والبيهقي في الكبرى (4/301)، وصححه ابن خزيمة (1893)، وابن حبان (3425، 3426)، والحاكم (1533)، وقال ابن حجر في الفتح (4/126): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن النسائي (2100).
[15] سنن النسائي: كتاب الصيام (2233)، وأخرجه أيضا أحمد (1/195، 196)، والدارمي في الصوم (1732)، وأبو يعلى (878)، والحاكم (5153)، وصححه ابن خزيمة (1892)، وحسنه المنذري في الترغيب (2/94)، وقال الهيثمي في المجمع (2/300): "فيه بشار بن أبي سيف، ولم أر من وثقه ولا جرحه، وبقية رجاله ثقات"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (657).
[16] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1903)، سنن أبي داود: كتاب الصوم (2362).
[17] المعجم الكبير (12/382)، وأخرجه أيضا القضاعي (1424)، قال المنذري في الترغيب (2/95): "إسناده لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (3/202): "رجاله موثقون". وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه أحمد (2/373، 441)، والنسائي في الكبرى (2/239)، وابن ماجه في الصيام، باب: ما جاء في الغيبة والرفث للصائم (1690)، وصححه ابن خزيمة (1997)، وابن حبان (3481)، والحاكم (1571)، ووافقه الذهبي، وكلا الحديثين في صحيح الترغيب والترهيب (1083، 1084).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمدُ لله ربِّ العَالَمين، الرَّحمَن الرَّحيمِ، مالِكِ يَومِ الدِّين، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملك الحقّ المبين، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله حقَّ التقوَى، وتمسّكوا من الإسلامِ بالعروة الوثقَى.
عبادَ الله، استقبِلوا شهرَ رمضان بما يستحقّ من التعظيم والتوقيرِ والفرَح برحمةِ الله تعالى، فهو شهرٌ كريم وموسِم عظيم، يفرَح به المؤمنون في السمَاء والأرض. استقبِلوه بالتوبة النصوحِ وردّ المظالم إلى أهلها والتوجُّه إلى الله تبارك وتعالى بالدّعاء أن يتقبَّلَه منكم صالحًا خالِصًا، فقد ذُكِر عن السلَف أنهم كانوا يدعون الله ستّةَ أشهرٍ أن يبلِّغَهم رمَضان، ويدعونه ستّةَ أشهرٍ أن يتقبَّل منهم رمضان، قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال تعالى: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:3]، وفي الحديثِ عن النبيِّ أنّه قال: ((أيّها النّاس، توبوا إلى الله فإنِّي أتوب إليه في اليومِ أكثرَ مِن سبعين مرّة)) [1].
واجتَهدوا في شهركم في تلاوةِ القرآن والذكرِ وأنواع البرّ والخيرات، فإنَّ النبي قال: ((رغِمَ أنفُ من أدركَ رمضان فلم يغفَر له، ورغِم أنف من أدرَك أبويه أو أحدَهما فلم يغفَر له، ورغِم أنف من ذُكِرتُ عنده فلم يصلِّ عليّ)) ، اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه وسلّم.
وموَاسم الخيراتِ قد يدرِكُها المرء مرّةً ولا يدرِكها مرّةً أخرَى، فأَروا الله من أنفسِكم خيرًا، ولا تضيِّعوا الأوقاتِ في السّهَر ومجالس اللّهو، واضرِبوا بسهمٍ وافر في كلّ عملٍ صالح، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه فقَال جلّ من قائِلٍ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قالَ : ((مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحِدة صلّى الله عَليه بهَا عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخِرين وإمامِ المرسَلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلَى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرا...
[1] أخرجه مسلم في الذكر (2702) عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة)).
(1/4366)
مزادة رمضان
فقه
الحج والعمرة, الصوم
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
4/9/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة المؤمن إلى ما يجدد به إيمانه. 2- رمضان شهر تقوية الإرادة. 3- الصوم مزرعة التقوى. 4- العمرة في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، وحذارِ من إضاعةِ العمُر الشريف والزمَن الغالي والوقت النفيس في كلِّ زبَد؛ فإنّه يذهَب جُفاءً، واصرِفوها في كلِّ نافعٍ؛ فإنه يمكث في الأرضِ ويعظِم الله لكم بهِ الأجرَ ويضَع به عنكم الوزرَ ويرفَع به الذّكر.
أيّها المسلمون، بين لهوِ الحياة ولغوِها وفي غمرةِ خطوبها وأحداثِها وفي سعيرِ صِراعها وهجيرِ مَطامِحِها يشعر المرءُ بأنّه في حاجةٍ إلى ملاذَاتٍ يثوب إليها ويتفيَّأ ظِلالها؛ ليأخذَ الأهبَةَ ويعِدَّ العدة لتجديد العزمِ وشَحذ الهمّة وتقويةِ الإرادة حتى يمضيَ على الطَّريقِ موفورَ الحظِّ من التوفيق سالِمَ الخُطَى من العِثارِ.
ولقَد كان من نِعَم الله السابِغَة ومِنَنه الوافرة وآلائِه الجليلةِ أن هيَّأ لعبادِه من فرَصِ العمُر ومواسم الخيرِ وميادين البرّ ما يبلغون به هذا المرادَ، وفي الطليعةِ منها هذا الشهرُ المبارَك الذي أظلَّتِ الأمةَ أيامُه ولياليه، ولئن كانتِ القوّة للمسلم ضرورةً وزادًا لا غناءَ له عنه ورصيدًا لا مناصَ له منه ـ لأنّه عونٌ على الحقّ وسَبيلٌ إلى التَّمكين وطريقٌ إلى الظّفَر وبَابٌ إلى رضوانِ الله وسَبَبٌ لمحبَّتِه كمَا أخبر بذلِك رسول الله في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحِه عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّه قال: قال رسول الله : ((المؤمِنُ القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله منَ المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير)) [1] ـ فإنَّ في فرصة الصيام في هذَا الشهرِ المبارَك مجالاً رَحبًا ومِضمَارًا واسعًا لتقويَةِ الإرادة في نفس المسلِم الصائِم؛ فالإمساكُ بالنهار عن الأكلِ والشرب وسائرِ المفطِّرات وما يصحَب ذلك من صبرٍ على رهَق الحِرمان ومرارةِ الفَقدِ لما اعتَادَه المرء منَ المشتَهَيات وكذلك إحياءُ الليل بالقِيام في صَبرٍ على نصبِك يقتضِي أن ينشأَ في إرادة المسلِمِ شعورٌ بالمقاوَمَة لكلِّ إحساسٍ بالضّعف ولكلِّ رَغبةٍ في الممنوعِ المحرَّم خلالَ النهار مَهمَا كثُرتِ المغرِيات ومهما تبَذلَّت الشهوات، فإذا اجتازَ الصائمُ الامتحانَ ونجح في اكتسابِ زادِه من التقوى كان ذلك عونًا له على استمرارِ المقاومةِ وتقويةً لإرادَته في مواجهة الشهواتِ والصمودِ أمام التحدِّيات، فكلُّ موقفٍ يواجه فيه نزوةً عابرة أو رَغبَة ملِحّة أو بلاءً عظيمًا هو في الواقِعِ امتحانٌ متجدِّد لإرادتِه، يعظُم فيه نفعُ التقوى التي تحقَّقت بالصيام، فهو إذًا تصويبٌ في المسلَك وتصحيح في المنهَج وتغييرٌ في المسَار، فمن ذلِّ الخطيئة إلى عِزِّ الطاعة، ومن مهابِطِ العجز والكسَل إلى ذُرى الجدِّ والعَزم والنّشاط، ومِن أدران العوائدِ المقبوحَة والسّنَن المرذولة والفِعال الشائِنة المحقورَة إلى طيبِ العوائدِ القويمةِ والسّنَن الجميلةِ والفِعال الحسنةِ المرضيّة.
وبالجملة فإنَّ في الصيام الذي روعِيَت شروطُه واستُكمِلت آدابه بَعثًا للقوّةِ التي وهَنَت والإرادةِ التي خمدَت والعزيمة التي خارَت، وتلك آيةٌ بيِّنة على بلوغ الصائم أوفرَ حظِّه من التقوى التي قال فيها سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:183، 184].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب القدر (2664).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي فضَّل رمضانَ على شهورِ العامِ، أحمده سبحانَه جعَل الصيامَ أحَدَ أركانِ الإسلام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خيرُ من صلَّى وصامَ وقام، اللّهمّ صلِّ عليه وعلى آلهِ وصحبه الأئمّة الأبرار الأعلام.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، ثبت في السنّة الصحيحة الواردةِ عن رسول الله أنّ عمرةً في هذا الشهرِ المبارَك تعدِل حجّةً، فقد أخرج الشيخان في صحيحَيهما وأبو داودَ وابن ماجه في سنَنِهما وأحمدُ في مسنده عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه قال: قال رسول الله لامرأةٍ من الأنصار: ((ما مَنَعكِ أن تحجِّي معنا؟)) قالت: كان لنا ناضِحٌ ـ أي: البعير أو الدابّة التي يُستقَى عليها ـ فركبَه أبو فلان وابنُه ـ تعني زوجَها وابنَه ـ وترَكَ ناضِحًا ننضَح عليه، فقال النبيّ : ((فإذا كان رمضان فاعتمري فيه؛ فإنَّ عمرةً في رمضان تعدِل حجّة)) ، وفي لفظ لمسلمٍ رحمه الله: ((فعمرةٌ في رمضانَ تقضي حجّةً أو حجّة معي)) [1].
وإنّه لفضلٌ قد بلغ الغايةَ يا عبادَ الله، وحاصِلُه أنّه أعلَمَها أنَّ العمرةَ في رمضانَ تعدِل الحجّةَ في الثواب، لكنّها لا تقوم مقامَها ولا تسُدُّ مسدَّها في إسقاط الفريضةِ عمّن لم يحجَّ حجّةَ الإسلام؛ لأنَّ الإجماع قائمٌ على أنّ الاعتمارَ لا يجزئ عن حجّةِ الفريضة.
وفيه ـ كما قال أهل العلم بالحديث ـ أنّ ثوابَ العمل يزيد بازدِيادِ شَرَف الزّمان كما يزيدُ بحضورِ القلب وإخلاصِ القصد.
وأمّا هو صلوات الله وسلامه عليه فلم يعتمِر عمرةً واحدة في رمضانَ من عُمَرِه الأربع، ويحتمل أن يكونَ سببُ ذلك ـ كما قال الإمام ابن القيّم رحمه الله ـ أنّه كان يشتغِل في رمضانَ مِن العبادةِ بما هو أهمّ من العمرةِ وخشِيَ من المشقَّة على أمّته؛ إذ لو اعتمَر لبادَروا إلى ذلك مع ما هم عليه من المشقَّةِ في الجَمعِ بين العمرةِ والصوم، وقد كان يترُك العملَ وهو يحِبّ أن يعمَلَه خشيةَ أن يفرَضَ على أمّته وخوفًا من المشقَّة عليهم. انتهى كلامه رحمه الله [2].
ألا وإنَّ هذا الأجرَ الضّافي والجزاءَ الكريمَ يحصُل إن شاء الله لمن اعتَمَر عمرةً واحِدة في رمضانَ، ويخطِئ كثيرٌ مِنَ النّاس بِتَعمّدهم تكرارَ هذه العمرةِ مرّاتٍ ومرّات خِلال هذا الشّهر، فيعتَمِر مرّةً كلَّ عشرةِ أيام، أو مرّة كلّ أسبوع، أو مرّةً كلَّ ثلاثة أيّام، فيشقّ على نفسِه مشقّةً بالغة ويُدخِل عليها الحرَجَ، ويزداد الأمرُ حين يترتَّب على ذلك تضييقٌ على إخوانِه أو إيذاءٌ لهم لا سيَّما عند كثرةِ الزِّحامِ، وربَّما اشتَغَل بها عن القِيام في العشرِ الأواخِرِ من رَمَضان.
فاتَّقوا الله عباد الله، واعمَلوا على اغتنامِ فُرَص الخير في شهرِ الخير، مخلِصين في ذلك للهِ، متابعين فيهِ رسولَ الله.
واذكروا على الدّوام أنَّ الله تعالى قد أمَرَكم بالصلاة والسلام على خيرِ خلقِ الله محمد بن عبد الله، فقال سبحانه في كتاب اللهِ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج (1863)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1256).
[2] زاد المعاد (2/90) بالمعنى.
(1/4367)
الصيام الحق
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
4/9/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء الأيام. 2- نعمة مواسم الخير. 3- منافع رمضان. 4- حياة السلف في رمضان. 5- فضائل الصوم. 6- مدرسة رمضان. 7- أثر الصيام على أخلاق المسلم. 8- فضل الأعمال الصالحة في رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، قال الله عز وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الأيّام تمرُّ مرَّ السّحاب، وتمضي السّنون سريعًا، ونحن في غمرةِ الحياةِ ساهون، وقلَّ من يتذكّر أو يتدبّر واقعَنا ومصيرَنا، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:62].
المسلِمُ في عمرِه المحدود وأيّامه القصيرةِ في الحياةِ قد جعلَ الله له تعالى مواسِمَ الخير وأعطاه مِن شرَف الزمان والمكان ما يسدُّ به الخلَلَ ويقوِّم المعوَجَّ من حياته، ومن تلك المواسمِ شهرُ رمضان المبارك، قالَ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
في رَمضانَ تخفّ وطأةُ الشهوات على النفوسِ المؤمِنة، وتُرفَع أكُفُّ الضّراعةِ في اللّيل والنهار، فواحِدٌ يسأل العفوَ عن زلّته، وآخَر يسأل التوفيقَ لطاعتِه، وثالثٌ يستعيذ به من عقوبَتِه، ورابعٌ يرجو منه جميلَ مثوبتِه، وخامِس شَغلَه ذكرُه عن مسألتِه، فسبحان من وفَّقَهم وغيرُهم محروم.
شهر رمضان شهر قوّة وعطاء، شهر مثابرةٍ وإيمان، شهر عملٍ وصبر، وليس شهرَ الضعف والكسل والنوم. وخمولُ بعض الصائمين ولجوؤهم إلى النوم في نهاره والإقلال من العمل يخالف الحكمةَ من الصوم، ولا يتَّفق مع الغاية منه.
كان المسلمون الأوائل يعيشون رمضان بقلوبهم ومشاعرهم، فإذا كان يوم صوم أحدهم فإنّه يقي نهارَه صابرًا على الشدائد، متسلِّحًا بمراقبة الله وخشيته، بعيدًا عن كلّ ما يلوِّث يومَه ويشوِّه صومَه، لا يتلفّظ بسوء، ولا يقول إلاّ خيرًا وإلاّ صمتَ، أمّا ليلُه فكان يقضيه في صلاةٍ وتلاوةٍ للقرآن وذكرٍ لله تأسِّيًا برسول الله.
ثمارُ الصومِ ونتائجُه مدَد من الفضائل، لا يحصيها العدّ، ولا تقَع في حساب الكَسول اللاهي الذي يضيِّعُ شهرَه في الاستغراقِ في النّوم وذَرعِ الأسواق ليلاً وقتلِ الوَقت لهوًا.
الصّيام جُنّة من النار كما روى أحمد عن جابر رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((إنّما الصيام جنّة يستجِنّ بها العبدُ من النار)) [1]. الصيامُ جنّة من الشهوات، فقد جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ النبيّ قال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءةَ فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطِع فعليه بالصوم؛ فإنّه له وجاء)) رواه البخاري ومسلم [2]. الصوم سبيلٌ إلى الجنة، فقد روى النسائيّ عن أبي أمامة قال: أتيتُ رسول الله فقلتُ: مُرني بأمرٍ آخذه عنك، قال: ((عليك بالصوم فإنه لا مِثلَ له)) [3]. وفي الجنّة بابٌ لا يدخل منه إلاَّ الصائمون، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((إنَّ في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحد غيرُهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أغلِقَ فلم يدخل منه أحد)) أخرجه البخاري ومسلم [4]. الصيام يشفَع لصاحبه، فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنّ النبيَّ قال: ((الصيامُ والقرآن يشفعان للعبد يومَ القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليل فشفِّعني فيه قال: فيشفَّعَان)) [5]. الصّومُ كفّارة ومغفِرةٌ للذّنوب، فإنّ الحسنات تكفِّر السيئاتِ، فقد قال من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه: ((من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) [6]. الصّيام سببٌ للسّعادة في الدّارين، فقد قال من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه: ((والذي نفسُ محمّد بيده، لخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقيَ ربّه فرحَ بصومِه)) رواه البخاري ومسلم [7].
فهل نجعل من رمضان موسمًا للعودة إلى الله ومناسبةً للمحاسبة وإصلاحِ التّقصير في جنب الله؟! وهل يجعل طلبةُ العلم والدعاةُ من رمضانَ منطلقًا لتجديد الهمّة وتطهير النية؟! فهم يحملون أشرفَ دعوةٍ وأنبلَ غايةٍ. وهل يكون رمضانُ فرصة لكلّ مسلمٍ لينصرَ أخاه ظالمًا أو مظلومًا؟! ينصر المظلومَ بردّ ظلامتِه، وينصر الظالمَ بالأخذ على يديه؛ فيسود الصفاءُ المجتمعَ المسلم. هل يكون رمضان فرصةً للأغنياء والمترَفين ليعيشوا حاجةَ الفقراء ويشكروا النعمةَ بوضعها حيث أراد المنعِمُ، فيسهموا في إنقاذ الجائعين في الأمّة الإسلاميّة وما أكثرَهم؟! فإيمانهم معرَّض للخطر إذا لم يُطعَم جائعهم ويُكسَ عاريهم ويُغَث ملهوفُهم. هل يكون رمضان فرصةً لكلّ مسلم ليدركَ أن التساهلَ يؤدّي إلى الكبائر، فيقلع عن الغيبة والنميمة وسوء الظنّ والاحتقار والازدراء؟!
رمضان ـ عباد الله ـ مدرسة كبرى، نتدرَّب في ليله ونهاره، ونغذّي جوارحَنا بنفحاته؛ حتى تتحرّك جميعها كما أراد لها ربّها وخالقُها، وفي الحديث القدسيّ: ((وما يَزال عبدِي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتَّى أحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي عليها)) رواه البخاري [8].
مدرسة الصيام تربِّي على الإرادة الجازمة والعزيمة الصادقةِ، تلك التي تكسِر غوائلَ الهوى وتردّ هواجسَ الشرِّ، أيّ إرادة قويّة، بل أيّ نظام أدقّ من أن ترى المؤمنَ في مشارق الأرض ومغاربها يمسك عن طعامه وشرابه مدّةً من الزمن، ثمّ يتناوله في وقتٍ معيّن، ثم يمسك زمامَ نفسه من أن تذلَّ لشهوةٍ أو تُسترَقَّ لنزوةٍ أو ينحرفَ في تيّار الهوى، بل إنه يقول لسلطان الهوى والشهوةِ: لا، وما أروعَها من إجابةٍ إذا كانَت في مَرضاةِ الله. لا يرفث، ولا يصخَب، ولا يفسُق، ولو جرح جاهِلٌ مشاعرَه واستثار كوَامِنَه لجَم نوازِعَ الشرّ بقوله: إني امرؤٌ صائِم.
الصيامُ الحقُّ يثمِر تطهيرَ القلبِ من الأحقادِ والمآثم والشرور، وكفَّ الألسن عن اللّغو، وغضَّ البصر عن الحرام، فمن الصائمين من ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش. نعم، الذي يترك الطعامَ ويأكل بالغيبة لحومَ إخوانه، يكفّ عن الشراب ولكنّه لا يكفّ عن الكذب والغشّ والعدوان على الناس.
الصيام الحقُّ يجعل المسلمَ أوسع صدرًا وأندى لسانًا وأبعدَ عن المخاصمة والشرّ، وإذا رأى زلّةً احتملها، وإن وجد إساءةً صبر عليها، إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] مسند أحمد (3/396)، وأخرجه أيضا البيهقي في الشعب (3/294)، وحسنه المنذري في الترغيب (2/50)، والهيثمي في المجمع (3/180)، والألباني في صحيح الترغيب (981).
[2] أخرجه البخاري في النكاح (5065)، ومسلم في النكاح (1400).
[3] سنن النسائي: كتاب الصيام، باب: فضل الصيام (2221)، وأخرجه أيضا أحمد (5/248، 249، 255، 257، 264)، والروياني (1175)، والطبراني في الكبير (8/91)، وأبو نعيم في الحلية (5/175، 7/165)، والبيهقي في الكبرى (4/301)، وصححه ابن خزيمة (1893)، وابن حبان (3425، 3426)، والحاكم (1533)، وقال ابن حجر في الفتح (4/126): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن النسائي (2100).
[4] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1896)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1152).
[5] مسند أحمد (2/174)، وصححه الحاكم (2036)، وقال المنذري في الترغيب (2/84): "رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله محتج بهم في الصحيح، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الجوع وغيره بإسناد حسن"، وقال الهيثمي في المجمع (10/381): "رواه أحمد وإسناده حسن على ضعف في ابن لهيعة وقد وثق"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (984، 1429).
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760).
[7] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1904)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1151).
[8] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه وأتباعه.
أمّا بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنجوى.
من بركة هذا الشهر عظمُ فضلِ الأعمال الصالحة، ومنها قيام الليل، فقد كان الرسول يرغِّب في قيام رمضان فيقول: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه)) [1].
الصدقة؛ فقد كان النبيّ أجودَ الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. رواه البخاري ومسلم [2].
ويستحَبّ تعجيلُ الفطر والدعاءُ عند الإفطار، فقد روى الترمذيّ أن النبيَّ قال: ((ثلاثةٌ لا ترَدّ دعوتُهم: الأمام العادل، والصائم حين يفطِر، ودعوة المظلوم)) [3].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين (759) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب: أجود ما كان النبي (1902)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل، باب: كان النبي أجود الناس (2308).
[3] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3598) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/445)، وابن ماجه في الصيام (1752)، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
(1/4368)
فضل الصيام وحقيقته
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
4/9/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على أداء الصلوات في المسجد الأقصى. 2- من فضائل شهر رمضان. 3- التحذير من إضاعة الوقت في رمضان. 4- ليس الصيام هو الإمساك عن المفطرات الحسية فحسب. 5- إرشادات وتوجيهات للمصلين في الأقصى. 6- تجدد محاولات اليهود لاقتحام الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد روى الصحابي الجليل سلمان الفارسي أن رسول الله خطب في آخر يوم من شهر شعبان قائلاً: ((يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم، شهر مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعًا، من تقرّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه، ومن أدّى فريضة فيه كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة)).
أيها المسلمون، أيها الصائمون، اليوم الجمعة الأولى من رمضان المبارك لعام 1426هـ، فطوبى لمن صلى الجمعة في المسجد الأقصى المبارك في هذا الشهر الفضيل، فيكون قد جمع ثلاث فضائل: الجمعة لها فضيلة، والأقصى له فضيلة، والصوم له فضيلة، فاحرصوا ـ أيها المسلمون ـ على الصلاة يوم الجمعة في المسجد الأقصى المبارك.
وعليه نقول: ينبغي على كل مسلم يتمكّن من الوصول إلى الأقصى أن يشدّ الرحال إليه، فطوبى لكم أيها المصلون المستمعون، أيها المحتشدون في رحاب المسجد الأقصى المبارك.
وإن زحفكم إلى الأقصى لصلوات الفجر والعشاء والتراويح هو الرد العملي على الطامعين بالأقصى، هو الرد العملي على الذين يحاولون التنغيص على عباداتكم في هذا الشهر الفضيل شهر الصوم شهر رمضان المبارك. فاحرصوا ـ يا أحباب الأقصى ـ على التردّد والتواجد في رحابه وفي ساحاته، فكلها أقصى في رمضان وفي غير رمضان، فأنتم المعادلة السليمة الصحيحة على أرض الواقع، فهنيئًا لكم وطوبى لكم، وحماك الله يا أقصى.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يا أمة الصيام والقيام، لقد أطل علينا هذا الضيف العزيز على قلب كل مؤمن، إنه شهر الخير والبركات، شهر القربى والعبادات، شهر الإنجازات والانتصارات، في هذا الشهر تفتح خزائن الفضل والرحمة والإحسان، وتقبل ليالي الجود والعفو والغفران، لقول رسولنا الأكرم محمد : ((إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين)) ، وفي رواية: ((صفدت الشياطين)) ، والمعنى واحد. والحكمة من ذلك حتى يكون للناس حافز بالإقبال على الله عز وجل، وبالتوبة النصوح الخالصة له سبحانه وتعالى، فإن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، ينتظر التائبين المستغفرين العابدين، فهل من تائب ليتوب الله عليه؟!
هذا الشهر الذي أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. نسأل الله رب العالمين ذا العرش المجيد أن يرحمنا برحمته، وأن يغفر لنا ذنوبنا، وأن يعتقنا وإياكم من النار.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، إن المؤمنين في هذا الشهر المبارك يعيشون في عبادة متواصلة من صلاة للتراويح وتلاوة للقرآن الكريم وحضور دروس العلم، لا مجال لمضيعة الوقت في هذا الشهر الفضيل. في الوقت نفسه فإن المؤمنين يمتحنون امتحانًا شديدًا لما يشاهدون من معاص وتحديات ومنغصات وتجاوزات بفعل الاحتلال البغيض، وبفعل الشواذ والمنحرفين من المسلمين، فإن هذا الشهر شاهد يوم القيامة بالإحسان لمن أحسن، وبالإساءة لمن أساء، والعاقبة للمتقين.
فطوبى للصائمين، والويل للمفطرين بدون عذر شرعي، أما المضطرون للإفطار بعذر شرعي عليهم أن يستتروا، وأن لا يجاهروا بإفطارهم، فإن المجاهرة بالإفطار إثم، فكيف بالذين يجاهرون وبدون عذر شرعي؟! فالإثم أشد وأشد.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، بحمد الله وتوفيقه ورعايته أن بدأ المسلمون في مختلف أقطار المنطقة صومهم في يوم واحد، ونسأل الله العلي القدير أن يوحّد صفوفهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن يحرر بلادهم من الاحتلال والتبعية والاستعمار، وأن يرفع رايتهم راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. ونتوقّع أن يكون عيد الفطر السعيد لدى جميع المسلمين في يوم واحد أيضًا إن شاء الله؛ لنطمئن على عباداتنا، كيف لا والصوم ركن من أركان الإسلام؟!
هذا، وقد وزعت عدة أنواع من الإمساكيات دون مراجعة دور الفتوى لها، مما أدى إلى وقوع بعض الأخطاء المطبعية والعلمية فيها. فنقول للصائمين: عليهم أن يتأكدوا من دقة وقت المغرب حين الإفطار، وأن لا يتسرعوا بالإفطار، وكذلك بالنسبة لأذان الفجر حين الإمساك بأن يأخذوا الحيطة فيه.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، يتوهم بعض المسلمين بأن الصوم هو الامتناع عن الطعام والشراب والجماع فقط، فهل هذا صحيح؟ والجواب: لم يكتف الإسلام بأن يكون الصوم هو الامتناع عن الأكل والشرب والجماع فقط، بل أوجب الامتناع عن ارتكاب المعاصي، وأوجب الامتناع والكف عن الآثام كالكذب والغيبة والنميمة وقول الزور والخوض في أعراض الناس وإطلاق الإشاعات والتهم الزائفة والافتراءات، كما أوجب ديننا العظيم حفظ اللسان عن فحش الكلام وأرذله، وأن نتحلى بالأخلاق الحميدة والفضائل السامية.
وهناك ـ يا مسلمون ـ عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي توضح ذلك، منها قول رسولنا الأكرم محمد : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام أيضًا: ((ليس الصيام من الأكل والشرب فقط، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابّك أحد أو جهل عليك فقل: إني صائم)) ، وفي الحديث القدسي: ((قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، إني صائم)).
إذًا ـ يا مسلمون ـ ما فائدة صيام من يفحش في كلام هو يؤذي الناس بلسانه؟! وقد أجاب رسولنا الأكرم محمد عن ذلك بقوله: ((رُبّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش)) ، وفي رواية: ((كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش)). فما بالكم ـ يا مسلمون ـ فيمن يسب الدين والرب ـ والعياذ بالله ـ وهو صائم بحجة أنه عصبي ومزاجي في رمضان، فهل يبقى مسلما؟! إنه يخرج من الإسلام ـ والعياذ بالله ـ وبئس المصير، والله غني عن العالمين، وغني عنه وعن صومه، وسواء كان صائمًا أو غير صائم.
أيها المسلمون، أيها الصائمون، توبوا إلى الله رب العالمين توبة نصوحًا لعلكم ترحمون وتنصرون. ها قد دخلتم في شهر التوبة والمغفرة والعبادة، فأحسنوا صيامه وقيامه، وضاعفوا فيه الطاعة، وحافظوا على حرمته، وتزودوا لآخرتكم فإن خير الزاد التقوى. جاء في الحديث الشريف: ((سبحان الله نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض، والطهور نصف الإيمان، والصوم نصف الصبر)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المصلون، أيها الصائمون، لقد أصدرت دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس ومديرية المسجد الأقصى المبارك بيانًا للمواطنين الكرام بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك، تضمن هذا البيان مجموعة من الإرشادات والإجراءات، منها:
1- التعاون مع حرس المسجد الأقصى ولجان حفظ النظام في ترتيب الدخول والخروج للمصلين من الأبواب الخارجية، وكذلك بالنسبة للأماكن المخصصة للرجال والأماكن المخصصة للنساء.
2- منع التسول والباعة المتجولين من دخول ساحات المسجد؛ لأن الساحات هي جزء من المسجد.
3- منع جمع التبرعات، أما بالنسبة للجنة زكاة القدس واللجنة المركزية للزكاة فلهما مكاتب خاصة في باحات المسجد، فيمكن لمن أراد التبرع لهما أن يتوجه إلى مكاتبها.
أيها المصلون، أيها الصائمون، أما فيما يتعلق بصدقة الفطر لهذا العام فإن مقدار صدقة الفطر نقدًا هو دينار أردني وربع الدينار أو ما يعادله بثمانية شواكل، وهذا التقدير لمنطقة القدس والمحافظات المجاورة لها على ضوء أسعار غالب قوت أهل البلد، أما إخوتنا في مناطق 48 فأعلى من ذلك.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن المدعو "عوزي لنداو" من حزب الليكود اليميني الإسرائيلي يخطط لاقتحام المسجد الأقصى المبارك، متوهّمًا بأن الأقصى هو موضع تفاوض ومساومة ومقايضة، ومتجاهلاً مدى تعلق المسلمين بالأقصى عقيدة وعبادة، ونقول له: خذ العظة والدروس من سلفك شارون.
ونؤكد لهذا المتطرف المغرور ولأمثاله وللعالم أجمع بأن الأقصى للمسلمين وحدهم، ولا نُقرّ ولا نعترف بأي حق لغير المسلمين فيه، وأن الأقصى يقع في قلوب المسلمين في أرجاء المعمورة وفي عقولهم وأحاسيسهم ومشاعرهم.
ونقول للساسة الإسرائيليين المحتلّين: لا تُزَاوِدُوا على الأقصى، فهو أسمى من أن يخضع لأي مُزَاوَدَة ولا لأي مفاوضة ولا لأي مساومة ولا لأي تنازل. وإن أردتم سلامًا واستقرارًا في المنطقة فابتعدوا عن الأقصى، ولا تحلموا به، ولا تنجرّوا خلف اليهود المتطرّفين الذين يحفرون لكم حفرة كبيرة لن تستطيعوا تجاوزها. ونقول لمن يحاولون الاعتداء على الأقصى: إن إرادة الله فيكم لا رادّ لها ولا مناص منها، كما ورد ذلك في القرآن الكريم.
إنه الأقصى الذي جَثَت لعظمته الأجيال، وعنت لهيبته الرجال، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/4369)
حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
علي أبو مازن
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص في الحثّ على حسن الخلق. 2- تعريف حسن الخلق. 3- ركائز حسن الخلق. 4- ركائز سوء الخلق. 5- هل يمكن تغيير الأخلاق؟ 6- وسائل اكتساب حسن الخلق. 7- صور من صبر السلف على تحمّل الأذى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن شأن الأخلاق عظيم، وإن منزلتها لعالية، فالدين هو الخلق، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا، وأحسنهم أخلاقًا أقربهم من النبي يوم القيامة.
ولقد تظاهرت نصوص الشرع في الحديث عن الأخلاق، فحثّت وحضّت ورغّبت في محاسن الأخلاق، وحذّرت ونفّرت ورهّبت من مساوئ الأخلاق، بل إن رسول الله بيّن أن الغاية من بعثته إنما هي لإتمام مكارم الأخلاق، فقال : ((إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق)) ، وقال الله لنبيه : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، قال ابن عباس ومجاهد: لعلى دين عظيم، وقال الحسن: هو آداب القرآن. وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي فقالت: كان خلقه القرآن. ولما أنزل الله جلّ وعلا على رسوله قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199] سأل جبريلَ عن معناها قال: لا أدري حتى أسأل، ثم قال: إن الله يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك. وقال عن عباده: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].
وهكذا كان أحسن الناس خلقًا، قال أنس: ما مسست ديباجًا ولا حريرًا ألين من رسول الله ، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله ، ولقد خدمت الرسول عشر سنين فما قال لي قط: أف، ولا قال لشيء فعلته: لِمَ فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا؟ ولقد أخبر أن البرّ هو حسن الخلق، وقال : ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء)) ، وقال: ((أنا زعيم ببيت في رَبَض الجنة لمن ترك المِرَاء وإن كان مُحِقًّا، وبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) ، قال ابن القيم: "وهذه كلها يشملها حسن الخلق". وفي الترمذي عن جابر عن النبي قال: ((إن من أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا، وإن من أبغضكم إليّ الثَّرْثَارُون والمُتَشَدِّقُون والمُتَفَيْهِقُون)). والمُتَشَدِّق هو المتكلّم بملء فيه تفاصُحًا وتعاظمًا وتطاولاً على غيره، والمُتَفَيْهِقُون هم المتكبّرون.
فما هو حسن الخلق؟ إن الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين. وقيل: إن حسن الخلق بذل الندى وكفّ الأذى واحتمال الأذى. وقيل: هو بذل الجميل وكفّ القبيح. وقيل: هو التخلّي عن الرذائل والتحلّي بالفضائل. وكل هذه المعاني تحمل مقامات سامية وصفات مشرقة.
وحسن الخلق يقوم على أربعة أمور: وهي الصبر والعفّة والشجاعة والعدل، فالصبر يحمل صاحبه على الاحتمال وكظم الغيظ وكفّ الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة. والعفة تحمله على اجتناب الرذائل من القول والفعل، وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة. والشجاعة تحمله على عزّة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشِّيَم وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، قال أعرابي يصف الرسول : إنه يعطي عطاء من لا يخاف الفقر، وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عِنَانها، ويكبحها بلِجَامِها عن النزغ والبطش، كما أنه ليس الشديد بالصرعة، أي: ليس الشجاع الذي يصرع الناس، إنما الشديد الذي يملك ويمسك نفسه عند الغضب. والعدل يحمله على الإنصاف وعدم الظلم وتوسّطه بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على وسطية التصرّف بين التهوّر والجبن والإسراف والإقتار، وبين الغضب والمهانة وسقوط النفس. فهذه الأركان الأربعة هي منشأ الأخلاق الحسنة الفاضلة.
كما أن منشأ الأخلاق السافلة على أربعة أركان: الجهل والظلم والشهوة والغضب. فالجهل يرى صاحبه الحسن في صورة القبيح، والقبيح حسن، والكمال نقصًا، والنقص كمالاً، يقول القائل:
فلا تصحبْ أخا الجهلِ وإياكَ وإياهُ
فكم من جاهل أرْدَى حَلِيمًا حين آخاهُ
يُقاس المرءُ بالْمرء إذا ما الْمرءُ ماشاهُ
والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل. والشهوة تحمله على الحرص والشحّ والبخل وعدم العفّة والنّهبة والجشع والذل والدناءات. وأما الغضب فيحمله على الكبر والحقد والحسد والعداوة والسَّفَه. فاعلم أن الأخلاق الذميمة يولّد بعضها بعضًا، كما أن الأخلاق الحميدة يولّد بعضها بعضًا.
وهنا سؤال: هل يمكن تغيّر الأخلاق من قبيح إلى حسن؟ وما الطريقة؟
الجواب: إن الناس على رأيين: الأول: أنها لا تتغير، والثاني: أنها تتغيّر، وهذا هو الصحيح؛ لأن الأخلاق على ضربين: منها ما هو جِبِلِّي، ومنها ما هو اكتسابي يأتي بالتدريب والممارسة والمحاكاة، بل كيف يُنكَر عدم تغيّر خلق الإنسان وتغيّر خلق الحيوان البَهِيم ممكن؟! فالبازِيّ يُنقَل من الاستِيحاش إلى الأُنس، والكلب من شَرَهِ الأكل إلى التأدّب والإمساك عن الصيد بعد إمساكه، والفرس من الجِمَاح إلى السلاسة. فإذا كان هذا شأن الحيوان فأجدر بالإنسان أن يغيّر خلقه.
وأما أسباب اكتساب حسن الخلق فهي كثيرة:
وأولها: سلامة العقيدة، فشأن العقيدة عظيم وأمرها جليل، فكل انحراف في السلوك إنما هو ناتج عن خلل في العقيدة، قال الغزالي: "آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، الأعمال نتيجة الأخلاق، وأنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزيّنه، ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية لم يفض على ظاهره جمال الآداب النبوية" انتهى كلامه رحمه الله بتصرّف. فالناس إذا صحّت عقائدهم زَكَت نفوسهم، واستقامت أخلاقهم تبعًا لذلك.
ثانيًا: الدعاء، فهذا أعظم الناس أخلاقًا، وأكملهم صفاتًا، يدعو ربه أن يرزق حسن الخلق، فيقول: ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنّي سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، اللهم جنّبني منكرات الأخلاق والأهواء الأعمال والأدواء)).
ثالثًا: المجاهدة، فمجاهدة النفس على حسن الخلق وكبحها عن سيئها يجعلها تتحلّى بأحسن الأخلاق، ويقرّب عون الله، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]. والمجاهدة لا تعني أن يجاهد العبد نفسه مرّة أو مرّتين، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
ومن ذلك المحاسبة بنقد النفس إذا ارتكبت أخلاقًا ذميمة، وحملها على عدم العودة. ومنه التفكّر في عواقب سوء الخلق بتأمّلٍ فيما يجلبه من الأسف الدائم والهمّ اللازم والحسرة والندامة والبُغض في قلوب الخلق.
ألا وإنّ أعظم سبب لحسن الخلق الترفّع عن السِّباب. واسمع لهذه النماذج العجيبة في تحمّل السِّباب والإعراض عن الجاهلين.
فهذا معاوية يجلس مع قوم فيقول أحدهم: ما أظن معاوية أغضبه شيء، فيقول الآخر: إن ذكرت أمّه غضب، فيقول الثالث واسمه مالك بن أسماء: أنا أغضبه إن جعلتم لي جُعْلاً، ففعلوا، فيقوم إلى معاوية فيقول له: يا أمير المؤمنين، إن عينيك لتشبهان عيني أمك، فماذا يردّ عليه وهو أمير المؤمنين؟! باستطاعته قطع لسانه أو قتله أو إشباعه ضربًا، ولكنّه يترفّع عن الجاهلية، ولا يجاري السفهاء المتهوّرين، ماذا قال بكل بُرُود واطمئنان؟! قال: نعم، كانتا عينين طالما أعجبتا أبا سفيان، أي: أباه. ثم قال له: إذا أتيت عمر بن الزبير فقلت له مثل ما قلت لمعاوية أعطيناك كذا وكذا، ثم دعا مولاه شقران وقال: اعدد لأسماء دية ابنها فإني قتلته وهو لا يدري، فأخذ الرجل الجُعْل الأول، ثم انطلق الرجل إلى عمر بن الزبير فقال له ذلك ليأخذ الجعل الثاني، ولكن هيهات، فقد أمر بضربه حتى مات، فبلغ معاوية فقال: أنا والله قتلته، وبعث بديته إلى أمّه.
وخرج عمر بن عبد العزيز ليلة في السحر فَعَثَر في رجل نائم على الأرض، فقال له الرجل: أمجنون أنت؟! قال عمر: لا، فَهَمَّ الحرسُ به، فقال عمر: اتركوه؛ سألني فأجبته.
وقال الأصمعي: بلغني أن رجلاً قال لآخر: والله لئن قلت واحدة لتسمعنّ عشرًا، فقال الآخر: لكنك إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة.
واسمع إلى الشافعي يقول:
إذا سبّني نَذْلٌ تزايدت رِفْعَة وما العَيبُ إلا أن أكون مُسَابِبُه
ولو لم تكن نفسي عليّ عزيزة لمكّنتها من كل نَذْلٍ تحارِبُه
وآخر يقول:
ولست مُشاتِمًا أحدًا لأني رأيت الشتم من عِيّ الرجال
إذا جعل اللئيمُ أباه نَصْبًا لشاتِمِه فديت أبي بمالي
اللهم انفعنا بالقرآن الكريم والعمل به يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4370)
أسباب المغفرة في شهر رمضان المبارك
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد المحسن بن محمد السميح
الرياض
جامع العزيزية مول
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من فضائل شهر رمضان. 2- أسباب المغفرة في رمضان: بلوغ رمضان، الصيام، القيام، بلوغ الليلة الأخيرة منه، استغفار الملائكة للصائمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل في السرّ والعلن.
أيها المسلمون، فقد أظلكم شهر رمضان المبارك، شهر الصيام، شهر القيام، شهر القرآن، شهر الخيرات، شهر البركات، شهر النَّفَحَات، شهر كريم محفوف بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، يقول الله الحقّ تبارك وتعالى آمرًا عباده المؤمنين بالصيام: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، روى الإمام أحمد والنّسائي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله يُبشّر أصحابه يقول: ((قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تُفتح أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم)).
أيها المؤمنون، شهر هذه بعض صفاته وفضائله لحرِيّ بالمؤمن أن يغتنم أوقاته في طاعة الله جلّ في علاه، وأن يصرفها مُتعبّدًا لله تعالى بأنواع العبادات والطاعات، بالصيام والقيام وقراءة القرآن والدعاء والاستغفار والذكر تسبيحًا وتهليلاً وتحميدًا، وذلك طلبًا لرضا الله سبحانه وتعالى وحصولاً على مغفرته.
عباد الله، اعلموا أن أسباب المغفرة في شهر رمضان المبارك كثيرة وعديدة، ولكن خشية الإطالة أختصرها إلى ما يلي:
أوّلاً: إن أول سبب لمغفرة الذنوب في شهر رمضان المبارك بلوغ شهر رمضان، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مُكفّرات ما بينهن إذا اجتُنِبت الكبائر)). الله أكبر، ما أعظم هذا الفضل! أسباب مغفرة يومية بإقامة الصلوات الخمس، كيف لا وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بقوله: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]؟! كيف لا والرسول يقول: ((أرأيتم لو أنّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرَنِه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من دَرَنِه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهنّ الخطايا)) متفق عليه؟! فهذا سبب لمغفرة الذنوب في شهر رمضان وغيره، ولكن بشرط وحيد ويسير على من يسّره الله عليه، ألا وهو اجتناب الكبائر. فهلاّ حافظنا على أداء الصلوات، واجتنبنا المنهيّات، وخاصّة الكبائر منها. ويؤيّد ذلك قول الرسول: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله)) رواه مسلم.
ومن فضل الله تعالى أن جعل أسبابًا أسبوعية لمغفرة الذنوب بصلاة الجمعة، يقول الرسول : ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام)) رواه مسلم.
ومن فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل أسبابًا سنويّة لمغفرة الذنوب ببلوغ شهر رمضان مع اجتناب الكبائر، فكم من رمضان يمرّ علينا، وكم من سنة تلو السنة تمرّ علينا ونحن غافلون عن استشعار هذه الفضائل العظيمة والنفحات الكريمة.
أيها المسلمون، ومن أسباب مغفرة الذنوب في شهر رمضان المبارك الصيام، فعند البخاري ومسلم قول الرسول : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)). فمن صام رمضان إيمانًا بالله ورضًا بفرضية الصوم عليه واحتسابًا لثوابه وأجره ولم يكن كارهًا لفرضه ولا شاكًّا في ثوابه وأجره فإن الله يغفر له ما تقدّم من ذنبه.
أيها المؤمنون، ومن أسباب مغفرة الذنوب في شهر رمضان المبارك القيام، يقول الرسول في الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)).
ومن أسباب مغفرة الذنوب في شهر رمضان المبارك قيام ليلة القدر، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه)) رواه البخاري ومسلم.
يقول الله تبارك وتعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ شهر رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:183-185].
بارك الله لنا في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، فيا فوز المستغفرين، ويا نجاة التائبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
كان السلف الصالح يشتاقون إلى شهر رمضان، ويدعون الله ستة أشهر من عامهم أن يبلّغهم رمضان، فإذا بلّغهم إياه قاموا بحقّه خير قيام، وقاموا يعبدون الله فيه خير عبادة، ثم إذا ختموه دعوا الله في باقي عامهم أن يتقبّل منهم ما قدّموا فيه من أعمال صالحات وفعل للطاعات، فكأنّ عامهم كله شهر رمضان المبارك.
فيا من فرّط في ثلث الرحمة، وتساهل في ثلث المغفرة، فحذارِ حذارِ من التشاغل عن ثلث العِتْق من النيران.
أيها المؤمنون، ومن أسباب مغفرة الذنوب في شهر رمضان المبارك بلوغ آخر ليلة من شهر رمضان المبارك، وذلك إذا قام العبد المسلم بصيامه يوفّيه الله أجره عند إنهاء عمله، يقول رسول الإسلام : ((ويغفر لهم في آخر ليلة)) ، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكنّ العامل إنما يُوفَّى أجرَه إذا قضى عمله)) رواه أحمد.
ومن أسباب مغفرة الذنوب في شهر رمضان المبارك أنّ الملائكة تستغفر للصائمين حتى يفطروا، يقول النبي : ((وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا)) رواه أحمد.
أيها المسلمون، إن من رحمة الله تبارك وتعالى أن أخّرَنا لبلوغ هذا الشهر، وأمهلنا فلم يتخطّفنا الموت كما تخطّف أناسًا غيرنا، ولو تأمّلنا قليلاً في حال بعض أقاربنا أو أصحابنا لأدركنا عظم نعمة أن يبلّغنا ربّنا هذا الشهر الكريم، وما يدرينا هل نبلغه العام القادم أم لا. وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
سئل الرسول : أي الناس خير؟ فقال: ((من طال عمره وحسن عمله)) ، وسئل أيضًا: أيّ الناس شرّ؟ فقال: ((من طال عمره وساء عمله)) رواه مسلم. فمن نعم الله علينا أن مدَّ في أعمارنا، ووفّقنا لإدراك هذا الشهر العظيم، فكم غيَّب الموت من صاحب، ووَارَى الثرى من حبيب. فإن طول العمر والبقاء على قيد الحياة فرصة للتزوّد من الطاعات والتقرب إلى الله عز وجل بالعمل الصالح والعبادات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
أيها المسلمون، اعلموا أن الله تعالى قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثَنَّى بملائكته، وثَلَّثَ بالمؤمنين، فقال عز من قائل سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/4371)
بين تدنيس المصحف وتدنيس القرآن
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الإيمان بالكتب, الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
علاء الدين بن محمود زعتري
حلب
12/4/1426
جامع الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الإيمان بجميع الأنبياء واحترامهم. 2- جريمة تدنيس المصحف. 3- واجبنا تجاه الجريمة. 4- صور تدنيس المصحف عند المسلمين. 5- بشائر هلاك العدو بعد هذه الجريمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: فالمسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله دون تفريق بين أحد منهم، ولا تجريح نبي مرسل، ولا تنقيص من قدر كتاب منزّل، قال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
وما من مسلم سمع خبر تدنيس المصحف إلا حزن وتألّم وتكدّر وتكَلّم. ولا شك بأن فعل أعداء الله من أبشع الأعمال وأقبح الأفعال وأفظع التصرفات التي يكاد يتمزّق لها القلب ويشتعل الرأس منها شَيْبًا وتتفطّر لهولها السماء وتنشقّ الأرض وتخرُّ الجبال هَدّا.
إن هذا العمل الدنيء لهو دليل جديد على الاستخفاف بمليار إنسان يدينون بهذا القرآن، ويؤمنون بأنه كلام الله، أنزله على محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والذين يدنّسون المصحف فجرةٌ غادرون، وعن قيم الحضارة بعيدون، وهم في نظر الأخلاق مجرمون. والذين ينتهكون حرمة المساجد ويلوّثونها وإن كانوا في هيئة البشر إلا أنه ليس لهم منها إلا مظهر الصورة، أما الإنسانية فهي منهم براء. والذين ينتهكون حرمة الإنسان الذي كرَّمه الله واختاره وميّزه فيقتلونه بغير حق أو يعرِّضونه للتعذيب أو يسلّطون عليه كلابهم ويَتَحَدّون عقيدته وإيمانه هم أشرار أشرار أشرار، وإن تبجّحوا بكلمات مُنمّقة تتحدّث عن الحرية وهي المزيّفة، أو تعد بالديمقراطية وهي قمّة الاستكبار، أو تخدّر الناس بالمساواة وهم أرباب التمييز العنصري والديني.
ماذا نحن فاعلون تجاه هذا الحدث وأمثاله؟ فالمسؤولية عظيمة جدًّا، والأمر خطير، والخَطْب جسيم وعظيم. ألم يبقَ في قلوب المسلمين ذرّة من حياة وقطرة من غَيْرَة ونخوة ومروءة؟! وهذا أقلّ ما تبرأ به الذمّة وما يُدفع به غضب الله، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، ويقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ [الصف:14]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيّروه أوشك الله أن يعمّهم بعقاب من عنده)).
أما يخشى المسلمون إن سكتوا على هذا المنكر العظيم أن يزيدهم الله ذُلاًّ إلى ذُلّهم، وأن يسلِّط عليهم أعداءهم، وينزع البركة منهم، ويشتّت شملهم، ويفرِّق كلمتهم؟! لقد هانت الأمة حتى وصل الحال بأعدائها إلى المساس بكتاب الله، والإهانة ليست لكتاب الله، فهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, بل الإهانة كانت لأمّة هجرت القرآن، فالعدو أحقر من أن يدنّس كلام الله وقرآنه، ولن يستطيعوا الوصول إليه، ولكنهم استطاعوا الوصول لإهانة الأمة، أمّة الفضائيات الهابطة والأكاديميات الستارتية الداعرة والأغاني الماجنة والعُرِي الفاضح.
انظر إلى البيوت حيث لا تكاد تفرّق بين بيوت كثير من المسلمين وبيوت غيرهم, فالزوجة في كلا البيتين عارية، وصوت الفضائيات والأغاني ينبعث من البيتين كليهما، وترك الصلاة منتشر هنا وهناك. هل تعجبون من فعل الأمريكان بكتاب رب العالمين؟! فهم أعداء حاقدون.
إذا كانت أمريكا دنّست المصحف وأهانته، فكم من المسلمين مَن اتخذه وراءه ظِهْرِيًّا، وطبّق حكم الجاهلية في التعامل مع المال بالربا، ومع الدم قتلاً وسفكًا وثأرًا، ومع الأعراض هتكًا وتساهلاً، قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، وقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. ألم تُجعل قراءة القرآن مهنة وعملاً يعتاش به؟! ألم يُكتَفَ بتطريز مقدمات الحفلات به؟! ألم يُجعل دلالة ورمزًا على الموت عند سماعه؟! فإذا جاء وقت العمل به شكّ البعض فيه وفي صلاحيته، قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون [البقرة:85].
إذا كان العدو قد دنّس المصحف فالمسلمون دنّسوا القرآن حين لم يبق منه إلا أحكام على استحياء في بعض الأحوال الشخصية، ورُكِن على الرفّ في كثير من شؤون الحياة في العالم الإسلامي. الآن لو فتّشنا في براميل القمامة ستجد فيها قطعًا من أوراق المصاحف مختلطة مع ما تحتويه القمامة عادة، فمَن الذي أهان المصحف أولاً؟!
ثم إن غير المسلمين لا يعترفون بالمصحف إجمالاً حتى يُطالَبوا باحترامه، أما المسلمون فقد آمنوا به، واعتقدوا بما فيه، فأين هم من العمل به؟!
وقبل الختام أقول: اقترب الفتح المبين بعد هذا الفعل الشنيع. ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المسلمين يوم كانوا يُحارِبون الروم فتستعصي عليهم بعض الحصون ويصعب عليهم فتحها، حتى إذا وقع أهل الحصن في عرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استبشروا خيرًا بقرب فتح الحصن. يقول: "فوالله، لا يمرّ يوم أو يومان إلا وقد فُتِح الحصن عليهم بإذن الله جلّ وعلا"، ثم قال: "كانوا يستبشرون خيرًا بقرب الفتح إذا ما وقعوا في سبّ الله أو سبّ رسول الله مع امتلاء قلوبهم غيظًا على ما قالوه".
إن ما حدث ينطبق عليه قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]. فالتفاؤل قائم، وتلمُّس جوانب الخير ظاهر في أن أمريكا تتساقط من قلوب الناس، وهو مُؤْذِن بسقوطها.
فأبشروا أيها المؤمنون، وأمِّلوا أيها المسلمون؛ فالعدو مخذول بإذن الله، والظلم مَرْتَعُهُ وَخِيم.
أسأل الله أن يحمي هذه الأمة وأن يحفظها، وأن يذلّ أعداءها، وأن يجعل الدائرة عليهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4372)
مشاكل الشباب والواجب نحوها (2)
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, قضايا المجتمع, مساوئ الأخلاق
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة مراعاة خصائص مرحلة المراهقة والشباب. 2- دور الوالدين والمعلمين والمسؤولين في توجيه الشباب. 3- واجبات رجال الأمن والحسبة تجاه الشباب. 4- همسات في أذن الشباب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ربكم أيها المؤمنون، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون.
عباد الله، حديثنا اليوم عن قضية مهمة تتعلّق بالشباب الذين هم زاد الأمة وذخرها، وبهم تنهض الأمة أو تكبو بإذن الله تعالى، وقد مضت سنة الله في خلقه أن تُبتلى هذه الفئة من الناس بتغيّرات نفسية وعضوية بحكم انتقال الشاب من مرحلة الطفولة واللهو إلى مرحلة الرجولة وسنّ التكليف الشرعي، ولذا فإن واجب المجتمع أن يتفهّم هذه التغيّرات، ويتعامل معها تعامل الحاذِق الحكيم الذي يُقدّر لهذه المرحلة العمرية خطورتها وأهميتها في تركيب مستقبل الفتى بإذن الله تعالى؛ إذ إن الخطأ في التعامل والتربية ربما ولَّدَ آثارًا لا تُمحَد مع مرور الزمن، وتدع بصماتها على الشاب.
ولئن كان للوالدَين والبيت دور كبير وأَثَر فاعل في تربية الشاب وعلاج قضاياه ومشاكله فإن للمعلّمين والمربّين دورًا آخر لا يقلّ عنه أهمية، فالشاب يتلقّى من مُعلّمه القِيَم السامِيَة، ويتأثّر بسلوك معلّمه، ومتى أحسن المعلّم تعامله مع الشاب وعرف كيف يخاطبه واستطاع كَسْب الطالب واحتواءه أثمر سلوكًا حسنًا وأثرًا لا يُنكَر.
فيا معشر المعلّمين والمربّين، ويا مسؤولي المدارس، ويا أيها القائمون عليها، إن لكم دورًا لا يُنكر، وأثرًا لا يخفى في استصلاح أبنائنا من الشباب والمراهقين، فلا بدّ من معرفة واقعهم وما يعانونه من تغيّرات عضوية ونفسية واجتماعية.
يا معشر المعلّمين، ضعوا نصب أعينكم حاجة الشاب إلى اليد الحانية والقلب المشفق الذي يأخذ بيده إلى برّ الأمان، ويلقّنه ما يفيده من القِيَم والمُثُل التي تحيي قلبه، وتُشعره بانتمائه لدينه، وتجعله يعتزّ بكونه مسلمًا، ولا بدّ أن يحسن المعلّم الدخول إلى عالم الشاب، وأن يبحث عن الأساليب المناسبة في علاج مشاكله، وأن يستغلّ الفرص في ذلك بما يهمّ الشاب ويثير عوامل الخير فيه.
والداعية والمربّي الحَصِيف هو ذلك الذي يتحسّس ما يعانيه الشباب والمراهقون، ثم يبذل جهده في طرح الحلول والعلاجات المناسبة، بعيدًا عن التهويل والتصريح المزعج، كما لا يكون تلميحًا لا يفهم ما وراءه. وما أجمل استعمال أسلوب النصح المباشر في وقته المناسب وبالطريقة المناسبة البنّاءة، ويحسن أن يتولّى هذا النوع من مشاكل الطلاب الأساتذة القديرون الثقات الذين يُؤتمنون على أسرار الناس، ويجيدون حلّ المشاكل.
وغَنِيٌّ عن القول أن تنتبه إدارة المدرسة ومعلّموها لما قد يحدث من الطلاب أو بينهم من القضايا غير الأخلاقية قيامًا بالواجب. والتخلّي عنه أو التساهل في العلاج يعود بالضرر على الطلاب وعلى عملية التربية بكاملها. كما لا يخفى الأثر البالغ الذي تتركه زيارات الدعاة والناصحين إلى المدارس ولقيا الطلاب والحديث معهم فيما يهمّهم، وفي ذلك خطوات جيدة تشهدها بعض مدارسنا، والحاجة قائمة للمزيد منها.
أما رجال الأمن على اختلاف جهاتهم فلهم دور آخر نحو مشاكل الشباب والمراهقين يتمثل في الآتي:
1- أن يتولّى التحقيق في قضايا الأعراض والأخلاق المحقّقون الأُمناء الثقات الذين يحملون هَمَّ استصلاح المجتمع، ويجيدون التعامل مع هذه القضايا.
2- المحافظة على أسرار ما قد يحدث من القضايا أو يضبط من المحظورات.
3- التنبّه للتجمّعات المريبة، والتواصل الجادّ مع المختصين من رجال الحسبة في متابعتها ورصد أنشطتها التي قد يكون ضحاياها أبناء المسلمين.
4- ضرورة الحدّ من العبث بالسيارات واستعراض المراهقين بها، والحزم في هذه المخالفات وتطبيق العقوبات على الجميع دون محاباة أو تغاض عن البعض من المخالفين.
5- استشعار رجل الأمن أنه مسؤول عما يراه أو يبلغ عنه، وأنّ تخليه عن واجبه يعتبر خيانة للأمانة وظلمًا للنفس والمجتمع، وقد يكون ضحية هذا التهاون أقرب الناس إليه.
6- أن يعلم رجل الأمن أن خطورة القضايا غير الأخلاقية لا تقلّ أهمية عن الحوادث الجنائية إن لم تكن أهمّ منها، وأحيانًا تكون القضايا غير الأخلاقية سبب الحوادث الجنائية أو امتدادًا لها.
ولرجال الحسبة دور فاعل أيضًا في منع ما يُخِلّ بالدين والخُلُق، فهم رجال الأمن الخُلُقي، ولهم دور هام في حفظ عورات المسلمين وكبح جِمَاح ذوي الشهوات.
وللبلدية مساهمتها في علاج مشكلتنا هذه بالمسارعة بإزالة المباني المهجورة القديمة التي ربما كانت أوكارًا لبعض ضعفاء النفوس.
عباد الله، إن قضيتنا هذه مسؤولية الجميع، فعلى الأب أن يربي أولاده وينشئهم على معالي الأمور، وعلى المدرسة ومعلّميها وإدارتها أن تستكمل العملية التربوية بالمحافظة على ما تعلّمه الشاب من الخير وتزويده بما ينفعه، وعلى الدعاة والناصحين الحرص على تقويم الاعوجاج بالحكمة والموعظة الحسنة والصبر على الأذى وتحمّل ما قد يظهر من سوء تعامل، وعلى المسؤول المكلّف القيام بمهامّه وأداء وظيفته في تعديل الخطأ ومنع وقوع الجريمة بحكم ما لديه من ولاية وسلطة فُوّضت إليه من ولاة الأمور، وقد قال عثمان : (إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن)، أي: إنّ لذوي السلطة من الأثر في منع التعدي على الحرمات والردع لمن يتجاوزها ما قد يفوق أثر القرآن الكريم، فالناس مختلفو الأهواء والمشارب، ولكلٍّ حاجات وشهوات، منهم من يصدّه الخوف من الله عن الوقوع في المحظور، وتمنعه قوارع الكتاب والسنة عن مقارفة الحرام، ومنهم من لا يصده إلا سطوة حاكم وقوة مسؤول، ولو تُرِك الناس لشهواتهم دون حسيب أو رقيب لرتع الكثيرون، ولذا جاء الشرع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووضح القرآن أثر ذلك في صلاح الأمم والمجتمعات، وأنه لا غنى لأي مجتمع عن القيام بهذه الشعيرة العظيمة: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وبيّن الله سبحانه أن خيرية هذه الأمة منوطة بالقيام بهذه الشعيرة فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. ومتى ما قام الجميع بواجبهم وتمكّن التعاون على البرّ والتقوى في نفوس الجميع واستشعر كل واحد دوره المنوط به بإتقان فإن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى.
اللهم احفظ لنا ديننا وأمننا، اللهم احفظ شبابنا، وارزقهم الصلاح والثبات، واجعلهم قرّة عين لوالديهم ومجتمعهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فلئن خاطبنا الجميع وطلبنا القيام بالواجب فإن هناك همسة أهمس بها في أذن كل شاب؛ عَلّها أن توافق أذنًا صاغية وقلبًا مقبلاً.
أخي الشاب، تذكّر أن الله تعالى قد خلقنا لعبادته، ولم يخلقنا لنرتع في الشهوات والمعاصي، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. تذكّر أن الاستقامة على الطاعة وترك المعاصي يوصلك إلى الجنة التي فيها من النعيم والأنس ما لم يخطر على قلب بشر، نعيم لا انقطاع له، وسعادة لا مُنغّص لها، يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُون [الزخرف:71]. تذكّر ـ أيها الشاب ـ أنك أمل والديك، وبك يفخران ويعتزّان، ولك يبذلان من الوقت والجهد والمال الكثير؛ لتشبّ صالحًا نافعًا لمن حولك، فلا تخيّب ظنهما. تذكّر أنك أمل الدعاة والمربّين الذين يحتسبون الأجر في إرشادك وتعليمك وتوجيهك. تذكّر أن لك إخوانًا قد ضربوا مُثُلاً عليا في الاستقامة والصلاح، قد حفظوا من كتاب الله تعالى الكثير، وقرّت أعينهم ببرّ والديهم، ارتفعت هممهم عن سَفَاسِف الأمور، وطمحت إلى معاليها، برزوا في دراستهم، وفاقوا أقرانهم، عُرِفوا بالخلق الجميل فأحبّهم الناس وألفوهم، إن حضروا محفلاً أشير إليهم، وإن غابوا فُقِدوا، وهم بحمد الله كثير، فلا تقعد بك همّتك عن اللحاق بركبهم، فاستعن بالله وتوكّل عليه، واعلم أن للشاب الذي نشأ في طاعة الله جزاءً عظيمًا، ففي الصحيحين: ((سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله عز وجلّ...)).
نسأل الله تعالى أن يجعلك ـ أيها الشاب ـ عبدًا لله صالحًا ولأمتك نافعًا...
(1/4373)
استقبال شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خصائص وفضائل شهر رمضان. 2- الدليل على فرض الصوم والحكمة من مشروعيته. 3- مخالفات ومنكرات يقع فيها كثير من الناس في رمضان. 4- الحث على اغتنام ليالي رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن من رحمة الله سبحانه وتعالى الواسعة ولطفه بعباده المؤمنين أن جعل لهم في السنة موسمًا يتزودون فيه بأنواع الطاعات التي تقربهم إلى الله عز وجل، كي ينالوا رضوانه سبحانه وتعالى ويفوزوا بمرضاته ويسعدوا بجزيل ثوابه وكريم عطائه. ومن هذه المواسم التي جعل الله فيها الخير والبر والمعروف والإحسان موسم الصيام في شهر رمضان المبارك.
فها هو هذا الشهر الكريم على الأبواب يطل على المسلمين وهو حامل معه الخيرات والمسرات والبركات والسعادات. شهر في جنباته عبق الإيمان وشآبيب التقوى والإحسان، شهر التوبة والغفران، شهر الصيام والقيام، شهر الذكر والاستغفار وقراءة القرآن، إنه شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
يقول الله تعالى في محكم كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:183، 184].
ففي هذه الآية الكريمة بيان من الله سبحانه وتعالى لعموم المؤمنين أنه كتب عليهم ـ أي: فرض عليهم ـ الصيام كما فرضه على الذين من قبلهم. وقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ترجِّي في حقهم وتوقّع منهم لا في حقه سبحانه وتعالى لأنه هو الآمر لهم.
وفي الآية دلالة على أن الصيام باعث على التقوى؛ ذلك أنه ـ أي: الصيام ـ مكفر للذنوب، ماح للخطايا، ومضيق لمسالك الشيطان، يدفع الصائم إلى مراقبة الله وخشيته، فكان الصوم جامعًا لكل أبواب الخير، مبعدًا الإنسان عن سفاسف الأمور ورذائلها، وهذا هو التقوى، لأن التقوى هو فعل المأمور واجتناب المحظور.
يقول الله سبحانه وتعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
فقوله تعالى: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ إشارة إلى من توفرت فيهم تلك الصفات الحميدة والخصال المنيفة؛ فالتقوى جامع للخير كله.
ولذلك كان الصيام باعثًا من بواعث التقوى، دافعًا الصائم إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات والسيئات.
فيا عباد الله، إن شهر رمضان خصه الله بمزايا وفضائل عظيمة، يختص بها شهر رمضان عن سائر شهور العام، فحري بنا أن نغتنم قدومه وننتهز فرصة حلوله بين المسلمين، فهو شهر التقرب إلى الله بصالح الأعمال من صيام وقيام وزكاة وقراءة قرآن واعتكاف وتهجد وكف عن كل المحرمات وبعد عن المشتبهات.
وكذلك كان من عظيم فضل الله عز وجل وجزيل ثوابه أنه يهيئ لعباده الصائمين في شهر رمضان جو الطاعة، فيفتح الله سبحانه وتعالى أبواب الجنة والرحمة والسماء، ويغلق أبواب جهنم، ويقيد الشياطين ومردة الجن بالسلاسل والأغلال، وكل ذلك هيأه الله سبحانه وتعالى للصائمين؛ ليرغبوا في العمل الصالح ويقل اقترافهم للذنوب والمعاصي، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين)) أي: قيدت بالسلاسل. متفق عليه. وعند الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفِّدت الشياطين ومردة الجنّ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة)) حسنه الألباني.
فتصفد الشياطين ومردة الجن في هذا الشهر الكريم كي لا يغووا الصائمين فيزينوا لهم الباطل، ويتسببوا في صرفهم عن الطاعة، والتصفيد مأخوذ من الصفد وهو القيد والغل أي: تقيد الشياطين ومردة الجن في شهر رمضان بالسلاسل وتوثق بالأغلال فلا يستطيعون الخلاص منه، ولا يتمكنون من الوصول إلى الصائمين لإضلالهم وإغوائهم.
ومن مزايا هذا الشهر الكريم وخصائصه أن الله سبحانه وتعالى يجازي الصائمين جزاء لا يعلمه إلا هو، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك)) متفق عليه.
ففي هذا الحديث ما يدل على عظيم فضل الله سبحانه وتعالى من وجوه:
الأول: أن جميع الأعمال الصالحة تضاعف أجورها، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإن جزاءه عند الله أعظم بغير حساب، والسر في ذلك أن الصوم صبر على الطاعة وصبر عن المعاصي والشهوات، والصابرون يوفيهم الله سبحانه وتعالى أجرهم يوم القيامة بغير حساب، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
الثاني: أن الله سبحانه وتعالى أضاف الصيام إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، ففيه تشريف للصيام وتكريم للصائمين.
الثالث: أن الصائم يدع طعامه وشهوته من أجل الله وامتثالاً لأمره، وهذا باعث على تقوى الله وخشيته ومراقبته في السر والعلن.
الرابع: أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والخلوف هو تغير رائحة الفم بسبب خلو المعدة من الطعام والشراب، وفي هذا تكريم للصائم ما بعده تكريم.
فيا أيها المسلمون، شهر بهذه الخصائص والمزايا والفضائل والنفحات الربانية، حري بنا أن نستقبله استقبالاً يليق بمقامه، ونستعد له استعدادًا يوافي جزيل خيراته وكريم عطاء الله وسجاياه وإحسانه، فلو لم يكن في هذا الشهر الكريم من الخير إلا أن فيه غفران ما تقدم من الذنوب لكفى، كما قال رسول الله : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه من حديث أبي هريرة. فكيف وهو إلى جانب هذا يحمل معه كل تلك الخيرات والنفحات الإلهية؟!
فتأهبوا ـ يا عباد الله ـ للعمل الصالح في شهر رمضان، وشمروا عن ساعد الجد للاستعداد له بأنواع الطاعات والقربات.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فقد اعتاد كثير من الناس أن يجعلوا من شهر رمضان المبارك موسمًا لمضاعفة السيئات والاشتغال بالمنكرات والجلوس في مجالس اللهو واللعب والإكثار من القيل والقال، فمنهم من اعتاد النوم في النهار والسهر في الليل فيما لا يجدي ولا ينفع، بل مضرته على الإنسان في دينه ودنياه ظاهر ومعلوم.
فنرى في شهر رمضان المبارك كثيرا من الصائمين يشتغل بلعب البطة أو الدمنة أو الكيرم أو الشطرنج بحجة قتل الوقت زعموا، وما علم هؤلاء المساكين أنهم إنما يقتلون أعمارهم فيما لا طائل فيه، وأنهم يعدون سيئاتهم بدلاً من أن يعدوا حسناتهم.
وإنّ مما عمت به البلوى بين المسلمين انشغال الناس عن الطاعة في هذا الموسم العظيم الذي ينبغي أن يكون فرصة لتصحيح المسارات الخاطئة من حياة الإنسان المذنب العاصي، ولكننا نرى الأمر عكس ذلك، فإذا بنا نشاهد كثيرًا من الصائمين أضاعوا لياليهم بالسهر أمام شاشات الفضائيات العربية، والتي تفننت في الملهيات ووسائل المغريات المتنوعة، وتخصصت في الوقيعة بالناس في شراك إبليس وحبائل الشيطان الرجيم والعياذ بالله.
انشغل الناس عن القرآن والقيام والذكر والاستغفار إلى متابعة فوازير رمضان ومسابقاته التي تحمل معها الغثاثة الفكرية واللوثة العقدية، ناهيك عن المسلسلات الهابطة والأفلام الخليعة والمسلسلات المتبذلة والأغاني الماجنة والتمثيلات الشيطانية، والتي كانت سببًا في خراب الأمم والشعوب وتدميرًا للأخلاق والسلوك، فقاتل الله هؤلاء القائمين بأمر هذه القنوات الفضائية؛ كيف جعلوا من شهر رمضان موسمًا للازدياد من المعاصي بدلاً من أن يكون موسمًا للتزود من الطاعات؟! فصار استعداد هذا الصنف من الناس ـ لا كثرهم الله ـ هو تضييع الوقت بهذه الرذائل والسفاسف التي تعود على المسلمين بالويلات والمصائب، فإلى الله المشتكى.
فاعلموا ـ يا عباد الله ـ أن صيامنا يجب أن يكون عن كل المفطرات الحسية والمعنوية، فكما نصوم عن الطعام والشراب والشهوات الواجب علينا أن نصوم عن المحرمات، فالصيام وقاية لصاحبه من النار، كما جاء في الحديث عن جابر بن عبد الله أن النبي قال: ((إنما الصيام جنة ـ أي: وقاية لصاحبه من المعاصي ـ يستجن بها العبد من النار)) رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح.
فيجب عليك أن تصوم جوارحك عن الحرام، فلا تنظر إلى الحرام، ولا تستمع إلى الحرام، ولا تبطش بيدك الحرام، ولا تخط إلى الحرام، فقد قال رسول الله فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم)) رواه البخاري من حديث أبي هريرة.
وقد فسر الرفث بفحش القول والعمل، وقيل: إن المراد بالرفث الجماع ومقدماته، ولا شك أن كل ذلك منهي عنه حال الصيام، والصخب هو الصياح والخصومة في الدين أو الدنيا.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تصيروا شهر رمضان شهر ذنب وعصيان، بل اجعلوه موسم طاعة وتوبة وقراءة قرآن وذكر وتسبيح وصدقة وقيام، تسعدوا في الدارين، واستقبلوه بالعمل الصالح تفوزوا برضا الرحمن. والحمد لله رب العالمين.
(1/4374)
فضائل شهر رمضان وخصائصه
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل شهر رمضان. 2- الحث على التوبة واغتنام الشهر الكريم. 3- التذكير بأحوال إخواننا المسلمين في فلسطين وغيرهم وواجبنا تجاههم.
_________
الخطبة الأولى
_________
فيا عباد الله، لقد أظلكم شهر كريم، وحلّ بساحتكم ضيف كبير، رحمة من الله بكم، لتتقربوا إليه سبحانه بالتوبة والاستغفار، ولتزدادوا قربًا إلى الواحد الديان بالصيام والقرآن وأعمال البر من المعروف والخير والإحسان.
فأنعم بعبد فاز برضا الرحمن في شهر الصيام والغفران، وبئس الذين فرّطوا في جنب الله فلم يزدادوا من الله إلا بعدًا في شهر القيام والقرآن، فباؤوا بالوبال والخسران.
فاحمدوا الله ـ يا عباد الله ـ على أن منّ عليكم بنعمة الإسلام، وجعل من شهر رمضان موسمًا للتزود بالأعمال الصالحات، فاحمدوه على هذه النعمة العظيمة واشكروه بها يزدكم من نفحاته وألطافه.
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الله سبحانه وتعالى خص شهر رمضان المبارك بفضائل عظيمة ومزايا منيفة وخصائص جمة رفيعة، فهو شهر فتحت فيه أبواب الجنة والرحمة والسماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم والنيران، وتصفد فيه الشياطين، فيه ليلة هي خير من ألف شهر، هي ليلة القدر، من حرم خيرها فقد حرم الخير كله، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين)) متفق عليه، وفي رواية: ((فتحت أبواب الرحمة)) ، وفي رواية: ((فتحت أبواب السماء)).
ولقد خص الله سبحانه وتعالى هذا الشهر الكريم بصيام نهاره، والصوم من أفضل الأعمال وأجلها، وصاحبه مستوجب ـ بفضل الله ورحمته ـ غفرانَ ما تقدم من ذنبه إن صام بصدق وإخلاص، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. ومعنى ((إيمانًا)) أي: تصديقًا بثواب الله، ((واحتسابًا)) أي: طالبًا الأجرَ من الله لا من غيره.
وإن من مزايا الصيام أن الله سبحانه وتعالى أضافه إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((قال الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يجهل، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم. والذي نفس محمد بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وللصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) متفق عليه.
وأفاد هذا الحديث من قوله : ((والصيام جنة)) أنه وقاية؛ لأن الصوم يقي الإنسان من مهاوي الردى، ويصرفه عن سبيل أهل النار، ويبعده عن طريق الشيطان، ويصرفه عن المعاصي ما ظهر منها وما بطن، ولا يتحقّق للصائم ذلك إلا إذا اجتنب المحظورات الحسية والمعنوية، ((فلا يرفث)) أي: لا يفحش، وقيل: لا يجامع في نهار رمضان؛ لأنّ الجماع عمدًا في نهار رمضان من كبائر الذنوب ومن أعظم مبطلات الصيام، فتجب فيها الكفارة المغلظة: عتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما.
ونهي الصائم عن الصخب وهو الصراخ والصياح والضجيج وإحداث الشغب والضوضاء.
وأما قوله : ((ولا يجهل)) أي: لا يكن سفيهًا لا في قوله ولا في عمله.
ففيه التحذير من المعاصي الظاهرة والباطنة، فمن صام عن الطعام والشراب والشهوات فلتصم جوارحه عن كل المنكرات والسيئات.
ولقد شرع لنا رسول الله قيام رمضان، ومزيته في شهر رمضان أنه سبب من أسباب غفران ما تقدم من الذنوب والمعاصي، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. فأي خير أعظم من هذا أن يتزامن الصيام مع القيام ليكون سببًا من أسباب غفران ما تقدم من الذنوب؟!
شهر رمضان يحمل في جنباته الرحمات وفي طياته الطاعات، يفوح منه عبق الإيمان، وتتفجر من ينابيعه شآبيب الإيمان، فهو شهر الصيام والقيام وموسم الطاعة والإنفاق، شهر يتسابق الناس فيه بالصدقة والإحسان والبر والمعروف والفوز برضا الرحمن. هو شهر القرآن والتوبة والغفران، شهر يتقوى فيه جانب التقوى ويزداد فيه الناس إقبالاً على الله في سائر أنواع القربات، فهنيئًا لمن صام نهاره وقام ليله وأحيا أيامه بتلاوة القرآن والذكر والتسبيح والتهليل والتحميد، وثبورًا لمن دخل عليه شهر رمضان ولم يغفر له، فكان شاهدًا عليه بالسيئات والمنكرات، لا شاهدًا له بالحسنات والمسرات.
فيا من أظمأ نهاره وأجاع بطنه وحفظ جوارحه، أبشر بخير عاجل من رب كريم، وكن منتظرًا الثواب من الغفور الرحيم، ألم تعلم أنّ الله سبحانه وتعالى قد خص للصائمين بابًا من أبواب الجنة الثمانية يقال له: باب الريان ينادى منه الصائمون فلا يدخل سواهم؟! فعن سهل بن سعد أن رسول الله قال: ((إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب)) متفق عليه، وفي رواية: ((من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبدًا)) رواه النسائي وابن خزيمة بإسناد صحيح.
ولقد خص الله هذا الشهر الكريم وفضله بإنزال القرآن فيه، كما قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185].
ولذلك يستحب مدارسة القرآن فيه كما كان رسول الله يجتهد في مدارسة القرآن فيه، وبالأخص في لياليه المباركة، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله أجود الناس ـ أي: أسرعهم إلى فعل الخيرات ـ وكان أجود ما يكون في رمضان حين ينزل عليه جبريل في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير ـ أي: أسرع ـ من الريح المرسلة. رواه البخاري.
ولذلك كان القرآن مع الصيام شفيعين لصاحبهما، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي ربّ، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي ربّ، منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان)) أي: تقبل شفاعتهما. رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح. وأي: حرف نداء بمعنى (يا)، فمعنى أي ربّ: يا ربّ.
فاغتنموا ـ يا عباد الله ـ فرصة الطاعة في هذا الشهر الكريم تسعدوا في الدارين، واعلموا أن من حرِم خيره باء بالخسران المبين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن فضائل شهر رمضان المبارك ومزاياه وخصائصه كثيرة، فقد أودع الله فيه من جلائل الأعمال الصالحة ما لا يوجد في غيره من الشهور.
فمن فضائله أنّ لله في كل يوم وليلة منه عتقاء من النار، فقد جاء في الحديث قوله : ((ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)) رواه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة من حديث أبي هريرة.
ومن فضائل هذا الشهر ما جاء في الحديث: ((للصائم عند فطره دعوة مستجابة ما ترد)) رواه البيهقي في شعب الإيمان بإسناد حسن.
ومن فضائل هذا الشهر الكريم أن فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم الخير كله، قال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
فالعبادة في هذه الليلة خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ومن قامها تصديقًا بوعد الله بالثواب عليها وطلبًا للأجر فيها لا لقصد الرياء والسمعة ونحوه غفر له ما تقدم من ذنبه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
فيا عباد الله، هذه الفضائل العظيمة التي منحكم الله إياها في هذا الشهر الكريم فرصة ذهبية، لا ينبغي للعبد التفريط بها، فالأيام معدودات والزاد قليل والأعمار فانية والآجال مراحل مطوية، وكل إنسان مرتهن بعمله، فاللبيب الفطن من يعمل لآخرته ويجعل من هذه الدنيا دارًا للتزود من الأعمال الصالحات بين يدي الجبار علام الغيوب.
شهر رمضان فرصة لا تعوض لرفع وتيرة العمل الصالح، وللتخفف من الذنوب والآثام، سيما وأنّ من حِكم الصيام أنه باعث للتقوى، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
وتقوى الله حق تقاته كما قال عبد الله بن مسعود : (أن يطاع ـ أي: الله ـ فلا يعصى، وأن يشكر في يكفر، وأن يذكر فلا ينسى) رواه ابن أبي شيبة والحاكم والطبري وإسناده صحيح.
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من عروسٍ زينوها لزوجها وقد أخذت أرواحهم ليلة القدر
وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أرواحهم ظلمة القبر
وكم من سليم مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر
وكم من فتى يمسي ويصبح لاهيًا وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم ساكن عند الصباح بقصره وعند المسا قد كان من ساكني القبر
فكن مخلصًا واعمل من الخير دائمًا لعلك تحظى بالمثوبة والأجر
وداوم على تقوى الإله فإنها أمان من الأهوال فِي موقف الحشر
فيا من أضعت عمرك في اللهو واللعب، أتفرط في أيام هذا الشهر الكريم ولياليه المباركة؟! أيليق بالمسلم أن يخرج شهر رمضان ولم يغفر له؟!
فيا عبد الله، علام تلقى الله وأنت مفرط في جنب الله حتى في هذا الشهر الكريم؟! أتلقاه بالمعاصي والذنوب وأنت مفارق للأهل والوطن والأحباب؟! أما كفاك الذنب في سائر شهور السنة حتى تعصيه في شهر الصوم والقرآن؟! أفق من غفوتك، وأنب إلى ربك، وفر من ذنوبك كفرارك من الأسد، واستمع إلى الله سبحانه وتعالى وهو يخاطبنا بقوله: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ [الزمر:54-59].
فيا عباد الله، إن شهر رمضان كعادته يأتي علينا كل عام ـ وللأسف الشديد ـ ومآسي المسلمين تزداد يومًا بعد يوم، فها هو شهر رمضان الكريم قد أظلنا في هذا العام وتزداد الشدة على إخواننا المسلمين في فلسطين المحتلة على أيدي اليهود المغتصبين لعنهم الله.
يطل علينا هذا الشهر الكريم والقدس والمسجد الأقصى يرزحان تحت نيران الاستعمار الصهيوني، والمسلمون كثير ولكنهم غثاء كغثاء السيل. فمسؤولية ضياع ثغور المسلمين تقع على كاهل كل المسلمين، وسوف نسأل يوم القيامة عن ذلك، يوم يقول الله سبحانه وتعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا يَتَنَاصَرُونَ بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:24-27].
فالواجب على المسلمين نصرة إخوانهم المجاهدين في فلسطين بالنفس والمال، فإن عجزوا عن ذلك فلا أقل من أن ننصرهم بأموالنا، فدرهم تنفقه في سبيل الله يدخره الله لك يوم القيامة في ميزان حسناتك، ويضاعف الله لمن يشاء، ولا تنسوا إخوانكم المجاهدين في سبيل الله في فلسطين والشيشان وكشمير وفي كل مكان، وأخلصوا لهم الدعاء، فدعاء الصائم مستجاب.
فاللهم انصرهم على عدوهم وثبت أقدامهم، وأنزل السكينة عليهم، وسدد رميهم يا رب العالمين.
(1/4375)
رمضان شهر الجهاد والفتوحات
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب البلاء الذي نزل بالمسلمين في مكة ونهايته. 2- مراحل فرض الجهاد في سبيل الله. 3- الجهاد من أفضل الأعمال. 4- نماذج وصور رائعة في تنافس السلف الصالح على القتال في سبيل الله والتسابق لنيل الشهادة. 5- الترابط والصلة بين الصيام والجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فمنذ أن بعث الله نبيه بالرسالة وشع نور الإيمان والإسلام والتوحيد في جزيرة العرب والإسلام يواجه التحديات الضخمة والمواجهات العنيفة من قبل أساطين الكفر والشرك، فما إن صدع رسول الله بالتوحيد كما أمره الله بقوله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:94-96] إلا والكفر يكشر عن أنيابه وأعناق المشركين تشرئب لإيذاء المسلمين الموحدين.
فهذا الصحابي الجليل خباب بن الأرت يصور لنا الأمر فيقول: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصدّه ذلك عن دينه. والله، ليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) رواه البخاري.
فاشتد البلاء على أصحاب رسول الله في مكة المكرمة زادها الله تشريفًا وتكريمًا، ولقي المسلمون من صنوف العذاب وألوان التنكيل ما يشيب من هوله الولدان، فما زادهم ذلك إلا ثباتًا ورسوخًا على دعوة التوحيد وإصرارًا على الإسلام، فما وهنوا ولا استكانوا ولا ضعفوا، فمات من مات منهم تحت سياط التعذيب وأساليب البطش والتنكيل، وكتب الله لمن شاء منهم النجاة، حتى قاموا بدورهم المنوط بهم في الدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل، قال الله تعالى: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
فكان من تمام نعمة الله عليهم أن أبدلهم من بعد خوفهم أمنًا، واستخلفهم في الأرض، ومكن لهم دينهم الذي ارتضاه لهم، فآواهم وأيدهم بنصره، ورزقهم من الثمار والطيبات بعد الخوف والاستضعاف والصبر على اللأواء والمصائب، كما قال الله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26].
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الله سبحانه وتعالى بعد أن فرض على المسلمين الهجرة من مكة المكرمة إلى المدينة أذن لهم في القتال في سبيله عز وجل ولم يفرض عليهم، فقال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:39، 40].
ثم فرض الله عليهم جهاد الدفع؛ أن يدفعوا عن أنفسهم الاعتداء فيقاتلوا من قاتلهم دون من لم يقاتلهم، فقال تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة:190].
ثم أنزل الله على المسلمين القتال وجهاد الطلب ليقاتلوا جميع المشركين، وعظم الله أمر الجهاد والمجاهدين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
وأمر الله سبحانه وتعالى بالنفير وحض عليه فقال تعالى: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41].
ومنذ ذلك الحين وقافلة التوحيد تشق عباب الظلمات، وتزيل عن العباد أرجاش الشرك وأنجاس الأوثان، فالجهاد في سبيل الله إنما كان لتحقيق التوحيد وليعبد الله وحده لا شريك له، كما قال رسول الله : ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أحمد عن أبي هريرة بإسناده صحيح.
وهكذا كان الجهاد من أفضل الأعمال وجلائل الخصال الحميدة؛ لما فيه من إزهاق للباطل وإحقاق للحق ونشر للخير والفضيلة وقمع للشرك وجنده وانتشار للتوحيد وحزبه، فحري بالمسلمين أن يتشبعوا بهذه الشرائع الوثابة العالمية ليكونوا من ذوي الهمم العالية، لا من أصحاب النفوس الدنيئة الكسولة، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)) رواه مسلم.
فنسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يجعلنا من المجاهدين في سبيله الصادعين بالحق، وأن يرزقنا الموت في سبيله.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الناظر إلى حياة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يرى كيف كان تسابقهم إلى ساحات الوغى وميادين الجهاد، وكيف كان تنافسهم على القتال في سبيل الله والتسابق إلى نيل الشهادة، ولنتأمل هذه الأمثلة الرائعة:
فعن سعد بن أبي وقاص قال: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟! فقال: إني أخاف أن يراني رسول الله ويستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله يرزقني الشهادة، قال: فعرض على رسول الله فاستصغره، فقال: ((ارجع)) ، فبكى عمير، ثم قبله رسول الله في صفوف المجاهدين.
وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما عرض على رسول الله في غزوة أحد استصغره فرده، فقال عبد الله: فبت شر ليلة، ما رأيت مثلها قط في السهر والحزن والبكاء.
وهذا خالد بن الوليد وهو الفارس في ميدان الحرب، يخوض بسيفه غمار المعارك، ويتمنى الشهادة، ويتعطش للقاء ربه في بطولة فذة وفداء عظيم فيقول: (لقد شهدت زهاء مائة معركة، وما في جسدي موضع شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء).
وهذا ربعي بن عامر يجيب رستم قائد الجيش الفارسي حين قال له: ما الذي دعاكم إلى حربنا والولوج بديارنا؟! قال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العابد، ومن جور السلطان إلى عدل الإسلام، ثم التفت إلى الجيش الخائفين الراكعين على يمين وشمال رستم فقال: لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، وما أرى ـ والله ـ قومًا أسفه منكم، إننا ـ معاشر المسلمين ـ لا يستعبد بعضنا بعضًا، وكان أحسن من الذي صنعتم، هل تخبروني أن بعضكم أرباب لبعض؟ فالتفت الدهماء إلى بعضهم يتهامسون وهم يقولون: صدق ـ والله ـ العربي، أما القادة والرؤساء فلقد جبنوا في كلام ربعي، هذا ما يشبه الصاعقة أصابت كيانهم فحطمته، حتى قال قائلهم: والله، لقد رمى هذا العربي بكلام لا تزال عبيدنا تنزل إليه.
هذه صور حية من صور التضحية والفداء والبطولة والجهاد سطرها لنا التاريخ عن أجدادنا وأسلافنا بأحرف من نور، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع
فيا عباد الله، إن الترابط بين الصيام والجهاد وثيق، والصلة بينهما عميقة، فالصيام مجاهدة للنفس عن الشهوات وسائر المفطرات، فهو مغالبة لشهوة البطن والفرج، والجهاد مغالبة لحظوظ النفس ونزغات الشيطان، ولذلك كان شهر رمضان عند أسلافنا شهر الجهاد والفتوحات الإسلامية، ففي السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة كانت غزوة بدر الكبرى، والتي جعلها الله فرقانًا بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر، وفي الحادي والعشرين منه في سنة ثمان للهجرة فتحت مكة، وبفتحها دكت معاقل الشرك وأزيلت رايات الكفر ومعالم الوثنية، وفي سنة تسعة للهجرة في شهر رمضان أيضًا شهد رسول الله ومعه المهاجرون والأنصار بدايات أحداث غزوة تبوك، والتي كان كانت آخر غزواته عليه الصلاة والسلام، وفي السنة الرابع عشرة من الهجرة من شهر رمضان أيضًا كانت معركة القادسية بقيادة الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص ، وفي سنة ثلاث وخمسين من الهجرة في نفس الشهر فتح المسلمون جزيرة رودس، وفي سنة إحدى وتسعين من شهر رمضان نزل المسلمون الشاطئ الجنوبي من بلاد الأندلس، وفي السنة التي تليها ـ أي: سنة اثنتين وتسعين للهجرة ـ في شهر رمضان أيضًا انتصر المسلمون بقيادة القائد المظفر طارق بن زياد على القوط والفرنجة، وكان ذلك تمهيدًا لفتح الأندلس في سنة ثلاث وتسعين للهجرة، وفي سنة خمسمائة وأربع وثمانين من الهجرة في شهر رمضان كان صلاح الدين الأيوبي رحمه الله قد حقق الانتصارات تلو الانتصارات على الصليبيين، وفي سنة ستمائة وثمانية وخمسين هجرية في شهر رمضان ينتصر المسلمون على التتار في موقعة عين جالوت بقيادة القائد الإسلامي قطز والظاهر بيبرس.
وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرون
وآلِمنِي وآلم كلَّ حر سؤال الدهر: أين المسلمون؟!
فأين المسلمون واليهود يدنسون المسجد الأقصى وينتهكون الحرمات في أرض فلسطين؟! أين المسلمون وديار الإسلام وثغورها تضيع الواحدة تلو الأخرى؟! أعجزت الأرض أن تنجب واحدًا كخالد بن الوليد أو كصلاح الدين الأيوبي؟! هل عقمت أرحام المسلمين أن تنجب بطلاً مغوارًا كسعد بن أبي وقاص أو كأبي عبيدة بن عامر الجراح؟! أين المسلمون مما يجري في أرض الشيشان من قتل وتشريد لآلاف المسلمين؟! أين المسلمون مما يحصل للمسلمين في جامو وكشمير وفي أرتيريا والفلبين؟! آلاف المسلمين يقتلون والآلاف من المسلمين يشردون، والمسلمون مع كثرتهم غثاء كغثاء السيل، كما أخبر عن ذلك رسول الله ، فهل ستكون الفتوحات مجدهم وعزهم؟!
هذا ما نرجوه، ولكن ذلك مشروط بأن يكون المسلمون أقوياء ماديًا ومعنويًا، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الروم:4، 5].
(1/4376)
فضائل العشر وفضل ليلة القدر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
حسين بن شعيب بن محفوظ
صنعاء
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل ليلة القدر. 2- عبادة النبي في العشر الأواخر من رمضان. 3- مخالفات ومنكرات يقع فيها كثير من الناس في العشر الأواخر من رمضان. 4- الحكمة من إخفاء وقت ليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فقد فضل الله سبحانه وتعالى بعض الأزمنة على بعض، وجعل منها مواسم للطاعة وفرصة للتجارة الرابحة، ومن تلك المواسم والأزمنة الخيرة والتي يغتنمها المسلمون العشر الأواخر من شهر رمضان، حيث جعل الله فيها خصائص ومزايا وفضائل قلَّ أن يكون لها نظير في أيام وليالي السنة، فلَيالي العشر الأواخر من شهر رمضان لها فضائل، وذلك أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر، فالعبادة والطاعة في هذه الليلة تعدل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، فهي ليلة مباركة أنزل الله فيها القرآن كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
وهي الليلة التي فيها يفرق كل أمر حكيم، كما أخبر عن ذلك رب العالمين فقال تعالى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:1-4]، ولذلك حث رسول الله على قيامها فقال: ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه من حديث أبي هريرة. ومعنى ((إيمانًا واحتسابًا)) كما قال الحافظ في الفتح (4/251): "أي: تصديقًا بوعد الله بالثواب عليه، وطلبًا للأجر، لا لقصد آخر من رياء أو نحوه".
فيا أيها المسلمون، إن الذي ينبغي على الصائمين الاجتهاد في العبادة في ليالي العشر، والإكثار من الذكر وتلاوة القرآن، والحرص على القيام وإحياء الليل كله في طاعة الله، فقد كان هذا هو هدي نبيكم ، ففي صحيح مسلم عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
وكان رسول الله من شدة اجتهاده في الطاعة في العشر الأواخر ومبالغته فيها يعتزل النساء؛ ليتفرغ للعبادة والطاعة، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ وشدّ المئزر. وشد المئزر كناية عن اعتزاله للنساء.
فاقتدوا ـ رحمكم الله تعالى ـ بنبيكم عليه الصلاة والسلام، واجتهدوا في الطاعة في هذه الليالي المباركة، ولا تنشغلوا عنها بالبيع والشراء وشراء لوازم العيد، فإنّ من حرم خير هذه الليالي فقد حرم خيرًا كثيرًا، والموفق من وفقه الله تعالى لطاعته.
فيا عباد الله، إن كثيرًا من الناس يغفلون عن ليالي العشر، لأنهم قد اعتادوا في هذه الليالي التجوال في الأسواق لشراء مستلزمات العيد، فهو في كل ليالي العشر أو أكثرها مشغول إما بالبيع أو الشراء، فلا أعطى لنفسه نصيبًا من الطاعة، ولا تفرغ لإحياء ليلة من لياليها ولو بالقيام، فما هذه الغفلة يا عباد الله؟! وما هذا الإعراض أيها المسلمون؟! أنسيتم الآخرة وأهوالها وغفلتم عن النار وجحيمها؟! ألم تذكروا هادم اللذات ومفرق الجماعات؟! ألم تتعظوا بما جرى للأولين الغابرين؟!
فالله الله عباد الله، واتركوا الغفلة والإعراض، واغتنموا مواسم الطاعات والعبادات، فإن العمر قصير والزاد قليل والسفر طويل وكل مرتهن بعمله، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها، وما ربك بظلام للعبيد.
وإن من أسوأ الفعال وأرذل الأعمال من ضيعوا وقتهم وأعمارهم حتى في تلك الليالي المباركة، بمشاهدة الأفلام الخليعة والمسلسلات المبتذلة والمسرحيات الهابطة، والتي كانت سببًا في تدمير أخلاقيات الأمة، بل إن من الناس من تراه حتى في ليالي العشر يأنس بسماع الأغاني ومتابعة الفوازير الشيطانية، والتي سميت زورًا وكذبًا بالفوازير الرمضانية، فتراه يشنف آذانه بسماع ما يغضب الرحمن ويسلي نفسه بمشاهدة ما يرضي الشيطان، فأين هؤلاء من غضب الديان؟! وأين هم من عذاب الواحد القهار؟!
فلا تضيعوا ـ عباد الله ـ ساعات هذه الليالي والأيام واغتنموها، فلعل أحدكم لا يدركه رمضان آخر إلا وهو في عداد الموتى والمقبورين، فهنيئًا لمن اغتنمه بالطاعة والذكر والقيام، وبئس من فرط في هذه الليالي المباركة وضيعها بمجالس اللهو واللعب والعصيان.
فاللهم وفقنا لطاعتك، واجعلنا في المقبولين في هذا الشهر الكريم. آمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده المؤمنين أن جعل لهم ليلة القدر فرصة للتزود من الطاعات والإكثار من العبادات والتقرب إليه سبحانه وتعالى بأنواع القربات، من ذكر وقيام وصدقة وتلاوة قرآن، فهي ليلة موصوفة بأنها خير من ألف شهر، كما في قوله تعالى: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] أي: أن العبادة فيها خير من عبادة ألف شهر فيما سواها، فأي خيرية أعظم من هذه الخيرية؟! وأي فضيلة أفضل من هذه الفضيلة؟! وليلة القدر موصوفة بأنها مباركة، قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3]، ومن بركتها تنزل الملائكة والروح فيها وهو جبريل عليه السلام، حيث تتنزل الملائكة مع تنزل الرحمات والبركات، فهي ليلة سالمة من كل سوء ومعصية، ولذلك وصفت بأنها سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5]. وليلة القدر هي الموصوفة كذلك بقوله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4].
وقال الحسن وعمر مولى غفرة ومجاهد وقتادة ـ كما في تفسير ابن عطية الأندلسي (13/263) ـ: "في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والآجال والأرزاق وغير ذلك، ويكتب ذلك لهم إلى مثلها من العام المقبل". قال هلال بن يساف: "كان يقال: انتظروا القضاء في شهر رمضان".
ولذلك لما كانت هذه الفضائل كلها مجتمعة في هذا الشهر الكريم وفي ليلة القدر على وجه الخصوص غفر لمن قامها إيمانًا واحتسابًا، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. وهذا فيه الترغيب على قيامها وابتغاء فضلها.
يا عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى قد أخفى عنا أي ليلة هي ليلة القدر من ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان، وذلك لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى، لكي نتحراها ونجتهد في العبادة في كل ليالي العشر، ولذلك أمر رسول الله بتحريها في العشر الأواخر من شهر رمضان، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)) رواه مسلم، وفي رواية أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتحريها في الوتر من العشر الأواخر، فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر)) رواه البخاري.
أرجاها السبع الأواخر من العشر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله : ((أرى رؤياكم قد ألجأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)) متفق عليه.
وأرجى لياليها ليلة سبع وعشرين، حيث حلف على ذلك أبي بن كعب ، قال زر بن حبيش فقلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول الله ، أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها. رواه مسلم.
فعلى المسلم أن يتحراها، ويجتهد في العبادة فيها طلبًا لالتماسها وسعيًا إلى اغتنام فضلها، وليجتهد بالدعاء فيها والتضرع إلى الله عز وجل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه بإسناد صحيح.
فاللهم تقبل أعمالنا واجعلها خالصة لوجهك الكريم. آمين.
(1/4377)
رمضان مدرسة
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
سعد بن محمد المهنا
القطيف
15/9/1425
جامع الخفرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان مدرسة. 2- الدروس والعبر المستفادة من مدرسة رمضان. 3- أحوال الناس في رمضان. 4- هدي النبي في العشر الأواخر من رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله عباد الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، والتقوى حكمة الصوم العظمى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
فالبدار البدار بالأعمال قبل مفاجأة الآجال، فهناك لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
عباد الله، في هذه الأيام يعيش الناس أيامًا دراسية جادة على مقاعد التعليم والتربية والتدريب، فيها يُصنع الإنسان صناعة جديدة، تخرجه عن ذات نفسه وتكسر الجمود الذي ألفه وتعوده، فإذا هو شخص جديد لا يعبد شهوته ولا يلهث لإشباع غريزته، وإنما يرتقي بنفسه ويسمو بروحه ويعلو بهمته لمعانقة العلا والترفع عن الردى.
رمضان مدرسة ودار للتعليم والمعرفة، نفحات إيمانية وشذرات قرآنية. رمضان جامعة وكليات يانعة، معهد دراسات وإعداد للنفوس والطاقات، برامج للدعاة وأخرى للطائعين والعصاة، إعداد للنفوس وتهيئة لعبادة الملك القدوس.
أتى رمضان مدرسة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأدّ حقوقه قولاً وفعلاً وزادك فاتخذه للميعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوه نادمًا يوم الحصاد
فلتقطف بعض الدروس من هذه المدرسة، فمنها:
الدرس الأول: إعداد النفوس؛ إذا كان الجهاد فيه انتصار على العدو فإن الصيام انتصار على النفس، وترويض لها لتتصل بخالقها وتقدم أمره على هواها، فالصائم ترك شهوته لله بالنهار تقربًا إلى الله وطاعة، ثم يبادر إليها في الليل تقربًا إلى الله وطاعة، فما تركها إلا بأمر ربه، ولا عاد إليها إلا بأمر ربه، فهو مطيع لربه في الحالين مرددًا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
الدرس الثاني: الانتصار على الهوى؛ ها هو العبد يخلو لوحده مع شدة ظمئه وجوعه وعنده ما لذ وطاب من الطعام والشراب، ونفسه تأمره بأن يروي ذلك الظمأ ويسد ذلك الجوع، وهواه يدفعه للعصيان إلا أنه يمتنع خوفًا من العزيز الجبار، أليس في ذلك انتصار على الهوى وتحقيق لمراتب العلا؟! إن من يمتنع عن شهواته ولذاته في وقت لا يطلع عليه إلا خالقه امتثالاً لأمره وخضوعًا لحكمه مع شدة صراع الشهوات في قلبه لَيَنتج لديه ملكة المراقبة لباريه وتعظيم ربه وقدره حق قدره، وهذه هي أعلى مراتب الدين وهي مرتبة الإحسان؛ أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وبهذا يدرك المسلم الذي طالما شكا من تسلط هواه أن الهوى سهل صرعه وطرحه متى ما أذعن العبد لربه واستعان بخالقه على قهره، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
الدرس الثالث: رمضان مدرسة الإخلاص؛ فالصيام عبادة سرية ليس لها مظهر خارجي، إذ بإمكان العبد أن يأكل ويشرب ثم يخرج للناس ويقول: إني صائم، لكنه يمتنع، لماذا؟ إنه سِرُّ التقوى ومراقبة المولى وتحقيق لحكمة الصوم الكبرى، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. ولذا خصّه الله لنفسه من دون سائر الأعمال، فقال سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: ((الصوم لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)). إنها فرصة لتعويد النفس على الإخلاص والتوجه إلى الله وحده، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
الدرس الرابع: دعوة للائتلاف؛ إن رمضان دعوة للائتلاف وعدم التفرق والاختلاف، ألا ترى المسلمين وهم يصومون في شهر معين من العام، وفي قدر محدود من الأيام، وسبب واحد هو رؤية الهلال مع تعدد بلدانهم وأوطانهم واختلاف لغاتهم ومغايرة ألوانهم؟! ثم انظر ـ يا رعاك الله ـ كيف يمسكون مع طلوع الفجر ويفطرون عند مغيب الشمس، لا يتقدم أحدهم على أحد ولا يتأخر، يساوي فقيرهم غنيهم وكبيرهم صغيرهم وحاكمهم محكومهم، إنها دعوة للوحدة والاتحاد بين المسلمين، أخذا بكلام رب العالمين: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52]، وقوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
الدرس الخامس: المحافظة على الوقت والحرص على اغتنامه؛ هل من أفطر قبل مغيب الشمس بدقيقة يصح صومه؟ الجواب: لا يصح صومه ولو كان الفارق دقيقة واحدة، فإذا كان للدقيقة هذا الأثر الكبير في حياة المسلم فكيف بالساعة وأختها؟! إنه دين يحث على اغتنام الأوقات والاستفادة منها، فكم تضيع علينا من دقائق بل ساعات من غير فائدة، ناهيك عن تضييع البعض للساعات الطوال أمام الملهيات والمحرمات.
الدرس السادس: الصبر؛ رمضان تجربة للنفوس لتكون على استعداد لتحمل المشاق والقيام بالمهام الجسام، من جهاد وبذل وتضحية وإقدام، ولذلك لما أراد طالوت أن يقاتل أعداءه ابتلى الله قومه بنهر، قال لهم طالوت: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ [البقرة:249]، فنجح أهل الصوم والصبر وتخلف عبدة الشهوات. فالصوم تجتمع فيه أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله، وصبر عن ما حرم الله، وصبر على ما يحصل للصائم من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، ها قد انتصف الشهر واكتمل الهلال بدرا واقتربت ليلة القدر، فعجبًا لأقوام لا يُرون في صفوف المصلين القائمين، ولا الباذلين المنفقين، أو التائبين النادمين، أو التالين الخاشعين. تضيع أوقاتهم في الملاعب والأسواق، وبين الفضائيات والألعاب. وهنيئًا لمن جد واجتهد، فما أسرع أن يذهب النصب، سلوى من صام وقام في الأيام الماضية وحفظ جوارحه في الأيام الخالية، هل يجد نصب الطاعة؟! لقد ذهب التعب وثبت الأجر إن شاء الله، وبقيت لذة الطاعة والأنس بالله، ومسكين من أضاع صومه بالمظالم وانتهاك المحارم وهو يظن أنه صائم، قال النبي : ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش)) رواه ابن خزيمة، وقال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، عما قليل تدخل العشر الأواخر من رمضان التي كان من هدي النبي فيها أن يشد المئزر ويوقظ أهله ويحيي ليله، فيسن فيها الاعتكاف وهو قطع العلائق بالخلائق والإقبال على الخالق، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده. متفق عليه.
اللهم اجعلنا ممن صام الشهر إيمانًا واحتسابًا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
(1/4378)
ما بين إعصار كاترينا ومجاعة النيجر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
سامي بن عبد العزيز الماجد
الرياض
5/8/1426
جامع الرائد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على المبادرة بالصدقة. 2- مشاهد مبكية لإخواننا المسلمين في النيجر. 3- من أحيا نفسًا فكأنما أحيا الناس جميعًا. 4- من أعظم العار أن تجودَ بعضُ الدول الإسلاميةِ بمئاتِ الملايين لأغنى دولة في العالم ثم تبخل بعُشر معشارِ ذلك على المسلمين في النيجر. 5- فضل الصدقة والإنفاق في سبيل الله. 6- هل يجوز الفرح بمُصاب القوم في أهليهم وأموالهم وديارِهم؟!
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الأحبة في الله، بينا رسول الله جالس بين أصحابه صدرَ النهار إذ جاءه قوم حفاة عراة، مجتابو العَبَاءِ، متقلّدو السيوف، فتمعّر وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فدخل بيته ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام، فصلى ثم خطب، فقال: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بُره، من صاع تمره)) ، حتى قال: ((ولو بشقِّ تمرة)) ، قال الراوي: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّةٍ كادت كفه تعجَز عنها، بل قد عجَزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كَومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجهَ رسول الله يتهلل كأنه مُذهَبة، فقال: (( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وزرُها ووزرُ من عمل بها مِن بعدِه من غير أن يَنقُصَ من أوزارهم شيء)) أخرجه مسلم.
كومان من طعام وثياب أرهصهما مشهد قوم لم يُشرفوا بعدُ على الموت، ولا أكل الجوعُ أجسادهم، فقد كانت لهم بقية من قوةٍ أطاقوا بها أن يتقلدوا السيوف، وأن يقدموا المدينة من شُقّة بعيدة، إنما ظهرت عليهم أمارةُ الفاقة والبؤس فحسب، غير أن ذلك كان كافيًا لأنْ تُعلن حالةُ الطوارئ والاستنفار في المدينة، فيدخل النبي بيته ثم يخرج، وتُجمع الصحابة، ويخطب فيهم خطبةً ليست بخطبة الجمعة، فيأمرهم بتقوى الله، ويذكّرهم بوشيجة الإيمان، ويحثهم على الصدقة، فيتتابعُ الناس يلقون بصدقاتهم بين يديه ، فيذهب الحزن والتمعر عن وجهه الطاهر، وينقلب كأنه مُذهبة رضًا بصنيع أصحابه.
هذا ما فعله المشهدُ بمجتمع المدينة، أثارَ في النفوس مشاعرَ الحزن والرحمة، ثم سُرعان ما تبدلت إلى مشاعر رضًا وارتياح؛ لأنها كانت مشاعر إيجابية، تُفجِّر طاقاتِ الخير الكامنةَ، وتحولها إلى أعمال مثمرةٍ تُغيّر الواقع، وتُحِلّ الفرح والرضا محل الحزن والألم.
بدأت رابطة المرحمة بالألم والحزن لمشهد الفاقة، وانتهت بكومين من طعام وثياب، وبُشرى من الصادق المصدوق للمبادرين بالإحسان.
تلك هي المشاعر الصادقة وقرت في القلب وصدّقتها الأعمال، أصلها ثابت في القلب وفرعها ممتد بأيدٍ نديةٍ بالرحمة والإحسان، وحيثما تكون الفاقة فحبل الإحسان إليها ممدود.
فما عسانا نفعل ونحن نرى مشاهد مبكية لإخواننا المسلمين في النيجر؟! أنهكهم الفقر، وأسلمتهم المجاعةُ إلى الموت، يفري فيهم فريًا، فمنهم من قضى نحبه وليس به من بأس إلا الجوعُ، ومنهم من ينتظر ليس بينه وبين الموت إلا رمقات يسيرة، فشبح الموت جاثمٌ في بدنه الهزيل، يدفعه ـ بإذن الله ـ طعام يسير يُشبع جوعته ويسد رمقه.
صور المأساة مشاهد مبكية مؤلمة، يرق لها كل قلبٍ، ولكن من ذا يترجم مشاعرَ الرحمة والشفقةِ إلى أعمال إيمانية تسهم في رفع المعاناة، وتُحيي نفوسًا مؤمنة قد أشرفت على الموت؟! فهي منه كقاب قوسين أو أدنى، ومن أحيا نفسًا محترمة فكأنما أحيا الناس جميعًا، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].
وإنما جعل إحياء النفس الواحدة كإحياء الناس جميعًا لأن الداعيَ النفسيَ الذي يحرِّض صاحبه على إحياء النفس الواحدة وهو الشفقة والرحمة ومراعاة حق النفس في الحياة هو الذي يدفعه إلى إحياء الناس جميعًا لو استطاع، ولأن في إحياء النفس الواحدة ما في إحياء النفوس كلها من معنى تعظيم حُرمة الدم وحقِّ النفوسِ في الحياة، فكلا الإحياءَين ـ إحياء النفس الواحدة وإحياءِ الناس جميعًا ـ فيه تعظيم لحق الحياة، الحقِ المشترك بين الناس، فتشبيه إحياء النفس الواحدة بإحياء الناس جميعًا هو من حيث وجود الداعي الذي يدفعه لإحياء النفس وإنقاذها من المسغبة والمخمصة.
وأحق النفوس بالحياة والإحياء هي نفسُ المسلم، وهي أكرم النفوس عند باريها. وإحياء النفس المؤمنة في النيجر شرفٌ يستطيعه كل أحد، نعم كل أحد؛ فإحياء النفس هنالك لا يكلف إلا بضع هللات في اليوم الواحد.
ما النيجر؟! إنها دولة إسلامية، ونسبة المسلمين فيها تزيد عن خمس وتسعين بالمائة، وهي عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي، وثاني أفقر بلد في العالم على الإطلاق.
من العار علينا أن تسبقنا إلى إغاثة إخواننا هناك منظماتٌ تنصيرية أو إنسانيةٌ من بلاد كافرة، وهل يكون الكافر أقربَ وشيجةً إلى المسلم من أخيه المسلم؟! وهل يرضى المسلم لأخيه الملهوف أن تطعمَه منظماتٌ تنصيرية لتُنَصِّرَه وتضلَّه عن سبيل الله؟! من ذا من المسلمين يرضى أن ينوبه كافرٌ في إطعام أخيه وإغاثته؟!
وأعظم العار في هذا أن تجودَ بعضُ الدول الإسلاميةِ بمئاتِ الملايين لأغنى دولة في العالم مواساة لها في كارثتها، ثم تبخل بعُشر معشارِ ذلك على جوعى المسلمين في النيجر. أما إنه لخزيٌ وعارٌ ذلك العطاء السخي لو لم يكن في المسلمين ملهوفٌ جائع، فكيف ومئات الآلاف منهم مهددون بالموت جوعًا؟! كيف وهم إخوتنا وأحق الناس بمواساتِنا وصدقاتِنا؟!
إننا إذ ننكر ذلك فلا ننكره ولا نكرهه لأن الكافرَ لا تجوز إغاثتُه ومواساتُه، فنحن نعلمُ من ديننا ما لا حاجة أن يعلمنا إياه أحد؛ أن في كل كبدٍ رطبةٍ أجرًا، وأن في إحياءِ نفس الكافرِ غيرِ المحاربِ فضلاً وإن لم يكن كفضل إحياء النفس المؤمنة، فالآية في فضل إحياء النفوس عامّة لم تخصَّ نفسًا دون نفس.
إنما ننكر ذلك ونكرهه لأن الكافر قد فُضِّل على المسلم في الصدقة والمواساة، ومن المعلوم أن الحقوق إذا تزاحمت قُدم حق الأقرب فالأقرب، فكيف إذا زاحم الحقَّ ما ليس بحق، فإن إغاثة الكافر ليست حقًا واجبًا كإغاثة المسلم.
وننكر ذلك ونكرهه لأن ذلك التبرعَ السخي أعطي لدولة غنية فيها أغنى الأغنياء الموسرين، وفيها شركات كبرى؛ ميزانيتها تعادل ميزانيات عدة دول مجتمعة، فلديهم من الأموال ما يكفيهم في إغاثة المنكوبين لو أرادوا، أما النيجر فهو من أفقر البلاد، وفيه أفقر الفقراء، وفيه جياع يشبعهم أدنى طعام، وأقل المال كفيل أن ينقذ نفسًا هنالك من الموت بإذن الله. فأي البلدين ـ بربكم ـ أحق بالمواساة والإغاثة؟!
ثم ننكر ذلك ونكرهه لأن ذلك التبرع السخي لم تَجُدْ بمثله يدُ المتبرعِ لإخوانه الجَوعى هناك، وهم أقربُ بلدًا ورُحمًا وأولى وشيجةً وبِرًا.
وننكر ذلك ونكرهه لأنه لا يجوز بحال أن يُنقذَ الكافرُ ويُسلَمَ المسلمُ للموت، ولا يجوز بحال أنْ يُطعمَ كافرٌ وفي المسلمين جائعٌ هو أحوجُ إلى الإطعامِ والإغاثة.
لقد صُرفت الأنظار إلى كارثة الإعصار، وتباكى الإعلاميون والمتغرِّبون عليها، واستعطفوا الناس لمواساة المكلومين برَحِمِ الإنسانيةِ، وتناسوا جوعى النيجر، وكأنهم لا يمتّون إلى الإنسانية بصِلة. وتباكى الناس على قتلى الإعصار، ولكنَّ جوعى النيجر لا بواكي لهم.
أيها الأحبة في الله، هناك في أرض النيجر يُطفَأ غضبُ الربِّ سبحانه، وبين أيدي جوعاها تُلتمس رحمةُ الرحمن الرحيم، فـ ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء)).
هناك في أرض المجاعة والفاقة والجفافِ والبُور تجارةٌ مأمونة لا تبور، أرباحها مضاعفة مضمونة، وخسارتها مأمونة. إنها التجارة مع الله، وبمالٍ هو له جعلنا مستخلفين فيه، أعطانا إياه لنقرضه بعضه، فينمِّيه لنا ويُرْبيه، وإنما المال مال الله يضعه حيث شاء، فيعطي من يشاء ويمنع من يشاء، آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
أيها المحسنون، لنتذكر أن ما ننفقه في سبيل الله هو الذي يبقى لنا، وأن ما نُبقيه وندّخرُه فإنما ندخرُه لغيرنا، ((يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك ـ يا ابنَ آدم ـ من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدّقتَ فأمضيت؟!)) رواه مسلم، وعنه أنه قال: ((أيكم مال وارثه أحبُّ إليه من ماله؟)) قالوا: ما منا أحدٌ إلا مالُه أحبُّ إليه، فقال: ((فإن مالَه ما قدَّم، ومالَ وارثِه ما أخَّر)) رواه البخاري، وفي الصحيحين: ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)) ، ويصدق ذلك قوله جل جلاله: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
الصدقة تجارة مع الله، وأنعم بها من تجارة، فمن اتّجر معه فهو الرابح المرحوم، ومن حرمها بخلاً بماله فهو المغبون المحروم، إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ [فاطر:29]، ويقول : ((من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربِّيها لصاحبها كما يربي أحدكم فُلُوّه؛ حتى تكون مِثلَ الجبل)) رواه البخاري، ويقول تعالى: مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فقد بقيت في كارثة الإعصار مسألة لا تزال معتركًا للخلاف والنزاع ومحلاً للتصنيف والاتهام، واختلف الناس: هل يجوز الفرح بمُصاب القوم في أهليهم وأموالهم وديارِهم، أم أن ذلك من الشماتة وقسوةِ القلوب وخوائها من الرحمة والإنسانية؟
أفرط قومٌ في التشفي والفرح فأجازوا ذلك بإطلاق، وقابلهم آخرون إفراطًا بإفراط، فجرّموا كل مظهر للتشفي والفرح بمصاب القوم في الكارثة بإطلاق.
ولا أزعم أن قولي هو الحكم الفصل الذي يرفع الخلاف ويقضي على النزاع، لكني أحسب أن في المسألة قدرًا من الحق لا ينبغي أن يخالف فيه من تجرد عن الهوى واحتكم للكتاب والسنة، وهو أن التشفي بما تكبّدته الإدارة الأمريكية من خسائر فادحة جرّاء الكارثة وبما واجهته من فضائحَ ضاغطة تتهمها بالعنصرية والفساد أن ذلك حق مشروع لكل مسلم أصابته تلك الدولة المتكبّرة المتجبرة، أو أصابت إخوانه المسلمين بمصيبة في أهل أو مال أو ولد، فحُقَّ لكل مسلم أن يفرحَ ويتشفى بما تواجهه تلك الحكومةُ الباغيةُ من فضائحَ وخسائرَ مالية وضغوطاتٍ سياسيةٍ وشعبية، وحق لكل مسلم أن يفرحَ وهو يرى في الكارثة شغلاً لتلك الدولة عن كل شاغل.
فهذا هو الذي ينبغي أن يتوجه إليه التشفي والفرح، وهو إنْ تحقّق فهو رحمةٌ من الله ونعمة، وما يدرينا لعل تلك الإدارة المتجبرة قد أصابتها دعوة الصالحين من أمة الإسلام.
ألا إن التشفي بما يصيب العدو من مصائب وآلام أمر مقصود مشروع في ديننا؛ كما يفيد ذلك قوله: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ، وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة:14]، فالتشفي من الكافر المعتدي مقصد مشروع.
أما المشرّدون منهم والمصابون في أهليهم وأولادهم فليس في مصابهم معنى للتشفي ولا للفرح، فعامّتهم معدودون في غِمار الناس المنهمكين في أمور معاشهم، ليسوا في غير ذلك في وِرد ولا صَدَر، وحسبنا أن نقول في حقهم: إن ما أصابهم فإنما هو بذنوبهم، نقولها متواضعين معترفين بذنوبنا غيرَ آمنين من مكر الله، فإن عدَّ أحدٌ هذا من الشماتة فليعلم أنها مما علَّمَنَا إياه القرآن، إذ ذكّرنا بها كثيرًا في آيات كثيرة: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَاد [الرعد:31].
وإن كان لنا من أسى نأساه على من هلك منهم في الكارثة فإنما نأسى على أنْ مات كافرًا على غير ملة الإسلام.
(1/4379)
خطر الاستهزاء بالدين وأهله
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, نواقض الإيمان
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
20/3/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما حصل في غزوة تبوك من الاستهزاء بالله ورسوله. 2- تنوع الصور والأساليب في القرآن الكريم في التحذير من الاستهزاء. 3- ظاهرة الاستهزاء قد ذكاها أعداء الله المعاصرون. 4- من صور الاستهزاء في هذا العصر. 5- حكم من استهزأ بشيء من دين الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السرّ والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها المؤمنون، ننقلكم اليوم إلى تبوك لنعيش أجواء غزوتها وما صاحبها من أحداث، حيث نعيش أحد تلك الأحداث التي نزل فيها قرآن يتلى إلى يوم القيامة، فقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، لا أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله ، فبلغ ذلك رسول الله ونزل القرآن، قال عبد الله: فأنا رأيته متعلقًا بحقب ناقة رسول الله والحجارة تنكيه، وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي يقول: ((أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون)).
إنها ظاهرة الاستهزاء والسخرية، تلك الظاهرة القديمة الحديثة، التي كانت ـ وما تزال ـ أحد أسلحة أعداء الأنبياء والرسالات، ولقد حذرنا القرآن الكريم من هذه الظاهرة في مواضع عدة بصور وأساليب متنوعة:
فتارة يبين أن ديدن الكفار هو الاستهزاء من المؤمنين، فيقول: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:112]، ويقول: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29، 30].
وتارة بإخبار المولى عز وجل أن أول عمل يقوم به المكذبون للرسول الاستهزاء والسخرية، قال تعالى: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون [يس:30]، وقال تعالى: قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنْ الْكَاذِبِينَ [الأعراف:66].
وتأمل ـ يا رعاك الله ـ شأن زعيم المكذبين فرعون إذ يقول سبحانه: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:51، 52]، وقال تعالى مخاطبًا نبيه : وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُوًا [الأنبياء:36].
عباد الله، إن هذه الظاهرة قد أذكاها أعداء الله المعاصرون؛ جاء في برتوكولات حكماء صهيون: "وقد عنينا عناية عظيمة بالحط من كرامة رجال الدين من الأمميين غير اليهود في أعين الناس؛ وبذلك نجحنا في الإضرار برسالتهم التي كان يمكن أن تكون عقبة كؤودًا في طريقنا".
وذكر الشيخ عبد الرحمن الميداني في كتابه أجنحة المكر الثلاثة أن من وسائل أعداء الإسلام تشويه صورته في نفوس المسلمين بعدة خطط، منها:
- مقابلة بعض أحكام الإسلام وتشريعاته بالاستهزاء والسخرية، ووصف المتمسكين بها بالرجعية والتأخر.
- احتقار علماء الدين الإسلامي وازدراؤهم، ثم تقديم جهلة منحرفين إلى مراكز الصدارة.
وذكر مؤلف كتاب المشايخ والاستعمار أن الأعداء استخدموا جميع الوسائل، وتكاتفت جهود الصليبية واليهودية ومن تبعها للإجهاز على علماء القرآن في قلوب أمة القرآن.
ومن صور الاستهزاء في هذا العصر ما ينشر ويذاع عبر بعض وسائل الإعلام العالمية والصحف من همز ولمز وسخرية بالدين وأهله؛ فمن ذلك:
ـ الاستهزاء بشعائر الإسلام الظاهرة؛ كاللحية وتقصير الثوب والسواك ونحو ذلك.
ـ الصور الكاريكاتيرية العابثة التي تهزأ من الدين وأهله.
ـ المسلسلات التي تظهر رجل الدين بمظهر المغفل الذي لا يفقه شيئًا، حيث جرت العادة في تلك المسلسلات إذا احتيج إلى رجل دين في المسلسل يتم اختياره بمواصفات معينة، بحيث يكون مغفلاً ساذجًا لا يفهم ما يقال وينفذ ما يطلب منه.
عباد الله، بقي أن تعلموا أن الاستهزاء بالدين إذا كان المستهزئ غير جاهل بالحكم ويقصد ذات العبادة فإنه يكون مرتدًا عن الإسلام، دل على ذلك الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة.
فمن ذلك قول الله تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:64-66]. هل تعلمون ـ يا عباد الله ـ ما الذي قاله المنافقون؟! إن الذي قالوه لا يصل إلى عشر معشار ما يقال عن دعاة الإسلام وعلمائه في بعض وسائل الإعلام المعاصرة، لقد قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا ولا أكذب ألسنًا ولا أجبن عند اللقاء.
قال الجصاص: "إن الاستهزاء بآيات الله أو بشيء من شرائع دينه كفر من فاعله، يستوي في ذلك الجاد والهازل"، وقال أبو بكر ابن العربي: "لا يخلو أن يكون ما قالوه ـ أي: المنافقون ـ جدًا أو هزلاً، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة"، وقال محمد بن عبد الوهاب في نواقض الإسلام: "السادس: من استهزأ بشيء من دين الرسول أو ثوابه أو عقابه كفر، لا فرق بين الجاد والهازل والخائف إلا المكره"، وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة: "من استهزأ ببعض المستحبات كالسواك والقميص الذي لا يتجاوز نصف الساق والقبض في الصلاة ونحوها مما ثبت من السنن فحكمه أنه يبين له مشروعية ذلك وأن السنة دلت على ذلك، فإذا أصر على الاستهزاء بالسنن الثابتة كفر بذلك"، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "وقد أجمع علماء الإسلام في جميع الأعصار والأمصار على كفر من استهزأ بالله أو رسوله أو كتابه أو شيء من الدين، وأجمعوا على أن من استهزأ بشيء من ذلك وهو مسلم أنه يكون كافرًا مرتدًا عن الإسلام، يجب قتله لقوله : ((من بدل دينه فاقتلوه)) ".
عباد الله، إذا ظهر لنا ذلك فحري بكل عاقل حريص على دينه أن يبتعد عن كل سخرية واستهزاء بأهل الخير والصلاح، أو بأي شعيرة من شعائر هذا الدين، وينبغي أن يكون بينه وبين ذلك خطوط حمراء لا يقترب منها.
وإن مما يجب التنبيه عليه بهذه المناسبة ما شاع بين أوساط الشباب من تبادل لطرائف ونكت عبر رسائل الاتصال المحمولة، بعضها يتعلق بالدين وأهله. ألا فليحذر أولئك الشباب من ذلك، ويناصحوا من وقع من أقرانهم في هذه المصيبة لئلا تزل بهم الأقدام، ويقعوا في سخط العظيم العلام.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4380)
هل من متذكر؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
27/3/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا. 2- موقف المسلم من الدنيا. 3- أهمية تذكر الموت والقبر والقيامة وأهوالها في حياة المسلم. 4- أهوال يوم القيامة وشدائدها. 5- وصف الجنة ووصف النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها المؤمنون، يذكرنا المولى عز وجل بمذكرات كثيرة لنستعد للقائه سبحانه وتعالى، ولنأخذ أهبتنا واستعدادنا للقاء الأكبر، ولكي لا نهلك مع الهالكين ونكون يوم القيامة من الخاسرين، فالله تعالى يقول: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، ويقول سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، ويقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].
إن المؤمن ـ يا عباد الله ـ يصاب بآفة الغفلة بمصائب الدنيا ولهوها وشهواتها، فيغفل عن رسالته في هذه الحياة، ويغفل عن الهدف الذي خلق من أجله، ويغفل عن الجنة وما أعد الله للمؤمنين فيها، ويغفل عن النار وما أعد الله للعصاة والكفار، ولكن المؤمن يتذكر ويعود إلى ربه عز وجل، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
يمثل أحد السلف حالنا وحال الدنيا التي نحن فيها وحالنا مع الشيطان برجل أراد أن يدخل على أحد الملوك، فاعترضه كلب الوالي ومنعه من الدخول على الملك وتحرش به، وكان في يد هذا الرجل لقمة فأعطاها لهذا الكلب فانشغل بها، ثم فتح له الباب فدخل على الملك وقرب منه وأنس به. فالكلب هو الشيطان، واللقمة هي الدنيا، والملك هو الله سبحانه وتعالى. والشيطان يريد أن يمنعنا من الدخول على الله سبحانه وتعالى ومن القرب منه، ومن طاعته سبحانه وامتثال أمره، وتشغلنا هذه الدنيا الحقيرة.
ما هذه الدنيا بشيء يا عباد الله، ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء)) ، ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)) رواه مسلم. هكذا يرشدنا النبي ويبين لنا حقارة الدنيا وأنها ليست بشيء، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب في ظل شجرة ـ أي: استظل في ظلها ـ ثم سافر وتركها)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وكان يوصي أصحابه بالتقلل من الدنيا، وأن يكون زاد أحدهم فيها كزاد الركب، كزاد المسافر، فيقول لابن عمر : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) رواه البخاري، وكان ابن عمر يقول: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
هذه الدنيا ـ يا عباد الله ـ ليست بشيء، ولذلك الله سبحانه وتعالى يحذرنا منها فيقول: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17]. هي خير لمن فقه حقيقة الدنيا وأنها ليست بشيء. وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد:26].
ليست الدنيا بشيء، عن جابر بن عبد الله قال: مر النبي ذات يوم بالسوق والناس كنفتيه ـ أي: حوله ـ فنظر فرأى جديًا أسك ـ أي: صغير الأذنين ـ قال: ((أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟)) وكان هذا الجدي ميتًا أسكًا، ميتًا صغير الأذنين، قال: ((أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟)) قالوا: يا رسول الله، ما لنا فيه من حاجة، قال: ((أيكم يحب أن يكون له؟)) قالوا: لو كان حيًا لما رغبنا فيه، فكيف وهو ميت؟! قال: ((والله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) رواه مسلم.
ليست الدنيا بشيء يا عباد الله، عن المستورد بن شداد أن النبي قال: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في الْيَمِّ فلينظر بما يرجع)) رواه مسلم والترمذي واللفظ له.
ليست الدنيا بشيء، لا تزن الدنيا عند الله شيئًا، ليس لها قيمة.
هي الدنيا تقول بملء فيها: حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسام فقولِي مضحك والفعل مبكي
لا يغتر بالدنيا إلا جاهل، لا يتهالك في الدنيا إلا من لا يفكر بالآخرة. هذه الدنيا كما يقول يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى وهو من أئمة التابعين: "الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لا يفيق إلا في عسكر الموتى". لا يفيق إلا وقد مات حيث لا ينفعه الندم.
لننتبه يا عباد الله، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وكلنا راحلون إلى الله سبحانه وتعالى، يقول وهب بن منبه رحمه الله تعالى: "إنما الدنيا والآخرة كرجل له ضرتان، إذا أرضى إحداهما أسخط الأخرى". فمن نرضي يا عباد الله؟!
إن الدنيا ليست بشيء، لو كانت الدنيا ـ يا عباد الله ـ ذهبًا يفنى والآخرة خزفًا يبقى لكان العاقل اللبيب هو من يفضل الخزف الباقي على الذهب الفاني، فكيف والدنيا خزف يفنى والآخرة ذهب يبقى؟! كيف يفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي يا عباد الله؟! كيف نتهالك على الدنيا ونحن راحلون عنها؟! متاع الغرور هي الدنيا التي تلهي الإنسان عن الآخرة.
كيف يكون حال المسلم في هذه الدنيا؟ ينبغي أن تعيش الدنيا في يدك لا في قلبك، فلا تحب من أجلها، ولا تبغض من أجلها، ولا توالي من أجلها، ولا تعادي من أجلها، فليست الدنيا بشيء، إنما هي متاع يبلغك إلى الدار الآخرة، يبلغك إلى الله سبحانه وتعالى، فانصرف عنها ولا تتهالك فيها، وتذكر حقارتها وأنها لو كانت عند الله تزن جناح بعوضة لما سقى منها الكفار، ولما نَعِمَ فيها الظالمون والمتجبرون، ولو كان لها قيمة عند الله سبحانه وتعالى لما كان أولئك النفر من الطغاة والمتجبرين في أعلى الدرجات، والأنبياء والصالحون يبيت أحدهم لا يجد قوت يومه وليلته، تقول عائشة رضي الله عنها لابن أختها عروة بن الزبير : يا ابن أختي، والله لقد كان يمر الهلال تلو الهلال تلو الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت رسول الله نار، قال: يا خالة، فماذا كان طعامكم؟! قالت: الأسودان: التمر والماء. رواه البخاري ومسلم. ثلاثة أشهر في بيت خير خلق الله قاطبة، في بيت خير من خلق الله محمد ، وتقول أيضًا: ما شبع آل محمد من خبز الشعير ليلتين متواليتين حتى لقي ربه عز وجل. رواه البخاري.
هكذا كان أفضل الخلق الذي عرضت عليه الدنيا كلها فأباها وطلقها، عرضت عليه أن تكون له جبال الدنيا ذهبًا فأبى، وقال: ((أجوع فأتذكر الفقير والمسكين)).
الدنيا دار للآخرة، وهي دار ممر وليست بدار مقر يا عباد الله، ليتذكر الإنسان الموت وما أعده الله تعالى للمؤمنين بعد ذلك في الدار الآخرة، ليتذكر المسلم من هلك من آبائه وأجداده، ليتذكر القبور وليزر القبور، ويتذكر أنه لا بد أن يكون في يوم من الأيام في هذا المنزل رضي بذلك أم لم يرض.
تذكُّر الموت ـ يا عبد الله ـ وتذكر القبر وأهواله والقيامة وأهوالها من الأمور التي لا ينبغي أن يغفل عنها المسلم الذي يرجو لقاء ربه عز وجل. خرج النبي ذات يوم على أصحابه فقال: ((لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلاً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وحسنه الألباني وأصله في مسلم. ((لو تعلمون ما أعلم)) ، هكذا يرشدنا النبي إلى أن نتعظ، وأن نستعد للقاء الله سبحانه وتعالى.
عن البراء بن عازب قال: بينما كنا مع النبي ذات يوم إذ مر بجماعة مجتمعين فقال: ((على ما اجتمع هؤلاء؟)) قالوا: اجتمعوا على قبر يحفرونه، قال: فانسلّ النبي من بيننا وذهب وجلس على شفا القبر، على حافة القبر، قال البراء: فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان وقد بَلَّ الثرى، وهو يقول: ((عباد الله، لمثل هذا فأعدوا)) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه. ((عباد الله، لمثل هذا فأعدوا)). هكذا يقول النبي المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هكذا يقول خير من خلق الله، الذي هو خير الخلق على الإطلاق: ((عباد الله، لمثل هذا فأعدوا)).
وعن هاني مولى عثمان بن عفان يقول: كان عثمان إذا ذكرت الجنة والنار لا يتأثر، فإذا ذكر القبر بكى حتى نرحمه، فقيل له في ذلك! فقال: إن القبر أول منازل الآخرة، ويقول سمعت النبي يقول: ((ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
لنتذكر ـ يا عباد الله ـ من مات من أسلافنا لنعرفَ حقيقة الدنيا، أنها ليست بشيء، ولنتذكر أهل القبور.
صاح هذه قبورنا تملأ الرحبا فأين القبور من عهد عاد
سر إن استطعت في السماء رويدًا لا افتخارًا على رفات العباد
ربَّ قبر قد صار قبرًا مرارً ضاحكًا من تزاحم الأضداد
ودفين على بقايا دفين من قديم الزمان والآماد
هذه الدنيا يا عباد الله، لا بد أن نتذكر الموت دائمًا وأبدًا.
حكم المنية فِي البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يُرى الإنسان فيها مُخبرًا حتَّى يُرى خبَرًا من الإخبار
جبلت على كدَر وأنت تريدها صفوًا من الأكدار والأقذار
يا ابن العشرين، تذكر الأقران الذين رحلوا. يا ابن الثلاثين، تذكر أن الشباب قد ولى ورحل. يا ابن الأربعين، قد بلغت سن الرشد فتهيأ للقاء ربك عز وجل. يا ابن الخمسين، قد انتصفت المائة وقربت إلى الله. يا ابن الستين، قد أوشكت أن تكون من الموتى. يا ابن السبعين، لا عذر لك فتهيب للقاء ربك سبحانه وتعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: يا عباد الله، يتذكر أحدنا وقد ونفخ في الصور وخرج الناس لرب العالمين، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:68، 69]. مثل نفسك ـ يا عبد الله ـ وقد خرجت من قبرك عاريًا حافيًا، وقد سمعت الصيحة التي اهتزت لها السماوات والأرض، تنظر ها هنا وها هنا فلا ترى إلا صائحًا فزعًا خائفًا من الموقف الأعظم، من الموقف الكبير، من الموقف العظيم.
أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما لعبوا وناموا
فقبر ثم حشر ثُمّ نشر وميزان وأهوال عظام
لو تأمل الإنسان هذه الأمور لما استلذ بهذه الحياة الدنيا, ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راهبين راغبين، ورجل على بعير ورجلان على بعير وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير وعشرة على بعير، وأما الباقون فتحشرهم النار إلى المحشر تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا)) رواه البخاري ومسلم.
تأمل أن الناس يحشرون في ذلك اليوم العظيم، تخيل الحشر وعرصاته, تخيل النجوم وقد تناثرت, تخيل السماء وقد فطرت وتشققت, تذكر القبور وقد تناثرت, تذكر العشار وقد عطلت, تذكر النفوس وقد زوجت, تذكر كل شيء يا رعاك الله، وتأمل في ذلك الموقف العظيم، تأمل الصراط والميزان والهول والحشر وما إلى ذلك من الأمور والأهوال العظام التي لا بد أن يمر بها الناس رضوا بذلك أم لم يرضوا. تذكر ساعة الحشر وعرصات القيامة، وأن الناس يحشرون في ذلك اليوم العظيم الأهوالِ، التي تغمرهم فيه الشمس ويغمرهم فيه العرق إلى أنصاف آذانهم، وكل منهم يرجو الله تعالى أن يتم القضاء لما يرى فيه من أهوال. تخيل الميزان وقد جيء بالخلق لتوزن أعمالهم وأنت لا تدري أتكون ـ يا عبد الله ـ من الناجين أم من الهالكين؟ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]. تأمل الحساب يوم أن يحاسب الناس، يوم أن يحاسب الخلق، ويحاسب العبد على كل صغيرة وكبيرة، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].
تأمل ـ يا رعاك الله ـ وأنت في ذلك الموقف العظيم كما جاء في الأثر، تقول لأحب الناس إليك لولدك: أي بني، أريد حسنه أثقل بها موازيني، فيقول: يا أبتي، إني أخاف مما تخاف، وتقول لزوجتك: يا زوجتي، إني أريد حسنه واحدة أثقل بها موازيني، فتقول: إني أخاف مما تخاف، وعند ذلك يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
تذكر الصراط وقد وضع على شفير جهنم، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعرة, وحوله كلاليب تخطف الناس كشوك السعدان، فسالم ومكردس في نار جهنم، والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه
لا يقولون إلا: اللهم سلم سلم , اللهم سلم سلم.
تذكر النهاية يا عباد الله، إما إلى جنة وإما إلى نار، وثمة حياة سرمدية أبدية، ((يا أهل الجنة، حياة ولا موت. يا أهل النار، حياة ولا موت)). هل تأمل ذلك أحدنا يا عباد الله؟! إلى متى يعيش الإنسان في الآخرة؟! مائة سنه؟! مائتي سنه؟! ألف سنه؟! مليون سنه؟! لا نهاية يا عباد الله، ((يا أهل الجنة، حياة ولا موت. يا أهل النار، حياة ولا موت)). أيفرط أحدنا ويضيع ملايين السنين بل يضيع سنين لا نهاية لها من أجل متاع زائل في دنيا زائلة لا تسوى عند الله شيئا؟! أيضيع ذلك النعيم المقيم الذي لا يوصف أبدًا؟! عن المغيرة بن شعبه مرفوعا: ((قال موسى عليه السلام: يا رب، من أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: يا موسى، رجل يؤتى به وقد دخل أهل الجنة الجنة، فيقول له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب، كيف أدخلها وقد نزل الناس منازلهم؟! فيقول له الله: يا عبدي، أترضى أن يكون لك مثل ملك من أهل الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب، فيقول: لك مثله ومثله ومثله ومثله خمس مرات, فيقول في الخامسة: رضيت يا رب، رضيت يا رب، فيقول: هذا لك وعشر أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب. هذا أدنى أهل الجنة منزلة وآخر أهل الجنة دخولا. قال: يا رب فمن أعلى أهل الجنة؟ قال: أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر)) رواه البخاري بمعناه مختصرًا ومسلم، ((لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها)) رواه البخاري. موضع السوط من الجنة خير من الدنيا وما عليها! ((إن من أهل الجنة من يسير في ملكه ألفي سنه لا يقطعه)) رواه أحمد والحاكم. ألفا سنه وهو يسير في ملكه لا يقطعه!.
الجنة أعدها الله للمؤمنين، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر أبدا، هل نضيع هذا ـ يا عباد الله ـ بسبب دنيا فانية؟! أننسى ذلك كله وننسى النار أيضا وما فيها من العذاب؟! كما جاء في الحديث الصحيح: ((إن أقل أهل النار عذابا رجل له نعلان من نار جهنم يغلي منهما دماغ رأسه)) رواه مسلم. هذا أقل أهل النار عذابا على الإطلاق، من له نعلان من نار جهنم يغلي منهما دماغ رأسه. نار جهنم ((يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك)) رواه مسلم. هذه النار التي ((أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة)) رواه الترمذي والبيهقي في الشعب والأصبهاني في الترغيب والترهيب. أعاذنا الله وإياكم من حرها.
هل نتذكر هذه الأمور يا عباد الله؟! هل ننسى هذه الأمور؟! قال أبو هريرة : كنا ذات يوم عند النبي فسمعنا وجبة ـ أي: صوتا كبيرا ـ فقال : ((أتدرون ما هذا؟)) قلنا: لا يا رسول الله، قال: ((هذا حجر ألقي من شفير جهنم منذ سبعين عاما، فالآن حيث وصل إلى قعرها)) رواه مسلم. منذ سبعين سنه ألقي هذا الحجر في نار جهنم، وظل نازلا سبعين عاما ووصل إلى قعرها يا عباد الله! لا تنسنا الدنيا أهوال يوم القيامة، لا تنسنا الدنيا أهوال القبور، لا تنسنا الدنيا الآخرة وما أعد الله فيها للمؤمنين وما أعد الله فيها للعصاة، ليحاسب كل منا نفسه، فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
ولنعلم يقينا أننا راحلون عن هذه الدنيا رضينا بذلك أم لم نرض، فالعاقل من يستعد للقاء ربه عز وجل، فيوم القيامة لا يقول العبد إلا نفسي نفسي. نسأل الله تعالى أن يعيننا على الدنيا وأهوالها ومصائبها وشهواتها، وأن يجعلنا ممن يستعدون للقاء الله بالعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
(1/4381)
من ليتامى المسلمين؟!
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
12/4/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ديننا دين الرحمة والتكافل والتعاضد والتناصر. 2- تقاعص كثير من المسلمين لمصائب وكوارث حلت بإخوانهم. 3- الدور الفعال للمنظمات التنصيرية تجاه ما حلَّ بإخواننا المسلمين وأثر ذلك على المسلمين. 4- فضل رعاية الأيتام في الإسلام. 5- نداء للموسرين من المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، هذا الدين العظيم الذي مَنَّ الله به على المؤمنين، دين الرحمة والتكافل والتعاضد والتناصر. هذا الدين العظيم الذي سعدت به البشرية وما زالت تسعد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، غرس في قلوب المؤمنين مبدأ التراحم والتناصر والإحساس ببنية الجسد الواحد، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاضدهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم وأحمد.
أيها المؤمنون، إن مصائب الحياة كثيرة، وإن تقلبات الزمان متعددة، وإن الناس قد يبتلى بعضهم بالأمراض والمصائب والنكبات، ابتلاءً وامتحانًا واختبارًا، بيد أن هذه الابتلاءات والامتحانات في مجتمعات المسلمين لا تكون مؤثرة؛ لأن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويقوم بمذمتهم أدناهم، فيقف المسلم مع أخيه المسلم في مصابه، ويقف معه في حاجته، ويقف معه في همه وغمه، فيرفع عنه البلاء، ويواسي اليتيم والمسكين، ولهذا عاش المسلمون ردحا من الزمن ـ يوم أن كانوا ملتزمين بمنهج الإسلام ـ لا يحسون بالآلام ولا بالمصائب، بل وصل الأمر بهم في بعض الأعصار أن ينادى على المساكين والفقراء لتدفع لهم الزكاة فلا يجدون يتيمًا أو مسكينًا، ولا يجدون محتاجًا؛ لأن الجميع قد تكافلوا وتناصروا، وقام كل منهم بواجبه الذي يسأله الله تعالى عنه يوم القيامة.
إن المعاناة والمصائب التي يتجرعها إخوانكم المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصى، فما من بلد من بلاد المسلمين ـ إلا ما ندر ـ إلا وفيه مأساة، إلا وفيه يتيم، إلا وفيه فقير، إلا وفيه مشرد، إلا وفيه محتاج لإخوانه المسلمين لكي يقفوا معه في مصابه، لكي يقفوا معه في مصيبته، لكي يقفوا معه في شدته.
إنه لمن المحزن ـ يا عباد الله ـ أن نرى هنا وهناك في بلاد المسلمين التي ابتليت بالمصائب والنكبات، نجد تقاعس المسلمين عن الوقوف مع مصائب إخوانهم، في الوقت الذي نجد فيه حملات النصارى والمنصرين والمبشرين وأصحاب الأفكار الهدامة يأتون لينقلوا لإخواننا المسلمين الردة، ولينقلوا لهم الكفر البواح، ولينقلوا لهم النصرانية والتنصير والمبادئ الهدامة مع المساعدات.
نصحوا على أصوات ألف مبشّر عزفوا لنا ألْحانَهم فأجادوا
جاؤوا وسيف الجوع يخلع غمده فشدوا بألحان الغذاء وشادوا
أما دعاة المسلمين فهمّهم أن تكثر الأموال والأولاد
أيها المؤمنون، إن ما يحدث في بعض بلاد المسلمين هنا وهناك من جراء النكبات والمصائب، ومن جراء الحروب والويلات، ومن جراء الغرق والهدم، ومن جراء الزلازل والمصائب، كل هذه المصائب خلفت مآسي عظيمة لا يعرفها إلا من وقف عليها.
وإن من أعظم المصائب ـ يا عباد الله ـ التي تكون جراء هذه المصائب أن تخلف أعدادًا كبيرة من أيتام المسلمين الذين فقدوا المعين والناصر، الذين فقدوا الأب الذي يكفلهم والأم التي تحضنهم، فتنقلوا هنا وهناك فلم يجدوا إلا منظمة نصرانية أو مبشرًا يرفع لواء التنصير مع الغذاء والكساء والبيت، لينتقل بعد ذلك هذا الطفل المسلم الذي نشأ بين أبوين مسلمين كتب الله عليهما الوفاة بسبب هذه المصيبة من تدمير أو حرق أو جائحة، لينشأ عبد الله وإبراهيم ويسمى في هذه المنظمة بعد سنوات عدة بولس وميخائيل، فينشر التنصير في مجتمعات المسلمين، إنها مصيبة يا عباد الله، إنها مصيبة أيها المسلمون.
لقد حث الإسلام على رعاية الأيتام وعلى الوقوف معهم وعلى مناصرتهم وعلى مد يد العون لهم، ورتب على ذلك أجرًا عظيمًا جِدّ عظيم، يوم أن يقف المسلم مع يتيم فقد الناصر والمعين، يقوم هذا الرجل المسلم من مشرق الأرض أو مغربها فيكون أبًا لهذا اليتيم، يكون ناصرًا لهذا اليتيم، يكون معينًا لهذا المسكين، فيقف معه في مصيبته وينسيه هذه الجائحة الذي بلي بها بتقدير الله سبحانه وتعالى، وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [البقرة:220]، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8، 9].
ويكفي في فضل كفالة اليتيم ـ يا عباد الله ـ أن المعصوم خير من وطئت الأرضَ قدماه محمد أفضل الخلق يقول: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)) وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما. رواه البخاري. محمد خير خلق الله قاطبة أعظم الناس منزلة يوم القيامة يكون كافل اليتيم معه في الجنة، أي أجر أعظم من هذا الأجر؟! وأي منزلة ودرجة يصلها كافل اليتيم أعظم من هذه المنزلة؟! وهذه الدرجة أن يكون رفيقًا لمحمد في الجنة.
وروي في سنن الترمذي وفيه ضعف: ((من قبض يتيمًا من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله أوجب الله له الجنة البتة، إلا أن يعمل عملاً لا يغفر له)) ، وهو الشرك بالله تعالى. وفي معجم الطبراني الكبير بإسناد صححه الألباني أن النبي قال: ((أتحب أن يلين قلبك وأن تدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح المسكين، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قبلك وتدرك حاجتك)). وفي سنن أبي داود أن النبي قال: ((أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأي مسلم سقى مسلمًا على ظمأ سقاه الله من الرحيق المختوم)).
أيها المسلمون، هذه فضائل عظيمة يبينها النبي ليزرع بين المسلمين مبدأ التراحم والتكافل والتعاضد والإحساس بمآسي المسلمين وجراحهم، وأن يستشعر المسلم ما يعانيه إخوانه المسلمون هنا وهناك بسبب أقدار الله تعالى.
إن الأنانية وحب الذات آفة قاتلة، إذا ابتلي بها المسلم ذهب عنه الخير وزاد شره، وأصبح إنسانًا لا يفكر إلا بنفسه ولا يفكر بإخوانه المسلمين، بل ينظر إلى الضعفاء والمساكين كأنهم قذى في عينه، لا يحس بمصابهم ولا يحس بآلامهم ولا يحس بجراحهم، ونسي هذا الضعيف، نسي هذا المسكين، نسي هذا المتجبر أن تقلبات الزمان ربما تكون في يوم من الأيام عليه؛ فإن السنن لا تتبدل، وإن دوام الحال من المحال، فكم من غني أصبح فقيرًا، وكم من رجل كان في سعة من العيش أصبح محتاجًا، والتاريخ خير شاهد لنا، في التاريخ أمثلة وأمثلة ولا أظن أحدًا منكم يجهل مثلاً هنا أوهناك لرجل كان ذا مال وكان ذا سعة وكان ذا منزلة عظيمة، ثم تقلب به الزمان فأصبح فقيرًا محتاجًا.
أيها المسلمون، إن أبناءً لكم قد فقدوا حنان الأم وعطف الأب، ينادونكم من داخل كنائس النصارى وبِيَعِ اليهود، ينادونكم ليقدم كل منكم ما يستطيع عبر هيئات الإغاثة وعبر المؤسسات الرسمية، ليقدم خيرًا ولو يسيرًا لإخوانه المسلمون هنا وهناك، وبحمد الله تعالى أننا في هذا البلد المبارك نجد مؤسسات خيرية تقدم لك المعونة وتساعدك وتقف معك، لتدفع مساعدة لإخوانك المسلمين هنا أو هناك، هيئات الإغاثة، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الجمعيات الخيرية، جمعيات البر وما أكثرها لمن أراد أن يواسي إخوانه المسلمين هنا أوهناك.
إن إخوانكم يرسلون لكم صيحات وآهات، صيحات استغاثة في هذا الزمان المدلهم، في هذا الزمان الصعب الذي تآمر فيه أعداء المسلمين على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، أطفال وأيتام يرسلون الصيحات فيقول أحدهم لإخوانه المسلمين:
أنا الطفل المعذب أنقذونِي خذونِي أسعفونِي أطعمونِي
ألاقي الموت حينًا بعد حين وآهاتي تزيد مع الأنين
أنا طفل يتيم فِي العراء فبيتي خيمتي ثوبِي غطائي
تنام العيْن فِي وقت المساء وحتى الفجر ما تغفو عيوني
عذائي خبز عيش في قمامة رجاء العيش في أرض الكرامة
إلام الضعف يا قومي إلام سئمنا العيش في ذل وهون
أبِي قد ذاق ألوان العذاب وأختي سبية عند الكلاب
وأمي مزقوها بالحراب وباقي الأهل في تلك السجون
أخي في كل مملكة غنية بدمع العيْن أهديك التحية
فلا تجعلني في القلب نسيّة فأهل الْمال من قومي نسونِي
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [البقرة:215].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
هل تعلمون ـ يا رعاكم الله ـ أن عدد يتامى المسلمين قبل عشر سنوات من إحصائية رسمية يزيد عن خمسة ملايين يتيم، وأن الذين تكفلهم الهيئات الإسلامية فقط من هذا العدد الكبير لا يصل إلى عشرة في المائة فقط، وتسعون في المائة من أيتام المسلمين تكفلهم المنظمات التنصيرية؟! المنظمات اليهودية تذهب بهم إلى الدول النصرانية ليعودوا منصَّرين يا عباد الله.
في إحصائية رسمية كان عدد النصارى في قارة أفريقيا عام 1900م مليون مسيحي، وبلغ عددهم الآن ما يقارب مائة مليون نصراني، زاد العدد تسعة وتسعين مليون بسبب التنصير، بسبب ما تعمله المنظمات التنصيرية، بسبب ما يعانيه المسلمون هناك من جراء تغافل المسلمين. لو أن كل مسلم كفل يتيمًا واحدًا فقط أكثر من مليار مسلم كل واحد يكفل يتيمًا واحدًا من طعامه وشرابه عن طريق هذه الهيئات الإسلامية، ترسل له الطعام والشراب بمبلغ لا يزيد عن مائة ريال في الشهر في كفالة يتيم واحد، فتبقيه مسلمًا يعبد الله سبحانه وتعالى بدل أن يضطر فيبدل دينه، ويكون داعية إلى النصرانية والعياذ بالله تعالى.
أخي الحبيب، لن أذهب بك بعيدًا؛ هل علمت أن عدد اليتامى في هذه المحافظة فقط بإحصائية الجمعية الخيرية أكثر من خمسمائة يتيم؟! في هذه المحافظة لا يجدون معينًا ولا ناصرًا، فمن يكفلهم؟! من يقف معهم؟! أتريدون أن يضطر هؤلاء اليتامى لبيع القات، لبيع المخدرات، للتسول وهم من أبناء جلدتنا ولا يقف أحدنا مع هؤلاء اليتامى؟! إن الوقوف مع هؤلاء اليتامى تحقيق لمبدأ التناصر، لمبدأ التعاضد، لمبدأ التكافل، لمبدأ الإحساس ببنية الجسد الواحد، ((المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضًا)). لو أن كل أسرة من الأسر كفلت يتيمًا واحدًا لما رأينا أيتامًا يا عباد الله. إنها مأساة الأمة، ينبغي أن نتكاتف وأن نتناصر وأن نتعاضد وأن نحس بأن المسلمين تتكافأ دماؤهم ويقوم بذمتهم أدناهم، وأن المسلمين بنيان واحد، ونحقق مبدأ التعاون الذي فرضه الله علينا في قوله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
(1/4382)
إعداد الذات
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
عبد الله بن عبد العزيز المبرد
الرياض
جامع القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق الله تعالى الخلق متفاوتين في قدراتهم وأرزاقهم. 2- الشدائد تصنع الرجال. 3- كيف تسخّر مواهبك في خدمة الإسلام؟ 4- السلف وإعداد الذات. 5- أهمية علو الهمة وسمو الهدف في إعداد الذات.
_________
الخطبة الأولى
_________
إنَّ من بالغِ حكمةِ الله عز وجل أن يجعلَ عباده درجات بعضهم فوقَ بعض، يُقسِّمُ بينهم الأرزاق والأخلاق، ويتمايزون في العلمِ وفي نظرتهم للحياة وفهمهم لحقيقةِ ما خُلِقوا من أجله، ثمَّ تمضي الحياةُ، وتطوي أعمارَ الناسِ فضلائهم ومفضوليهم، ويصيرون إلى ربهم، فمنهم من أعتقَ نفسه، ومنهم من أوبقها، فمنهم من يُقال له: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ويقال لآخرين: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:14].
الحياةُ وأيامُها الغاديات الرائحات هبةُ الله لعباده، وهي كذلك بلاءٌ لهم واختبار؛ كيف يديرونها؟ وكيف يعيشونها؟ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]. أجل، فاللهُ عزَّ وجل يهبُ عبده الحياةَ، ويمدّهُ بأسبابها ليبلُوه، لينظرَ كيف يعمل، كيف يتصرف، كيف يمضيها. يقولُ ابن القيم: "والناسُ قسمان: عِلْيَة، [ومنهم] الشريف الذي عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصدًا الوصول إليه، وهذا هو الكريم. وسَفَلةً، [ومنهم] اللئيم الذي لم يعرف الطريق إلى ربه ولم يتعَرّفها، فهذا هو اللئيمُ الذي قال الله فيه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18]".
ففهمُ الحياةِ على حقيقتها وتحقيقُ العبوديةِ التي هي علةُ الإيجاد وغايةُ الخلقِ والتزامُ الحقِّ والدفاع عنه والجدّيةُ في الالتزامِ بالإسلام هي معارجُ النجاةِ في الدنيا والآخرة، وهي كذلك سرّ عزِّ الأمةِ وسبب قوّتها ومجدها، فدولةُ الإسلام الأولى التي شيَّدها رسول الله إنَّما قامت على أكتافِ الرجالِ الأشدّاء ذوي العزمِ والجدِ والصدقِ والإخلاص، كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعليٍ وأبي عبيدةَ وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، أولئكَ الرجالُ ومن شابههم من أفذاذِ الأمةِ في عصورها المتلاحقةِ أسَّسُوا حياتهم على فهمٍ عميق وإيمانٍ وثيق وجدٍ متّصل، فكان واحدهم كألف، بل إنَّ الأمةَ قد تمرُ بأزمةٍ شديدة أو منعطفٍ خطير فإذا واحدٌ من أبنائها وفردٌ من رجالها يمسكُ بزمامها، فيعصمها الله به من شرٍ عظيم وخطرٍ ماحِق، كما فعل الصدِّيقُ يومَ الردّةِ، وكما فعلَ عُمرُ بن عبد العزيز حين غشَاها الظلمُ والجور، وكما فعل أحمد بن حنبل يوم فتنة خلقِ القرآن، وكما فعل محمدُ بن عبد الوهاب يوم تاهت الأمة في فجاجِ الشرك. كلُّ أولئك وغيرهم إنَّما هم أفرادٌ وهبهم اللهُ من السماتِ والخصائص ما وهبهم، ثمَّ أدّبوا أنفسهم وربّوها، وأكسبُوها من خصالِ الجدِّ والعزم والصدق والصبر ما أهَّلهم للقيادة ورشَّحهم للتأثير والتغيير.
ولأجل ذلك فإنَّهُ لا عجب أن يمرَّ بالأمّةِ أزماتٌ ومحنٌ وشدائدُ، ولكنَّ العجبَ أن لا يخرجَ من أبنائها من يصُدّ عنها، العجبُ أن تنجحَ مشاريعُ الأعداءِ في تشتيتِ اهتماماتِ رجال الأمة، وتنجحَ في تسطيحِ اهتماماتِ شبابها، فلا يعرفون قيمةَ ذواتهم، ولا يفهمون مهمّتهم، ولا يُقدِّرون ما وهبهم اللهُ من مواهب وقدرات، فتضيعُ حياتُهم في الركضِ وراءَ المصالحِ الشخصية أو خلفَ الشهوات الدنِيّة، فتبقى قضايا الأمةِ الكبرى من الدعوةِ والجهاد والنجْدةِ والإغاثة والإصلاح لا نمنحها إلاَّ المواهبَ المتواضعة والأوقاتِ المتقطعة والفكرِ المكدُود.
أخذ عُمر بن الخطاب مجلسهُ من أصحاب رسول الله فقال لهم: تمنّوا، فقال أحدهم: أتمنّى لو أنَّ هذه الدار مملوءة ذهبًا فأُنفقهُ في سبيل الله، ثم قال عمر: تمنّوا، فقال آخر: أتمنّى لو أنَّها مملوءة لؤلؤًا أو زَبَرْجَدًا أو جوهرًا فأنفقهُ في سبيل الله وأتصدقُ به، فلا زالَ يقولُ لهم: تمنّوا حتى قالوا: ما ندري يا أميرَ المؤمنين، ما ندري يا أميرَ المؤمنين، فقال عُمر: أتمنّى لو أنَّها مملوءة رجالاً مثلَ أبي عبيدةَ بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة وحذيفةَ بن اليمان.
أجل، لقد كان مشغولاً بالأفرادِ الأفذاذ الذين تكاملَ تكوينهم إيمانًا وعلمًا وصدقًا وصبرًا وتضحيةً في سبيلِ الله، أولئكَ أنفعُ للأمةِ من الذهبِ والفضةِ ومن اللؤلؤ والزَّبَرْجَد. هؤلاءِ الرجال هم الذين يُغيّرون مَجْرى التاريخ، وهم مَن تقومُ عليهم الحضارات وتسيرُ بهم في الآفاقِ المبادئ والدعوات.
أيَّها المصلون، في كلِ فردٍ منَّا خصائص ومواهب وصفات لو أخدمها للإسلامِ لتغيّرَ طعم الحياةِ في مذاقه، ولأحسَّ بقيمته وقدره، والإسلامُ لا يريدُكَ أن تُغيّر مُيُولَك أو تلغي صفاتِك، وإنَّما يُريدُك أن توجّهها الوجهةَ الصحيحة، يُريدُك أن تزدادَ بها شرفًا ورفعةً، ويُريدُها أن تزيدَك قُربًا من ربك. فمن كان قويًا شُجاعًا مِقْدامًا فعلام يضيعُ ذلك في العبثِ والمغامرات الرياضية والإسلامُ بأمسِ الحاجةِ إلى شُجاعٍ يُقدِّمُ نفسه أو يصدع بالحقِ؟! ومن كان بليغًا فصيحًا فدُونهُ دعوة الحقِّ، فهي أحقُّ بمن كان ناصعا بيانُه وفصيحًا لسانُه، ومن كان رقيق القلبِ سخيّ النفس ليّن الطبع ففي الأمةِ من هُم بأمسِ الحاجةِ لفؤادٍ رؤوف وقلبٍ عطُوف، قال : ((كلٌّ مُيسّرٌ لما خُلِق له)).
فعُمر بن الخطاب كان رجلاً قويًّا شُجاع القلبِ والرأي، إذا اعتنق رأيًا صدعَ به ونافحَ عنه، كان قويًّا في المواجهةِ، قادرًا على التحدّي، ولذلك نالَ المسلمين ما نالهم منهُ وهو على الكفرِ، فلمَّا هداهُ الله للإسلامِ حوّلَ خصائصَ القوةِ إلى خدمةِ الإسلام، سماتُهُ كانت كما هي، ولكنَّهُ استثمرها في الدعوةِ للحقِ والدفاعِ عنه، فالذي كان يتهدّدُ رسول الله أصبحَ اليومَ يصرخُ في وجوهِ الكُفار بشهادة الحق، ويقول: (أحلف بالله لو قد كُنَّا ثلاثمائة رجلٍ لقد تركناها أو تركتموها لنا)، يعني: قاتلناكم في مكةَ حتى تكون لنا أو لكم. فقوّته المُهدرةُ قبل الإسلامِ أصبح يُتاجرُ بها مع الله ويشتري بها الجنة.
وخالدُ بن الوليد الذي كان يهدِرُ فروسيتهُ وخبرتهُ القتالية من أجلِ أهدافِ القبيلة أصبحَ يستثمرُها بعد الإسلام لخدمةِ الرسالةِ العالمية والدين العظيم، فكان يقولُ : (ما ليلة تُهدى إليَّ فيها عروس أنا محب لها أو أُبشّرَ فيها بغلامٍ بأحب إلىَّ من ليلةٍ شديدة الجليد بتُّ فيها مع نفرٍ من المهاجرين أُصبِّحُ بها العدو).
أجل، إنَّ الخسارةَ أن يَهبَك اللهُ عقلاً سليمًا وجسمًا صحيحًا ويُنعمُ عليك بما لا تعدهُ من النِّعم والمواهبِ والقدراتِ والحياةِ المديدة ثم تضيعُه من بين يديكَ في تافهِ الاهتمامات، وهل أعظمُ من أن يخسرَ الإنسانُ نفسه؟! ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، ولذلك سمّى اللهُ القيامة يوم التغابُن؛ لأنَّ فيه غَبْنًا وحسرةً وألمًا وندامةً على فُرصٍ ضاعت وقُدراتٍ أُهدرت ومواهبَ أُهملت. يومَ القيامةِ يُنادى كل عبدٍ بحسبِ اهتماماتهِ في الدنيا، قال : ((فمن كان من أهلِ الصلاةِ دُعي من باب الصلاةِ، ومن كان من أهلِ الجهادِ دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهلِ الصيامِ دُعي من باب الرّيّان، ومن كان من أهلِ الصدقةِ دُعي من باب الصدقة)) ، فقال أبو بكرٍ وكان ذا همةٍ عاليةٍ ونظرةٍ طموحةٍ: يا رسول الله، ما على أحدٍ يُدعى من هذه الأبواب من ضرورة؟ ـ ويعني: من أيّ بابٍ دُعي الإنسانُ ما دام سيدخُلُ الجنةَ، فليس عليه من بأسٍ أن يُدعى من باب الصلاةِ أو من باب الزكاةِ أو من باب الصومِ أو من باب الجهادِ أو من غيرها ـ فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبوابِ كلها؟ قال : ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)).
إنَّ جماع الخيرِ ومِعْراج الفلاح أن تربّي نفسك على أن تعشق المعالي والأهداف العظيمة، أن تعرف قيمةَ ذاتك، وأن تنعتق من الدَّورانِ حولَ نفسك؛ فليست الحياةُ الكريمةُ أن تلبسَ أحسنَ اللباس وتسكُن فارِهَ المساكن أو تحوز أضخمَ الأرصدةِ، ليس ذلك هو النجاحُ، وليس هو التفوقُ، بل هو الإخفاقُ بعينه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدرهم، تعس عبدُ الخميصةِ، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط منها سخط، تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انْتَقَش)). انظر كيف نعتهُ رسول الله بالعبوديةِ للدرهمِ والدينار والخميصةِ، وليس بعد ذلك دناءة، وذلك وصفٌ لأهلِ الدنيا المشتغلين بها الذّاهِلين عمّا خُلِقوا من أجله، فلا يَعنيهم شيءٌ من أحوال أمتهم ولا دينهم. ثمَّ يمضى الحديثُ الشريف يذكر صنفًا يُقابلُ هذا الصنف ويُعاكسه في السعي والاتجاه، فيقولُ : ((طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرّةٌ قدماه، إن كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ، وإن كان في السَّاقةِ كان في السَّاقة، إن استأذنَ لم يُؤذن له، وإن شفعَ لم يُشفَّع)) ، فهو كبيرُ الهدف عظيمُ النفس حتى وإن بدا في أعين الناسِ لا شأن له، فلا يضرهُ ذلك، فقد قال فيه : ((طُوبى له)).
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ الإسلامَ يأبى لأتباعه أن يمضوا حياتهم صرعى شهواتٍ وأُسارى ملذاتٍ، يأبى لهم أن تتضاءلَ أهدافُهم حتى تنحصرَ في جمعِ المالِ أو تَبَوُّء منصبِ أو بناء بيتٍ أو زواج أو غيرها، ولو كانت هذه هي أهدافُ المؤمن فإنَّهُ لا فرقَ بينه وبين غيرهِ ممن حُرم نورَ الإيمان، فليس بمؤمنٍ من بات عقلُه مَسْبِيًّا في بلادِ الشهوات، وأملُهُ موقوفًا على اجتناءِ اللذّات، وسيرتهُ جارية على أسوأ العادات، ودينه مستهلكًا بالمعاصي والمخالفات، وهمتهُ واقفةً مع السُّفْلِيّات، وعقيدتُه غير مُتلقّاة من مشكاةِ النبوات، فهو في الشهواتِ مُنغَمِس، وفي الشُبهات مُنتَكِس، وعن الناصحِ مُعرض، وعلى المرشدِ مُعترِض، وعن السرّاءِ نائمٌ، وقلبُهُ في كلِ وادٍ هائم. ومن لم يربِّ نفسهُ فمن يُربّيه وقد بلغَ رُشدهُ واستوى على أشدّه؟! لقد جاءتنا نُذرُ ربنا: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
(1/4383)
أمانة الكلمة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, نواقض الإيمان
عبد الله بن عبد العزيز المبرد
الرياض
جامع القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على القراءة في أول آية نزلت من القرآن. 2- بيان منزلة القلم في المعرفة والحضارة. 3- حَمَلة الأقلام ما بين المؤمن والمنافق. 4- القارئ الإيجابي والقارئ السلبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بما وصّى الله به عباده من تقواه، فاتقوه واخشوه حقّ الخشية، ولتقم حياتكم على التقوى وموتكم عليها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأنتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المؤمنون، لقد جاءت أول رسالة من السماء تنوّه بالقلم وشأنه والقراءة وخطرها: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنسَان مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق:1-4]. وهذا الخطاب موجّه إلى نبي أمي وأمّة أميّة لا تقرأ ولا تحسب، وكأنّه إشارة إلى تحوّل عظيم قادم في شأن هذه الأمة، وفيه إيماء إلى الدَّور الذي تؤديه آلة الكتابة، فالقلم من أوسع وأعمق أدوات الفكر أثرًا في حياة الإنسان، ولذلك جاءت الإشارة إليه في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة في حياة البشر، جاءت الإشارة إليه في أول كلمة من القرآن، كما جاء القسم الإلهي العظيم به في أول سورة القلم: ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [القلم:1، 2].
فآلة القلم التي عظمت قيمتها بِقَسَم الله بها هي مَطِيّة الفِكر وأداة العلم وناقلة المعرفة، بها تستطيع الأمة نشر دعوتها وبثّ عقيدتها والإعلان عن منهجها في الحياة ونظرتها للخلق والخالق وتصوّرها للبداية والمصير، ففي القَسَم بالقلم ما يشير إلى الدور الحضاري الفكري الذي ينتظر هذه الأمة، فبأسِنّة الأقلام بلغت دعوة الإسلام بلاد الروم والفرس ومماليك اليمن والأحباش، بلغتها أقلام الإسلام قبل أن تبلغها سيوفها والرماح، وبأسِنّة الأقلام حُفِظ تراثُ الأمة وخُطَّت المصاحف ودواوين السنة ومدونات الفقه واللغة، وبها حُفِظ التاريخ والأدب، بأقلام المسلمين رصدت حركة عصور السلف بكل دقّة وبراعة، فإذا قرأت فيما خطّته الأقلام فكأنما تعيش مع القوم وتسمع حديثهم.
وما دام قلم المسلم يكتب باسم ربه الذي خلقه فالكلمة التي يخطها كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها، ما دام قلم المسلمين يكتب باسم ربه فلن تقوم على الإسلام شبهة, ولن يستبدّ بالمسلمين جهل ولا عماية، فالقلم المسلم سيف مشروع في ساحة الجهاد الفكري وميدان المواجهة المعرفية، ولن يُغلَب قلمٌ يكتب باسم الله وينشر كلمة الله. وإذا كان أهل الكفر يغمسون أقلامهم في محابر الشرك وظنون البشر وآرائهم فقلم الإسلام يرتوي من محبرة القرآن والسنة، ثم يكتب باسم الله.
ولكن يعظم الخطر على أمة الإسلام إذا أمسك بالأقلام منافقوها وجُهّالها ومخدوعوها والمفسدون، وباتوا يخبطون بأقلامهم في أديم أمّتهم، ويسخرون من أهل الفضل فيها، ثم يصبِّحون مجتمعاتهم بكل بَليّة على صفحات الصحف أو في شبكات المعلومات، وأولئك الكَتَبة الآثمون أصناف عدّة، أشَرّها وأضرّها وأشدّها فتكًا بالأمة المنافقون، وذلك أن الكتابة الصحفية تعتمد على جمال الأسلوب وجاذبية العرض، وتلك مهارة لها سلطان على القلوب، شهد لهم القرآن: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة:204]، فأقوالهم تعجب السامعين بمسلسل أفكارهم وجمال عباراتها وروغان معانيها، وفي حقيقتها ومحصّلتها النهائية إفساد وزلزلة للثوابت وطعن في أهل الخير من علماء الأمة، يسخرون منهم في حياتهم وبعد مماتهم، مستغلّين في سبيل ذلك كل ظرف مؤلم وحدث حَرِج، فأقوالهم المُنَمّقَة وأفكارهم المصفّفة هي في حقيقتها إفساد في الأمة وبَلْبَلة وفتنة، ورغم ذلك يقولون عن أنفسهم: أهل رؤية ناقدة وروّاد إصلاح، وصدق الله عز وجل: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. فأبرز سمة من سماتهم أنهم أوتوا سلطان القول والصورة: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، فظواهرهم حسنة، ولكنّ حَشْوَهم شرٌ وفساد وحَنَق على المجتمع.
ومن أعظم مصائب الأمة اليوم ظهورهم على ساحات ثقافتها، فإذا ما وقع خطب أو ألمّت نازلة كانوا هم أول من يقول كَلِمَه، وأول من يُصْدِر رأيه وبيانه، فتعليقاتهم على الأحداث وتقسيمهم للمواقف هو أول ما يعلق في نفوس الناس ويثبت في أذهانهم، وقد نبّأنا القرآن أنّ فينا سمّاعين لهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47]. فلا زالوا يستخفّون بالحجاب ويلمزون المؤمنين والمؤمنات، مستغلّين كل حدث، حتى اضمحلّت الغيرة في نفوس كثير من الرجال، وتخرّقت جلابيب الحياء والعفّة عند بعض النساء، ولا زالت أقلامهم تنهش كل فضيلة وتلدغ كل ذي دين، ولا زال الناس يقرؤون ما يُكتب لهم.
ويتبع أولئك المنافقين بعضُ جُهّال الكَتَبَةِ الذين خلب ألبابَهم بريقُ الشُّهرة، فصاروا يسايرون التيّار، ويهذون بما لا يعرفون. ولقد حرّم الله الكذبة العابرة التي تُقال في المجلس العارض، فكيف بكذبة الكاتب وفِرْية القلم التي تخلد على مرِّ العصور وتطير في الآفاق؟! وليُسألُنّ عمّا كتبوا.
وما من كاتب إلا سيفنى ويبقى الدهرَ ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفّك غير شيء يسرّك في القيامة أن تراه
فالصحفي الذي ينشر للخلائق خبرًا باطلاً أو تحليلاً مُغْرضًا أو تعليقًا زائفًا ويخدع الناس في القضايا الكبرى والمُغْرض الذي يرمي بالبهتان ويقذف بالتهم وتشيع قالتُه في الناس ذلك متوعّد بأفظع العذاب وأشنعه، ففي خبر البخاري عن النبي فيما حدّث به مما رآه من أنواع عذاب أهل النار، فكان مما قال عليه الصلاة والسلام: ((أما الذي رأيته يُشَقّ شِدْقُةُ فكذّاب يكذب الكذبة فتُحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيُصنع به إلى يوم القيامة)). ومثل ذلك من يكذب على الناس في شبكات المعلومات أو أي وسيلة ينشر بها كذبته ويبث بها بذاءته، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله يا مسلمون.
إن مما يُشغِلُ الناسَ أوقاتَ فراغهم النظرُ في مواقع المعلومات المشهورة أو الصحف المنشورة، والناس صنفان: صنف إيجابي الاطلاع، ينظر بعين الناقد وروح الغيور، فإذا رأى خيرًا تواصل معه وشجّعه وأثنى على أهله، وإذا رأى زورًا انبرى له يفنّده ويرد عليه ويناصح كاتبه، أو يحثّ من هو أقدر على مناقشته ومحاورته؛ ليرتدع عن غِيّه ويكفّ عن باطله، ومن الناس من هو سلبي الاطلاع، لا تشبع عيناه من قراءة الصحف وهو مع ذلك لا يحقّ حقًّا ولا يبطل باطلاً، فهو كَلٌّ على أمته، فذلك إن لم يستطع أن يتحرك نحو الدفاع عن الحقيقة فلا أقل من أن يُعرض عن اللغو ويكفّ عن قراءة سيئ الصحف، ففي كفّه عنها فضيلة الإعراض عن اللغو، وتلك من شمائل المؤمنين: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55]، وقال عز وجل: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3].
بل القراءة السلبية لما يكتبه المبطلون قد تكون مَرتبة من مراتب النفاق وخذلان الدين، وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، فكفّك عن اقتناء تلك الصحف والمجلات والمواقع فيه حفظ لقلبك ودينك وإبقاء على مالك، وفيه ردع لها ولأهلها الذين يتقوّون بأموال المسلمين على النيل من دينهم.
أما القادرون من أهل الأقلام على المنافحة عن دين الله وأهله وعن الحق وقضاياه فإنهم غير معذورين بسكوتهم، إنهم مطالبون بالذَّوْد عن العقيدة والأخلاق، إنهم مطالبون أن يُبيّنوا للناس حقيقة الفرق بين حرية الفكر وجريمة الكفر، وبين المناقشة والمشاقّة لله ورسوله، ولئن كتبوا باسم الله فليكون لأحرفهم نور وضياء، فالذي يكتب لنصرة الرحمن ليس كمن يكتب لنصرة الشيطان، والذي يكتب غيرة لله ورسوله ليس كمن يكتب طلبًا للشهرة وسعيًا للظهور، والكاتب المحتسب ليس كالكاتب الأجير.
لا يستوي قلم يُباع ويُشترى ويَرَاعَةٌ بدم الْمحاجر تكتبُ
(1/4384)
عبودية القلوب
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, الألوهية, التربية والتزكية
عبد الله بن عبد العزيز المبرد
الرياض
جامع القدس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العبودية أسمى مراتب التشريف. 2- مفهوم العبودية الصحيحة. 3- أثر العبودية على حياة الفرد والمجتمع. 4- عقوبة من علّق قلبَه بغير الله. 5- أحوال الناس مع العبودية في العصر الحاضر.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله، فهي وصيةُ الله إليكم، وهي خيرُ لباسٍ في الدنيا، وخيرُ زادٍ إلى الآخرة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيّها المؤمنون، إنَّ جميعَ الرسل عليهم صلواتُ الله وسلامهُ وكلَّ الكتب التي أنزلها عليهم إنَّما جاءت لدعوةِ الخلقِ لعبادة اللهِ تعالى وحدهُ لا شريك له: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [لأعراف:65]، وما بَرَأَ اللهُُ الثقلين إلاَّ لعبادته: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
ولقد جعلَ اللهُ العبُوديةَ وصفًا لأكملِ خلقه وأحبهم إليه وأقربهم منه، وهمُ الأنبياءُ المرسلون والملائكةُ المُقربون: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:172]، ولما سألَ جبريلُ محمدًا عليه الصلاة والسلام عن الإحسان ـ وهو أعلى مراتب العبوديةِ ـ قال: ((أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراك)).
يكونُ ابن آدمَ في أعلى درجاتِ الإنسانيةِ وأسمى مراتبِ الشرفِ وأسمى درجاتِ الكمال بقدرِ ما يُحققُ من العبودية، يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية: "كمالُ المخلُوق في تحقيقِ عبوديتهِ لله تعالى، وكلَّما ازداد العبدُ تحقيقًا للعبوديةِ ازداد كمالهُ وعلت درجتُه".
فما حقيقةُ العبودية؟ وكيف يرتقي المسلمُ في معارجها؟ كيف يعرفُ المسلمُ من نفسه كمالها ونقصها؟ أهي مظاهرُ الاستقامةِ التي قد يفرضها المجتمعُ على أبنائه، أم هي رسومُ العباداتِ التي قد تتحوّلُ مع خواءِ القلبِ إلى عاداتٍ ووظائف يومية تُفرغُها الغفلةُ من مضامينها؟!
أيّها المؤمنون، إذا كانت العبوديةُ لله هي غايةُ الخلقِ وسرَّ وجودهم فإنَّ أيَّ خللٍ فيها يعني خللاً في الإنسانِ ذاته وانحرافًا في مسيرتهِ، بل إنَّ الخللَ في العبوديةِ يعني خللاً في الوجود الإنساني بأسره، فعبادةُ اللهِ جلَّ وعلا هي المنهجُ الذي يحفظُ لهذا الكونِ انتظامهُ وسيرهُ دُونما تخبّطٍ في أيِّ ناحيةٍ من نواحي الحياةِ، وأيّ انحرافٍ عن العبادةِ الحقّة أو نقصٍ فيها يعني أنَّ الحياةَ ستميلُ إلى الفسادِ العريض في كل مجالاتها الاجتماعيةِ والاقتصادية والسياسيةِ والفنية وغيرها، وما هذا الانحطاطُ الأخلاقي التي تُعانيه البشريةُ، ومَا ذلك الظلمُ الذي تُقاسيهِ الإنسانيةُ إلاَّ بسبب اختلالِ العبادةِ في قلوبِ البشر، بل إنَّ المُشكلاتِ التي تُعانيها أنت ـ أيَّها المسلمُ ـ في حياتك الزوجية أو الوظيفية، ما هذا الرَّهَقُ والنَّزَقُ والضيقُ والتبرّمُ المتفَشّي في الناس إلا بسببِ خللٍ أصابَ العبادةَ، تراهم يُحبّون أولادهم ويكونُ شقاؤهم بهم، وتراهم يُحبون أزواجهم ثمَّ تكونُ تعاستهم معهم، وترى الإنسان يجمعُ المالَ والمالُ هو الذي يُشقيه ويضنيه، وتراه يعشقُ المناصبَ وفيها يكون عَنَتُهُ؛ ذلك أنَّ من أحبَّ شيئًا دون اللهِ عُذِّب به.
وأكثرُ الناسِ لا يفطنون إلى نقصِ العبوديةِ وضعفها في حياتهم، إذ إنَّهم بزعمهم يُصلون مع المصلين ويصومُون مع الصائمين ويرحلون مع الحجاج ويؤوبون معهم، إنَّهم لا يدرون أنَّ شقاءهم أتاهم من نقصِ عبوديةِ القُلوب، من جفافها وقسوَتها، وإذا أعرضتِ القلوبُ عن العبادةِ فما عبادةُ الجوارح بمغنيةٍ عن صاحبها شيئًا، حتى وإن لبسَ مَسُوح الصالحين.
أيّها المؤمنون، لنعُد إلى الغايةِ التي خُلقنا من أجلها، ولنفُكّ قلوبنا من شقاءِ الدنيا ومُشكلاتها، لنتخلص من لأواءِ الحياةِ وضغوطها، دعونا نفقهُ عن ربنا حقيقةَ العبادة التي أرادها منَّا، فلقد قالَ عز وجل: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، ويقولُ الرسولُ : ((من لم يدع قول الزورِ والعملَ به فليس لله حاجة من أن يدعَ طعامه وشرابه)) ، وقال عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والآيةُ هنا تُقّرر الصلاة المطلوبة، فهي التي تصونُ صاحبها من الانحراف.
فحقيقةُ السعادةِ التي يطلبُها الناسُ في دنياهم وأُخراهم لا تُنالُ بما تُمارسهُ الجوارحُ من أشكالِ العبادة، وإنَّما تُنالُ بما يقومُ في القلبِ من أعمالٍ كالإخباتِ والتذللِ والخضوع والحبِ لله والأُنس به والخوف منه والانكسار له، فشرودُ القلبِ في مواطنِ العبادةِ من أعظمِ المصائبِ التي تصيبُ الإنسان في حياته، وذلك أنَّ العبادةَ التي تؤديها جوارحهُ ولا تقومُ في قلبه لا تتركُ الأثرَ المطلوب على نفسه، فلا يحصلُ بها أجرٌ، ولا يتحققُ أنسٌ وطمأنينة ولا راحةٌ، يقولُ : ((إنَّ الرجل لينصرفُ من صلاتهِ وما كُتبَ لهُ إلا عُشر صلاته، تُسعُها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خمُسها، رُبعها، ثُلثها، نصفُها)). وإذا استمرَّ القلبُ في الشرودِ في ثنايا العبادةِ تحولت إلى حركاتٍ ظاهرةٍ وشكلياتٍ يعتادُها، ليس لها تأثيرٌ على سلوكهِ ولا ظلّ على أقواله وأفعاله، وذلك تفسيرُ ما تراهُ من مخالفاتٍ وجرأةٍ على المعاصي وبذاءةٍ في الأقوالِ ونزوعٍ إلى الشهوات وطمعٍ في الدنيا من أُناسٍ هم من روّادِ المساجد الراكعين الساجدين، بل ذلك علّة ما نعيشُ من مشكلاتٍ في بيوتنا، مع أننا نرى أنفسنا قد أدَّينا ما علينا من العبادات.
واستمع إلى السلفِ الصالح وهم يُعلّمون أمتهم معنى العُبوديةَ الحقيقية، يقولُ ابن جرير: "معنى العبادةِ: الخضوعُ لله بالطاعةِ والتذلّلُ لهُ بالاستكانة"، وقال القاضي أبو يعلى: "حقيقةُ العبادةِ هي الأفعالُ الواقعةُ للهِ عز وجل على نهايةِ ما يُمكنُ من التذلّلِ والخضوع"، ويقولُ ابن تيميةَ عليه رحمةُ الله: "العبادةُ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يُحبّهُ اللهُ ويرضاه، من الأقوالِ والأعمالِ الباطنةِ والظاهرة"، فالصلاةُ والزكاةُ والصيامُ والحجُ وصدقُ الحديثِ وأداءُ الأمانةِ وبرُ الوالدين وصلةُ الأرحام والوفاءُ بالعهودِ والأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر والجهادُ للكفارِ والمنافقين والإحسانُ إلى الجارِ واليتيم والمسكينِ وابن السبيلِ والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاءُ والذكرُ والقراءةُ وأمثالُ ذلك من العبادةِ، وكذلك حبُّ اللهِ ورسُوله وخشيةُ اللهِ والإنابة إليه وإخلاصُ الدين له والصبرُ لحُكمهِ والشكرُ لنعمه، والرضا بقضائهِ والتوكلُ عليه والرجاءُ لرحمتهِ وخوفهُ لعذابهِ وأمثالُ ذلك هي من العبادة.
ألا فلنسأل أنفُسَنا بصدقٍ وإلحاحٍ: كيف حظُّنا من تلك الأنواعِ والأبواب؟ ولنسأل مرةً أُخرى: كيف انحسرَ مفهومُ العبادةِ في أضيقِ الحدُودِ، حتى صارَ عند بعضَ الناس مظاهرَ خاويةً يؤديها بجسدٍ لا قلب فيه؟! ثمَّ يتساءلُ ويتساءلُ المجتمعُ معه: من أين تأتينا المصائبُ والشدائدُ والخلافات ونكدُ العيش؟! قل: هو من عند أنفسكم.
أيّها المؤمنون، أعظمُ عقوبات القلوب الشاردةِ عن عبادةِ الله أنَّها تقعُ في عبادةِ غيره وتصيرُ أسيرةً لدى سفاسفِ الأُمور ومحقرات الأشياءِ، يقولُ ابن تيميةَ رحمهُ الله: "الاستقراءُ يدلُ عن أنَّه كلّما كان الرجلُ أعظم استكبارًا عن عبادةِ الله كان أعظم إشراكًا، فمن لم يكُن اللهُ معبوده ومنتهى حبّهِ فلا بدَّ أن يكون لهُ مراد محبوب يستعبدُهُ غير الله، فيكونُ عبدًا لذلك المراد المحبوب، إمَّا المالُ، وإمَّا الجاهُ، وإمَّا الصورُ، وإمَّا ما يتخذُهُ إلهًا من دون الله". أجل، ولذلك قالها في الحديثِ الصحيح: ((تعسَ عبدُ الدينار، تعسَ عبدُ الدرهم، تعسَ عبدُ الخَمِيصةِ، تعسَ عبدُ القطيفة)). ومن تشعّبَ قلبهُ بين المحبوباتِ ذاقَ ألوانَ القلقِِ والحيرةِ والشك، وعاشَ ممزقَ النفسِ مشتتَ العقلِ، وما ظنُّك بعبدٍ له أسيادٌ مختلفون، كلٌ يأمُرهُ حسب هواه، فلا يدري من يعصي ومن يُطيع؟! إذا رضي هذا يهيجُ سخط ذاك، قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:29].
فما أكثرَ من استبعدَ قلبهُ المال، فكان فيه نشاطهُ وكسله، وعليه رضاهُ وغضبه، وفيه حبّهُ وبغضهُ. وما أكثرَ من استأسر قلبهُ الشهوات، فباتَ عليها عاكفًا، ومنحها عزيزَ أوقاتهِ وثمرةَ حياته. وما أكثرَ من استذلتهُ المناصبُ، فصارَ يسكتُ عن الحقِّ طمعًا فيها، وينطقُ بالباطلِِ خوفًا عليها. وما أكثرَ من استرقّتهم النساء، فأصبحوا وأمسوا يغشون المعاصي طاعةً لهنَّ، ويغفَلون عن الطاعاتِ تقربًا منهنَّ. فهم في ظاهرِ أمرهم أسياد، ولكنهم على الحقيقةِ أسرى مستعبدون، فقُلوبُهم شَتَات، وحياتُهم قلقٌ واضطراب.
أين هم من العارفين الذين سكنت قلوبُهم لخالقها واطمأنت نفُوسهم لبارئها؟! فكلُ ما سواه في أنفسهم حقير، وكلُّ ما عداهُ عندهم هيّن، يقولُ عنهم ابن القيم رحمهُ الله: "وجملة أمرهم أنَّهم قومٌ امتلأت قُلوبهم من معرفةِ الله، وغُمِرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسَرت المحبةُ في أجزائهم، فلم يبق فيها عِرقٌ ولا مفصلٌ إلاَّ وقد دخلهُ الحبُّ، قد أنساهم حبُّه ذكرَ غيره، وأوحشهم أُنسُهم به ممن سواه، وبخوفهِ ورجائهِ والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه، فشغلوا بحبهِ عن حبِ من سواه، وبذكرِه عن ذكرِ من سواه.
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلموا ـ أيّها المؤمنون ـ أنَّ الإنسانَ بطبعهِ يعشقُ الحريةَ ويبذُلُ دمهُ في سبيلها، ويأبى العبوديةَ ولا يقبلها بأي ثمن، ولكنَّ الناسَ في زمنٍ عبثت فيه ثقافةُ الكُفرِ بالمصطلحاتِ والمفاهيم لا يعرفون في الغالبِ حقيقةَ الحُريةِ التي يُريدون. فالذين يطلبون الحريةَ في نُظم الجاهلية ومادية الشهوات إنَّما هم ضالونَ مُضلون، وهمُ الذين يدفعون بالمجتمعِ في وَهْدَةِ الاستعبادِ والرِّق.
انظروا إلى العالمِِ الذي يعيشُ واقعهُ المرير، ففيهِ أكبرُ شاهدٍ على تحوّلِ البشريةِ إلى حالةٍ من الاستعباد، فالأقوياءُ يستعبدون الضُعفاء، والأغنياءُ يسترقّون الفقراء، وتجّارُ الشهواتِ يأسِرون عبيدها، وذلك على مستوى الأفرادِ والمجتمعات والدول، في ثقافةِ المصالحِ يصبحُ الناسُ عبيدًا لكُبرائهم وتجَّارهم، وتُصبحُ الإنسانيةُ في دوائرٍ من الرِّقِ بعضُها ملفوفٌ على بعض، فلا ترى فيها حُرًّا ولا طليقًا.
فالحريةُ الحقّةُ في ميزانِ الشرعِ وثقافةِ الإسلامِ هي حريةُ القلبِ، فمن تحرّرَ قلبهُ من كلِّ قوى الأرضِ وشهواتها فهو الحُرُّ الطليق، ولا سبيلَ لنفسٍ أن تُعتق من الأرض وما فيها إلاَّ إذا دخلت في عُبوديته عزَّ وجل، يقولُ شيخُ الإسلام ابن تيمية: "إنَّ الرقَّ والعبوديةَ في الحقيقةِ هو رقُّ القلبِ، فما استرقّ القلب واستعبدهُ فالقلبُ عبده"، ولهذا يُقالُ: "العبدُ حرٌ ما قنع، والحرُّ عبدٌ ما طمع".
وكلما قوي طمعُ العبدِ في فضلِ اللهِ ورحمتهِ ورجائه لقضاءِ حاجتهِ ودفعِ ضرورته قويت عُبوديتهُ وحريتهُ عما سواه، فكمالُ الشرفِ والحريةِ في كمالِ العُبوديةِ لله والإنابةِ إليه والسكونِ إليه والتذللِ والانكسارِ بين يديه، أولئك أدرى الناس كيف تُدارُ الحياةُ، وأعرفهم كيف تُدركُ الآخرة، أولئك يَعيشون ملوكًا لا يُذلّون، أغنياء لا يفتقرون، آمنينَ لا يخافون، أحرارًا لا يُستعبدون، طُلقاءَ لا يُسجنون، أولئك هم أسعدُ الناس وأعقلُ الناس وأفقههم، أولئك هم الذين أسلموا وجُوههم وقُلوبهم لله، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22].
وصلّى الله وسلّم على محمد...
(1/4385)
قاتل العفة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, الإعلام, الكبائر والمعاصي
محمد بن إبراهيم السبر
العريجاء
جامع الأميرة موضي السديري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة الغناء. 2- أدلة تحريم الغناء. 3- من مضار الغناء ومفاسده. 4- كلمة لأولياء الأمور. 5- نداء لمنتجي الغناء ومصدريه وسامعيه. 6- الغناء وأحوال الأمة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: آفة من الآفات، وبليّة من البليّات، ومرض من أمراض القلوب المفسدة لها، يقول عنها العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "فلعمرو الله، كم من حُرّةٍ صارت به من البَغَايا، وكم من حُرٍّ أصبح به عبدًا للصبيان والصبايا، وكم من غيورٍ تبدّل به اسمًا قبيحًا بين البرايا، وكم من ذي غنى وثروة أصبح بسببه على الأرض بعد المَطَارِف والحَشَايا، وكم أهدى للمشغوف به أشجانًا وأحزانًا، وكم جَرّ من غُصّةٍ وأزال من نعمةٍ وجلب من نقمةٍ، وكم خَبأ لأهله من آلام منتظرةٍ وغموم متوقّعة وهموم مستقبلة".
أتدرون ـ يا رعاكم الله ـ ما هذه الآفة والمشكلة التي ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله؟! إنها استماع الأغاني والمعازِف، إنها الغناء والطرب ولواحقه من الحفلات والمهرجانات والمناسبات التي عمودها الغناء وآلات المعازف، وخيمتها الغفلة عن ذكر الله جلّ وعلا.
الغناء ـ يا عباد الله ـ من أعظم الأسباب التي تصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وتُشغل عن فعل الطاعات والخيرات، الأغاني والمعازف وآلاتهما على اختلاف أنواعها وتعدّد أشكالها، تلكم الجراثيم والأوبئة التي احتلت غالب بيوت المسلمين اليوم إلا من رحم الله وقليلٌ ما هُم، بل وحاصرت البيوتَ التي لم تستطع دخولها حصارًا شديدًا، تحاول الدخول فيها والتغلغل إلى ساكنيها بالّتِي واللُّتَيَّا.
الأغاني وما أدراكم ما الأغاني؟! التي فُتن بها كثيرٌ من الرجال والنساء الذين ضعف إيمانهم، وخفّت عقولهم، واقتدى بهم شبابُ الأمة من بنينَ وبناتٍ، فشغلوا أوقاتهم، وملؤوا أرجاء بيوتهم وسياراتهم بأصوات المغنين والمغنيات التي تبثّها الإذاعات، وتصوّرها القنوات، بل وخصّصت لها المتاجر والمحلات.
وإن من عظم البليّة ـ يا عباد الله ـ أن وُضِعت جمعيات بل وزارات لما يُسمّى تضليلاً: الثقافة والفنون والمسرح، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن وراء ذلكم الصحف والمجلات والقنوات الماجنة التي تنوّه بشأن هؤلاء المطربين والمطربات، وتنشر أسماءَهم وصورَهم على صفحاتها مُعرّفةً الناس بهم، ومُصدّرةً لهم، ومُروّجةً لبضاعتهم المنتنة الخبيثة، حتى لقد أصبح بعض شباب الأمة الإسلامية في هذه الأعصار المتأخّرة يعرف عن هؤلاء المغنين والمغنيات وأغنياتِهم كُلَّ دقيق وجليل، ويعرف مواقيت بثّها آناء الليل وأطراف النهار، ولو سألته عن مواقيت الصلاة لقال: لا أدري، ولو سألته عن أمور دينه لقال: هاه، هاه، لا أدري. وكيف يدري، ومن أين له أن يدري وهمته متجهة لضد ذلك؟! وكيف له بالهداية وبعض وسائل الإعلام تلقّنه أغنيةَ فلانٍ وفلانة، وتعلن مواعيدَ بثها في كل ساعة؟! وأنّى له بالسلامة والنجاة وبعض الإذاعات والقنوات ـ لا حيّاها الله ـ همّها تصدير الأغاني وتطوير الفساد على نحو ما يسمونه: فيديو كليب؟! وله من اسمه نصيب.
أيها المسلمون، من كان في شك من تحريم الأغاني والموسيقى والمعازف فليُزِل الشك باليقين من قول رب العالمين وهدي الرسول الأمين في تحريمها وبيان أضرارها، فهناك النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على تحريم الأغاني والوعيدِ الشديد لمن استحلّ ذلك أو أصرّ عليه. والمؤمنُ العاقلُ المستجيبُ لربه المطيعُ لرسوله يكفيه دليل واحدٌ من كتاب الله أو صحيح سنة رسول الله، فكيف إذا تكاثرت الأدلة على تحريم ذلك، وأجمع العقلاء على تسفيه فاعل ذلك؟! قال الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36].
فاقرؤوا ـ وفّقكم الله ـ قولَ ربكم جلّ في علاه في تحريم الأغاني وتحذِيركم منها ووعيد من استعملها أو استمع إليها، يقول ربنا جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6، 7]. قال الواحدي وغيره: "أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناءُ، قاله ابن عباس وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما"، وقال أبو الصَّهْبَاء: سألت ابنَ مسعود عن قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ فقال: (والله الذي لا إله غيره، هو الغناء) يردّدها ثلاث مرات، وذكر ابنُ كثير عن الحسن البصري: "نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير".
أما الغناء مع الموسيقى فأمرُه أشدُّ وأنكى، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه معلّقًا بصيغة الجزم عن أبي مالك الأشعري قولَه : ((لَيَكُونَنَّ من أمتي أقوامٌ يستَحِلّون الحِرَ والحَرِيرَ والخَمرَ والمَعازفَ)). وقد حاول قومٌ أن يطعنوا في هذا الحديث، فقالوا: إنه معلّقٌ لا يُحتَجّ به، ولكن البخاري رحمه الله رواه معلّقًا بصيغة الجزم، وهو في اصطلاحه صحيحٌ ثابتٌ، وقد رُويَ متصلاً صحيحًا في كتب أخرى من كتب السنة، فرواه أبو داودَ وابنُ ماجه والترمذيُ وأحمدُ وغيرهم، ولو لم يكنْ في تحريم الأغاني إلا هذا الحديثُ لكفى.
وعن أبي مالك الأشعري أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((لَيَشْرَبَنّ ناسٌ من أمتي الخمر، ويسمّونها بغير اسمها، يُعزَف على رؤوسهم بالمعازِف والقَيْنَات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير)) رواه أحمدُ وابنُ حبان وصحّحه وابنُ ماجة واللفظ له وصححه ابنُ القيم والألباني.
وعن عمرانَ بنِ حُصينٍ أن رسول الله قال: ((في هذه الأمة خَسْفٌ ومَسْخٌ وقَذْفٌ)) ، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله، ومتى ذاك؟ قال: ((إذا ظهرت القَيْنَات ـ أي: المغنيّات ـ والمعازِف وشُرِبت الخمور)) رواه الترمذي وصححه الألباني. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "ومن لم يُمسَخ منهم في حياته مُسِخ في قبره".
وقال : ((إنَّ الله حرّم على أمتي الخمر والميسروالكوبَة والغُبَيْراء)) رواه أحمدُ وأبو داودَ وصححه الألباني في صحيح الجامع. والكَوْبَة هي الطبْل.
وعن أنس قال: قال رسول الله : ((صوتانِ ملعونانِ في الدنيا والآخرة: مزمارٌ عند نعمة، ورَنّةٌ عند مصيبة)) رواه البزار بإسنادٍ جيد وصححه الحافظُ الضياء المقدسي وغيرُه.
عبادَ الله، لقد حرم الله الغناء في مكة قبل الهجرة، وقبل أن تُفرضَ كثيرٌ من الفرائض، وقبل أن تحرّمَ سائر المحرمات كالخمرة وغيرها، وذلك لخطورته على الأخلاق والسلوك، ولكي يشُبَّ القلبُ ويُبنى على الطهارة والفضيلة من البداية.
أيها الأحبة في الله، إن مفاسدَ استماع الأغاني كثيرة وآفاتها خطيرة، ولعل من أهمها أنه يُفسدُ القلب، قال الضحاك بنُ مُزاحِم: "الغناءُ مَفْسَدَة للقلب مَسْخَطَة للرب".
ومن مضارّه أنه يُنبِت النفاق في القلب كما يُنبِت الماءُ البقلَ والزرعَ كما قال غير واحدٍ من السلف، قال الإمام أحمد: "الغناء يُنبِت النفاق في القلب، فلا يعجبني".
ومنها أنه عدّةٌ وعَتَاد للشيطان يُغري بهما عباد الله على الفسوق والعصيان، ويفتنهم به عن عبادته، ويصدهم عن سبيله، قال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا [الإسراء:64]، قال ترْجُمَانُ القرآن عبد الله ابنُ عباس: (صوت الشيطان الغناءُ والمزاميرُ واللهو)، وكذا قال مجاهدٌ والضحاك.
ومن مفاسد الأغاني أنها تمحو من القلب محبة القرآن الكريم، فإنه لا يجتمع في القلب محبة القرآن ومحبة الألحان؛ لأن القرآن وحيُ الرحمن، والغناءَ والمعازف وحيُ الشيطان، وهما ضدّان لا يجتمعان أبدًا، فهو خيارٌ فردٌ وطريقٌ واحدٌ، فاختر لنفسك أحد الطريقين، قال ابنُ القيم رحمه الله:
حُبّ الكتابِ وحُبّ ألحان الغِنَا فِي قلب عبدٍ ليس يجتمعانِ
ثقُلَ الكتابُ عليهمُ لَما رأوا تقييده بشرائع الإيمانِ
واللهوُ خفَّ عليهمُ لَما رأوا ما فيه من طَرَب ومن ألحانِ
يا لذّةَ الفُسّاقِ لستِ كلذّةِ الْـ أَبرارِ في عَقْلٍ ولا قُرآنِ
ومن مضار استماع الأغاني أنها مَجْلَبةٌ للشياطين، فهم للمغنين والمستمعين قرناء، وما كان مَجْلَبَة للشياطين فهو مَطْرَدَة للملائكة، فالملائكة تحبُ الذكر وتحضره، فماذا يكون حالُ أهل بيت يخالطون الشياطين؟! فيا أسفًا على بيوت خلت من ذكر الله، وخلت من ملائكة الرحمن، وعُمِرَت بالأغاني، وامتلأت بالشياطين.
ومن المفاسد العظيمة بل الشنيعة للغناء أنه رُقْيَة الزنا وداعية الفحشاء، قال الفُضَيل بن عِيَاض: "الغناء رُقْيَة الزنا". فالغناء دعوةٌ صريحةٌ إلى الفحشاء، ولهذا يحرص المغنون في أغنياتهم على ذكر محاسن النساء وقَصص الغرام والعشق والمجون والغزل والهِيَام ووصف القُدُود والخدود والثغور والنحور وما في معنى ذلك؛ مما يثير لدى السامعين الوَجْدَ والهوى، ويحرّك الغرائز، ويُشعِلُ نارَ الشهوات.
قال يزيدُ بنُ الوليد: "يا بني أمية، إياكم والغناء؛ فإنه يُنقِص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السُّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا"، وذلك لأن غناء الرجل ذو أثر كبير على عواطف المرأة ومشاعرها.
ونزلَ الحُطَيْئةُ الشاعرُ المشهورُ برجلٍ من العرب ومعه ابنته مُلَيْكَة، فلما جنَّ عليه الليل سمعَ غناءً، فقال لصاحب المنزل: كُفَّ عني هذا، فقال: وما تكره من ذلك؟! فقال: إنَّ الغناء رائدٌ من رادَة الفجور، ولا أحبُ أن تسمعه هذه، فإن كففتَه وإلا خرجت عنك.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: "فإنه رُقْيَة الزنا ومُنبِت النفاق وشَرَك الشيطان وخمرة العقل، وصَدُّه عن القرآن أعظم من صدِّ غيره من الكلام الباطل؛ لشدة ميل النفوس ورغبتها فيه".
ومن مضار استماع الأغاني والاشتغال بها وجعلها دَيْدَنًا وعادةً ومُفْتَخَرًا أنها سبب لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة، قال ابنُ القيم: "والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارب أنه ما ظهرت المعازِف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلّط الله عليهم العدو، وبُلُوا بالقحط والجدب وولاة السوء".
ولقد ارتكبت أمة الإسلام في الأندلس ما حذّر منه النبي ، فاتخذت القَيْنَات والمعازف، وأسرفت في ذلك إسرافًا شديدًا، وصرفت الأموال الطائلة في الأغاني والمعازف، فالدور والبساتين تُوقَف على الموسيقى، وأصبح المرضى يعالجون في المستشفيات بالموسيقى، فكان الغناء من جملة ما عصوا الله به، فحل بهم بلاء استأصل شَأْفَتَهم ودمّر دولتهم، وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:57].
ومن مضار الأغاني ومفاسدها التي نراها في عصرنا هذا ما فيها من تدمير للغة العربية لغة القرآن، ونشرٍ للعامية، ونشرٍ لكلمات الفساد، وتجريء الناس على الجهر بالسوء من القول، فكلمات وعبارات لا تُقَال إلا في المَخَادِع أصبحت تملأ المسامِع، ويردّدها الشباب عَلَنًا بلا حياء ولا رادِع، والله جلّ وعلا لا يحب الجهر بالسوء من القول، ناهيكم عن الكلمات التي تحمل الكفر والاعتراض على القضاء والقدر وسب الدهر والتأفّف والتضايق من والأوامر الشرعية والقيود الاجتماعية والأعراف النبيلة، مما يشجع السامع على التمرد على فطرته والثَّوَرَان على قيمه الإسلامية.
ومن مضارها السيئة أنها تغير معنى القدوة، فيُصدّرُ هؤلاء السَّفَلة من المغنين على أنهم نجومٌ وأبطال، وإذا ماتوا سُمّوا شهداء! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وإن تَعْجَب فَعَجَبٌ فعلُ صحافةٍ وشاشاتٍ وموجات أثير لا هم لها إلا المغني المشهور، ولا صوت لها إلا المطرب المغرور، ولا رصيد لها إلا الحفلات والمهرجانات والجلسات، مما يضل شباب الأمة ويفتنهم، بل ويعلّقهم بالفَسَقَة والسَّبَهْلَل من المغنين والمغنيات، وقد تكون المغنية نصرانيةً أو يهوديةً، بل لربما كان اسم المغني يُفصح عن نصرانيته وفسقه، والقدوة محمد وصحبُهُ، قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، القدوة هم العلماء الربانيون والدعاة الصالحون وأبطال الجهاد في الماضي والحاضر، قال تعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
إن في تصدير هؤلاء المطربين والمطربات وتلميعهم إشغال لشباب الأمة عن الجهاد والعمل لدينهم. إن أعداءَنا يريدون شباب الأمة أن يعيشوا على الآهات والنغمات ويحيوا على الفسق والغرام، يريدونهم أن يناموا في أحضان البغايا، لا أن يناموا في أحضان المنايا والجهاد والعمل لهذا الدين، إذ لو فعلوا لدمروهم واستأصلوا شَأْفَتهم.
عباد الله، إن من أعظم أسباب سوء الخاتمة ـ والعياذ بالله ـ الإصرار على المعاصي وإلفها كالغناء وغيره، فإن الإنسان إذا ألف شيئًا مدة حياته وأحبه وتعلق به يعود ذكره إليه عند الموت، ويردده حال الاحتضار في كثير من الأحيان، وفي هذا يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: "إن الذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت، مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة، قال تعالى: وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:29]".
فينبغي علينا جميعًا أن نحذر من سوء الخاتمة، وليكن من رأيناه يسقط ميتًا وهو يدندن بالأغاني عبرةً لنا وعظةً في المبادرة إلى التوبة والرجوع إلى الله تعالى، وقد أخبر النبي : ((إن المرء يبعث على مات عليه)) ، وقال أيضًا : ((إنما الأعمال بالخواتيم)). وإنه لا بد لكل من أراد حسن الختام أن يعمل بالتوبة النصوح قبل فوات الأوان إن كان ممن يزاول مهنة الغناء أو يستمع إلى الغناء أو يُصدّره، فعليه أن يسارع بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى حتى لا يُقبَض وتأتيه منيته وهو على تلك المعصية، حينها لا ينفع الندم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، هذا هو الغناء يا عباد الله، وهذه هي أضراره ومفاسده، ووالله ما أكثرها وما أشدَ خطرها، وإن الغناء حرام، حرّمه الله ورسوله، وهذا حكمٌ صريحٌ واضحٌ في منع الغناء وتحريمه وتفسيقِ فاعِله والمستمعِ إليه، يقول ابنُ القيم رحمه الله تعالى: "ولا ينبغي لمن شمّ رائحة العلم أن يتوقّف في تحريم ذلك، فأقلُ ما فيه أنه شعارُ الفُسّاق وشاربي الخمور"، وقال مالك رحمه الله تعالى لما سئل عن الغناء: "إنما يفعله عندنا الفُسّاق".
نعم عباد الله، هو حرام لا يجوز فعله ولا استماعه البتة، عن نافع قال: سمع ابنُ عمر مزمارًا قال: فوضع أصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع، هل تسمع شيئًا؟ قال: فقلت: لا، قال: فرفع أصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا. رواه أبو داودَ وصححه الألباني.
أيها الشِّيب والشباب، إن مجالس الغناء وحفلاته ومهرجاناته وأشرطته لغوٌ ولهوٌ، فلنبتعد عنها، ولنطهر أسماعنا منها. ومن صفات أهل الإيمان أنهم بعيدون عن اللهو واللغو، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:3].
أيها الآباء، أيها الأولياء، يا من أنتم مؤتمنون على بيوتكم ومؤتمنون على نسائكم ومؤتمنون على ذَرَارِيكم، طهّروا بيوتكم من هذا الغناء وهذه المعازف ومن هذه الأنجاس، واقطعوا عنها هذه الأصوات الملعونة والمزامير الشيطانية. إنَّ الرجلَ الغيورَ ذا الشهامة والعزة والكرامة لا يرضى بحالٍ لامرأته أو بنته أن تسمع غناءَ رجلٍ فاجرٍ يُطرِب بصوته، ويفتنُ بصورته، ويصفُ في غنائه العشقَ والحبَ والغرام. أينَ الغيرة يا عباد الله؟! بل أين الحمية؟! وبعض الفحول من الرجال لا يرى غضاضةً ولا بأسًا في أن تتلذذ ابنته بآهات المغنين من العرب والغرب وتتسلّى بها، حاملةً في الجيب صورَهم، متتبّعةً أخبارَهم، ناهيكم عمن يسافرون ويبذلون الأموالَ لحضورها، وبذلُ المال فيها حرام، وقد نهى النبي عن إضاعة المال.
فاتقوا الله أيها الآباء والأولياء في أسركم وبناتكم وأولادكم، فإنهم أمانةٌ عندكم ستسألون عنها، فالله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ويقول النبيُ : ((إن الله سائل كل راع عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) رواه ابن حبان وإسناده حسن، ويقول أيضًا: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته)) متفق عليه، و((كفى بالمرء إثمًا أن يُضيع من يقوت)).
واعلم ـ أيها الولي ـ أنك سوف تسأل عن نفسك وعن ذريتك في يوم لا يَنْفَعُ فيه مَال وَلا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلبٍ سَليمٍ، في يوم رهيب، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
وإنني أوجهه نداءً إلى طائفةٍ عَلّها أن تعي ندائي، إنها طائفةٌ استُعملت فيما يغضب الله عز وجل، إنها طائفة تُصدر الفساد وترعاه وتتفنّن في إضلال الشباب، إنهم أصحاب محلات الأغاني الذين ينتجونها ويسجلونها ويبيعونها على الشباب وعلى الناس، إننا نقول لهؤلاء الذين يبيعون الأغاني: إنها محرمة وثمنها حرام، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن الله تعالى إذا حرم شيئًا حرم ثمنه)) رواه أحمدُ والدارقطني بأسانيدَ جيدة. اتقوا الله، واعلموا أنكم تبيعون حرامًا، وتنشرون فسادًا، وكسبكم خبيث، ((وما نَبَتَ من سُحْت فالنار أولى به)) ، ((وإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا)). ألا تخشى ـ يا صاحبَ المحل ـ من عقوبة الله وسخطه وأليم أخذه وعذابه؟! فتب إلى ربك، واستبدل بيعَ هذه الأشرطة ببيع أشرطةٍ قد سُجّل عليها الكلم الطيب النافع من القرآن والسنة والمواعظ النافعة والخطب والمحاضرات المفيدة، قال تعالى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وقال النبي : ((من ترك شيئًا لله عَوّضه الله خيرًا منه)).
وأنت يا من تسمع الأغاني وهي هِجِّيرَاك صباحًا ومساءً، تدندن عليك في كل مكان، تشتريها وتدير مفتاح الراديو في السيارة على موجاتها، ألا تخاف من رب العالمين الذي سوف يحاسبك ويسألك عن هذا السماع الحرام؟! إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
عبدَ الله، السمعُ أمانةٌ عظمى ومِنةٌ كبرى، امتن الله على عباده بها، وأمرهم بحفظها، وأخبرهم بأنهم مسؤولون عنها، وإن استماع المزامير والطنابير جحودٌ لهذه النعمة واستخدامٌ لها في معصية الله، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخُطَى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، إنه واجبٌ علينا أن نقاطع الأغانيَ قنواتٍ ومحلاتٍ وشركاتٍ وفنانينَ وفناناتٍ وشعراءَ وشاعراتٍ، وأن لا نُمكّنَ لهم، فلا نؤجّرهم، ولا ندعمهم بأي وسيلة كانت، وأن نُبرِئ الذمة وننصح الأمة ببيان الحكم الشرعي لهم، وأنها حرام، وأن ما يفعلونه بنا وبالأمة من مهرجانات وحفلات وأشرطة هي إفساد في الأرض وإضلال، وأن نتعاهدهم بالبيان والنصح بالتي هي أحسن حتى يرجعوا ويتوبوا، وإلا هجرناهم وحذّرنا منهم، فإنهم من العُدَاة على الفضيلة والأخلاق، وعلينا أن نُوجِدَ وندعمَ ونعمّمَ البديل الشرعي المباح الحلال من قراءة قرآن وطلب علم وسماعٍ لإذاعة القرآن والأشرطة المفيدة النافعة واللهو البريء والشعر الجيد والحِدَاء الطيب الذي يُشعِل هِمَم الشباب للعلياء، وفي ذلك ـ والله ـ غنيةٌ عن صوت فاسقٍ وفاسقة، وكفايةٌ عن شاشةٍ ماجنة وإذاعةٍ فاسدةٍ ومجلة هابطة، ولنحفظ أولادنا ونساءنا ومَنْ هم تحت ولايتنا منها.
عباد الله، إننا لا نُلحِق اللوم ونحمل المسؤولية بالقنوات والإذاعات التي تبث من دول كافرة؛ لأنه ليس بعد الكفر ذنب، ولا يُرجَى من كافر خير، لكننا نحمل المسؤولية في ذلك المسلمين الذين يغارون على دينهم وأخلاقهم ونسائهم وذرياتهم، فكيف يليق بهؤلاء أن يرتكبوا ما حرم الله من الغناء واللهو والغفلة عن ذكر الله؟! وكيف يليق بالمسلمين الذين اعتُدِي على دينهم وبلادهم وشُرّد إخوانهم في أقطار الأرض في فلسطين والعراق وغيرهما من البقاع والأصقاع، كيف يليق بهم مع ذلك أن يلهوا بالمهرجانات والحفلات وهم جرحى مهددون بالأخطار؟! كيف لهم أن يغنوا وهم يسمعون مآسي إخوانهم في القوقاز والبلقان؟! كيف لهم أن يطربوا وهم يرون أرضهم في فلسطين تُغتصَب وأعراضهم تنتهك؟!
إن اللائق بأمة الإسلام، أمةِ لا إله إلا الله، أمةِ العزة والعزيمة والكرامة، إن اللائق والواجب بها أن تجدّ وتجتهد في حماية دينها وبلادها، وتجاهد الكفار، وتدفع الأخطار، وأن تحفظ مُقَدَّرَاتها وطاقاتها فيما ينفع ويفيد أبناء الأمة من علم وتعليم ودعوة إلى الله وبناء مرافق وإعداد للعدة في سبيل الله، لا أن تذهب سدى في اللهو الباطل والغناء الحرام.
ولتتذكر الأمة رعاةً ورعيةً رجالاً ونساءً أن عزتنا ونصرتنا لا تكون إلا بالإسلام والتمسك بالدين والعمل بسنة النبي الأمين ، وأنها إذا تخلت عن الدين تخلى ربها عنها، قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، وقال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53].
يا أمة الحق، عزتنا ليست بالأغاني والموسيقى والملاهي، فهذه لا تعيد حقًا مسلوبًا ولا تردع ظالمًا، عزتنا بالقرآن والسنة، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ [الزخرف:44]، وقال النبي : ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين)).
اللهم أصلح الراعي والرعية والأمة الإسلامية، اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واعصمنا من الفتن والشرور، وانصر إخواننا المجاهدين في الثغور، واغفر لنا ولوالدينا ومشايخنا وأمواتنا يا عزيز يا غفور...
(1/4386)
وقفات مع عودة المدارس
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, الآداب والحقوق العامة, التربية والتزكية
محمد بن إبراهيم السبر
العريجاء
جامع الأميرة موضي السديري
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دور أولياء الأمور في العملية التعليمية. 2- التذكير بحقوق المعلم. 3- كلمات توجيهية للمعلم. 4- نصائح وتوجيهات للطلاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
منظرٌ جميلٌ ومشهدٌ زاهٍ أن ترى فتى غَضًّا طَرِيًّا في أحسنِ حُلّةٍ وأبهى طَلْعةٍ يَنُوء بحمل حقيبته، مُتَأبِّطًا كتبه، متوجّهًا إلى مَحْضن التربية ومنهل العلم ومنبع الثقافة ومَأْرِز الدين والخير. إنه مشهدُ الآلاف تتجه زُرَافاتٍ ووِحْدانًا إلى المدارسِ والمعاهدِ والجامعاتِ، إنه منظرٌ يسرُ الناظرَ لمجدِ أمتهِ الطموحَ لعزِ دينه ومجتمعه، عندما يرى العلمَ يسري في دماء شبابِ الأمةِ، والجهلَ يتَضَعْضَعُ أمامَ نورِ العلمِ، والأميةَ تتراجعُ أمامَ إشراقةِ الفكرِ. إنه منظر في طريقٍ لا يؤدي في النهاية إلا للعزِ والرفعةِ وتأمينِ العيشِ، وهل أمةٌ سادت بغيرِ التعلمِ؟! وأعلى من ذلكَ وأجل: ((من سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهّلَ اللهُ به طريقًا إلى الجنةِ)) رواه مسلم.
وفي هذه الأيام نعيشُ فورةً عارمةً واستنفارًا للطاقاتِ والجهودِ استنفارًا في البيوت والأسواق لتأمين مستلزمات الدّراسة وتسجيل الأبناء وتهيئتهم لخوض مُعْتَرَك العام الدراسي.
ولنا مع عودةِ الطلابِ عودةٌ ومع بدايةِ العامِ الدراسيِ وقفةٌ.
وأول هذه الوقفات: دور الآباء والأولياء، فما دورك أيها الأب؟ إننا بحاجة إلى أبٍ يعي ويفقه متطلبات الشباب وحقوق البنوة على الأبوة. إن بعض الآباء يعتقد أن دوره لا يتعدّى شراءَ الكراريس والأقلام وتسجيل الأبناء، ويقول: أنا انتهى دوري عند هذا الحد، فأحسنُ اللباس ألبستُه، وأحسنُ المدارس أدخلتُه، سيارةٌ بالسائق إلى المدرسة تُقِلّه، والدراهمُ تملأُ جيبه، و... و...، أظن أن دوري انتهى عند هذا الأمر، فماذا تريدون مني؟!
نقول: نعم بارك الله فيك، جميلٌ منك هذا، فهذا واجب النفقة، وقد أديته بكل اقتدار، وأنت مأجورٌ على ذلك إذا احتسبت ذلك عند الله، فالنبي يقول: ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينارٌ ينفقه على عياله، ودينارٌ ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) رواه مسلم، وله من حديث أبي هريرة : ((دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)).
إنه من الخطأ أن يهتم بعض الآباء والأمهات بهذا الجانب جانب النفقة وتوفير الملبس والمأكل والمشرب دونما عناية بالجانب الأهم، وهو الاهتمام بالمَخْبَر لا المَظْهَر وخدمة القلب والروح.
يا خادِمَ الجسمِ كم تسعى لخدمته أتعبتَ جسمكَ فيما فيه خُسْرَانُ
أقْبِلْ على الروح فاستكملْ فضائلَها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
والله جل وعلا يقول: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ [البقرة:197]، ويقول جل ذكره: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26].
أيها الآباء والأولياء، إن مهمة التربية والتعليم ليست مقتصرةً على المدرسة فحسب، بل لكم فيها النصيب الأكبر، فأنت ـ أيها الأب ـ تتحمل المسؤولية الكبرى عن تعليم ولدك وتربيته ومتابعته، فالوالد هو المخاطَب بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وهذه الآية أصل في تعليم الأهل والذرية، قال علي عن هذه الآية: قُوا أَنْفُسَكُمْ أي: (علّموهم وأدّبوهم) رواه الحاكم وصححه، وذكر ابن كثيرٍ رحمه الله في تفسيره عن الضحاك ومقاتل رحمهما الله: "حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه ما فرض الله عليهم وما نهاهم عنه".
نقول هذا ـ أيها الأحبة ـ في غَمْرَة مشاغل الأب وكثرة وظائفه وارتباطاته وأعماله، فهو قد يغفل عن تفريغ نفسه لتعليم أهله وولده. قد يقول قائل: إن المدرسة تقوم بهذا! فيقال: إن هذا لا يعني أن نُسقط التَّبِعَة عن الآباء، ونلقي بالمسؤولية على كاهل المدرسة وحدها؛ لأن الوالد هو المربي والمدرّس الأول، فـ ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمَجِّسانه)).
وينشأُ ناشئ الفِتْيان فينا على ما كان عَوّدَهُ أبوهُ
وما دانَ الفتَى بحِجًى ولكن يُعَوّدُه التديُّنَ أقربوهُ
نعم إن المدرسة توجّه وتربّي، لكن الابن لا ينام فيها، ولا يجلس فيها غالب وقته، فالمعلم دوره تَوْعَوِي وتوجيهي، فهو يربي الطالب، ويعلمه الدين والصلاة والآداب الشرعية كآداب النوم والأكل والشرب...الخ، ويأتي الأبُ ليؤكد ذلك فعليًا بالمتابعة والتنفيذ؛ لأن الأب هو المخاطَب بقوله تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وهو المخاطَب بقول النبي : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر)).
إن الأب مطالب بتربية ابنه التربية الإسلامية، وهكذا كانت تربية الجيل الأول لأولادهم، روى البخاري في صحيحه عن عمر بن أبي سلمة قال: كنت غلامًا في حِجْر النبي ، وكانت يدي تَطِيشُ في الصَّحْفَة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك)) ، قال عمر: فما زالت تلك طُعْمَتِي بعد. وقال سعد: كنا نعلم أولادنا مغازي رسول الله كما نعلمهم السورة من القرآن.
إن الأب مع المدرسة صِنْوَان وعمودان لخيمة نجاح الأبناء، لكنّ المدرسة تشتكي أبًا لا يزورها ولا يحضر مجالس الآباء، بل إذا حصلت مشكلة أو أزمة لابنه مع المدرّس أو مع زملائه لا يُكلّف نفسه أن يسأل عن مُلابَسات الأمر. المدرسة تشتكي أبًا لا يطلع على التقارير الشهرية، ولا يتابع واجبات أولاده، ولا يساهم في تقويمهم وتسديدهم.
أخي الأب، إن حضورك ولو مرة في الشهر مهمٌ في تربية أبنائك لعدة أمور:
1- في ذلك تشجيع وتحفيز له على التحصيل، وباعث له على التفوق بإذن الله، كما أن ذلك يشعره بالثقة والاطمئنان لقرب أبيه منه.
2- قد يكون الابن يعاني من مشكلة أخلاقية أو نفسية أو صحية كضعف نطق أو نظر لا يعلمها الأب، وهذه المشكلة هي سبب في ضعف تحصيله وتقدمه، فيساهم حضور الأب وتفاعله في حلها وعلاجها.
3- الزيارة لها دورٌ إيجابي على الابن، فبعض الطلاب في المنزل يكون هادئًا مؤدّبًا أمام والده هيبةً وخوفًا، ولكنه في المدرسة على النقيض من ذلك، فهو مزعج أمام مدرسيه وزملائه، ولو زار الوالد المدرسة لحل مثل هذا التناقض وهذه الازدواجية، ومنها يعرف الوالد طبيعة ولده.
إن الأب مطالب أن يتفهم رسالة المعلم ويؤازرها، لا أن يحطّمها ويدمّرها، إن مدارسنا ـ بحمد لله ـ مَلأى بالأساتذة الصالحين والمعلمين المربين الذين هم على قدرٍ عال من الأمانة والمسؤولية، بل ويساعدون في نمو الشاب عقليًا وفكريًا ونفسيًا، لكننا نجد الأب ـ مع الأسف ـ ينسف هذا كُله شَعُرَ أم لم يشعر، درى أم لم يدر.
فالمدرس الذي يعلم الطالبَ أن الغناءَ والدخانَ حرامٌ ووالده يناقض ذلك فيرتفع صوت الغناء في منزله وسيارته، بل ويجعل الابن وسيلةً لشراء الدخان. والمدرسة تعلم الأبناء والبنات أن الخلوة مع المرأة الأجنبية حرام ووالدهم يناقض ذلك فيجعل الفتاة وهي في المرحلة المتوسطة أو الثانوية أو الجامعية تذهب مع السائق بلا مَحْرَم، والوالد لا يرى غَضَاضَة في الخلوة بالخادمة في المنزل، فكيف نريد للمدرسة أن تؤدي دورها وبعض الآباء يهدمون؟!
متى يبلغُ البُنْيَان يومًا تمامه إذا كنتَ تَبْنيهِ وغيرُك يهدِمُ
وما أكثر الهادمين في هذه الأيام، فالشاشة تهدم، والمجلة الهابطة تهدم، ومواقع الإنترنت غير اللائقة تهدم، والشارع يهدم، وصحبة السوء تهدم.
أرى ألفَ بانٍ لا تقوم لهادِمٍ فكيف ببانٍ خلفَه ألفُ هادِمِ
ومن عجب أن بعض الآباء يترك مسؤولية أبنائه وبيته ويقول: أهم شيء عندي أن ينجح، ويكفل نفسه، وهو حر، وتعلمه دنياه، ويتركه سِلمًا للعَوَادِي.
ألقاه في اليمِّ مكتوفًا وقال له: إياك إياك أن تبتلَّ بالماءِ
يا هذا، أذكّرك قولَ النبي : ((إن الله سائل كل رجل عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيّعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) رواه ابن حبان وإسناده حسن، وقولََه : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته)) متفق عليه.
معشر الآباء والأمهات، اللهَ اللهَ في حقوق المعلمين والمعلمات، اغرسوا في قلوب أبنائكم وبناتكم حب العلم والعلماء، وإجلال المعلمين والمعلمات، وتوقيرهم واحترامهم، طلبًا لمرضاة الله سبحانه وتعالى، علّموهم الأدب قبل أن يجلسوا في مجالس العلم والطلب، علّموهم الأدب مع الكبار والعطف على الصغار، علموهم الهدوء واحترام المساجد ودور العلم والعبادة.
هذه أم الإمام القَبَس مالك بن أنس رحمة الله عليه وعليها، لما أراد أن يطلب العلم ألبسته أحسن الثياب، ثم أدنته إليها، ومسحت على رأسه، وقالت: "يا بنيّ، اذهب إلى مجالس ربيعة، واجلس في مجلسه، وخذ من أدبه ووقاره وحشمته قبل أن تأخذ من علمه". علمته الأدب قبل أن يجلس في مجلس الدرس والطلب.
وهذا رب العزة والجلال يخاطب كَلِيمَه موسى عليه السلام فيقول: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:12-14]. علمه سبحانه الأدب، أدب المكان: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ، علمه أدب الحديث: فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ، ثم أوحى إليه بالتوحيد والشريعة: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. الأدب ثم الأدب قبل أن يجلس الإنسان في مجالس العلم والطلب، يتعلم للعلم الوقار، يتعلم له الحشمة والقرار.
معشر الآباء والأمهات، أعينوا الأبناء والبنات على ما للعلم من مشاق ومتاعب، هذه أم سفيان الثوري رحمة الله عليه وعليها، ويا لها من أم صالحة، توفي أبوه وكان صغير السن حَدَثًا، فنشأ يتيمًا لا أب له، ولكن الله رزقه أمًا صالحة كانت عوضًا له عن أبيه، أم وأي أم هذه الأم الصالحة، لما توفي زوجها تفكر سفيان رحمه الله في حاله وحال إخوانه وحال أمه فأراد أن يطلب العيش والرزق، وينصرف عن طلب العلم، فقالت له تلك الأم الصالحة مقالة عظيمة مباركة، قالت له: أي بُنَيّ، اطلب العلم أكفك بِمِغْزَلي، فانطلقت الأم تغزل صوفها وتكافح في حياتها حتى أصبح سفيان علمًا من أعلام المسلمين، إمامًا من أئمة الشريعة والدين. وكل ذلك في ميزان حسنات هذه المرأة الصالحة، أعظم الله ثوابها وجزاها عن المسلمين خيرًا.
عن أبي مسعود البَدْرِي عن النبي : ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقةً يحتسبها فهي له صدقة)) متفق عليه.
أيها الأحبة، نقفُ وقفاتٍ مهمة مع بيت القَصِيد ومَحَطِّ الرَّكْب، نقف مع الموجّه المربّي، إنها مع المدرّس الذي هو أكثرُ الناس اتصالاً بأبنائنا، الذي يقول فيُسمَعُ له، ويأمر فيُصْغَى له.
إننا نقول لكل من اشتغل بالتدريس: إن أقل ما يُنظَر فيك أن يكون مظهرك إسلاميًا، وأن يتفق القول مع الفعل، وأن تكون الروح إسلاميةً حقًّا. نريد مدرّسًا أمينًا على فلذات أكبادنا، فإذا تكلم فلا يتكلمُ إلا بخير، حسنَ التعامل فلا تصدر منه إلا عبارات التربية والتوجيه، قدوةً في مظهره، محافظًا على صلاته، إذا دخل على الطلاب قابلهم بالبسمةِ وطلاقةِ الوجه، قال : ((لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلِق)) رواه مسلم. إذا دخل حياهم بتحية الإسلام، لا بتحية العوام: صباح الخير، مساء الخير. إذا بدأ حديثه وشرحه بدأه بالحمد لله والثناء على الله والصلاة والسلام على رسوله ، وهكذا نغرس التربية الإسلامية في نفوس أجيالنا، ونربيهم على الأخلاق الحميدة.
وإنه لمنظر سيئ أن تجد المدرس الفاضل يُغَذِّي في الطلاب التعصّب الرياضي، فيحلل لهم المباريات وأسباب خسارة الفرق الرياضية. منظرٌ مشِين أن ترى مربّي الأجيال يتسلّل لِوَاذًا بين الحصص ليلوّث فاه بالدخان. منظرٌ سيئ أن ترى بعض المدرسين لا يحسن العدل مع الطلاب فيفضل هذا على هذا، لا لأدبه ولا لجِده، بل لحاجةٍ في نفسه وظلمٍ في قلبه نسأل الله العافية، وعلى العدل قامت السماوات والأرض. منظرٌ سيئ أن ترى المدرس لا يتقن شرحه لدروسه، بل ينام بقية الدرس أو يتضاحك مع الطلاب ساخرًا.
وإنني أتساءل أيها الإخوة: الطالب الذي يرى مدرّسه في حالٍ من الميوعة والتسيُّب كيف يتعلم الفضيلة والرجولة؟! الطالب الذي يسمع من مدرّسه السبَ والشتمَ والبَذَاء كيف يتعلم حلاوةَ المنطق؟! والطالبة التي ترى معلمتها تسير خلف صرخات الموضة وصيحات الأزياء وتتلقى كل ما يصدره الأعداء كيف تتعلم الفضيلة والعفاف؟! والطالبة التي ترى مدرستها متبرجةً سافرةً كيف تلتزم بالحجاب والجلباب؟! والطالبة التي ترى مدرستها تركب مع السائق وحدها كيف تبتعد عن الاختلاط بالأجانب والخلوة بهم؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
إنها مصيبة أن تختل الموازين حينما يتولى مهمة التربية والتعليم مَنْ لا يلتزم بأحكام الإسلام، متهاونٌ في أمر الله، قد استحوذ عليه الشيطان؛ لأن المطلوب من المعلم المربي الإرشاد إلى كُلِ خلقٍ حسنٍ والتحذير من كُلِ خلقٍ ذميمٍ، ولكن فاقد الشيء لا يعطيه.
يا أيها الرجلُ الْمعلّمُ غيرَه هلاّ لنفسكَ كان ذا التعليمُ
تَصِفُ الدواءَ لذي السّقَام وذي الضَّنَى كَيْمَا يصحّ به وأنت سَقِيمُ
ونراك تُصلِح بالرشادِ عقولَنا أبدًا وأنت من الرشاد عَدِيْمُ
ابدأ بنفسك فانْهَهَا عن غَيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
فهناك يُقْبَلُ ما وَعَظْتَ ويُقْتَدَى بالعلم منكَ وينفعُ التعليمُ
لا تَنْهَ عن خُلُق وتأتِيَ مثلَه عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ
أيها المدرسون والمدرسات، مهنتكم من أعز المهن، وقد قيل: "كاد المعلمُ أن يكون رسولاً".
إنها وظيفة ومهمة الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه، رُوِيَ عنه : ((إنما بُعِثتُ معلّمًا)) أورده الألباني في الضعيفة (11)، فجمّلوا هذه المهنة بالإخلاص، واحموها بالجد والمتابعة.
أخي المعلم، الأمانةَ الأمانةَ في الحضور، في الانصراف، في التصحيح، في العدل بين الطلاب، فإن النبي يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) رواه مسلم، ويقول : ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)).
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79].
_________
الخطبة الثانية
_________
معاشر الطلبة والطالبات، ها قد عدتم إلى مقاعد الدراسة، والعَوْدُ أحمد إن شاء الله، فكيف بدأتم هذا العام؟ هل جددتم النية وأخلصتموها لله جل وعلا في طلب العلم؟! هل تتذكرون يوم أن تسعوا كُلَ صباح إلى أماكن الدراسة قولَ المصطفى : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى الجنة)) ؟! هل تستحضرون تقوى الله في طلبكم للعلم والله يقول: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282]؟!
أيها الإخوة الطلاب، لا أظن أنكم تحتاجون إلى من يذكّركم بآداب طلب العلم والتزام الأخلاق الفاضلة.
لا تحسبنَّ العلمَ ينفعُ وحدَه ما لَم يُتَوَّجْ رَبُّهُ بِخَلاقِ
ما مدى أدبكم مع معلميكم وأساتذتكم ومشايخكم؟! ما مبلغ الأدب فيكم مع زملائكم؟! فالأدب مفتاح العلم، والاحترامُ والتقديرُ أساسُ الطلب، فيتعلمُ الطالبُ أدبَ الجلوسِ وأدبَ الاستماع وأدبَ السؤالِ والإنصاتِ وأدبَ الاعتذارِ والاستدراك.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "كنت أصفح الورقة بين يدي شيخي مالك صَفْحًا رقيقًا لئلا يسمع وَقْعَها"، ويقول الربيع: "والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعيُ ينظرُ إليَّ؛ هيبةً له".
أما ابنُ عباس ابنُ عم رسول الله ما منعه نسبه وعلو منزلته حين يبلغه الحديث عن رجل أن يأتي بابه وهو قائلٌ نائم، ولندع ابنَ عباسٍ يكمل ويصور حاله فيقول: فأتوسّد ردائي على بابه، تسْفِي الريح عليّ من التراب، فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله، ما جاء بك؟! هلاّ أرسلت إليّ فآتيك؟! فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، قال: فأسأله عن الحديث. هذا هو الأدب حقًا.
قال بعض الشعراء مبينًا مَغَبَّة ازدِرَاء المعلّم، قال الشاعر:
إن المعلمَ والطبيبَ كلاهُما لا يَنْصَحَانِ إذا هما لم يُكْرَمَا
فاصبر لدائك إن أهنتَ طَبِيبَهُ واصبر لجهلك إن جَفَوْتَ مُعلّما
وقال الآخر:
قُمْ للمعلّم وَفِّهِ التَّبْجِيلا كاد المعلمُ أن يكونَ رسولاً
قال بعض العلماء: "من لم يتحمل ذُلَّ التعلمِ ساعةً بقي في ذُلّ الجهل أبدًا".
وينبغي أن يبدأ الطالب دراسته بكل همة ونشاط ومتابعة ودراسة؛ لكي يُحَصِّل أكثر وأكثر. قال يحيى بن أبي كثير: "لا يُسْتَطاعُ العلمُ براحة الجسم" رواه مسلم، يقول أحد العلماء: "من لم تكن له بداية مُحْرِقة لم تكن له نهاية مُشْرِقة".
وأجدها فرصةً لأقف مع الطلاب وقفة مهمة فأقول: أخي الطالب، ما نوع الزملاء والأصدقاء الذين تختارهم وتصطفيهم لرفقتك وصحبتك في المدرسة وفي الشارع والحارة؟ هل هم من النوع المرضي في دينه الذي يعينك على الخير ويدلك عليه، أم هم من النوع المسخوط في دينه الذي يدعوك إلى الرذائل ويسوّغ لك فعل الباطل؟! ألا فَفِرّ من المَجْذًُوم فِرَارك من الأسد، وتذكّر أن النبي يقول: ((المرء على دين خليله)) ، ويقول أيضًا: ((المرء مع من أحب)) ، ويقول: ((لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي)). ولذا قال جماعة من السلف: "اصحب من يُنْهِضُك حالُه، ويدلّك على الله مَقَالُه".
إذا ما صحبتَ القوم فاصحبْ خِيارَهم ولا تصحبِ الأرْدَى فتَرْدَى مع الرَّدِي
نسأل الله للجميع العلمَ النافعَ والعملَ الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا وعملاً يا رب العالمين...
(1/4387)