أفضل أيام الدنيا أيام العشر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
سعد بن سعيد الحجري
أبها
جامع آل غليظ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة نعم الله. 2- عظم فضائل الله على عباده. 3- فضل أيام عشر ذي الحجة. 4- فضل صلاة الفجر. 5- فضل يوم عرفة وفضل الدعاء فيه. 6- ما ينبغي للمسلم فعله فيها. 7- فضل الحج المبرور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، أسبغ النعم، ودفع النقم، وأزال السقم، ولو عددنا نعم الله لم نحصها، إن الإنسان لظلوم كفار.
واعلموا أن فضائل الله علينا عظيمة لأنها من عظيم، والعظيم من العظيم عظيم، يقول تعالى: لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الشورى:12]، ويقول تعالى عن المنافقين: هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:7].
وفضائل الله عظيمة لأنها من غني، يده سخاء الليل والنهار، اأنفق على الخلق من أولهم إلى آخرهم ولم ينقص ذلك مما عنده شيئا، ونفقته ليست للانتفاع بطاعة المطيع ولا التضرر بمعصية العاصي، فإنه الغني ذو الرحمة، يقول تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:55-58]، ويقول الرسول فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)).
وفضائل الله عظيمة لأنها من عليم، يعطي الطائع تكريما له، ويعطي العاصي استدراجا له، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يقول تعالى: أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، ويقول فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
وفضائل الله عظيمة لأنها من عفو يحب العفو، ويثيب عليه، ويرفع درجة أهله، خيره إلينا نازل، وشرنا إليه صاعد، يتحبب إلينا بالنعم، ونتبغض إليه بالمعاصي، يعفو عن السيئات وهو قادر على المؤاخذة عليها، ويفرح بتوبة العبد أشد من فرح العبد بها وهو غني عنه، ويتوب على من تاب، وباب التوبة مفتوح ما لم يغرغر العبد وما لم تطلع الشمس من مغربها، ويبدل سيئات التائبين حسنات، ويمهل العبد المذنب ست ساعات لعله أن يتوب، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، يقول الله تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70]، ويقول : ((إن صاحب الشمال ليرفع القلم عن العبد المسلم المخطئ ست ساعات، فإن تاب ألغاها، وإلا كتبها سيئة واحده)).
وفضائل الله عظيمة لأنها عميمة، عمت البر والبحر والجو، وعمت جميع الأزمنة، ساعة المؤمن كيوم، ويومه كأسبوع، وأسبوعه كشهر، وشهره كعام، وعامة عمره يجمع الفضائل ليكون يومه خيرا من أمسه، وغده خيرا من يومه، وشبابه حفظا لهرمه، وصحته حفظا لمرضه، وغناه حفظا لفقره، وعمت جميع الأمكنة لتدوم العبادة عملا بقول الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، ولتدوم مراقبة الرب عملا بقول الله تعالى: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء:218، 219]، وقوله : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) ، وتتضاعف الحسنات أضعافا كثيرة، يقول الرسول : ((الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)) ، ويقول: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)).
وفضائل الله علينا لا تعد بعدد ولا تحصى بإحصاء؛ لأنها كثيرة ولأنها دائمة ولأنها ملازمة للعبد، قال تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، ويقول تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية:12، 13].
ومن فضائل الله علينا أنه ضاعف أجورنا بأسباب، منها شرف الزمان، وجعل من الزمن الفاضل ساعة في جوف الليل، وساعة في الأسبوع يوم الجمعة، وليلة في العام وهي ليلة القدر، ويوما في الأسبوع وهو يوم الجمعة، وشهرا في العام وهو شهر رمضان، وجعل أفضل الزمن على الإطلاق هو أيام عشر ذي الحجة، فهي أيام فاضلة للفضلاء، وأيام عظيمة للعظماء، وأيام صالحة للصالحين، وأيام غنيمة للسابقين، وأيام ربح للمتنافسين، وأيام جد للمجتهدين، وأيام عمل للعاملين، وهي أيام تقبل النية الحسنة من المحسنين، وتقبل القول الطيب من الطيبين، وتقبل العمل الصالح من الصالحين، وتقبل الخلق الحسن من الصادقين.
ولهذه العشر فضائل كثيرة، منها أن الله تعالى أقسم بها في كتابه، والقسم للتعظيم، ولا يقسم الله إلا بعظيم، أقسم بالعظيم من مخلوقاته، فأقسم بالسموات والأرض وبالشمس وبالقمر وبالنجوم وبالرياح، وأقسم بالعظيم من الأمكنة إذ أقسم بمكة فقال: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، وأقسم بالطور فقال: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1، 2]، وأقسم بالعظيم من الأزمنة إذ أقسم بالليل والنهار والفجر والضحى والعصر والعشر ونحوها، يقول تعالى: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]. وتعظيم الله لها يستدعي منا تعظيمها ومعرفة قدرها.
ومن فضائلها أن الله قرنها بأفضل الأوقات لفضلها، قرنها بالفجر الذي هو حفظ للعبد في ليله وحفظ له في نهاره، يقول : ((من صلى الفجر في جماعة فكأنما قام الليل كله)) ، ويقول : ((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله حتى يمسي)). والفجر علامة الإيمان التي يدخل بها المؤمن الجنة، ويحظى بالنظر إلى وجه الله الكريم، ويجتمع بالملائكة، يقول : ((من صلى البردين دخل الجنة)). وقرنها بالشفع والوتر وهما العددان اللذان تتكون منهما المخلوقات، وقرنها بالليل الذي قدمه الله على النهار في الزمان وفي القرآن، وأودع فيه ساعة للإجابة كل ليلة، وجعل الصلاة فيه صفة المؤمنين أهل الجنة، وأجاب دعاء من دعاه فيه، وهو أقرب الأزمنة للرب تعالى؛ إذ ينزل تعالى إلى السماء الدنيا نزولا يليق بجلاله فيقول: هل من داع فأجيبه، هل من سائل فأعطيه.
ومن فضائلها أن الله تعالى أكمل فيها الدين ليكون العمل كاملا والعامل كاملا والحياة كاملة، فيحظى بالحياة الكاملة التي لا موت فيها ولا هرم ولا سقم ولا فقر، وبكمال الدين تتنصر السنة وتهزم البدعة ويقوى الإيمان ويموت النفاق، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء، لتكون نفسا مطمئنة تعبد الله كما أراد، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي ضل ضلالا مبينا، وقد أكمل الله لنا الدين حتى تركنا رسول الله على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حبر من أحبار اليهود لعمر: آية في كتابكم لو علينا ـ معشر اليهود ـ أنزلت لاتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدا، وهي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، قال عمر: إني أعلم أين نزلت، نزلت على رسول الله في عرفة.
ومن فضائلها أن الله أتم فيها النعمة نعمة الإسلام الذي أخرجنا الله به من الضلال، وجعلنا به خير الأنام، وحفظ به الليالي والأيام، وغفر به الذنوب والآثام، وفتح الله به قلوبا غلفا وأعينا عميا وآذانا صما. ومن تمام النعمة أن الله أظهر دين الإسلام على جميع الأديان، ولقد كان في جزيرة العرب اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية والنفاق فأبادها الله بالإسلام، قال تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28]. ومن تمام النعمة تحريم مكة على الكفار وتطهيرها منهم ومن أوثانهم ورجسهم، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، ويقول : ((لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان)).
ومن فضائلها أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال واجتماع العبادات فيها؛ لأن فيها التوحيد يظهر في الأقوال والأفعال، وفيها الصلوات الخمس، وفيها الصدقة على من يريد الحج أو الأضحية أو صدقة المحظور، وفيها الصيام لتسع ذي الحجة وصوم عرفة وصوم المحظور، وفيها الحج إلى البيت الحرام الذي هو من أفضل الأعمال، وهو جهاد النساء وجهاد كل ضعيف، وهو الحفظ لصاحبه والموجب لدخول الجنة، وفيها كثرة الذكر والدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن فضائلها أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق؛ لفضل زمنها وفضل عملها وفضل العامل فيها، فساعاتها فاضلة، وأيامها فاضلة، ولياليها فاضلة، يقول : ((أفضل أيام الدنيا أيام العشر)) ، ويقول: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) , أي: أيام العشر, قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ، وروي عن الأوزاعي أنه قال: "بلغني أن العمل في يوم من أيام العشر كقدر غزوة في سبيل الله، يصام نهارها ويحرس ليلها، إلا أن يختص امرؤ بشهادة"، وكان سعيد بن جبير إذا دخلت العشر يجتهد فيها اجتهادا شديدا حتى ما يكاد يقدر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن فضائلها أن فيها يوم عرفة وهو اليوم المشهود، قال : ((اليوم الموعود يوم القيامة، واليوم المشهود يوم عرفة، وهو أفضل الأيام)) ، ويقول : ((أفضل الأيام يوم عرفة)). وهو يوم أفضل الدعاء يقول : ((أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة)). وهو يوم إظهار التوحيد يقول : ((وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)). وهو اليوم الذي يذكر باجتماع الخلائق في عرصات القيامة، وهو اليوم الذي ما رئي الشيطان أصغر ولا أحقر منه في مثل ذلك اليوم، وهو اليوم الذي يباهي الله بأهله أهل السماء، وصيامه يكفر سنتين: سنه ماضيه وسنة مقبلة، وفضائله كثيرة.
ومن فضائلها أن فيها يوم النحر، وهو أعظم أيام الدنيا، يقول : ((أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر)). وفيه معظم أعمال الحج من الرمي والحلق والهدي والطواف والسعي، وفيه صلاة العيد وذبح الأضحية.
ومن فضائلها أنها الأيام المعلومات التي قال الله فيها: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].
ومن فضائلها تشبه المضحي فيها بالحاج، فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئا.
ومنها اجتماع الصلاة والنسك فيها، وقد جمع الله بينهما في قوله: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي [الأنعام:162]، وقوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، وفضائلها كثيرة.
ويشرع للمسلم في هذه الأيام أن يتقرب إلى الله بأنواع القربات ويكثر من الطاعات، ومنها الذكر وهو التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير، قال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28]، وقال : ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) ، وكان أبو هريرة وابن عمر إذا دخلت العشر يخرجان إلى السوق فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما كل وحده. ويكثر من قراءة القرآن ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى, ويكثر من نوافل الصلوات؛ لأن الزمن فاضل، ولأن الصلاة خير موضوع، ولأن العبد لا يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة، ولأن كثرة النوافل من صفات أولياء الله، قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((وما يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه)) ، ويكثر من الصدقة لحاجة الناس إلى النفقة في الحج، والنفقة على الأهل وذي الحاجة للأضحية وفدية المحظورات وترك المأمورات، ويكثر من الصوم، والأفضل أن يصوم أيام تسع ذي الحجة؛ لأن الصيام من العمل الصالح، ولأن النبي كان يصوم تسع ذي الحجة، أما قول عائشة: ما صام العشر قط، فإنه يجاب عنه أن عائشة أخبرت بحاله عندها وهو عندها ليلة من تسع، بالإضافة إلى أنه كان يترك العمل وهو يحبه خشية أن يفرض على الأمة، ويتركه لوجود العذر من سفر أو مرض أو جهاد أو نحوه، أو أن المراد: ما صام الذي لا يجوز صومه كيوم العيد، بالإضافة إلى أنه إذا تعارض حديث مثبت والآخر ناف نقدم الثبت على النافي؛ لأن عنده زيادة علم.
ويحرص المسلم على أداء الحج في أيام العشر وأيام التشريق؛ لأنه ركن من أركان الإسلام، وبره من أفضل الأعمال، وفي الحديث: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) ، ويقول: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذلك كيوم ولدته أمه)).
وينبغي للمسلم إذا أراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا؛ لحديث أم سلمة قال : ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة فمن أراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا)). وهذا المنع على القيِّم رب الأسرة، وأما أولاده فإن أمسكوا فحسن حتى يحظوا بالأجر، وإن أخذوا فلا حرج عليهم إن شاء الله.
(1/4202)
الباب الذي لا يغلق
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, التوبة
سعد بن سعيد الحجري
أبها
جامع آل غليظ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحظ على التوبة والإنابة. 2- التحذير من الذنوب والمعاصي. 3- حفظ الله لبعض خلقه من الذنوب والمعاصي. 4- زرع الله بغض الذنوب والخطايا في قلوب مخلوقاته الطائعة. 5- آثار الذنوب والمعاصي على الفرد والمجتمع. 6- فضائل التوبة. 7- أهمية التوبة للعبد. 8- شروط التوبة النصوح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي يقبل التوبة ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله، والكافرون لهم عذاب شديد، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويأمر ملك الشمال أن يرفع القلم ست ساعات عن العبد المسلم المخطئ لعله أن يتوب، فإن تاب وندم واستغفر ألقاها، وإلا كتبها سيئة واحدة.
وقد أمر الله عباده بالتوبة وهو غني عنهم، لا ينتفع بطاعة مطيع، ولا يتضرر بمعصية عاصي. وأمر بالتوبة لأن بني آدم خطاؤون مذنبون مسرفون على أنفسهم بالمعاصي، وخطؤهم بالليل والنهار، وذنوبهم في السر والجهار، ومن الصغار والكبار، أفرحوا بها الأشرار، وأحزنوا بها الأخيار، وزادوا بها الأوزار، وأغضبوا بها العزيز الجبار، ونسوا أن الله تعالى لا يحب الأخطاء والذنوب ولا يرضاها؛ لأنها إساءة في حقه وهو المحسن العظيم، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، ومن بغضه لها أنه حذر منها أشد التحذير وتوعد عليها أشد الوعيد، قال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، ويقول : ((إذا أذنب العبد نكت في قلبه نكته سوداء)).
وقد حفظ الله أنبياءه من الذنوب، فها هو نبينا أخرج من قلبه علقة سوداء هي حظ الشيطان منه، فكانوا بهذا الحفظ قدوات يقتدى بهم وأسوات يتأسى بهم ومعلمين يتعلم منهم، وطهر الله الجنة وأهلها من الذنوب، فلا يدخل أهل الجنة الجنة وعليهم من الأوزار شيء، يقول : ((إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فَيَتَقَاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبُوا أُذِنَ لهم بدخول الجنة. فوالذي نفس محمد بيده، لأحدهم بمسكنه في الجنة أدل منه بمسكنه في الدنيا)).
وزرع الله بغض الذنوب والخطايا في قلوب مخلوقاته الطائعة، فالملائكة لا تحب الذنوب ولا تحب أهلها، بل ولا يصبرون على ملازمة العبد أربعًا وعشرين ساعة لكثرة ذنوبه، ولأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويخافون ربهم من فوقهم.
والسماء لا تحب الذنوب ولا أهلها، بل تغلق أبوابها دون عمل العاصي، فيكون كتابه في سجين، ولا تفتح لهم أبواب السماء حتى يلج الجمل في سم الخياط، وترمي العصاة بنجومها وصواعقها، بل ولا يسكنها أحد من العصاة؛ لأنها محرمة عليهم. ولما أذنب آدم ذنبًا أهبط منها، ولما أذنب الشيطان أخرجه الله منها وجعله ملعونًا، وتكاد السماء أن تنشق من معصية العاصي، يقول تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الشورى:5].
والأرض لا تحب الذنوب ولا أهلها؛ لأنها طائعة لله ولا تحب إلا الطائعين، ومستسلمة لله ولا تحب إلا المسلمين، يقول تعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين [فصلت:11]. وقد سلطها الله على العصاة أمثال قارون الذي قال: إنما أوتيته على علم عندي، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة، وخسف فيها بالمتكبر الذي كان يمشي مرجلاً رأسه تعجبه نفسه، وقد اهتزت المدينة في عهد عمر فقال : (يا أيها الناس، توبوا إلى الله وإلا فارقتكم ولم أجاوركم في المدينة).
والبهائم لا تحب الذنوب ولا المذنبين؛ لأنها سبب غضب الرب وسبب ظهور الفساد في البر والبحر، وسبب هلاك الحروث والزروع والبهائم والدواب، وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر:45]، يقول أبو هريرة : (إن الحبارى لتموت في أوكارها من ظلم الظالم)، ويقول مجاهد: "إن البهائم لتلعن عصاة بني آدم لمنعهم المطر بسببهم". وإذا لم تكن محبوبة لغير العاقل فلماذا لا تكون غير محبوبة للعاقل؟! وإذا كانت مبغوضة لغير المكلفين فلماذا لا تكون مبغوضة للمكلفين؟!
ولنعلم ـ عباد الله ـ أن الذنوب أفسدت الفطر؛ فقست القلوب وأظلمت وانتكست ومرضت وأعرضت وماتت، وأقفلت أبواب الاستجابة، فأصبح الإنسان يسمع فلا يعي ما يسمع، ولا يعمل بما يسمع، يقول الله تعالى عن هؤلاء: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:16]. ولو سلمت النفوس من الذنوب لكانت نفوسًا مطمئنة تسمع الحق فتتبعه، وتسمع الباطل فتجتنبه، ولو قيل لها: إن القيامة يوم غد ما وجدت للعمل الصالح مزيدًا.
والذنوب أفسدت البيوت فكانت معاول هدم؛ تهدم الإيمان وتهدم الأخلاق وتهدم الحياة وتهدم الأولاد والزوجات، وتخرج للمجتمع دعاة رذيلة يحاربون الفضيلة، لا هم لهم إلا بطونهم وفروجهم، ونسي الأولياء قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ونسوا قول الرسول : ((كلكم راع وكل مسئول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها)).
والذنوب أفسدت المجتمع؛ فانتشرت المنكرات، وتسابق الناس على السيئات، وعزفوا عن الحسنات واتبعوا الشهوات، وأجلب عليهم الشيطان بخيله ورجله، فزين لهم الباطل حتى رأوا السيئ حسنا، وثبطهم عن العمل الصالح، وأفسد عليهم الطاعات، وأشغلهم بفضول المباحات، وهون عليهم المعصية، وأوقعهم في الكبيرة، وقادهم إلى البدعة، وأخيرا أخرجهم إلى الشرك والعياذ بالله، وتشبهوا بالكفار الذين بثوا لهم سمومهم ونشروا شرورهم، فقلدوهم واتبعوا سننهم حذو القذة بالقذة، ودخلوا معهم في جحر الضب.
وحتى تقفل أبواب الذنوب ونصلح الخطأ ونطلب رضوان الله ولو سخط الناس ونعيش في أمن من المعاصي في الدنيا وفي أمن من الذنوب في الآخرة فإنه يجب أن نفتح باب التوبة على مصراعيه، وأن ندخل مع باب التوبة وأن لا نخرج منه إلا إلى الآخرة؛ فإنه باب الصلاح للنفس والإصلاح للمجتمع، وهو باب الاستقامة في الدنيا على الصراط المستقيم ومجانبة طريق المغضوب عليهم والضالين، وهو طريق الاستقامة على الصراط المنصوب على متن جهنم، أحد من السيف وأدق من الشعرة، دحض مزلة، وهو باب الأنبياء الذين دخله آدم عليه السلام فتاب عليه الله وهداه، ودخله داود فاستغفر ربه وخر راكعًا وأناب، قال الله: فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ [ص:25]، يقول : ((سجدة ص سجدها داود توبة، ونسجدها شكرًا)).
وباب التوبة هو باب المؤمنين الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:111، 112].
وهو باب التطهير من الذنوب؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، ولأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [التحريم:8]، ويقول : ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).
وهو باب قلب السيئات حسنات؛ فبالتوبة يكون السيئ حسنا والخبيث طيبًا والعقاب ثوابا، يقول الله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70].
وهو باب تطهير القلوب، يقول : ((إذا أذنب العبد ذنبا نكتت فيه نكتة سوداء، فإذا تاب وندم واستغفر صقل قلبه)).
وهو باب رضوان الله على العبد إذا وفقه للتوبة؛ لأن الله يحب التوابين، ولأنه يفرح بتوبة العبد أشد من فرح العبد بتوبة نفسه، ولأنه يتوب على من تاب، يقول : ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة)).
وهو باب الحياة الحسنة التي حسنت فيها الأقوال والأفعال، يقول تعالى: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3].
وهو الباب الذي يزول به الكرب والضيق، ويتحقق به الغنى والغيث والولد والزرع، يقول الله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:10-13].
وهو باب يوصل إلى الجنة، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [التحريم:8].
والناس قسمان: تائب وظالم، فمن لم يكن تائبًا فهو ظالم، قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].
ولأهمية التوبة فإن الله تعالى أمر بها في كتابه أمرا واجبا، فقال: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وهذا الأمر للمهاجرين مع صبرهم وجهادهم وإيمانهم فهو في حقهم أوجب، وأمر بها جميع الناس إذ يقول: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إلى الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، وحتى نحقق التوبة ونأتي بها على الوجه المطلوب ونتصف بصفاتها وتكون في حقنا نصوحًا فإنه لا بد من توفر أمور فيها، منها الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه، فإنه الذي إليه المرجع وإليه المصير، وهو الذي أحصى على العبد كل شيء في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والإنسان إذا خاف من مخلوق هرب منه، ولكنه إذا خاف من الله هرب إليه، يقول تعالى: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
وقد فتح الله باب التوبة، ولا يقفل إلا إذا قامت قيامة الإنسان الصغرى بموته، أو قامت قيامته الكبرى بطلوع الشمس من مغربها، يقول : ((من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه)) ، وقال: ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)). وباب التوبة واسع إذ سعته مثل ما بين المشرق والمغرب أو مسيرة سبعين سنة، يقول : ((للتوبة باب بالمغرب مسيرة سبعين عامًا، ولا يزال كذلك حتى تطلع الشمس من مغربها)).
ومنه شروط التوبة الاستسلام لله تعالى؛ وذلك بالائتمار بأمره والانتهاء بنهيه وتصديق خبره وتطبيق حكمه. ولقد استسلم ماعز لربه بعد أن زنى إذ سلم نفسه لرسول الله وقال: طهرني، فرجم حتى مات. وسلمت الغامدية نفسها لرسول الله ليرجمها فردها حتى وضعت، ثم ردها حتى أرضعت، ثم رجمها، فقال عمر: أترجمها ثم تصلي عليها؟! قال: ((لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)).
ومنها اتباع الكتاب والسنة، فهما أحسن ما أنزل الله، وهما حبلا الله المتين وصراطه المستقيم، من تمسك بهما سعد، ومن أعرض عنهما شقي، وهما مصدرا الشريعة، وهما المخرج من الفتن، يقول الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:53-55].
ومنها الإيمان، فلا تتحقق التوبة إلا بالإيمان، ولا تثمر إلا بالإيمان؛ لأن الإيمان إصلاح للظاهر وإصلاح للباطن، ولأنه قفل لأبواب المعاصي وفتح لأبواب الطاعات.
ومنها العمل الصالح؛ لأنه وظيفة الدنيا وحسنة الآخرة، وخير زاد يتزود به العبد وخير لباس يتزين به العبد، وهو أمر الله لرسله وأمر الرسل لأممهم، الذي يثقل في الميزان ويطرد الشيطان، ويدخل به العبد الجنان وينجو من النيران، وهو الذي يسد به أبواب الهوى والشهوة، ويُدحض به الشبهة، ولأنه العلامة على صحة التوبة.
ومنها طلب الهداية بأسبابها؛ لأنه طريق الله المستقيم وطريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، يقول تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
ومنها مداومة التوبة؛ لأن الذنوب في كل ساعة، ولأن العدو محيط بالإنسان يأتيه من بين يديه ومن خلفه، ومن على يمينه ومن على شماله، ولكثرة الغفلة التي ضاعت بها الأعمال والأعمار، وتمردت بها الجوارح وتسلط بها الشيطان، وللاغترار بالدنيا، ولذا يقول فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا اغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم)) ، ويقول : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)).
ومنها التعجل بالتوبة؛ لأن الأجل مجهول، ولأن الأعمال بالخواتيم، ولأن مداواة المرض في الحال مطلوب؛ لأن تأخيره ينشر المرض حتى يستعصي، وقد قيل: التأني في كل شيء حسن إلا في ثلاث: عند وقت الصلاة، وعند دفن الميت، وعند التوبة.
ومنها إصلاح الماضي بالندم على فعل الذنب، فإن الندم توبة، وعض أصابع الندم في الدنيا أولى من عضها يوم القيامة، وحسابها في الدنيا أولى من حسابها في الآخرة، وقد كان عتبة الغلام يبكي كلما مر بمكان معصية وقع فيها ويتصبب عرقه في اليوم الشاتي.
ومنها إصلاح الحاضر بالإقلاع عن الذنب وتركه بالكلية ومفارقة مكانه وأهله.
ومنها الصلاح المستقبل بالعزم على أن لا يعود إلى الذنب مرة أخرى، ليدلل على صدقه وعلى استقامته وعلى حيائه وحبه لله.
ومنها الإخلاص فلا تكون التوبة لمنصب أو نسب أو دنيا، وإنما لله تعالى.
ومنها رد المظالم إلى أهلها، وقد قيل: تعرف توبة الرجل بطهارة لسانه وطهارة قلبه وترك أهل المعاصي والاستعداد للموت.
(1/4203)
مواعظ الشتاء
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
فضائل الأعمال, مخلوقات الله
سعد بن سعيد الحجري
أبها
جامع آل غليظ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شدة حاجة الناس إلى المواعظ والتذكير. 2- أشد الناس بلاءً. 3- الذكرى لا تنفع إلا المؤمنين. 4- أقسام المواعظ. 5- من المواعظ الكونية الشتاء. 6- مواعظ الشتاء. 7- الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي جعل الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا، إن الله لذو فضل على الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون، ذلكم الله ربكم له الملك، لا إله إلا هو فأنى تؤفكون؟! كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون.
أرسل إلينا رسولاً من أنفسنا شاهدًا علينا، ومبشرًا ونذيرا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فمن أطاعه هدي إلى صراط مستقيم وفاز فوزًا عظيما، ومن عصاه ضل إلى طريق الجحيم وخسر خسرانا مبينا، وعظنا بمواعظ الكتاب والسنة، قال الله تعالى: قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2] حتى أتاه اليقين، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد.
وهذا يدل على أن الحاجة إلى المواعظ أشد من الحاجة إلى الطعام والشراب، وأشد من الحاجة إلى الصحة، ومن الحاجة إلى المال وإلى الولد وإلى النسب والحسب وإلى المراتب والمناصب؛ لأن الله أرسل الرسل بالمواعظ، وأنزل الكتب بالمواعظ، وجعل الهداية بالمواعظ، والسعادة بالمواعظ، وخص المكلفين بالمواعظ، وشرفهم بالمواعظ، ولأن الحاجة إلى الطعام والشراب مقيدة والحاجة إلى المواعظ غير مقيدة، ولأن الحاجة إلى الطعام والشراب عامة للعقلاء وغير العقلاء وللمكلفين وغير المكلفين، والحاجة إلى المواعظ خاصة بالعقلاء والمكلفين، والحاجة إلى الطعام والشراب للأبدان والحاجة إلى المواعظ للقلوب، وميزان العبد وميزان العمل بالقلب وليس بالبدن؛ لأن الله لا ينظر إلى الأبدان ولا إلى الصور والأموال، ولكن ينظر إلى القلوب، ولأن العبد السمين يأتي يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضه، وليست الحاجة للصحة أشد؛ لأن الله يعطي الصحة من يحب ومن لا يحب، وقد تكون عند الأعداء أكثر من الأنبياء ومن الأولياء، يقول : ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل)) ، ويقول: ((إذا أحب الله قومًا ابتلاهم)) ، ويقول: ((من يرد به خيرًا يصب منه)).
دخل على رسول الله أعرابي فقال له: ((هل أَخَذَتْكَ أُمُّ مِلْدَمٍ قط؟)) قال: وما أُمُّ مِلْدمٍ؟ قال: ((حَرٌّ يكون بين الجلد واللحم)) ، قال: ما وجدت هذا قط، قال: ((فهل أخذك الصُّداع؟)) قال: وما الصداع؟ قال: ((عرق يضرب على الإنسان في رأسه)) ، قال: ما وجدت هذا قط، قال : ((من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا)).
ولست كالحاجة إلى المال لأنه فتنة، حلاله حساب، وحرامه عقاب، يقول تعالى: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:15]. ولأن النبي لم يخش علينا الفقر، وإنما خشي علينا كثرة المال، يقول: ((ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا)) ، ولأن الرزق يطلب العبد كما يطلبه أجله، يقول : ((لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)).
والموعظة وظيفة الرسل عليهم السلام، دعوا بها الناس وأرشدوهم وهدوهم إلى الصراط المستقيم، ففتح الله بها قلوبًا غلفا وآذانًا صما وأعينًا عميا، وبها دخل الناس في دين الله أفواجا، وبها انتشر الإسلام إلى بيت كل مدر ووبر، وظهر بها الإسلام على جميع الأديان، يقول الله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ [الغاشية:21، 22]، ويقول: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، ويقول العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)) ، قال ابن مسعود: كان رسول الله يتخولنا بالموعظة بين الحين والحين.
والموعظة مفتاح لقلوب المؤمنين ونور لصدورهم وحماية لفطرتهم، ينتفعون بها ولا ينتفع بها غيرهم، وتثمر في حياتهم ولا تثمر في حياة غيرهم، جمعهم الله بها بعد فرقة، وأعزهم بها بعد ذلة، وقواهم بها بعد ضعف، ونصرهم بها بعد هزيمة، وجلت بها القلوب واستقامة ووعت وعملت، وذرفت بها العيون وسلمت من عذاب الله، ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) ، واقشعرت بها الجلود فلانت وانقادت وخضعت، وكان بها المؤمنون خير أمة أخرجت للناس؛ لأن نفعهم نفع متعد وليس نفعًا لازمًا، ولأنهم يحبون لغيرهم ما يحبونه لأنفسهم، ولأنهم يعلمون أن من دعا إلى هدى فله مثل أجور من دعاهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، والدال على الخير كفاعله، يقول الله تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، ويقول: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى [الأعلى:9-11]. وفي غزوة بدر قال لأصحابه وهم يقاتلون عدوهم: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)) ، قال عمير بن الحمام لما سمع هذه الموعظة: جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم)) ، قال: بخ بخ أي: عظيم عظيم، قال: ((ما الذي دعاك إلى أن تقول: بخ بخ؟!)) قال: رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((إنك من أهلها)) ، فقاتل حتى استشهد.
ومواعظ الله الشرعية كثيرة جدًا، منها في القرآن ما يزيد على 6220 آية، ومنها في السنة عشرات الآلاف.، وهذه المواعظ أقام الله بها الحجة على الناس؛ لأنها آيات بينات دائمة لا يعقلها إلا العالمون العاملون، وحملهم بها الله الأمانة التي عرضت على أكبر المخلوقات من سماء وأرض وجبال، وما استطاعت حملها واعتذرت إلى ربها، وحملها الإنسان، إنه كان ظلومًا جهولا، وكلفهم بالتكاليف الشرعية فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.
ولم تقتصر المواعظ على الشرعية، بل هناك مواعظ كونية أوجدها الله في الكون، منها المرئية يراها الناس بالعين فيزدادون إيمانا ويداومون الانقياد والاستسلام لله تعالى، ومنها المسموعة ليسمعها الناس فيعونها ويعملون بها ويدعون الناس بها ويدعون الناس إليها، ومنها المحسوسة التي تدرك بالحس ليبقى عند الإنسان إحساس بالعمل وإعراض عن الكسل. وكل هذه الآيات ليبقى المسلم على صلة بربه، فيعبده وكأنه يراه، ويتقيه حيث كان، ويتبع السيئة الحسنة حتى تمحوها ليكون المسلم على بصيرة من أمره، يصبح ويمسي وقد عزفت نفسه عن الدنيا، فيظمأ نهاره بالصيام، ويسهر ليله بالقيام، ويحسن العمل في الدنيا ليحسن له الوقوف بين يدي الله يوم القيامة.
وإن من المواعظ الكونية التي نراها بأبصارنا ونسمعها بآذاننا ونحس بها بحواسنا وكان الإحساس بها في الليل وفي النهار وفي الشباب وفي الهرم وفي الصحة وفي السقم موعظة الشتاء. والشتاء هو أحد الفصول الأربعة التي تتكون منها أيام العام، وفصول العام الأربعة تتكون من رحلتين للشمس طوال العام: رحلة هبوط من وسط السماء إلى الأفق يتكون فيها فصلا الخريف والشتاء، ورحلة صعود يتكون فيها فصلا الربيع والصيف.
وقد ذكر الله الشتاء في كتابه مرة واحدة في قوله تعالى: رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:2]، وكان النبي يحث أصحابه على اغتنامه إذ يقول: ((الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)) ، وكان عمر يتعاهد رعيته إذا جاء الشتاء ويوصيهم بالاستعداد له، يقول لهم: (إن الشتاء قد حضر وهو عدو، فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، سريع دخوله، بعيد خروجه)، وكان علي يقول: (اتقوا الشتاء في أوله، وتعرضوا له في آخره، يفعل بالأجساد كما يفعل بالأشجار؛ أوله محرق، وآخره مورق).، وكان ابن مسعود يقول: (مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام)، وكان عبيد بن عمير يقول إذا جاء الشتاء: "يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر نهاركم لصيامكم فصوموا".
ويتميز الشتاء بقصر النهار، إذ يأخذ الليل منه حوالي ساعتين، ويطول فيه الليل، ويكثر فيه الضباب، وتكثف السحب، ويشتد الهواء، ويبرد الجو، وتكثر الصواعق، وتنزل الأمطار بإذن الله، وتحترق الأرض من شدة البرد، وتساقط أوراق الشجر، وتنقص الثمار، وتنحبس الدواب في جحورها، وتجمد المياه، وتكثر العلل والأمراض، وتقل الحركة، ويكثر النوم وغير ذلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
ينبغي للمسلم أن يتعظ بمواعظ الشتاء وهي كثيرة:
منها الاستجابة لله تعالى والانقياد له والاستسلام له، وذلك بسلامة القلب وحسن القول وصلاح العمل وحسن الخلق، وبالائتمار بأمره والانتهاء بنهيه، والاشتغال بطاعته والبعد عن معصيته، ونستفيد ذلك من استجابة المخلوقات له كالشمس والليل والنهار والأشجار والأنهار والدواب، فإنها استجابت وهي غير مكلفة، فلماذا لا يستجيب الإنسان وهو مكلف عملاً بقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنفال:24]؟!
ومن المواعظ اليقين بأن دين الإسلام دين اليسر، وأن الله لم يكلفنا ما لا نطيق، وأنه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وأنه أمرنا أن نتقيه حسب الاستطاعة، قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، ويقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، ويقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، ولم يخيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وقال: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)). ونستفيد هذا من جواز الجمع بين الصلاتين عند العذر من مطر ونحوه، وجواز المسح على الخفين للمقيم يوم وليله وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وجواز المسح على العمامة، ونحو ذلك.
ومن المواعظ الصبر على الطاعات وتحمل الأذى في سبيل الله، فإن الصبر أوسع عطاء وأجزل وفاء، وهو الضياء، وهو النصر على النفس وعلى الشيطان وعلى الأعداء، وبالصبر على الطاعة يمحو الله الخطايا ويرفع الدرجات، يقول : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط)). ونستفيد هذا من قوله: ((إسباغ الوضوء على المكاره)) أي: على البرد وتحمل ذلك في سبيل الله.
ومن المواعظ الخوف من الله تعالى؛ لأنه الذي يفعل ما يريد، ويقول لشيء: كن فيكون، وله الأمر من قبل ومن بعد، وله مقاليد السموات والأرض، وأزِمَّة أمور الخلق بيده، والخوف نوع من أنواع العبادة لا يجوز صرفه إلا لله وحده، قال تعالى: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]. وقد تكفل الله للخائفين منه بجنتين فقال تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، وتكفل للخائف أن يؤمنه يوم القيامة أمنا لا ينقطع، يقول تعالى في الحديث القدسي: ((وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي بين خوفين ولا أمنين، من خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، ومن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة)). ونستفيد هذا من سماع الصواعق والرعد، ومن رؤية البرق، ومن كثافة السحب ونزول المطر، ومن شدة الهواء، ونحو ذلك، فإن الله أهلك عادًا بالريح، وثمود بالصاعقة، ومدين بالصيحة، وقوم فرعون بالغرق، وهزم قريش بالريح، والله غالب على أمره.
ومن المواعظ معرفة حقيقة الدنيا من أنها قصيرة، فما كأنها إلا ظل شجرة أو سحابة صيف أو دار لها بابان يدخل الإنسان من أحدهما ويخرج من الآخر، وما هي في الآخرة إلا كصفر وكمن غمس أصبعه في البحر ثم أخرجها. وعلى المسلم إذا عرف حقيقتها أن يزهد فيها؛ لأنها متاع زائل ومتاع الغرور، ولأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولأنها أهون على الله من الميتة على أهلها، ولأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالمًا ومتعلمًا، وليس للإنسان فيها إلا ما أكل فأفنى ولبس فأبلى وتصدق فأبقى، ولذا قال الله تعالى: فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]، وقال: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الحديد:20].
ونستفيد من قصر النهار ومن احتراق الأرض بالثلج ومن يبوسة الأشجار وانقطاع الثمار ونحو ذلك من المواعظ تذكُّرَ الآخرة والاستعداد لها، فإنها الدار الباقية، وهي دار الإقامة ودار الحصاد ودار الجزاء، وهي التي لا دار بعدها، وهي الدار التي يجب أن نغتنم الدنيا من أجلها والشباب من أجلها والصحة من أجلها والغنى من أجلها، وأن نجعلها همنا ليكون سعينا مشكورًا وتجارتنا رابحة لن تبور، يقول الله تعالى: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا [الإسراء:19]، ويقول : ((ومن كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة)). ونستفيد هذا من طول الليل الذي يذكرنا القبر، ومن شدة البرد الذي يذكرنا جهنم، فإن من عذابها ما هو بارد يهلك ويسمى الزمهرير والغساق، قال تعالى: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ [ص:57]، وقال : ((اشتكت النار قالت: يا رب، أكل بعضي بعضا ـ أي: حطم بعضي بعضا ـ، فأذن الله لها بنفسين: نفس في الصيف وهو شدة الحر، ونفس في الشتاء وهو شدة البرد)) ، ومن العلل والأسقام التي تذكرنا الموت.
ومن المواعظ تذكر نعمة الله على العبد، فإن نعمه لا تعد ولا تحصى، لا في البر ولا في البحر ولا في الجو، ولا في الأنفس والولد والمال والليل والنهار وفي كل شيء، وقد وعد بالمزيد لمن شكره، ووعد بالرضوان ووعد بالجنة. ونستفيد هذا من دفع البرد بالطعام والشراب وتدفئة البدن بالألبسة وبالأدفئة الكهربائية والغازية والنارية ونحو ذلك.
ومن المواعظ السبق إلى الخيرات باغتنام النهار بالصيام والليل بالقيام والمال بالنفقة والوقت بالذكر والقراءة والدعوة ونحو ذلك. ونستفيد ذلك من قصر النهار، فيصومه العبد لقلة ساعاته وعدم حاجة الجسم إلى الطعام والشراب، والصيام في الشتاء الغنيمة الباردة، والصيام جنة من النار ومن المعاصي ومن الشهوات، وهو باب في الجنة وسعادة في الدنيا والآخرة. ونستفيده من طول الليل فيقومه بعد النوم لطول الزمن، وقيام الليل دأب الصالحين ومرضاة الرب ومنهاة عن الإثم ومغفرة للذنب ومطردة لداء الجسد، وهو صفة الأنبياء وصفة عباد الرحمن وصفة العلماء وصفة أهل الجنة، وهو شرف المؤمن.
ونستفيد من فقر الناس وحاجتهم إلى المسكن وإلى الأطعمة وإلى الألبسة وإلى الأدوية، فيتصدق المسلم ويدخل السرور عليهم، ورضي الله عن معاذ الذي بكى عند موته وقال: (أبكي على أربع: أيام الصيف الحارة كنت أصومها، وليالي الشتاء البارة كنت أقومها، ومجالسة العلماء، ومصاحبة الصالحين).
(1/4204)
أهمية العدل وفضله
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة, مكارم الأخلاق
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
19/4/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حسن العدل. 2- إقامة الإسلام للعدل. 3- أمر الله تعالى بالعدل. 4- جريمة الظلم. 5- عموم الأمر بالعدل جميع الأحوال. 6- نصرة الله للمظلوم. 7- فضل العدل والعادلين. 8- العدل في القول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم ترحمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]. أنيبوا لربّكم وأسلموا له قلوبَكم، ولا تغرَّنَّكم الحياة الدنيا. إنَّ في القلوب فاقةً وحاجة لا يسدّها إلاّ الإقبال على الله ومحبتُه والإنابة إليه، ولا يلمُّ شَعثَها إلاّ حفظ الجوارِح واجتنابُ المحرّمات واتِّقاء الشبهات، فرحِم الله امرأً راقب نفسَه واتَّقى ربَّه واستعدَّ للآخرة.
أيها المؤمنون، يهنَأ العيش وتصفو الحياةُ حين يستوفي الإنسانُ كاملَ حقوقه، وتعمُر البلاد وتقوم الحضارات في ظلّ العدلِ والمساواة واستيفاءِ الحقوق. لقد فطَر الله النفوسَ على محبّة العدل، واتَّفقت على حسنِه الفطَر السليمَة والعقولُ الحكيمة، وتمدّح به الملوك والقادةُ والعظماء والسّادَة، وجاءت به الرِّسالات السّماوية: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد:25].
وقد جاءَ دينُ الإسلام العظيم لإخراج الناس من جَور الأديان إلى عدلِ الإسلام، حيث إنّه بالعدلِ قامت السماوات والأرض، واتَّصف الحقّ سبحانه به، ونفَى عن نفسه ضدَّه وهو الظلم: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]. وقامَ دين الإسلام على العدلِ، وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [الأنعام:115]، فهو صِدق في أخباره، عَدل في أحكامه، لا يقِرّ الجورَ والظلم ولا العدوان، بل هو دائمًا مع الحقِّ أينما كان، يأمر بالوفاء بالعقودِ والعهود حتى مع الكفّار: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ [الأنفال:58]، وفي المائِدَة: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، أي: لا يحمِلَنّكم بُغضُ قوم على تركِ العدل؛ فإنّ العدلَ واجب على كلّ أحد وفي كلّ حال.
وقد أمَر الله به رسولَه في قوله: وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ [الشورى:15]، وأمَر به جميعَ خلقه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]، وجعل في مقدّمةِ السّبعة الذين يظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظله ((إمامٌ عادل)) كما في الصحيحين [1] ، وفي صحيح مسلمٍ أنَّ النبيَّ قال: ((إنّ المقسطين عند الله على منابرَ مِن نور عن يمين الرحمن، وكِلتا يديه يمين، الذين يعدِلون في حكمِهم وأهلِهم وما وَلوا)) [2].
أمّا ضِدّه وهو الظلم فهو ظلماتٌ يومَ القيامة، وقد حرّمه الله على نفسه وجعله بين العبادِ محرَّمًا، فلا يفلِح ظالم، إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [القصص:73]، وفي سورة البقرة: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، وفي آل عمران: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57].
ولا شكَّ أنّ أظلمَ الظلم هو الشرك بالله كما في سورة لقمان: لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].
والأمّةُ المسلِمَة تستحقّ التأييدَ من الله والتمكينَ في الأرض إذا أقامَت العدلَ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله: "إنَّ الله يقيم الدولةَ العادلة وإن كانَت كافرة، ولا يقيمُ الدولة الظالمةَ وإن كانت مسلمة" [3].
أيّها المسلمون، العدل مأمورٌ به في كلّ الأحوال، والظلم عاقِبَته وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، ومَن ظلم قيدَ شبر طُوِّقهُ يومَ القيامة من سبعِ أرَضين، ومن ظلم غيرَه فإنّ القصاص منه مُؤلم، والله تعالى يملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِته، ولن تضيعَ المظالم حتى بين البهائِمِ، وفي صحيح مسلم أنّ النبيَّ قال: ((لتؤدُّنّ الحقوقَ إلى أهلها يومَ القيامة حتى يُقادَ للشاة الجلحاءِ من الشاة القَرناء)) [4] ، وفي صحيح البخاريّ أنّ النبي قال: ((مَن كانت عنده مَظلمةٌ لأخيه مِن عِرضهِ أو شيءٍ منه فليتحلّله منه اليومَ من قبل أن لا يكونَ دينار ولا درهمٌ، إن كان له عملٌ صالح أخِذَ منه بقدرِ مظلمته، وإن لم يكن له حَسنات أخِذَ من سيّئات صاحبه فحمِلَ عليه)) [5].
ومهما يكنِ المظلوم ضعيفًا فإنَّ الله ناصره، وفي الحديثِ أنّ النبيَّ قال: ((ودعوةُ المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتَح لها أبوابَ السماء، ويقول الربُّ: وعِزّتي وجلالي لأنصرَنَّك ولو بعد حين)) رواه الترمذي [6] ، وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:43]، وفي سورة هود: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
أفلا يخافُ الظالم ربَّ العالمين؟! أوَلا يخشى دعوةَ المظلومين؟! وقل للَّذين يرمون الناسَ بالتُّهَم ويرجمون بالظنونِ ويؤذون المؤمنين في أعراضِهِم: إنَّ دعوةَ المظلوم مُجابة، تذكَّروا يومَ العرض على الله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
عبادَ الله، إنَّ مقامَ العدلِ في الإسلامِ عظيم، وثوابُه عند الله جزيل، فالعادِل مستجَابُ الدعوة، والله يحِبّ المقسطين، وصاحِبُ العدل في ظلِّ الرحمن يومَ القيامة، والحاكم مأمور بالعدل: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ [النساء:58]، وسواء كان الحكمُ قضاءً أو قِسمةً أو حكمًا على أفرادٍ أو جماعَات أو تَصنيفًا أو جَرحًا وتعديلاً، كلُّ ذلك يجب أن يكونَ بالعدل.
كما يجِب على الوالد أن يعدِل بين أولاده في العطايا والمعامَلة، فلا يفاضِلُ بينهم بالهِبات، وقِصّة النعمانِ بن بشير رضيَ الله عنه مشهورة في هذا، وقد ردّ النبيّ عطيّتَه حين لم تحصُلِ المساواةُ بين كلِّ الأولاد، وقال: ((اتَّقوا الله واعدِلوا بين أولادكم)) [7].
كما يجب على الزوجِ أن يعدلَ بين أزواجه، وأن يساوِيَ بينهنّ في المبيت والنّفقَة والحقوق الزوجية، قال تعالى: فَإِن ْخِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:3]، و((مَن كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يومَ القيامة وشِقّه مائل)) كما ثبت في الصحيح عن النبي [8].
والعدلُ مطلوبٌ في كلِّ شيء حتى في القول والكلام، قال سبحانه: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152]. والعدلُ في الكلام من أشَقّ الأمور على النفس، ومن ربَّى نفسَه عليه فاز وأفلَح، وإذا رُزِق العدل وحبَّ القسطِ علَّمه الله الحقَّ، وصارَ رحيمًا بالخلق متَّبعًا للرسول مجتَنِبًا مسالِكَ الزّيغ والأهواء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيهِ منَ الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائِر المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الحدود (6806)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1827) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] الاستقامة (2/246-247).
[4] صحيح مسلم: كتاب البر (2582) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري: كتاب المظالم (2449) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3598) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/445)، وابن ماجه في الصيام (1752) ، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
[7] صحيح البخاري: كتاب الهبة (2587)، صحيح مسلم: كتاب الهبات (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
[8] أخرجه أحمد (2/347، 471)، وأبو داود في النكاح (2133)، والترمذي في النكاح (1141) وتكلم فيه، والنسائي في عشرة النساء (3942)، وابن ماجه في النكاح (1969)، والدارمي في النكاح (2206)، والبيهقي في الشعب (6/413) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2759)، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في البلوغ (1085): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن الترمذي (912).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ربِّ العالمين، ولا عدوانَ إلاّ على الظالمين، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإنَّ العدلَ يحتاج إلى صدقٍ مع النَّفس ومراقبةٍ لله عزّ وجلّ ومجانبةٍ للهوى، يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26].
وكما أنَّ العدلَ مطلوب بين الأولاد والزوجات فكذلك هو مطلوب بين الخدَمِ والعمَّال والمرؤوسِين، والمسلِم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه.
فاتقوا الله أيّها المسلمون، وراقِبوا اللهَ فيما تأتون وما تَذَرون، واعلموا أنّكم غدًا بين يدَيِ الله موقوفون وبأعمالِكم مجزيّون.
ألا وصلّوا وسلِّموا على الهادِي البشير والسراج المنير رسول الله محمد بن عبد الله، فقد أمَركم الله تعالى بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحِب الوجه الأنوَر والجبين الأزهر، وصلِّ اللّهمّ على الآل الأطهار والصحابة الأخيار، وعلى من تبعهم بإحسان ما تعاقَبَ اللّيل والنهار.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين...
(1/4205)
عظمة الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
19/4/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة عامة لتفهّم حقيقة الإسلام. 2- الإسلام رحمة الله للبشرية. 3- تقرير مبدأ الحرية. 4- حفظ كرامة الإنسان. 5- مبدأ الإحسان. 6- مكارم الأخلاق. 8- قاعدة العدل. 9- حفظ الضرورات الخمس. 10- مبدأ التكافل الاجتماعي. 11- الدعوة إلى الخير والإصلاح. 12- ترتيب الحقوق والواجبات. 13- تكريم المرأة. 14- ازدواجية الغرب في تطبيق مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، تمسَّكوا بهذا الدين، والتَزِموا بتوجيهاتِه وتعاليمِه تفلِحوا دنيًا وأخرى.
معاشرَ المسلمين، مِن منطلَق ما أصاب البشريّةَ من تلاعبٍ بالمصطلَحات البرّاقة وما حلَّ بها من تشويهٍ للمناهج السديدةِ والحقائق السليمةِ فإنَّ أهلَ الإسلام ينادونَ العالمَ كلَّه ويناشِدون البشريةَ جميعَها إلى تفهُّم حقيقةِ هذا الدين والتبصُّر في مضامينِه والتبحُّر في قواعدِه وأصوله وكلّيّاتِه والتعرُّف على جزئيّاته وفروعه؛ لتنقيةِ الأفكار من الشوائبِ التي تُحسَب على الإسلام وتسهِم في تشويهِ صورته النقيّة الصافية، كلُّ ذلك بموضوعيّةٍ وإنصاف وتلقٍّ من أهل العلم العاملين العَالمين ذوِي الورَع والتقوى، دون تحيُّز ولا هَوى، وبلا انحرافٍ في مسلَك علميٍّ أو منهَج تطبيقي.
كيف لا ينادُون بذلك وهم يعانون أذًى متكرِّرًا، ينال مسلَّماتِ دينهم وثوابِت عقيدتهم، بل وينال مِن كتاب ربِّهم وشَخص رسولهم ونبيِّهم عليه أفضل الصلاة والتسليم؟! نعَم، يجِب عليهم ذلك وهم يرونَ تشويهًا لحقائقِ الإسلام وفَهمًا مغلوطًا لمفاهيمه في دهاليزِ الثقافة العالميّة عن تعمُّد تاراتٍ وعن غِرّةٍ تارةً أخرى.
حُقَّ لأهل الإسلام أن ينادُوا، بل وواجبٌ محتَّم عليهم دعوةُ العالم كلِّه للمشاركة فيما هدَاهم الله إليه من هدايةِ الرّحمة الشاملة والسعادةِ التامّة.
أيّتها البشرية، الأمر كلُّه من قبل ومن بعد لله وحده، أنزَل كتابه هدًى ورحمة، إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، وأرسل رسولَه محمّدًا للبشريّة أجمع؛ لينقِذَها من الظلمات إلى النور من الجاهليّة إلى العلم، ليكونَ للبشرية رحمةً عامّة وخيرًا مطلقًا وإصلاحًا شاملاً، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
أيتها البشريّة، دين الله الذي أرسَل به محمّدًا دينُ الله للبشريّة كافة، ضمّنه سبحانه نظامًا كامِلاً متكامِلاً للحياةِ بنظامٍ جامع محكَم، وفق أسُس ومبادئ حكيمةٍ متقَنَة وقواعِدَ أساسيّة ثابتة؛ لتسعَدَ بها البشريّة في هذه الحياة وتنجوَ وتفوزَ في الآخرة. دينٌ غايتُه الكبرى وهدفه الأسمى الإصلاح بشتَّى صورِه وكافّة أشكاله.
وإنّنا ـ ونحن في مقامِ إيجازٍ لا بَسط وفي مقام إجمالٍ لا تفصيل ـ لنرسل رسالةً صادقة للبشريّة جمعاء من منبرِ رسول الله ، للبشريّة كافّة، رسالةً تتضمّن وقفاتٍ مختصرةً، وتتضمَّن بيانًا شافيًا للجاهل وردًّا مفحِمًا للمكابر، فيمَنْ يزعم بهتانًا وعدوانًا أنَّ الإسلام دين يدعو لعدَم التسامُح ويتضمَّن في طيّات أحكامِه الدعوةَ للعنف ويحمِل انتِهاكًا لحقوق الإنسان المزعومَة.
إنها رسالةٌ تتضمَّن إيضاحَ بعضِ مبادئ منظومةِ نظامِ الإسلام الشامل المبنيِّ على المبادئ الإصلاحيّة التي تسعَد بها البشرية كلّها. إنها وقفةٌ على جملةٍ من المبادئ المثلَى في الإسلام؛ ليعلَمَ كلُّ منصفٍ عظمةَ الإسلام وأنه سبقَ بتشريعاتِه المحكَمَة ما حواه الإعلانُ العالميّ لحقوق الإنسان بحقوقٍ في الإسلام لبني الإنسان بكلِّ شمولٍ وسعة وعُمق، وأن يعلمَ المنصفون أنه لا يوجدُ تشريع أفاضَ في تقريرِ هذه الحقوق وتفاصيلِها وتبيِينها وإظهارِها في صورةٍ صادقة مثلَمًا حَوته أحكام الإسلام.
أيتها البشرية، الدينُ الإسلاميّ قرَّرَ مبادئ الحرّيّة بمدلولها العام، حرّيّةٌ لا تقيَّد بمجرَّد أهواءِ النّفوس وشطَطَها وميلها، وإنما تقيَّد بنصوص إلهيةٍ وتوجيهاتٍ نبويّة لا تراعِي إلا تحقيقَ المصالح الحقيقيّة لسعادة الدنيا والآخرة، حريةٌ مبنيّة على قواعد الحقّ والعدل والإنصاف، حرّيّة لا تُستَغَلّ في الاعتداء على الآخرين ولا بالإضرار بالعالمين، حرّيّة أساسُها الخضوع للخالق وعدمُ الخضوع لغيره، تحقِّق للبشريةِ بعقيدةِ التوحيد الحريّةَ الكاملة من الخضوع والذّلِّ لغير الله الواحدِ المعبود، حريّةٌ ترفع العبدَ عن كلّ رهبة بغير حقٍّ عن أعناق البشر وتحطِّم الطواغيتَ التي تطغَى وتتجبَّر وتملأُ بالذلِّ والرَّهبة أفئدةَ البشر.
والإسلامُ ـ وهو يكفلُ مبادئَ الحرية الحقّة ـ لا يَغفل عن تقريرِها لغيرِ المسلمين حينما يقرِّر عدمَ الجَبر على اعتناقِ هذا الدين، وإنما واجبُ المسلمين الدعوةُ إلى هذا الدين وبيانُ محاسنِه للعالمين وإيضاحُ صورتِه الحقيقيّة للناس أجمعين، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين [يونس:99].
ذكرَ بعض المفسِّرين أنَّ عمر رضي الله عنه قال لعجوزٍ نصرانيّة: أسلِمي أيّتها العجوز تسلَمِي، إنَّ الله بعث محمّدًا بالحقّ، قالت: أنا عجوزٌ كبيرة والموتُ أقرب، قالَ عمَر: اللّهمّ اشهَد، وتلا قوله: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256] [1].
أيّها الناس، دينُ الإسلام جاء ليَحفَظ للإنسانيّة كرامتَها، وينظُرُ إلى الإنسان انطلاقًا من هذهِ المكانة العاليةِ التي خُصَّ بها البشَر، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]؛ ولهذا فالنّاس في نظرةِ الإسلام متساوونَ في الحقوقِ، لا فَضلَ لأحدٍ على أحد إلاّ بالتزام التوحيدِ والتمسّك بتقوى الخالق، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ولهذا أكَّد على أهلِ الإسلام احترامَ مشاعِرِ الآخرين، فنهَى عن سبّ معتقَدات غيرِ المسلمين حتى لا يجرَّهم ذلك إلى النيلِ من مقدَّسات المسلمين: وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]. قال القرطبيّ: "لا يحلّ لمسلم أن يسبَّ صلبانهم ولا دينَهم ولا كنائسَهم، ولا يتعرَّض إلى ما يؤدِّي إلى ذلك؛ لأنّه بمنزلة البَعث على المعصيَة" انتهى [2] ، لكنّ المسلمَ يدعو إلى هداية الإسلام بما شرعه الربُّ العلاّم: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
وها هو مُعلِّم البشريّة محمد يضرِب مثالاً تطبيقيًّا في احترامِ البشَر من حيث هم، فحينما قال: ((إذا رأيتم الجنازَةَ فقوموا حتى تخلِّفَكم)) ، فمرَّت به جنازَة فقامَ عليه الصلاة والسلام، فقيل له: إنها جنازة يهوديّ! فقال: ((أليست نفسًا؟!)) [3].
دين الإسلام بنِيَت تشريعاته وأسِّسَت أحكامُه على مبدأ الإحسانِ والدّعوة إليه حتى مَع الآخرين ممّن ليسوا محارِبين معتدين ظالمين، يقول سبحانه : وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، ونبينا يقول: ((إنَّ الله كتب الإحسانَ على كلّ شيء)) [4].
ومن الصّوَر التطبيقيّة لهذا الأصل قوله جل وعلا: لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. والبِرّ هنا هو الإحسانُ بالقول والفعل.
كان عبد الله بن عَمرو يوصِي غلامَه أن يعطيَ جارَه اليهوديّ من الأضحية، وكان يكرِّر له الوصيةَ حتى دُهِش الغلام، فسأله فقال ـ أي: عبد الله ـ: سمعتُ رسول الله يقول: ((ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى ظنَنتُ أنه سيُورِّثه)) رواه البخاري [5].
ومِن هنا شهِد المنصفون من غيرِ المسلمين بهذه الخاصّيّة حينما يقول قائلهم: "إنَّ المسلمين في مُدُن الأندلس كانوا يعامِلون النصارى بالحُسنى"، ويقول آخر: "ساعَدَ الإسلامُ وما أمَر به من العدلِ والإحسان كلَّ المساعدة على انتشاره في العالم".
أيّها الناس، دينُ الإسلام ترتكِز أصولُه وثوابِتُه وتتفرَّع جزئيّاته وأحكامه على تحقيقِ مبدَأ الأخلاق بِاختلافِ مراتبِها بما لا يوجَدُ له نظير في النّظُم والحضارات كلِّها، يقول : ((إنما بعِثتُ لأتمِّمَ مكارِمَ الأخلاق)) رواه مسلم [6].
دينُ الرحمة بشتَّى صوَرِها ومختَلف أنواعها، يدعو إلى إيصالِ النّفع وتحقيقِ المصالح إلى العبادِ، روى مسلم أنَّ النبيَّ قيل له: ادعُ على المشركين، قال: ((إنِّي لم أبعَث لعَّانًا، وإنما بُعِثتُ رحمة)) [7]. نعم، إنّ نبيَّ الرحمة والعطف والشّفقة يقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يرحَمُ الله من لا يرحَم النّاسَ)) متفق عليه [8].
ولم ولن ترَى البشريّة رحيمًا مشفِقًا كمحمّد ، في سنن أبي داودَ من حديثِ ابن مسعود قال: كنّا مع النبيِّ في سفر، فانطلق لحاجَتِه فرأينا حُمَّرةً معها فرخان، فأخذنا فرخَيها فجاءتِ الحمَّرةُ فجعلَت تُفرِّش، فجاء النبيّ فقال: ((من فجَع هذه بولَدِها؟ ردّوا إليها ولدها)) ، يقول ابن مسعود: ورَأى عليه الصّلاة والسلام قريةَ نملٍ قد حرَّقناها، فقال: ((من حرّق هذه؟ إنّه لا ينبغي أن يعذِّب بالنار إلا ربُّ النار)) [9]. والأمثلة التطبيقيّة على رحمة هذا الدين لا يحصيهَا لِسان ولا يسَع تعدادَها مثلُ هذا الموضعِ والمكان.
دينُ الإسلام دينٌ يحقِّق قاعدةَ العَدل ومبادِئ المواساة، عَدلٌ معيارُه وميزانه لا يخضَع لأهواء البشَر ومداركِهم، ولكن لميزانٍ لا تميل كفَّته ولا يضطرب مقياسُه، إنه وحي الله الذي أرسَلَ به رسولَه وأنزل به كتابَه، نزل لإحقاقِ الحقّ وإبطال الباطل وإقامةِ العدل في كلّ شأن ومهما تغيَّر الزمان والمكان، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى [النحل:90].
أصولُه وفروعه وتوجيهاتُه مبنيّة على الأمر اللاّزم بالعدل حتى مع الأعداء المحاربين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، ورسولنا يقول: ((ألا من ظلَم معاهدًا أو انتَقصه أو كلَّفه فوق طاقتِه أو أخذ منه شيئًا بغيرِ طيبِ نفس فأنا حجيجُه يومَ القيامة)) رواه أبو داود [10].
يقول أحَدُ المؤرِّخين الشهيرين من غير المسلمين: "إنَّ الشريعة الإسلاميّةَ أسَّست في العالم تقاليدَ عظيمة للتعامُل العادل، وإنها لتنفُخ في الناس روحَ الكرَم والسماحة كما أنها إنسانيّة السِّمَة ممكِنَة التنفيذ"، ويقول آخر: "بل كان المسلِمون على خلافِ غَيرهم، إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جُهدًا أن يعامِلوا كلَّ رعاياهم من المسيحيِّين بالعدل والقسطاس".
أيها الناس، دينُ الإسلام جاءَ ليحفَظَ الضروريات الخمس: الدين والنّفوس والعقول والأموال والنّسل والأعراض، وما يلحَق بهذه الضروريات من حاجيّات وتحسينيّات، حتى شملَت توجيهاتُه حفظَ نفوس وأموال وأعراضِ غيرِ المسلمين من المعاهَدين والمستأمَنين: ((من قتل معاهَدًا لم يَرح رائحةَ الجنة، وإنّ ريحها ليوجَد من مسيرة أربعين عامًا)) [11] ، وفي المسند: ((ألا لا تحلّ أموالُ المعاهَدين إلاّ بحقها)) [12] ، وقد نصَّ عُلماء الحنفيّة والمالكيّة على تحريم غِيبةِ المعاهّد؛ لما ورد عنه كما في الجامع الصغير: ((مَن آذَى ذميًّا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)) الحديث [13] ، بل إنَّ الإسلامَ يوجِّه أتباعَه وهم في حالِ المعركةِ بوصايا يوجِزُها خليفة رسولِ الله أبو بكرٍ موجِزًا توجيهاتِ رسولِنا حينما يقول لأسامةَ: (إنِّي موصيكَ بعشرٍ: لا تقتُلنّ امرأةً ولا صبيًّا ولا كبيرًا هرِمًا، ولا تقطَع شجَرًا مثمِرًا، ولا تخرِّبنَّ عامِرًا، ولا تعقِرَنّ شاةً ولا بعيرًا إلا لمأكلَة، ولا تغرِّقنّ نخلاً ولا تحرِّقنَّه، ولا تغلُّوا، ولا تجبُنوا) الوصيّة [14].
دين الإسلام دينٌ أصَّل مبادِئَ التكافُلِ الاجتماعي قبل أن يعرِفها العالم المعاصِر بما ليس له نظيرٌ ولا يوجَد له مثيل، دعا إلى التعاوُن، أوجَبَ الزكاة، فرَض الكفّارات، حثَّ على الصدَقات لتُقضَى الحاجاتُ وتنفَكّ الكرُبات. وقد شمل بهذا النّظامِ المحكَم حتى غير المسلمين، روى أبو عبيدٍ في الأموال في مراسيلِ سعيدٍ أنَّ رسولَ الله تصدَّق على بيتٍ من اليهود ثم أُجرِيَت عليهم الصدَقةُ من بعد [15] ، وروى أبو يوسف أنَّ عمر أمر خازِن بيت المال بصرفِ حاجةِ شيخٍ كبيرٍ ضريرِ البصر من غيرِ المسلمين من بيتِ المال [16] ، وفي كتاب الخراج أنَّ خالدَ بن الوليد كتب في صلحه مع أهل الحيرة: (وجعلتُ لهم أيّما شيخٍ ضعُف عن العمل أو أصابَته آفةٌ من الآفات أو كان غنيًّا فافتقَر وصار أهلُ دينه يتصدَّقون عليه طُرِحَت جِزيتُه، وعِيلَ مِن بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدارِ الهِجرة) [17].
دين الإسلام دينٌ تقوم دعوتُه على الدعوةِ إلى الخير والهدَى والإصلاح في الدنيا والآخرة، فهو يتَّخِذ من الرفق قاعدتَه ومِن اليُسر تأصيلَه، ففي قواعِدِه الكبرى "الحرج مرفوع" "المشقّةُ تجلِب التيسير"، ووصيّة نبيِّ الإسلام: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، بشِّروا ولا تنفِّروا)) [18].
دينٌ قامت أصولُه وكليّاته وانبثَقَت فروعُه وجزئيّاتُه لتحقيقِ الأصل المكِين: الشريعة جاءَت لتحصيل المصالح وتكثيرِها ودرء المفاسد وتقليلِها.
دين لا يرضى بالأذَى، ولا يقِرّ الضّرَر لغير المعتدِين الظالمين، لا ضرَر ولا ضِرار.
دينٌ جعَل لكلّ شيءٍ حقَّه بترتيبٍ بديع ونظامٍ متقَن كما هو مقرَّر في نظريّة الحقوق المبثوثَة في ثنايا فقه الإسلام من حقوقِ الأشخاص إلى حقوقِ الجماعة، مِن حقوق الوالي إلى حقوقِ الرّعيّة، من حقوقِ المسلمين إلى حقوقِ غيرهم. حقوقٌ يلتزِم بها المسلِمون من منطلَق التعبُّد لله الذي لا يداخِلُه هوى، ولا يتأثَّر الالتزامُ به بمصلحةٍ أو منفَعَة. حقوقٌ يلتزِم بها المسلِم وَفقَ المشروع من غير ضرَرٍ ولا إضرارٍ، وفقَ الأصل المعهود المسمَّى في الفقه الإسلام: نظريّةُ منعِ التعسُّف في استعمال الحقّ.
أيها الناس، دين الإسلام أعلَى شأنَ المرأة ورفع من قدرِها وأزال عنها ما لَقِيَته مِن ظلمٍ وهوان لفَّ حياتَها ووجودَها دهورًا طويلة، فسوَّى بينها وبين الرجل في دعامَتَي التعامُل البشريّة وَفقَ نظريّة الحقوق والواجبات إلاّ في بعضِ المسائل التي توافِقُ خصائصَ كلٍّ واستعدادَه الفطريَّ والجسديّ والنفسيّ، وَفقَ ما تدعو إليه المصالح الخاصّة والعامة للمجتمع، فهي في نظرةِ الإسلام شريكةُ الرجل، تتعاوَن معه لغايةٍ مشتَرَكة، ولكلٍّ دوره وواجباتُه في دفع عجَلة الحياةِ وتحقيقِ العبوديّة لله والإصلاحِ الكامل في الأرض، حَسبَ التبايُن في الخلقِ والتنوُّع في الاختصاص وتنسيقِ الأدوار، وَفقَ الخصائصِ والمؤهّلات والقدرات، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:288]، يقول : ((إنما النّساء شقائقُ الرّجال)) حديث صحيح [19] ، بل وأكَّدَ على حقوقِها كثيرًا، وأوصى بها في كلِّ مراحِلِها، ففي خطبة الوداع يقول : ((اتَّقوا الله في النساء)) [20].
هذه بعضٌ من منظومةٍ كلِّيَّة من مبادئ وكلّيّات هذا الدين، التي هي أصول ثابتةٌ تتَّسِم بالملاءَمَة لجميع البشرية، لا تخضع لمعاييرَ زمنيّة أو مكانيّة أو مصالح نفعيّة، بل هي أصولٌ يُلزم بها المتمسِّكين به دينًا وتعبُّدًا لله وحدَه، فانظري وتأمَّلي وتعقَّلي أيتها البشريّة، ثم قِفي وتساءلِي: أين ميزانُ هذه المبادِئ من مصطلحاتٍ معاصِرة برّاقة: "حقوق الإنسان" "حقوق المرأة" "السّلام العالمي" "مبادئ الحرية والديمقراطية"، ممّا لا يخفى على عاقلٍ مدرِك محقِّق أنها مصطلحاتٌ في غالبها تخضَع لمعاييرَ مزدَوجةَ، تتغيَّر بتغيّر المصالح، وتتبدّل بتبدُّل المنافع، وتطَبَّق وفقَ الأهواء والآراء، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِين [سبأ:24].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ، ونفعَنا بما فيهِ منَ الآيات والبيان، أقول هذا القول، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائِر المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه الدارقطني (1/32)، والبيهقي في الكبرى (1/32)، وانظر: تفسير القرطبي (3/280).
[2] الجامع لأحكام القرآن (7/61).
[3] أخرجه البخاري في الجنائز (1313)، ومسلم في الجنائز (961) من حديث سهل بن حنيف وقيس بن سعد رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في الصيد (1955) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.
[5] إنما أخرج البخاري حديث ابن عمر رضي الله عنهما في ذلك، أما حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فأخرجه أحمد (2/160)، والبخاري في الأدب المفرد (105، 128)، وأبو داود في الأدب (5152)، والترمذي في البر (1943)، والطبراني في الأوسط (2403)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وهو في صحيح الترغيب والترهيب (2574).
[6] أخرجه أحمد (2/318)، والبخاري في الأدب المفرد، باب: حُسن الخلق (273)، وابن سعد في الطبقات (1/192)، والبيهقي في الكبرى (10/ 191) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/616)، ووافقه الذهبي، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/333): "حديث صحيح متصل من وجوه صحاح عن أبي هريرة وغيره"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (45).
[7] صحيح مسلم: كتاب البر (2599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7376)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2319) من حديث جرير بن عبد اله رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (382)، وأبو داود في الجهاد (2675) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/239)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2268). وأخرجه أحمد (1/404) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله مرسلاً.
[10] سنن أبي داود: كتاب الخراج (3052) عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله عن آبائهم، وأخرجه أيضا البيهقي في الكبرى (9/204-205)، وحسنه الألباني في غاية المرام (471).
[11] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[12] مسند أحمد (4/89) عن خالد بن الوليد رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الأطعمة (3806)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (703)، والطبراني في الكبير (4/110، 111)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3902).
[13] قال ابن تيمية كما في المجموع (28/653): "هذا كذب على رسول الله ، لم يروه أحد من أهل العلم"، وقال ابن القيم في المنار المنيف (ص98): "حديث باطل"، وقال الألباني في غاية المرام (469): "لا أصل له بهذا اللفظ".
[14] الذي في كتب الحديث أن هذه وصية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان لما بعثه إلى الشام، أخرج ذلك مالك في الموطأ في كتاب الجهاد (982)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (9/98)، وعبد الرزاق في مصنفه (5/199-200) عن ابن جريج والثوري ثلاثتهم عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر بعث الجيوش إلى الشام وذكروا نحوه. قال الهيثمي في المجمع (9/ 413): "إسناده منقطع ورجاله إلى يحيى ثقات". وأخرجه عبد الرزاق أيضًا عن معمر عن الزهري وأبي عمران الجوني ـ فرقهما ـ عن أبي بكر، وأخرجه البيهقي (9/89) من طريق سعيد بن المسيب عن أبي بكر، وأخرجه أيضًا (9/90) من طريق صالح بن كيسان عن أبي بكر ، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (2383) من طريق عبد الله بن عبيدة عن أبي بكر، ونقل البيهقي في السنن (9/89) عن أحمد أنه قال: "هذا حديث منكر، ما أظن من هذا شيء، هذا كلام أهل الشام".
[15] كتاب الأموال ().
[16] كتاب الخراج (ص126). وأخرج أبو عبيد في الأموال (119) قال: حدثنا محمد بن كثير، عن أبي رجاء الخراساني، عن جسر قال: شهدت كتاب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عدي بن أرطاة قرئ علينا بالبصرة، ثم ذكر نصه وفيه: وذلك أنه بلغني أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه مر بشيخ من أهل الذمة، وذكر القصة وعمر بن عبد العزيز لم يدرك عمر رضي الله عنه.
[17] كتاب الخراج (ص306).
[18] أخرجه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد (1734) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[19] أخرجه أحمد (6/256)، وأبو داود في الطهارة (236)، والترمذي في الطهارة (113)، وابن الجارود في المنتقى (91) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو في صحيح سنن الترمذي (98)، وانظر: السلسلة الصحيحة (2863).
[20] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ علَى إِحسَانِه، والشّكر لَه علَى توفيقِه وامتِنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين.
عباد الله، في الوقتِ الذي ننادي العالم كلَّه لهداية الإسلام ونورِه وضيائه لتَسعد وتصلحَ أحوالها نذكِّر الناسَ أنَّ العالم اليومَ في أحوج ما يكونُ إلى إعادةِ ترتيب الأوراقِ والالتزام بالموازينِ الصحيحة، وإلا فلِماذا حقوقُ الإنسان تَذهَب أدراجَ الرّيَاح وتعودُ تلك المبادِئ مجرّدَ أساطير وأوهامٍ وخرافات حينما يتعلَّق الأمر بالمسلمين وقضاياهم العادلة؟! ولماذا الازدواجيّةُ في التطبيقِ الفعليّ لدعاوَى الحرّيّات والديمقراطيّة لمزعومة في كثيرٍ من قضايا المسلمين؟! أين عُقلاء العالم عن محاسَبَة من يحتلُّ أراضِي المسلمين وحقّ سيادَتهم؟! وأين هم عمَّن يتحدَّى المسلمين ويغيظُهم بتدنيسِ أعظَم ما هو عندهم كتابُ ربَّهم؟! وأين المحاسَبَة لمن يتهجَّم على خير البشريّة رسولِ ربِّ العالمين إلى أهل الأرض كلِّهم؟! أين حقوقُ الإنسان عمّا يتعرَّض له المسلمون في أماكنَ شتّى من آفاقِ الأرض من قتلٍ وتدميرٍ وإبادة؟! أين فلاسِفَة الحريّات ومفكّرو حقوقِ الإنسان كما يزعمون عن تلك الموضوعاتِ الجليّة والحقائق الناصعة؟!
ثمّ إنّ الله أمرنا بأمرٍ عظيم، ألا وهو الصّلاة والسّلام على النبي الكريم.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا ورسولِنا محمّد، اللّهمّ ارضَ عن الخلفاء الراشدين...
(1/4206)
كيف يواجه المسلم فتن العصر؟
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي
حسام الدين خليل فرج
الدوحة
جامع صلاح الدين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفتن التي تعصف بالأمة الإسلامية. 2- سنة الله في ابتلاء عباده المؤمنين. 3- بعض الفتن الموجودة في هذا العصر. 4- استعاذة النبي من الفتن. 5- خطورة الفتن. 6- سقوط الخلافة الإسلامية. 7- الاستعمار وأثره على دول الإسلام. 8- سبيل النجاة من الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
في هذا العصر تمرُّ الأمة بفترة عصيبة، تعصف بها رياح الفتن حتى كادت تفقدها هويتها، تفقدها دينها؛ لتصبح تابعةً مسخًا إمَّعة لأعدائها من يهود ونصارى وهنادكة وثنيين. وبحسب المسلم أن يجيل نظره في رُقعة العالم الفسيح، ليرتدّ إليه بصره خاسئًا وهو حَسِير، كيف لا وهو يرى جموعًا من المسلمين تسير سَلِسة القِياد في دروب فتن لا ككل الفتن، بل فتن كقطع الليل البهيم، تَسِير وتَسِير، ويُضْنيها المسير، تلهث وتلهث، فإذا هي تلهث وراء سراب خادع يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب، تلهث وراء شقائها وتعاستها، تبيع في سوق الفتن دينها بعرض زائل من الدنيا.
ويصدق فيها قول القائل:
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع
ما يعصف بالمسلمين اليوم من رياح الفتن لم يعصف بهم مثلها. إن هذه الفتن اليوم تحيط بهذه الأمة من كل جانب، تحيط بها في دينها وفي قوتها واقتصادها ومعيشتها وفي نسائها وفتياتها وأطفالها وشبابها وكبارها.
لقد تكاثرت هذه الفتن وتضافرت بحيث أصبحنا نراها بكرة وعشية، ونرى آثارها بأم أعيننا في خاصة أنفسنا في بيوتنا وأولادنا، في أهلنا وإخواننا ومن حولنا، مِنْ تفلُّتٍ عن الدين وانزلاق للأقدام بعد ثبوتها.
نعم، الفتن قدَرٌ واقع وسنة ثابتة، وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، قال تعالى: أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:2، 3]. استفهام إنكار، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلي عباده المؤمنين ويمتحنهم.
وهذه الآية كقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [التوبة:16]. وفائدة الاختبار أن يتميز المؤمن من غيره، ولهذا قال تعالى: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ وَمَا كَانَ ?للَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى ?لْغَيْبِ وَلَكِنَّ ?للَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَئَامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران:179]. ما كان لله أي: ليس من سنة الله.
لكن فتن هذا العصر متضافرة متكاثرة، يرقق بعضها بعضا مصداقًا لقول نبينا : ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا دل أمته على ما يعلمه خيرًا لهم، وحذرهم ما يعلمه شرًا لهم، وإن أمتكم هذه جعلت عافيتها في أولها، وإن آخرها سيصيبهم بلاء شديد وأمور تنكرونها، تجيء فتن يرقق بعضها لبعض، تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، ثم تجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه، ثم تنكشف، فمن سره منكم أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتدركه موتته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)) رواه أحمد (2/161). ففي عصرنا تجمعت ألوان الفتن، فالفتن قسمان لا ثالث لهما: فتنة شهوات وفتنة شبهات، وقد تجمعت كلها في عصرنا.
فالدنيا فتحت على الناس ما لم تفتح من قبل، قال كما في الصحيح: ((فوالله، لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا)) رواه البخاري (2988).
واستطاع شياطين اليهود والنصارى أن يزينوها للناس، ويتفننوا في إشغال الناس بها، وأن يحدثوا أنواعًا من الفجور لم تكن تخطر على البال سابقا، وأبسط مثال على ذلك الدشّ وما فيه ومواقع الإنترنت الإباحية، حتى أصبح ديدن الكثيرين المتعة والشهوة ولو كانت حرامًا.
ترى الرجل معنا في صلاة العشاء، ثم لا تراه في صلاة الفجر؛ لأنه ذهب فأسلم نفسه لفلم داعر أو موقع إباحي.
فتنة تسلّط الكافرين على المسلمين وتمكّنهم من المال والجاه والسلطان ورميهم المسلمين عن قوس واحدة، وهي لا شك فتنة عظيمة؛ لذا قال سبحانه: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ [آل عمران:196]، وقال: لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88].
فتنة الكاسيات العاريات، وقد أشار إليها النبي في قوله: ((صنفان من أمتي لم أرهما)) فذكر: ((نساء كاسيات عاريات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا سنة)) رواه مسلم (2128).
ولقد رأينا في عصرنا كيف تخرج المرأة كاسية ولكنها عارية، ما لم يأت مثله في عصر من العصور، حتى في العصر الجاهلي، كانت المرأة في الجاهلية تكشف ـ لو كشفت ـ بحسبها أن تكشف قرطَها، نحرَها، ساعديها، شيئًا من قدميها، أما اليوم فهي تكشف ما يستحى من ذكره، لم يبق إلا أن تكشف السوءتين، فأين تبرج الجاهلية من تبرج اليوم؟!
فتنة التفرق، والله إن الحسرة والألم ليعتريان المسلم يوم يرى الفُرْقَة بين من ينتسبون لعقيدة واحدة ومنهج واحد، إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ومنهجهم. ويحزن أخرى يوم يرى الشيطان وحظوظ النفس تؤزّ المسلم أزًّا للفرقة والتنازع والتباغض، وعدوهم واحد يحارب الإسلام وأهله أيًّا كانوا.
بث فينا أعداؤنا الفرقة، فتشربنا كل ما يفرّق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية، والمقياس عند المؤمنين حقًا هو التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد، بنيان واحد، أمة واحدة، لا شرق ولا غرب.
وأصبحت لا ترى الشّعور الذي عبر عنه الشاعر بقوله:
إذا اشتكى مسلم في الهند أرَّقني وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
ومصر ريحانتي والشام نرجستي وفِي الجزيرة تاريخي وعنوانِي
أرى بُخَارَى بلادي وهي نائية وأستريح إلى ذكرى خُرَاسان
وأينما ذكر اسم الله فِي بلدٍ عددت ذاك الحمى من صُلْب أوطاني
فتنة قلب الحقائق، يقال للمتمسك بدينه: إرهابي، أصولي، فضولي، رجعي، متأخر، يرى المسلم نفسه وهو صاحب الحق الذي سُخّرت من أجله السماوات والأرض وهو صاحب المنهج طريدًا شريدًا وحيدًا، ويرى غيره ممكَّنًا مكرَّمًا معززًا.
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعله الله خُلقًا لهذه الأمة، كما قال: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، فتجد من الناس مَنْ إذا ذكرت ذلك عابوك؛ لأنهم يرون المنكر معروفًا والمعروف منكرًا، لقد انقلبت الحقائق.
فتنة تولي الرويبضة دفة التوجيه الإعلامي، كما قال : ((وينطق الرويبضة)) ، قالوا: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)).
فتنة استذلال الأمة، أمة يتلاعب بها اليهود والنصارى ليلا ونهارا كما يتلاعب الصبيان بالكرة، يرى المسلم الأمة ضعفت بعد القوة، وذلت بعد العزة. أمة دستورها القرآن ونبيها أشرف النبيين تتسول على موائد الأمم فكرًا واقتصادًا وسياسة. أمة بعد القيادة رضيت بالقبوع في ذيل القافلة. أمة تتعثر في سيرها، بل إنها لا تعرف طريقها.
فتنة تعطيل الشريعة، عُطّلت أحكام الشريعة، وتحولنا إلى القوانين الوضعية، وعزلت أحكام الشريعة عن التحاكم إليها، وإنما يتحاكم الناس ويحكّمون نُظمًا غربية، جاؤوا بها من أعدائهم، حكّموها وتحاكموا إليها، فلا حدود تقام، ولا قصاص يقام، ولكنها الأحكام الوضعية المشتملة على الظلم والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل.
فتنة الربا، المعاملات الربوية وكيف سرت في عالمنا الإسلامي، حتى يتصور البعض أنه لا يمكن أن يعيش إنسان بلا ربا، ولا يمكن لأي اقتصاد أن يقوم بلا ربا، ولا يمكن أي مجتمع أن يعيش بلا ربا، فأصبح الربا يرونه ضرورة من ضروريات الحياة، وإذا قلت لهؤلاء: هذا الربا حرمه الله، ولعن النبي آكله ومؤكله، وآذن الله أكلته بالحرب: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279]، وأن الربا ممحق للبركة: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276]، إذا حذرتهم من ذلك قالوا: أنت إنسان تعيش في قرون ماضية وقرون خالية وعقول جامدة، لا تفهم الحياة، ولا تعرف قدرها. لماذا؟ لأنك قلت: الربا حرام، وقلت لهم: إن المعاملات يمكن أن تقوم بلا ربا.
ولكثرة هذه الفتن صار المسلم يشعر بغربة الإسلام، ففي صحيح مسلم عن النبي قال: ((بدأ الدين غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء)) وفي بعض الألفاظ: قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: ((الذين يُصلحون ما أفسد الناس)) ، أو ((يَصْلحون إذا فسد الناس)).
وإذا كانت الفتن في السابق من أرادها أتاها ومن أنكرها وجد ملجأ ومعاذًا فإن الفتن اليوم صارت تحيط بالناس إحاطة السور بالبيت والقلادة بالعنق، ونخشى ذلك اليوم الذي يغرق فيه الناس غرقًا في طوفان الفتن، حيث لا يبقى بيت ولا سوق ولا شارع ولا ناد ولا مدرسة إلا وتحل فيها الفتنة، شاء الناس أم أبوا.
وقد أخبر النبي بوقوع هذه الفتن وأنها فتن عظيمة، أخرج البخاري في كتاب المظالم والغصب عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَشْرَفَ النَّبِيُّ عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ قَالَ: ((هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى؟ إِنِّي أَرَى مَوَاقِعَ الْفِتَنِ خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ)) ، وأخرج البخاري في كتاب الفتن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجأ أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ)).
وكان النبي يكثر من أن يستعيذ من الفتن، وبوب البخاري في كتاب الفتن: "بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، وَمَا كَانَ النَّبِيُّ يُحَذِّرُ مِنْ الْفِتَن"، عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلاةِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ)).
ولهذا كانت معرفة كيف يتعامل المسلم مع تلك الفتن واجبا محتما علينا في هذا العصر الذي نعيش فيه معمعة الأفكار واضطراب الموازين وموالاة الكفار، وتوطَّدت سبلُ الغواية واستحكمت، ودأبت كثير من وسائل الإعلام على خلخلة المفاهيم الصحيحة في عقول الناس، وجعلت المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وخاصة تلك الفضائيات التي أمسك بزمامها من لا خلاق لهم ولا أخلاق.
ولخطورة شأن الفتن قال سبحانه: وَ?لْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ?لْقَتْلِ [البقرة:191]، وَ?لْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ?لْقَتْلِ [البقرة:217]، لأن الوقوع فيها يعنى ذهاب الدين. وتأمل معي فيما سوف أقول: لقد جاء الإسلام بل كل الشرائع الإلهية لحفظ خمس كليات باتفاق العلماء: الدين، النفس، العقل، العرض، المال، فإذا كان لا يمكن الحفاظ عليها كلها قدم الحفاظ على الدين على الحفاظ على غيره من تلك الكليات؛ ولهذا شرع الجهاد للحفاظ على الدين وإن كان فيه إتلاف النفوس والأموال، فإذا ذهبت نفوسنا وأموالنا وبقي لنا الدين فلا يهم، وهذا على عكس ما عليه كثير من الناس، فلسان حالهم: إذا سلمت نفوسنا وأموالنا فلا يهم ذهاب ديننا.
فخطورة هذه الفتن أنها قد تؤدي إلى خسارة الدين، الخسارة التي لا تنجبر، خسارة الدنيا والآخرة؛ لذا وصفها النبي بأنها كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا.
وخطورة الفتن أنها تعرض على القلوب، لا على الأسماع والأبصار فقط، فعن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله : ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض)) رواه مسلم. وأنت لا تستطيع أن تنجو عند الله ولو صمتَ النهار وقمت الليل وبسطت يدك بالصدقة إلا إذا كان قلبك سليما، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
ولذا كم تكون حسرة بعض الناس من الذين في الفتنة سقطوا عندما يطردون عن حوض المصطفى ، أخرج البخاري في كتاب الفتن عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((أَنَا عَلَى حَوْضِي أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ، فَيُؤْخَذُ بِنَاسٍ مِنْ دُونِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي! فَيُقَالُ: لا تَدْرِي، مَشَوْا عَلَى الْقَهْقَرَى))، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَن.
ولا تزال هذه الفتن تعمل عملها في الأمة حتى تتميز إلى معسكرين لا ثالث لهما، كما في حديث عبد الله بن عمر عندما ذكر الفتن قال: ((ثم فتنة الدهيماء ـ الداهية التي تدهم الناس بشرها ـ، لا تدع أحدًا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل: انقطعت تمادت، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا؛ حتى يصير الناس إلى فسطاطين: فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، إذا كان ذاكم فانتظروا الدجال من اليوم أو غد)) رواه أبو داود.
ولذا كانت الخشية من الوقوع في الفتن صفة أساسية في المؤمنين، وقد ذكر سبحانه تضرّعَهم وسؤالهم إياه التثبيتَ على الحق والسلامةَ من الزيغ في قوله عز اسمه: هُوَ ?لَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ مِنْهُ آيَـ?تٌ مُّحْكَمَـ?تٌ هُنَّ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ وَأُخَرُ مُتَشَـ?بِهَـ?تٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـ?بَهَ مِنْهُ ?بْتِغَاء ?لْفِتْنَةِ وَ?بْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ?للَّهُ وَ?لرسِخُونَ فِي ?لْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ?لألْبَـ?بِ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران:7، 8].
وهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟! قال: ((نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين إصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه)) أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح.
وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان رسول الله يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، هل تخاف علينا؟! قال: ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء)) أخرجه الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح.
وإذا كان صلوات الله وسلامه عليه قد خشي على هذه الثلة المؤمنة مع ما بلغت من رسوخ الإيمان ومع أن قرنها خير القرون كما جاء في الحديث المتفق على صحته فكيف بمن جاء بعدهم من أهل العصور؟! ولا سيما من أهل هذا العصر الذي أطلت فيه الفتن وتتابعت على المسلمين.
وانظر كيف كان عمر رضي الله عنه يخشى هذه الفتن مع بعد ما بينه وبينها، فعن شقيق قال: سمعت حذيفة يقول: بينا نحن جلوس عند عمر إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي في الفتنة؟ قال: ((فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ، قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر، قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا، بل يكسر، قال عمر: إذًا لا يغلق أبدًا، قلت: أجل، قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد ليلة، وذلك أني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله: من الباب؟ فأمرنا مسروقًا فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر.
فتأمل كيف كان عمر يحذر الفتن مع أنه أبعد الناس عنها، وتأمل كيف وصفها بأنها تموج كموج البحر، أي: متتابعة لا نهاية لها كما أن موج البحر لا يتوقف، وكما أن عند موجان البحر يهلك ناس كثير فكذلك هذه الفتن، ولذا فليس المخرج منها انتظار توقفها فإنها لا تتوقف، إنما المخرج منها بالحذر والأخذ بأسباب النجاة، فقد كسر الباب لما قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على يد المجوسي الحاقد على الإسلام والمسلمين، ومنذ ذلك بدأت الفتن بالظهور، فقتل بعده عثمان رضي الله على يد نفر من الأوباش، ثم قتل علي رضي الله عنه على يد الخارجي عبد الرحمن بن ملجم.
وهكذا لم يسلم عهد الصحابة من الفتنة، وما زالت الفتنة في الأمة تنتشر ويضرم نارها، بين مد وجزر، وإن كانت بالعموم في ازدياد، حتى حل عصرنا هذا، فكان فيها أعظم الفتن والمصائب، وهو سقوط الخلافة الإسلامية، واقتسام الغرب العدو الأول للإسلام والمسلمين تركة الرجل المريض وهو اللقب الذي أطلق على الدولة العثمانية في أواخر عهدها، فما من بلد من بلاد الإسلام إلا ووقع تحت حكم الاستعمار إلا قليلاً، وحارب المسلمون المحتل الكافر، فأخرجوه بعد أن ذاق الهوان، لكنه لم يخرج إلا بعد أن حقق ثلاثة أمور:
الأول: تعطيل العمل بالشريعة الإسلامية وتثبيت التحاكم إلى القوانين الوضعية.
الثاني: تحرير المرأة المسلمة ونزع حجابها ونشر الاختلاط بين الرجال والنساء في التعليم والعمل.
الثالث: لم يخرج إلا بعد أن ترك له أذنابًا، يقضون بأمره ويسيرون وفق خططه في تدمير كيان الأمة.
ولم يعجز هؤلاء أن يجدوا لكل ما ينادون به من فساد تعليلاً وفائدة وحكمة، فاحتكموا إليها وضخموها ونشروها وقالوا للناس: هذا ما ندعو إليه، ندعو إلى إعطاء المرأة حقها، ندعو إلى آفاق واسعة، ندعو إلى اقتصاد قوي، ندعو إلى ثقافة عالية، ندعو إلى حضارة وتمدن وتقدم. وكلها شعارات ظاهرها فيه الرحمة، وباطنها فيه العذاب والفتن والألم والحسرة. ومنذ ذلك الحين والمكر والفتن تزداد بشكل أكبر.
ومثل هذا ما خشيه علينا النبي حين قال: ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الفتن)) رواه أحمد.
ولذلك لا بد لكل عاقل أن يبحث عن سبيل النجاة ويعضّ عليه بالنواجذ. ما سبيل النجاة من فتن اليوم؟!
سبيل النجاة في تحقيق الإيمان في القلوب، فهذا طريق المرسلين وسبيل الله المتين، قال تعالى: وَي?قَوْمِ مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى ?لنَّجَو?ةِ وَتَدْعُونَنِى إِلَى ?لنَّارِ [غافر:41]، وقال تعالى: ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كَذَلِكَ حَقّا عَلَيْنَا نُنجِ ?لْمُؤْمِنِينَ [يونس:103]، وقال تعالى: وَأَنجَيْنَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [الأنبياء:53]، وقال تعالى: وَنَجَّيْنَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ [فصلت:18].
ها هو الشاب القوي الحييُّ العالم الذي يبلغ ثلاثين سنة، إنه الربيع بن خُثَيْم، يجتمع عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية جميلة، ويدفعون لها مبلغًا من المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟! قالوا: على قبلة واحدة من الربيع بن خثيم، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان، فما كان منها إلا أن تعرضت له في ساعة خلوة، وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن ابتعد عنها يركض ويقول: يا أَمَة الله، كيف بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟! أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟! أم كيف بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟! أم كيف بك إن شقيت يوم تُرْمَين في الجحيم؟! فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة، وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها علينا الربيع.
ما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟! هل قلة شهوة؟! إنها الشهوة العظيمة، وفي سن هو أوج الشهوة وهو سن الثلاثين، ومع ذلك ما الذي ثبته هنا؟! وما الذي عصمه بإذن الله؟! إنه الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو، فالإيمان ـ يا أيها الأحبة ـ كالجمرة متى ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛ فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة، وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في الفواحش والآثام، يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات.
ومن المنجيات من الفتن القيام بالأمر بالمعروف وإنكار المنكر، أخرج البخاري عن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)).
ومن المنجيات حفظ اللسان والصمت وقلة الكلام، فنحن نعيش زمن الكلام: نكات، غيبة، نميمة، أحقاد، قذف، تشهير وفضح ولغو وكلام غير نافع وسمر مقيت... الخ. عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: ((أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ)) قَالَ أَبُو عِيسَى: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ". وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله : ((تكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف)) رواه ابن ماجه وغيره. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله لا يرى بها بأسًا فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفا)) رواه ابن ماجه.
ومن المنجيات إصلاح القلوب، لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى ?لشَّيْطَـ?نُ فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَ?لْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ?لظَّـ?لِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ [الحج:53].
وصلاحُ الأَجْساد سهلٌ ولكن في صَلاح القلوبِ يعيا الطبيبُ
والمجاهدة توفيق، وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
الأخذ بالدين كله، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?دْخُلُواْ فِي ?لسّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ [البقرة:208]، قال ابن كثير: "يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عُرى الإسلام وشرائعه والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك".
ومن المنجيات الرجاء في حسن الجزاء، قال : ((عبادة في الهرج كهجرة إلي))، وقال: ((يأتي على الناس زمان للعامل منهم أجر خمسين)) ، قالوا: يا رسول الله، منا أو منهم؟ قال: ((منكم، فإنكم تجدون على الخير أعوانًا، ولا يجدون على الخير أعوانا)).
الضراعة إلى الله تعالى والدعاء، لدينا يقين لا يخالطه أدنى شك أننا لو أجمعنا أمرنا على التضرع إلى رب الناس في الليالي والأيام دعاء صادقًا خالصًا يخرج من قلب وجل مشفق أن يكشف عنا الغمة ويزيح عنا الفتنة فإن الله تعالى لن يخيب رجاءنا ولن يضيع مسعانا، فقط ندعو الله تعالى بصدق وإنابة وتضرع ويقين أنه سيكون معنا ولن يخذلنا ما دمنا نلتزم بابه لا نبرحه، وقد قال فيما رواه الحاكم: ((يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغريق)).
ومن المنجيات الحذر من أماكن هذه الفتن، ولهذا قال في الدجال: ((من سمع به فلينأ عنه))، ولعل هذا السبب في أن قراءة فواتح سورة الكهف عصمة من الدجال، حيث ذكر فيها فرار أهل الكهف بدينهم من الفتن: وَإِذِ ?عْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ ?للَّهَ فَأْوُواْ إِلَى ?لْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيّئ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقًا [الكهف:16].
والمبادرة إلى العمل الصالح من المنجيات، قال : ((بادروا بالأعمال الصالحة فتنا)).
إنك لا تعلم ما هو العمل الذي به تدخل الجنة، فلعلَّ شريطًا توزعه أو نصيحةً عابرة تتكلم بها يكتب الله بها لك رضاه ومغفرتَه.
ولقد أخبر النبي كما في الصحيحين أن امرأة بغيًا من بني إسرائيل كانت تمشي في صحراء فرأت كلبًا بجوار بئر يصعد عليه تارة، ويطوف به تارة، في يوم حار قد أدلع لسانه من العطش، قد كاد يقتله العطش، فلما رأته هذه البغي التي طالما عصت ربها وأغوت غيرها ووقعت في الفواحش وأكلت المال الحرام، لما رأت هذا الكلب نزعت خفها حذاءها وأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء وسقته، فغفر الله لها بذلك.
الله أكبر، غفر الله لها، بماذا؟ هل كانت تقوم الليل وتصوم النهار؟! هل قتلت في سبيل الله؟! كلا، وإنما سقت كلبًا شربةً من ماء، فغفر الله لها.
ومن المنجيات المراقبة، إذا خلوت بنفسك وظننت أن لا أحد يراك ولا أحد يراقبك وغلقت كل الأبواب وقالت لك نفسك الأمارة بالسوء: هيت لك، إذا صالت وجالت في بالك الخطرات وضعفت همتك أمام المغريات وحدثتك نفسك بالاقتراب من المنكرات والانسياق خلف الشهوات، إذا سقطت في وحل الفضائيات وتعلقت نفسك بالفاتنات وأدمنت مشاهدة المائلات المميلات الكاسيات العاريات وانسقت خلف التائهين والتائهات من الساقطين والساقطات، إذا رأيت في الطريق إحدى السافرات فأتبعت النظرة الأولى عشر نظرات، إذا جلست أمام أحد الحاسبات نظرت ما يعرض على الشبكة من المفسدات وأوغلت في تلك المشاهدات حتى ضعفت عن فعل الطاعات بل حتى تكاسلت عن أداء الصلوات، كل ذلك وتظنّ أنه لا أحد يراك، إذا فعلت ذلك أو هممت بفعله فتذكر تلك الجبال والنافذة، تذكر تلك الجبال، قال رسول الله : ((لأعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثالِ جِبَالِ تِهَامةَ بيضًا فَيَجعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هباءً مَنْثُورًا))، قَالَ ثَوْبَان: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لا نَعْلَمُ، قَالَ النبي : ((أَما إِنَّهُمْ إِخْوَانكُمْ وَمِنْ جِلْدَتكُمْ وَيَأْخذُونَ مِنْ اللّيلِ كَمَا تَأْخذُونَ، وَلَكِنهُمْ أَقوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)) رواه ابن ماجه.
إذا فعلت ما فعلت أو هممت بفعله فتذكر تلك النافذة، وأنت تنتهك حرمات الله تخيل أن نافذة تقبع بجانبك، وملك الموت يشرف عليك منها من حيث لا تعلم، وتخيل أنه نزع روحك وأنت في هذه الحال فبماذا ستقابل ربك وقد ختم لك بهتك الحرمات والإصرار على السيئات؟! نسأل الله لنا ولك الهداية والثبات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ومن المنجيات زيارة القبور وتذكر الموت، أخي المسلم، هل رأيت القبور؟! هل رأيت ظلمتها؟! هل رأيت وحشتها؟! هل رأيت شدتها؟! هل رأيت ضيقها؟! هل رأيت هوامها وديدانها؟! أما علمت أنها أعدت لك كما أعدت لغيرك؟! أما رأيت أصحابك وأحبابك وأرحامك نقلوا من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الأهل والولدان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التنعم بالطعام والشراب إلى التمرغ في الثرى والتراب، ومن أُنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل؟! فأخذهم الموت على غِرة، وسكنوا القبور بعد حياة الترف واللذة، وتساووا جميعًا بعد موتهم في تلك الحفرة، فالله نسأل أن يجعل قبورنا روضة من رياض الجنة.
أتيت القبور فساءلتها فأين المعظم والمحتقر
وأين الْمذل بسلطانه وأين القوي على ما قدر
تفانوا جميعا فما مُخبر وماتوا جميعًا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما مضى معتبر
عن هانئ مولى عثمان قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبلّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟! فقال: إن الرسول قال: ((القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه))، ثم قال: قال رسول الله : ((ما رأيت منظرًا إلا والقبر أفظع منه)) رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4207)
إن تنصروا الله ينصركم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, القتال والجهاد
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
19/4/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رسالة عمر بن الخطاب في أسباب النصر. 2- التقوى من أعظم أسباب النصر. 3- أثر المعاصي في الهزيمة. 4- لا تكفي القوة المادية وحدها في النصر. 5- جريمة تدنيس المصحف. 6- استمرار المحاولات الصهيونية في تهويد القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل في سورة محمد "القتال": يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:7-9]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:6]، ويقول في السورة نفسها: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47].
أيها المسلمون، هذه الآيات الكريمة تعطينا صورة واضحة لا لبس فيها ولا غموض بأن الله رب العالمين قد ربط الأسباب بالمسببات، فهو سبحانه يعطي وعدًا على نفسه بأن ينصر المؤمنين؛ لأن النصر من عنده وحده، ولن يخلف الله وعده. ولكن متى يتحقق وعد الله؟ والجواب: إذا نصر المؤمنون الله عز وجل. وكيف يكون نصر المؤمنين لله؟
أيها المسلمون، يمكننا معرفة أسباب النصر من خلال الرسالة القيمة التي وجهها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى القائد والصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص الذي كان قائدًا للجيوش الإسلامية في العراق، فيقول عمر في هذه الرسالة والتي كتبت قبل خمسة عشر قرن: (أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدّة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب).
أيها المسلمون، إن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يركز في رسالته أول ما يركز على تقوى الله رب العالمين، فإن أول عامل من عوامل النصر هو الاتصاف بتقوى الله في جميع الأحوال، وأن تقوى الله هي أفضل القوة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، فلا بد إذًا من تقوية العقيدة والإيمان في قلوب الجيل الصاعد في الأمة؛ لأن الإيمان هو الذي غيّر مجرى التاريخ في بدء الدعوة الإسلامية.
أيها المسلمون، يقول عمر في رسالته أيضًا: (وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم).
فمن عوامل النصر الابتعاد عن المعاصي؛ لأن المعاصي والآثام هي أشد خطرًا على المسلمين من أعدائهم؛ حيث تفتك هذه المعاصي في المجتمع من الداخل. والأشد خطرًا وإثمًا هو المجاهرة بالمعاصي، وهذا ما نشاهده في وقتنا الحاضر، فأين نحن من رسالة عمر؟!
إنه كان حريصًا على أخلاق القادة والجند؛ لأنه لا نصر مع الانحراف الخلقي، لا نصر مع الذين يقضون سهراتهم في النوادي الليلية وفي الكازينوهات. إن المعاصي والآثام والموبقات والانحرافات من الأسباب المباشرة للهزائم المتلاحقة التي مُنَيت بها أمتنا.
أيها المسلمون، يتابع عمر بن الخطاب في رسالته الفريدة قوله: (وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا عليهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة).
وكما هو واضح أن من أسباب نصر الله للمؤمنين هو بسبب معاصي الأعداء، ولولا ذلك لم تكن للمسلمين قوة على أعدائهم؛ لأن عدد المسلمين أقل من عدد الأعداء، وأن عدة المسلمين لم تكن كعدتهم، فإن استوى الطرفان في المعصية كانت الغلبة للأعداء.
أيها المسلمون، من المعلوم بداهة أن المسلمين عبر التاريخ لم يسبق لهم أن انتصروا على أعدائهم بسبب زيادة في العدد أو العدة، فما من معركة انتصر فيها المسلمون إلا وكان الأعداء أكثر منهم عددًا وعدةً، وإنما انتصروا عليهم بتقوى الله والتزام الشريعة الإسلامية والتحلّي بالأخلاق الحميدة والابتعاد عن المعاصي والمنكرات والانحرافات.
والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123] أي: وأنتم ضعاف في معركة بدر، وكان عددكم قليلاً، ومع ذلك فقد انتصرتم على أعدائكم. وهذا يؤكد أن نصر المسلمين لم يكن يومًا من الأيام مرتبطًا بالقوة المادية فحسب.
ولا يعني هذا في الوقت نفسه إهمال القوة المادية، ولكن ليست هي العامل الأساس في النصر، والدليل على ذلك أيضًا ما حصل قبيل معركة اليرموك، فقد قال أحد الجند من المسلمين: ما أكثر الروم وما أقل العرب! فأجابه قائدهم: لا، بل قل: ما أكثر العرب وما أقل الروم. فالعبرة ليست بالعدد، بل بالكيف والنوع، وانتصر المسلمون على الروم رغم التفاوت في العدد.
ودليل ثالث مما قاله الصحابي الجليل المغيرة بن زرارة الأسدي ليزدجرد ملك الفرس: (أيها الملك، لقد أصبح هذا الرسول فيما بيننا وبين رب العالمين، وأخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).
أيها المسلمون، إن انتشار المعاصي والموبقات والمخدرات في هذا الزمان لمؤشر على الهزيمة المستمرة، فلا بد من العودة إلى الله رب العالمين بالدعاء والتضرع له مع إعداد العدة؛ ليحقق الله وعده، وليجري النصر على أيدي المؤمنين، فالنصر من الله رب العالمين لمن يستحق النصر المبين، وإن أي شك في ذلك هو في حقيقته شك في الإيمان وهو عين الهزيمة.
أيها المسلمون، والسؤال في المقابل: كيف يكون نصر الله للمؤمنين؟ والجواب: إن الله العلي القدير العزيز الجبار المنتقم لا يعوزه أي أسلوب من الأساليب، ولا أي شكل من أشكال النصر، فيقول عز وجل في سورة المدثر: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31]. ويمثّل جند الله أحيانًا الملائكة كما حصل في معركة بدر لقوله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9-10].
أيها المسلمون، قد يقول قائل: نحن الآن في عصر الصواريخ والأقمار الصناعية والبوارج البحرية، وإن هذه الأساليب الحديثة المتطورة هي التي تقرر النتائج وتحسم الموضوع، فما علاقة نصر الله وقدرته في هذا المجال؟! والجواب على هذا الطرح أقول: إن قدرة الله رب العالمين هي قدرة أزلية دائمة، وهي قائمة وماثلة في كل زمان ومكان، سواء أكان ذلك في عصر الجِمَال أم في عصر الصواريخ. وإن حرب رمضان ـ والمعروفة بحرب تشرين عام 1973م ـ لتؤكد ذلك، حين انطلق الجند المؤمنون وهم صائمون في مصر أرض الكنانة بهتاف: الله أكبر، وكانوا يشاهدون القتلى من الأعداء وهم يتساقطون أرضًا قبل أن يصلوا إليهم، وكاد هؤلاء الجند المؤمنون أن يقلبوا الموازين لولا الأوامر بالتوقّف.
ثم إن هزيمة العراق الأخيرة جاءت نتيجة الخيانات أولاً، وثانيًا لأن المسؤولين في العراق وقتئذ لم يطلبوا النصر من الله عز وجل، ولم يكونوا متصلين بالله، ولم يتقوا الله أصلاً، فكيف سيأتيهم النصر والله سبحانه وتعالى يقول: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]؟!
وجاء في الحديث الشريف: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم)) ، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس، هناك قضايا ساخنة، وأتعرض لاثنتين منها بإيجاز:
أولاً: تدنيس القرآن الكريم: لا تزال الحملة الصليبية المتصهينة ضد ديننا الإسلامي العظيم وضد القرآن الكريم، أقول: لا تزال هذه الحملة المسعورة الحاقدة مستمرة، وقد سبق وأن نبّهنا إلى خطورتها منذ أربع سنوات تقريبًا، أي: منذ الأحداث التي وقعت في أمريكا في شهر سبتمبر في عام 2001م، وكان آخر هذه المحاولات العدوانية هو تدنيس القرآن الكريم في سجن "غوانتانامو" في أمريكا التي تدعي الحرية والديمقراطية، وقد تحقق ذلك من قبل السجانين الأمريكان، بالرغم من أن الصحيفة التي نشرت الخبر قد حاولت بعد ذلك أن تتهرب وتشكك في الرواية؛ لأنها لمست ردة الفعل القوية من المسلمين في أرجاء العالم محتجين على تدنيس القرآن الكريم، باستثناء العالم العربي الذي شُغِل بمشاكله الداخلية.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يحصل تهجّم واعتداء على الديانات الأخرى السماوية منها والأرضية؟! لماذا يُستهدف الإسلام ونبي الإسلام ودستور الإسلام؟! والجواب: إن المسلمين قد ابتعدوا عن دينهم، وتفرّقوا شيعًا وأحزابًا، فتجرّأ غير المسلمين على دين الإسلام، ثم إن الغرب يحمل في قلبه وعقله عداءً متوارثًا من أيام الحروب الصليبية الفرنجية، فهو ـ أي: الغرب ـ يخطط أن لا يعود المسلمون إلى دينهم الذي هو سر وحدتهم وقوتهم.
إنا نقول لأعداء الإسلام: لقد تكفّل الله رب العالمين بحفظ القرآن الكريم بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. إنه القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى العزة في غيره أضله الله، كما قال رسولنا الأكرم.
أيها المسلمون، فمهما حاول الأعداء تدنيس القرآن الكريم أو تحريفه فإن جميع محاولاتهم باءت وستبوء بالفشل بإذن الله ورعايته وقوته، وإن المسلمين في هذه الأيام يزدادون حرصًا على القرآن وتمسّكًا به ونشرًا له في العالم.
ويتوجب على أمريكا الاعتذار عما بدر من موظفيها من تدنيس للقرآن ومحاكمتهم، كما يتوجب على أمريكا أيضًا منع وسائل الإعلام التي تنشر التهجّمات الباطلة الزائفة على الإسلام وعلى نبي الإسلام، وبالمقابل فإنه يتوجب على المسلمين مقاطعة المنتجات الأمريكية كإجراء احتجاجي على الموقف الأمريكي المعادي للإسلام والمسلمين.
ثانيًا: حي البستان في سلوان: لقد تلقّت حوالي مائة عائلة مقدسية إخطارات من البلدية الإسرائيلية تشعرهم فيها بأن حي البستان في سلوان بالقدس هو منطقة خضراء، وأن البيوت المقامة هي بيوت غير قانونية حسب زعم البلدية، وإنها مهددة بالهدم، وهذه الإجراءات الظالمة هي من ضمن مخططات تهويد القدس، في حين أن معظم البيوت مقامة منذ أكثر من خمسين عامًا، وقد أقام السكان خيمة اعتصام لهم لتدارس أوضاعهم القانونية والسياسية والاجتماعية والإنسانية، ويطالبون المواطنين والمؤسسات الوقوف إلى جانبهم للدفاع عن قضيتهم العادلة، ولإيواء عائلاتهم وأطفالهم، رغم أن أصحاب هذه البيوت يدفعون ما يترتب عليهم من رسوم البلدية، ويسددون فواتير الكهرباء والماء وغيرهما منذ عشرات السنين.
فالثبات الثبات يا أهلنا في بيت المقدس، والله معكم، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/4208)
منهج أهل السنة في الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/3/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أزمة المسلمين اليوم أزمة أخلاق. 2- من منهج السلف الصالح الاهتمام بجانب الأخلاق. 3- مكانة الأخلاق الفاضلة في الإسلام. 4- أخطاء في مفهوم الأخلاق. 5- سبل وطرق لرفع مستوى أخلاقنا. 6- من أخلاق المؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإنه لم يعد خافيًا على كل مسلم يريد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة أن التزام كتاب الله وسنة رسوله بفهم السلف الصالح هو سفينة النجاة، وإنّ المتأمل في حياتنا ـ نحن المسلمين ـ في هذه العصور المتأخرة على اختلاف درجاتنا في الاستقامة والإيمان ليلاحظ انفصالاً كبيرًا بين الجانب العلمي النظري والجانب السلوكي الأخلاقي، حيث أصبح من المعتاد أن يرى الإنسان أحيانًا من نفسه أو من بعض إخوانه ـ حتى الصالحين منهم ـ بعدًا في كثير من الجوانب الأخلاقية، فمن اللازم إذًا عند طرح منهج السلف والدعوة إليه أن يطرح بشكل شامل، فيتضمن العقيدة والفقه والسلوك والأخلاق، فكما أنه لا يقبل من أحد أن يلتزم بأخلاق السلف ويترك معتقدهم، فكذلك لا يسوغ لأحد أن يعتقد معتقدهم ويترك الالتزام بسلوكهم وأخلاقهم، ولو أننا رجعنا إلى سيرة السلف الصالح لوجدنا خير مثال للمنهج المتكامل.
أيها الإخوة، إننا إذا أدركنا هذا الأمر والتزمنا به فسوف تختفي من حياتنا وبإذن الله تلك الصور والمواقف المتناقضة، نعم إننا لن نجد شخصًا يعتقد عقيدة السلف في التوحيد ومحاربة البدع ثم هو في نفس الوقت يخالف سلوكهم باقترافه أنواعًا من الظلم والأخلاق المبتذلة والحقد والشحناء واتباع الهوى.
ومما يؤيد أهمية الجانب الأخلاقي في منهج السلف أن العلماء الجهابذة الذين ألفوا في العقيدة ضمنوا كتبهم كثيرًا من الجوانب السلوكية والأخلاقية، ومن ذلك مثلاً ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: "ثم هم ـ أي: أهل السنة ـ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة"، حتى قال رحمه الله: "ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه، وقوله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) ، ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمُر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا)) ، ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفاسفها".
فانظر ـ رحمك الله ـ كيف كان السّلف يفهمون الشمول في الدين والمعتقد، وقال الإمام أبو عثمان الصابوني المتوفى سنة 449هـ في كتابه عقيدة السلف وأصحاب الحديث، قال رحمه الله واصفًا أهل السنة والجماعة: "ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام على اختلاف الحالات، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين، والتعفف في المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمصرف، والسعي في الخيرات، واتقاء شر عاقبة الطمع، ويتواصون بالحق والصبر" انتهى كلامه رحمه الله. فأين الذين يدعون إلى منهج السلف عن هذا السلوك وهذه الأخلاق؟!
أيها الأحبة في الله، إن الأمة الإسلامية بالإضافة إلى ما تعيشه من تخبط عقدي وتأخر دنيوي فإنها تعيش أزمة كبرى في الجانب الخلقي، ومصيبةً عظمى في الجانب السلوكي.
معاشر المسلمين، إن للأخلاق مكانة كبيرة في ديننا الإسلامي، والقرآن الكريم لم يثن على خير الرسل محمد بأكثر من أن قال: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، والنبي يلخص رسالته فلا يزيد أن يقول: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) ، ولا يعني هذا أن الرسول بعث للناس من أجل تحسين أخلاقهم فقط، إنما كان أصل دعوة النبي للتوحيد وحتى يعبد الله وحده لا شريك له، ولكن النبي أراد التنبيه على أن من أعظم مهمات الرسل توجيه الناس إلى الأخلاق الحسنة والسلوك القويم، ولذا فقد قال مرغبًا أمته في الأخلاق الفاضلة: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن)) ، وقال : ((البر حسن الخلق)). ولا عجب ـ أيها الإخوة ـ إن رأينا عالمًا مثل ابن القيم رحمه الله يقول: "الدين هو الخلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين".
أيها الإخوة، إن الدين لا يقف عند حد الدعوة إلى مكارم الأخلاق وتمجيدها فقط، لكنه أرسى قواعدها وحدد معالمها وضبط مقاييسها، فكل خلق حسن إنما جاء به الإسلام، وكل خلق سيئ فقد نهى عنه الإسلام، وإنّ فهم هذا الأمر كفيل لكل مسلم بأن يستزيد من فقه الكتاب والسنة، وأن يتأمل في النصوص الشرعية، وفي نفس الوقت لا بد له أن يعلو بإيمانه ويسمو مفتخرًا بانتسابه إلى هذا الدين، فلا يبحث عن الأخلاق عند أقوام وصفهم الله بأنهم أضل من الأنعام.
إننا نعلم أن بعض الكفار قد يتصف ببعض الصفات الحسنة التي يرجو ثوابها في الدنيا، وهي لا تنفعه في الآخرة؛ لأنه لم يؤمن بالله حق الإيمان، والله يقول في حق هؤلاء: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان: 23]، ولكن هذا لا يسوّغ لمسلم بين يديه وحي من السماء فيتركه باحثًا عن الهدى في غيره.
وإن الناظر إلى شخصية الرسول ليرى عجبًا، وعلى تلك الأخلاق الفاضلة تربَّى الصحابة على يديه ، فأنتج للأمة جيلاً لن يتكرر، فجيل الصحابة بحق أسطورة يعجز المرء عن وصفها.
أيها الإخوة المسلمون، يخطئ كثير من المسلمين في مفهوم الأخلاق الإسلامية، فيظنون الخلق محصورًا في الابتسامة ولو كانت صفراء، وفي الكلمة الطيبة فقط ولو كانت مداهنة ونفاقًا، وهذا كله لا يصلح تفسيرًا للأخلاق، إنما الأخلاق هي بمفهومها الشامل كل ما جاء به الإسلام من تنظيم علاقة الإنسان بغيره، وهذا لن تجده إلا في الإسلام. وإن عدم الفهم الصحيح للأخلاق وحصرها في بعض الجوانب أورث شعورًا عند بعض المسلمين بأن الكفار أو الغرب خاصة لديهم أخلاق أفضل مما عند المسلمين، وهذا أمر لا يجوز اعتقاده؛ لأن مما ينقض الأخلاق من أصولها تلك الحياة الغربية التي تقوم على العبودية المنحطة وإن سموها حرية، لأنهم يعبدون المال ويعبدون النساء والشهوة الجنسية، فهم يعيشون إباحية متناهية لا يضبطها نظام ولا يردعها قانون.
إننا لن نقبل على قيمنا الإسلامية ولن نعرف كيف نستقي منهج حياتنا كاملاً إلا إذا نظرنا إلى القرآن الذي بين يدينا وسنة نبينا محمد نظرة الذي بلغ به العطش مبلغه، فهو يروي عطشه من ماء بارد زلال لا يرضى عنه بديلاً، ومن ثم فسيدرك كل مسلم أنه كان في غفلة عن وحي ربه، وإن كنت ـ أخي المسلم ـ ممن فاتك شيء من هذه الفرص فاستدرك اليوم ما فاتك، وإنما الأعمال بالخواتيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن الحديث عن الأخلاق لأمر سهل، لكنّ الأمر ليس مجرد كلام، وإنه لا يعرف أن أحدًا وصف بحسن الأخلاق لأنه يعرف الأخلاق، إذًا ـ أيها الإخوة ـ نقف مع الخطوة الأولى من العلاج وهي أن نشعر جميعًا بلا استثناء أننا بحاجة إلى أن نتربى على أخلاق الإسلام، ومن ثم نأتي البيوت من أبوابها، فنفتش عن أخلاق النبي خلقًا خلقًا، ومن بعده سلفنا الصالح، فنأخذ مما أخذوا، ونسير كما ساروا، ولقد كان من دعائه : ((اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)).
أيها الأخ المسلم، حاسب نفسك قليلاً، واسألها: أي رصيد تملك من أخلاق أهل الإسلام؟ واعرض نفسك على ما سأذكره لك من أخلاق عملية أوصى بها أحد أسلافنا الصالحين، فقد قال يحيى بن معاذ رحمه الله ذاكرًا ما يجب أن يكون عليه المؤمن من خلق، فقال رحمه الله: "أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الخير، قليل الفساد، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، كثير البر، للرحم وصولاً، وقورًا شكورًا، كثير الرضا عن الله إذا ضيق عليه الرزق، حليمًا رفيقًا بإخوانه، عفيفًا شفوقًا، لا لعانًا ولا سبابًا ولا عيابًا ولا مغتابًا ولا نمامًا، ولا عجولاً ولا حسودًا ولا حقودًا ولا متكبرًا ولا معجبًا، ولا راغبًا في الدنيا ولا طويل الأمل، ولا كثير النوم والغفلة، ولا مرائيًا ولا منافقًا ولا بخيلاً، هشاشًا بشاشًا، يحب في الله ويبغض في الله، ويرضى في الله ويغضب لله، زاده تقواه، وهمته عقباه، وجليسه ذاكره، وحبيبه مولاه، وسعيه لآخراه". فاعلم ذلك يا أخي، وفتش نفسك قبل موتك، وابك عليها إن وجدت فيها أخلاق المنافقين.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت...
(1/4209)
من أحكام المسنين
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الوالدان, مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
23/2/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقلب الإنسان بين الطفولة والشباب والمشيب. 2- أخطاء البعض بحق الكبار والمسنين. 3- حديث موجه إلى المسنين. 4- إجلال المسنين واحترامهم. 5- دور الكبار في تربية المجتمع. 6- من حفظ الله في صغره حفظ الله قوته في كبره. 7- الإسلام وكفالة المسنين. 8- أحكام فقهية راعت أحوالهم. 9- مآسي المسنين في الغرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54]. سبحان من خلق الخلق بقدرته, وصرَّفهم في هذا الوجود والكون بعلمه وحكمته, وأسبغ عليهم الآلاء والنعماء بفضله وواسع رحمته, خلق الإنسان ضعيفًا خفيفًا ثم أمده بالصحة والعافية، فكان به حليمًا رحيمًا لطيفًا، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ، قوة الشباب التي يعيش بها أجمل الأيام والذكريات مع الأصحاب والأحباب, ثم تمر السنون والأعوام، وتتلاحق الأيام تلو الأيام، حتى يصير إلى المشيب والكبر، ويقف عند آخر هذه الحياة، فينظر إليها فكأنها نسج من الخيال أو ضرب من الأحلام، يقف في آخر هذه الحياة وقد ضعف بدنه وانتابته الأسقام والآلام، ثم بعد ذلك يفجع بفراق الأحبة والصحب الكرام، إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:3].
عباد الله، حديثنا اليوم سيكون عن المسنين، كبار السن في مجتمعنا من الأهل والأقارب والجيران، وممن نخالطهم في المساجد والمجالس.
إنه الكبير الذي رق عظمه وكبر سنه، وخارت قواه وشاب رأسه، إنه الكبير الذي نظر الله إلى ضعفه وقلة حيلته فرحمه وعفا عنه، قال الله تعالى: إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:98، 99].
نقف اليوم ـ أيها الأحبة ـ مع كبير السن، نقف مع حقوقه التي طالما ضُيِّعت، ومشاعره وأحاسيسه التي طالما جُرحت، ومع آلامه وهمومه وغمومه وأحزانه التي كثرت وعظمت.
أيها المسلمون، أصبح كبير السن اليوم غريبًا حتى بين أهلِه وأولاده، ثقيلاً حتى على أقربائه وأحفاده، من هذا الذي يجالسه؟! ومن هذا الذي يؤانسه؟! بل من هذا الذي يدخل السرور عليه ويباسطه؟!
إذا تكلم الكبير قاطعه الصبيان, وإذا أبدى رأيه ومشورته سفهه الصغار, فأصبحت حكمته وخبرته في الحياة إلى ضياع وخسران. أما إذا خرج من بيته فقد كان يخرج بالأمس القريب إلى الأصحاب والأحباب وإلى الإخوان والخلان, يزورهم ويزورونه، يقضي حوائجهم ويقضون حوائجه، أما اليوم فإن خرج فإنه يخرج إلى الأشجان والأحزان, يخرج اليوم إلى أحبابه وأصحابه من أقرانه وممن كان يجالسهم، يخرج اليوم يُشيّع موتاهم ويعود مرضاهم, فالله أعلم كيف يعود إلى بيته, يعود بالقلب المجروح المنكسر, وبالعين الدامعة, وبالدمع الغزير المنهمر؛ لأنه ينتظر دوره. يرجع إلى بيته ويرى أن معظم أقرانه وجُلسائه قد فارقوا الحياة، فصار وحيدًا غريبًا ينتظر أمر الله عز وجل.
فيا معاشر كبار السنن، الله يرحم ضعفكم, الله يجبر كسركم، في الله عوض عن الفائتين, وفي الله أنس للمستوحشين. إنا لنعلم أنه قد تجعّد جلدك، وثقل سمعك، وضعف بصرك، وبطِئت حركتك، وترهلت عضلاتك، وتغيّر لون شعرك، ومع ذلك ـ فيا معاشر الكبار ـ أنتم كبار في قلوبنا, وكبار في نفوسنا, وكبار في عيوننا, كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين عَلّمتم وربيتم وبنيتم وقدمتم وضحيتم، لئن نسي الكثير فضلكم فإن الله لا ينسى، ولئن جحد الكثير معروفكم فإن المعروف لا يَبْلى, ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات وتضحيات فإن الخير يدوم ويبقى، ثم إلى ربك المنتهى, وعنده الجزاء الأوفى، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف:30].
يا معاشر الكبار، أمّا الآلام والأسقام والأمراض التي تجدونها بسبب كبر السن فالملائكة كتبت حسناتَها, والله عظّم أجورها, وستجدونها بين يدي الله, فالله أعلم كم كان لهذه الأسقام والآلام من حسنات ودرجات, اليوم تُزعجكم وتقلقكم وتُبكيكم وتقض مضاجعكم, ولكنها غدًا بين يدي الله تفرحكُم وتضحككُم, فاصبروا على البلاء، واحتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء، فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حسن العطاء، قال : ((عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خيرٌ؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له, وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له)). عظّم الله أجوركم, وأجزل في الآخرة ثوابكم، فأحسنوا الظن بما تجدونه عند ربكم.
ثم يا معاشر الشباب، توقير الكبير وتقديره أدب من آداب الإسلام وسنة من سنن سيد الأنام عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام.
يا معاشر الشباب، إجلال الكبير وتوقيره وقضاء حوائجه سنة من سنن الأنبياء وشيمة من شيم الصالحين الأوفياء، قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:23، 24].
يا معاشر الشباب، ارحموا كبار السن وقدروهم ووقروهم وأجلُّوهم؛ فإن الله يحب ذلك ويثني عليه خيرًا كثيرًا, قال النبي : ((إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم)) ، وقال : ((ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا)). إذا رأيت الكبير فارحم ضعفه، وأكبر شيبَهُ, وقدِّر منزلته وارفع درجته, وفرج كربته، يَعظُم لك الثواب, ويُجزِل الله لك به الحسنى في المرجع والمآب، بل اعتبر بما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن أنس أنه قال: جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله يوم فتح مكة، يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله ، فقال رسول الله لأبي بكر: ((لو أقررت الشيخ في بيته لأتيناه)).
يا معاشر الشباب، أحسنوا لكبار السن، لا سيما الوالدين من الآباء والأمهات، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، لا سيما إن كان الكبار من الأعمام والعمات والأخوال والخالات. كم تجلسون مع الأصحاب والأحباب من ساعات وساعات, كم تجالسونهم وتباسطونهم وتدخلون السرور عليهم, فإذا جلستم مع الأقرباء الكبار مللتم وضقتم وسئمتم, فالله الله في ضعفهم، الله الله فيما هم فيه من ضيق نفوسهم.
يا معاشر الشباب، ما كان للكبار من الحسنات فانشروها واقبلوها واذكروها, وما كان من السيئات والهنات فاغفروها واستروها، فإنه ليس من البر إظهار زلة من أحسن إليك دهرا، وليس من الشيمة إعلان هفوة مَن مَا بِكَ مِن خير فبسببه.
أيها المسلمون، سُئل بعض السلف فقيل له: من أسعد الناس؟ قال: أسعد الناس من ختم الله له بالخير. أسعد الناس من حسُنت خاتمته, وجاءت على الخير قيامتُه, قال : ((خيركم من طال عمره وحسن عمله, وشركم من طال عمره وساء عمله)).
يا ابن آدم، إذا رق عظمك وشاب شعرك فقد أتاك النذير، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ [فاطر:37]؛ تذكرة من الله جل جلاله, وتنبيه من الله سبحانه وتعالى رحمةً بعباده. كان السلف الصالح رحمة الله عليهم إذا بلغ الرجل منهم أربعين سنة لزم المساجد وسأل الله العفو عما سلف، وكان يسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان، حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:15، 16]. كانوا إذا بلغوا أربعين عامًا لزموا بيوت الله, وأكثروا من ذكر الله, وأحسنوا القدوم على الله جل جلاله, أما اليوم فأبناء ستين وسبعين في الحياة يلهثون, غافلون لاهون, أما اليوم فنحن في غفلة عظيمة، من طلوع الصباح إلى غروب الشمس والإنسان يلهث في هذه الدنيا, لا يتذكر ولا يعتبر, لا ينيب ولا يدَّكر, وتجده إذا غابت عليه الشمس وقد مُلئ بالذنوب والآثام من غفلة الدنيا وسيئاتها ينطلق إلى المجالس, إلى مجلس فلان وعلان, وغيبة ونميمة وغيرِ ذلك مما لا يُرضي الله, فيأتي عليه يومه خاملاً كسلانًا بعيدًا عن رحمة الله.
كبارنا خيارنا، أهل الفضل والحلم فينا، هم قدوتنا في كل خير، هم أئمتنا إلى الطاعة والبر.
يا معاشر الكبار، أنتم قدوة لأبنائكم وبناتكم وأهليكم, قدوة في مجتمعاتكم، إذا جلست مع الأبناء والبنات فإن كنت محافظًا على الخير والطاعات أحبوك وهابوك وأجلّوك وأكرموك, وإن وجدوك تسب الناس وتشتمهم وتنتقصهم وتعيبهم وتغتابهم أهانوك وأذلوك ثم سبوك وعابوك, وهكذا يُجزى المحسن بالإحسان, والمسيئون بالخيبة والخسران.
معاشر الكبار، إنكم قدوة في مجتمعاتكم، أردتم أم لم تريدوا، من هم دونكم في السن ينظرون إليكم نظرة إجلال واقتداء، فالحذر الحذر من المخالفة والعصيان، إن المجتمع لا يقبل أن يُرى كبير السن سيئًا في خلقه وتعامله، لا يرضى المجتمع أن يُرى كبير السن يدخن مثلاً، فكيف بما هو أعظم من التدخين؟! أو يلاحظ عليه ما يشين. نعم يا معاشر الكبار، إن من حقكم علينا الاحترام والتقدير والمواساة، ومن حقنا عليكم القدوة وأن تكونوا نماذج يُحتذى بكم ويستفاد من خبرتكم وتجاربكم.
يا معاشر الكبار، إنابة إلى الله الواحد القهار, وتوبة من الحليم الغفار، إذا تقربت إلى الله شبرًا تقرب منك ذراعًا, وإن تقربت منه ذراعًا تقرب منك باعًا, وإذا أتيته تمشي أتاك هرولة, إذا نظر الله إلى قلبك أنك تحب التوبة وتحب الإنابة إليه فتح لك أبواب رحمته ويسر لك السبيل إلى مغفرته وجنته, إلى متى وأنت عن الله بعيد؟! وإلى متى وأنت طريد؟! ما الذي جنيت من السهرات؟! وما الذي حصلت من الجلوس هنا وهناك؟!
قال بعض كبار السن: اللهم أحسن لي الخاتمة, فمات بين الركن والمقام. وقال ثان: اللهم أحسن الختام, فمات وهو ساجد بين يدي الله جل جلاله. وقال ثالث: اللهم إني أسألك حسن الخاتمة, فمات يوم الخميس صائمًا لله جل جلاله. أحسنوا الختام, وأقبلوا على الله جل جلاله بسلام، وودعوا هذه الدنيا بأحسن الأعمال وشيم الكرام، فإن الأعمال بالخواتيم.
يا معاشر الكبار، إن مما يحفظ عليك صحتك وقوتك حتى مع كبر سنك طاعة الله جل وتعالى، وأن لا تستخدم هذه الجوارح في معصيته، وهذا شيء من معنى قول النبي : ((احفظ الله يحفظك)) ، أي: من حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وضعف قوته، ومتعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله.
رُوي عن أبي الطيب الطبري رحمه الله تعالى أنه جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فركب مرة سفينة، فلما خرج منها قفز قفزةً قوية لا يستطيعها الشباب، فقيل له: ما هذا يا أبا الطيب؟! فقال: ولِمَ وما عصيت الله بواحدة منها قط؟!
وفي أزماننا المتأخرة فإنا قد عاصرنا مثل إمام هذا العصر الإمام عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله تعالى رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ـ وقد جاوز الثمانين من عمره، وهو بكامل قواه العقلية وذاكرته وحفظه، وكان رحمه الله يستحضر ويُعلّم ويُدرّس ويفتي حتى آخر لحظة من حياته. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. إنها جوارح متى ما حُفِظت حَفَظَت، ((احفظ الله يحفظك)).
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قلّما كان رسول الله يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: ((اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا)) ، والوارث هو الباقي، والمراد إبقاء قوته إلى وقت الكبر.
معاشر الكبار، لقد دلّنا رسول الله إلى بعض الأعمال التي بسببها يطول عمر الإنسان، وعُدّ إطالة العمر جزاءً لهذه الأعمال الفاضلة، ومن ذلك بر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الخلق وحسن الجوار وتقوى الله عز وجل.
فنسأل الله جل وتعالى طول عمر مع حسن عمل، كما نسأله سبحانه صحة في قلوبنا وصحة في أبداننا، وأن لا يحوجنا إلى غيره سبحانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن مرحلة الشيخوخة من العمر مرحلة عصيبة، ولا عجب فلقد تعوذ منها رسول الله فيما رواه عنه أنس أن النبي كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والهرم)) رواه البخاري، وفي رواية أخرى أنه عليه الصلاة والسلام كان يتعوذ من أن يرد إلى أرذل العمر. وقد عدّ الرسول هذه المرحلة هي آخر مرحلةٍ قبل الموت، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسيا أو غنى مطغيا أو مرضًا مفسدا أو هرمًا مفندا أو موتًا مجهزا؟!)).
أيها المسلمون، ولئن اعتنت الدول بهذه المرحلة من عمر الإنسان فظهر ما يسمى بنظام التقاعد والتأمينات الاجتماعية، فإن الإسلام قد نظّم وأكد هذا الأمر قبل أكثر من أربعة عشر قرنًا. إن المسنّين يدخلون ضمن الرعية التي يعَدّ إمام المسلمين راعيًا لهم ومسؤولاً عنهم، ( (كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته)) رواه البخاري من حديث ابن عمر.
ورعاية المسنين تلزم ولي أمر المسلمين، وهي مسؤولية شاملة لجوانب الرعاية، من اقتصادية واجتماعية وطبية ونفسية وغيرها. عن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية فلم يُحِطها بنصحه إلا لم يجد رائحة الجنة)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، لقد جاءت هذه الشريعة رحمة للبشرية، ومن صور هذه الرحمة أن الله عز وجل خص كبار السن ببعض الأحكام؛ رحمةً بهم وإشفاقًا عليهم، مراعاةً لحالتهم الصحية والبدنية، من ذلك:
أنه أمر الأئمة في المساجد بتخفيف الصلاة مراعاة لكبار السن والمرضى، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا صلى أحدكم للناس فليخفف؛ فإن منهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء)).
ومن الأحكام أن الأكبر سنا مقدّم في الإمامة في الصلاة إذا تساووا في قراءة القرآن.
وأيضا من الأحكام أن كبير السن الذي لا يستوي على الراحلة يحج عنه ويعتمر ولو كان حيا، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت امرأةٌ من خثعم عام حجة الوداع قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: ((نعم)) رواه البخاري.
ومن الأحكام الرخصة لكبير السن بالإفطار في رمضان حين عجزه، والإطعام عن كل يوم مسكينا أخذا بقول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184].
ومن الأحكام أنه أمر الصغير أن يسلم على الكبير، وأن يبدأه إجلالا له وتقديرا لسنه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير)) رواه البخاري.
ومن أحكام كبار السن أنه أمر أن يُبدأ بتقديم الشرب للأكابر، ففي الحديث أن رسول الله كان إذا سُقي قال: ((ابدؤوا بالكبراء)) ، أو قال: ((بالأكابر)). ومرةً جاءه عيينة بن حصن وعنده أبو بكر وعمر وهم جلوس على الأرض، فدعا لعيينة بوسادة وأجلسه عليها، وقال: ((إذا أتاكم كبير قوم فأكرموه)).
وأيضًا من الأحكام جواز كشف المسنة وجهَها لغير المحارم، لكن تحجُّبُها أفضل، قال الله تعالى: وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:60]، قال الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله: "والقواعد هن العجائز اللاتي لا يرغبن في النكاح ولا يتبرجن بالزينة، فلا جناح عليهن أن يسفرن عن وجوههن لغير محارمهن، لكن تحجبهن أفضل وأحوط لقوله سبحانه: وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ، ولأن بعضهن قد تحصل برؤيتها فتنة من أجل جمال صورتها وإن كانت عجوزا غير متبرجة بزينة، أما مع التبرج فلا يجوز لها ترك الحجاب، ومن التبرج تحسين الوجه بالكحل ونحوه" انتهى.
ومن أحكام المسنين أن الشريعة نهت عن قتل كبير السن من العدو الكافر حال الجهاد، فقد كان رسول الله يوصي أصحابه عند بعث السرايا والجيوش في الغزوات أن لا يقتلوا صغيرًا ولا امرأةً ولا شيخًا كبيرًا، روى الطبراني عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله إذا بعث جيشًا أو سريةً دعا صاحبهم فأمره بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اغزوا بسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغلّوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا ولا شيخًا كبيرًا)).
فتأمل ـ يا رعاك الله ـ إلى شريعة الإسلام حتى مع العدو حال القتال، لا يقتل كبير السن، ولا تقتل المرأة، فضلاً عن الأطفال، وقارن ـ يا أخي الحبيب ـ بين هذا وبين ما يمارسه الكفار اليوم بجميع مللهم ونحلهم، ابتداءً من اليهود ومرورًا بالنصارى وانتهاءً بالصرب والشيوعيين، وكيف أنهم لم يرحموا طفلاً رضيعًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأةً مسكينة، بل بهم يبدؤون، وعليهم ترسل الصواريخ والقذائف، بل وتدمر البيوت والمساكن فوق رؤوسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إنها شريعة الغاب التي يدين بها الغرب.
وإن تعجب فاعجب من موقف عمر بن الخطاب مع ذلك الرجل الكبير المسنّ الضرير اليهودي، وقد ذكره أبو يوسف في كتاب الخراج أن عمر بن الخطاب مرَّ بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه، فقال: من أيّ أهل الكتاب أنت؟ قال: يهودي، قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسنّ، قال: فأخذ عمر بيده فذهب به إلى منزله فأعطاه من المنزل شيئًا، ثم أرسل إلى خازن بيت المال فقال: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إذ أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، فالفقراء هم المسلمون والمساكين من أهل الكتاب، ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.
ألا فلتسمع الدنيا مثل هذه المعاملة، ولتسمع بخالد بن الوليد عندما صالح أهل الحيرة وجاء في صلحه معهم أنه قال: (وجعلت لهم أيّما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين).
أين منظمات حقوق الإنسان اليوم عن مثل هذه الأحكام وهذه التشريعات؟! إنه لا خلاص للبشرية من الممارسات الوحشية اليوم في العالم كله إلا بالإسلام، ويوم يرجع الإسلام لحكمه في الأرض فستنعم البشرية في ظله، وهو يوم آت لا نشك في ذلك، ولتعلمُنّ نبأه بعد حين.
إن الغرب ـ أيها الأحبة ـ الذي يدّعي حقوق الإنسان اليوم زعموا، إليك بعض أخباره مع كبار السن عندهم:
اقترح مستشار الرئيس الفرنسي السابق في إحدى الدراسات أن لا يعطى الشيوخ علاجًا طبيًا مكثفًا إذا تجاوز سنًّا معينة من أجل التعجيل بوفاته، وها هو أحد المستشفيات في الدانمارك يرفض استقبال المرضى المسنين؛ لأن إقامتهم في المستشفى قد تطول، ويجب أن تعطى أولوية العلاج للعاملين الذين يسهمون في تمويل صناديق الرعاية بما يدفعونه من ضرائب، فقيمة الإنسان لديهم ليست في ذاته، وإنما في قدرته على الإنتاج، ومن لا ينتج فالموت، هذه هي الحضارة التي ينادي بها في مجتمعاتنا أولئك المنهزمون ممن رضعوا من ألبان الغرب من أصحاب التوجهات العلمانية، ومن نحى نحوهم ممن يريدون أن يأخذوا حضارة الغرب بعجرها وبجرها. هذه الكتابات التي نقرأها يوميًا في صحفنا ومجلاتنا، والتي تنادي بالحضارة الغربية والسير في منوالها، هل يريدون أيضًا منّا أن نعامل كبار السنّ عندنا على مثل ما اقترحه المستشار الفرنسي؟! رحماك ثم رحماك.
اللهم ارحمنا رحمة اهد بها قلوبنا، اللهم اختم لنا بخير, اللهم اختم لنا بخير, اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها, وخير أعمارنا خواتمها, وخير أيامنا يوم لقائك, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم ارحم كبارنا, ووفق للخير صغارنا, وخذ بنواصينا لما يرضيك عنا...
(1/4210)
عيد الفطر 1410هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
فضائل الأعمال, قضايا دعوية
محمد بن عبد الله السبيل
مكة المكرمة
1/10/1410
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على التمسك بالكتاب والسنة. 2- أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله. 3- التحذير من إصدار الفتاوى والأحكام دون علم شرعي. 4- أهمية تطبيق الشريعة في حياة المجتمعات. 5- الترغيب في الاستمرار على الأعمال الصالحة بعد رمضان. 6- الحث على صيام الست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، له ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، على العرش استوى, وعلى الملك استولى, وقد وسع كل شيء رحمة وعلمًا، كتب علينا الصيام، وسن رسوله لنا القيام، وشرع الأعياد في الإسلام، وأجزل لنا فيها العطاء وأنال المنى.
أحمده سبحانه، وبحمده يلهج من في الأرض والسماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم السر والنجوى، وإليه المآب والرجعى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى كلمة التقوى، أفضل من صام وتهجد، وأتقى من أناب وتعبد، وأخلص من دعا إلى الله فما ولَّى ولا تردد، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة حتى لحق بالرفيق الأعلى، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد ما هل هلال وأضا، وما هطل غيث على سهل أو ربا، وعلى آله وصحبه أئمة العلم والهدى، ومصابيح الظلام والدجى، ما تعاقبت الدهور، وتكررت الأعياد والشهور، صلاة وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه الوافرة ومننه المتكاثرة، ألا إن يومكم هذا يوم شهيد، فضله الله وعظمه، وجعله عيدًا سعيدًا لأهل طاعته، يفيض عليهم فيه من جوده وكرمه، فاشكروه على إكمال عدة الصيام، واذكروه وكبروه على ما هداكم وحباكم من نعمة الإسلام، واعبدوه حق عبادته، واتقوه حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، أفردوه بالعبادة فإنه خلقكم لها كما قال عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
يجب علينا لله غاية الذل والخنوع له وكمال المحبة والإنابة والإقبال عليه والإعراض عن كل ما سواه وتعلق القلب به وإخلاص العمل له وحده، واحذروا ـ عباد الله ـ من التعلق بغيره في جلب نفع أو دفع ضر، فغيره سبحانه لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَو?ةً وَلاَ نُشُورًا [الفرقان:3]، فالله هو القادر على كل شيء، وبيده كل شيء، ذَلِكُمُ ?للَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ?لْمُلْكُ وَ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13، 14].
عباد الله، تمسكوا بكتاب ربكم تفلحوا، واعملوا بسنة نبيكم تهتدوا، وحافظوا على الصلاة فإنها عماد الدين، وهي صلة بين العبد وبين ربه، من حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم فإنها من أركان دينكم، وصوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، وعليكم ببر الوالدين فإنه أعظم الحقوق بعد حق الله وحق رسوله ، وعليكم بصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء والأيتام، وتضرعوا بالصبر على أقدار الله تفوزوا بالمواهب الجسام، واجتنبوا الربا، واحذروا من بخس المكاييل والموازين والمقاييس والغش والخداع في المعاملات، ووقروا اليمين بالله في الخصومات، فقد قال : ((من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه لقي الله وهو عليه غضبان)) [1] ، وإياكم والإفك والبهتان وشهادة الزور، واحذروا من الكبر والخيلاء والفخر والازدراء، وعليكم بالتواضع وخفض الجناح والتواصل والتوادد والتراحم وعدم التقاطع.
عباد الله، اشكروا ربكم على نعمة الإسلام، وتمسكوا بدينكم، وافرحوا به، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
وأحبوا في الله وأبغضوا في الله؛ فقد جاء عنه أنه قال: ((أوثق عرى الإيمان أن تحبّ في الله وتبغض في الله)).
وادعوا إلى الله على بصيرة؛ فإن الدعوة إلى الله على بصيرة من هديه وطريقته ممتثلاً أمر ربه سبحانه بقوله: قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]، فلقد رسمت لنا هذه الآية الكريمة طريق الدعوة إلى الله بأوضح دلالة وأوجز عبارة، وسار على نهجها.
وسلك الرعيل الأول من الصحابة الكرام وتابعيهم بإحسان مسلك أنبياء الله ورسوله، يدعون إلى الله على بصيرة، يدعون إلى الله بالتي هي أحسن، يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أعطاهم الله الحكمة في الدعوة وفي الأمر والنهي، كانوا كما وصفهم الله سبحانه: يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].
فالحكمة وضع الشيء في موضعه وبقدره بدون زيادة في التصرف أو لجوء إلى التكلف، وبدون نقص في التبصير أو جنوح إلى التقصير، فقد كانت أقوالهم وأفعالهم وتدبيراتهم تابعة للحكمة، موافقة للصواب، غير متقدمة على أوانها، ولا متأخرة عن إبانها، وبلا زيادة عما ينبغي, ولا نقص فيما يطلب، أولئك هم الرجال الكمل، وعليهم المعوَّل، وهم القدوة في كل زمان ومكان، عملوا بالحكمة في التعليم والتوجيه، يعلمون طلابهم صغار المسائل قبل كبارها، وواضحها قبل مشكلها، بحسب فهم الطالب وقدرته على استيعاب ما يلقى عليه، بعبارة سهلة واضحة مختصرة، وعملوا بالحكمة في نصحهم وإرشادهم وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، بحسب ملاءمة الوقت والحال المناسبة للمنصوح أو المأمور، يستخدمون الرِفقَ والكلمات الطيبة التي لا تُنَفِّر ولا تجرح الشعور، في رفق وتأنٍّ كما قال بعض السلف: "على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عليمًا فيما يأمر، عليمًا فيما ينهى، حليمًا فيما يأمر، حليمًا فيما ينهى، رفيقًا فيما يأمر، رفيقًا فيما ينهى، وإلا كان ضرره أكثر من نفعه".
وقد رسم لنا القرآن الكريم صفة الدعوة إلى الله حينما ذكر سبحانه قصة موسى مع فرعون، فإن فرعون كان أعتى أهل الأرض، يقول لقومه: أَنَاْ رَبُّكُمُ ?لأَعْلَى? [النازعات:24]، ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى [القصص:38]، فلما بعث الله موسى وأخاه هارون قال الله لهما: ?ذْهَبَا إِلَى? فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:43، 44]، فأمرهما سبحانه بالقول اللين، وبيَّن أن ذلك أدعى للقبول، وأسهل إلى الانقياد للحق، وأبعد عن النفور، وهذا تنبيه لكل داع إلى الله أن يسلك هذا المسلك في دعوته وإرشاده.
فهكذا كانت دعوته وتعليمه وإرشاده، يتضح ذلك بما جاء عن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكل أمّاه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصنتوني لكني سكت، فلما صلى رسول الله فسلم، فبأبي وأمي ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير والتحميد وقراءة القرآن)) روى هذا الحديث الإمام أحمد ومسلم وغيرهما [2].
وفي حديث أنس قال: بينما نحن في مسجد مع رسول الله إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله : مه مه، قال: فقال رسول الله : ((لا تزرموه، دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله دعاه فقال: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر, إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن)) ، وفي حديث أبي هريرة قال: ((دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماء، أو ذنوبًا من الماء؛ فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) روى الحديث البخاري ومسلم وغيرهما [3].
ثم إن هذا الأعرابي حينما خرج من المسجد وركب بعيره قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا.
عباد الله، هذه طريقته في تعليمه ونصحه وإرشاده ودعوته وأمره ونهيه، وخير الهدي هدي محمد ، فاتبعوا هديه، واسلكوا نهجه، واعملوا بتوجيهاته، واتصفوا بها في جميع شؤونكم، واحذروا من التكلف والغلو أو التنطع في الدين؛ فقد جاء عنه قوله: ((ألا هلك المتنطعون)) قالها ثلاثًا [4].
وإياكم والتكلف والدخول في أمور لا تعني، فقد قال : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه)). وإن من التكلف أن يقحم بعض الناس نفسه فيتصدى للأمر والنهي وهو لا يعرف حكم ما يأمر به ولا ما ينهى عنه، فإنه يحصل بسبب ذلك خلل في الدين واستخفاف بالعلم وأهله، وكم تظاهر أقوام بالوعظ والإرشاد ممن لا يحسن ذلك لجهله أو سوء خلقه، فهو يتصيد بعض المقالات من بعض العلماء وهو لا يدري مأخذها ولا يوقعها موقعها، وكم تطاول بعض الجاهلين ممن قلّ علمهم وأحبوا الشهرة فأنكروا أمورًا لا توجب الإنكار، وربما تكلموا في أعراض الناس لعدم ملازمتهم لبعض المستحبات التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، أو ربما كان استحبابها عند بعض العلماء دون بعض.
فربما يقع في اغتياب هؤلاء بأمور تركُها لا إثمَ فيه، وهم قد ارتكبوا بعض الكبائر باغتيابهم للناس؛ فإن الغيبة من كبائر الذنوب على الصحيح من أقوال العلماء، فأنكروا ما ليس بمنكر، وحرموا ما ليس بمحرم، وارتكبوا الإثم، وهذا من قلة العلم وغلبة الجهل، ونتج عن ذلك عداوة في الدين وتفرق واختلاف وتخطئة للعلماء, وربما تطاول بعض السفهاء فتناول بعض الأئمة رحمهم الله بالتنقص والازدراء، وكل هذا سببه قلة العلم والورع وحب الشهرة. فاتقوا الله عباد الله، واتبعوا هدي نبيكم وسلفكم الصالح.
عباد الله، إن دين الإسلام قد أكمله الله للأمة وأتم به النعمة، فتمسكوا به، واحذروا من التفريط فيه أو الإفراط, ومن الغلو والجفاء, فهو الدين الكامل الشامل لكل ما تحتاجه البشرية في دينها ومجتمعها وحل مشاكلها، وهو الذي تحصل به سعادة الدنيا والآخرة لمن تمسك به وسار على نهجه، فما تمّ عدل ولا تكامل أمن ولا سعدت أمة إلا بتطبيقه والتحاكم إليه وإقامة حدوده ونشر تعاليمه.
والكل منا يعلم ما يحصل في بعض بلاد المسلمين من التفكك بين الشعوب وقادتها وعدم الأمن واضطراب الأحوال بسبب الانحراف عن تعاليمه وعدم تطبيق شريعة الله على عباد الله، فساءت بذلك أحوالهم، وكثر الاختلاف والنزاع، لقد روي عن ابن عمر أنه قال: ((وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم)) [5].
وإنا نحمد الله جل شأنه على ما منَّ به على هذه البلاد من الأمن والاستقرار ورغد العيش والتحام شعبها بقادتها؛ بسبب تطبيق شريعة الله وتنفيذ أحكامها وحدودها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فانتشر بذلك العدل في ربوعها والأمن في أرجائها، وإنا نبتهل إلى الله جل شأنه أن يحفظ هذه البلاد وقائدها ويوفقه لما يحبه ويرضاه، وأن يحفظه من كيد الكائدين ومكر الماكرين وشر الحاسدين، وأن يجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى، إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
أيها المؤمنون، استقيموا على طاعة مولاكم، ولا تعرضوا عن إلهكم بعد إقبالكم عليه في هذا الشهر الكريم، شهر الصيام والقيام، فالإله هو الرب المعبود في رمضان وفي جميع الأزمان، فاستقيموا إليه واستغفروه لعلكم ترحمون.
وتذكروا ـ عباد الله ـ بهذا الاجتماع اجتماعكم يوم العرض على الله، يوم تعرضون على من لا تخفى عليه منكم خافية، في ذلك الموقف ينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ?لْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّـ?تُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ فَسَلَـ?مٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ?لْمُكَذّبِينَ ?لضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ حَقُّ ?لْيَقِينِ فَسَبّحْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لْعَظِيمِ [الواقعة:88-96].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الخصومات، باب: كلام الخصوم بعضهم في بعض (2417)، ومسلم في كتاب الإيمان، باب: وعيد من اقتطع حق مسلم (138) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] مسند أحمد (5/447)، صحيح مسلم: كتاب والمساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة (537).
[3] صحيح البخاري: كتاب الأدب، باب: الرفق في الأمر كله (6025)، صحيح مسلم: كتاب الطهارة، باب: وجوب غسل البول (285).
[4] أخرجه مسلم في كتاب العلم، باب: هلك المتنطعون (2670) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[5] أخرجه ابن ماجه في كتاب الفتن، باب: العقوبات (4019)، وأبو نعيم في الحلية (8/333-334)، وصححه الحاكم (4/540)، وهو في السلسلة الصحيحة (106).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله مُعيد الجُمع والأعياد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، أحمده سبحانه وأشكره على ترادف مننه وتكاثر نعمه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له إله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، شرع الشرائع وسن الأعياد، وقرر الملة وأشاد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، واعبدوه حق عبادته، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله، عليكم بالتخلق بأخلاق القرآن والتأدب بآداب سيد الأنام، حسنوا أخلاقكم مع إخوانكم المؤمنين، مع أقاربكم وجيرانكم؛ فما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق. حسنوا أخلاقكم مع أهليكم وأزواجكم، فقد قال : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)).
أيتها المرأة المسلمة، اتقي الله وحافظي على ما أوجب الله عليك في دينك وأمانتك وما استرعاك الله عليه، مُري أبناءك بالصلاة، وعوديهم على الطاعات وعلى الصدق والأمانة ومكارم الأخلاق، وحذريهم من الكذب والغيبة والنميمة وبذاءة اللسان، حافظي على كرامتك وعرضك, لا تزاحمي الرجال في الأسواق والمتاجر والمجتمعات.
أيها المؤمنون والمؤمنات، إن الله أوجب على الأمة الإسلامية التعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح فيما بيننا واجب لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
وإن الفساد ـ يا عباد الله ـ إذا انتشر في الأمة عمَّ المسيء وغيره، وحلت العقوبة في الأمة كلها، وإن من أسوأ الأمور التي عم بها البلاء في كثير من بلاد الإسلام ما جلبه أعداء المسلمين لتمزيق شملهم وتفكيك أسرهم وإفساد دينهم وابتزاز أمانهم وقتل مروءتهم والفتك بأجسادهم وأرواحهم. إن هذه المخدرات بجميع أنواعها وأشكالها والخمور وسائر المحرمات أفسدت الأخلاق وكدرت الأمن وشتت الأسر ونكدت على الآباء والأمهات من جراء فساد أخلاق أبنائهم وتباعدهم عن دينهم وعن أهليهم والتفافهم على أصحاب الشر والفساد وجلساء السوء.
فيا عباد الله، إنه يجب علينا جميعًا محاربة هذه الأمور, وإنكارها والتحذير منها, وإشاعة ضررها, وتبليغ المسؤولين عن أمن هذه البلاد عما يعلمه كل فرد منا عن المروجين والمتعاطين لها لقمع الفساد والمفسدين، فإن هذا من التعاون المطلوب من كل مسلم، ومن واجب كل مؤمن, حماية لنفسه ولأبناء جنسه وقيامًا بواجبه ونصحًا لدينه وأمته.
عباد الله، اشكروا الله على ما حباكم من نعمة الأمن والاستقرار، وعلى ما هداكم ومنَّ عليكم من نعمة دين الإسلام وتحكيم شريعة الله في هذه البلاد، وعلى تواجد الخيرات والأرزاق فيها، وتذكروا ـ عباد الله ـ ببهجتكم وسروركم في هذا اليوم المبارك إخوانكم المعوزين والمضطهدين في بعض الأقطار الأخرى من إخوانكم المسلمين في أفغانستان وفي فلسطين وفي غيرهما من بعض النواحي، تعلو وجوههم الكآبة والحزن، وترجف قلوبهم من الخوف وقلة الأمن بمطاردة أعدائهم أعداء الإسلام بالقنابل المحرقة والأسلحة الفتاكة وبالاضطهاد في دينهم وحريتهم وكرامتهم، يغتصبون بلادهم وأوطانهم، وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [البروج:8]، وهم مع ذلك صابرون مناضلون في بسالة وتضحية، فهذا شهيد، وذاك جريح، وآخر أسير، فكم أيموا النساء، وأيتموا الأطفال، وشتتوا الأسر، وفرقوا بين الأمهات وأطفالهم.
فتذكروا إخوانكم في تلك البقاع، واشكروا الله على أمنكم واستقراركم، وإن من شكر النعم القيام بأمر الله والإحسان إلى أولئك المجاهدين والمضطهدين وإسعافهم بما تجود به نفوسكم من أموالكم ومما رزقكم الله شكرًا لله على نعمه وإعانة لإخوانكم؛ فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، والراحمون يرحمهم الرحمن، وإن الصدقة تدفع البلاء وتزيد في المال، إِن تُقْرِضُواْ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَـ?عِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [التغابن:17].
عباد الله، إن نبيكم قد ندبكم لصيام ستة أيام من شوال، ففي صحيح مسلم عن أبي أيوب أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) [1]. فبادروا إلى فعل الطاعات، وتسابقوا إلى القربات.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين نبي الهدى والرسول المجتبى، فقد أمركم مولاكم بذلك في محكم كتابه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار وصحابته المهاجرين منهم والأنصار، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن العشرة المفضلين وأهل بدر والعقبة وعن أصحاب الشجرة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا في كل مكان يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين وفي جميع أقطار المسلمين وفي كل موطن يضطهد فيه عبادك المؤمنون، اللهم قوِّ عزائمهم، وسدد سهامهم وآراءهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى...
[1] صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا (1164).
(1/4211)
التحذير من فتنة الدجال
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
20/5/1422
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصف تميم الداري رضي الله عنه للدجال. 2- خطبة النبي في وصف الدجال والتحذير منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بالمسارعة إلى ما يدنيكم من ربكم الكريم الغفور الرحيم، ولا يكون ذلك إلا بملازمة تقوى الله رب العالمين والسير بهدي سيد المرسلين: ((بَادِرُوا بِالأعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوِ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوِ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟!)) رواه الترمذي بإسناد ضعيف (2306).
أيها الناس، لا يخفى عليكم أن رسول الله ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، ولا شرًا إلا حذر الأمة منه، ومن الشر الذي حذر الأمة منه شرُّ غائب ينتظر، ألا وهو الدجال، فقد قال رسول الله : ((مَا بُعِثَ نَبِيٌّ إِلا أَنْذَرَ أُمَّتَهُ الأعْوَرَ الْكَذَّابَ)) رواه البخاري (7131).
وكان من تحذيره أن قام خطيبًا في أصحابه فَقَالَ: ((لِيَلْزَمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُصَلاهُ)) ، ثُمَّ قَالَ: ((أَتَدْرُونَ لِمَ جَمَعْتُكُمْ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((إِنِّي وَاللَّهِ مَا جَمَعْتُكُمْ لِرَغْبَةٍ وَلا لِرَهْبَةٍ، وَلَكِنْ جَمَعْتُكُمْ لأن تَمِيمًا الدَّارِيَّ كَانَ رَجُلاً نَصْرَانِيًّا، فَجَاءَ فَبَايَعَ وَأَسْلَمَ، وَحَدَّثَنِي حَدِيثًا وَافَقَ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكُمْ عَنْ مَسِيحِ الدَّجَّالِ، حَدَّثَنِي أَنَّهُ رَكِبَ فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثَلاثِينَ رَجُلاً مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ، فَلَعِبَ بِهِمُ الْمَوْجُ شَهْرًا فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ أَرْفَؤوا إِلَى جَزِيرَةٍ ـ أي: التجؤوا إليها ـ فِي الْبَحْرِ حَتَّى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، فَجَلَسُوا فِي أَقْرُبِ السَّفِينَةِ ـ أي: ما قارب إلى الأرض منها ـ فَدَخَلُوا الْجَزِيرَةَ، فَلَقِيَتْهُمْ دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ لا يَدْرُونَ مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقَالُوا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ ـ سميت بذلك لتجسسها الأخبار للدجال، وجاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنها دابة الأرض المذكورة في القرآن ـ ، قَالُوا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتْ: أَيُّهَا الْقَوْمُ، انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالأَشْوَاقِ ـ أي: شديد الأشواق إلى خبركم ـ ، قَالَ: لَمَّا سَمَّتْ لَنَا رَجُلاً فَرِقْنَا مِنْهَا ـ أي: خفنا ـ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا سِرَاعًا حَتَّى دَخَلْنَا الدَّيْرَ، فَإِذَا فِيهِ أَعْظَمُ إِنْسَانٍ ـ أي: أكبُره جثة وأهيبُ هيئة ـ رَأَيْنَاهُ قَطُّ خَلْقًا، وَأَشَدُّهُ وِثَاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى كَعْبَيْهِ بِالْحَدِيدِ، قُلْنَا: وَيْلَكَ مَا أَنْتَ؟ قَالَ: قَدْ قَدَرْتُمْ عَلَى خَبَرِي فَأَخْبِرُونِي مَا أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ رَكِبْنَا فِي سَفِينَةٍ بَحْرِيَّةٍ فَصَادَفْنَا الْبَحْرَ حِينَ اغْتَلَمَ ـ أي: هاج وجاوز حده ـ ، فَلَعِبَ بِنَا الْمَوْجُ شَهْرًا، ثُمَّ أَرْفَأْنَا إِلَى جَزِيرَتِكَ هَذِهِ، فَجَلَسْنَا فِي أَقْرُبِهَا، فَدَخَلْنَا الْجَزِيرَةَ فَلَقِيَتْنَا دَابَّةٌ أَهْلَبُ كَثِيرُ الشَّعَرِ، لا يُدْرَى مَا قُبُلُهُ مِنْ دُبُرِهِ مِنْ كَثْرَةِ الشَّعَرِ، فَقُلْنَا: وَيْلَكِ مَا أَنْتِ؟ فَقَالَتْ: أَنَا الْجَسَّاسَةُ، قُلْنَا: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَتِ: اعْمِدُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي الدَّيْرِ فَإِنَّهُ إِلَى خَبَرِكُمْ بِالأشْوَاقِ، فَأَقْبَلْنَا إِلَيْكَ سِرَاعًا وَفَزِعْنَا مِنْهَا، وَلَمْ نَأْمَنْ أَنْ تَكُونَ شَيْطَانَةً، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَخْلِ بَيْسَانَ ـ هي قرية بالشام ـ ، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: أَسْأَلُكُمْ عَنْ نَخْلِهَا هَلْ يُثْمِرُ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ لا تُثْمِرَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ ـ هي بحر صغير معروف بالشام ـ ، قُلْنَا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِيهَا مَاءٌ؟ قَالُوا: هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، قَالَ: أَمَا إِنَّ مَاءَهَا يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ عَيْنِ زُغَرَ ـ هي بلدة معروفة في الجانب القبلي من الشام ـ ، قَالُوا: عَنْ أَيِّ شَأْنِهَا تَسْتَخْبِرُ؟ قَالَ: هَلْ فِي الْعَيْنِ مَاءٌ؟ وَهَلْ يَزْرَعُ أَهْلُهَا بِمَاءِ الْعَيْنِ؟ قُلْنَا لَهُ: نَعَمْ، هِيَ كَثِيرَةُ الْمَاءِ، وَأَهْلُهَا يَزْرَعُونَ مِنْ مَائِهَا، قَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ نَبِيِّ الأمِّيِّينَ مَا فَعَلَ؟ قَالُوا: قَدْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَنَزَلَ يَثْرِبَ، قَالَ: أَقَاتَلَهُ الْعَرَبُ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: كَيْفَ صَنَعَ بِهِمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ عَلَى مَنْ يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبِ وَأَطَاعُوهُ، قَالَ لَهُمْ: قَدْ كَانَ ذَلِكَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَمَا إِنَّ ذَاكَ خَيْرٌ لَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، وَإِنِّي مُخْبِرُكُمْ عَنِّي: إِنِّي أَنَا الْمَسِيحُ، وَإِنِّي أُوشِكُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي فِي الْخُرُوجِ، فَأَخْرُجَ فَأَسِيرَ فِي الأرْضِ فَلا أَدَعَ قَرْيَةً إِلا هَبَطْتُهَا فِي أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، غَيْرَ مَكَّةَ وَطَيْبَةَ، فَهُمَا مُحَرَّمَتَانِ عَلَيَّ كِلْتَاهُمَا، كُلَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَ وَاحِدَةً أَوْ وَاحِدًا مِنْهُمَا اسْتَقْبَلَنِي مَلَكٌ بِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا ـ أي: مسلولا ـ يَصُدُّنِي عَنْهَا، وَإِنَّ عَلَى كُلِّ نَقْبٍ مِنْهَا مَلائِكَةً يَحْرُسُونَهَا)) ، وَطَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ بِمِخْصَرَتِهِ فِي الْمِنْبَرِ وقَالَ: ((هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ، هَذِهِ طَيْبَةُ)) أخرجه مسلم (2942).
وإليكم خطبة أخرى من خطب رسول الله في التحذير من الدجال، قال : ((أيها الناس، إِنّها لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ مُنْذُ ذَرَأَ اللَّهُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ أَعْظَمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا إِلا حَذَّرَ أُمَّتَهُ الدَّجَّالَ، وَأَنَا آخِرُ الأنْبِيَاءِ وَأَنْتُمْ آخِرُ الأمَمِ، وَهُوَ خَارِجٌ فِيكُمْ لا مَحَالَةَ، فإِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا بَيْنَ أظهركم فَأَنَا حَجِيجٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنْ يَخْرُجْ مِنْ بَعْدِي فَكُلُّ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَيَعِيثُ يَمِينًا وَيَعِيثُ شمالاً. يَا عِبَادَ اللَّهِ، أيها الناس، فَاثْبُتُوا، فَإِنِّي سَأَصِفُهُ لَكُمْ صِفَةً لَمْ يَصِفْهَا إِيَّاهُ نَبِيٌّ قَبْلِي، يقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ وَلا تَرَوْنَ رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا، وَإِنَّهُ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، وَإِنَّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ كَاتِبٍ أَوْ غَيْرِ كَاتِبٍ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنَّ مَعَهُ جَنَّةً وَنَارًا، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ، فَمَنِ ابْتُلِيَ بِنَارِهِ فَلْيَسْتَغِثْ بِاللَّهِ، وَلْيَقْرَأْ فَوَاتِحَ الْكَهْفِ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَقُولَ لأَعْرَابِيٍّ: أَرَأَيْتَ إِنْ بَعَثْتُ لَكَ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، أَتَشْهَدُ أَنِّي رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَتَمَثَّلُ لَهُ شَيْطَانَانِ فِي صُورَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَقُولانِ: يَا بُنَيَّ، اتَّبِعْهُ فَإِنَّهُ رَبُّكَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يُسَلَّطَ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَيَقْتُلَهَا يَنْشُرَهَا بِالْمِنْشَارِ حَتَّى تُلقى بشقَّين، ثُمَّ يَقُولَ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي هَذَا فَإِنِّي أَبْعَثُهُ، ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّ لَهُ رَبًّا غَيْرِي، فَيَبْعَثُهُ اللَّهُ، وَيَقُولُ لَهُ الْخَبِيثُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، وَأَنْتَ عَدُوُّ اللَّهِ، أَنْتَ الدَّجَّالُ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قط أَشَدَّ بَصِيرَةً بِكَ مِنِّي الْيَوْمَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ، وَيَأْمُرَ الأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُكَذِّبُونَهُ فَلا تَبْقَى لَهُمْ سَائِمَةٌ إِلا هَلَكَتْ، وَإِنَّ مِنْ فِتْنَتِهِ أَنْ يَمُرَّ بِالْحَيِّ فَيُصَدِّقُونَهُ فَيَأْمُرَ السَّمَاءَ أَنْ تُمْطِرَ فَتُمْطِرَ، وَيَأْمُرَ الأَرْضَ أَنْ تُنْبِتَ فَتُنْبِتَ، حَتَّى تَرُوحَ مَوَاشِيهِمْ مِنْ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ أَسْمَنَ مَا كَانَتْ، وَأَعْظَمَهُ وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ وَأَدَرَّهُ ضُرُوعًا، وَإِنَّهُ لا يَبْقَى شَيْءٌ مِنَ الأَرْضِ إِلا وَطِئَهُ وَظَهَرَ عَلَيْهِ إِلا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لا يَأْتِيهِمَا مِنْ نَقْبٍ مِنْ نِقَابِهِمَا ـ أي: طريق من طرقها ـ إِلا لَقِيَتْهُ الْمَلائِكَةُ بِالسُّيُوفِ صَلْتَةً ـ أي: بسيوف مجردة من غمدها ـ ، حَتَّى يَنْزِلَ عِنْدَ الضريْبِ الأَحْمَرِ عِنْدَ مُنْقَطَعِ السَّبَخَةِ ـ وهو مكان بالمدينة ـ ، فَتَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ ـ أي: تتزلزل وتضطرب ـ ، فلا يَبْقَى فيها مُنَافِقٌ وَلا مُنَافِقَةٌ إِلا خَرَجَ إِلَيْهِ، فَتَنْفِي الْخَبَثَ مِنْهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ، وَيُدْعَى ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْخَلاصِ)) ، قيل: فَأَيْنَ الْعَرَبُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: ((هُمْ يَوْمَئِذٍ قَلِيلٌ، وَإِمَامُهُمْ رَجُلٌ صَالِحٌ، فَبَيْنَمَا إِمَامُهُمْ قَدْ تَقَدَّمَ يُصَلِّي بِهِمُ الصُّبْحَ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الصُّبْحَ، فَرَجَعَ ذَلِكَ الإِمَامُ يَنْكُصُ ـ أي: يرجع إلى الوراء ـ يَمْشِي الْقَهْقَرَى لِيَتَقَدَّمَ عِيسَى، فَيَضَعُ عِيسَى يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ لَهُ: تَقَدَّمْ فَصَلِّ فَإِنَّهَا لَكَ أُقِيمَتْ، فَيُصَلِّي بِهِمْ إِمَامُهُمْ، فَإِذَا انْصَرَفَ قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلام: افْتَحُوا الْبَابَ، فَيُفْتَحُون وَوَرَاءَهُ الدَّجَّالُ مَعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ يَهُودِيٍّ، كُلُّهُمْ ذُو سَيْفٍ مُحَلًّى وَسَاجٍ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَيْهِ الدَّجَّالُ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، وَيَنْطَلِقُ هَارِبًا وَيَقُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلام: إِنَّ لِي فِيكَ ضَرْبَةً لَنْ تَسْبِقَنِي بِهَا ـ أي: لن تفوّتها عليّ ـ ، فَيُدْرِكُهُ عِنْدَ بَابِ اللُّدِّ الشَّرْقِيِّ ـ هو موضع بالشام وقيل بفلسطين ـ ، فَيَقْتُلُهُ فَيَهْزِمُ اللَّهُ الْيَهُودَ، فَلا يَبْقَى شَيْءٌ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ يتواقى بِهِ يَهُودِيٌّ إِلا أَنْطَقَ اللَّهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ، لا حَجَرَ وَلا شَجَرَ وَلا حَائِطَ وَلا دَابَّةَ إِلا الْغَرْقَدَةَ ـ هو ضرب من شجر الشوك ـ، فَإِنَّهَا مِنْ شَجَرِهِمْ لا تَنْطِقُ، إِلا قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ الْمُسْلِمَ، هَذَا يَهُودِيٌّ فَتَعَالَ اقْتُلْهُ، فَيَكُونُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلام فِي أُمَّتِي حَكَمًا عَدْلاً ـ أي: حاكمًا بين الناس ـ ، وَإِمَامًا مُقْسِطًا ـ أي: عادلاً في الحكم ـ ، يَدُقُّ الصَّلِيبَ ـ أي: يكسره ـ ، وَيَذْبَحُ الْخِنْزِيرَ ـ أي: يحرم أكله أو يقتله بحث لا يوجد في الأرض ليأكله أحد، والحاصل أنه يبطل دين النصارى ـ ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ ـ أي: لا يقبلها من أحد من الكفرة، بل يدعوهم إلى الإسلام ـ ، وَيَتْرُكُ الصَّدَقَةَ ـ لكثرة الأموال ـ فَلا يُسْعَى عَلَى شَاةٍ وَلا بَعِيرٍ ـ أي: يترك زكاتها فلا يكون لها ساع يجمع زكاتها ـ ، وَتُرْفَعُ الشَّحْنَاءُ وَالتَّبَاغُضُ، وَتُنْزَعُ حُمَةُ كُلِّ ذَاتِ حُمَةٍ ـ أي: ينزع السم من كلِّ دابة سامة كالعقرب والحية ـ ، حَتَّى يُدْخِلَ الْوَلِيدُ يَدَهُ في في الْحَيَّةِ فَلا تَضُرَّهُ، وَتُفِرَّ الْوَلِيدَةُ الأَسَدَ فَلا يَضُرُّهَا ـ أي: تَهُش البنت الصغيرة الأسد فينصرف ولا يضرها ـ ، وَيَكُونَ الذِّئْبُ فِي الْغَنَمِ كَأَنَّهُ كَلْبُهَا، وَتُمْلأُ الأَرْضُ مِنَ السِّلْمِ كَمَا يُمْلأُ الإِنَاءُ مِنَ الْمَاءِ، وَتَكُونُ الْكَلِمَةُ وَاحِدَةً، فَلا يُعْبَدُ إِلا اللَّهُ، وَتَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَتُسْلَبُ قُرَيْشٌ مُلْكَهَا، وَتَكُونُ الأَرْضُ كَفَاثُورِ الْفِضَّةِ ـ الفاثور: هو الخوان أي: المائدة، وهو تعبير عن كثرة البركة الحاصلة في ذلك الزمان ـ ، تُنْبِتُ نَبَاتَهَا بِعَهْدِ آدَمَ، حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الْقِطْفِ مِنَ الْعِنَبِ فَيُشْبِعَهُمْ، وَيَجْتَمِعَ النَّفَرُ عَلَى الرُّمَّانَةِ فَتُشْبِعَهُمْ، وَيَكُونَ الثَّوْرُ بِكَذَا وَكَذَا مِنَ الْمَالِ، وَتَكُونَ الْفَرَسُ بِالدُّرَيْهِمَاتِ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا يُرْخِصُ الْفَرَسَ؟ قَالَ: ((لا تُرْكَبُ لِحَرْبٍ أَبَدًا)) ، قِيلَ لَهُ: فَمَا يُغْلِي الثَّوْرَ؟ قَالَ: ((تُحْرَثُ الأَرْضُ كُلُّهَا، وَإِنَّ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّجَّالِ ثَلاثَ سَنَوَاتٍ شِدَادٍ، يُصِيبُ النَّاسَ فِيهَا جُوعٌ شَدِيدٌ، يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الأُولَى أَنْ تَحْبِسَ ثُلُثَ مَطَرِهَا، وَيَأْمُرُ الأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا، ثُمَّ يَأْمُرُ السَّمَاءَ فِي الثَّانِيَةِ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ مَطَرِهَا، وَيَأْمُرُ الأَرْضَ فَتَحْبِسُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ السَّمَاءَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ فَتَحْبِسُ مَطَرَهَا كُلَّهُ، فَلا تُقْطِرُ قَطْرَةً، وَيَأْمُرُ الأَرْضَ فَتَحْبِسُ نَبَاتَهَا كُلَّهُ فَلا تُنْبِتُ خَضْرَاءَ، فَلا تَبْقَى ذَاتُ ظِلْفٍ إِلا هَلَكَتْ إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ)) ، قِيلَ: فَمَا يُعِيشُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ؟ قَالَ: ((التَّهْلِيلُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّحْمِيدُ، ويجزئ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ مجزأة الطَّعَامِ)).
قَالَ الإمام ابن ماجه: سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ الطَّنَافسِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ الْمُحَارِبِيَّ يَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُدْفَعَ هَذَا الْحَدِيثُ إِلَى الْمُؤَدِّبِ حَتَّى يُعَلِّمَهُ الصِّبْيَانَ فِي الْكُتَّابِ.
إي والله أيها المؤمنون، ينبغي للخطباء والمربين والمدرسين أن يعلموا الناس هذا الحديث لأهميته، ولما فيه من التحذير لكثير من عظيم الفتن والتحذير منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَن تَأْتِيهُمُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِىَ بَعْضُ ءايَـ?تِ رَبّكَ يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـ?تِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـ?نِهَا خَيْرًا قُلِ ?نتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة سيد أنبيائه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي شهدت بوجودِه آياتُه الباهرة، ودلت على عظيم جوده نعمُه الباطنة والظاهرة، وسبحت بحمده الأفلاك السائرة والرياح الدائرة والسحب الماطرة والرياض النضرة، أحمده سبحانه حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها كتب على أهل الدنيا الفناء، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الرسول الأعظم والنبي الأكرم، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن التحذير من الدجال قد ورد في سنة رسول الله بأكثر مما سمعتم، والمقصود هنا هو التنبيه على شيء يسير من ذلك لما فيه من تنبيه للغافل وتذكير للناسي وإيقاظ للنائم.
وعلينا أيضا أن نتبع الوصايا النبوية في ذلك، قال رسول الله : ((مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ)) أخرجه أبو داود (4319)، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ: ((مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْف عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ)) رواه مسلم (809)، وقَالَ : ((اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ خَمْسٍ: مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَفِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ)) رواه النسائي (5511).
(1/4212)
السيرة النبوية العطرة
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, السيرة النبوية
عبد العزيز بن عبد الفتاح قاري
المدينة المنورة
1/2/1408
قباء
_________
ملخص الخطبة
_________
أثر تدبر القرآن ودراسة السيرة في صلاح القلب – خطورة الغلو في ذاته صلى الله عليه وسلم
والتحذير منه – حماية الرسول صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد – مقام العبودية ومقام
الرسالة – عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم , ومعجزاته – نشأة الرسول صلى الله عليه
وسلم واشتغاله بالرعي ثم التجارة وأثر ذلك , وزواجه من خديجة رضي الله عنها
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن شقاء النفوس ودواء القلوب وصلاح العقول والأفكار في شيئين. في قراءة كلام الله عز وجل بتدبر وفي دراسة سيرة النبي المصطفي. فمن أراد أن يناجي ربه من أراد أن يتحدث مع الله عز وجل فليقرأ كلامه بتدبر ومن أراد أن يعرف أوامره سبحانه وتعالى وفرائضه وتوحيده ووعده ووعيده فليتدارس القرآن. ومن أراد أن يعرف التطبيق العملي الرابح للقرآن فليدرس سيرة النبي المصطفي فإنها الترجمة العلمية والتفسير العلمي للقرآن. ونحن منذ اليوم إن شاء الله تعالي سنبدأ أحاديث عن السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ولكننا لن نفعل مثل ما يفعل بعض محبيه مثل ما يفعل بعض محبيه من جهال المسلمين من الغلو في ذاته والاشتغال بذلك عن مواضع الأسوة والقدوة في ذاته وفي حياته بينما هو بنفسه وخوفه على أمته حذرهم من الغلو في ذاته الشريفة فإن مقام النبوة حذرهم من ذلك خوفًا عليهم خوفًا على أمته من أن تقع نفس الوحدة التي وقع فيها النصارى من قبلهم وذلك لأن مقام النبوة مقام عظيم هذا المقام في شخصية عيسى ابن مريم عليه السلام كانت من ضمن الدوافع التي دفعت النصارى إلى الغلو في ذات عيسى ابن مريم حتى قالوا هو ابن الله ثم قالوا هو الله ومحمد عبد الله ورسوله أعظم من عيسى ابن مريم مقامًا بالنبوة فلو استسلم المسلمون لاستدراج المحبة محبته فلو استسلموا لاستدراج محبته حتى وقعوا في الغلو فإنه يخاف عليهم حينئذ أن يقعوا في مثل ما وقع فيه النصارى من الغلو في ذاته الكريمة.
دخل رجل على النبي فلما رأى النبي أخذ يرتعد ويرتجف من هيبة النبي فقال له رسول الله من تواضعه لله عز وجل فقال له: ((يا هذا، هون عليك فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)) [1] وقال له أحد أصحابه يومًا قال له تعظيمًا وتوقيرًا : يا سيدنا وابن سيدنا، فقال رسول الله من تواضعه لربه عز وجل: ((إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله، ولا تغلوا فيّ كما غلت النصارى في عيسى ابن مريم)) [2]. انظر إلى هذا التوجيه النبوي الكريم النبي يوجه الجليلين في ذاته وشخصيته وإلى أثرهما على حياته إنهما أولا مقام العبودية لله تعالي وثانيًا مقام الرسالة. هو عبد الله وهو رسول الله فهو عبد الله ورسوله أما في مقام العبودية لله فيشترك فيه مع سائر الخلق فما من أحد من الخلق مهما علا شأنه يمكن أن ينفك من العبودية لله تعالي. ولكن أكمل الخلق عبودية لله هم الأنبياء والمرسلون الأنبياء والمرسلون هم أكمل الخلق عبودية لله وأعرف الخلق وأعلمهم بمقام العبودية لله تعالى وأكمل الأنبياء والمرسلين في مقام العبودية لله تعالى هو أفضلهم وخاتمهم وإمامهم محمد فهو أكمل الأنبياء والمرسلين في عبوديته لله وأعلمهم وأعرفهم بهذا المقام.
المقام الثاني هو مقام النبوة فقد اختص الله تعالى محمدًا وإخوانه الأنبياء والمرسلين بهذا المقام فلا يشاركهم فيه أحد من الناس لأن الله تعالي لم يكرم كل أحد بهذا المقام العظيم والله أعلم حيث يضع رسالته: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [الحج:75]. فهذا المقام العظيم مقام النبوة اختص الله به محمدًا وإخوانه الأنبياء والمرسلين فلا يشركهم فيه أحد من الناس وهكذا في شخصيته أيضًا جانبًا من وجه آخر إنهما جانبان من وجه أخر إنهما جانب البشرية وجانب الوحي وجانب البشرية يستوي فيه باقي البشرية فيه وفي حالة البشرية هو بشر مثلهم في ذلك إلا أن الله تعالي اختصه حتى هذا الجانب اختصه بالكمال البشري فهو إن اتصف بالبشرية إلا أنه في أكمل حالاتها وأحسن درجاتها إنه متصف بالكمال البشري ثم هناك في شخصيته جانب الوحي الذي تمثله النبوة فهو وإن كان بشرًا مثل باقي البشر إلا أن الله اختصه واصطفاه بالرسالة والنبوة فأوصى إليه وهذا الجانب الذي هو الوحي يستلزم العصمة والرعاية الربانية الخاصة فعصم ما يمكن أن يمس هذا المقام العظيم مقام النبوة ولذلك إذا نسي النبي ذكره ربه عز وجل وإذ قال خلاف الأولى وجهه ربه عز وجل وإن أراد أحد به سوءًا حماه ربه عز وجل وقد جمع الله تعالى هاتين الصفتين وهذين الجانبين في شخصيته. جمع بينهما في آية واحدة في قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف:110]. فهو وإن كان بشرًا مثلكم في طبائعه وغرائزه وخصاله البشرية إلا أنه اختص من بينكم بأن اجتبي واصطفي بالنبوة والرسالة فأوحي إليه. ولقد كان لهذا المقام العظيم مقام النبوة وكان له تأثير واضح على حياة المصطفى ظهر تأثير مقام النبوة واضحًا على حياته ومنذ صغره ومنذ صغره وقد حفت به كرامة النبوة فظهرت معجزاتها بل ظهرت معجزاته حتى وهو في بطن أمه ظهرت معجزاتها وظهرت كرامة النبوة على حياته منذ صغره ومن عجائب متطلبات هذا المقام العظيم مقام النبوة أن الله تعالي ربى نبيه محمد منذ صغره وأدبه وأحسن تأديبه فرباه علي اليتم صغيرًا. فنشأ يتيم الأبوين. ثم رباه برعي الغنم وفي هذين من الدروس العظيمة ما فيهما فإن في هذين الأمرين التربويين الجليلين الربانيين لعبده ومصطفاه وإن فيهما تدريبًا له على تحمل المشاق وتعويدًا له على صعب الحياة وعنائها. كما أن في رعي الغنم تدريبًا له على سياسة الخلق وفن القيادة فإن في رعي الغنم تدريبًا على ذلك ولذلك ما من نبي بعثه الله عز وجل إلا وقد رعى الغنم. ثم اشتغل بالتجارة في مرحلة شبابه ورحل في التجارة رحلة وفي هذا أيضًا تدريب له على السياسة وعلى تصريف الأمور ورعاية المصالح وفن التعامل مع الناس ومعاركة الحياة فيه بما فيه من هذه الدروس العظيمة فربى الله عز وجل عبده ونبيه أحسن تربية وأدبه وأحسن تأديبه حتى إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة تزوج من خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية التي أرسلت إليه سرًا تخطبه لنفسها لما رأت ما يخص من إرهاصات النبوة. فعلمت من كمال عقلها وحكمتها وذكائها أنه سيكون له شأن كريم عظيم فخطبته لنفسها سرًا رضي الله عنها وأرضاها ونالت بذلك هذه الكرامة العظيمة الجليلة أم المؤمنين خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية كانت سيدة من سادات قريش ذات ذكاء وعقل وحكمة فلما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة وفي هذا السن يكتمل العقل البشري والنمو البشري لما بلغ هذه المرحلة من عمره انبعثت عليه أنوار النبوة وهو مختل بغار حراء يتعبد لربه عز وجل وهذا موضوع حديثنا في الجمعة القادمة إن شاء الله. أعوذ بًالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنْ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [سورة الضحى].
بارك الله تعالى لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن ماجه في الأطعمة (3312).
[2] أخرجه أحمد (3/152)، والنسائي في عمل اليوم والليل (250).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. من يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وعليكم أيها المسلمون بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار، واعلموا أن الجماعة هي التمسك بالكتاب والسنة وبمنهج الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
يا ابن آدم، أحبب ما شئت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن ما شئت فكما تدين تدان.
صلوا على خاتم النبيين وإمام المرسلين فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين فقال جل من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشر)) [1].
ا للهم صل وبارك على محمد وعلى آل محمد كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وذي النورين عثمان وأبي السبطين علي، وعلى آل بيت نبيك الطيبين الطاهرين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعن أصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
[1] صحيح مسلم (408) عن أبي هريرة رضي لله عنه.
(1/4213)
الاقتصاد الإسلامي
فقه
البيوع, قضايا فقهية معاصرة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
26/4/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المال. 2- تنافس الناس على المال واختلاف مشاربهم فيه. 3- حض الإسلام على عمارة الأرض. 4- حرص الإسلام على تحقيق الاستقلال الاقتصادي. 5- الفوضى الاقتصادية والضعف التنموي. 6- العلاقة بين الاقتصاد والنمو. 7- حقيقة المفهوم الاقتصاديّ الإسلامي. 8- بماذا ينهض الاقتصاد الإسلامي؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنَّ الوصية المبذولةَ لي ولكم ـ عبادَ الله ـ هي تقوَى الله سبحانَه ومراقبتُه في السّرِّ والعلن، فاتقوا الله عباد الله، وأتبِعوا السيئةَ الحسنة تمحُها، وخالقوا الناس بخلق حسن، إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ [يوسف:90].
أيها الناس، المالُ في هذه الدّنيا شريانُ الحياةِ التنمويّة المادّيّ، كما أنَّ الشرعَ والدين شريانُ الحياة الروحيّ والمعنويّ. وللمال في نفسِ الإنسان حظوةٌ وشرَه وتطَلُّب حثيثٌ، إذا لم يُحكَم بميزان الشّرع والقناعةِ والرّضا فإنه سيصِل بصاحبه إلى درجةِ السّعار المسمومِ والجشَع المقيت. ولا جرَم عباد الله، فإنّ حبَّ ابنِ آدمَ للمال ليسرِي في جسدِه سَرَيان الدّم في العروق، كيف لا والله جلّ وعلا يقول عن ابن آدم: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] أي: المال، ويقول سبحانه عن جماعةِ بني آدم: وَتُحِبُّونَ المَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20].
ومِن هذا المنطلَق تنافس الناسُ سَعيًا في تحصيل هذا المال، وَكَدْحًا تلوَ كَدْحٍ في لَمْلَمَةِ المستطاع من هذا المال الفاتن، غيرَ أنَّ صحةَ هذا الكدح أو فسادَه وحصول الأجر فيه أو ذهابَه لمرهونٌ بحُسن القصدِ والموْرِد فيه أو سوئِه، وفي كلا الأمرَين يقول الله جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]؛ لأنَّ المال سلاح ذو حدين، فهو لأهلِ الإسلام والإيمان وحُسنِ القصد به نِعمةٌ يحمدون الله تعالى عليها صباحَ مساء، وهذه هي سِيمَا الأمّةِ الخيرية: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِالَّليْلِ وَالنَّهَارِ سِرًا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:274]. وهو لأهلِ الكفر حَسرة وبلاء مهما تعدَّدت مصادره وكثر توافُره؛ لبعدِهم عن وضعهِ في موضعه، وما ذاك إلاّ ليكونَ ندامة ووبالاً عليهم كما قال جلّ وعلا: وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، فإنَّ معظمَ أوجه الإيرادات والصادِرات لدى من كفَر بالله وبرسولِه منصبّة فيما حرَّم الله ورسوله مِنْ أخذِهِم الربا وأكلهم أموالَ الناس بالباطل والصدّ عن سبيل الله، وتلك ـ لعمرُو الله ـ هي الحسرةُ والندامة، ولات ساعةَ مَنْدَم، وليس بعد الكفرِ ذَنب، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
وإنَّ مما يدلّ على أهمّيّة المال في حياةِ الفردِ والجماعة وُرودَه في القرآن متصرِّفًا مَدحًا وذمًّا في أكثرَ من ثمانين موضعًا.
أيّها المسلمون، إنّ الشريعة الإسلاميةَ الغراء جاءَت حاضّة على عمارة الأرض وتنميِتها اقتصاديًّا بما يكون عونًا على أداءِ حقّ الله فيها، فلقد قال رسول الله : ((إذا قامَت الساعة وفي يدِ أحدِكم فسيلةٌ فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرِسها فليغرسها، فله بذلك أَجر)) رواه البخاري [1].
ومن هنا فقدْ حرِصَ الإسلام أشَدّ الحرص على توفيرِ ضمانات أو رَكائز لتحقيقِ هذه التنميَة الاقتصادية واستمرارها، ولعل من أبرزِها تحقيق الاستقلال الاقتصاديّ والتنمية المستقلَّة لدى المجتمع المسلم؛ ليكون قائدًا لا منقادًا، ومَتبوعًا مِنْ قِبَلِ غيرِه لا تابعًا. والاستقلالُ الاقتصاديّ يعني بداهةً نفيَ التبعيةِ الاقتصاديّة للأجنبي وسيطرةَ المجتمع المسلِم على مقدَّراتِ بِلاده الاقتصاديّة دون تدخُّلٍ أجنبيّ؛ لأن فقدانَ السيطرة الاقتصادية فقدانٌ لما عداه من السيطرة السياسيةِ والعسكرية والاجتماعية والثقافيةِ؛ ولذا فإنّ التنميةَ الاقتصادية لدى المجتمع المسلم لا يمكِن أن تتمّ دونَ الاستقلال الاقتصاديّ والتنمية المحلّيّة.
إنَّ الأمة الإسلاميةَ في هذا العصرِ لتكتوِي بلهيب من الفوضَى الاقتصادية والضَّعف التنمويّ، كما أنها تعيش فسادًا اقتصاديًّا يدبّ دبيبًا ويتسلَّل لواذًا بين الحين والآخَر عبر منافذِه الرئيسة في المجتمعاتِ المسلمة، وهي منافذُ التسلّل الفرديّ والمؤسَّسي والمنتظم. وإنَّ اتساع مثل هذه المنافذ لكفيلٌ بتفعيل البلبلة والخلخلَة المسبِّبين عدمَ الاستقرار السياسيّ والاجتماعي، والنتيجةُ التالية لمثل ذلكم تخلّفٌ ذريع في السوق الماليّة والنمو وضَعف اقتصادي فادح بالمسلمين.
وإنَّ كثيرًا من الدراسات الحديثة لتؤكِّد وجودَ علاقة عكسية بين الفساد الاقتصادي وبين النمو. ومن هنا فإنّ الأمة الإسلاميّة لو أخذَت بالمعنى الحقيقيّ للاقتصادِ الإسلاميّ لما حادَتْ عن الجادّة، ولما عاشَت فوضَى التخبّط واللهث وراءَ المغريَات المالية من خلالِ التهافُت على ما يسمَّى بسوق البورصَة والمرابحات الدوليّة التي لم تُحْكَمْ بالأُطُر الشرعية، وفوضَى التخبّط أيضًا في سوء الموازنة وعدم إحكامِ القروض المالية في الحاجيات والتحسينيّات؛ ما يسبِّب تراكمَ الديون على مجتمَعاتٍ لا تطيق حملها، ولذا فإنّ التنميّة الاقتصادية الإسلاميةَ لا تعترِف بتنمية الإنتاجِ الاقتصاديّ في معزِل عن حُسن توزيعه، كما أنّ جهودَ وأهداف الاقتصاد الإسلاميّ يجب أن تكونَ مصاغة بعنايةٍ فائقة للقضاءِ قدرَ الطاقة على فاقةِ الفرد المسلم وبطَالَته وأمِّيّته ومعاناتِه السّكنيّة والصّحّية.
ولو تأمَّل الناس حقيقةَ المفهوم الاقتصاديّ الإسلامي لما وقعوا في مثلِ هذه الفوضَى ومثل ذلكم التخبّط؛ لأنَّ كلمة الاقتصاد في الأصل مأخوذةٌ من القَصد، وهو الاستقامة والعَدل والتوازُن في القول والعمل، وفي الإيراداتِ والصّادرات وفي الكَسب والإنفاق. فالاقتصاد الإسلاميّ هو في الحقيقةِ توازنٌ في التنمية واعتدالٌ في السوق الماليّة، يحمل المجتمعَ المسلم إلى الاعتدال والموازنَة دون إفراطٍ أو تفريط؛ ولذا ـ عبادَ الله ـ كان واجبًا على المجتمعات المسلمة أن تَسعى جاهدةً إلى أَسلَمَة الاقتصاد والتنمية من خلالِ توحيد المصدر، وهو كتاب الله وسنّةُ رسوله ؛ لأنَّ العقيدة الصحيحةَ وصحّة المصدر كفيلان في إحسانِ تشغيلِ المُلكية على مستوَى الأفراد والشعوب.
وقد يتعجَّب بعض السُّذَّج من مثلِ هذا الطَّرح نظرًا لفَهمِه القاصر على أنّ الاقتصادَ يخضع لضَوابِط ومعايير تُتَرجَم في صِيَغٍ رياضيةٍ فحسب. وللرّدّ على مثلِ هذا الفهم القاصر نقول: إنّ النظام الاقتصاديَّ المهيمن في عالمنا المعاصِر كان في الأصل قد وجِد في بيئةٍ ملائمة له لدى غَير المسلمين، وذلك بعد أن تغيَّرت لديهم مجموعةُ المبادئ والقِيَم التي كانت تحكم تفكيرَهم وسلوكهم، وذلك بأخذِهم بالفلسفة الفرديّة كحَلَقة فلسفيّة تحكم التفكيرَ وتحدُّه بمعيار المصلحة الخاصّة دونَ النظرِ إلى ما سِوى تِلكم المصلحَة الخاصة، ومن هنا صارَتِ النظرة الأجنبيّة للاقتصاد مذبذبةً بين تحليلٍ اشتراكيّ وتحليل رأسمالي. وهذا دليل واضح على تأثيرِ الاعتقاد أيًّا كان نوعه على التنمية الاقتصادية.
ولذا فإنَّ التقدم الحقيقيّ في دِراسة الاقتصادِ الإسلاميّ إنما يجيء في الدّرجَة الأولى من خلالِ رَبطِه بالقيَم والمبادئ الإسلامية، والاحتفاظِ له بالصِّبغة التي أرادها الله، وعدمِ مَسخه وتشويهه بوضعِه في قوالب الاقتصادِ الوضعيّ.
ومما يدلُّ على ما ذكرناه بأنَّ الإسلام ينظر إلى النشاطِ الاقتصاديّ المتعلّق باستخدام الملكيّة والتصرّف فيها على أنه محدودٌ بما شرع الله وما نهى عنه، وهو قولُه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، بل قد جاء في الشّرع ما يدلّ على أنّ فسادَ حالِ المسلمين وذلَّهم وضعفَهم وتمكّنَ عدوِّهم منهم قد يكون بسبَبِ ما يرتكبونه من مخالفاتٍ في أسواقهم الماليّة، فقد قال : ((إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم وتبايَعوا بالعينة وتبِعوا أذنابَ البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم ذلاًّ، فلم يرفعه عنهم حتى يراجِعوا دينَهم)) رواه الإمام أحمد ورجاله ثقات وصحّحه ابن القطان [2].
وبعد يا رعاكم الله، فإنّ الاقتصاد الإسلاميَّ ليحتاج في النهوض به إلى المستوى المطلوبِ إلى جهودِ المخلصين من العلماء وأهلِ الاقتصاد، ومساهمتهم الجادّة في إيجادِ المفتاح المدخَلِيّ للاقتصاد الإسلامي الصحيح، مع مراعاة فِقهِ هذه المعضِلة في تركيبها الواقعيّ وتشكيلها الاجتماعي، وكذا مراعاة الخضوعِ للخطوات المشهورة في كلِّ دراسة جادّة، وهي أن تُبنَى على الملاحظة والافتراضِ والتجريب والوصول، أو بمعنى آخر: تخضَع لاستخدامِ المنهج الاستقرائيّ والاستنباطيّ بهدفِ الوصول إلى كشف العلّة الكامنة والسّببِ القابِع وراء ضمور الاقتصادِ الإسلاميّ في مقابِل ضدّه. وهذا الأمر يتطلَّب منّا أن نبحَث في المنهج النبويّ كسبيلٍ أساس لكشفِ سنَنِ الهداية والإرشاد انطلاقًا من قوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، قد قُلْتُ ما قُلْتُ، إن صوابًا فمِن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفارًا.
[1] أخرجه أحمد (3/191)، والبخاري في الأدب المفرد (479)، وعبد بن حميد (1216) عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وصححه الضياء في المختارة (7/262-264)، وهو في السلسلة الصحيحة (9).
[2] مسند أحمد (2/42، 84) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وهو أيضا عند أبي داود في كتاب البيوع (3462)، والروياني (1422)، وأبي يعلى (5659)، والطبراني في الكبير (10/432)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقواه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (9/245)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.
وبعد: فاتَّقوا الله معاشرَ المسلمين، واعلَموا أنّ المشكلاتِ الاقتصاديةَ التي يواجِهها العالم الإسلاميّ اليوم ما هي إلا بسبَب غيابِ المنهج الاقتصاديّ الإسلاميّ الصحيح، والذي يتناول تنظيمَ جوانب النشاط الاقتصاديّ في الحياة العامّة بعدلٍ وتعاون وتكافل وإحسان، والتي من خِلالها تتحقَّق المصالح للأمة وتُدْرَأُ المفاسد عنها. وإنَّ التطبيقاتِ المعاصرةَ في المؤسَّسات الماليّة الإسلامية في مجال المصارِف والتأمين لفي حاجةٍ ماسّة إلى إدراك المجتمعاتِ والحكومات والسّلُطات الرقابية لقيمتها والأثر الإيجابيّ في دعمِها وتطبيقها.
وإذا ما أردنا إذكاءَ مثل ذلكم النشاط الاقتصاديّ الصحيح فعلينا جميعًا أن لا نهمِلَ عنصرين مهمَّين في هذا الميدان الواسع، ألا وهما عنصرُ الزكاة وعنصر الوقف؛ إذ بهما يتحقَّق الدعم اللاَّمحدود لِتحقيق الأمن الاقتصاديّ والاجتماعي للأمة. يضاف إلى ذلكم ـ عِباد الله ـ الوعيُ التامّ في التعامل مع العولمة الاقتصاديّة، والتي أصبحت واقعًا يفرِض نفسَه على العالم أجمع؛ ما يؤكِّد التعاونَ الاقتصاديّ البنّاء بين الدول الإسلاميّة لزيادةِ التبادل التجاريّ بينها وإنشاء سوق إسلامية مشترَكَة تنافِس الأسواقَ الماليّة العالميّة؛ لأنَّ مستقبلَ المسلمين يجب أن يُصْنَع في بلادهم وعلى أرضهم بكدحِهم وأخلاقهم حتى لا يقَعوا فريسةً لأخلاق التسوُّل الفكريّ الاقتصاديّ بكل صنوفه في طاقاتهم ومقدَّراتهم؛ لأنَّ أيَّ أمّة تبنِي مستقبلَها على مثل ذلكم التسوُّل فهي أمة ضائِعة في تيهِ العقلِ الشحّاذ، فأنَّى لها حينئذ الاستقرار أو الظهور؟! هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15].
هذا وَصَلُّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله، فقد أمرَكم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلّى عليّ صلاةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وَارْضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر صحابةِ نبيّك محمّد...
(1/4214)
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, المرأة, تراجم
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
26/4/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاقتداء بالصالحات. 2- فضائل خديجة رضي الله عنها. 3- فضائل عائشة رضي الله عنها. 4- فضائل سودة رضي الله عنها. 5- فضائل حفصة رضي الله عنها. 6- فضائل زينب بنت خزيمة رضي الله عنها. 7- فضائل أم حبيبة رضي الله عنها. 8- فضائل أم سلمة رضي الله عنها. 9- فضائل زينب بنت جحش رضي الله عنها. 10- فضائل جويرية رضي الله عنها. 11- فضائل صفية رضي الله عنها. 12- فضائل ميمونة رضي الله عنها. 13- زهد النبي وزوجاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوَى الله ذِكرَى لكلّ أوّابٍ ونجاةٌ للعبادِ من العَذاب.
أيّها المسلِمون، تسعَد المرأةُ المسلِمة باقتِفاءِ أثرِ خَيرِ نِساءٍ عِشنَ في أفضلِ القرون وتربَّين في أَجلِّ البيوتِ بيتِ النّبوّة، أعلَى الله مَكانتَهن، وأجَلَّ قَدرَهن، ونزَل القرآن بالثّناءِ عَليهنّ، قال عزّ وجلّ: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ [الأحزاب:32]، زَوجاتٌ مبارَكات، ونِساء عظيمَات.
أُولاهنّ المرأة العاقِلَة الحاذِقة ذاتُ الدين والنسب خديجة بنت خُويلدٍ رضي الله عنها، نشأت على التخلُّق بالفضائلِ والتحلِّي بالآداب والكرَم، واتَّصفت بالعفّة والشرف، كانت تُدعَى بين نساءِ مكّة بالطاهرة. تزوَّجَها المصطفى فكانت نِعمَ الزوجة له، آوَته بنفسِها ومالها ورجَاحةِ عقلها، وفي أحزانِه عليه الصلاة والسلام كان يأوِي إليها ويبُثّ إليها همومه. نزل عليه الوحيُ أوّلَ نزوله فرجَع إليها يرجُف فؤادُه من هَول ما رأى، وقال لها: ((ما لي يا خديجة؟! لقد خشِيتُ على نفسي)) ، فتلقَّته بقَلبٍ ثابت وقالت له: كلاَّ والله، لا يخزيك الله أبدًا [1].
لاحَ الإسلام في دارِها فكانت أوّلَ من آمن من هذه الأمة، قال ابن الأثير رحمه الله: "خديجة أوّلُ خلقِ الله إسلامًا بإجماعِ المسلمين، لم يتقدَّمها رجلٌ ولا امرَأَة" [2].
عظُمَت الشّدائِد على النبيّ في مطلَع دعوتِه، واشتدَّ الإيذاء، فكانت له قلبًا حانيًا ورأيًا ثاقبًا، لا يسمَع من الناسِ شيئًا يكرهه ثم يرجِع إليها إلاّ ثبَّتته وهوَّنت عليه، يقول النبيّ : ((آمنت بي إذ كَفَر بي النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواسَتني بمالها إذ حرَمني الناس، ورزَقني الله ولدَها إذ حرمني أولادَ النساء)) رواه أحمد [3].
عظيمة بارّةٌ بزوجِها وأمّ حنون، جميع أولادِ النبيّ منها سوَى إبراهيم، أدبُها رفيعٌ وخُلُقها جَمّ، لم تراجِعِ المصطفى يومًا في الكلامِ، ولم تؤذِه في خِصام، يقول النبيّ : ((أتاني جبريل فقال: بشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصب ـ أي: لؤلؤ مجوَّف ـ ، لا صخَبَ ولا نصَب)) متفق عليه [4]. قال السّهيليّ رحمه الله: "إنما بشَّرها ببيتٍ في الجنة لأنها لم ترفَع صوتَها على النبيّ ، ولم تُتعِبه يومًا من الدهر، فلم تصخَب عليه يومًا، ولا آذته أبدًا" [5].
كانت راضيَةً مرضيّة عند ربِّها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال لي جبريل: إذا أتتك خديجة فأقرِئ عليها السلام من ربِّها ومنّي)) متفق عليه [6]. قال ابن القيّم رحمه الله: "وهي فضيلةٌ لا تعرَف لامرأةٍ سِواها" [7]. أحبَّها الله وأحبَّتها الملائكة وأحبَّها النبيّ ، يقول : ((إنّي رُزِقت حبَّها)) رواه مسلم [8].
كان إذَا ذكرَها أعلَى شأنَها وشكَر صُحبتَها، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبيّ إذا ذكَر خديجةَ لم يكن يسأَم من ثَناءٍ عليها واستغفارٍ لها [9]. حفِظ لها وُدَّها ووفاءها، فكان يكرِم صاحِبَاتها بعدَ وفاتِها، تقول عائشة رضي الله عنها: وربَّما ذبح الشاةَ، ثم يقطِّعها أعضاءً، ثمّ يبعثها إلى صديقاتِ خديجة، فربما قُلتُ له: كأنّه لم يكن في الدّنيا امرأةٌ إلاّ خديجة! فيقول: ((إنها كانت وكانَت، وكان لي منها ولد)) رواه البخاري [10].
سمع النبيُّ صوتَ أختِها بعد وفاتها فحزِن كثيرًا وقال: ((ذكَّرتني بخديجة)) [11].
كمُلَت في دينها وعقلِها وخلُقها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((كمُل من الرجال كثير، ولم يكمل من النّساء إلا ثلاث: مريم بنت عمران، وآسيةُ امرأة فرعون، وخديجة بنتُ خويلد)) رواه ابن مردويه [12].
سبَقَت نساءَ هذه الأمة في الخيريّة والشرف والسناء، يقول عليه الصلاة والسلام: ((خيرُ نِسائِها ـ أي: في زمانها ـ مريمُ بنت عمران، وخير نسائِها ـ أي: مِن هذه الأمّة ـ خديجة)) متفق عليه [13].
صَلحت في نفسِها وأصلَحَت بيتَها، فجَنَت ثمرةَ جُهدها، فأصبَحَت هي وابنتُها خيرَ نساء العالمين في الجنّة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أفضَلُ نِساء أهلِ الجنّة خديجةُ وفاطمة ومريمُ وآسية)) رواه أحمد [14].
كانت عظيمةً في فؤادِ النبيّ ، فلم يتزوَّج امرأةً قبلَها ولم يتزوَّج امرأةً معها ولا تسرَّى إلى أن قضَت نحبَها، فحزِنَ لفَقدِها، يقول الذهبيّ رحمه الله: "كانت عاقِلةً جليلةً ديِّنةً مَصونةً كريمةً من أهلِ الجنة" [15].
وفي بَيتِ الصّدقِ والتّقوَى ولِدَت عائشة بنتُ أبي بكر الصديق رضي الله عنها، ونشأت في بيتِ الإيمان، فأمُّها صحابية، وأختُها أسماء ذاتُ النطاقين صحابيّة، وأخوهَا صحابيّ، ووالِدُها صِدّيق هذه الأمة. ترَعرَعت في بيتِ عِلم، كان أبوها علاَّمةَ قريشِ ونَسَّابَتها، منحَها الله ذكاءً متدفِّقًا وحفظًا ثاقِبًا، قال ابن كثيرٍ رحمه الله: "لم يكن في الأمَمِ مثلُ عائشَةَ في حفظها وعلمِها وفصاحتِها وعَقلها" [16] ، فاقَت نساءَ جِنسها في العِلم والحكمة، رزِقَت في الفقه فهمًا وفي الشعر حِفظًا، وكانت لعلومِ الشّريعة وِعاءً، يقول الذهبي رحمه الله: " أفقَهُ نساءِ الأمّة على الإطلاق، ولا أعلَمُ في أمّة محمد بل ولا في النّساء مطلَقًا امرأةً أعلَم منها" [17].
سمَت على النساء بفضائِلِها وجميلِ عِشرتها، يقول المصطفى : ((فضل عائشةَ على النساء كفضلِ الثريد على سائر الطعام)) متفق عليه [18].
أحبَّها النبي ، وما كان ليحبّ إلا طيّبًا، يقول عمرو بن العاص : أيّ النّاس أحبّ إليك يا رسول الله؟ قال: ((عائشة)) ، قلت: فمن الرجال؟ قال: ((أبوها)) رواه البخاري [19].
لم يتزوَّج بِكرًا غيرَها، ولا نزَل الوحيُ في لحافِ امرأةٍ سواها، عَفيفةٌ في نفسها، عابِدة لربِّها، لا تخرُج من دارِها إلاّ ليلاً لئلا يراها الرّجال، تقول عن نفسِها: كنّا لا نخرُج إلاّ ليلاً [20] ، محقّقةً قولَ الله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، قال القرطبيّ رحمه الله: "والشريعةُ طافِحَة بلزوم النّساءِ بيوتَهنّ والانكفافِ عن الخروج منها إلا لضرورَة.. فإن مَسّت الحاجةُ إلى الخروجِ فَليكُن على تبذُّلٍ وتستّر تامّ" [21].
والله يبتلِي من يحِبّ، والابتلاء على قدرِ الإيمان، بُهِتَت رضي الله عنها وعُمرُها اثنَا عشرَ عامًا، قالت: فبكَيتُ حتى لا أَكتحِل بنوم ولا يَرقأ لي دَمع، حتى ظنَّ أبواي أنّ البكاءَ فالِقٌ كبِدِي، واشتدَّ بها البلاء، قالت: حتى قلَصَ دمعي فلا أحسّ منه قطرة [22]. قال ابن كثير رحمه الله: فغارَ الله لها، وأنزَل براءتها في عشرِ آيات تتلَى على الزمان، فسمَا ذكرُها وعلا شأنها؛ لتسمَعَ عَفافها وهي في صباها. فشَهِدَ الله لها بأنها من الطيّبات، ووعَدَها بمغفرةٍ ورزق كريم.
لم تزل ساهِرةً على نبيِّنا ، تمرِّضُه وتقوم بخدمتِه، حتى توفِّيَ في بيتها وليلَتِها وبين سَحرِها ونحرِها.
وسَليمَةُ القلب سَودةُ بنت زمعَة رضي الله عنها، أوّلُ من تزوّجَ بها النبيّ بعد خديجَة، وانفردَت به نحوًا من ثلاثِ سنين، كانت جليلةً نبيلَة، رزِقَت صفاءَ السّريرةِ، وَهَبت يومَها لعائشةَ رضي الله عنها رِعايةً لقلب النبي تبتَغِي رِضَا ربِّها.
والقوّامَةُ الصّوّامة حفصةُ بنت أميرِ المؤمنين عمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه، نشَأت في بيتِ نُصرةِ الدين وإظهارِ الحق، سَبعةٌ مِن أهلها شهدوا بدرًا، تقول عنها عائشة رضي الله عنها: هِي التي كانت تُسامِيني من أزواجِ النبيّ [23].
والمُنفقةُ زينبُ بنت خُزيمة الهلاليّة، ذات البذلِ والمسارعة في الخيرات، مكثَت عند النبيّ شهرَين ثم توفِّيَت.
والمهاجرة المحتسِبَة أمّ حبيبة رملة بنت أبي سفيانَ رضي الله عنها، ليس في أزواجِهِ مَن هي أقربُ نسبًا إليه منها، ولا في نسائِه مَن هي أكثرُ صَداقًا منها، ولا فيمَن تزوَّج بها وهي نائِيَة الدارِ أبعَدَ منها، عقَدَ عليها وهي في الحبَشَة فارّةٌ بدينها، وأصدَقَها عنه صاحِبُ الحبَشَة وجهَّزها إليه.
والصّابِرة الحيِيَّة أمّ سلمة رضي الله عنها هندُ بنت أبي أميّة مِنَ المهاجرات الأوَل، ولمّا أرادتِ الهجرةَ إلى المدينة مع زوجِها أبي سلمة فرَّقَ قومُها بينها وبين زوجِها وطِفلِها، قالت: فكُنتُ أخرج كلَّ غداة وأجلس بالأبطَح، فما أزال أبكي حتى أمسِي سنةً كاملة أو قريبًا منها، حتى أشفَقوا عليَّ فأعادوا إليَّ طفلي [24].
يقينُها بالله راسِخ، توفِّيَ عنها زوجها أبو سلمة فقالت دعاءً نبويًّا، فعوَّضها الله برسول الله زوجًا لها، تقول: سمعتُ النبيَّ يقول: ((ما مِن مسلم تصيبُه مصيبةٌ فيقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون اللّهمّ أجُرني في مصيبتي وأخلِف لي خيرًا منها إلا أخلَف الله له خيرًا منها)) ، قالت: فلمّا مات أبو سلمة قلت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة أوّل بيت هاجر إلى رسول الله؟! ثمّ إني قلتها فأخلَف لي رسولَ الله. رواه مسلم [25]. فاجعَل هذا الدعاءَ ذُخرًا لك عندَ حلولِ المصاب يعوّضْك خيرًا من مصيبَتِك.
وأمّ المساكين زَينبُ بنتُ جَحش بنت عمّةِ رسول الله ، نَعِمت بالحسَب والنّسب والشرف والبَهاء، زوَّجَها الله نبيَّه بنصِّ كتابِه، بلا وليٍّ ولا شاهد، قال عز وجل: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37]. زواجُ النبيِّ بها بركَةٌ على المسلِمات إلى قيامِ الساعة حين فُرِض الحجابُ على بناتِ حوّاء بعد أن تزوَّجها؛ ليكونَ صِيانة للشّرَف والعفاف والنقاء.
سخِيَّة العطاءِ للفقراءِ والضّعفاء، كثيرةُ البرّ والصدقة، ومع شريف مكانتِها وعلوِّ شأنها كانت تعمَل بيدها تدبَغ وتخرزُ وتتصدَّق من كسبِها، قالت عنها عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ امرأة خيرًا في الدّين من زينب؛ أتقَى لله وأصدَق حديثًا وأوصَل للرّحم وأعظم صدقة [26].
والعابدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها من بني المصطلِق، أبوها سيِّدٌ مطاع في قومه، وهي مبارَكَة في نفسها وعلى أهلها، تقول عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ امرأةً كانت أعظمَ بركةً على قومِها منها [27].
كثيرةُ التعبُّد لربِّها، قانتةٌ لمولاها، كانت تجلِس في مصلاَّهَا تذكرُ الله إلى نصفِ النّهار، تقول: أتى عليَّ رسول الله غُدوة وأنا أسبِّح، ثم انطلَقَ لحاجته، ثمّ رجع قريبًا من نصف النهار، فقال: ((أما زِلتِ قاعدة؟)) يعني: تذكرِينَ الله، قالت: نعم. رواه مسلم [28].
والوجيهةُ صفيّة بنت حيَيّ رضي الله عنها، مِن ذرّيّة هارونَ عليه السلام، كانت شريفةً عاقلة ذاتَ مكانةٍ ودين وحِلم ووقار، قال لها النبي : ((إنك لابنةُ نبيّ ـ أي: هارون ـ ، وإنَّ عمَّك لنبيّ ـ أي: موسى ـ ، وإنّك لتحتَ نبيّ)) رواه الترمذي [29].
كانت وليمةُ النبيّ عليها في زواجِها السّمن والأقِط والتمر، فكان زواجًا ميسَّرًا مباركًا.
وواصِلة الرّحِم أمّ المؤمنين ميمونة بنت الحارث الهلاليّة رضي الله عنها من عظماءِ النساء، منحَها الله صفاءَ القلب ونقاء السريرة وملازمةَ العبادةِ، تقول عائشة رضي الله عنها: أما إنَّها كانت من أتقانَا لله وأوصلِنا للرحم [30].
وبعد: أيها المسلمون، فتلك سيرةُ الخالداتِ في الإسلام أمّهات المؤمنين، مَناقبهنّ مشرِقة، جمعنَ بين المحاسِنِ والفَضائل، حقيقٌ بنساءِ المسلمين أن يجعلنَهنّ نِبراسًا للحياة، يرتَشِفن من معينِ مآثرهن، ويقتدينَ بهن في الدين والخلق ومراقبَةِ الله والانقياد التام لله ورسوله وملازمةِ العبادة والإكثار من الطاعات والصّدق في الحديث وحفظ اللسان والبذل للفقراء وتفريجِ كرُبات الضعفاء والسعيِ لإصلاح الأبناء والصّبر على تقويمِ عوَجِهم والتحصُّن بالعلم وسؤالِ العلماء الراسخين وملازمة السّترِ والعفاف والقرارِ في البيوت والحِجاب والبعد عن الشبهات والشهوات والحذَرِ من طول الأمل والغفلة في الحياة أو الاعتِناء بالظاهِر مع فسادِ الباطن وإطلاق البصَر في المحرّمات والخضوع بالقول مع الرجال، وليَحذَرن من الأبواقِ الدّاعية إلى التبرّج والاختلاط بالرّجال، فشموخُ المرأة وعزُّها في دينِها وحِجابها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني الله وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من ك ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4954) عن عائشة رضي الله عنها. وهو أيضا عند مسلم في الإيمان (160).
[2] أسد الغابة (1/1337).
[3] مسند أحمد (6/117) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (23/13)، وحسن إسناده الهيثمي في المجمع (9/224).
[4] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3821)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2432) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] انظر: البداية والنهاية (3/127).
[6] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3821)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2432) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] زاد المعاد (1/102).
[8] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2435) عن عائشة رضي الله عنها.
[9] أخرجه الطبراني في الكبير (23/13)، قال الهيثمي في المجمع (9/224): "أسانيده حسنة".
[10] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3818) عن عائشة رضي الله عنها.
[11] ينظر من أخرجه بهذا اللفظ. وقد أخرج البخاري في كتاب المناقب (3821)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2437) عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله ، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك فقال: ((اللهم هالة)).
[12] أخرجه ابن مردويه من طريق شعب عن معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعا كما في تفسير ابن كثير (1/363).
[13] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3815)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2430) عن علي رضي الله عنه.
[14] مسند أحمد (1/293، 316، 322) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا عبد بن حميد (597)، والنسائي في الكبرى (5/93، 94)، وأبو يعلى (2722)، والطبراني في الكبير (11/336، 22/407، 23/7)، وصححه ابن حبان (7010)، والحاكم (3836، 4160، 4754، 4852)، وحسنه النووي في تهذيب الأسماء (2/341)، وقال الهيثمي في المجمع (9/223): "رجالهم رجال الصحيح"، وهو في صحيح الجامع (1135).
[15] سير أعلام النبلاء (2/110).
[16] البداية والنهاية (3/129).
[17] سير أعلام النبلاء (2/140).
[18] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3769، 3770)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2431، 2446) عن أبي موسى الأشعري وعن أنس بن مالك رضي الله عنهما.
[19] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3662). وهو أيضا عند مسلم في كتاب فضائل الصحابة (2384).
[20] أخرجه البخاري في الشهادات (2661)، ومسلم في التوبة (2770) في قصة الإفك.
[21] الجامع لأحكام القرآن (14/179، 180).
[22] أخرجه البخاري في الشهادات (2661)، ومسلم في التوبة (2770) في قصة الإفك.
[23] الثابت في الصحيحين وغيرهما أن عائشة رضي الله عنها قالت ذلك في زينب بنت جحش رضي الله عنها كما في قصة الإفك، وقد أخرجها البخاري في الشهادات (2661)، ومسلم في التوبة (2770).
[24] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (2/315).
[25] صحيح مسلم: كتاب الجنائز (918).
[26] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2442).
[27] أخرجه أحمد (6/277)، وأبو داود في العتق (3931)، والحاكم (6781)، وصححه ابن الجارود (705)، وابن حبان (4054، 4055)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3327).
[28] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2726) بمعناه.
[29] سنن الترمذي: كتاب المناقب (3894) عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا معمر في جامعه (11/430 ـ المصنف ـ)، وعبد بن حميد (1248)، وأحمد (3/135)، والنسائي في الكبرى (5/291)، وأبو يعلى (3437)، وأبو نعيم (2/55)، وقال الترمذي: "هذا حديث سن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (7211)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3055).
[30] أخرجه ابن سعد في الطبقات (8/138)، والحارث بن أبي أسامة (455 ـ بغية الباحث ـ)، وأبو نعيم (4/97)، وصححه الحاكم (6799)، وصحح ابن حجر في الإصابة (8/128) سند ابن سعد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أيّها المسلمون، زوجاتُ النبيِّ عِشن معه في بَيتٍ متواضِع، في حجراتٍ بنِيت من اللّبِن وسَعَف النخل، ولكنه ملِيء بالإيمان والتقَوى، صبَرن مع النبيّ على الفقرِ والجوع، كان يأتي عليهنّ الشهر والشهران وما يوقد في بيوتهنّ نار، وتأتي أيّامٌ وليس في بيوتهنّ سِوى تمرة واحدة، ويمرّ زمنٌ من الدّهر ليس فيها سِوى الماء بدون طَعام، قناعةٌ في العيش وصَبر على موعودِ الله، وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى [الضحى:4].
أجورهنّ مُضاعفة مرتين، وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا [الأحزاب:31].
خمسٌ منهنّ تزوَّجهنّ عليه الصلاة والسلام وأعمارهنّ مِن الأربعين إلى الستّين عامًا، حقَّق بذلك رعايةَ الأراملِ وكفالة صبيانهنّ الأيتام. تزوَّجَ خديجةَ رضي الله عنها وعمرها أربعون عامًا ولها ثلاثةُ أولادٍ من غيره، وهو لم يتزوَّج بعد، وتزوَّجَ زينبَ بنت خزيمة وهي أرملةٌ ناهزَت الستّين من عُمرِها، وتزوّج أم سلَمَة وهي أرمَلَة ولها ستّة أولاد، وتزوَّجَ سودَةَ وهي أرملةٌ وعمرها خمسَةٌ وخمسون عامًا.
تزوَّج من الأقارب من بناتِ عمّه وعمّاتِه، وتزوّج من الأباعد، وكان لهنّ زوجًا رحيمًا برًّا كريمًا جميلَ العِشرة معهنّ دائمَ البِشر متلطِّفًا معهنّ، فمن طلَب السعادةَ فليجعَل خيرَ البشَر قدوةً له، ولتلحَقِ المسلمة بركابِ زوجاتِه الصالحات، فلا فلاحَ للمرأة إلا بالاقتفاءِ بمآثرهنّ في السترِ والصلاح والتقوى والإحسان إلى الزّوج والولد.
ثم اعلَموا أن الله أمَركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكمِ التّنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحقّ وبه كان يعدلون: أبي بكر وعمرَ وعثمان وعليّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين...
(1/4215)
وصية نبوية جامعة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
19/4/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختصاص النبي بجوامع الكلم. 2- من جوامع كلمه. 3- الأمر بتقوى الله تعالى. 4- حقيقة التقوى. 5- عموم تقوى الله تعالى لكل الأعمال. 6- الأمر بإتباع السيئة بالحسنة. 7- الأمر بحسن الخلق. 8- ضرورة لأخذ بوصايا النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنَّ مما خصَّ الله به نبيَّنا أنَّ الله أعطاه جَوامِعَ الكَلِم، واختصَر له الكلامَ اختصارًا، فكلماتٌ يقولها تعتَبَر من جوامع الكلم، تحتها من المعاني ما الله به عَلِيم، ولله الحكمةُ في ذلك.
من جوامِعِ كَلِمه ما أوصَى به معاذَ بنَ جبل حيث قال له كلماتٍ ثلاث، قال له: ((اتَّق الله حيثما كنتَ، وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناس بخلُقٌ حسن)) [1].
هذه الكلماتُ الثلاث تحدِّد علاقةَ العبد بربِّه، وعلاقتَه بنفسه، وعلاقتَه مع سائر الخلق:
فأوّلُ هذه الوصايا وأجمعُها قوله : ((اتَّقِ الله حيثما كنتَ)) ، الزَم تقوَى الله حيثما كنتَ، في أيِّ زمان ومكانٍ كنت، وفي أيِّ حالٍ من الأحوال كنتَ، ليَكُن تقوى الله ملازِمًا لك في أحوالِك كلِّها، ليكن تقوَى الله وراءَ كلِّ عمَلٍ تعمله وورَاءَ كلّ قول تقوله، ليكُن تقوَى الله مُصاحبًا لك في سرِّك وعلانيّتك في يقظَتِك ومنامك في كلِّ تصرُّفاتك وأحوالِك؛ لأنّك إذا اتّقيتَ الله تصرّفتَ تصرّفًا طيّبًا وتصرَّفتَ تصرُّفًا تكون نتائجُه خيرًا لك في الدنيا والآخرة، فمن اتَّقى الله في أمورِه كلِّها وفَّقه الله للصّواب وأعانه على كلِّ خير، لكن المصيبة أن يقودَك الهوى فيعمِيك ويصمّك وتكون تصرُّفاتك على غير هدى، أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23].
كلِمَة التقوى من الكلِمَات الجامعة، تنوَّعَت عباراتُ السّلف في تفسيرها وتوضيحِها، فقال قائلٌ منهم: "حقيقةُ التقوى أن تعملَ بطاعة الله على نورٍ من الله ترجُو بذلِك ثوابَ الله، وأن تترُكَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله". أجل، تعمَلُ بطاعةِ الله على نورٍ وبيِّنَة وعلَى عِلم بالشّرع، ترجو بذلك ثوابَ الله الذي وعَد به المتّقين، فليست أعمالُك عن هوى، ولكنّها عن شرعٍ كتابِ الله وسنّة رسوله وتركُك المعاصيَ والمخالفات لكونِك تعلم أنّ الله حرّمها عليك، وترجو وتأمِّل بتركِها، وتترُك معصيةَ الله على نور وبيّنة تخاف من عقابِ الله،لِعلمِك أنَّ الله لا يرضاها، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
أيّها المسلم، لتكن تقوَى الله مصاحبةً لنا في أحوالنا كلِّها، فنتَّقي الله في عبادتنا لله، فنجعل العبادةَ كلَّها بكلّ أنواعها لله، لا نشرك مع الله غيره، مهما كان ذلك المدعو مَلَكًا أو نبيًّا أو وليًّا أو صالحًا، فالعبادة بجميع أنواعها من دعاءٍ وخوف ورجاء واستغاثةٍ حقيقيّة واستعاذَة حقّة كلّها لله، لا نجعل مع الله شريكًا في أيّ نوعٍ أنواع من أنواع العبادة، فنتّقي الله في دعائنا، فندعو الله وحده لا ندعو سواه، ونتقي الله في كلّ أعمالنا، فنصرفها لربّنا جل وعلا، ونتّقي الله فنخلِص أعمالنا لله، ولا يكون هناك شريك مع الله، لا نُرائي بأعمالنا، ولا نبتغي الثوابَ من الخلق، وإنما نريد بأعمالِنا وجهَ الله والدارَ الآخرة، فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
تتّقي ربَّك في طهارتك، فتحسِنها وتكمِّلِها وتسبِغ وضوءَك وتؤدّي الطهارة كامِلةً. تتَّقي الله في صلاتِك، فتحافظُ عليها في وقتِها، وتحافظ على أركانها وواجبَاتها، وإن وفَّقك الله فاستكمَلتَ سننَها فذاك من الأعمال الطيّبة، تحافظ عليها في الجماعةِ، فلا تؤخِّرها عن وقتها، ولا تخلّ بأركانها وواجباتها، بل هي أمانةٌ عندك، فاتّقِ الله في أدائها لعِلمكَ أنَّ الله يرضَى منك ذلك.
وتتّقي الله في زكاة مالِك، فتخرجها كاملةً تامّة، وتوصلها إلى مستحقِّيها؛ لكونك تعلَم أنّ ذلك براءة لذمّتك. وتتَّقي الله في صومِك وحجِّك، تتّقي الله في برِّك بأبَوَيك، فتتّقي الله فيهم برًّا وإحسانًا ورِفقًا وخِدمة ونَفَقة وقِيامًا بالواجب.
تتّقي الله في زوجَتِك رعايةً لها وإنفَاقًا وكِسوة وحملها على الخير ومعاشَرتها بالمعروف. وتتّقي الله في أولادك من بنين وبنات، تتّقي الله فيهم فتربّيهم التربيةَ الصالحة، وتحرص على هدايتِهم، وتسعى جاهدًا في تعليمِهم الخير والأخذ على أيديهم وحملِهم على ما يحبّ الله ويرضاه، تتّقي الله فيهم أدبًا وتربيةً وتوجيهًا، تتّقي الله فيهم فلا تفضّل بعضهم على بعض، ولا تحدِث بينهم عداوةً وشَحناء، وإنما تسعَى في التأليف بينهم وإصلاحِ ذاتِ البين بينهم.
تتّقي الله في بيعِك وشرائك، فإيّاك والغشَّ والخيانةَ والتدليس والأكاذيبَ. تتّقي الله في شرائك فتكون صادقًا في أداء الثمن غيرَ مماطِلٍ ولا جاحد.
تتّقي الله في جيرانِك إحسانًا إليهم وكفَّ الأذى عنهم وبَذل النصيحة لهم فيما خالَفوا فيه الشّرعَ.
تتّقي الله في أعمالك التي أنيطَت بك، فتؤدِّي العمل الوظيفيَّ كاملاً بصدقٍ وإخلاص، لا ترجو بأداءِ العمل ثناءً من الناس، ولا تتطلَّع إلى مصالحَ مادّيّةٍ، فالرّشوة ترفضها لأنّك تعلم أنها حرام، وكلّ مالٍ يُدفع إليك في سبيل أعمالِك تعلم أنها أمرٌ محرّم؛ لأنك أخذتَ على عملك مرتَّبًا، فلا يليق بك أن تساوِمَ على أعمالك؛ لتتَّخِذ منها وسيلةً للثّراء من غير الطريق الشرعيِّ.
تتّقي الله فيما ائتُمِنتَ عليه من أعمالٍ وتنفيذ لمشاريع الأمّة، فتكون متَّقيًا لله صادقَ التعامل، لا كاذبًا ولا غاشًّا ولا خائنا.
تتّقي الله في أيمانك، فلا تحلِف إلا على برٍّ وصِدق، وتبتعِد عن الأيمانِ الفاجِرة. تتّقي الله في شهادتِك، فلا تشهد إلاّ على حقّ، ولا تشهد إلا على علم حقيقيّ، فلا تشهد زورًا ومجامَلة لأحد، وإنما تشهَد بالحقّ الذي تعلَمه من غير زيادةٍ ولا نقصان.
تتّقي الله في محاماتِك، فلا تحامي عن المجرِمِين، ولا تدافع عنِ الآثمين، وإنما تحامِي بحقٍّ، وتقِف موقفَ العدل والقِسط.
تتّقي الله في أمّتك ومجتَمَعك المسلم، فتكون ساعيًا لهم بالخيرِ، حريصًا على جمعِ كلِمَتهم، بعيدًا عن أن تحدِثَ فيهم سوءًا أو تؤوِيَ محدثًا أو تقِف مع مجرِم أو تتستَّر على ظالمٍ وباغ ومعتدي ومن يريد بالأمة البلاءَ والشقاء، فإنَّ المتّقي لله لا يقِف مع المجرمين، ولا ينصر الآثمين، ولا يرضى لمجتمَعه المسلم أن يتأثَّر بأيّ فكرٍ رديّ أو بأيّ رأي خاطئ ضالّ، بل هو يقف مع المجتمع المسلم حماية لأمنه، حمايةً لدينه، حماية لتمسُّكه وثباتِه.
هكذا المسلم يتّقي الله فيما يقول ويعمل، فمن اتّقى الله في أقواله وأعمالِه صارتِ الأقوال حقًّا والأعمال صِدقًا وإخلاصًا. فاتَّقِ الله حيثما كنتَ؛ في بيتِك وفي سوقك، وفي متجرك وفي مكتبك، وكلُّ أعمالك اجعَل تقوى الله نصبَ عينيك وأنَّ الله سائلك عن كل أحوالِك، فمن كان كذلك رُجِي له بتوفيقٍ من الله أن تستقيمَ حاله وينتظِمَ أمره.
ثمّ يأتي الحقّ الثاني بين العبدِ وبين نفسه، فيقول في وصيّتِه الثانيَة: ((وأتبِعِ السيئةَ الحسنةَ تمحُها)).
أيّها المسلم، كلُّنا عُرضة للخطأ، وكلّنا خطّاء، وخير الخطّائين التوّابون، ولو لم تذنِبُوا لذهبَ الله بكم، ولأتى بقومٍ يذنِبون ثم يستغفرون فيغفِر لهم. كلّنا بنو آدم عُرضةٌ للخطأ والزّلل، والمعصوم من عصَمَ الله؛ ولِذا من رحمة ربِّنا أن شرع لنا التوبةَ إليه والإنابةَ إليه لنمحوَ بالتوبة ما سلَفَ من أقوالنا وأعمالِنا السيّئة: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
نعم أيّها المسلم، تتبِع السّيئاتِ بالأعمال الصّالحة، فكثرة الأعمال الصالحة تضعِفُ شأنَ السيئات، وإن كانتِ الكبائر لا بدّ فيها من توبة نصوحٍ، لكن كثرةُ الحسنات وتعدُّد مجالاتِ الخير تضعِف السيئات بتوفيقٍ من الله، وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
فنوافِلُ الصلاةِ يجبُر الله بها النّقصَ في الفرائض، ونَوافل الصدقةِ كذلك، ونوافلُ الصوم والحجّ، فكلُّ النّوافل بعدَ الفرائض تجبُر نقصَ فرائضِنا، وما يزال العبد يتقرَّب إلى الله بالنوافل بعدَ الفرائض حتى يحبَّه الله، فإذا أحبَّه الله كان سمعَه الذي يسمع به وبصرَه الذي يبصِر به ويدَه التي يبطِش بها ورجلَه التي يمشي بها، ولئِن سَأل اللهَ ليعطينَّه سؤالَه، وإن استعاذه ليعيذنَّه الله. إذًا فأكثِر من صالح الأعمال القوليّة والفعليّة، فصالح الأعمال مِن الأذكارِ والأورادِ والأعمال الصالحة كلَّما كثرت وتعدَّدت أضعَفَت جانبَ السيّئات أو قضت بتوفيقٍ من الله عليها، فأكثِر من صالح القولِ والعمل، فربُّك رؤوف رحيمٌ، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
ثم أمرَه بالتعامل مع خَلق الله فقال: ((وخالِقِ الناسَ بخلُقٍ حسَن)). الخلُقُ الحسَن مطلوب في القول والعمل قال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة: 83]، وقال جلّ وعلا: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53].
((خالِقِ الناسَ بخلق حسن)) ، تحمَّل الأذى، واصبِر على الجفاءِ، وقابل الإساءةَ بالإحسان، وقابل الجهلَ بالعفوِ والحِلم، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
فمن وفَّقَه الله لتحمُّل ما يصيبُه من جهلِ الجاهلِ وسَفَه السفيه عاشَ في خيرٍ، ومن عاتَبَ بكلِّ ما يسمَع تعِب في أموره كلِّها، حتى الأب مع أبنائه وبناتِه، إن كان يعاملهم بالحسنَى ويتحمَّل منهم ما قد يكونُ من جهل جاهلٍ وسَفَه سفيه فإنّ تحملَّه ذلك يدعوهم إلى الخجل في أنفسِهِم وإلى الرجوعِ إلى أنفسِهم وتبصُّر أخطائِهم.
أيّها المسلم، قد يجهَلُ عليك جاهل ويسفَه عليك سفيه ويخاطِبُك بما لا يليق، لكن إن قابلَ منك صَمتًا وإعراضًا وتجاهلاً عن ذلكَ الكَلام الرديّ فيوشك أن يأنِّبَه ضميره وأن يرجِعَ إلى نفسه، فيعلَم خطأه وقِلّةَ حيائه؛ ولذا قال الله: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ، ولكن هذه المكارِمُ لا يقدِرها كلُّ أحَد، ولا يقوَى عليها كلُّ الخلق؛ ولذا قال الله: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
كم يأتي الشيطانُ لهذا ويقول: أهِينَت كرامتك، أذِلَّت سُمعَتُك، تسمَع من هذا كذا وكذا، حتى يغضَبَ لنفسه، وحتى يسعَى في الانتقام، فيزداد الشرّ شرًا، ولكن العفوُ والصفح والإعراض من نِعمةِ الله، قال تعالى في المؤمنين: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43]، ولذا قال : ((خالِقِ الناس بخلُقٍ حسن)).
أعطِ من منعَك، وصِل من قطعك، واحلم على من جهِل عليك. عامِلِ الناسَ على قدرِ عقولِهم، فإذا عرفتَ كلامَ وسيّئ قولِه فانظر إلى أسوأ أقوالِه، فإنها دليل على نَقصٍ في عقله وتفكيره، فاحمله على ضعفِ عقلِه وتفكيره، ولا تحمِله على سِوى ذلك، فتزداد طمأنينةً وإعراضًا عن هذا، خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، والله جلّ وعلا يقول في حقِّ نبيِّنا : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:159].
أتى أعرابيٌّ للنبيِّ يطلُبُه دَينًا فقال: أنتم بنو عَبد المطلب أهلُ مطلٍ بالناس، فهمَّ به الصحابةُ فقال: ((دعوه؛ فإنَّ لصاحبِ الحقِّ مقالاً)) ، وقال: ((أنا أَولى أن تأمرَني بالوَفاء)) [2]. كلُّ ذلك لأنَّ الإنسانَ إذا قدَّر الأمورَ قدرَها وتصرَّف تصرّفًا معقولاً في أمورِه كلِّها نال الخيرَ والسعادة في الدّنيا والآخرة؛ راحة القلب، طمأنينة النّفس، السَلاَمة من الغلِّ والحِقد، فيبيتُ طيِّبَ النفس قريرَ العين مُرتاحًا من هذه المشاكِلِ، وأمّا مَن كان دائمًا متَتَبِّعًا للزَّلاَّت حَريصًا على أن يقابِلَ السّوء بالسوءِ والظلمَ بالظّلم فإنّه قد يظفَرُ وقد لا يظفَر، ولا يشفي غليلَه ذلك، لكن مَن التزم الأدبَ الشرعيّ فإنه ينامُ قرير العين منشرِحَ الصدر مطمئِنَّ الحال.
نسأل الله لنا ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، إنّه على كلّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:128، 129].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فِيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قَولي هذا، وأَستغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولِسائِرِ المسلِمينَ من كلّ ذنب، فاستغفِروه وتوبُوا إليه، إنّه هوَ الغَفور الرّحيم.
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، ثم أخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395)، ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
[2] أخرجه البخاري في الوكالة، باب: الوكالة في قضاء الديون (2306)، ومسلم في المساقاة، باب: من استسلف شيئا فقضى خيرا منه (1601) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وليس فيه مقالة الرجل، ولا قول النبي : ((أنا أَولى أن تأمرَني بالوَفاء)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مُباركًا فيهِ كَمَا يحِبّ ربّنا ويَرضَى، وأَشهَد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيَا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تَعالى حقَّ التَّقوَى، وتأدَّبوا بِآدابِ الإسلام، ففيها الخيرُ والصلاح في الدّنيا والآخرة، اقبَلوا آدابَ نبيِّكم ووصاياه، فإنه لا ينطق عن الهوى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، قولُه صِدق وحقٌّ، صلّى الله عليه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أدبٌ رفيع، خُلُق طيّب، عمَلٌ صالح، أدَبٌ حسَن، فحريٌّ بالمسلم إذا سمِعَ أقوالَ النّبيِّ أن يصغيَ إليها ويعمل بمقتضاها، والله يقول: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17، 18].
فمحمّدٌ عندمَا يوصِي بوصايَا وصاياه كلُّها عدل، وكلُّها خيرٌ، وكلّها نظام للعبد في حياته. فحريٌّ بالمسلم أن يقبَلَها ويعمَلَ بها ويلتَزِمَها ويعتقدَ الحقّ فيها، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، وصدَقَ الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
واعلَموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحدِيثِ كِتابُ الله، وخَيرَ الهديِ هَدي محمَّد ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالة، وعليكم بجَماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله علَى الجماعةِ، ومَن شذَّ شذَّ في النّار.
وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على محمّد بن عبد الله كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلى عبدِك ورَسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عَن خُلفائه الراشِدِين...
(1/4216)
دروس وعبر من حياة أم سليم
سيرة وتاريخ
تراجم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
26/4/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصحابة. 2- دروس من حياة أم سليم: ثبات العقيدة، الدعوة إلى الله، الشجاعة، الصبر، غلاء المهور. 3- السيدة نفيسة في سكرات الموت. 4- اضطهاد المسلمين في أوزبكستان. 5- وقفات مع ذكرى حرب حزيران وما بعدها. 6- المسجد الأقصى والأخطار المحدقة. 7- أسباب تدهور الأمة الإسلامية في واقعنا المعاصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، تعالوا نعيش وإياكم مع النفحات الطيبة العطرة، مع الذين تربّوا على مائدة القرآن، وتعلموا من الرسول عليه الصلاة والسلام. وكم نحن بحاجة في هذه الأيام لكي نسير على منهاجهم، كيف لا وهم الذين أيّدوا هذا الدين، ونصروا الإسلام، ونشروه في كل مكان؟! كانوا رضي الله عنهم رسل خير ومحبة، رسل دعوة ورسالة، واجهوا ظلم الظالمين بعدالة الإسلام، وطبّقوا الأحكام، فخلّد الله ذكرهم في كتابه وعلى لسان نبيه ، رسموا للعالم خريطة الطريق السليمة التي توصل الناس إلى رضا ربهم، فيتحقق الأمن والأمان، والعزة والسلطان.
عباد الله، الصحابية الجليلة أم سُلَيم بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنها، تزوجت مالك بن النضر في الجاهلية، فولدت الصحابي أنس بن مالك ، وأسلمت مع السابقين الأولين من الأنصار، وغضب زوجها لإسلامها، وخرج إلى الشام فمات بها، وجاء أبو طلحة يطلب يدها، وكان كافرًا لا يؤمن بالله العظيم، فاشترطت عليه الإسلام. وهنا ـ أيها المؤمنون ـ يتجلّى جانب الإيمان والتوحيد، تتجلى عقيدة المؤمن. العقيدة ـ أيها المؤمنون ـ هي الأمر الذي لا يجوز التفريط فيه أبدًا.
ومن هنا فقد عَلَّمنا رسولنا درسًا في الثبات على العقيدة والتضحية لأجلها عندما جاءه كفار قريش، وشكوه لعمه أبي طالب أعلنها مُدَوّية صريحة بقوله: ((والله لو وضعوا الشمس في يمني والقمر في يساري على أن اترك هذا الأمر ـ وهو توحيد الله والدعوة لدينه ـ ما تركته حتى يُظهِره الله أو أهلك دونه)).
هذا هو الاقتناع بالعقيدة التي هانت على بعض الناس اليوم فهانوا على الله تعالى، فتنازلوا عن أهم مبادئ العقيدة بثمن بخس دراهم معدودة.
عباد الله، الصحابية أم سُلَيم صاحبة عقيدة، تعلمت من رسول الله خير المعلمين، تعلمت في أول مدرسة في الإسلام، في بيت الأرقم بن أبي الرقم.
جاء أبو طلحة يطلب يدها وكان كافرًا، فماذا قالت له؟ قالت: يا أبا طلحة، ألست تعلم أن إلهك الذي تعبد نبت من الأرض؟! قال: بلى، قالت: أفلا تستحي تعبد شجرة؟! إن أسلمت فإني لا أريد منك صَدَاقًا غيره. سبحان الله! هكذا تكون الدعوة إلى الله يا عباد الله، إن أسلم الرجل فهي تقبل بزواجه، ومهرها هبة له، تضحية بالمال، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]. أين نساء اليوم ليتعلمن هذا الدرس من هذه الصحابية المؤمنة الصادقة؟!
عباد الله، اسمعوا هذه القصة جيدًا، أراد شاب أن يتزوج فتاة ظهر له منها أنها صاحبة دين وخلق تطبيقًا لقول الرسول : ((فاظفر بذات الدين تَرِبت يداك)) ، وتقدّم الشاب لخطبة الفتاة، ثم عقد عليها عقد الزواج حتى يكون دخوله لبيتهم شرعيًا، فماذا حدث؟ جلس الشاب مع الفتاة، أتدرون ـ يا عباد الله ـ ما أول سؤال سألته الفتاة لهذا الشاب؟! كان يتوقع الشاب أن تسأل عن معنى آية من كتاب الله تعالى أو عن حديث نبوي شريف أو عن حكم شرعي أو تسأل عن أحوال المسلمين في فلسطين أو العراق أو كيف يعيش المسلمون في هذه الأيام في دول العالم الغربي وكيف يُحارَبون ليس إلا لأنهم مسلمون، أتدرون ماذا سألت الفتاة أيها المسلمون؟! ويا بئس ما سألت، قالت للشاب: ما رأيك في الرقص الشرقي؟ وبُهِت الشاب أمامها، وقال لها: ما دخل الرقص فيما نحن فيه؟! فقالت له: وكيف لا تجيد الرقص وأنت طالب جامعي؟! اسمح لي أن أقول لك: إنك متأخر، أيوجد في زماننا من لا يجيد الرقص والفن؟!
إن هذا الشيء عجيب! إذا أردت أن يتم الزواج فعليك أن تتعلم فن الرقص. شريحة من شرائح المجتمع الذي يعيش فيه بعض الفتيان، هذا النموذج من فتياتنا هذه الأيام، وأريد أن أقول لكم كلمة، وعليكم أن تحفظوها جيدًا: أخطر ما تُصاب به الأمم هو في دينها وعقيدتها، إذا أصيبت الأمم بهذا البلاء فعليها العفاء.
وطلّق الشابُ الفتاة، وبحث عن امرأة مؤمنة من جديد.
عباد الله، أم سُلَيم رضي الله عنها كانت مثالاً للمرأة المسلمة، في بيتها كان يزورها الرسول ، فتتحفه بالشيء تصنعه له. أم سُلَيم قُتِل أخوها وأبوها في سبيل الله. أم سُلَيم كانت تغزو مع رسول الله، ولها قصص مشهورة، منها أنها اتخذت خنجرًا يوم حُنَين، فقال أبو طلحة: يا رسول الله، هذه أم سُلَيم معها خنجر! فقالت: اتخذته؛ إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه.
ومنها قصتها لما مات ولدها ابن أبي طلحة، فقالت لما دخل: لا أحد يذكر ذلك لأبي طلحة قبلي. فلما جاء وسأل عن ولده قالت: هو أسكن ما كان، فظن أنه عوفي، وقام فأكل، ثم تزيّنت له وتطيّبت، فنام معها، وأصاب منها، فلما أصبح قالت له: احتسب ولدك، فذكر ذلك للنبي فقال: ((بارك الله لكما في ليلتكما)). فجاءت بولد وهو عبد الله بن أبي طلحة، فأنجب ورُزِق أولادًا قرأ القرآن منهم عشرة قراءة كاملة.
عباد الله، نريد أولادًا يقرؤون القرآن يتلونه ويحفظونه ويعملون بما ورد فيه، لا نريد شبابًا يتسكّعون في الشوارع ويلهثون وراء الشهوات والمعاصي، نريد شبابًا يحملون دعوة الإسلام، نريد شبابًا يتخلّقون بأخلاق القرآن، نريد طائفة تعيد للأمة مجدها وعزها وكرامتها، نريد جيلاً يحمل فكرًا سليما وتربية صالحة، استجابة لنداء الله تعالى في سورة التحريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
وجهوا أولادكم إلى المخيمات الإسلامية، فنحن على أبواب العطلة الصيفية، شجعوهم على حفظ القرآن الكريم وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فالأمر يحتاج لعناية ورعاية ومتابعة، حتى ينشأ جيل صالح يحمل راية الإسلام.
عباد الله، لقد اشترطت أم سُلَيم رضي الله عنها أن يُسلم أبو طلحة، وكان لها ما طلبت، أكرمها الله سبحانه وتعالى بأن يسلم أبو طلحة على يدها فجاء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فقالت: يا أنس، زوّج أبا طلحة. فزوجها، كم تريدين من المهر يا أم سُلَيم؟ فقالت: يكفيني أنك نطقت بالشهادتين.
عباد الله، لماذا أصبح المهر يشكل مشكلة أمام من يريد الزواج؟! لماذا لا تُخفّف عن أولادنا تكاليف وأعباء الزواج؟! من الممكن أن نحصر الشيء الكثير من عاداتنا وتقاليدنا، فدماء شهداء الأمة لم تجف بعد، بحاجة لطاقات وجهود الشباب المؤمن الصادق مع الله في العبادات والمعاملات والدفاع عن حرمات الإسلام والمسلمين.
عباد الله، انظروا إلى هذه المرأة الصالحة، لما حضرت السيدة نفيسة رضي الله عنها الوفاة كانت صائمة في رمضان، فقال لها الطبيب: يا سيدتي أفطري، فقالت: والله لا أفطر إلا عند الله، لقد كنت أدعو الله دائمًا وأقول: اللهم اقبضني إليك وأنا صائمة. نفيسة على فراش الموت صائمة، الطبيب يقول لها: أفطري، فتقول: والله لا أفطر إلا عند الله. وما هو الإفطار عند الله؟ ما هو الإفطار عند الله يا حفيدة رسول الله؟ وعلى أي شيء يكون؟ إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان:5، 6]، السيدة نفيسة قرأت القرآن الكريم كله مائة وأربعين مرة، قرأت القرآن، ظَلّت تقرأ وهي على فراش الموت إلى أن وصلت إلى قوله تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:127]، ثم فاضت روحها الطاهرة إلى علام الغيوب.
يا عالِم السرّ منّا لا تكشف السرّ عنّا
وكن لنا حيث كنّا وعافنا واعف عنّا
نريد نساءً صالحات من طراز أم سُلَيم والسيدة نفيسة، نريد مؤمنات قاتنات كما قال تعالى: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
وقد ضرب الله لنا القدوة الحسنة منهن في القرآن الكريم: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْن [التحريم:11]، وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [التحريم:12].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، يقول الله عز وجل: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]. قضية مهمة في عالمنا الإسلامي، هناك في أوزبكستان قتل وتعذيب وتشريد لأمة الإسلام على أيدي الطغاة المجرمين الحاقدين الموالين لأعداء الأمة، ليس لسبب، بل لأنهم مسلمون يريدون أن يقيموا حكم الإسلام في تلك الأرض الإسلامية، المسلمون في تلك البلاد يُقَتّلون ليلاً ونهارًا سرًّا وجهارًا، ولا حسيب ولا رقيب، يضحّون بأنفسهم ابتغاء رضوان الله، وحكام المسلمين في كل مكان صُمّ بكم عمي فهم لا يعقلون، لم نسمع أي اعتراض من واحد منهم.
ولكن أبشروا أيها المؤمنون، فالأمل يلوح في الأمة والحمد لله، فقد بدأت الأمة تتلّمس طريقها للخلاص، فقد أدركت أمتنا أن لا خلاص لها إلا بإعادة سلطان الإسلام على الأرض، ولعل تلك الطلائع التي رفضت الظلم في أوزبكستان خير شاهد على ذلك. وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن الفرج قريب إن شاء الله، وأن نصر الله آتٍ لا محالة، مهما طال الليل والظلام فلا بد من طلوع الفجر والنور، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
أيها المسلمون، تمرّ علينا هذه الأيام ذكرى حرب حُزَيران عام 1967م، ولا يزال شعبنا الفلسطيني يعاني من آثارها المدمرة القاسية، ويدفع ثمن تآمر وتخاذل من كانوا يتربعون على سدة الحكم. ثمانية وثلاثون عامًا، أربعة عقود مرت على نكسة حُزَيران التي أعقبت نكبة عام 1948م، وخلال هذه الحقبة من الاحتلال لأرض فلسطين جرت متغيرات، واختلت موازين، وتبدلت معايير، تترك الحليم حيران، فقد تمسكت إسرائيل بمنهج واضح رغم اختلاف الحكومات التي تقلدت زمام الحكم على امتداد العقود الأربعة، وقد نجحت بفرض سيادتها وتمسكها بالثوابت التي أعلنتها عقب هزيمة حُزَيران عام 1967م:
1- لا للعودة لحدود عام 1967م.
2- لا لتقسيم القدس.
3- لا لعودة النازحين المُهَجَّرين.
هذه الثوابت التي تمسكت بها إسرائيل عززت من وجودها واحتلالها وتوسعها وهضمها لحقوق أمتنا. وخلال هذه الفترة أقامت المستوطنات والنقاط العسكرية، وصادرت آبار المياه، وقتلت وشرّدت آلافًا من أبناء شعبنا.
أما على الجانب العربي الإسلامي صاحب الأرض فماذا جرى؟! وماذا يجري؟! فالاعتراف بإسرائيل اليوم أصبح حتمية تاريخية وأمرًا واقعًا، والمقاومة أصبحت إرهابًا، والتطبيع أصبح من أسس التقدم والسلام والتعايش السلمي.
أيها المسلمون، لقد صدرت قرارات دولية عقب حرب حُزيران أهمها القراران (242، 338) الداعيان إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره، وحتى الآن لم يتم تنفيذ هذين البندين، وبالمقابل صدرت قرارات ضد أنظمة عربية ودول إسلامية مما يسمى مجلس الأمن، سرعان ما أعقبها تنفيذ فعلي لهذه القرارات، إما بالمقاطعة الاقتصادية كما تم مع الصومال والسودان وليبيا وسوريا، أو بتدخل عسكري سافر كما حدث في أفغانستان والعراق. والأنكى من ذلك التأييد أو الصمت العربي للعدوان الأمريكي على الشعوب الإسلامية، أو التلويح باستخدام القوة العسكرية في حال عدم الانصياع للقرارات الدولية، كما حدث مع سوريا التي سحبت قواتها من لبنان، أو فرض حلول سلمية بين الفئات المتصارعة، كما هو الحال في السودان. وبنفس الوقت استغلت إسرائيل حالة الضعف، وعملت على تطبيع علاقاتها مع العديد من الدول العربية ظاهرًا وباطنًا، وهي تمتلك أسلحة نووية، ومع ذلك لا يجرؤ أي نظام بمطالبتها بإزالة أسلحة الدمار الشامل، أو التوقيع على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، في حين تواجه إيران تهديدات مباشرة من أمريكا ضد برنامجها النووي.
وعندنا فإننا نسمع ونقرأ في وسائل الإعلام أن المستوطنين عازمون على دخول المسجد الأقصى، ويراهنون على من يملك طول النفس لمن يحقق مآربه. فهل ييأس المسلمون من الدفاع عن الأقصى ونحن مطالبون بالرباط الذي شرفنا الله فيه بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]؟!
وكذلك فإن إصرار سلطات الاحتلال على هدم تسعين منزلاً في مدينة القدس ـ وبالتحديد في سلوان ـ جريمة لا تغتفر بحق شعبنا المسلم، والتي تندرج ضمن سياسة تهويد المدينة المقدسة، ونحن من هنا نستنكر هذا الإجراء الظالم، فهل من مجيب؟!
أيها المسلمون، هذا الواقع اليوم، فهل سأل أحدكم عن السبب؟! والجواب هو ابتعادنا عن منهج الله وعدم وجود دولة الإسلام، فمتى تدرك الأمة أن عزتها ورفعة شأنها ووحدتها لا تكون إلا بالإسلام؟! متى يدرك حكامنا أن الأحداث الجارية اليوم هي حرب معلنة ضد الإسلام والمسلمين أوقدها أعداء الأمة الحاقدين على عظمة هذا الدين الحنيف؟!
أيها المسلمون، عودوا إلى رشدكم، وتمسكوا بعقيدتكم، اعملوا على إقامة دولتكم دولة الخلافة الراشدة، ازرعوا في نفوس أبنائكم عظمة الإسلام وحب الدين ورفعة الأخلاق.
(1/4217)
القرآن عزيز مهما فعلوا
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القرآن والتفسير, جرائم وحوادث
محمد بن صالح المنجد
الخبر
12/4/1426
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آيات في فضل القرآن الكريم. 2- تأثير القرآن الكريم على الإنس والجن. 3- تكفل الله تعالى بحفظ القرآن الكريم. 4- القرآن يتحدى. 5- محاولات يائسة مخجلة للإتيان بمثل القرآن الكريم. 6- محاولات الغرب الفاشلة للقضاء على القرآن الكريم. 7- مقاطع من كتاب الفرقان المزعوم. 8- صور من اعتداء الكفار على القرآن الكريم.9- واجب المسلمين تجاه جريمة تدنيس القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [الكهف:1]، وتَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [النمل:1، 2]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]، وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195]، وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16]، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23]، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء:106]، مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:1، 2]، كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ [المدثر:54، 55]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ [يونس:57].
هكذا أعلن سبحانه وتعالى: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء:105]. هكذا كان هذا الذي أوتِيَه النبي وحيًا أوحاه الله إليه، بقي على مدى الأزمان، وسيبقى إلى قُرب قيام الساعة؛ ولذلك كان أتباع محمد أكثرَ الأمم من الذي اتبعوا نبيَّهم.
عباد لله، كتاب فيه الخير والبركة والهدى والنور، قال عثمان : (لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام الله، وما أحب أن يأتي عليَّ يوم ولا ليلة إلا أنظر في كلام الله). هؤلاء الذين ينظرون في الكتاب العزيز فقهًا وتدبُّرًا يحصل لهم الخشوع والخشية، ويخرّون وهم يفقهون، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109].
تنزل الملائكة لسماعه، وتتأثر به، ((اقرأ يا ابن حضير، تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى منهم)).
خلع أفئدة الكفار، وألقى الهيبة في قلوبهم، وهذا جبير بن مطعم ـ وكان مشركًا من أكابر قريش وعلماء السب فيها ـ لما أخذ في أسرى بدر وربِط في المسجد بحيث يسمع القرآن: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ [الطور:35] قال: (كاد قلبي أن يطير، كان ذك أول ما دخل الإيمان في قلبي). وكان أبو بكر وقد أوتي ذلك الخشوع، كان رجلا بكاءً، لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن، فابتنى مسجدا بفناء داره بمكة، وبرز، فكان يصلي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يستمعون عند داره، يعجبون وينظرون إليه، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين.
وكذلك فإن الجن والإنس الذين سمعوه مسلمهم وكافرهم لم يملكوا أنفسهم حين سمعوا قول الله: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:59-62]، لم يملكوا أنفسهم فسجدوا، هيبة القرآن التي أرغمتهم على السجود. لقد تأثر الجن به: فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:1، 2]، وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا [الأحقاف:29]، لقد كانت الآيات كافية أن يصبح أولئك دعاة إلى الله، فولوا إلى قومهم منذرين: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [الأحقاف:30].
وحتى أصحاب الأديان الأخرى من الذين أراد الله بهم خيرًا كانوا تأثروا عند سماعه: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83]. هؤلاء أقرب الناس مودة للذين آمنوا، الذين يتأثرون إذا سمعوا القرآن ثم يسلمون في النهاية: رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ.
هذا القرآن الذي يُكرم صاحبه يوم القيامة بتاج الوقار، ويحَلَّى بالحلية العظيمة، حتى والديه ينالهما خيرًا بسبب حفظ ودهما، ((يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)) ، ويشفع لصاحبه يوم القيامة، وتأتي البقرة وآل عمران كغمامتين تظللان على صاحبهما يوم الحر الأكبر.
عباد الله، هذا قرآن عربي مبين، تكفل الله بحفظه، ولم يوكل حفظه إلى أحبار الأمة وعلمائها كما فُعِل بالذين من قبلنا، وإنما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وإِنَّا تأكيد، واللام في قوله: لَحَافِظُونَ تأكيد.
وقد تولى الله حفظه فلم يستطع أحد من يوم بُعث النبي عليه الصلاة والسلام إلى الآن، ولن يستطيع أحد إلى قيام الساعة أن يحرفه ولا أن يبدله ولا أن يغيره تغييرا يروج على الناس جميعًا، لا يمكن، أن يحصل فيه تحريف عام بحث يزول من الأرض القرآن الأصلي لا يمكن أن يتوصل إلى ذلك أحد، لا من الجن ولا من الإنس، ولذلك كشِفت محاولات تحريف القرآن، وتصدى من هذه الأمة من قيَّضه الله لكشف الألاعيب والتحريف في اللفظ أو المعنى، واستمرت المحاولات، ولكن كناطح صخرةٍ يومًا ليوهنها، فلم يضرها وأوهى قرنَه الوعلُ.
بل بالإضافة إلى ذلك تحدى الله البلغاء والفصحاء والناس جميعًا على مراحل، فقال في كتابه طالبًا من العباد أن يأتوا بمثله فعجزوا، ولما عجزوا قال: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ [هود:13] فعجزوا، فناداهم أن يأتوا بسورة واحدة: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس:38]، وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، لم يستطيعوا، فنادى عليهم بالعجز إلى قيام الساعة فقال: قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88].
لقد نزل القرآن في وقت كانت العرب في أوج قوتها في الشعر والنثر، خطابةً وشعرا، نثرا وشعرا، تحداهم وهم في أوج قوتهم البلاغية وفي زمن المعلقات التي حفظوها، ولكنهم جميعا قد خرسوا أن يأتوا بمثله، بل إن فصحاءهم كبراءهم لم يستطيعوا إخفاء إعجابهم بالقرآن، حتى قال الوليد بن المغيرة المشرك: "والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر". وهؤلاء الأعراب الأقحاح الذين كانوا يأتون من الصحراء بلغتهم القوية لم يخالطها شيء لم يملكوا أنفسهم من الإعجاب والرضوخ لفصاحة القرآن وبلاغته وقوة أسلوبه، حتى إن أعرابيا سمع قول الله: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94] فقال: سجدت لفصاحتها، وسمع آخر قول الله: فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف:80] قال: أشهد أن مخلوقًا لا يقدر على مثل هذا الكلام.
ومن تأمل علوَّ أسلوب القرآن وأنه فوق أمثال العرب، العرب تقول في أمثالها: "القتل أنفى للقتل"، يعني: إذا قُتِل القاتل ينفي ذلك القتلَ، فلما نزل قول الله: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179] أنساهم ذلك المثل؛ فإنه فوقه في البلاغة والإيجاز والمعنى وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ فكيف يكون في القتل حياة؟! كيف يكون القصاص وهو قتل حياةً؟! حياة لبقية الناس.
وكذلك لما سمع بعضهم قول الله: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [مريم:4]، الاشتعال للنار يسير سريعًا، وجاء هذا التعبير عن انتشار الشيب بسرعة، وبعض الناس هكذا ينتشر شيبهم بسرعة. وعندما تسمع قول الله: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ [البقرة:93]، لتتأمل أن هذا التعبير أبلغ من "تغلغل الحب" و"دخل" ونحو ذلك، جعل القلب كالسفنجة وحبَّ العجل كالماء الذي يتشربه، وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ يعني حب العجل.
لقد أعجزهم بالإخبار عن المغيبات ثم تقع كما أخبر، فكانت الفرس قد هزمت الروم واكتسحتها، وكانت قريش تؤيد فارس لأنهم عباد أصنام، وكان المسلمون يميلون إلى الروم لأنهم أهل كتاب، ولما كان المسلمون بمكة أولئك الكتابيون أقرب إليهم من عباد النار والأصنام، ونزل قول الله: الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ [الروم:1-3] في عقر دارهم، ولكن ما الذي سيحدث؟ قال: وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:3]، (سـ) في المستقبل، متى؟ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ [الروم:4]، يفرحون بصدق هذه البشارة، بصدق هذا الخبر. وراهنت قريش أبا بكر، لقد استحال عندهم أن يحدث ذلك، لا يمكن في الموازين الأرضية والعسكرية أن تستعيد الروم قوتها، ولكن ما مضت تسع سنين إلا والروم تكتسح فارس من جديد.
عباد الله، شهد ببلاغة القرآن ومكانته وعلوه القاصي والداني، ولما حاول بعضهم أن يقبل التحدّي بزعمهم في الإتيان فبماذا أتوا؟! قال مسيلمة الكذاب: "يا ضفدع، يا ضفدعين، نِقّي ما تنقّين، نصفك في الماء ونصفك في الطين. الشاة وألوانها، وأعجبها السود وألبانها، والشاة السوداء، واللبن الأبيض، إنه لعجب محض، وقد حرِّم المذق، فما لكم لا تمجعون؟! والمبذرات زرعا، والحاصدات حصدا، والذاريات قمحا، والطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، والخابزات خبزا، والثاردات ثردا، واللاقمات لقما، إهالةً..." إلى آخر الكلام الفارغ بعد قصص الأطفال التي ألفها مسيلمة، ثم تأتي إليه سجاح التي ادعت النبوة ثم تابت بعد ذلك ليقول لها قرآنا نزل عليه: "إنكن معشر النساء خلِقتن أفواجا، وجعلتُن لنا أزواجا، نولجه فيكن إيلاجا..." إلى آخر الكلام من قلة الأدب ليقول: "أرأيتِ إن كنتِ حبلى، وفي بطنك حية تسعى"، وتأتي بعده لتقول: "عليكم باليمامة، ورفوا رفيف الحمامة..." إلى آخر الكلام الفارغ، ليقوم عطارد بن الحاجب مفتضحا بها يقول:
أضحت نبيّتنا أنثى يُطاف بِها وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
فلعنة الله رب الناس كلهم على سجاح ومن بالإفك أغوانا
أعني مسيلمة الكذاب لا سُقيت أصداؤه من رعيت حيثما كانا
رجعت سجاح عن غيها، وكذلك طليحة الأسدي، وبقي مسيلمة حتى فضحه الله وقتله شر قتلة، وحاولوا وحاولوا بعد ذلك، توالت المحاولات، وعرف الأعداء مكمن قوة هذه الأمة، فجردوا الحملات لأجل القضاء على هذا الدين، وكان قائدهم وهو ذاهب في حملاتهم الصليبية يقول: "أنا ذاهب لسحق الأمة الملعونة لأحارب الديانة الإسلامية، ولأمحو القرآن بكل قوتي"، ولكن ما استطاعوا محوه.
قتل من قتل من المسلمين شهيدا وظلِموا وأخذت ديارهم فترة من الزمن ولكن ما استطاعوا محوه، ولما عوتِب بعض كبرائهم في العصر الحديث: ماذا صنعتم؟! لما استعمرتم البلد الفلاني ما هي النتائج؟! قال: ماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى منا؟! وبالرغم من محاولات بعض المستشرقين للطعن في القرآن ووصفه بأنه مملّ ومضطرب ومختلط ومشوّش ويكرّر بلا نهاية ومعقّد، ولكن كل هذه المحاولات ذهبت أدراج الرياح، حاولوا التحريف لفظا ومعنى، ووزعوا مصاحف في هذه السنوات المتأخرة على الجامعات والكليات والمعاهد العلمية في أوربا وأمريكا، ولكن كشِفت محاولاتهم، وكان من أهل الإسلام من لهم بالمرصاد. لقد حاولوا حتى الطعن من خلال الترجمة وهم يفسرون قول الله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ [الأعراف:157]، قالوا: نبي العوام، وكشِفت. وامتد جهل الجاهلين وعبث العابثين حتى فسر بعضهم الم : ( ALM ).
واستمرت هكذا الجهالات تتوالى، وهؤلاء الصوفية يقولون: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] اليقين مرحلة إذا بلغها الإنسان سقت عنه التكاليف، فيقوم لهم أهل السنة والإيمان ليقولوا: إن اليقين بإجماع المفسرين هو الموت، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ. وهكذا يقوم من يريد أن يحرف القرآن فقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67] عائشة، ونحو ذلك من التراهات، بقرة موسى أين هذا من عائشة رضي الله عنها؟! ويقوم القاديانيون بالتحريف لأنهم يعتقدون أن أحمد القادياني نبي، ويريدون التخلص من قضية أن محمدا عليه الصلاة والسلام خاتم النبيين ليقول قائلهم: وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40] الخاتم يعني الزينة الخاتم في الأصبع. انتبه ـ يا عبد الله ـ للتحريف الذي يريدونه، والنبي عليه الصلاة والسلام فسره وبينه وقال: ((لا نبي بعدي)) ، فماذا تقول في هذه يا قادياني يا عدو الله؟!
عباد الله، لم تُجدِ المحاولات، وجاء أصحاب العبث الآخر، تارة تحت تيار الإعجاز العددي والرقم 19، وإعجاز المكتشفات والمخترعات ونحو ذلك ليقولوا: إن القرآن مليء بالمكتشفات والمخترعات، ويكون العبث الذي يقول: أشعة ( x ) نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، وحدثني من أثق به أنه سمع ذلك المعمّم على طلابه يقول لهم: إن القرآن قد ذكر المكتشفات الحديثة: التلفون، وتعجبتُ ما هذه الآية التي فيها ذكر التلفون؟! ليقول له: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ:1-3]: "مُخْ تلِفُون"، فقلت له: لا مخّ له.
عباد الله، هكذا يقولون: تَرَكوك وكُوكَا، فأين الببسي يا غافل يا جاهل؟! ونحو ذلك من الأشياء الترهات التي نسمعها بين الحين والآخر. يخرج علينا مسيلمات في هذا الزمن ويقولون: نقبل التحدي، وقد أصدرنا قرآنا: "المذ"، عجبا! إذا غيَّر حرفا جاء بسورة جديدة؟! "إنا أرسلناك للعالمين مبشر ونذيرا"، طيب نحن نقول ذلك، قال: "تقضي بما يخطر بفكرك وتدبر الأمور تدبيرا"، إذًا ويريد أن يقول: إنه لا يأتي بوحي من الله، بل بما يخطر بفكره، "فمن عمل بما رأيتَ فلنفسه، ومن لم يعمل فلسوف يلقى على يديك جزاء مريرا"، إذًا "من عمل بما رأيتَ" أين هو هذا الكذاب من قول الله: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105]؟!
عباد الله، هكذا تتوالى الافتراءات، وبعضهم من نصارى العرب الذين درسوا هذا القرآن، وأرادوا بعربيتهم محاولة تقليده بزعمهم: "إنا أعطينا موسى من قبلك من الوصيات عشرة، ونعطيك عشرة أخرى، إذ ختمنا بك الأنبياء وجعلناك عليهم أميرا، فانسخ ما لك أن تنسخ مما أمرناك به ـ قال: ـ سمحنا لك أن تري على قراراتنا تغييرا"، إذًا المسألة الآن تلاعب، فهو ينسخ ما يرى، ويحذف ويبقي وهكذا ما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ، القرآن ما فيه مجاملات في تبليغه، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة:44-46]، يقوله عن عبده ونبيه محمد ، لو فعل ذلك لقطعنا عرق القلب والظهر الذي إذا انقطع مات الإنسان، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:47]، ولا يستطيع أحد حين ذلك أن يدافع عنه، ولا أن يمنع عقاب الله النازل فيه، ولكنه عليه الصلاة والسلام بلغه بصدق وأمانة، بلغه عليه الصلاة والسلام ولم يكتم منه شيئا، ولو أراد أن يكتم لكتم مثلا: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [الأحزاب:37]، لو كان كاتما شيئا لكتم مثلا: عَبَسَ وَتَوَلَّى [عبس:1]، ولكن أداه عليه الصلاة والسلام كاملا، علمه أصحابَه، فعلموه من بعدهم، وهكذا انتقل غضا طريا كما أنزل، إلى ابن مسعود، وإلى من بعده من طلابه، ولا زالت القراءات بالأسانيد في أجيال الأمة إلى الآن، فهنيئا لمن تلقوا القرآن تلقيا مشافهة من هؤلاء الخبراء في القراءة الذين أخذوه بالسند إلى محمد إلى جبريل إلى الله عز وجل. سلسلة عظيمة في أجيال الأمة، لو قام هؤلاء اليهود والنصارى والكفار بتحريف جميع نسخ القرآن المطبوعة فستبقى هنالك نسخ غير قابلة للتحريف، إنها النسخ في صدور مؤمني هذه الأمة، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49].
اللهم اجعلنا من حملة كتابك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا ممن رزقتهم تدبره يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا من أهلك أهل القرآن، اللهم إنا نسألك أن تشرح به صدورنا، وتنوّر به قلوبنا، وترفع به شاهدنا، وتثقل به يوم الموازين موازيننا، اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نُسِّينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، هذا الكتاب الذي يتعرض اليوم للغارات والهجمات يريدون به تحقيرا وإهانة، يريدون إزالته من الحكم، يريدون إزالة سلطانه، يريدون تحجيم أثره، يريدون عزله عن الحياة، يريدونه في بعض الحالات كلاما يقرأ للتبرك والعلاج والاستشفاء فقط، لا ليحكم في حياة الناس، لا يريدونه حكما في حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لا يريدونه أن يكون هو الفصل وله الكلمة، ولذلك جروا في مخططاتهم على اتجاهات كثيرة، ومنها هذا المزعوم المسمى بالفرقان الحق، وهو بعيد من الفرقان وبعيد من الحق، لا فرقان ولا حق، الذي كتب بعضه أحد هؤلاء النصارى من العرب وما أشدهم على الإسلام، والذي يقول ويقترح بتجميع المسلمين في منطقة الشرق الأوسط لإبادتهم بالقنابل النووية، وأن هذا هو الحل الوحيد للمشكل معهم.
اجتمع هؤلاء من اليهود والنصارى ليقرروا هذا الكتاب المزعوم الذي صدر منه جزء وسَيَليه اثنا عشر جزءا بزعمهم، طبعوه لينشروه ليكون هو القرآن في القرن الحادي والعشرين. هذا الذي سربوا بعض نسخه هو أحد الحلقات في مسلسل عداوة هؤلاء الكفار للقرآن الكريم، وإن هذه السخافة مثل السخافات السابقة ولو سموها ما سموها، وواضح فيه كلمات الكفر: "باسم الأب الكلمة الروح الإله" ونحو ذلك، الخلط بين التوحيد والشرك، هذا بزعمهم، ثم كتابات سخيفة وأسلوب مهلهل، فيه الإنكار على المسلمين الذين يحكمون بالقرآن: "فأنى يكون القتل سبيلنا؟! وأنى نكتب على عبادنا المؤمنين ذلك؟!"، والله تعالى يقول: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ [البقرة:216]، "وتزعمون بأنا نحب الذين يقاتلون في سبيلنا، وأنا كتبنا القتال على المؤمنين" هذه إحدى الآيات في هذا الفرقان الحق المزعوم، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]. يقول: "وحرصتم على القتال واجتناب السلم فقلتم: ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون"، والله قال في كتابه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
وهكذا تتوالى هذه الآيات المزعومة التي فيها خلط الحق بالباطل، التي فيها: "وزعم بأننا قلنا: يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، وزعم بأننا قلنا: نقدر أن نهلك المسيح ابن مريم وأمه"، والله قال في كتابه العزيز: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [المائدة:116]، وتبرأ عيسى عليه السلام من تلك المقالة ويعلن ذلك على الأشهاد في يوم القيامة، وقال الله للذين يعبدون عيسى وأمه من دون الله أنهما من البشر، وقال: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17]، لا أحد يقوم أمام إرادة الله إذا أراد، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
ومسلسل الاحتقار ومسلسل الإهانة للمصحف الشريف يتوالى، فكم ركلوه بأرجلهم وهدموا المسجد فوق المصاحف فاستخرج من بين الأنقاض، وكذلك رسموا عليه الصليب في كثير من المناسبات التي هاجموا فيها مساجد المسلمين، بل منهم من اشترى مصحفا من أمزون يجد عليه تلك العبارة الخطيرة، وهذا طبيعي لأن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهانا أن نأتي بالقرآن إلى أرض العدو، لماذا لا نجعل المصحف بين يدي كافر؟! خشية الإهانة يا عباد الله، ((لا يمس القرآن إلا طاهر)).
ثم يأتي هؤلاء في هذا المعسكر الذي يهينون به عقائد المأسورين ودينهم ليلقوا به أمامهم، يلقوا به في المرحاض، ويلطخوه بالنجاسات، فهذا أحد الحلقات في مسلسل العداء الذي نبهنا الله عليه: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. هؤلاء بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، وهكذا أفعالهم. وهم وإن كانوا في الظاهر أهانوا المصحف فإن الله قد أهانهم، ولذلك جعل الله بغضهم في قلوب الناس حتى من الكفار، وجعلهم في ديون عظيمة لا يستطيعون قضاءها إلى قيام الساعة، وجعلهم محقورين في قلوب كثير من الخلق يدعون عليهم بالليل والنهار، ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، وكم جعل الله عليهم من العقوبات الكونية وبأيدي أوليائه، وكم جعل الله عليهم من النكبات العظيمة بأيدي المسلمين وهم يحتلون بعض بلدان المسلمين، فأذاقهم الله الهوان بأيدي المسلمين في بلاد المسلمين، ولا يزالون ينفقون أموالهم ليردوكم عن دينكم إن استطاعوا، ولن يستطيعوا ذلك لأن الدين محفوظ والقرآن محفوظ، ومهما فعلوا فلن يستطيعوا، ولقد كانت مشاهد المسلمين وهم يرفعون المصاحف نساءً ورجالا ذكرانا وإناثا عامة وعلماء، ولا زالت الخطب، ولا زالت الكلمات، ولا زالت الحمية في نفوس المسلمين للقرآن الكريم، إنها مشاد العز في زمن قد ذل فيه الكثيرون.
قال النووي رحمه الله: "قد أجمع المسلمون على وجوب صيانة المصحف واحترامه، وقال أصحابنا وغيرهم: لو ألقاه مسلم في القاذورات ـ والعياذ بالله ـ صار الملقي كافرا"، وقال: "أجمع المسلمون على أن القرآن المتلوّ في الأقطار والمكتوب في الصحف التي في أيدي المسلمين كلام الله ووحي منزل، من نقص منه حرفا قاصدا لذلك أو بدله بحرف عامدًا فهو كافر"، وقال العلماء: "يحرم توسد المصحف، ويحرم السفر إلى أرض العدو إذا خيف وقوعه في أيديهم" إذا خيف من إهانته، فعلى الذين يحملون المصحف في الحقائب اليدوية وهم يمرون على التفتيش في بعض مطارات الكفار أن ينتبهوا لذلك، ولا يحملوه في تلك الحقائب التي تتعرض للمسك بأيدي هؤلاء الكفرة، فلا يؤمَن منهم، وإنما يؤخذ بالطريقة المناسبة التي يغلب على الظن فيها أن لا تمسه أيدي الكفار.
عباد الله، نهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو لهذا السبب، وليس معناه منع المبتعثين من أخذ المصاحف، كلا، ولكن المقصود أن يأخذوه بالطرق التي يغلب على الظن سلامة المصحف فيها، والحمد لله الذي خلق من الوسائل الإلكترونية ما يُجعل فيه هذا المصحف بعيدا عن الأيدي والأنظار، والحمد لله الذي نصبه على مواقع الشبكات العنكبوتية يقرؤه من أراد بالليل والنهار.
عباد الله، من أسباب كفر الساحر التي ذكرها العلماء أنه لا يعينه الجن إلا إذا لطخ القرآن بالنجاسات، ومن الوسائل العجيبة لهؤلاء ـ كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره ـ أنهم يكتبون المصحف بم الحيض، فتأمل كيف يهين الكهان والسحرة والمشعوذون كتاب الله، وليس فقط أعداء الخارج، هناك إهانات كثيرة لهذا المصحف.
ولما لطخوا هذا المصحف فإننا نتفاءل بهذا الحدث أن يجعل انكسارهم عاجلا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "حدثي العدول من أهل لعلم والخبرة أنهم كانوا يحاربون بني الأصفر ـ يعني الروم ـ، فتستعصي عليهم الحصون ـ يعني حصون الروم ـ ويصعب عليهم فتحها، حتى إذا وقع أهل الحصن في عرض رسول الله استبشرنا خيرا بقرب فتح الحصن، قال: فوالله لا يمر يوم أو يومان إلا وقد فتحنا الحصن عليهم بإذن الله جل وعلا"، ثم قال شيخ الإسلام: "كانوا يستبشرون خيرا بقرب الفتح إذا ما وقعوا في سب الله أو سب رسول الله "، ونحن نستفتح عليهم بهذا، ونسأل الله أن يجعل هذا الذي حصل منهم فتحا للمسلمين عليهم ونصرا عاجلا مؤزرا، اللهم قرِّبه يا رب العالمين.
وعلى المسلمين أن لا يقفوا عن هذا الحدث فقط بالعواطف، وإنما رصد كل ما يهاجم القرآن للرد عليه، إعداد الردود المناسبة، الكتابة وفي مواقع الإنترنت وفي غيرها، نقل القرآن عبر الأجيال، الاهتمام بتحفيظ القرآن الكريم للأولاد، وهكذا مساندة حِلق تحفيظ القرآن الكريم في كل العالم، وهكذا نشر المصحف وترجمة معاني المصحف، وهكذا الاعتناء بالتفسير ودروس التفسير وعلوم القرآن، وهكذا يجب أن يتَّخذ من هذا الحدث منبر للكلام عن فضل القرآن وأحكام القرآن وبلاغة القرآن وإعجاز القرآن وهيمنة القرآن على سائر الكتب.
عباد الله، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، هذه نعمة عظيمة.
اللهم أتمم نعمتك علينا بحفظ كتابك يا رب العالمين، ومعرفة معانيه يا أرحم الراحمين، اللهم علمنا معاني ما أنزلت إنك أنت العليم الحكيم، اللهم فهمنا هذا القرآن يا مفهم سليمان ويا معلم إبراهيم...
(1/4218)
واسألهم عن القرية
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
آثار الذنوب والمعاصي, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/1/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من فوائد القصص القرآني. 2- قصة أصحاب القرية. 3- تعريف الآيات بطبائع اليهود. 4- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخطورة التساهل فيه. 5- فشو المعاصي من أسباب هلاك المجتمعات. 7- سد الشرع للذرائع المفضية إلى الحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، لقد قَصّ الله جل وتعالى علينا في كتابه العديد من القصص لنتّعظ ونعتبر، فكتاب الله هو المنبع للهدى والحق، فيه يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنه يفوز بالقوة والخشية من الله، ومن أعرض عن هذا الصراط فما هو بحي ولو نما جسمه ونبض عرقه، بل هو ميت كما قال جل وعز: أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـ?فِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
ألا وإن المرء المؤمن حينما يغشى معالم كتاب ربه بقلب غير مقفول لهو كمتعبّد يغشى في مصلاه، ينهل من تلك القصص، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي ?لألْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? وَلَـ?كِن تَصْدِيقَ ?لَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ شَيء وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111].
إن في آيات القصص وإطالة النظر في عواقب المثلات التي قد عفت لفوائد جَمّة، فيرى المسلم وهو يتأمل في كتاب ربه لعن اليهود ومسخهم، ويقرأ غرق فرعون ذي الأوتاد وخسف قارون، ويتأمّل عذاب إِرَم ذات العِمَاد التي لم يُخلق مثلها في البلاد، فيعيش المرء مع القرآن حتى كأنه في الآخرة، ويغيب عن الدنيا حتى كأنه خارج عنها، وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
أيها المسلمون، في سورة الأعراف قصّ الله تعالى علينا خبر أهل القرية التي كانت حاضرة البحر حيث قال جل وتعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ ?لْقَرْيَةِ ?لَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ?لْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ?لسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذ?لِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ?للَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى? رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ?لَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لسُّوء وَأَخَذْنَا ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:163-167].
أيها المسلمون، إن حاصل معنى هذه الآيات في سورة الأعراف هو أن اليهود المعارضين لرسالة النبي زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لِمَا أمروا به، ولذا أمر الله نبيه أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين قرية أيلة على شاطئ بحر القَلْزَم بين مَدْيَن والطُّور، هذه القرية أهلها من اليهود، وكانوا يعتدون في يوم السبت، ويخالفون شرع الله، حيث إنه نهاهم عن الصيد فيه، وكان الله سبحانه قد ابتلاهم في أمر الحيتان بأن تغيب عنهم سائر الأيام، فإذا كانوا يوم السبت جاءتهم في الماء شُرّعا مقبلة إليهم مصطفّة، فإذا كان ليلة الأحد غابت بجملتها، ففتنهم ذلك وأضرّ بهم، فتطرّقوا إلى المعصية بأن حفروا حفرًا يخرج إليها ماء البحر على أخدود، فإذا جاءت الحيتان يوم السبت وكانت في الحفرة ألقوا فيها الحجارة فمنعوها من الخروج إلى البحر، فإذا كان الأحد أخذوها، حتى كثر صيد الحوت، ومُشي به في الأسواق، وأعلن الفسقة بصيده، فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزلت، وفرقة أخرى لم تعص ولم تنه، بل قالوا للناهين: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ?للَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف:164]، فلما لم يستجب العاصون أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص سبحانه على نجاة الناهين، وسكت عن الساكتين، فهم لا يستحقون مدحًا فيمدحوا، ولا ارتكبوا عظيمًا فيذموا.
روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس رضي الله عنهما والمصحف في حجره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا ابن عباس؟ جعلني الله فداءك، فقال: هؤلاء الورقات، وإذا هو في سورة الأعراف، فقال: ويلك، تعرف القرية التي كانت حاضرة البحر؟ فقلت: تلك أيلة، فقال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم، نرى فلا ننكر، فقلت: أما تسمع قوله: فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ [الأعراف:166]؟! قال: فُسُرّي عنه وكساني حلةً.
عباد الله، في هذه الآيات دلالات وإشارات ونصح وتوجيه لمن ألقى السمع وهو شهيد، من ذلك تعريف هذه الأمة بطبائع اليهود من خبث ومكر وتنكّر للرسالة السماوية، يتلوّنون تلوّن الحِرْباء، مما جلب لهم المقت من ربهم، فأوقع بهم شر العقوبات، قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذ?لِكَ مَثُوبَةً عِندَ ?للَّهِ مَن لَّعَنَهُ ?للَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ?لْقِرَدَةَ وَ?لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ?لطَّـ?غُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:60]. لقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وقد أثنى الله عليهم بقوله: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْر?ءيلَ مِنَ ?لْعَذَابِ ?لْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ ?لْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ ?خْتَرْنَـ?هُمْ عَلَى? عِلْمٍ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [الدخان:30-32]، لكنّ التحوّل الذي حدث فيهم كان جذريًّا، حتى أصبح لا يُعرف من شمائلهم أنهم يقودون إلى تقوى أو يُعرفون بمهادَنة، ومن هنا تبدو النكتة اللطيفة، وهي أنه من الغباء بمكان أن يحسب أهل جيل ما أن رحى الأيام لا تدور بالمجتمعات، وأن من ارتفع اليوم ستبقى رفعته له غدًا إذا غيّر وبدَّل.
إن التاريخ صفحات متتابعة، يُطوى منها اليوم ما يُطوى، ويُنشر منها غدًا ما يُنشر، وإن الله جل شأنه يختبر بالرفعة والوضاعة، بالزلزلة والتمكين، بالخوف والأمن، بالضحك والبكاء، وَأَنَّ إِلَى? رَبّكَ ?لْمُنتَهَى? وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى? وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا [النجم:42-44]. كل ذلك حتى تنقطع الأعذار وتُخرس الألسن التي مُرنت الجدل، فإن ناسًا سوف يبعثون يوم القيامة وهم مشركون ويقولون لله: وَ?للَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ?نظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ [الأنعام:23، 24]، ولأجل ذا ـ يا عباد الله ـ جاء التحذير الصارخ من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في غير ما حديث.
من أهم العبر في آيات سورة الأعراف أنه ينبغي على أهل العلم وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، ولا يمنع من التمادي على الوعظ بالأمر والنهي والإصرار عليه عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرضٌ فرضه الله قُبِل أو لم يُقبَل، وأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبذلك تكون المعذرة إلى الله، ويكون الخروج من التبِعَة وسوء المغَبّة، وبذلك يدفع الله البلايا عن البشر، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، ولم يقل: وأهلها صالحون؛ فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً في النجاة من العقوبة الإلهية الرادعة، ولأجل ذلك قال النبي : ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتِح من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) ، وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثُر الخَبَث)) رواه البخاري ومسلم. وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ?لْقُرَى? حَتَّى? يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي ?لْقُرَى? إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـ?لِمُونَ [القصص:59].
أيها المسلمون، إن المعاصي والمنكرات هي الداء العضال والوباء القتّال، الذي به خراب المجتمعات وهلاكها، وإن التفريط في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظم أسباب حلول العقاب ونزول العذاب، يقول النبي : ((ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يُغيّروا ثم لا يُغيّروا إلا يوشك أن يعمّهم الله بعقاب)) رواه أبو داود وغيره، وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى بعض عماله: "أما بعد: فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح بينهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قُمع أهل الباطل واستُخفِيَ فيهم بالمحارم".
أيها المسلمون، إن عدم التناهي بين المسلمين من أعظم أسباب اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين، يقول النبي : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أَكِيله وشَرِيبه وقَعِيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، ثم قال : ((والله، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظالم ولتَأْطُرُنّه على الحق أَطْرًا ولتقصُرُنّه على الحق قَصْرًا، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داود والترمذي.
لقد لعن الله اليهود في كتابه لعنًا يُتلى على مرّ الأيام والسنين وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين، فاحذروا ـ عباد الله ـ سبيلهم الوخيم وفعلهم الذميم، فإنه لا صلة بين العباد ورب العباد إلا صلة العبادة والطاعة، فمن استقام على شريعة الله استحق من الله الكرامة والرضوان، ومن حاد عن سبيل الحق والهدى باء باللعن والخيبة والخسران.
يا من رضيتم بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولاً، أَصِيخُوا سمعكم وأصغوا قلوبكم لقول النبي محمد : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم، وانظروا وتساءلوا: أين أثر تطبيق هذا الحديث في نفوسنا ومجتمعاتنا؟! أين إيماننا الصادق وخضوعنا التام لما جاء به محمد ؟! ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده)) ، السلطان في سلطانه، والأمير في إمارته، والقائد في جيشه، والرجل في أهل بيته، وكل مسؤول فيما تحت ولايته، يقول عثمان : (إن الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن)، ويقول بعض السلف: "ما قيمة حق لا نفاذ له؟!".
أيها الآباء، طهّروا بيوتكم من جميع المنكرات، وليكن بيت النبوة ـ على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ لكم في ذلك قدوة وأسوة، تنتهجون نهجه، وتحذون حذوه، تقول عائشة رضي الله عنها: قدم رسول الله من سفر، وقد سَترت سَهْوَة من جدران فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله هَتَكَه، وتلوّن وجهه، وقال: ((يا عائشة، أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى)) متفق عليه. تقول عائشة رضي الله عنها: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. رحماك ثم رحماك يا رب.
عباد الله، من عَجَزَ منكم عن الإنكار باليد والسلطان فلينكر باللسان والبيان، فعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العُسْر واليُسْر والمَنشَط والمَكْرَه، وعلى أَثَرَةٍ علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم. متفق عليه. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي قال في خطبته: ((ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه)) رواه الترمذي وأحمد وزاد: ((فإنه لا يُقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكّر بعظيم)) ، وقال : ((لا يحقر أحدكم نفسه)) ، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟! قال: ((يرى أمرًا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول الله جل وعلا: فإياي كنت أحق أن تخشى)) رواه ابن ماجه.
أيها المسلمون، إن الطامة الكبرى والمصيبة العظمى أن تتوالى الفتن على القلوب، ويزول خطر المعاصي في النفوس، فيواقع الناس حدود الله وينتهكون أوامر الله، ويصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، يقول رسول الهدى : ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشْرِبها نُكِتت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكِتت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مِرْبَادًّا كالكُوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، لم يفتأ أعداء الدين من اليهود والنصارى ومن سار في ركابهم من فسّاق الملة المستغربين والعلمانيين يشنون على أمة الإسلام حملات متلاحقة عبر وسائل ورسائل، لا يخفى مستواها، ولا يُجهل فحواها ومحتواها، غرضها زعزعة عقيدة الأمة وتدمير أخلاقها وطمس هويتها وتغييبها عن رسالتها. فبماذا واجه المسلمون تلك الحملات؟! هل أوصدوا دونها الأبواب؟! هل جاهدوها حق الجهاد؟! هل قاموا بالضمانات الكافية من عدم انتشار الشر والفساد؟! لقد فتح كثير من المسلمين بسبب الغفلة عن دين الله وقلة التحفظ والتيقّظ، فتحوا بلادهم ومتاجرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيارات الوافدة، وأسلموا مجتمعاتهم للأمة الكافرة المعاندة، وصدق رسول الله : ((لتتبعنّ سَنَن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جُحْر ضَبّ لدخلتموه)) ، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ فقال : ((فمن؟!)) رواه البخاري.
عباد الله، إن مما يبعث على الحرقة والأسى أن يرى المسلم في مجتمعه وأمام عينيه صورًا ممرضة من المنكرات والمحرمات فلا يجد لذلك في نفسه توجّعًا، فأيّ ركن قد وهى؟! وأي نور للأمة قد ذهب واختفى؟! نعوذ بالله من اندِرَاس معالم هذه الشعيرة واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغيرة الدينية.
فيا أمة محمد ، يا خير أمة أخرجت للناس، أين الحمية التي تتأجج في صدوركم لدين الله؟! أين الغضب؟! أين تمعّر الوجوه في انتهاك حدود الله؟!
أيها المسلمون، تعاقدوا وتعاهدوا أن تنصروا شريعة الرحمن، وقوموا قومةً تُعلي راية الإيمان، وخذوا على أيدي سفهائكم قبل استفحال الداء وإعواز الدواء، واعلموا أن التواكل والتلاوم والتحسّر والتضجّر دون عمل وجدّ واجتهاد وأمر ونهي ودعوة وإرشاد لا يغيّر من الواقع شيئًا، بل هو داعية غمّ وهمّ وفتور وإحباط. إننا لا نريد غيرةً لا تعدو أن تكون مجرد معان نتمناها بأذهاننا أو نحسّها مجردة في مشاعرنا، إننا نريدها باعثًا قويًا وواقعًا عمليًا وعملاً إيجابيًا لخدمة دين الله والانتصار لشرع الله وفق القيود الشرعية والضوابط المرعية.
أيها المسلمون، إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء لا يقدر عليها إلا الكُمّل من الرجال، هي مهمة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، مهمة تصطدم بشهوات الناس ونزواتِهم وغرورِهم وكبريائِهم وهبوط السفلة منهم، ولا بد أن ينال القائمين بها شيء من الاعتداء والأذى.
إن للحق والخير والمعروف رجالاً ودعاةً وأنصارًا يدعون إليه، ويرغبون فيه، ويأمرون به، ويصبرون عليه، ويتحملون في سبيل ذلك كل ما ينالهم ويصيبهم، كما أن لهم في المقابل أعداءً يكرهون الحق الذي معهم ويقاومونه، ويدعون إلى الباطل، ويحسنون الشر ويفعلونه، ولكن شتان بين هؤلاء وأولئك، فالمؤمنون الصالحون الآمرون بالمعروف وليّهم الله، ومن يعاديهم من المنافقين وأذنابهم وليهم الشيطان، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]. والنهاية مهما طال الطريق وادلهمّ الليل وكثرت العقبات ستكون ـ بإذن الله ـ لأصحاب الحق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:56].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ومن دروس قصة أهل القرية أن الشارع الحكيم جاء بسدّ الذرائع المفضية إلى ما حرم الله ورسوله ، وأن شيئًا من أنواع الحيل الموصلة إلى ما حرم الله لا يجوز البتّة، وهي وإن كانت تخفى على جملة من البشر إلا أنها لا تخفى على رب البشر، إذ إنها من باب الإلحاد في حدود الله، وهو الميل والانحراف عنها، قال الله تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي ءايَـ?تِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَى? فِى ?لنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي ءامِنًا يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ ?عْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].
وأيًا كانت هذه الحيل في العبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية أو نحوها، لا يجوز فعلها للوصول إلى المحرم من طرف خفي، ولربما انتشر مثل هذا في أوساط الكثيرين، لا سيما في البنوك والمصارف أو في الهيئات والشركات المتعهدة في اتخاذ طرق ومرابحات دولية أو مضاربات صورية، إنما هي في حقيقتها حيلة على أخذ الربا، فيُخدع ببهرجها السُّذّج، ويُغرُّ بها الذين ينشدون الكسب الحلال، فيوقعونهم في شرّ مما فروا منه، دون الرجوع إلى أهل العلم والمعرفة في كشف حقيقة تلك المرابحات، ما يجوز منها وما لا يجوز، وكذا الحيل في التخلص من الزكاة بتفريق المجتَمِع وجمع المتفرِّق. ومن ذلك الحيل في إباحة المطلقة طلاقًا لا رجوع فيه نتيجة شقاق ورعونة عقل، أعقبها ندم، وَلاتَ ساعة مَنْدَم.
أيها المسلمون، إن هذه الأمثلة المطروحة ما هي إلا شعبة في واد وقطرة من بحر، القصد من ورائها تنبيه الغافلين وإنذار المتغافلين والتأكيد الجازم على خطورة شيوع الحيل المحرمة، وما تودي به من كَدَر في الصفو وعَطَب في النية والمقصد، وهي وإن تَقَالّها ثُلّة من الناس فإن هذا لا يهوّن من شأنها، فإن القليل بالقليل يكثر، وإن الصفاء بالقذَى ليكْدر.
(1/4219)
نهاية الفرعون الجديد
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
18/1/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقلية الفرعونية. 2- تشابه أفعال الفراعنة والطغاة على مر العصور والدهور. 3- أخطار تواجه أمة الإسلام اليوم. 4- أثر الظلم وعاقبته. 5- من أسباب النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد كان فرعون رمزًا للطغاة وقدوة للمستكبرين الذين يسعون لإهلاك الحرث والنسل في سبيل خلو الأرض من مُعارض، فيشيع الرعب والدمار، ويُقدم على الإجراء تلو الآخر وعلى الحرب تلو الأخرى من أجل إرساء قسمات عالم يروق لمزاجه وكتل بشرية تسبح بحمده وتقر بنعمته وأمنه وبسط نفوذه.
أيها المسلمون، لقد حدثنا القرآن مليًا عن هذه العقلية بما يجعل المطّلع والمتأمل في سيرة هذا العُتل ومن سار على خطاه واسترشد بهداه يستخلص الدرس بعد العبرة والسُّنة بعد العلة مِن تقلب الحال لما أحدثته تلك السياسات العرجاء التي سنها الفراعنة على مر العصور، وحملوا البشر عليها بقوة الحديد والنار، ثم نهاية المعقد والمآل لتلك الملاحم الملونة بدم الأبرياء، والذين نذروا أنفسهم دروعًا مقاومة للظلم ونصرة للمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً.
والحكمة التي يكشف عنها القرآن في تشابه أفعال الفراعنة والطغاة على مر العصور والدهور على الرغم من اختلاف الأزمنة والأمكنة هي عقلية الطغيان، أو جينات الاستكبار ـ إذا صح التعبير ـ التي يحملها ذاك النوع من البشر الذي يعتبر نفسه خلقًا غير عادي، قال الله تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ [الذاريات:52، 53]، فذاك القول النتن وتلك الأفعال المستهجنة التي تصدر إنما هي نتاج العلو والتكبر في الأرض، فادعاء الألوهية ثم استخدام سياسة العصا والجزرة ومصادرة حريات الناس وتسفيه آرائهم وازدرائها مع العمد إلى تفسيق الناس ليسهل سوقهم كالهوام التي لا تفكر إلا في اتباع الشهوات والتقاط الشبهات وما حام حول حماها كلها سياسات وإجراءات جُربت من قبل المتكبرين، وفي حال عدم إتيانها للثمار التي يرومونها وتحقيقها للنهايات التي يتطلعون إليها فلم يعد بعد ذاك إلا السحق للمقاوِم بأي طريقة كانت، وتحت أي عذر أو مبرر كان، وهذا عين الحمق الذي يرتكبه من يسوسون العالم في البيت الأبيض، فمن ليس معهم قلبًا وقالبًا بعد حمل العالم على أجندة مكافحة الإرهاب فهو مع الإرهابيين أو منتظم معهم في محور الشر، ومن يحددون بأنه خطر على الأمن والسلام العالميين ـ أي: أمنهم وسلامهم هم لا غير ـ فسيلقنونه درسًا تحت مطية الحرب الاستباقية التي يجب أن يعلم الكل أن الحركات والهمسات بل وتمتمات النفس وهمساتها في ظلها معدودة، وتحت دثار ردائها، صاحبها متابع ومحاسب، حتى لا تسول له نفسه في يوم من الأيام بأنه أو من سيخرج من صلبه سيكون قادرًا على قض مضاجع العرش الذي اعتلوه والمكانة العالمية التي تبوّؤوها، والتي تجعل منهم بمثابة الذي لا يُسأل عما يفعل، ولا يجب أن يرى الناس إلا ما يراه، ويتبعوا ثم يهتدوا بما يقرره هو ويمليه، يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29].
ويا له من تطابق بين أفعال الفرعون المذكور في القرآن وبين صنيع أحفاده الذين يسوسون العالم الآن؛ لقد سن فرعون قانون قتل ذكور بني إسرائيل الذين قيل له بأن حتفه سيكون على يد فتى منهم، على إثر المنام الذي رآه، فبدأ يستبقي النساء ويحصد الأولاد دفعًا لذلك المحذور واحترازًا من النذر المشؤوم، وها هو الفرعون الجديد ـ رئيس الولايات المتحدة ـ يسير على نفس خطى الفرعون القديم، يسن قانون الحرب الاستباقية ليبدأ في تطبيقها حذرًا من الخطر الذي تشكله عصابات، بزعمه يملكون أسلحة الدمار الشامل، التي يزعم أنه يملكها أو قادر على إنتاجها، من أن تقع في يد الإرهابيين وما أدراك ما الإرهابيون؟! وما الأرض الخصبة التي يترعرعون فيها والعرق البشري الذي يكثرون فيه ويتناسلون؟! قال الحق جل في علاه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:4-6].
أيها المسلمون، إن الفرعون القديم بعد أن بلغ الطغيان به والعلو مبلغه اهتدى إلى هذه السياسة؛ ظنًا منه ـ ومن البطانة التي تدفعه ـ أن هذا الأمر يقطع دابر الفتنة والفساد، أي: مقاومة غطرسته وجبروته التي كانت على يد موسى عليه السلام والعصبة المؤمنة التي كانت معه من بني إسرائيل، فقسّم الناس إلى طوائف وفرق: فريق الخير الذي يدور في فلكه ويأتمر بأمره ويبارك مسعاه ومبتغاه، وفريق الشر الذي يعارض كبرياءه ويستهجن صنيعه، فللأول القربى والزلفى، وللثاني الخسف والخطف وتجفيف المنابع وقطع دابر الإمدادت المادية والمالية وتشويه السمعة والرمي بكل نقيصة لتنفير الناس مما لدى المعارض من حجج وبراهين.
وهذا ما يفعله الفرعون الجديد اليوم تحت غطاء حربه على الإرهاب، فالعالم انقسم إلى قسمين وصار فريقين: فريق الخير، وهم المباركون للخطى والمقدّمون للقرابين والمطأطئون للرؤوس الذين كما قال الأول:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
وفريق الشر الذين يتمحكون ويتململون بل ويتساءلون: لِمَ كل هذا العسف والحيف والظلم في تعميم سياسات قيل: إن المستهدف من ورائها هم الإرهابيون؟! ليجد العالم بعد ذلك نفسه أمام جهة مستهدفة في كل شيء، حتى في حكامها الذين أساموها سوء العذاب، بوضع أيديهم في يد هذا الفرعون الجديد، وتقديم كل ما يريد، ومع ذلك فهو غير راض ولا مقتنع إلا بالاستسلام التام أو السحق المستضام، فالملايين من البشر التي خرجت في مسيرات مليونية مدوية لم يشهد العالم المعاصر لها مثيلاً في أكثر من سبعين دولة وستمائة مدينة لتعبر عن رفضها لهذا المنطق الأعرج ولهذا الحمق الأهوج لا تستحق من فرعون أمريكا وملَئه النظر إلى رسالتها والالتفات إلى حججها؛ لأنها رعناء حسب منطقه، ولا تُقدّر العواقب ولا تدرك الخطر، وفوق ذلك لا تدرك تلك الجماهير ولا الشخصيات السياسية أو المثقفة التي خرجت معها مدى الخير العميم الذي سيحل بعد الحرب، ومدى الحريات والتوزيع العادل للثروات بعد وضع مقدرات البلد البترولية تحت إمرة الأيادي البيضاء الأمينة.
أما الاعتراض الفرنسي أو الألماني ـ وإن كان لا يقدم أو يؤخر ـ في نهاية المطاف كما حدث في مناسبات سابقة فإن فرعون أمريكا يصف ذلك بنعقة من أوربا القديمة التي عفا عليها الزمن وأكل عليها الدهر وشرب، والتي لا تستحق أن يلتفت إلى صراخها وعويلها.
أليس هذا الذي يصنعه فرعون أمريكا هو عين العلو الذي وقع فيه فرعون مصر؟! فهو لا يريد أن يَسمع إلا ما يُطربه، ولا يريد السماح بالعيش إلا لمن يقر بنعمته عليه، فلا يحرك شاردة أو واردة إلا بعد إذنه، وقد كان ذاك الفرعون القديم يفعل ما يشبه هذا، ففي لحظة من الغضب والهيجان يقرر بكل كبر وعلو: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26]، وعندما يستجيب السّحَرة لنداء الحقّ بعد سقوط الأقنعة عن الزيف الذي كان يمارسه عليهم قابلهم بكل عجرفة ونهرهم بالأسلوب الذي اعتاد مخاطبتهم به: آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف:123].
والحديث في هذا المجال يطول بذكر الصلف والغرور الذي تفوح به أفعال الطغاة على مر العصور؛ لأن الملأ زين لهم، ولأن القوة والسلطة أغرتهم، ولأن العلو والكبر ملأ سويداء قلوبهم، فراحوا يضربون ذات اليمين وذات الشمال، ظانين أن لا أحد يقف في طريقهم، ولا أحد يسلم من مكرهم وتدبيرهم، فيأتيهم الأمر من حيث لا يشعرون، ويدخل عليهم الخراب والدمار من حيث لا يحتسبون، فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر:2]، قال الله تعالى: وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:6].
أيها المسلمون، لقد أُتي فرعون مصر من قبل الكبر والعلو من حيث لم يحتسب؛ بأن تربى موسى عليه السلام في قصره بعد أخذ الحيطة والحذر بالتدبير لقتل جميع الذكور الذين يولدون من بني إسرائيل، وكان حتفه على يديه بعد رعاية الله وتدبيره لكل هذا. ولا أظن أن فرعون أمريكا بصنيعه الظالم هذا سيفلت من هذا الأمر، وسيكون بدعًا عن سير الظالمين الهالكين. فمن رحِمِ هذه الغطرسة ومن إزار ذلك الكبرياء ومن ثمار تلك السياسات الحمقاء ستتولد بذور المقاومة لهذا الطغيان، وستربو ثم تنمو وتثمر في وسط هذه الملاحم وعلى أنقاض تلك الأشلاء التي ستتطاير والأرواح التي ستُزهق بغير حق دروع الشموخ التي ترفض أن تساق إلى المشنقة كالسوام أو ترضى الاستبقاء تحت ظل حياة كيفما كان شكلها أو لونها، فكم لله من حِكم في استخراج النهار من الليل والفجر من غسق الدجى والميت من الحي ومن إحياء الأرض بعد موتها ومن أخذ الظالمين رويدًا رويدًا إلى ارتكاب ما يظنون أنه مانع لهم مما هم في حذر منه أو دافع عنهم ما يقدِّرون حتفهم أو بدايته في طياته، غير أن الظلم والغطرسة والكبر تعمي وتصم، وأمْر الله بالمرصاد، فإذا جاء لا راد لأمره، ولا دافع لقضائه، إلا ما أراده هو بمشيئته وحينها وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، وعلى يد من سينالهم غضب الله ويحل بهم نكاله بعد أن يبثوا الرعب ويزهقوا الأرواح ويهلكوا الحرث والنسل ردحًا من الزمن كاف لأن يجعلهم يعيشون في سكرةِ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، ومن أكثر منّا بأسًا وبطشًا؟! ومن يعترض سبيلنا ويقف في سبيل فرض قيمنا؟! بعدها سيأتي الوقت الذي يقدره المولى جل وعلا من فوق سبع سماوات، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن الأمة المسلمة تواجه اليومَ خصامًا بعنف وتآمرًا وحربًا بجبروت، يقودها فرعون ظالم وقومٌ لئام، أماطت عنهم اللثام الأحداثُ والوقائع والأيام، يجرّون الضغائن، ويحملون مسمومَ الدفائن، ملؤوا الدنيا عدوانًا، وأشعلوها نيرانا، وأنَّى يُحقِّق هؤلاء سلامًا دائما وسكونا دائبًا؟!
أحداثٌ تُفتعَل، وأدوارٌ تُمثَّل وتُنتحَل، إفكٌ وافتراء، واتِّهام وادِّعاء، وغطرسة وغرور، واستبداد وفجور، وجَور واشتطاط، وظلم واختباط، وتلاحم بالظالمين واختلاط، أدَّى إلى تفجّر العنف في المنطقة وانعدام الأمن وانتشار الخوف واختلال الأوضاع في كثير من الأصقاع والبقاع.
إن العالم باتت تحكمه شريعةُ الغاب وسياسات التهديد والإرهاب ولغة التحدّي والإرعاب، مصالح ذاتية، ونظمٌ أُحاديّة، وإدارة فرديّة، تتعامل مع الغير معاملةَ السيّد للمسود والقائد للمقود، سياسةُ مصالح لا قيم، سياسة لا تحكم بالسويّة، ولا تعدل في قضيّة، ولا تتعامل إلا بحيف وازدواجية، غيٌّ وبغي، وتسلّط وتمرّد، ورؤًى خاصَّة يقرّرها صاحبُ القوّة وفق عقيدته ومصلحته، ومحاولاتُ إحداثِ خلخلة وضعضعة وانشقاقٍ وافتراق في صفوف الأمة المسلمة؛ لتكونَ أمصارًا متنافرة وبلادًا متناثرة متناحرة.
إنها صورةٌ واضحة المعالم جليّةُ الأبعاد للواقع المرّ الذي تأباه نفسُ كلّ أبيّ حرّ، وستظلّ المباركة والتأييد التي يلقاها الإجرام الأمريكي وتهيئة الأجواء له وإفساح المجال لارتكاب مزيدٍ من الهدم والتشريد والتقتيل شاهدًا على الحقد الأعمى، وأنَّه ليس عند القوم للعدل حظٌّ ولا معنى.
أيها المسلمون، لقد بلغ السيل زُباه، والكيدُ مداه، والظلم منتهاه، والظلم لا يدوم ولا يطول، وسيَضمحلّ ويزول، والدهر ذو صرفٍ يدور، وسيعلم الظالمون عاقبة الغرور.
أين الذين التحفوا بالأمن والدَّعَة، واستمتعوا بالثروة والسَّعة، من الأمم الظالمة الغابرة الظاهرة القاهرة؟! لقد نزلت بهم الفواجع، وحلّت بهم الصواعق والقوارع، فهل تعي لهم حِسًّا أو تسمَعُ لهم ركزًا؟! فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته)) ، وقرأ : وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى? وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]. متفق عليه.
أيها المسلمون، مهما بلغت قوّةُ الظلوم وضعفُ المظلوم فإنَّ الظالم مقهور مخذول، مصفّد مغلول، وأقربُ الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم، يرفعها الحيّ القيوم فوق الغيوم، يقول الرسول : ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبوابَ السماء، ويقول لها الرب: وعزَّتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعدَ حين)) أخرجه أحمد. فسبحان من سمع أنينَ المضطهدِ المهموم، وسمع نداءَ المكروب المغموم، فرفع للمظلوم مكانًا، ودمَغ الظالم فعاد بعد العزّ مهانًا.
أيها الناس، إنه ليس شيءٌ أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الظلم والعدوان، ولا يكون العمران حيث يظهر الطغيان، وإن الظالمَ الجائر سيظلّ محاطًا بكلِّ مشاعر الكراهية والعداء والحقد والبغضاء، لا يعيش في أمان، ولا ينعَم بسلام، حياتُه في قلق، وعيشه في أخطار وأرق؛ لأنَّ الظلم جالبُ الإحن ومسبِّب المحن، والجَور مسلبةٌ للنعم مجلبة للنقم، وقد قيل: الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش.
أيها المسلمون، قد يُنعم الله على الكافر نِعمَ نَفْع أو نعمَ دَفْعٍ أو نعَم رفْع، ولكنه إنعامٌ وإعطاء ما هو إلا استدراج وإملاء، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًَا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، وقال تعالى: وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، وقال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]، وقال تعالى: وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّى? يَأْتِي وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31]، وقال تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ [آل عمران:196]، لا يغرّنَك ما هم فيه من الاستعداد والإمداد، لا يغرنَّك ما هم فيه من التعالي والاستبداد، لا يغرنَّك ما يملكون من القوة والعدّة والعتاد، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:197]، فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
أيها المسلمون، إنَّ ما أصاب المسلمين من التخلّف والتقهقر والضعف والتأخر ونزع المهابة والهوان والعدوان إنما هو عاقبة الفسوق والعصيان، فعن ثوبان قال: قال رسول الله : ((يوشك الأممُ أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن)) ، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حبّ الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أبو داود، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) أخرجه أبو داود.
شهواتٌ ومُتع، ودنيا مؤثَرة وهوًى متَّبع، أجيالٌ مردت على العبث، مجتمعاتٌ فشت فيها قنواتُ الخبث، تلاعبٌ بالمرأة بكلِّ وقاحة وجرأة، والربا صار كالمباح، لا حرج فيه ولا جناح، وأيدي الظلمة امتدّت إلى الفقراء والضعاف بالتسلّط والإجحاف والقهر والإتلاف، فجباةُ الأموال بغيرِ حقِّها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، وآخذُو الملك من يد مالكه من غير عِوضٍ ولا سبب ظلمة، وباخسو العمّال حقوقَهم ظلمة، والثلة إذا نام عنها راعيها عاث الذئاب فيها. فعلى كلِّ من آتاه الله رئاسةً تامة وزعامة عامة أن يقوم بالعدل والسلطان، لتنكفَّ بسطوته الأيدي المتغالية، وتمتنع من خوفه النفوس العادية، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((إنه لا قدّست أمة لا يَأخذُ الضعيف فيها حقَّه غيرَ متعتَع)) أخرجه ابن ماجه.
أيها المسلمون، الدهرُ طعمان: حلو ومرّ، والأيام طرفان: عسرٌ ويُسر، وكلّ شدّة إلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء، وإنَّ بعد الكدر صفوًا، وبعد المطر صحوًا، والشمس تغيب ثم تشرق، والروض يذبل ثم يورق، ولله أيام تنتصر من الباغي وتنتقم من العاثي، ومن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدائد، وصرف عنه المكائد، وحفظه وهو نائم وقائم وصاحٍ وراقد، فتحلَّوا بالطاعة، والتزموا الجماعة، وإياكم والتشاحن والتطاحن، واحذروا الجدل، وعليكم بالجد والعمل، واعلموا أنَّ من فعل ما شاء لقي ما ساء، ومن أصلح فاسدَه أهلك حاسدَه، ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى? لَهُمْ [محمد:7-11].
أيها المسلمون، المؤمن مهما تفاقم الشرّ وتراقى الخطر والضرّ فإنه يعلم أن ما قُضِي كائن وما قُدِّر واجب وما سُطِّر منتظَر، ومهما يشأ الله يكن، وما يحكم به الله يحقّ، لا رافع لما وضع، ولا واضع لما رفع، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وما شاء ربُّنا صنع، فلا جزع ولا هلع، وإنما صبرٌ ومصابرة، وفأل بأنَّ لأهل الإسلام السلطة والانتصار والفرج والإظفار، ولعدوّهم الذلّة والصغار والدمار والخسار، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، والكفرة الملحدين واحم حوزة الدين...
(1/4220)
القرآن ومعتقل غوانتانامو
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القرآن والتفسير, جرائم وحوادث
عويض بن حمود العطوي
تبوك
12/4/1426
أنس بن مالك
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف الكفار من القرآن كما يحكيه القرآن. 2- استمرار عبث العابثين بكتاب الله تعالى. 3- علو القرآن الكريم وتحديه للكافرين. 4- دلائل حادثة تدنيس المصحف الكريم. 5- واجبنا تجاه هذه الجريمة النكراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الحق تبارك وتعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [الحج:72].
إنها كراهية الحقّ الذي لا يستقيم مع الهدى والزّيع، إذا تلي القرآن العظيم الهادي إلى الصراط المستقيم ورِمَت أنوف الكفار واشتدّ غيظهم، حتى لم يتمالكوا كتمه، فظهر على وجوههم، واليوم ظهر في تصرفاتهم وما عملته أيديهم.
كتاب الله العظيم يدنس ـ وهو مكرّم كرّمه الله ـ على أيدي أدعياء الحضارة في معتقلات كوبا وسجون أفغانستان والعراق، ضمن سلسلة قديمة حديثة من العداء الدفين لهذا الكتاب وأهله. تحاول هذه الحضارة البائسة يائسة أن تخفيَ وجهها الكالح أمام مليار ونصف المليار من المسلمين. إنها سلسلة ماضية في حلقاتها منذ أن نزل هذا القرآن على قلب محمد في مكة.
تأملوا ـ يا كرام ـ إلى هذه الآيات مرة أخرى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ أي: الكفار، آيَاتُنَا أي: القرآن، بَيِّنَاتٍ أي: واضحات، وفي تقييد الآيات بكونها واضحات تفظيعٌ لإنكارهم لها، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ، ما قال سبحانه: "تعرف في وجوههم المنكر" مع أنهم تقدّم ذكرهم، بل أظهر جلّت قدرته علّة الإنكار وهي الكفر فقال: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ، إذًا هذا هو السبب، هذه هي العلة، ثم إنه ذكر سبحانه الوجوه وأن الناظر في وجوههم لحظة تلاوة القرآن يلحظ ذلك التغيّر الواضح المُنبي عن كره بغيض لمضمون تلك الآيات المتلوّة، وفي هذا كناية عن امتلاء نفوسهم من الإنكار والغيظ حتى تجاوز أثره بواطنهم فظهَر على وجوههم، ولا شك أن ما في البواطن أعظم وأشنع؛ لأنه سبحانه وصفهم بقوله: وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
معاشر المؤمنين، إذا كانوا يضمرون كل هذا الشرّ بمجرد تلاوة الآيات فماذا يمكن أن يفعلوا لو ظفروا بهذا الكتاب ووقع في أيديهم، أو دارت لهم الدائرة على حملة هذا القرآن، هذا ما يذكره الله عنهم في قوله: يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ، ومعنى يَسْطُونَ أي: يبطشون، إنهم يكادون ويقاربون أن يصُولُوا على الذين يتلون هذا الكتاب من شدّة حقدهم وغيظهم من سماع هذا القرآن.
ويحهم! ماذا فيه غير سعادة البشرية؟! ماذا فيه غير الحق؟! ماذا فيه غير الهدى حتى تمتلأ قلوبهم بكل هذا الغيظ لمجرد سماع آياته؟! إنهم لا يملكون حجة ولا دليلاً ولا برهانًا، إنما هو العمى والتجبر والبطر.
معاشر المؤمنين، هذا وصف بليغ لا مزيد عليه، يفسّر لنا ما يملأ سمع العالم الآن من هذه الجريمة البشعة التي تعرض فيها هؤلاء الصاغرون لكتاب الله العظيم، وهي تكشف عن جرائم كثيرة مماثلة طوتها سحُب الظلام، لم تلتقطها عدسة مصوّر، ولم تنشرها صفحة جريدة، إنها جريمة تمثل جرائم، وفضيحة في سلسلة فضائح لوجه الحضارة المزعومة راعية الحرية والسلام، ونفي الخبر والواقعة لن يغير من الحقيقة شيئًا؛ لأن الخرق قد اتّسع على الراقع.
عباد الله، عبثُ الصاغرين ضدَّ هذا الكتاب سيبقى ما بقي الخير والشر، والأساليب ستتنوع، وأقنعتهم ستتلون، لكنهم بإذن الله خاسرون وأمام كلام الله مدحورون.
تأملوا ـ رعاكم الله ـ إلى هذه الصورة التي تمثل نموذجًا آخر ليس ببعيد عن سابقها من مواقف الحاقدين على هذا النور، قال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26].
معاشر المؤمنين، تأملوا ـ رعاكم الله ـ إلى تكرار العلة ذاتها في إيماءَة جديدة إلى أن الكفر هو دافع التواصي بعدم سماع الحق، بل والتعدّي على هذا الكتاب، فيقول سبحانه: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ، إنها إذًا وصية الكبراء المنظرين، حملَة القرار لأنفسهم وللجماهير، لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ ، لهذا الحق؛ لأنهم عجزوا عن مغالبة أثر القرآن في نفوسهم ونفوس الجماهير. لا تَسْمَعُوا ردٌّ للحق قبل سماعه، إنه منطق يدلّ على تخلّف واضح في ركب التحضّر، لا حِوار، لا سماع، لا مناقشة، لا، ليس هذا فحسب، بل هم ينحدِرون إلى نهايات أبأس وأسوأ عندما يواجهون عظمة القرآن وحججه وبراهينه بتلك الوصية العاجزة والمهاترة السخيفة: وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ، أتدري ـ أيها المؤمن ـ ما معنى "الغَوا في القرآن" التي يتواصى بها أساطين الكفر؟! وهي تتكرر لكن بصورَة مناسبة لروح كلّ عصر، أتدري ما ذلك اللغو؟! إنه الصياح والصفير وإنشاد الشعر والأراجيز وترديد أقوال لا معنى لها، المهمّ أن تعلوَ أصواتهم فوق صوت النبي حينما يقرأ القرآن، يا لها من وسيلة عاجزة تنبئ عن حيلة ضعيفة؛ لأنهم يدركون أن القرآن غالبهم، لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
واليوم يريدون إسكات صوت القرآن وحجب نور هدايته بالأغاني والموسيقى والتمزيق والغوغائية بكل أشكالها، إنها صورة مكررة، لكن في كل عصر بحسبه.
معاشر المؤمنين، هذه أساليب الأعداء، وذاك هو موقفهم من القرآن، ومن الصعب أن يتغير؛ لأنهم يدركون أن كلّ شيء يمكن أن يتغير على حسب ما يريدون، لكن القرآن لن يحذف منه حرف، ولن تحرف فيه آية، والله لو قدروا على ذلك لحذفوا بعض آياته، ولحرفوا بعض كلماته، ولكن ذلك ليس لهم ولا للناس أجمعين؛ لأن الحافظ له هو الله سبحانه، لذا لجؤوا إلى هذه الأساليب الوضيعة التي لا تدنّس إلا سمعتهم، ولا تضع إلا من أقدارهم.
معاشر المؤمنين، دعونا نقف قليلاً بعد هذا الإيضاح على بعض دلائل هذه الحادثة المشينة:
أولاً: إنها تقدم دليلاً جديدًا مع أدلة كثيرة على شناعة الوجه الآخر لهذه الحضارة المقنّعة بالحرية والسلام يوم تتصادم مع الآخر.
ثانيًا: إن هذا القرآن سيبقى عزيزًا مكرمًا رغم أنوف الأعداء، أليس هو كلام الله؟! أما قال سبحانه عنه: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41، 42]، ونحن على يقين أن الله سينتقم لكتابه كما انتقم لبيته، وسيحميه كما حمى بيته، والتاريخ شاهد أنه ما مزّق أحد هذا الكتاب إلا مزق الله شمله وملكه، ولا حاول أحد الإساءة إليه إلا رده الله إلى هوّة الذلة والصغار.
فأيقنوا ـ أيها المؤمنون ـ ببوادر النصر والعلو لهذا الدين ولكتابه ولأهله وسقوط أعدائه؛ لأنه ما تعرّض أحد لهذا الكتاب بسوء إلا خذله الله وجعل عاقبته إلى خيبة وسوء.
اطمئنّوا أيها المؤمنون، فلن يستطيع أحد أن ينال من هذا الكتاب؛ لأن القرآن قد انتصر في معركته مع أعدائه على جميع الأصعدة على مدى ألف وأربعمائة سنة، انتصر فيها نصّه فلم يتغيَّر ولم يتبدّل، وبقي النص الذي تلاه رسول الهدى هو النص ذاته الذي نتلوه اليوم، وانتصر بهديه فما زالت القلوب تهفو إليه، وما زال تأثيره يزداد وشأنه يعلو ويصعد، ولا عجب في ذلك؛ لأن الحافظ له هو الله القدير سبحانه، أما قال جلت قدرته: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، هذه سبع كلمات اجتمع فيها ما يقارب عشرة مؤكدات: "إنَّ" و"نا" الدالة على الفاعلين المشعرة بالعظمة والقوة، و"نحن" الدالة ـ زيادةً على ما سبق ـ على التوكيد والحصر أي: نحن لا غيرنا، "نزلنا" وما قال: "أنزلنا"، وصيغة فعَّل أقوى في الدلالة من أفعَل، وفيها أيضًا "نا" الدالة على الفاعلين المشعرة بالعظمة، وفي كلمة "الذكر" ما يشعر بأنه مرفوع من أول يوم، ولا تنس تكرار "إنا" وتقديم "له" ولام التوكيد في "لحافظون"، كل هذه المؤكدات المتتالية التي ربما لا نجد لها مثيلاً تمنح المؤمنين ثقة بنصر الله. هذا هو الحفظ الشامل العام، وهناك حفظ جمعِه وطريقة قراءته، أما قال سبحانه لنبيه عندما كان يحرك لسانه لحظة نزوله مخافة أن تفلت منه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:16-19].
لقد نزل هذا القرآن منجّمًا حسب الحوادث، فمن الذي تولى جمعه؟! إنه الله سبحانه وتعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فلم يتدخّل بشر في ذلك. وهذا نوع مهم من الحفظ لهذا الكتاب العزيز؛ لأنه لولا ذلك لربما سقطت بعض الآيات، أو قدّم بعضها على بعض.
معاشر المؤمنين، في هذه الآية تكفّل المولى سبحاه بجمع هذا القرآن وطريقة قراءته وبيانه وتوضيحه، وتلك هي صور الحفظ الشاملة التي تجعل المسلم اليوم يقرأ هذا الكتاب وهو مطمئنّ أنه قرأه كما كان يقرؤه رسول الله بترتيبه الوارد في المصاحف.
وبعد كل هذه الضمانات من الحفظ فلن يقدر أحد على مغالبة هذا الكتاب، ومن أراد فعل ذلك فقد حكم على نفسه بالسقوط والهوان.
يا أيها الكرام، تأملوا معي هذا المثل: لو أنّ الناس كلهم انقلبوا إلى كناسين للغبار من الأرض ليلوّثوا صفحة السماء النقية أو يلطخوا وجه الشمس الساطع، هل سيكون لهم ذلك؟! كلا؛ لأنهم لن يغبّروا إلا على أنفسهم، ولن يؤذوا إلاّ ذواتهم، وما مثل هؤلاء الحاقدين الصاغرين والقرآن إلا كمثل ذباب لاذ بعقاب ليؤذيه، فقصف العقاب بجناحيه قصفة واحدة فشتت الذباب وجعله شذر مذر وحَيص بيص، وما علم العقاب به شيئًا ولا شعر بوجوده أصلا.
فاطمئن أيها المؤمن بربه، فهم الذين سيزدادون صغارًا على صغارهم وذلاً على ذلهم، وسيزداد القرآن وأهله سموا وعلوا، فالمهم هو عزة المبدأ، لا بهرجة القوة
ثالثًا: إن الخير مغروس في هذه الأمة، فها هي تنتفض من أقصاها إلى أدناها شعوبًا وحكومات مستنكرة هذه الفعلة الشنعاء، وكأنما الناس كانوا نيامًا أو مخدّرين، فلما مُسّ هذا الكتاب العزيز دبّت فيهم الحياة وتحركت الضمائر واشتعلت فتائل القوة الغائرة في النفوس، هذا دليل على أنه مهما حِيك من المؤامرات لإبعاد الناس عن هذا الكتاب فستبوء كل المحاولات بالفشل والخسران.
رابعًا: إن هذه الحادثة تقدم دليلاً جديدا على أن من يسعى لتأجيج العواطف وإشعال فتيل الغضب هم هؤلاء الذين يدّعون رعاية السلام، ماذا كانوا ينتظرون إذا أساؤوا إلى هذا المصحف الشريف؟! أينتظرون أن تصفق لهم جماهير الإسلام ويوزعوا باقات الورود، أم كانوا ينتظرون الصمت والإذعان؟! إن ما حدث دليل أن للصمت حدودًا وللإذعان مراحل، فإذا وصل الأمر إلى أركان الدين في إساءات معلنة فلن لَن يملكَ مشاعر الناس وعواطفهم أحد. كما أن التاريخ يشهد بأن المسلمين لم يدنّسوا يومًا كتابًا سماويًا ولا علميًا، بل يحفظونه، أو يتلفونه بطريقة لا تمسّ مكانته. هذه الحضارة يا أدعياء الحضارة؛ لأنّ منبعها الدين لا قوانين البشر.
اللهم احفظ كتابك من كيد الكائدين وعبث العابثين، اللهم رد كيدهم في نحورهم، واجعله مسمارًا في نعش حضارتهم.
عباد الله، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فلعلّه يدور الآن في الأذهان سؤال مفادُه: ما دورنا؟ ما المطلوب منا حيال هذه الحادثة؟
اعلم ـ أيها المؤمن بربه ـ أنك تختلف عن غيرك، فأنت صاحب هدف رباني، وتسير في هذه الحياة بتشريع رباني، لذا فأنت دائمًا يمكن أن تقدّم الكثير والكثير، ومما هو مطلوب منا جميعًا أيها الكرام ما يأتي:
1- استنكار هذه الحادثة بالقلوب، وبأيّ طريقة منضبطة بشرع الله لا تؤدي لضرر أكبر، فهذا أوان أهل القلم من الشعراء والكتاب والأدباء وأهل الصحافة والرأي ليوضحوا بالدليل شناعة هذا الجرم وعظمة هذا الكتاب.
2- بذل المزيد من الجهود لخدمة كتاب الله، فإذا كان هؤلاء الموتورون يريدون تدنيسه فنحن في المقابل يجب أن نعمل جاهدين على خدمته ورفع شأنه بآرائنا وأموالنا وجهودنا، وندعم حلقات تحفيظ القرآن، ونكرم حفظة القرآن، ونطبع الكتب التي تبيّن عظمة هذا الكتاب بلغات شتى، هذا هو أواننا، وهذا هو كتاب ربنا، فماذا قدمنا له؟!
3- تعظيم هذا الكتاب بيننا.
معاشر الكرام إذا كنا نستنكر هذه الفعلة من كفرة حاقدين فيجب أن نستنكر بدرجة أعظم أفعال بعض المسلمين تجاه كتاب الله العظيم.
يا أيها الفضلاء، ألا يوجد من المسلمين من لا ينزل القرآن منزلته اللائقة به؟! فهو لا يقرؤه، ولا يعمل به، ولا يعيره اهتمامًا، إهمال كامل، فأين التقدير؟! ألا يوجد من شباب الأمة وخصوصًا تلاميذ المدارس من يكتب على المصحف عبارات لا تليق ويمزق أوراقه ويرميها على الأرض، وربما تداس بالأقدام دون مبالاة ولا إحساس؟!
يا أيها الفضلاء، لنجعل هذه الحادثة محاسبة دقيقة لمنزلة القرآن عندنا، لنعد إلى الوراء وننظر في علاقتنا مع هذا الكتاب: ما شأنها؟! أهي على ما يريد الله أم لا؟!
يا عباد الله، صونوا هذا الكتاب واقدروه حق قدره، والله ما تطاول عليه الأعداء إلا لما ضعف قدره عند أهله، فاحذروا أن يكون أحد منا قد تسبب في ذلك.
اللهم اجعلنا خدّامًا لكتابك، عاملين بما فيه، مقيمين لحدوده وحروفه، برحمتك يا أرحم الرحمين.
عباد الله، صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة كما أمركم بذلك الله تعالى...
(1/4221)
فتنة الدعوة لقيادة المرأة للسيارة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الفتن, المرأة, قضايا المجتمع, قضايا فقهية معاصرة
عبد الله بن محمد الطوالة
جدة
19/4/1426
مسجد عبد الوهاب عبد الواسع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الفتن. 2- خطورة فتنة النساء. 3- القواعد التي ينبني عليها منع المرأة من قيادة السيارة. 4- مفاسد قيادة المرأة للسيارة. 5- مقالة نسائية في كشف فتنة قيادة المرأة للسيارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
إن الفتن ـ أيها الأحبة ـ لو نزلت فإنها لا تخصّ صاحبها، بل قد يُخشى عليه وعلى غيره منها، وهل هناك فتنة أشد وأخطر من فتنة النساء؟! وما أدراكم ما فتنة النساء؟! يقول النبي : ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)).
عباد الله، كثر حديث الناس في الصحف والقنوات والمنتديات عن قيادة المرأة السعودية للسيارة، وكما بيّن الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فالحكم على هذه المسألة ينبني على قاعدتين مشهورتين بين علماء المسلمين:
القاعدة الأولى: أن ما أفضى إلى محرم فهو محرم.
والقاعدة الثانية: أن درء المفسدة إذا كانت مكافئة لمصلحة من المصالح أو أعظم مُقَدَّم على جلب المصالح.
ثم يقول في نهاية الفتوى: "واعلم أنني بسطت القول في هذا الجانب لما حصل من المَعْمَعة والضجّة حول قيادة المرأة للسيارة والضغط المكثّف على المجتمع السعودي المحافظ على دينه وأخلاقه؛ ليستتبع قيادة المرأة للسيارة ويستسيغها. وهذا ليس بعجيب إذا وقع من عدو متربّص بهذا البلد الذي هو آخر معقل للإسلام يريد أعداء الإسلام أن يقضوا عليه، ولكن هذا من أعجب العجب إذا وقع من قوم مواطنين ومن أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويستظلون برايتنا، قوم انبهروا بما عليه دول الكفر من تقدم مادي دنيوي، فأُعجبوا بما هم عليه من أخلاق تحرروا بها من قيود الفضيلة إلى قيود الرذيلة، وصاروا كما قال ابن القيم في نونيته:
هربوا من الرِّقِّ الذي خُلِقوا له وبُلُوا برِقِّ النفس والشيطان
وظن هؤلاء أن دول الكفر وصلوا إلى ما وصلوا من تقدم مادي بسبب تحررهم هذا التحرر، وما ذلك إلا لجهلهم أو جهل كثير منهم بأحكام الشريعة وأدلتها الأثرية والنظرية وما تنطوي عليه من حِكم وأسرار تتضمن مصالح الخلق في معاشهم ومعادهم ودفع المفاسد، فنسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق لما فيه الخير والصلاح في الدنيا والآخرة".
والمتأمّل للآثار الناتجة عن قيادة المرأة للسيارة بعدلٍ وتجرّد وواقعية يجد أن مفاسدها أعظم بكثير من مصالحها، ومن مفاسد قيادة المرأة للسيارة الآتي:
إن قيادة المرأة للسيارة تفضي ولا بد إلى كثرة خروج المرأة من البيت لحاجة وبدون حاجة؛ لكون السيارة تحت تصرّفها متى شاءت، وهذه مفسدة كبرى، بل هي أم المفاسد؛ لأن الواجب والأصل في المرأة أن تَقَرّ في بيتها، ولا تخرج إلا لحاجة، قال تعالى مخاطبًا زوجات النبي : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:32]، فإذا كان هذا في حق أزواج النبي ونساء العهد النبوي فكيف بغيرهن من النساء في العصور المتأخرة؟!
وكثرة خروج المرأة يزيد من شعورها بإمكانية الاستقلال عن قوامة الرجل خلافًا للتوجيه الرباني: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، ومن ثَمّ لا يستطيع زوجها أو وليّها أن يضبطها أو أن يقوم على تصرفاتها، ولهذا فإن نسبة الطلاق ستزيد حتمًا لتوفر الأسباب المفضية لذلك، وهذا من أكبر المفاسد، فكيف سيكون الحال بامرأة مطلّقة ومعها سيارة؟! وفي كثرة خروج المرأة من منزلها تعرّض لأعين الناس وألسنتهم، لا سيما المرأة المتزينة، وهو طبع غالب النساء. ومع كثرة الخروج واستمرائه ستضطر للحديث مع الرجال عند المحطات ونقاط التفتيش أو عندما تتعطل سيارتها أو في الورش ومحلات الزينة وقطع الغيار، وفي هذا من الفتنة ما فيه، بها أو لها.
هذا خلاف كثرة الشكوك بين الزوجين، خصوصًا كلما حصل تأخير في الرجوع إلى البيت أو خروجها بدون إذن أو إذا خرجت متزيّنة، وإذا كثرت الشكوك بين الزوجين فلا تسأل عن سوء العلاقة بينهما.
وإذا لم يحدث هذا فسيحدث عكسه، وهو الدِّياثة التي ستنشأ تدريجيًّا عندما يتعود الزوج أو الولي على كثرة خروج موليته وتطبُّعه وتطبّعها على ذلك، والنتيجة الحتمية لذلك موت الغيرة وانعدام الحياء، والحياء أبرز خصائص المؤمنة.
وفي قيادة المرأة للسيارة إذهابٌ للكثير من حيائها؛ لأنها ـ كما ذكرنا ـ ستتعرّض للكثير من المواجهات والمماحكات مع الرجال والشباب بالذات، مما يضطرها للخروج عن صمتها وحيائها كما هو مشاهد فيمن يعملن في وظائف يكثر فيها التعامل مع الرجال كالمستشفيات وغيرها، فالجميع يرى ويسمع منهن ما لا يمكن وصفه وتصنيفه إلا بقلّة الحياء.
وفي خروج المرأة لوحدها ما يعرّضها لشرور ضعاف النفوس والتخطيط للإيقاع بها كُرهًا أو اختيارًا، مستغلّين ضعفها وبُعدها عمن يحميها، وإذا كانت المرأة لا تسلم من التحرّش وهي مع محارمها أو بين الناس في الأماكن العامة والأسواق، فكيف إذا كانت في السيارة والطرقات وحدها؟!
وهنا قد يقول قائل: إن فتاة الغرب لا يتعرّض لها أحد أثناء قيادتها للسيارة! فالجواب: إن الواقع والإحصائيات خلاف ذلك تمامًا، ولو سلّمنا بصحة هذه المعلومة فإن ما يُراد من الفتاة الغربية مُهَيّأ وقريب والوصول لها سهل وميسور؛ فانتفى الداعي للأذية والتخطيط.
ثم إن كثرة الخروج من المنزل يترتب عليه تفريط في حق البيت والأولاد، ومن المعلوم أن العناية بشؤون البيت هي الوظيفة الأساسية للمرأة المسلمة، ونحن نرى الآن ثمرات خروج المرأة للعمل لفترة بسيطة محددة، بينما المرأة التي لزمت بيتها قد كفاها الله ذلك كله. فهل وَعَينا عظمة وحكمة هذا التوجيه الرباني: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:32]؟!
ومن المفاسد أن قيادة المرأة للسيارة لا بد أن يؤول إلى كشف الوجه ونزع الحجاب، ومن ينازع في هذا فهو يسخر منا أو من نفسه، قال تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:168، 169]. بل إن حكومات بعض البلدان التي تسمح للمرأة بالقيادة منعت المنقّبة والمبرقعة من القيادة رسميًا؛ حتى تُسفِر عن وجهها كاملاً أثناء القيادة. وحجج المنع جاهزة وكثيرة، ولو كان هذا الأمر في بداية السماح لرُفِض تمامًا، لكنها الفتن المظلمة يرقّق بعضها بعضًا، كلما جاءت فتنة مهّدت الطريق للفتنة التي تليها. نسأل الله أن يعافينا منها كلها، وأن يصرف عنا كل الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
ومن المفاسد المتوقعة أن نسبة حوادث السير والدهس ستزيد إلى 60 في المائة، فما الحل؟! وأن نسبة الخطف والاغتصاب للفتيات ستزيد إلى 70 في المائة، فما الحل؟! وأن نسبة هروب الفتيات التي بدأت تنتشر هذه الأيام ستزيد إلى 60 في المائة، فما الحل؟! وأن زحمة الشوارع ستزيد إلى 100 في المائة بسبب أنه لا أحد من الجنسين سيستغني عن سيارته، فما الحل؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
_________
الخطبة الثانية
_________
وفي مقال رائع للأخت لبنى الطحلاوي تقول وفقها الله: "بداية أنا لست متشدّدة ولا متطرّفة، لقد تلقّيت كافة مراحل دراستي حتى تخصصي الجامعي في دول منفتحة للغاية عربية وغربية. كثيرًا ما تُطرح تساؤلات حول موضوع قيادة المرأة السعودية للسيارة، ولكي أجيب على هذا الأمر بكل موضوعية لا بد أن أذكر عدة حقائق... ما سأطرحه من تقارير وإحصائيات هي لا تعبر عن رأيي الشخصي، بل هي آخر ما صدر عن هيئات عالمية رسمية، مثل هيئة اليونسكو ومنظمات حقوق المرأة في العالم، وهذا أمر معلن بشكل رسمي، ولم أقم بجهد كبير كي أطلع عليها. ولكي أتحدث أيضًا بموضوعية في هذا الأمر سأفترض حُسن النوايا من قبل من يطرحون هذه القضية، بالرغم أن هذا يخالف قناعاتي الشخصية. إذًا عليَّ أن أقول لمن يطرحون هذه القضية: أنتم إنسانيون للغاية، تحملون كافة أعباء وهموم المرأة على عاتقكم، وكل ما يتعلق بها من قضايا ومسؤوليات، فهي شغلكم الشاغل بالفعل، ولكن هل مشكلات وقضايا المرأة في العالم جميعها حُلّت وأصبحت في أحسن حال، فلم يبق غير مسألة قيادة السيارة؟! وهل قيادة السيارة غاية أم وسيلة في حدّ ذاتها؟! وما هي القيمة العظيمة التي تعطيها رخصة القيادة للمرأة حتى نقول: إن المرأة السعودية حُرِمت منها؟! وهل لديكم أدنى فكرة عن وضع النساء في العالم؟!
إن المرأة في العالم تتعرّض للاعتداءات الجسدية مثل الضرب والاغتصاب، وأكثر دول العالم تحضّرًا تتربّع على أعلى القائمة في ذلك وفق تقارير رسمية، وأكثر البائعات في المحلات العامة والممرّضات والعاملات في كثير من القطاعات في أوروبا وأمريكا من النساء للتوفير في الإنفاق؛ لأن راتبهن أدنى من الرجل، بل يقارب نصف راتب الرجل الذي يمارس نفس المهنة. ومافيا البغاء مُجَنِّدة أكثر من تسعة ملايين امرأة في أمور الدعارة والبغاء، 95 في المائة منهن يعملن مجبَرات ومكرَهات وفق آخر إحصائيات اليونسكو التي صدرت منذ عدة أشهر. هذا الوضع العالمي بشكل مختصر لمن يهتمون بشأن المرأة.
أما وضع المرأة في البلاد العربية وفق آخر التقارير الرسمية ف في إحدى الدول العربية أعلنت في شهر يوليو الماضي أن محاكمها تشهد اثني عشر ألف قضية إثبات نسب وبنوّة نتيجة الزواجات السرية، ودولة عربية أخرى أعلنت أنها تواجه مشكلة تفاقم عدد الأمهات العازبات، والأمر بات يشكل مشكلة في المجتمع؛ نظرًا لما تعانيه هؤلاء النساء وأطفالهن، وما سيؤول إليه الأمر في المستقبل، ودولة عربية ثالثة مهدّدة من اليونسكو بتعريضها لعقوبة اقتصادية؛ لاحتلالها المرتبة الثالثة على مستوى العالم في الدعارة وعدم تراجعها عن هذا المركز.
مآسي تعيشها المرأة في العالم، والمرأة السعودية أبعد ما تكون عنها، فحكومتها وأسرتها تجنّبانها الذل والمهانة، وتكرمانها وتصونانها، فهي الجوهرة المكنونة في مجتمعنا المسلم.
لقد أثار تطبيق قانون الخُلْع في المحاكم المصرية ضَجّة كبيرة اعتبره العالم إنجازًا عظيمًا من أجل حقوق المرأة، مع أن هذا القانون يطبّق في المحاكم الشرعية بالمملكة منذ تأسيسها عام 1351هـ، فالمملكة هي أول من طبّق هذا القانون في محاكمها ومنذ عقود، لكننا لا نجيد التحدث عن أنفسنا ولا عن إنجازاتنا، وإعلامنا ليس إعلامًا دعائيًّا.
وكثيرًا ما تُطرح هذه القضية كسؤال للمسؤولين في بلادي وللمرأة السعودية عند استضافتها على الفضائيات؛ لإحراج المسؤولين ولإحراج السعوديات القانعات بنجاحهن للنيل من ثقتهن في أنفسهن والتشكيك فيما أنجزن. ومن يريد النيل من أي مجتمع ينال من المرأة في هذا المجتمع، فينال من هيبة وكرامة رجاله في المقابل.
تعرف كل امرأة في هذه البلاد والمثقفات بشكل خاص أن المملكة العربية السعودية لها وضعها الخاص، وتتمتع بمكانة خاصة في العالم الإسلامي، منذ أن حباها الله بالحرمين الشريفين، وجعلها مهبط الوحي والرسالة المحمدية، وخرج منها نبي هذه الأمة الإسلامية، وأن دستورها هو الإسلام، وتعاليمها وأخلاقها تُستمَد من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ومكانتها ووضعها يفرض عليها أمورًا معينة.
والمرأة السعودية تدرك جيدًا أنها غالية ومعززة ومكرمة لدى حكومتها ولدى أسرتها، فمعاملاتها تسير في الجهات الرسمية أوّلاً لأنها امرأة، وتقف في مقدمة الطابور لأنها امرأة، وتتعامل معها الدولة وكافة الجهات الرسمية بكثير من الاحترام والتقدير والمراعاة لكونها امرأة، فتمثّل قيمة لدى حكومتها ولدى أسرتها، فهي محاطة بهالة من القدسية والعفّة والاحترام، ولذلك المرأة السعودية أكثر نساء العالم غلاء في مهورهن، مما شكل مشكلة وعقبة رئيسية أمام الشباب الراغب في الزواج، وأوجد مشكلة العنوسة... والمرأة والرجل متساويان في الراتب، إن كانت طبيبة أو مدرسة أو موظفة في أي هيئة أو قطاع في الدولة ولها نفس الحقوق.
نشرت الكاتبة الإنجليزية آني رورد في الصحافة البريطانية بعد أن زارت المملكة وملأها الانبهار وهي ترى مجتمعنا تملؤه القيم والمثل العليا، والمرأة معزّزة مكرّمة ومرفّهة، تتمتّع بمكانة لها الكثير من القدسية، وتنعم بحياة هادئة تجنبها الأخطار والاستغلال: "ليتنا كالمسلمات محتشمات مصونات، ننعم بأزواجنا وأولادنا كما ينعمن".
بإمكان المرأة السعودية أن تقلد أي امرأة في العالم وتتفوق عليها، لكن لا تستطيع أي امرأة في العالم أن تكون امرأة سعودية.
رأينا كيف يعامل الرجال المرأة عند قيادتها للسيارة في أشهر العواصم العربية للسياحة، فيتقوون عليها، ويهينونها إذا لم تُفسِح لهم الطريق، والبعض يتعدّى ويتطاول بالشتائم عليها، والبعض يبصق عليها من النافذة، فإلى أي حدّ من المهانة تتعرّض له المرأة في تلك الدول؟! فهل قيادة السيارة حققت لها الحماية والمكانة المرموقة؟!
إن قيادة السيارة وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، ولا يجب أن تُعطى حجمًا أكبر من حجمها، ولا بد أن تخضع لضوابط تناسب كل مجتمع، ولا بد من الاعتراف بأن هناك مجتمعات غير مُهيّأة على الإطلاق لبعض الأمور؛ نظرًا للتركيبة الأيديولوجية للمجتمع، فتكون أبعد ما يكون عن تقبل بعض الأمور، فعوضًا عن أن يتميز مجتمع ما بالأمن والأمان وبأنه أقل المجتمعات تسجيلاً لحوادث الخطف والاغتصاب ربما اختلف الأمر تمامًا.
وتبقى عدة أسئلة تطرح نفسها لمن يثيرون قضية القيادة للمرأة السعودية من حين إلى آخر: هل النساء في بلادكم قدوة لنا؟! هل هُنّ أحسن حالاً؟! هل هُنّ آمنات ومصونات عن الرذائل والأخطار ومحميات عن الاستغلال؟! لقد حوّلتم المرأة إلى سِلعة يُرَوّج لها، فأي المعايير وأي المقاييس تتبعون في الحكم على ذلك: معايير الفيديو كليب والإعلانات، أم مقاييس "مايوهات" مسابقات ملكات الجمال على الفضائيات أمام العالم؟! لا يمكن النيل من المرأة السعودية، ولا إنزالها من القمة التي تعتليها بين نساء العالم" انتهى كلامها وفّقها الله، ولا أزيد إلا الدعاء.
(1/4222)
سبل الشيطان في إغواء الإنسان
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجن والشياطين, الفتن
غازي بن سالم بن صالح
دبي
سالم بن بخيت البخيت
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإضلال في العلم والعمل. 2- الأماني الكاذبة مع الإضلال. 3- تحريض الإنسان على تحريم الحلال وتحليل الحرام بأدنى الحيل. 4- تغيير خلق الله وصور من ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا لَّعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [النساء:117-120].
أيها المؤمنون، ذكر الله تعالى في هذه الآيات سبل الشيطان في إغواء بني آدم، فإنه أقسم بربه ليغوينهم أجمعين إلا من كان منهم من المخلصين، كما قال تعالى: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:39-42]. وسبل الشيطان في إغواء الإنسان المذكورة في هذه الآيات أربع هي:
الإضلال عن الصراط المستقيم؛ ضلالا في العلم، وضلالا في العمل، فضلال العلم أن يعلم الحق فلا يعمل به، أو يعلم علما باطلا وينسبه إلى الله ورسوله ، كما هو حال علماء السوء، وضلال العمل العمل بغير علم، والعمل بما لم يأذن الله به ولا رسوله والإحداث في الدين، وهذه هي طريق المغضوب عليهم والضالين من اليهود والنصارى الذين أمرنا الله تعالى أن نسأله مجانبة طريقهم في كل صلاة بقولنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6، 7].
الأماني الكاذبة مع الإضلال، يمنيهم أن ينالوا ما ناله المهتدون، وهذا هو الغرور بعينه، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال، وهذا زيادة شر إلى شرهم، حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة، وحسبوا أنها موجبة للجنة.
واعتبِر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم، فإنهم على كفرهم وضلالهم يقولون: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى [البقرة:111]، فرد الله عليهم فقال: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111].
فيا أيها المؤمن، هذه أمنية الكفار أهل النار من المغضوب عليهم والضالين، فما هي أمنيتك وغايتك؟! وا أسفا أن تكون غاية بعض المسلمين الدنيا وشغفه بها أعظم من شغفه بالآخرة. لو قيل لك: تموت فماذا تكون أمنيتك؟! روى الحاكم في المستدرك عن عمر أنه قال لأصحابه: تمنوا، فقال بعضهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة ذهبا أنفقه في سبيل الله وأتصدق، وقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة زبرجدا وجوهرا فأنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قال عمر: تمنوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أنها مملوءة رجالا مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم.
فاحذر ـ أيها المسلم ـ أماني الشيطان. إن أحدنا ليعمل الذنب فلا يزال به الشيطان يحسنه له ويهونه عليه حتى يرى نفسه لم يعمل شيئا، ويستحوذ الشيطان على أناس ويزين لهم الباطل حتى يرى أحدهم نفسه أن قد عمل صالحا يثاب عليه، وهذا غاية الخسران عياذا بالله، قال الله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وقال تعالى: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
ومن أماني الشيطان الكاذبة أن يزين للعاصي ترك التوبة والتسويف فيها، فلا يزال يقول: أتوب غدا أو بعد غد حتى يفجأه الموت ويختم له بالسوء، وقال تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18]. فاحذر ـ أيها العاصي ـ من التسويف وتأخير التوبة من الذنوب والمعاصي، فإن أحدنا لا يدري متى يأتيه الأجل، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما السبيل الثالث من سبل الشيطان فهو تحريضه الإنسان على تحريم الحلال وتحليل الحرام بأدنى الحيل، كما زين للمشركين قطع آذان الأنعام وتسميتها بالبحيرة والسائبة ونحوها من الأسماء، حتى حرموا على أنفسهم أكل لحمها وشرب لبنها وركوبها بغير حجة من الله تعالى.
واليوم كم من الناس من يعمل المعاصي ويدعي حلها، وتجده في جانب آخر يتورع عن أمور فلا يأتيها يرى أنها من المنهيات، وليس على ذلك أثارة من علم. كم من الناس اليوم من يسمي الربا فائدة والخمر بالمشروب الروحي والزنا حرية شخصية والاختلاط بين الرجال والنساء حضارة ومخالطة النساء نزاهة وصفاء قلب.
روى الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح وهو بمكة: ((إن اللَّه ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام)) ، فقيل: يا رسول اللَّه، أرأيت شحوم الميتة؟! فإنها يُطْلَى بها السفن، ويُدْهَنُ بها الجلود، وَيَسْتَصْبِحُ بها الناس، فقال: ((لا، هو حرام)). ثم قال رسول اللَّه عند ذلك: ((قاتل اللَّه اليهود؛ إن اللَّه لما حرم شحومها جَمَلُوهُ ثم باعوه فأكلوا ثمنه)). فالحيل على شرع الله من صفات اليهود لعنهم الله. فاحذر ـ أيها المسلم ـ مشابهتهم.
وأما السبيل الرابع من سبل الشيطان فهو تغيير خلق الله. قال العلامة السعدي رحمه الله: "وهذا يتناول الخلقة الظاهرة بالوشم والوشر ـ وهو تحديد الأَسنان وترقيق أَطرافها، تفعله المرأَة الكبيرة تتشبه بالشواب ـ والنمص والتفليج للحسن، أي: النساء اللاتي يَفْعَلْنَ ذلك بأَسنانهن رغبة في التحسين ونحو ذلك، مما أغواهم به الشيطان، فغيروا خلقة الرحمن، وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته واعتقاد أن ما يصنعونه بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره.
ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة؛ فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان، فإن كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته.
فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة، ولولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين، فخسروا الدنيا والآخرة، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة. وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه، ولهذا قال: وَمَنْ يَتَّخِذْ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء:119]".
أيها الناس، إن الشيطان ليكيد بالإنسان ليهلكه، فاعتصموا بالله واستعيذوا به يعذكم، ولا يظنن أحدنا أنه في سلامة من كيد الشطان، فإن رسول الله لم يكد يسلم من كيدهم لولا حفظ الله له سبحانه، وقد روى الإمام أحمد في المسند عن أبي التياح قال: قلت لعبد الرحمن بن خنبشٍ التميمي وكان كبيرا: أدركت رسول الله ؟ قال: نعم، قال: قلت: كيف صنع رسول الله ليلة كادته الشياطين؟ فقال: إن الشياطين تحدرت تلك الليلة على رسول الله من الأودية والشعاب، وفيهم شيطانٌ بيده شعلة نارٍ يريد أن يحرق بها وجه رسول الله ، فهبط إليه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد، قل ما أقول، قال: قل: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارقٍ إلا طارقا يطرق بخيرٍ يا رحمن، قال: فطفئت نارهم وهزمهم الله تبارك وتعالى.
فاللهم أعذنا من شر الأشرار وكيد الشيطان وطوارق الليل والنهار إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن.
(1/4223)
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عادل بن سالم الكلباني
الرياض
جامع الملك خالد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بداية أحداث اليوم الآخر. 2- وقفات مع موقف العرض على الله. 3- من صور الحساب يوم القيامة. 4- المفضوحون يوم العرض. 5- الآمنون في ظل العرش يوم القيامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله تجلب الرزق والفرج ومحبة الله تعالى ومعيته وجنته، وتقوى الله تيسّر الأمور وتكفر السيئات وتعظم الأجور وتورث الأمان يوم النشور.
أيها المسلمون، إن من المستقر في العقول السليمة أنه لا بد لهذا العالم من صانع دلت آيات إحكامه لصنعته، وما غمر العالم به من شآبيب رحمته، وما أظهر فيه من عجائب قدرته، وأن وراء الخلق غاية، وأن لهذا العالم نهاية، وأن الموت قد آذن برحيل الدنيا، وأثبت أن الآخرة هي دار القرار، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، يقول الحق تبارك وتعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [الكهف:47، 48].
فقف أيها المسلم، أيها العاقل، قف وتأمل حالك وأنت معروض على الحق جل وعلا، موقوف بين يديه، لا تخفى منك خافية، إنه والله لأشد مواقف القيامة هولاً، وأعظمها فزعًا، تهون عنده زلزلةُ الأرض وتشقُّقُ السماءِ وتدَكدُكُ الجبال وانكدار النجوم، إنه لمشهد رهيب وموقف عصيب، حضور المرء بين يدي الجبار سبحانه للحساب، يسأله عن عمره وشبابه وماله، هان عندها سؤال الملكين وضغطة القبر وطول الموقف يوم الحساب.
عباد الله، تبدأ أهوال يوم القيامة مع النفخ في الصور وتَبَعْثُر القبور وقيام الناس لرب العالمين، ويعقب ذلك من طول القيام ودنو الشمس من الرؤوس، ثم يلي ذلك شفاعة الحبيب في القضاء بين العباد، ويتحقق قوله تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر:92، 93]، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر:22]، لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38]، وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:17، 18].
أيها المسلمون، هذه الآية تصوّر لنا صورة مفزعة لكل منا وهو معروض بين يدي الخالق أمام أعين الخلائق، معروض أمامهم، مكشوف لهم، عار الجسد، مَبْلِيّ السريرة، مفضوح الضمير، قد تساقطت عنه الحجب والأستار، وظهر للخليقة كلهم ما كان يخفيه من خبايا وأسرار، برز منه كل غائب، واستنطق الشهود فكل عضو منه مستنطق وعائب. يا لها من فضيحة! كم حاول المسكين أن يسترها حتى عن نفسه، فكم خادعها، وكم منّاها، وكم سَوّل لها وأعطاها، كم غفل عنها فما زكّاها، وكم أملى لها فدسّاها، نسي أو تناسى أنه على رجعه لقادر، فها هو اليوم أمام الجبار مُكَبّلاً بذنوبه، قد افتضح منه ما كان يستره، واحتاج في وقفته تلك لعمل قد كان يحقره، وما أقساها، ما أقساها من فضيحة أمام أعين الملأ، وما أخزاها أمام أعين الحسّاد والشامتين وعلى مرأى الأعداء والناقمين.
إنه لموقف عصيب أن يقف الإنسان ذلك المخلوق الضعيف عاريًا جسده، عاريًا شعوره، عاريًا تأريخه، مكشوفًا عمله، ظهر منه ما استتر، ولم يبق منه شيء إلا ظهر، أمام الحشود الهائلة من خلق الله جنِّهم وإنسهم، بل أمام الملائكة المقربين، بل وأجلّ من ذلك وأعظم مفتَضَح أمام رب العالمين.
كيف تراك ـ يا أخي الحبيب ـ وأنت في ذلك الموقف بلا ساتر يسترك، وبلا ناصر ينصرك، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ [الطارق:9، 10].
فيا ترى، من أي الفريقين أنت: فريق الجنة أم فريق السعير؟! وفي أي الجانبين أنت: جانب الأبرار أم جانب الفجار؟! فاليوم يسعد المؤمن ويشقى الكافر. ما هو الشعور إذا جثت الأمم ونطقت الكتب؟! هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29].
إخوة الدين والعقيدة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((نحن آخر الأمم وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون)) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله : ((نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، يقضى لهم قبل الخلائق)).
وهذه صورة من صور الحساب يوم القيامة بين يدي رب العالمين، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجل استُشهِد فأُتِي به، فعرّفه نعمه فعرفها، قال: ما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استُشهِدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: فلان جريء، فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل تعلّم العلم وعلّمَه وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلّمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أًُمِر به فسُحِب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسّع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأُتِي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن يُنفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أُمِر به حتى سُحِب على وجهه حتى ألقي في النار)) رواه مسلم.
وصورة أخرى من صور الحساب يوم القيامة من حديث ابن مسعود عن النبي قال: ((يجيء الرجل آخذًا بيد الرجل فيقول: يا رب، هذا قتلني، فيقول: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لك، فيقول: فإنها لي. ويجيء الرجل آخذًا بيد الرجل فيقول: أي رب، إن هذا قتلني، فيقول الله: لم قتلته؟ فيقول: لتكون العزة لفلان، فيبوء بإثمه)) أخرجه الترمذي. ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده وأوداجه تَشْخُب دمًا، فيقول: يا رب، سل هذا: فيم قتلني؟! حتى يدنيه من العرش)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وصح عنه قوله: ((أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) رواه البخاري. قال ابن حجر: "وفي الحديث عِظَم أمر الدم، فإن البداءة إنما تكون بالأهم، والذنب يعظم بحسب عظم المفسدة وتفويت المصلحة، وإعدام البُنية الإنسانية غاية في ذلك" اهـ.
ولا تعارض بين هذا وبين قوله : ((إن أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة صلاته)) أخرجه أصحاب السنن، فحديث البخاري في حقوق الخلق، وهذا الحديث في عبادة الخالق. يبين ذلك حديث ابن مسعود عند النسائي: ((أول ما يُحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يُقضى بين الناس في الدماء)).
أيها المسلم، ستُسأل في ذلك الموقف عن الصلاة، فإن صلحت فقد أفلحت ونجحت، وإن فسدت خِبت وخسرت، فانظر موقع الصلاة من قلبك، فهل أتممتها أم نقصتها؟! وهل لك من تطوّع؟! فإن التطوع يتمم ما نقص من فريضتك، ثم تؤخذ بقية أعمالك على ذلك. وستُسأل عن الزكاة، فإن كنت بخلت بها فاقرأ قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]، ولا يغب عن ذهنك قوله عز وجل: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، ومن حديث علي عند الطبراني قال: قال رسول الله : ((إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولم يجهد الفقراء إذا جاعوا وعروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابا شديدا ويعذبهم عذابًا أليمًا)).
معاشر المسلمين، إن ممن يفتضح يوم العرض الأكبر على الله آكل الربا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، ومدمن الخمر وعاق والديه والدّيّوث والمنّان والمُسْتَرْجِلَة من النساء، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة قد حرّم الله عليهم الجنة: مدمن الخمر والعاق والديّوث)) ، وفي حديث آخر: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن الخمر والمنّان بما أعطى)) أخرجهما الإمام أحمد، وعند الطبراني من حديث عمار : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدًا: الديّوث والرَّجِلَة من النساء ومدمن الخمر)).
وممن يفتضح يوم العرض الأكبر على الله المتكبرون، قال عليه الصلاة والسلام: ((يحشر المتكبرون أمثال الذرّ يوم القيامة في صورة الرجال، يغشاهم الذلّ من كل مكان)) رواه الترمذي. ومن المتكبّرين من جَرّ إزاره، قال : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: المسبل إزاره، والمنّان الذي لا يعطي شيئًا إلا مِنَّة، والمنفق سلعته بالحَلِف الكاذب)) ، يقول الحق تبارك وتعالى: أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر:60].
وممن يفتضح يوم العرض الأكبر على الله الغادرون، فـ ((لكل غادر لواء عند استه يوم القيامة)) رواه مسلم من حديث أبي سعيد ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء، فقيل: هذه غدرة فلان بن فلان)).
وممن يفتضح يوم العرض الأكبر على الله أصحاب الغلول: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161]، ومعناه أن كل من غَلّ يأتي يوم القيامة حاملاً ما غَلّه على ظهره أو رقبته، معذّبًا بما حمله مما يزيد في فضيحته، ويزيد من هوانه على رؤوس الأشهاد. فليحذر الحكّام والعمّال والموظفون ومندوبو المشتريات ورؤساء المشاريع والمديرون والمنتدبون ومن ولي أمرًا من أموال العامة فهي بين أيديهم، فإن رجلاً دخل النار وقد كان يجاهد مع رسول الله في شَمْلة غَلّها.
وممن يفتضح يوم العرض الأكبر على الله آكل مال اليتيم ومغتصب أرض الغير، قال جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، وقال : ((من أخذ شِبْرًا من الأرض بغير حقه خُسِف به يوم القيامة من سبع أرضين)) رواه البخاري.
وممن يفتضح يوم العرض الأكبر على الله العلماء يكتمون علمهم، ((من سُئِل علمًا فكتمه أُلْجِم يوم القيامة بلجام من نار)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، والحكام يحتجبون عن رعاياهم قال : ((من ولي من أمور المسلمين شيئًا فاحتجب دون خُلّتهم وحاجتهم وفقرهم وفاقتهم احتجب الله عنه يوم القيامة دون خُلّته وحاجته وفقره وفاقته)) رواه أبو داود والحاكم بإسناد صحيح.
وممن يفتضح يوم العرض الأكبر على الله أناس يكذبون في أيمانهم وفي رؤاهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعته لقد أعطي فيها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول الله يوم القيامة: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك)) رواه البخاري من حديث أبي هريرة ، وفيه أيضًا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((من تحلّم بحلم لم يره كُلِّف أن يعقد بين شَعِيرتين ولم يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون أو يفرّون منه صُبّ في أذنيه الآنِك يوم القيامة)).
وممن يفتضح يوم العرض الأكبر على الله السحرة والمشعوذون، فالساحر ما له في الآخرة من خلاق، والسحر أحد السبع الموبقات، والقاذفون للمحصنات الغافلات المؤمنات: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:23-25].
عباد الله، ممن يفتضح يوم العرض الأكبر على الله الذي يسأل الناس وعنده من الرزق ما يكفيه، فيسأل تكَثّرًا، قال عليه الصلاة والسلام: ((من يسأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خُدُوشًا أو خموشًا أو كدومًا في وجهه)) ، قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: ((خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب)) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وصححه الألباني.
فاتقوا الله عباد الله، وتأهّبوا للعرض الأكبر على الله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
جعلني الله وإياكم ممن قال فيهم: الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولعموم المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا كما أمر، وأشكره وقد تأذّن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرضاءً له وإرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الشافع المشفع يوم المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فأوصيكم بتقوى الله، فمن اتقى الله وقاه، ومن توكل عليه كفاه، ومن سأله أعطاه، ومن اكتفى به أعزه وأغناه ونصره وآواه. واعلموا أن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
ثم اعلموا أن ملك الموت قد تخطّاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حِذْركم، وقدّموا عذركم، وتأهّبوا للعرض الأكبر على الله، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18].
أيها المسلمون، في ذلك اليوم العصيب يأمن أناس فلا يخافون، ويهنأ أناس فلا يحزنون، منهم سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: أناس تحابوا في جلال الله، وأناس مشوا إلى الصلاة في دياجير الظلمات يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا، وأناس كانوا إذا ذُكِر الله وَجِلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا، وعلى ربهم يتوكلون، ومنهم الصابرون على ما أصابهم المقيمون للصلاة ومما رزقناهم ينفقون، ومنهم من كانوا يسبحون الله بالغدو والآصال لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:37]، كانوا: يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:8-10].
ومن الآمنين يوم العرض الأكبر على الله أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارقَ، ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها.
ومن الآمنين يوم العرض الأكبر على الله أهل الصدقات وأهل الصبر والقنوت والشهداء الصابرون والصادقون والقانتون والمنفقون والمستغفرون بالأسحار،: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [آل عمران:169، 170].
ومن الآمنين يوم العرض الأكبر على الله العلماء، قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
ومن الآمنين يوم العرض الأكبر على الله من أنظر معسرًا، قال جل وعلا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، وقال : ((من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) رواه أحمد، وعند مسلم: ((من نفّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة)).
ومن الآمنين يوم العرض الأكبر على الله المصلحون بين الناس، قال تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذات البين)).
وإن من أحق الناس بالأمن يوم العرض الأكبر على الله من أكثر من الصلاة على النبي ، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من صلّى عليّ حين يصبح عشرًا وحين يمسي عشرًا أدركته شفاعتي يوم القيامة)) رواه الطبراني، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)) ، وقال : ((من صلّى عليّ واحدة صلّى الله عليه عشر صلوات وحطّ عنه عشر خطيئات ورفع له عشر درجات)) رواه النسائي والحاكم وأحمد دون: ((رفع له عشر درجات)) ، وعند الترمذي من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)).
هذا وقد قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم آمّنا في دورنا...
(1/4224)
نعمتا الصحة والفراغ
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, الأبناء, التربية والتزكية
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
3/5/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بعِظَم نعمتي الصحة والفراغ. 2- حث الشارع على اغتنام الصحة والفراغ. 3- أحوال الناس في الإجازة الصيفية. 4- مسؤولية أولياء الأمور عن الأبناء تتأكد في الإجازات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله الذي وَسِع كل شيء رحمةً وعلمًا، واشكروه على ما أسبغ عليكم من نعمه الظاهرة والباطنة، واذكروا أنه قد وعد الشاكرَ بالمزيد، وتوعّد الكافر بالعذاب الشديد.
أيها المسلمون، إنه إذا كان تتابعُ النعم، وترادُف المِنَنِ، وتعاقُب الآلاء، فَيْضًا من الربّ الكريم لا يَغِيض، وغَيْثًا مِدْرَارًا لا ينقطع، كما قال عز من قائل: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]. فإن من هذا الفَيْضِ نعمتين يُغْبَنُ فيهما كثير من الناس، جاء ذكرهما في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله أنه قال: ((نعمتان مَغْبُونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) [1]. فكم ممن مَتّعه الله بسمعه وبصره وقوته، وحفظ عليه نُضْرَة الشباب ورَوْنَقَه وبهاءه، مَغْبُونٌ في صحته حين لا يستعملها فيما يبلّغه رضوان ربه الأعلى ونزول دار كرامته، وحين لا يستثمرها في كل ما يسعد به في دنياه وآخرته، وحين ينسى أن آفة النعم الزوال؟ فكم من صحيح لا يشكو من عِلّة في نفسه أو جسمه نزل به السَّقَامُ، ووَهَنْتُه الأمراضُ، وأقضّت مضجعَه العِللُ فسعت به إلى شيخوخة مبكّرة، وعِلّة مُسْتَحْكِمة، أو داءٍ حائل بينه وبين ما يشتهي من متع الحياة الأثيرة لديه، المُذَلّلة المبذولة بين يديه، فإن كان ممن أبلى شبابه، وأفنى عمره، واستنفد قوته فيما يحرم من الشهوات والنزوات، وما يُحَقَّر من الأعمال وما يُستقبَح من الغايات، ولم يبتغ إلى ربه الوسيلة بما يرضيه، ولم يدّخر عنده سبحانه من الرصيد ما يسعد به حين يلقاه؛ غُبِنَ هنالك غَبْنًا أورثه حسرة، وأعقبه ندامة لا نظيرَ لها؛ لتفويته الفرصة، وإضاعته المَغْنَم، وتَبْدِيده الأرباح.
والفراغ أيضًا نعمة أنعم الله به على عباده، وهو خلو الوقت من الشواغل وفراغ القلب من كل ما يَتَنَغّصُ به العيش، وتتكدّر به الحياة، فإذا امتنّ الله على عبده بذلك فلم يقطع وقته وسُوَيْعات عمره مؤدّيًا شكر هذه النعمة بإنفاقها فيما يَصْلُح به شأنه، ويعلو به قدره، ويكثر به خيره، ويسعد به مجتمعه، وتقوى به أمته، بل كان ممن يصرف وقته، ويقطع زمانه لهوًا ولعبًا وعبثًا ومجونًا وإسفافًا وتعلّقًا بالأدنى ورضًا بالخَسِيس، وركونًا إلى القبيح من القول والعمل، فأضاع الوقت الثمين والزمان الشريف سُدَى، غُبِنَ هنالك غَبْنًا فاحشًا لا مجال لرفعه والخلاصِ من آثاره.
ولذا جاء التوجيه النبوي الكريم باغتنام فُرَصِ العمر التي هيّأها الله، ومَنَّ بها على عباده، وتوجيهها الوجهة التي أرادها الله لها، وذلك في الحديث الذي أخرجه الحاكم في مستدركه والبيهقي في شعب الإيمان بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله أنه قال: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سَقَمِك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هَرَمِك، وغناك قبل فقرك)) [2].
ألا وإن من أجمل سُبُل اغتنام نعمة الفراغ وأعظمها نجاحًا وتوفيقًا ما اعتاد سلوكَه أولو الألباب في هذه الإجازات التي تعقب انقضاء عام من الدراسة والتحصيل العلمي في مختلف ضروبه، وما صحب ذلك من جَهْد، وما أدرك النفوس فيه من عناء الكَدّ والطّلَب، فليست الإجازة في حسبانهم ليلاً ساهرًا يُقْضَى كلّه أو جُلّه في مجلس لغو وقيلٍ وقال، وبثٍّ للشائعات، وترويجٍ للأكاذيب والمفتريات التي تُشْحن بها النفوس، وتُمْلأ بها الخواطر، وتَسُوغ بها الظنون، وتبعث على كل الشرور، وتُفْضِي إلى كل محظور، أو في جولات عابثة بالأسواق لإضاعة الأوقات وتضييق الطرقات، وإيذاء المؤمنين والمؤمنات، أو في تتبع ما تبثّه كثير من الفضائيات وأمثالها مما لا يرضي الله ولا ينفع عباده، ولا يعين على حق، ولا يحجز عن باطل، ولا يحفظ خُلُقًا، ولا يهذّب سلوكًا. وليست الإجازات أيضًا نومًا طويلاً يستغرق أكثر ساعات النهار، وتَفُوت به الواجبات من الجُمَعِ والجماعات، وتُعَطّل به المصالح والأعمال، وتَكْسُد به سوق الجدّ والنشاط، وتَرُوج به سوق العجز والكسل؛ لكن الإجازة عندهم فرصة عظيمة للاستزادة من كل نافع تزكو وتكمل به العقول والنفوس والأبدان، وللتشمير عن ساعد الجد في استباق الخيرات، والتنافس في الباقيات الصالحات، والتمتع بالمباحات الطيبات؛ لأنهم يستشعرون عظم المسؤولية عند وقوفهم بين يدي مُسْدِي هذه النعم يوم القيامة، تلك المسؤولية التي أخبر عنها رسول الله في الحديث الذي أخرجه الترمذي في جامعه بإسناد حسن عن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيم علم)) [3]. ولأنهم يستشعرون أيضًا عظم المسؤولية المنوطة بالأولياء من الآباء والأمهات والمربّين والمربّيات وأمثالهم في حفظ أوقات شبابنا وتوجيهها الوجهة التي يبلغون بها أجمل الغايات وأسمى المنازل، وتجعل منهم خير شباب لخير أمة أخرجت للناس، ولأنهم قبل ذلك وبعده يستيقنون أن طريق الشكر الذي يسلكونه موعودٌ صاحبُهُ بالمزيد، كما قال عَزّ اسمُه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 306)، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب [3355]، وأخرجه ابن المبارك في الزهد، ومن طريقه البغوي في شرح السنة [4022] عن عمرو بن ميمون مرسلاً، وصحح سنده الحافظ في الفتح (11/234).
[3] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2416) وقال : "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعّف في الحديث من قبل حفظه، وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد"، وله شاهد أيضاً من حديث معاذ رضي الله عنه، وانظر تمام تخريجه في السلسلة الصحيحة للألباني (946).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلّم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، إن عِظَم المسؤولية عن الأبناء والبنات أمر لا يصح الغفلة عنه أو التفريط فيه في كل حين، وإنّ على من يسمع قول نبي الله صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، فكلكم راع ومسؤول عن رعيته)) [1]. إن على من يسمع هذا البيان النبوي الكريم أن لا يُغْمِض الأجفان عن هذه المسؤولية المترتبة عليه في حق من استرعاه الله أمره من أولاده، فليست الإجازة سببًا يُسَوِّغ التفريط أو غضّ الطرف عن ما لا يجوز من أعمال وما لا يصح من سلوك بحجة الترفيه والتسلية وإرسال النفس على سَجِيّتها تفعل ما تشاء، وتذر ما تشاء، وإنما هي سبب يُقَوِّي جانب الرعاية، ويؤكد واجب العناية، ويتضح به شدة الحاجة إلى دوام التعهد واستمرار الرقابة الحكيمة الواعية الناشئة عن كثرة المخالطة واتصال السؤال ومتابعة الأحوال؛ لتنوّع الأخطار وجِدّية التهديد، مع سهولة التعرّض لها ويُسْر الاصطلاء بنارها.
فاتقوا الله عباد الله، وليكن لكم في الموفّقين من عباد الله خيرُ قدوة في السير على نهجهم شكرًا لله على النعم التي أنعم الله بها عليكم، ودفعًا للنقم عنكم، وقيامًا بالمسؤولية التي وُسِّدَت إليكم.
واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829).
(1/4225)
قاعدةُ سَدِّ الذَّرائع
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
3/5/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من قواعد الشرع العظيمة اعتبار مآلات الأعمال. 2- الأدلة على قاعدة سد الذرائع. 3- كل أمر يُفضي إلى إفساد المرأة ممنوع شرعًا. 4- خطورة التحايل على أحكام الشريعة. 5- تحذير العامة من الخوض في أحكام الشريعة بجهل. 6- العلماء هم المرجع في النوازل. 7- ترك المشتبهات طريق المتقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الذي لا يخفى عليه شيءٌ من المقاصد والنوايا، ولا يَسْتَتِرُ دونه شيءٌ من الضمائر والخفايا. السرائر لديه بادية، والسرُّ عنده علانية، وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4].
أيها المسلمون، للدين قواعد بقدر الإحاطة بها تتحقق السلامة من المزالق، وعلى قدر الأخذ بها تنجو الأمة من المضائق، ومن قواعد الشرع المعتبرة، وأصوله المقرّرة، وأسسه المحرّرة: اعتبارُ مآلات الأفعال، ونتائج الأعمال. وبالنظر إلى ما يؤول إليه الفعل يُعلم حكمه، ويسهل وصفه، وقد يكون العمل في الأصل مباحًا، لكن يُنْهَى عنه لما يؤول إليه من المفسدة. وكلُ مشروع مآله غير مشروع فهو في الشرع ممنوع، وكل جائز يُفْضِي إلى غير جائز فهو في الشرع غير جائزٍ، ومتى كانت الوسيلة موضوعةً للمباح قُصِدَ بها التوسل إلى المفسدة، أو كانت موضوعةً للمباح لم يُقصد بها التوسلُ إلى المفسدة، لكنّها مُفْضِيةٌ إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها؛ فإن الشرع يمنع منها، وينهى عنها.
وكلُّ من أقدم على الفُتْيا، وتوثّب عليها، ومَدّ باع التكلّف إليها، وليس له معرفةٌ ودراية بهذا الأصل الأصيل والأساس الجليل؛ جاء بالعظائم والمصائب، وأفتى بالشذوذ والغرائب، وهكذا دَيْدَنُ كُلِّ من تسلّق مقام الفُتْيا بلا تأصيل ولا تحصيل.
ومن استَقْرَأَ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدًا على اعتبار هذا المعنى، ومرتّبًا عليه أحكامًا عظمى، والغاية الكبرى سَدُّ كل ما يحمل على خَرْم قواعد الشريعة وأحكامها، ويُفضِي إلى فتح باب الشر والفساد والانحلال، ولو كان في أصله جائرًا. ومن ردّ هذا المعنى لزمه أن يردّ كل القيود التنظيمية واللوازمِ المصلحية التي تضبط حياة الناس الدنيوية، والتي لولاها لصارت الحياة فوضى بلا حدود، وشقاءً غير مردود، مع أن تلك القيود واللوازم قائمة على تقييد ما هو مباحٌ أصلاً، ومنع ما هو جائز شرعًا.
أيها المسلمون، إن الشريعة مَبْنِية على الأخذ بالحزم، والتحَرُّز مما عسى أن يكون طريقًا إلى الفتنة والاختلال وفساد الأحوال، قال جلّ في علاه: وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]. فنهى عن سبّ آلهة المشركين ـ وإن كان جائزًا ـ لكونه ذريعة لمقابلة المشركين ذلك بسبّ الإله الحق رب العالمين، وفيه دليلٌ على أن الجائز يُمْنَعُ منه إذا أدّى فعله إلى ضرر في الدين.
وبال أعرابيٌ في طائفةِ المسجد فثار عليه الناسُ، فقال رسول الهدى : ((لا تُزْرِمُوه، دعوه)) ، فتركوه حتى بال، فلما قضى بوله أمر النبي بِذَنُوب من ماء فأُهْرِيق عليه. متفق عليه [1]. فكَفَّهم عما هو مشروعٌ لمصلحةٍ راجحة، وهي دفعُ أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما، وتحصيلُ أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
وامتنع رسول الله عن طلب عمر قَتْل عبد الله بن أُبيّ وقد ظهر نفاقُه، وقال ـ بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ـ: ((لا يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) متفق عليه [2].
وامتنع ـ بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ـ عن إعادة بناء البيت على قواعد إبراهيم، وقال لعائشة: ((لو لا أن قومك حديثو عهدٍ بجاهلية لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض، ولأدخلت فيها من الحِجْر)) أخرجه مسلم [3].
وُمنِعَ الصائمُ من المباشرة إذا كان لا يملك نفسه؛ خشيةً مما قد يُفْضِي إلى إبطال صومه. قال الترمذي: "ورأى بعض أهل العلم أن للصائم إذا مَلَك نفسه أن يُقَبِّل، وإلا فلا؛ ليسلم له صومُه" [4].
وشُرِعَ عدمُ مباشرة الحائض إلا من وراء حائل؛ خشية أن تُفْضِي مباشرتُها بلا حائل إلى إتيان المحرم، وكل ذلك جَرْيًا على قاعدة: سَدّ الذرائع، والنظر في مآلات الأفعال.
ومن أدلة هذا المعنى قول المولى جل وعلا: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ [النور:31]. فمنعهن من الضرب بالأرجل ـ وإن كان جائزًا في نفسه ـ لئلا يكون سببًا إلى سماع الرجال ما يثير دواعيَ الشهوة والطمع فيهن.
ونهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب، أو تصيب بخورًا ـ مع جوازه في نفسه ـ لئلا يكون ذريعة إلى مَيْل الرجال، وتعرضهم لها؛ لأن رائحتها وإبداء محاسنها يدعو إليها [5].
وأمرها أن تخرج تَفِلَةً [6] ، وأن لا تتطيب، وأن تقف خلف الرجال [7] ، وأن لا تُسبّح في الصلاة إذا نابها شيء، بل تُصفّق ببطن كفّها على ظهر الأخرى [8] ، وكل ذلك سدًّا للذريعة، وحماية عن المفاسد، وإغلاقًا لباب الفتنة.
أيها المسلمون، وكل فعلٍ يُفْضِي قطعًا إلى إفساد المرأة، وإفلاتها عن رقابة وليّها ونظر أهلها، ويؤدي إلى ضياعها وتعريضها للعابثين، ويُسهّل حصول الشر لها، ووقوع الاعتداء عليها؛ فيجب سَلْب اسم الإباحة وحكمها عنه، وإن كان في الأصل جائزًا؛ لأنه صار بذلك الإفضاء المقطوع به حرامًا. وما لا خلاص من الحرام إلا باجتنابه ففعله حرام. والأسباب والطرق تابعة لمقاصدها، ووسائل المحرمات والمعاصي في حكمها بحسب إفضائها إلى غايتها، ووسيلة المقصود تابعة للمقصود وكلاهما مقصود، ووسيلة الممنوع تابعة للممنوع وكلاهما ممنوع، وإباحة الوسائل والذرائع المُفْضِية إلى الحرام المنصوص عليه نقضٌ للتحريم وتغييرٌ لأحكام الشريعة.
وأهل الخداع والحيل يتكئون على ما لم يرد نصٌ بتحريمه مع القطع بإفضائه إلى أكبر الشرور والمفاسد، وينادون به حيلةً، ويظهرونه خديعةً، ويجعلونه وسيلة إلى استباحة المحظور وإسقاط المُتَحَتِّم المأمور. قال محمد بن الحسن: "ليس من أخلاق المسلمين الفرارُ من أحكام الله بالحيل الموصِلة إلى إبطال الحق" [9] ، ورسول الهدى يقول: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحِيَل)) أخرجه ابن بطة، وجوّده ابن كثير [10]. وفي هذا غاية التحذير لأمة محمد أن ينتهكوا الحُرُمَ بالحِيَل.
أيها المسلمون، وإذا كان الشرع يمنع من الجائز المُفْضِي إلى الحرام فما القول في من يسلك مسالك التأويل والتحريف لرد نصوص الكتاب والسنة وتوهينها وإضعافها والتشكيك في دلالتها بالجدل بالباطل والمكر الفاجر، وذلك لاستباحة المحظور المُسْتَبَان، وتجريء العامّة على العصيان، وإضعاف التمسك لدى الأمة بدين الإسلام.
أيها المسلمون، إن البليّة المُهْلِكَة ما وقع فيه الأعمّ الأغلب من الخوض في الحلال والحرام بمجرد الآراء والأهواء، حتى صارت القضايا الفقهية، والنوازلُ العَصِيّة مُعْتَرَكًا للنزال وأمواجِ الأقوال في تضاعيف الصحف والمجلات والمنتديات، يخوض فيها كل جاهل، ويتناولها كل عاطل، ويدلي فيها بقوله كل سافل. يُحكَم فيها بما يراه الأغلب هو الأنسب افتراءً على الله، وافتياتًا على علماء الأمة، وتجاسرًا على الدين. شرٌّ مُحْدِق، وبلاءٌ مُطْبِق، وسبيلٌ مُوبِق.
يقول القاسم رحمه الله تعالى: "والله لأن يُقْطَع لساني أحبُّ إليّ من أن أتكلم بما لا أعلم". ويقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: "كان أصحاب رسول الله تصعب عليهم المسائل، ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي أصحابه، مع ما رُزِقوا من السداد والتوفيق مع الطهارة، فكيف بنا الذين غَطّت الخطايا والذنوب قلوبنا؟!".
أيها المسلمون، في زمن ظهر فيه المخادعون بثوب الإصلاح، والمنافقون بمظهر النصح والإشفاق، والمحتالون بلبوس الغَيْرَة والولاء، قد اتخذوا من زخارف المقال حبالاً يصطادون بها ضعيفَ الرأي بمواقع الأخطار، وقليلَ المعرفة بمواضع المصالح والمضار، يجادلون في الحق بعد ظهور صُبْحِه، وسطوع براهين صدقه. في هذا الزمن يتوجّب على كل مسلم أَخْذ حِذْرِه من الإرادات الخبيثة، والأغراض الفاسدة، والأهواء المُضِلّة، والنواصي الكاذبة، التي تواصت على باطلها، وتعاهدت على مكرها.
وعند وقوع الاشتباه، وظهور المخالفة والمعارضة، يتعين مراجعة علماء الأمة، وأكابر مفتيها؛ لأن الرجوع إليهم سبيل الأمان من الوقوع في شَرَك المبطلين، وتحريف المفسدين. والعلماء أعلم الناس بفقه الموازنات، وأقدر الناس على إعمال المُرَجِّحات وتبيين حُكم المشتبهات، الهلاك في ترك اجتهادهم، والفلاح في لزوم غَرْزِهِم. يقول عبد الله بن مسعود : (لا يزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد ومن أكابرهم، فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا) [11].
وقانا الله وإياكم أسباب الهلاك، وحمانا بفضله، وثبّتنا على دينه حتى الممات، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الوضوء (220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مختصرًا، ومسلم في الطهارة (285) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4905)، ومسلم في البر والصلة (2584) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الحج (1333).
[4] جامع الترمذي (3/106) بنحوه.
[5] مما جاء في ذلك: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا)) يعني: زانية. أخرجه أحمد (4/400، 413، 418)، وأبو داود في الترجّل (3642)، والترمذي في الأدب (2710) ، والنسائي في الزينة (5036)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح "، وصححه ابن خزيمة (1681)، وابن حبان (4424)، والحاكم (3497)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3516).
[6] مما جاء في ذلك: حديث زيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وليخرجن تَفِلات)) أي غير متطيبات. أخرجه أحمد (5/192، 193)، والبزار (445)، والطبراني (5/248)، وصححه ابن حبان (5/589)، وقال الهيثمي في المجمع (2/32): "رجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو صدوق". وفي الباب عن جماعة من الصحابة.
[7] مما جاء في ذلك: حديث أنس رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أم سُلَيم، فقمت ويتيم خلفه، وأم سُلَيم خلفنا. أخرجه البخاري في الأذان (871).
[8] مما جاء في ذلك: حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما لي رأيتكم أكثرتم التصفيق؟ مَن رابه شيء في صلاته فليُسبِّح، فإنه إذا سَبّح التُفِتَ إليه، وإنما التصفيق للنساء))، أخرجه البخاري في الأذان (684)، ومسلم في الصلاة (421).
[9] انظر: فتح الباري لابن حجر (12/329).
[10] أخرجه ابن بطة في كتاب الحيل، وحسّن إسناده ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (29/29)، والسخاوي في الأجوبة المرضية (1/214)، وجوّد إسناده ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/513)، وابن كثير في تفسيره (1/150).
[11] أخرجه معمر بن راشد في جامعه (المصنف:11/246)، ومن طريقه الطبراني في الكبير (9/114).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، الوقاية والصيانة مما تُخشى عقوبته وسوءُ عاقبته طريق المتقين. فعن عطية السعدي قال: قال رسول الهدى : ((لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس)) أخرجه الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم، وقد نُوزع لضعف الإسناد [1]. ويقول الحسن: "مازالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام". ورسول الهدى يقول: ((إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات اسْتَبْرَأَ لدينه وعِرْضِه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يوشك أن يَرْتَعَ فيه، ألا وإن لكل ملك حِمَى، ألا وإن حِمَى الله محارمه)) [2]. ومن اجترأ على ما يَشُكّ فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان، وليس العاقل الذي يعلم الخير والشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشرّ الشرين، وصدق القائل:
إن اللبيبَ إذا بدا من جسمه مرضان مختلفان دَاوَى الأخْطَرَا
أيها المسلمون، إن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
[1] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2451)، وابن ماجه في الزهد (4215)، قال الترمذي: "حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (4/355)، وقال ابن رجب في فتح الباري (1/15): "في إسناده بعض مقال"، وضعفه الألباني في غاية المرام (178).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(1/4226)
حُرمة الدماء المعصومة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحدود, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
3/5/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما جاء من النصوص في تغليظ القتل بغير حق. 2- هل من توبة للقاتل؟ 3- تحريم ترويع الآمنين بكل صوره. 4- من أحكام القاتل والمقتول وأولياء الدم. 5- كلمات في قضايا ساخنة: المستوطنات وجدار الفَصْل العُنصري، إهانة المصحف في السجون اليهودية، منع المسلمين من الصلاة في الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله عز وجل في سورة النساء: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. ويقول في سورة الأنعام: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].
أيها المسلمون، هل فكّر القاتل قبل الإقدام على جريمته في بشاعة الذي يرتكبه؟ وهل يتصوّر مدى الإثم الذي يلحقه نتيجة إزهاق روح مسلم آخر؟ وهل أدرك التَّبِعَات الاجتماعية والإنسانية من تفكيكٍ للمجتمع وترويعٍ للآمنين وتَيْتِيمٍ للأطفال وترمّل للزوجات وتثكّل للأمهات؟ ورسولنا الأكرم يقول: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)).
أيها المسلمون، يخبرنا رسولنا الأكرم : ((إن أول ما يُحاسَب به العبد يوم القيامة عن الصلاة، وإن أول ما يُقضَى بين الناس يوم القيامة في الدماء)). وهذا دليل على أهمية الدماء عند الله رب العالمين، ودليل على أن ديننا الإسلامي العظيم حريص على توفير الأمن والأمان في المجتمع، وحريص على حقن الدماء، ومنع إزهاق الأرواح.
أيها المسلمون، يصف رسولنا الأكرم محمد حال القاتل والمقتول يوم القيامة بقوله: ((يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة رأسه بإحدى يديه، مُتَلَبِّبًا قاتله بيده الأخرى، تَشْخُبُ أوداجُه دمًا، يقول: يا رب، سَلْ هذا فيما قتلني؟ فيقول الله تعالى للقاتل: تَعِستَ. ويُذهَبُ به إلى النار)).
أيها المسلمون، راوي هذا الحديث الشريف الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الذي سئل بشأن توبة القاتل المتعَمِّد، فتلا قوله عز وجل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. ثم قال ابن عباس: (ما نُسِخَت هذه الآية ولا بُدِّلَت، وأنَّى للقاتل العمد التوبة). أي ليس للقاتل العمد توبة، وذلك إذا لم تُنَفّذ بحق هذا القاتل عقوبة القتل وهي القصاص، أو إذا لم يتنازل ولي المقتول عن حقه، ولم يسامحه، ولم يتم إجراء الصلح بين القاتل وبين أهل القتيل طواعية واختيارًا.
ويقول عليه الصلاة والسلام بشأن موضوع التوبة والمغفرة: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره، إلا الرجل يموت مشركًا، أو يقتل مؤمنًا متعمّدًا)).
فالقتل العمد مع سبق الإصرار يُعدّ من الكبائر، والأشد إثمًا أن يستعين مسلم بغير مسلم لقتل مسلم، أما إذا عُوقِب القاتل في الدنيا، أو تنازل أهل القتيل عن حقّهم، وجرى الصلحُ فإن باب التوبة مفتوح للقاتل إن شاء الله.
أيها المسلمون، ماذا يعاني المواطنون الآن؟ إنهم يعانون من اضطراب في الأمن، ومن الذعر وعدم الطمأنينة على أرواحهم وأموالهم وأعراضهم. وذلك لتحقيق مَآربَ شخصية، ونَزَوَاتٍ فردية، واستعراضات عَنْتَرِيّة، أو للأخذ بثأر قديم، ولا تزال الضحايا البريئة تتساقط نتيجة العبث المستمرّ بالسلاح، أو نتيجة سوء استعماله واستخدامه في موضعه السليم والصحيح.
أيها المسلمون، ألم يُعلم أن الذي بحوزته السلاح لا يجوز له أن يُروّع ويخيف الآخرين به، حتى ولو كان مازحًا أو مداعبًا، فقد ورد أن أحد الصحابة كان نائمًا، فجاء رجل ومرّرَ الحبلَ على وجهه مداعبًا له، ففزِع النائم من ذلك، فقال رسول الله : ((لا يحلّ لمسلم أن يُروّع مسلمًا)). أي لا يجوز للشخص أن يخيف أخاه المسلم، فاعتبر الرسول عليه السلام تمرير الحبل على وجه النائم تخويفًا وترويعًا له، حتى ولو كان ذلك من قبيل المداعبة والمزاح. فكيف ـ يا مسلمون ـ بالذي يُطلِق الرصاص في الأفراح والأعراس والمناسبات الأخرى؟ ألم يحصل إزعاج؟ ألم يحصل تخويف للآخرين؟ ولا يخفى عليكم ما يترتب على ذلك من سقوط ضحايا دون أي مبرّر، ودون أي ثمن.
إن السلاحَ جميعُ الناس تحمله وليس كلُّ ذواتِ المِخْلَبِ السَّبُعُ
أيها المسلمون، كيف إذًا في حالة القتل والعمد وسبق الإصرار؟! فلا بد من تطبيق الشريعة الإسلامية السَمْحَاء العادلة في هذا المجال، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]. والمراد بالقصاص: أي إنزال عقوبة القتل بحق القاتل العمد مع سبق الإصرار. وإن في تنفيذ هذه العقوبة حفظًا لحياة المواطنين، وأمنًا وأمانًا للمجتمع، وردعًا للجريمة، وزجرًا للقَتَلة المجرمين. كما أن تنفيذ عقوبة القصاص يؤدي إلى إخماد الفتن، وإلى منع الأخذ بالثأر. وإن معظم حالات القتل التي نسمعها ونقرأ عنها لها دوافع ثأرية.
أيها المسلمون، لا بد في هذا المجال أن نوضح حكمًا شرعيًّا بحق القاتل العمد فنقول: إن ولي الأمر ـ أي الحاكم ـ تُنَاط به صلاحية تنفيذ القصاص، أي لا يجوز لأي شخص أن يُقِرّر تنفيذ الأحكام، كما لا يجوز أن يأخذ القانون بيده، حتى لا تعمّ الفوضى في المجتمع. في الوقت نفسه فإن الكلمة الأخيرة تكون لأهل القتيل، أي بعد أن تثبت جريمة القتل على القاتل، فإن لأهل القتيل الحق في المسامحة وإسقاط حقهم، ولهم أيضًا الإصرار على تنفيذ القصاص، أي عقوبة القتل بحق القاتل. فإن رغب أهل القتيل في التسامح والتنازل عن حقّهم فبها ونعمَت، ويحصل حينئذ الصلح، والصلح سيّد الأحكام.
وإن القرآن الكريم يحث على الصفح والعفو في عدة آيات كريمة، وإن أهل القتيل لهم الثواب العظيم في ذلك، ولا بد من بيان الحكم الشرعي في هذه الحالة، فإن عقوبة القتل تسقط، ولا يجوز للحاكم حينئذ تنفيذ عقوبة القتل بحق القاتل؛ لأن هذه العقوبة هي من حق أهل القتيل. يقول سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33]، هذا ويحق للدولة أن تعاقب القاتل حينئذ عقوبة تَعْزِيرية تُعرَف بالحق العام.
أيها المسلمون، أما إذا أصرّ أهل القتيل على تنفيذ العقوبة بالقاتل العمد، فإن الحاكم حينئذ مُلْزَمٌ بالتنفيذ، ولا يحق شرعًا أن يعفو عن القاتل؛ لأن العفو والمسامحة من حقّ أهل القتيل، وما من شك أن تنفيذ العقوبة بحق القاتل العمد فيه منع للثأر بين الناس.
وعلينا جميعًا أن نلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية الغَرّاء؛ ليعيش الناس في طمأنينة وسلام وأمن وأمان، فلابد من توافر الضرورات الخمس في المجتمع، وهذه الضرورات هي: الدين والنفس والعقل والنسل والمال. والدولة مُلْزَمة بتوفيرها وحمايتها لمصلحة المواطنين جميعهم.
عباد الله، هناك ملاحظات ـ قبل أن أبدأ الخطبة الثانية ـ أودّ أن أذكرها وهي:
الملاحظة الأولى: أُلْفِتُ نظر الجميع إلى أنه يوجد في القدس الغربية نادٍ يدعو إلى قضاء العطلة الصيفية بأعمال ترفيهية، غير أنه في واقع الحال نادٍ مشبوه، يعمل على إسقاط شبابنا المسلم.
الملاحظة الثانية: إن المقابر أماكن لها حرمتها، فلا يجوز الاعتداء على القبور بالسَّلْب والنَّهْب والنَّبْش، سواء أكان ذلك من قبل الأعداء، أو من قبل الأهالي فيما بينهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، هناك قضايا لا تزال ساخنة، أتعرض لثلاثة منها بإيجاز:
أولاً: المستوطنات والجدار العنصري: لا تزال السلطات المحتلة تصادر وتستولي على المزيد من الأراضي، وتجرف المزروعات والأشجار المثمرة؛ بهدف توسيع المستوطنات، ولإتمام الجدار العنصري اللعين. هذا الجدار الذي يمثّل نكبة جديدة للشعب الفلسطيني، فهل هذه الأعمال ستقرّب اليهود من السلام والاستقرار والأمان والأمن؟! وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة البقرة: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُون [البقرة:100].
ومن على منبر المسجد الأقصى المبارك لنؤكد عدم إقرارنا واعترافنا بهذه المستوطنات، ونعتبرها غير شرعية كله. كما لا نقرّ بالأمر والواقع الجديد الذي تفرضه سلطات الاحتلال من خلال الجدار العنصري.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ثانيًا: تدنيس صُحُف القرآن الكريم: لقد لحقت السلطات الإسرائيلية المحتلة بركب أمريكا في تدنيس صُحُف القرآن الكريم، أما القرآن الكريم نفسه لا يُدَنّس ولا يُطَال. أما أوراقه وصُحُفه فقد تناقلت الصحف العِبْرِيّة ما قام به المحقّقون والسجّانون اليهود من الاعتداء على صُحُف القرآن الكريم وتمزيقها ثلاث مرات على الأقل، وذلك أمام الأسرى الأبطال في سجن مجدو؛ بهدف استفزاز الأسرى وإهانتهم، وقد تأكد لنا هذا الخبر.
وبهذه المناسبة أنقل لكم ـ أيها المصلون ـ تحيات إخوانكم الأسرى الأبطال في سجن مجدو وفي السجون الأخرى.
أيها المصلون، إنه لأمر مُتَوَقّع وليس بالأمر الغريب أن يقوم السجّانون اليهود بتمزيق صُحُف القرآن الكريم، فقد سبق للجيش الإسرائيلي أن اقتحم مئات المساجد، وبعثر ومزّق المصاحف والكتب الدينية فيها، كما قصف بعض المساجد بالصواريخ، وهذا ما فعلته أمريكا أيضًا في العراق، ونقول من على منبر المسجد الأقصى المبارك: إن الله رب العالمين قد تكفل بحفظ القران الكريم بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
أيها المصلون، إن أعداء الإسلام يغتاظون من القرآن الكريم؛ لأنه الكتاب الوحيد في الكون كله الذي لم يطرأ عليه تغيير ولا تبديل: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21، 22]. وإن الأعداء يتوهّمون بأن أساليبهم الرخيصة الدنيئة الهابطة ستقلّل من قيمة القرآن الكريم في قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا وأحاسيسنا، حاشا وكلا، فالمسلمون سيزدادون تمسّكًا بكتاب الله وحرصًا عليه، والتزامًا بأحكامه رغم أنف المعتدين الحاقدين، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ثالثًا: المسجد الأقصى المبارك للمرة تلو المرة: إن الأطماع اليهودية لا تزال قائمة في هذا المسجد المبارك، وإن الحكومة الإسرائيلية اليمينية تريد أن ترضي رغبات الجماعات اليهودية المتطرفة بالسماح لهم باقتحام باحات المسجد الأقصى، وتحت حراسة الشرطة، في حين تمنع الشرطة المصلين المسلمين ممن تقل أعمارهم عن خمس وأربعين سنة من دخول المسجد الأقصى المبارك اليوم الجمعة، فأين حرمة العبادة؟ وأين المحافظة على أماكن العبادة للمسلمين الخاصة بالمسلمين؟ وإن الأساليب الملتوية التي تُحاك ضد الأقصى مكشوفة ومفضوحة، ومن على منبر الأقصى المبارك نعلن استنكارنا لحرمان المسلمين من الصلاة في الأقصى، كما نعلن رفضنا للسماح لليهود المتطرّفين من دخول باحات الأقصى، الأقصى الذي هو للمسلمين وحدهم بقرار من رب العالمين، ولا نقرّ ولا نعترف بأي حق لليهود في هذا المسجد المبارك، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
(1/4227)
الرحمة
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الأسماء والصفات, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
3/5/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرحمة من صفات الله الكاملة. 2- أوجه رحمة الله بعباده. 3- سعة رحمة الله وشمولها. 4- الحث على اتصاف العبد بالرحمة مع جميع الخلق. 5- محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الخَلْق بالخَلْق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أسماءُ الله جلّ وعلا وصفاتُه تعالى أسماءُ وصفاتُ كمال، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. كل أسمائه كمال، وكل صفاته صفاتُ كمال لائقة بجلاله وعظمته.
فمن صفاته جلّ وعلا صفة الرحمة، فالرحمة صفة من صفات ربنا جلّ وعلا، وهي رحمة لائقة بجلاله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]. هذه الرحمة التي اتصف اللهُ بها جلّ وعلا رحمة عامة لكل الخلق، فمن كمال رحمته أنه أوجد الخلق على أحسن صورة: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
ومن رحمته أنْ تكفّل برزق عباده، فلم يَكِل أحدًا إلى أحد، وإنما تكفّل برزق الجميع، فلا الأولاد وُكِلُوا لآبائهم، ولا الآباء لأولادهم، بل الجميع تحت فضله وكرمه وإحسانه: وَكَأَيِّن مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6].
ومن رحمته أن سَخّر لنا ما في السماء والأرض جميعًا منه؛ لقيام مصالح حياتنا وانتظام معيشتنا.
أيها المسلم، ومن رحمته جلّ وعلا بخلقه أن بعث الرسل مبشّرين ومنذرين، يُعَرّفون العباد ربَّهم، ويدعون العبادَ إلى عبادة الله وإخلاص الدين لله، ويعلمونهم الحق، ويحذّرونهم من سبيل الباطل والضلال.
ومن رحمته بنا أن بعث فينا سيدَ الأولين والآخرين، وإمامَ المتقين محمدَ بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فرسالته رحمةٌ لعموم العالمين، والكتاب الذي أَنزَل عليه نذيرٌ للعالمين: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فَرَحِم الله البشرية كلها بمبعث هذا النبي الكريم الذي جعل الله رسالته رسالة عامة لكل الثَّقَلَين منذ بُعِث إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]. وكان الأنبياء يُبعثون إلى قومهم خاصة، وبُعِث محمد إلى الناس عامة، فيقول : ((وكان النبي يُبعَث إلى قومه خاصة، وبُعِثتُ إلى الناس عامة)) [1] ، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
ومن رحمة الله بالعباد هذه الشريعة الكاملة في مبادئها ونُظُمِها وقِيَمها وأخلاقها، فهي شريعة كاملة شاملة صالحة ومُصْلِحة لكل زمان وجيل من الناس: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]. فرحمنا الله بهذه الشريعة الشاملة العامّة التي وضع الله فيها الآصَارَ والأغلالَ التي كانت على من قبلنا، يقول الله في وصف نبيه : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، فهي شريعة مبنيّة على اليُسر والتسهيل: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، ((يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا)) [2] ، وفي الحديث: ((إنما بُعثتم ميسّرين)) [3].
أيها المسلم، إن رحمة الله رحمة واسعة، رحمة شاملة، رحمة للمؤمن في الدنيا والآخرة، ورحمة لغير المؤمن في الدنيا، يتمتّع فيها بالملذّات ولا نصيب له في الآخرة، أما المؤمن فرحمة الله عليه في الدنيا والآخرة: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156].
أيها المسلم، إن رحمة الله ينالها العبدُ إذا أخذ بأسباب الرحمة، ومن أسباب الرحمة رحمتُك بعباد الله، ففي الحديث عنه قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يَرْحَمْكُم من في السماء)) [4] ، فالذين يرحمون عباد الله يرحمهم الله، والذين يرحمون أهل الأرض يرحمهم مَن في السماء، جزاءً على قدر أعمالهم الصالحة. وأخبر أن هذه الرحمة لا تُنتَزع إلا من شقيّ، فقال : ((لا تُنْزَع الرحمةُ إلا من شقي)) [5] ، وأخبرنا خبرًا صادقًا أن الله يرحم الرحماء من عباده، فيقول : ((إنما يرحم اللهُ من عباده الرحماءَ)) [6] ، ويقول: ((من لا يَرْحَمِ الناس لا يرحمه الله)) [7] ، فالقاسية قلوبُهُم الذين لا خير فيهم يفوتهم هذا الفضل العظيم.
رحمة الله واسعة، خلق الله مئة رحمة، أنزل جزءًا في الأرض، به تتراحم الخليقةُ كلها، حتى ترفع الدابّةُ حافِرَها عن ولدها؛ كراهية أن تمسّه بسوء، وادّخَر تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة [8].
أيها المسلم، إن هذه الرحمة صفة الله، وإن المؤمن ليتخلّق بذلك، ويتعرّض لأسباب الفضل والخير.
أيها المسلم، فأولى ما تكون نفسك، فارحمها بأن تنقذها من عذاب الله، وتسعى في فكاكها من عذاب الله، بطاعتك لربك، وقيامك لما أوجب عليك: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]، ويقول : ((كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو مُوبِقُها)) [9]. فارحم نفسك من عذاب الله، قِها عذاب الله بطاعتك لربك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
أيها المسلم، وإن أولى الخلق برحمتك أن ترحم أبويك اللذين [هما] السبب في وجودك بعد الله، ترحمهما رحمة صادقة، تتذكّر أفعالهما الجميلة، وسيرتهما الفاضلة، وتلكم الليالي والأيام التي أمضياها في الإحسان إليك وتربيتك وتهذيبك والإنفاق عليك، فترحم الأمَّ، وترحم الأبَ، ولاسيما عند ضعف القوة وقلّة النشاط والعجز عن الحركة، فهنا يبرز ذَوُو الفضائل، وهنا يكون المَعْدَنُ الصادق، قال تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]. ترحم الأمَّ عند كبر سِنّها وعجز قوّتها، فالخطاب طيّب، والسمع والطاعة والخدمة والنفقة وبذل المعروف. ترحم الأبَ عند عجزه وضعفه وقلّة حيلته، فتُحسِن إليه كلامًا طيبًا وخدمة وإحسانًا ورِفقًا وقيامًا بالواجب.
أيها المسلم، ترحم العبادَ فترحم أولادك من بنين وبنات، رحمة لهم تتمثّل في الإنفاق عليهم، والإحسان إليهم، رحمة تتمثّل في تربيتهم وتوجيههم والعقد على أيديهم، وتحذيرهم سُبُلَ الرَّدَى والفساد، فتلك الرحمة الحقيقية لهم، ليست الرحمة بمجرد إعطائهم مَلذّاتهم، وتمكينهم من شهواتهم، هذه رحمة ضعف وخَوَر، إنما الرحمة الصادقة هي الرحمة المشتملة على كل الخير، فمن باب النفقة والإحسان يرحمهم فيحسن إليهم، ويعطف عليهم، ويعاملهم بالحسنى، ولكن مع هذا يرحمهم بتربيتهم وتوجيههم، والأخذ على أيديهم، وتبصيرهم بطرق الهدى، وتحذيرهم من سُبُلِ الفساد والرَّدَى، فتلك التربية النافعة التي تجد لذّتَها في حياتك وبعد موتك، وفي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)) ، ذكر منهم: ((ولدًا صالحًا يدعو له)) [10] ، فالولدُ إذا رُبِّيَ على الخير والتُّقى، والفتاةُ إذا رُبِّيَت على العِفّة والصيانة نشأ الجميع على خير، وتذكّروا للأبوين تلك السيرة الفاضلة والخُلُق الجميل.
أيها المسلم، رحمة منك للصغار من الأطفال، فترحمهم بالإحسان إليهم، قَبَّل النبيُّ الحسنَ بن علي ابن ابنته، فقال له رجل من الأعراب: أتقبّلون أبناءكم؟! فنظر إليه النبي وقال: ((من لا يَرْحَم لا يُرْحَم)) [11] ، وقال لآخر: ((ما أملك أن نزع اللهُ الرحمةَ من قلبك)) [12]. وكان رحيمًا رفيقًا بالأطفال، كان يصلي وبنت ابنته أُمَامَة بنت زينب تكون معه، إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها. ويأتي الحسن والحسين فيصعدان على ظهره وهو ساجد فينتظرهما حتى ينزلا، كل هذا رحمة بالصغار، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
إن رحمتك لأولادك تكون بتربيتهم وتوجيههم ودعوتهم إلى الخير، وحثّهم على احترام الصغير للكبير، ورحمة الكبير للصغير، تسعى في جمع كلمتهم، وتوحيد صفّهم، ينظرون إليك أنّك الأب الرحيم العادل، والأب الذي لا يفرّق بين ذا وذاك.
ترحم الزوجة فتُحسن إليها، وتُحسن عشرتها، وترحمها بأمرها بالخير، وحثّها على الخير، وتوجيهها للخير، فليس عندك جَفَاء ولا غِلْظة، ولا قُبْح قول ولا سوء معاملة، ولكن حكمة ورفق وأمر بخير وتحذير من شر.
ترحم الرحم فتصلهم بما تستطيع، فقير تواسيه، وغنيّ تزوره، وآخر تحسن إليه، وهكذا رحمتك لرحمك، ((فإن الرحم معلقة بالعرش تقول: يا رب، أنت الرحمن وأنا الرحم. يقول: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ فتقول: نعم. فيقول: ذلك لك)) [13].
أيها المسلم، ترحم اليتيم، ترحم فاقد الأب أو الأبوين، ترحم هذا اليتيم رحمة تحملك على العطف عليه، والإحسان إليه، وتفقّد أحواله، والسعي فيما يصلح دينه ودنياه.
ترحم المريض والعاجز بمساعدته وإعانته وتيسير مهمّته.
ترحم المَدِين الذي أثقلته الديون، ولازمته الهموم والغموم، فتُضَمّد جراحه، وتعينه على نوائبه، وتسعى في فكاك دَينه، وتُيسّر له عُسره، وتُنظِرَه إن كنت صاحب الحق، وتعين على إنظاره إن لم تكن صاحب الحق. ترحم هذا المَدِين الذي إن خرج رأى الناس وهم يطالبونه، فليله ونهاره في هَمّ وغَمّ وبلاء.
ترحم ـ أيها المسلم ـ العاصي المخالف للشريعة، ترحمه فَتَذَكّر أنه ضَعُف أمام تسلّط العدو عليه، ذلكم العدو الذي هو عدوه وعدو أبيه قبله، يجري من ابن آدم مجرى الدم، ترحم هذا المسكين الذي زلّت به القدمُ فوقع في الرذائل، زلّت به القدمُ فانحرف سلوكه، زلّت به القدمُ فابْتُلِي بأصحاب سوء وعُشَرَاء سوء ودعايات مضلّلة وأفكار سيئة.
ترحم أولئك الذين وقعوا في شَرَكِ المخدرات، فأفسدت عقولهم، وغيّرت مزاجهم، وأصبحوا أعضاء مشلولين في مجتمعاتهم، ترحم أولئك فترحم أطفالهم الصغار، وترحمهم بالإحسان إليهم، وترحم هذا المسكين فتنصحه وتدعوه إلى الله. إن أهل المعاصي يرحمهم المسلمون رحمة تقتضي دعوتهم إلى الخير وتحذيرهم من الشر، والأخذ على أيديهم، وإقامة حدود الله عليهم، فبهذا رحمة تخفّف إجرامهم، وتقلّل من ذنوبهم وأوزارهم.
إن محمدًا أعظم الناس غَيْرة على محارم الله، ومع هذا كله فهو أرحم الناس حتى بالعصاة والمذنبين. أُتِيَ برجل كان يشرب الخمر مرارًا، فقال رجل: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فقال: ((لا تعينوا الشيطان عليه، لا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه)) [14] ، وقال مرة: ((إنه يحب الله ورسوله)) [15]. فالرحمة على أهل هذه المعاصي، تنظر إليهم بعين الرحمة أنهم ضعفوا أمام هذا العدو، تسلّط عليهم هذا العدو، فترحمهم بالنصيحة والتوجيه والدعوة إلى الخير والتحذير من أسباب الشر، ترحمهم فتأخذ على أيديهم، ويرحمهم ذو الشأن فيقيم عليهم حدود الله والتعزيرات الرادعة التي تردّهم إلى الصواب، وتُنقِذُهم من الضلال، فإن حدود الله رحمة للعباد، بها تصلح العباد، ويستقيم حالهم: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]. فالرحمة بأهل المعاصي لا تقتضي التغاضي عنهم ولا تجاهل حالهم، ولا تقتضي مجرد النفور عنهم، لا، بل تحاول إصلاح أخطائهم، وتقويم ما اعوج من سلوكهم، والنظر إليهم بعين الرحمة، ثم بعين العدل بإقامة [حدود الله] عليهم؛ ليرتدعوا: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:179].
أيها المسلم، إن التراحم بين المسلمين أمر مطلوب، ترحم ضعيف العقل وقليل التصرف والذي لا يستطيع أن يتصرّف التصرّف اللائق به، فترحمه بأن تشير عليه وتنصحه، وتأخذ على يديه، وتبيّن له الطريق السويّ، لا تستغِلّ ضعفه وقلّة عقله، فتستغلّ ماله وتظلمه، لا، بل رحمة منك تعامل بها الآخرين كما تحب أن يُعامَل بها أبناؤك وأهلك، هكذا يكون المسلم ذو رحمة صادقة، رحمة مبنيّة على العدل، لا رحمة ضعف وإهمال، ولا قسوة وغلظة، ولكن رحمة باتزان في الأحوال كلها.
أسأل الله أن يرحمنا جميعًا برحمته، وأن يدخلنا في واسع رحمته، وأن يجعلنا من الرحماء الذين يرحمهم رب الأرض والسماء، إنه على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التيمّم (335)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (521) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[2] أخرجه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الوضوء (220) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (925).
[5] أخرجه أحمد (2/301)، وأبو داود في الأدب (2494)، والترمذي في البر والصلة (1933) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حديث حسن"، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (4133).
[6] أخرجه البخاري في الجنائز (1284)، ومسلم في الجنائز (923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في الأدب (6013)، ومسلم في الفضائل (2319) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6000) ، ومسلم في التوبة (2752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في الطهارة (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[10] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الأدب (6013) واللفظ له، ومسلم في الفضائل (2319) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في الأدب (5998)، ومسلم في الفضائل (2317) عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي فقال: تقبّلون الصبيان؟! فما نقبّلهم، فقال النبي : ((أوَأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟!)).
[13] أخرجه البخاري في التفسير (4832)، ومسلم في البر والصلة (2554) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] أخرجه البخاري في الحدود (6777) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[15] أخرجه البخاري في الحدود (6780) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن محمدًا أرحم الخلق بالخلق، سأل ربه وسأله أن ينجز وعده أن من آذاه، شتمه، أو لعنه، أو جلده؛ أن يجعلها الله صلاة وسلامًا عليه، فدعا ربَّه أن يثيب من وقع من النبي عليه شيء أن يجعلها الله صلاة عليه وثوابًا له، صلوات الله وسلامه عليه، مع أنه لا يقول إلا الحق [1].
أيها المسلم، في عهد النبي وقد وقع سبي من الكفار فجاءت امرأة تبحث عن صبي لها، فوجدته فألصقته ببطنها، ووضعت ثديها في فمه، فقال النبي : ((أترون هذه تلقي ولدها في النار؟)) قالوا: لا. قال: ((لله أرحم بعبده من هذه بولدها)) [2]. ربك رحيم بك أيها المؤمن، يعطيك عن الحسنة الواحدة عشرًا، ويضاعفها لك إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ويعاقبك على السيئة بمثلها، فإن تبت وأنبت قبل توبتك، وقبل عذرك، وتوبتك أحب إليه وعطاؤه ورحمته أحب إليه من غضبه، كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش: ((إن رحمتي سبقت غضبي)) [3].
ربك رَحِمَكَ يناديك أن تتوب إليه: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، كل هذا رحمة منه بعباده، ينزل في الثلث الأخير من الليل فينادي: هل من سائل فيُعطَى سُؤلَه؟ هل من مستغفر فيُغفَر له؟ هل من تائب فيُتاب عليه؟ [4] أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ [البقرة:221]، فالجؤوا إلى الله، وتعرّضوا لرحمته وفضله، فهو أرحم بكم من أنفسكم، وأرحم بكم من أمهاتكم وآبائكم، رَحِمَكُم فدعاكم إلى التوبة والاستغفار والندم والاعتذار: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
في يوم القيامة يُؤتَى برجل فيُؤتَى بتسعة وتسعين سِجِلاًّ، كل سِجِلٍّ مَدّ البصر، يقال له: أتنكر من هذا شيئًا؟ يقول: لا. أَظَلَمَك الكرامُ الكاتبون؟ فيقول: لا. فيظن الرجل أنه هلك، فيقال: لا ظلم. فيُؤتَى ببطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فتوضع البطاقة في كِفّة، والسِّجِلاّت في كِفّة، قال: فطاشَتِ السِّجِلاّت، وثقلت البطاقة [5]. فسبحان واسع المغفرة الإحسان! وسبحان الرحيم بخلقه في كل الأحوال!
ومن رحمته أنه يجيب دعاء المضطر: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]. لا وربي، إنه الله وحده القادر على كل شيء، فتعرّضوا لرحمة ربكم، ولا يهلك على الله إلا هالك.
[1] أخرجه البخاري في الدعوات (6361)، ومسلم في البر والصلة (2601) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5999)، ومسلم في التوبة (2754) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في التوحيد (7404)، ومسلم في التوبة (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الدعوات (6321)، ومسلم في صلاة المسافرين (758) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (2/213)، والترمذي في الإيمان (2639)، وابن ماجه في الزهد (4300)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم على شرط مسلم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (135).
(1/4228)
القول على الله بلا علم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/5/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة العلم النافع. 2- التحذير من أدعياء العلم والفتوى. 3- خطورة القول على الله بلا علم. 4- حال السلف مع الفتوى بغير علم. 5- وجوب التثبت في الفتوى. 6- التحذير من أكل أموال الناس بالباطل بأي وسيلة. 7- الصدق أساس النجاح في التجارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، العلم النافع شرفٌ لأهله في الدنيا والآخرة، يقول الله جل وعلا: يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. العلم النافع سببٌ لخشية الله ومخافته: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]. العلماءُ استشهد الله بهم على أكبر مشهود عليه وهو توحيده وإخلاص الدين له: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].
هذا العلم المقرون بالعمل فهو العلم النافع، إذِ العلم الذي يفقد العمل لا ينتفع به صاحبه، بل هو ضرر ووبال عليه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، وقد ذمّ الله اليهود لمّا كتموا علمهم بمحمد ، وأنكروا رسالته، مع علمهم بذلك، وما نطقت به كتبُ الله السابقة، لكنّ القوم تجاهلوا كل هذه الأمور، فخصَّهم اللهُ بالغضب: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
أيها المسلم، وصاحب العلم النافع هو الذي يعمل بعلمه أوّلاً، فيكون قدوةً لغيره في القول والعمل، يتأسّى به الآخرون في أعماله؛ إذ أعماله الطيبة تدلّ عليه، وتُعرّف أنه عالمٌ حقًّا، يقف عند حدود الله فيلتزم تحريم الحرام، ويلتزم تحليل الحلال، ويتأدّب بآداب الشرع، ويتخلّق بأخلاق الإسلام، فكلُّ من رآه مصليًا أو رآه مُزكّيًا أو صائمًا أو حاجًّا أو رآه بارًّا أو واصلاً بالرحم أو رأى تعامله الجيد في صدق وأمانة؛ أحبّه واقتدى بآثاره، وتأسّى بأفعاله، فهو العالم الذي يدعو إلى الله بالقول والعمل.
صاحب العلم النافع هو الذي ينشر علمه، ويبث علمه في الآفاق، فلا يكتم علمًا حمّله الله إياه، إذا سئل عنه أبان الحق على وفق ما دل الكتابُ والسنةُ عليه. ولذا قال الله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]. وذم الله ذلك العالم الذي كتم ما أنزل الله، وأخفى حقيقة شرع الله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة:159]، ما أعظمه من وعيد على عالم كتم علمه! على عالم أخفى علمه! على عالم يرى الباطل والحرام وانهماك الناس في المعاصي فلا ينطق بالحق، ولا يقول الحق! على عالم يشتري بعلمه الدنيا! قال جلّ وعلا: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].
صاحب العلم يبتغي بعلمه وجه الله والدار الآخرة، يقصد بعلمه تخليصَ نفسِهِ من الجهل وتخليصَ غيره، وإصلاحَ أعمال العباد، هكذا طالب العلم حقًّا، ذو خُلُقٍ وحِلْمٍ وأناةٍ، ذو علمٍ وأناةٍ، ذو فقه وبصيرة في أموره كلها.
أيها المسلمون، وإن هناك أدعياء على العلم، مَن لا علم ولا بصيرة عندهم، نصبوا أنفسهم مفتين للأنام، نصبوا أنفسهم مفتين للخلق، يفتون بغير علم، ويقولون على الله بغير علم، قد يكون عند الواحد شيء من علم، لكنه يُعجَب بنفسه، فَيَظُنّ [أنه] العالمُ الذي لا يُجَارَى في علمه، والعالمُ الذي قد فهم كل الأمور، والعالمُ الذي قد أحاط بكل المعلومات. هذا الضرب من الناس ضرره على البشر عظيم، ضررهم على الخلق عظيم؛ لأنهم يفتون، ويُظَنّ أنهم أهلُ علم وهم في الواقع على جهل وقلّةِ علم، يفتون بما لا يعلمون، ويقولون على الله ما لا يعلمون، يخجل الواحد منهم أن يقول: أنا لا أعلم، يَنْتَصِبُ مفتيًا في قناة ما من القنوات أو في صحيفة من الصحف أو في موقع من مواقع الاتصالات يفتي فيحلّل ويحرّم، ويفتري على الله بلا علم. إن هذا الضرب من الناس مصيبة عظيمة على الأمة، وبلية من البلايا، فليتق المسلم ربه عندما يفتي غيره، وليعلم أن الله سيسأله عن كل فتوى أفتى بها، فإن كانت موافقة للصواب فنِعْم الثواب، وإن كانت مخالفة للحق باء بالإثم والوِزْرِ، والعياذ بالله.
إن الله جلّ وعلا عَظّم القولَ عليه بلا علم، وجعل منزلة القول عليه بلا علم فوق منزلة كلّ الذنوب والمعاصي كبيرها وصغيرها، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، فجعل القول عليه بلا علم أعظم من الشرك به؛ لأن الشرك وكل الذنوب دونه فمصدرها القول على الله بلا علم. فاحذر ـ أخي المسلم ـ أن تقول على الله، وعلى شرع الله ما لا تعلم. قَفْ إذا سُئِلتَ عما لا تعلم، سَلْ وفتِّش وابحث، واحذر أن تقول: هذا شرع الله، وأنت كاذب ومخطئ. احذر أن تقول: هذا دين الله، وأنت لا تعلم ذلك. اسمع اللهَ يقول: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ أَاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]، فالذي يحلّل ويحرّم بمجرّد هواه وعاطفته وشهوته قائلٌ ومُفْتٍ على الله بلا علم، ويقول الله جلّ وعلا: وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116، 117].
أيها المسلم، إن شرع الله ليس بالأهواء: وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [المؤمنون:71]، شرع الله الذي شرعه بكمال حكمته ورحمته وعلمه وعدله فلا يجوز لأحد أن ينسب إلى الله ما لم يقله الله، النبي يقول: ((من كذب عليّ متعمّدًا فلْيَتَبَوّأ مَقْعَده من النار)) [1] ، وقال: ((ليس كذبًا عليّ ككذب على غيري، من كذب عليّ متعمّدًا فلْيَتَبَوّأ مَقْعَده من النار)) [2]. إذًا فالكذب على الله أعظم، الكذب على الله مصيبة وبليّة عظمى. الذي يفتي الناس بلا علم هو كاذب على الله، الذي يفتي الناس بجهل كاذب على الله، الذي يحلّل ويحرّم بهواه كاذب على الله.
لقد كان سلفنا الصالح ـ من أصحاب محمد ، وتابعيهم بإحسان ـ كانوا يتحرّجون من الفتوى بلا علم، ويتوقّفون ويتورّعون، ويودّ أحدُهم أن يكفيه أخوه هذه الفتوى، يتحرّجون ويتدافعونها لا عجزًا، ولكن لإظهار قيمة القول على الله، ولبيان عِظَم القول على الله بلا علم، وليعطوا الناس تصورًا أن الفُتْيا بلا علم ضرر وبلاء عظيم، هكذا كان سلفنا الصالح، ولهم في ذلك الأقوال المشهورة، والأدب العظيم رضي الله عنهم وأرضاهم.
في عهد النبي رجلٌ في سَرِيّة من السّرَايا شُجُّ رأسُه واحتلم، فسأل أصحابه: إنِ اغتسل مات، هل له من رخصة؟ قالوا: لا نجد لك رخصة. فاغتسل فمات، فبلغ النبيَّ ذلك فقال: ((قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، إنما شفاء العِيّ السؤال)) [3].
لقد كان عمر بن الخطاب أميرَ المؤمنين وثانيَ الخلفاء الراشدين، ومَن أُلْهِمَ الصوابَ في أموره إذا وردت عليه قضية شرعية دعا المهاجرين والأنصار لها؛ ليَصْدُرَ الناس عن اجتماع كلمة وعن قول حقّ. كل هذا تعظيمًا لأمر العلم، وتعظيمًا لشأن العلم، ولكن للأسف الشديد، نسمع من كثير تسرّعٌ في الفتوى، وحكمٌ على الله بلا علم. وقد يفهم شيئًا من الأقوال، لكنه لا يدرك الأدلّة، وليس معناه أنْ يُمنَع كل أحد، لكن أقول: من لا علم عنده، من لا بصيرة عنده، من لا فقه في دين الله عنده، فليقف عند حدّه، ولا يحُمّل نفسه ما لا طاقة لها، ومن أعطاه الله علمًا، ومَنَحَه فهمًا وفقهًا فلْيُفْتِ على قدر استطاعته، وليتقّ الله ربه، وليحرص على جمع الكلمة، وليحذر الشواذّ من المسائل، الشواذّ من الآراء التي قد قيلت، لكنّ أصحابها يُعذَرُون؛ لأن الدليل خفي عليهم، ولا يُقلّد الناس في شرع الله، فإن مَردّ الجميع كتاب الله وسنة محمد.
وأئمة الإسلام هكذا يقولون، قال الإمام مالك رحمه الله: "ما منا إلا رادٌّ ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر"، يعني محمدًا. وكان أبو حنيفة الإمام رحمه الله يقول: "إن وجدتم لي قولاً يخالف الكتاب والسنة فإني أبرأ إلى الله منه". هكذا أئمة الإسلام، وهكذا الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله، كل أولئك يحذّرون من القول على الله بلا علم، ويتبرّؤون من أقوالهم إن يكن فيها مخالفة للدليل من حيث لا يعلمون.
لقد كان الورع يحكمهم، والخوف من الله يحجزهم من الانطلاق في الفتوى بلا علم.
أتى رجلٌ إلى مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، وقد جاءه من قارة إفريقيا، فسأله عن أربعين مسألة، فأجاب على بعضها، وقال في معظمها: لا أدري. قال له السائل: جئتك من مكان بعيد، وقصدتك وأنت إمام دار الهجرة تقولي لي: لا؟! قال: اخرج للناس، ونادِ: إن مالكًا لا يدري، ونادِ: إن مالكًا لا يعلم. ليس هذا نقصًا في قدره، ولكنه دليل على قوة الإيمان والخوف من الله. قال أحد أصحاب مالك: حضرت مالكًا عند الموت فبكى بكاءً كثيرًا، فقلت: أبا عبد الله، ما شأنك؟ قال: وَدِدْتُ أني جُلِدتُ عن كل مسألة أفتيت فيها عشرة أسواط، وألقى الله وأنا خالٍ من التَّبِعَة. كل هذا من ورعهم وزهدهم وخوفهم على أنفسهم من أن يزل اللسان بلا علم.
فليتق الله أهل العلم، ليتق الله طلاب العلم، وليتحرّجوا من الفتوى بلا دليل، وليقفوا عند حدّهم، ولا يكون هَمّ الإنسان أن يجيب عن كل ما سئل عنه، اللهم إلا أن يكون معتمدًا على دليل، فقيهًا فيما يجيب عنه، مدركًا ذلك، عالمًا حقًّا، أما التّخَرُّص والظنون في شرع الله، والإفتاء بما تحكمه الأهواء، اليوم يفتيك بقول، وغدًا يفتيك بقول آخر، يختار من آراء العلماء في كل قضية ما يناسب الوضع من باب المرونة كما يقول، والتكَيّف في الأقوال، فهذا خطأ أنكره علماء الأمة.
المسلم على طريق ثَبْت، على منهج واضح، حقٌ وضح له أسبابه، أمرٌ خفي عليه أمسك عنه. وأما التلاعب في الفتاوى والتلاعب بها، اليوم يحلّل، وغدًا يحرّم، ويُجَامِل الناس فيما يفتيهم به، فشخصٌ يعطيه قولاً، والشخص الثاني يعطيه قولاً، وربما يعلم أن هذا القول مخالف للدليل، لكنّ الهوى ومحبة الظهور تجعله لا يبالي، ولا يهتمّ، ولا يقيم للدين وزنًا، هذا في الحقيقة نقص في حق الإنسان. فليتق العلماء ربهم، وليتق المنتسبون للعلم ربهم، وليراقبوا الله فيما يقولون، وليحذروا من القول على الله بلا علم، ليحذروا من فتوى تضرّ بالأمة، وتخلّ بها. كم شباب أُفْتُوا بفتوى لم يحسنوا تطبيقها، ولم يفهموا حقيقتها، فَزَجّ بهم أولئك الآخرون بما لا بصيرة عندهم! أفتوهم بأمور هم لا يفهمون حقيقتها، ولا يدركون غاياتها، ولكنهم أفتوهم من باب الحماس والعاطفة، حتى زَجّوا ببعض شبابنا في أمور ضرّتهم في حياتهم، وعرّضت حياتهم للموت، كل هذا من أسباب الفتوى التي لم يزنها صاحبها، ولم يدرك حقيقة ما وراء ما أفتى به. فطالب العلم لابد أن يكون على بصيرة في فتواه، ولا يفتي كل من سأله إلا بعدما يفهم ويعلم ويدرك أن هذه الفتوى يفهمها من يستفتي، ولا تُسَخّر في أمور خطيرة، ولا يَنْضَرُّ بها من استفتى، فإن هذا الشباب الذي عنده حماس وحبّ للخير لابد أن يتحرّى من يفتيه، هل يفتيه بفتوى تنفعه، أمّا فتوى ربما يسوء فهمه لها، ويحملها على غير مُرَاد، ويَزَجّ بنفسه في أمور خطيرة يندم عليها بعد ذلك، فليحذر طالب العلم من هذا، وليتق الله فيما يقول، فإن البصيرة في الفتوى والأناة فيها والبحث عن غاياتها، وما وراء ذلك؛ هو المطلوب من طالب العلم الذي يفتي الناس في شرع الله.
أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يسددنا في الأقوال والأعمال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العلم (110)، ومسلم في المقدمة (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي الباب عن جماعة من الصحابة.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1291)، ومسلم في مقدمة صحيحه (4) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
[3] أخرجه الإمام أحمد (3048)، وأبو داود في الطهارة (337)، وابن ماجه في الطهارة (572)، والدارمي في الطهارة (752)، من حديث عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما مرسلاً، وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في سنده مقال، وقد حسّنه بمجموع طرقه الألباني في تمام المنة (131)، وانظر: السنن الكبرى للبيهقي (1/227)، التلخيص الحبير لابن حجر (1/394، 395).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، فنهى الله المسلمين أن يأكل بعضُهم مال بعض بالباطل، والباطل هو الأكل بالطريق غير المشروع، يأكله بكذب، يأكله بحيلة، يأكله بغشّ، يأكله بسرقة، يأكله باغتصاب ونحوه، كل هذه الوسائل وسائل لأكل أموال الناس بالباطل، يأكله بالكذب والحيلة، كيف يحتال، وكيف يكذب؟ يا إخواني، للأسف الشديد، أنّا نسمع دائمًا، ونقرأ في الصحف، نقرأ عن شركات وهمية ومساهمات لا وجود لها، شركات وهمية لا حقيقة لها، يقوم عليها رجال ـ وللأسف الشديد ـ قد يكون أولئك مظهرهم مظهر خير وتقوى، ومظهر صلاح وعبادة، ولكن ـ للأسف الشديد ـ أن الغاية سيئة، والمقصد خبيث، شركات وهمية يُغْرُون الناس بأرباح مُغْرِية، قد يعطونهم في الشهر الأول مثلاً نسبة أربعين في المائة، وفي الشهر الثاني يرغب الإنسان وربما ترك الأرباح ليزداد فيما يرى، ثم يُفاجأ بعد مدّة أن هذه الشركة قد أفلست، وأن صاحبها قد اختفى، وأن الأموال قد عُدِمت، وأن وأن... وإلى آخره.
يا أخي المسلم، إن الاحتيال والكذب ـ وإن نفعك يومًا في الدنيا ـ فإن مآله الفشل ومحق البركة والخزي في الدنيا والآخرة.
يا أخي المسلم، إياك وهذا المسلك الخبيث، إياك وهذا المسلك الوَعِر، إياك وهذه الحِيَل الباطلة، إياك أن تلقى الله بأموال المسلمين، أكلتها عليهم ظلمًا وعدوانًا وكذبًا واحتيالاً. وضعتَ شركات وهمية، وناديتَ عليها، ووثق الناس بك، أحيانًا لأنهم يرون فيك شيئًا من صلاح وتُقَى، ولكن يفاجؤون بأن الأموال قد ذهبت، أين ذهبت تلك الأموال؟ بأي طريق ذهبت تلك الأموال؟ هي لم تذهب، ولكن احتواها جيب هذا الإنسان، وأخفاها واختفى عن الناس، وقد يُعاقب ويُسجن لكن حِيَلُهُ الباطلة ومكائده الخبيثة تجعل هذا المال لا يُعلَم أين هو، ولا أين وجوده.
يا أخي، ليس المهم أن تزداد مالاً، المهم أن تسلك في التجارة الطرق الشرعية، فالوضوح والصدق هو خُلُق المؤمن، يقول النبي : ((يقول الله: أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه، فإن خان رَفَعْتُ يدي، وجاء الشيطان)) [1].
فأي شركة أقيمت، وأي مشروع مساهمة أقيم، إذا لم يكن مبنيًا [على] صدق ويقين وإخلاص وتعامل بالمعاملات الشرعية؛ فليعلم أصحابه أنهم عصاة لله، مرتكبون كبائر من كبائر الذنوب، آكلون المال ظلمًا وعدوانًا، آكلون أموال الناس ظلمًا وعدوانًا، آكلو الحرام، دعاؤهم لا يُستجاب، أعمالهم مَمْحُوقَة، أعمارهم يصابون [فيها] بالبلاء والمصائب، ويعيشون حياة شقاء، وما عند الله من العقوبة في الدار الآخرة أعظم وأعظم.
يا إخواني، إن هذه الحِيَل لا تليق بمسلم يصلّي ويصوم، ويؤمن بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا رسولاً، يقول في المُتَبَايِعَين: ((فإن هما بَيّنا وصدقا بارك الله لهما في بيعهما، وإن هما كذبا وكَتَمَا مُحِقَت بركةُ بيعهما)) [2].
فيا أخي المسلم، الصدقَ الصدقَ في الأمور كلها، الكذبُ ليس مَطَيّة المسلم، المسلم مُترفّع عن الكذب، كيف تظنّ بشخص يقول: إن هذه المساهمة عنده، وهذا المشروع عنده، يعطي ستين في المائة كل أسبوع، يطلب منهم مثلاً عشرة آلاف على أن يعطيهم أربعة آلاف أو خمسة كل أسبوع، فيظن الناس أن هذه مكاسب طيبة وأرباح سريعة وتجارة مضمونه، فينهمك الناس ويثقون، ثم يفاجؤون بأن كل ما ذُكِر لا حقيقة [له] ولا مِصْدَاقية ولا واقعية، وإنما كَذِب واحتيال وظلم للناس، هذا الضرب من الناس وإن نجوا من عقوبة الدنيا فإن الله جلّ وعلا لهم بالمرصاد يوم القيامة؛ لأنهم أكلوا أموال الناس ظلمًا وعدوانًا.
فلنتق الله في أمورنا وفي تعاملنا، وإن المسلم حقًّا من تكون معاملته معاملة صدق وأمانة وإخلاص. أسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا رحمكم الله...
[1] أخرجه أبو داود في البيوع (3383)، والدارقطني (3/35)، والبيهقي (6/78) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فإذا خانه خرجت من بينهما)) ، وليس فيه ((وجاء الشيطان)) ، وهي زيادة عند رزين. والحديث صححه الحاكم (2322)، وأعلّه الدارقطني بالإرسال، وضعفه الألباني في الإرواء (1468).
[2] أخرجه البخاري في البيوع (2079)، ومسلم في البيوع (1532) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
(1/4229)
السنَّة النبوية
الأسرة والمجتمع, قضايا في الاعتقاد
الأبناء, الاتباع
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
10/5/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة بعثة النبي. 2- حفظ القرآن والسنة. 3- رسول الله القدوة في كل خير. 4- فضل السنة النبوية. 5- المراد بالسنة في اللغة والشرع. 6- سبب ضعف المسلمين. 7- المخرج من الهوان. 8- واجب الدعوة للسنة. 9- موانع اتِّباع سنة المصطفى. 10- الوصية باغتنام الأوقات في الطاعات. 11- العناية بالأبناء ووصية للمسافرين والمصطافين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ وأطيعوه، فإنّ طاعتَه خيرٌ لكم في الدّنيا وذُخر لكم في الأخرى.
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ الله تفضَّل وتكرَّم على الخلقِ ببعثة سيِّد ولَد آدم محمد ، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. فالمسلمُ مرحومٌ رحمةً خاصّة برسالةِ محمّد ؛ لأنه آمن بها واتَّبعها وعمِل بها، والكافِر مرحومٌ رحمةً عامّة برسالةِ الإسلام؛ لأنَّ تمسُّكَ المسلمين بدينهم وتطبيقهم لتعاليمه، يخفف الله به شرَّ الكافرين، ويجَفِّف الله به منابعَ فساد المفسدين، قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251].
وقد أنزل الله على نبيّه أعظمَ كتاب، وأنزلَ عليه أعظمَ تفسيرٍ للقرآن الكريم وهو السنّة النبويّة، وحفِظَ الله القرآن والسنة من التغيير والتّبديل، وحفظهما من فاسِدِ الآراء والتأويل الباطل، وأقام الله الحجّةَ على العالمين بسيِّد المرسَلين عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهدَى الله نبينا محمَّدًا إلى أحسَن الهَدي، ويسَّره لأحسنِ السّبل وأسهل المناهج، قال الله تعالى لنبيّه: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، وروى مسلمٌ من حديث جابر قال: قال رسول الله : ((إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلُّ بدعة ضلالة)) [1].
وقد وفَّى النبيّ مقاماتِ العباداتِ كلَّها ومراتبَ الدّين، وفضائل الأعمال والخصال المحمودة والأخلاق المرضية، قد وفَّى هذه الأمورَ كلَّها حقَّها، وأتى بالغايةِ في ذلك كلِّه، فرسول الله هو القدوةُ للعابد، والقدوةُ للداعية، والقدوة للمعلِّم، والقدوةُ للحاكم، والقدوة للقائد، والقدوةُ للجنديّ، والقدوةُ للزّوج وللأب، والقدوةُ في المعاملات وفي كلِّ حالٍ يتقلّب فيه الإنسان، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وقال تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، قالت عائشة رضي الله عنها: (كان خلقُه القرآن) [2] ، أي: يعمَل به في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، ويتَّصف ويعمَل بما يدعو إليه القرآن، ويجانبُ ما ينهى عنه القرآن.
وسنّة رسول الله معالمُ هُدَى في الصراط المستقيم، يقتدي بها المسلمون، ولقد جمعت سنةُ رسول الله الفضائلَ كلَّها والخيراتِ والكمالاتِ كلَّها، فمن عمل بالسنَّة فقد جمَع الله له الخيرَ كلَّه، ومن ترك السنةَ فقد حُرم الخيرَ كلَّه، ومن ترك بعضَ السنة فقد فاتَه من الخير بقدرِ ما ترك من السنة النبوية.
وإذا كانت هذه منزلة السنة النبوية، وهذا فضلها ومكانُها السَّنيّ وشرفها العليّ، فما معنى هذه السنة؟
السنة ـ يا عباد الله ـ معناها في اللغةِ: الطريق المسلوك والعادة المتَّبعة، قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً [الإسراء:77]. ويرادُ بالسنة في الشرع: التمسّكُ والعمل بما كان عليه رسول الله هو وخلفاؤه الراشدون المهديون وصحابتُه السابقون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، كما يُرادُ بالسنة أقوالُ رسول الله وأفعالُه وتقريراته؛ لأن ذلك أصلُ الاعتقاد والعمل.
أمةَ الإسلام، إنَّ الحالَ التي وصَل إليها المسلمون يَحزَن لها قلبُ كلِّ مؤمن، وتدمع العين، وتأسى النفس، فقد تكالب عليهم الأعداءُ، ونال هؤلاء الأعداءُ من المسلمين ما يغيض المسلمين في كل مجال، واستهانوا بحقوقهم واتجرؤا عليهم واستخفوا بقيمهم، وتمادوا في الظلم والعدوان عليهم، ومزَّقت المسلمين نزعات التعصبُ المذهبي والمناهجُ الحزبية والقوميات الجاهلية والبدَع المحدثة، وأضعَفَ المسلمين تناحُرهم وتفرُّقُهم والأهواءُ الضالّة واتِّباع الشهوات المحرّمة، وليس ذلك الضعفُ والانحطاط والذُّل لقلَّة عَدد المسلمين، فهم أكثرُ أهلِ الأديان عددًا، وإنما مُصابُ المسلمين بالتقصير في العمل بدينهم، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
وإنّ الوضعَ الذي عليه المسلمون اليومَ من كيد أعدائهم لهم، وإنزالِ أنواع البلايا والمِحَن عليهم، إنّ تِلك الحالَ وذلك الوضع قد أيقظَ الهِمَمَ العالية، وأوجب النصائحَ الصادِقة أنِ ارجعوا ـ أيها المسلمون ـ إلى ربِّكم، وتوبوا إلى بارئكم، وتمسَّكوا بدينكم، واعملوا بكتابِ ربِّكم وسُنَّة نبيكم ، يرحمكم ربُّكم ويرفَع ما نزل بكم.
وإنَّ أسباب أمراضَ المسلمين قد كثُرت، وإن أسبابَ انحطاطِهم قد تعدَّدت، ومصائبهم قد توالت والعقوبات قد عظُمت، وقد يزداد الأمرُ سوءًا ولكنَّ العاقبةَ الإسلام.
إنَّ أدواءَ المسلمين ليس لها دواءٌ إلاَّ السنَّة النبوية، إنَّ اتباعَ سنةِ رسول الله والتمسّك بمنهج السلف الصالح، عِلاجُ الأمراض وزوالُ المكروهات ونزُول البركات والخيرات، والتمسُّك بالسنة هو الاجتماع ونَبذ الخلافات وتوادُّ القلوب واتفاق النيات، والتمسُّك بالسنة هو النصرُ على أعداء الحقِّ، وعلى أهلِ الغيّ والشهوات، قال بعض أهل العلم: "ما مِن بلدٍ يعمَل أهلُه بالسنّة وتظهر فيه أنوارها إلاَّ كان منصورًا ظاهرًا على عدوِّه، وما مِن بلدٍ تنطفئ فيه أنوارُ السنة إلاَّ غلَب عليه عدوُّه". وفي حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((جُعِل رزقي تحتَ ظلِّ رمحي، وجُعلت الذِّلَّة والصّغار على من خالف أمري، ومن تشبَّه بقوم فهو منهم)) [3] ، وروى أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية ، قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجلت منها القلوبُ وذرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظةُ مودِّع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله والسمعِ والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد، فإنّه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتيّ وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلّ بدعة ضلالة)) [4].
إنّ الدعوةَ للسنّة النبوية هي للناس كلِّهم، ففرضٌ على كلّ مسلم أن يقومَ بذلك، فدعوةُ المسلم لأخيه المسلم بتكميل نقصِ تمسُّكِه بالسنة، واستدراكِ ما فاته مِن العمل بالسنة، وجَبر تقصيرِه في دينه وتذكيره بغفلته وتعليمه ما يجهله، ومعاونته على الخير وتحذيره من الشر، ودعوةُ المسلم للكافر ببيان محاسنِ الإسلام وإقامة الحجّة عليه، وأن يكونَ المسلم قدوةً صالحة في دينه.
وأنتم ـ أيها المسلمون ـ في هذه البلاد عافاكم الله مما ابتُلِيت به بعض البلدان من كثير من الشرور، فاحمدوا الله على ذلك، ولكن احذَروا أن تفتَحوا على أنفُسكم أبوابَ الشرِّ الذي فُتِح على غيركم، فإن الأمة ما تزال بخير ما لم تفتح على نفسها باب الشرِّ، فإذا انفتح باب شر فلن يُغلق، واعتبروا بما وقع فيه العالَم من الفتن التي يرقق بعضها بعضا، والتي أفسدت الحياة ودمرت المجتمعات، والسعيد من وُعِظَ بغيره والشقيُّ من وُعِظَ به غيره، واحذروا التهاونَ بالذنوب، فإنها سببُ العقوبات، وليكُن المسلم في يومِه خيرًا منه في أمسِه، وفي غدِه خيرًا منه في يومه، ولا يرضَى لنفسِه بالتأخُّر في الطاعة والتساهل في المعصية.
وإياكم ـ معشر المسلمين ـ والموانعَ من اتّباع السنَّة، وأعظمُ مانعٍ من اتّباع السنةِ اتباعُ الهوى، قال الله تعالى عن المعاندين للحق: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]. وأهلُ البدَع يُسمِّيهم السلفُ أهلَ الأهواء لمباعدتهم السنَّة. وإياكم وفتنةَ الدنيا وركوبَ الشهواتِ المحرمة، فإنَّ ذلك يصدُّ عن السنة، قال الله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17]، وقال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].
وممّا يصُدُّ عن سنَّة المصطفى تقليدُ الضالّين المُضِلِّين من ذوي التعصُّب المذموم، وأربابِ الطُرُق الضالّة والأهواء المنحرفة، قال الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3].
وممّا يصُدُّ عن سنّةِ المصطفى الجهلُ بها، وفي الحديث: ((من يُردِ الله به خيرًا يفقّهه في الدين)) [5] رواه البخاري ومسلم من حديث معاوية.
فلا يحُلْ بينك وبين السنّة ـ أيها المسلم ـ حائل، ولا يصدَّنَّك عنها شيء، فإنه لا يأمَن من الشر والعقوبات ولا يفوز بالخير والجنات، إلاَّ من تمسَّك بما كان عليه رسول الله وأصحابُه، فتمسك بهذه السنَّة في كل صغيرة وكبيرة من حياتك، واحفظ من القرآن واحفظ من الحديث ما تحتاجه في عباداتك ومعاملاتك، وكلما ازددت فهو خير لك، قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الحشر:7]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال:20، 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الجمعة (867).
[2] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (746)، من حديث سعد بن هشام بن عامر في قصة طويلة، وفيها: فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت: ألستَ تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي كان القرآن.
[3] أخرجه أحمد (2/50)، وابن أبي شيبة (4/212)، وعبد بن حميد (848)، والطبراني في مسند الشاميين (216)، والبيهقي في الشعب (1199). قال الهيثمي في المجمع (5/267): "فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وثقه ابن المديني وأبو حاتم وغيرهما، وضعفه أحمد وغيره، وبقية رجاله ثقات". وعلق البخاري بعضه بصيغة التمريض في كتاب الجهاد، باب: ما قيل في الرماح. وأخرج أبو داود في اللباس، باب: في لبس الشهرة (4031) جزأه الأخير. قال ابن تيمية ـ كما في المجموع (25/331) ـ: "هذا حديث جيد". وقال العراقي في تخريج الإحياء (1/342): "سنده صحيح". وحسن إسناده الحافظ في الفتح (10/271). وله شاهد أخرجه ابن المبارك في الجهاد (105)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/216) عن طاووس مرسلا، قال الحافظ في تغليق التعليق (3/446): "إسناده حسن". والحديث صححه الألباني في الإرواء (1269).
[4] سنن أبي داود: كتاب السنة (4607)، سنن الترمذي: كتاب العلم (2676)، وأخرجه أيضا أحمد (4/126-127)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
[5] صحيح البخاري: كتاب العلم (71)، صحيح مسلم: كتاب العلم (1037).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقواه، وسارعوا إلى مغفرته ورضاه.
عبادَ الله، اغتنموا الأوقات في الأعمال الصالحات، ولا تضيعوا الأعمار بتفويت فرص القدرة على فعل الخيرات والتمكن من الحسنات، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]. وفي الحديث عن النبي : ((نعمتان مَغْبُونٌ فيهما كثيرٌ من الناس، الصِّحَّة والْفَرَاغُ)) [1]. وإذا أرخى المسلم لنفسه الزمام فلا يتعدى المباح إلى المحرم، فطوبى لمن لم يتجاوز المباح إلى المحرمات. وأحسنوا الرعاية على من ولاكم الله أمره من الرعية، فمسؤولية الأولاد مسؤولية عظيمة، فلا تتركوهم يتعرضون للشرور والضياع، ولا تغفلوا عن إصلاح بيوتكم، فإن الأسرة لبنة المجتمع، ولا ترتادوا في السياحة إلا البلاد المأمونة من الفساد، وفي بلادكم مبتغىً لمريد الاصطياف والسلامة والأمان.
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً)) [2]. فصلُّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرا...
[1] أخرجه البخاري في الرقاق، باب:لا عيش إلا عيش الآخرة (6412)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(1/4230)
ضبط الوقت وأثره في إنتاجية المجتمع
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأزمنة والأمكنة, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
10/5/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة إهدار الأوقات في الإجازة. 2- من سنن الله تعالى أن جعل الليل لباسًا والنهار معاشًا. 3- خطورة مخالفة سنن الله الكونية على الفرد والمجتمع. 4- أهمية ضبط الوقت وتنظيمه في رقي الأمم. 5- فضائل البكور وبركاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله أولى من حُمِد، وأحبِّ من ذُكِر، وأحقِّ من شُكِر، وأكرمِ من تَفَضّل، وأرحمِ من قُصِد، أحمده سبحانه وأشكره، تَعَرّف إلى خلقه بالدلائل الباهرة والحجج القاهرة، وأنعم عليهم بالنعم الباطنة والظاهرة، والآلاء الوافرة المُتَكاثِرَة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مَدَّ الأرضَ فأوسعها بقُدْرِته، وقَدَّر فيها أَقْوَاتها بحكمته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، رفع ربُّهُ ذِكرَه فأعلاه وأجَلّه، وفي أعلا المنازل أكرمه وأحَلّه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أعِزّة على الكفّار وعلى المؤمنين أَذِلّة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، بدعوتهم وطريقتهم تَتّحِد الكلمة، وترتفع أركان المِلّة، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، فالدنيا غير مأمونة، ومَن عَزَمَ على السفر والرحيل تَزَوّد بالمؤونة، ومن صَحّت نيّتُه، وأخذ بالأسباب جاءته من ربه المعونة، من عَلِم شَرَف المطلوب جَدّ وعَزَم، والاجتهادُ على قَدْر الهِمَم، والنفسُ إذا أُطْمِعَت طَمِعَت، وإذا أُقْنِعَت باليسير قَنِعَت، وإذا فُطِمَت انْفَطَمَت، اهتمّ بالخلاص أهل التُّقى والإخلاص، وفرّط المفرّطون فندموا ولاتَ حينَ مَنَاص، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، قوّة الأمّة وتقدّمها وحُسن تديُّنها مَقِيسٌ بقوة إيمانها، وجودةِ عملها، ودقّةِ تنظيمها، ومِقدَارِ إنتاجها، وحُسنِ تدبيرها، بسم الله الرحمن الرحيم: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
عباد الله، ومع هبوب رياح الصيف وحلول مواسم الإجازات في كثير من البقاع والديار، وارتباط الإجازة عند بعض الناس بالتعطيل والبطالة وإضاعة الوقت وقتله؛ يحسن الوقوف وقفة نظر وتأمّل في العمل والإنتاج وساعات العمل وحفظ الوقت وضبط ساعات العُمُر وأوقات الراحة.
إن قُدرة المجتمعات على الإنتاج والعطاء وضبطِ ساعات العمل وكَسْبِ المعاش وأوقات الراحة من أدلّ الدلائل على القوّة، بل حُسنِ الإيمان والعمل الصالح وإدراك معنى الإصلاح.
تأمّلوا ـ رحمكم الله ـ هذه الآيات من كتاب الله فيما امتنّ الله على عباده من تهيئة أسباب المَعَاش من أجل حُسن المَعِيشَة، يقول عزّ شأنه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الأعراف:10]، ويقول عزّ من قائل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]، وقال جلّ وعلا: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون [الجمعة:10].
ثم تأمّلوا التنبيهَ على أوقات العمل وساعاته والراحة ومواعيدها، يقول سبحانه: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:9-11]، ويقول جلّ في عُلاه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [الإسراء:12]، ويقول جلّ وعلا: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا [الفرقان:47]، ويقول في حقّ نبيّه محمد : إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً [المزمل:7].
أيها المسلمون، هذه هي آيات الله، وتلك هي سُننه في الليل وفي النهار وفي البشر، ولكنّ المتابع لمسالك بعض الناس ـ وبخاصّة في منطقتنا ومحيطنا في كثير ٍمن أفراد مجتمعنا ـ ليَدْهَشُ ويأسَى مما يلْفِتُ نظرَه من الغفلة عن هذه السُّنّة الإلهية والآية الربّانية، حين ينقلب عندهم الحال، فيجعلون نهارَهم سُبَاتًا، وليلَهم مَعَاشًا، بل لهوًا وعَبَثًا، إنه انتكاسة وانقلاب، بل فوضى واضطراب، وآثاره على الحياة والأحياء خطيرة في الإنتاج والصلاح والإصلاح، صحّية وبيئيّة وأمنيّة واقتصاديّة واجتماعيّة وغيرها. نعم أيها الإخوة الأحبّة، إن مما يأْسَى له الناظرُ أن ترى أُسَرًا بأكملها، أو مُدنًا بكلّ أهلها، صغارِها وكبارِها، رجالِها ونسائِها؛ قد قلبوا حياتهم، وانقلبوا في مَعَاشهم، فيسهرون ليلَهم، ثم يصبحون في نهارهم غير قادرين على العمل والعطاء، سواءً أكانوا طُلابًا أم موظّفين، وسواءً أكانوا في أعمال خاصّة أم عامّة، فهم ضعفاء في الإنتاج، ضعفاء في المشاركة، مُقَصّرين في الأداء، مُفَرّطين في المسؤولية، لا ترى إلا ذُبُولَ الحاجِبَين، واحمرارَ العينين، قد أخذ منهم النُّعَاسُ والكسلُ كلَّ مَأخَذ، ضَعْفٌ في الجسم، ووَهَنٌ في القُوى، وقلّة في التركيز والأداء.
إن ظاهرة عكس السُّنن وتحويل وظائف النهار إلى الليل دليلٌ على التَسَيُّب والفوضى وضياع الضابط في الناس، بل قد تكون دلالةً من دلالات التَّرَهُّلِ المُهْلِك، والاتِّكاليّة المُدَمِّرة، وكأنّه لا هَمَّ لهم إلا تلبية أهوائهم ومُشْتَهَيَاتِهم، مُنْصَرِفين أو مُتَعَامِين عن حقيقة وجودهم، وطبيعةِ رسالتهم، وعظيمِ مسؤوليتهم، والجدِّ في مسالكهم. ويكفي المُخْلِصَ الصادقَ الناصحَ لأمته أن يُجِيل نظرَه في مجموعة من هذا الشباب التائه الضائع الذي يعيش على هامش الحياة، بل على هامش الزمن، في الليل مستيقظٌ بلا عمل والأمم الحيّة العاملة نائمة، ويكون نائمًا والأمم الحيّة العاملة مستيقظةٌ ساعَيِةٌ كادَّةٌ جادَّةٌ. ومع الأسف فإن الناظر المتأمّل لا يكاد يجد ناصحًا أو منكرًا لهذه المسالك التي لا تُحْمَد عُقْبَاها، بل إن عاقبتها خُسْرٌ في الأبدان والأموال والثمرات؛ مما يستدعي قرارًا حازمًا يردّ الناس إلى الصواب؛ ليكون الليل سَكَنًا وسُبَاتًا، ويكون النهار عملاً ومعاشًا.
ثم ماذا إذا صار الليلُ حركةً وعملاً لا نومًا ولا سُبَاتًا ولا سَكَنًا؟ سوف يزداد الصَّرْف والاستهلاك في كل المرافق، في مائها وإضاءاتها وطرقها وصيانة ذلك كله ونظافته، بل إن الأجهزة سوف تعمل فوق طاقتها ليلاً ونهارًا، مما يتولّد عنه الضعفُ والتَّسَيُّبُ والعَجْزُ والضَّجَرُ، ومن ثَمّ المشكلات الأمنيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها.
معاشر المسلمين، إنّ أول مَدَارِج الإصلاح ـ والأمة تبتغي الإصلاح والانتظام في صفوف الأمم القويّة العاملة الجادّة ـ إنّ أول ذلك القدرة على ضبط أنفسنا وأبنائنا، والتحكّم الدقيق في ساعات عملنا. إن هذه الانتكاسة التي شملت الموظّفَ والمسؤولَ والطالبَ والمعلّمَ والرجلَ والمرأةَ تحتاج إلى وقفة صادقة جادّة، وقرارٍ حاسمٍ يعيد الناس إلى الجادَّة، بل يعيدهم ليكونوا أسوياء يعملون كما يعمل الناس في كل بلاد الدنيا. ولا مُسَوّغ البتَّةَ للاحتجاج بالظروف الاجتماعية أو المناخية؛ لأنّ سُنن الله في الليل والنهار عامّة، تَنْتَظِم البشرَ كلَّهم في مجتمعاتهم ومَنَاخَاتهم وقارّاتهم، فربُّنا جعل الليلَ سَكَنًا، وجعل النهارَ مَعَاشًا، ومحا آيةَ الليل، وجعل آية النهار مُبْصِرَة؛ لابتغاء فضله سبحانه، وذلك لأهل الأرض كلهم، بل جاء الخطاب في قوله سبحانه بعد أداء صلاة الجمعة: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، وهذا لا يكون إلا بعد الظهر وفي شدّة حرارة الشمس في الصيف، وهو خطاب تَنَزّل أول ما تَنَزّل على العرب في جزيرتهم.
إن من أهمّ آليّات الإصلاح الذي ينادي به المصلحون المُخْلِصُون النظرَ الجادّ في هذه القضية، وإعادةَ ترتيب ساعات العمل، وحملَ الناس على ذلك، وأَطْرَهم عليه أَطْرًا، حتى يتحوّل المجتمع إلى مجتمع مُنْضبِط عامل مُنْتِجٍ يحسن توظيف قدراته ومواهبه ومؤهّلاته وكفاءته في كل طبقاته رجالاً ونساءً وشبابًا وكهولاً، يجب أن يكون المجتمع نَهَارِيًّا لا ليلِيًّا، فلا عمل في الليل إلا في حدود ضيّقة في بعض الأعمال الخاصّة من حراسة ومُنَاوَبة وأَشْبَهِها.
أيها المسلمون، إن أول ما يجب التطلّع إليه أن تكون الأمةُ أمةَ بُكُور، في بُكُور الصباح تغدو مخلوقاتُ الله وأممُ الأرض كلُّها تبتغي فضل الله، إن يومكم الإسلامي ـ أيها المسلمون، أيها الشباب ـ يبدأ من طلوع الفجر، وينتهي بعد صلاة العشاء، قال بعض السلف: "عجبت لمن يصلي الصبح بعد طلوع الشمس كيف يُرزق؟"، وأصدق من ذلك وأبلغ قول نبينا محمد في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة وابن عمر وصَخْر بن وَدَاعَة رضي الله عنهم في قوله : ((اللهم بارك لأمتي في بُكُورها)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه [1] ، ولفظ أبي هريرة: ((بُورِك لأمتي في بُكُورها)) [2] ، وكان صَخْر راوِ الحديث لا يبعث غلمانه إلا من أول النهار، فكَثُر مالُه حتى كان لا يدري أين يضعه.
يومكم الإسلامي ـ يا أهل الإسلام ـ مُرتَبِطٌ ومُفْتَتَحٌ بصلاة الصبح، وفيها قرآن الفجر: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]. يستقبل بها المسلمُ يومَه، ويستفتح بها نهارَه وعملَه، دعاه داع الفلاح، فالصلاة خير من النوم. استشعر عبودية ربّه والإيمان والعمل الصالح، يرجو البركة ونشاط العمل وطِيب النفس، نعم طِيب النفس ونشاط البدن مِصْداقًا للحديث المتّفق عليه، إذ يقول : ((يَعْقِدُ الشيطانُ على قافِيَة رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَد، ويَضْرِبُ على مكان كل عُقْدَة: عليك ليلٌ طويلٌ فارْقُد، فإن استيقظ وذكر الله انحلّت عُقْدَةٌ، فإن توضّأ انحلّت عُقْدَةٌ، فإن صلّى انحلّت عُقْدَةٌ، فأصبح نشيطًا طَيّب النفس، وإلا أصبح خبيثَ النفسِ كَسْلانَ)) [3]. ومن صلّى الصُّبْح فهو في ذمّة الله. ولقد ذُكِر عند النبي رجلٌ فقيل: ما زال نائمًا حتى أصبح، ما قام إلى الصلاة! فقال رسول الله : ((ذاك رجلٌ بال الشيطان في أذنه)) أخرجه البخاري [4].
أهل البُكُور قوم موفّقُون، وجوههم مُسْفِرَة، ونَوَاصِيهم مُشْرِقة، وأوقاتُهم مُباركة، أهل جِدّ وعمل وسعي، يأخذون بالأسباب مُفَوّضين أمرهم إلى ربّهم، متوكّلين عليه، فهم أكثر عملاً، وأعظم رضًا، وأشدّ قناعة، وأرسخ إيمانًا، والبركات فُيُوضٌ من الله وفُتُوحٌ، فتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، لا تقع تحت حَصْر لا في عمل ولا في عَدَد ولا في صورة ولا مكان ولا زمان ولا أشخاص، بركات من السماء والأرض، بركات بكل أنواعها وألوانها وصورها، مما يَعْهُدُ الناسُ ومما لا يعهدونه. فاستقيموا ولن تُحْصُوا، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل:20].
عباد الله، وحين يترك الناس البُكُور، ويُهْمِلون الساعات المباركة؛ تصبح أوقاتهم ضيّقة، وصدورهم حَرِجَة، وأعمالهم مُضْطَرِبة.
وبعد، فهذا هو ديننا، وهذا هو نهجنا، وهذه هي إرشادات نبيّنا، فلماذا يسبقنا الآخرون؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:19-21].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد. وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي لكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه من حديث صَخْرِ بنِ وَدَاعَةَ الغَامِديِّ: الإمام أحمد (15012)، وأبو داود في الجهاد (2602)، والترمذي في البيوع (1212)، وابن ماجه في التجارات (2236)، قال الترمذي: "وفي الباب عن علي وابن مسعود وبُرَيدة وأنس وابن عمر وابن عباس وجابر... وحديث صخر الغامدي حديث حسن، ولا نعرف لصخر الغامدي عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث، وقد روى سفيان الثوري عن شعبة عن يعلى بن عطاء هذا الحديث"، وصححه لغيره الألباني في صحيح الترغيب (1693).
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (1/229)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2841).
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (1142)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (776) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (1144)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (774) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المُتَفَرِّد بالقُدْرة، أحمده سبحانه لا تُقَدِّرُ الخلائقُ قَدْرَه، وأشكره على نعمٍ لا تُحصى، ولا يُطيقُ العبادُ شُكْرَه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، جَلّ صفةً، وعزّ اسمًا، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله علا شرفًا وإلى ذُرَا الأخلاق سَمَا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا على الحق أعلامًا، وعلى الهُدَى أنْجُمًا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلّم تسليمًا.
أما بعد: أيها المسلمون، البُكُور استقامة مع الفطرة في المخلوقات والأشياء، والتبكير دليل قوّة العَزْم وشدّة التّشْمِير، ومن أراد علمًا أو عملاً فليُبَادر بالبُكُور، فذلكم علامة اليقظة والنّباهة والجدّ والحَزْم والبُعْد عن الغفلة والإهمال والفوضى، روى مسلم في صحيحه أن رجلين جاءا إلى عبد الله بن مسعود يزورانه بعد الفجر، فأذنت لهم الجارية بالدخول فترَدّدَا، فقال لهما عبد الله بن مسعود: (ادخلا، أتظنان بابن أمّ عَبْدٍ الغفلةَ؟!) [1].
في البُكُور صفاء الذهن، وجودة القَرِيحَة، وحضور القلب، ونَقَاء النفس، ونور الفكر، فيه استجماع القُوى، واستحضار المَلَكَة، وانبعاث الفُتُوّة. في البكور الهواء أنقى، والعبد أتقى، والنفس أطيب، والروح أزكى. نسائم الصباح لها تأثيرها اللطيف على النفس والقلب والبدن والأعصاب، والجسم يكون في أفضل حالاته وأكمل قواه. من غريب ما قالوا: إن أصحاب الأعمار الطويلة هم من القوم الذين يستيقظون مُبَكّرين. بل قالوا: إن الولادات الطبيعية في النساء تقع في ساعات النهار الأولى الباكرة. بل إن بعض الباحثين يُرْجِع الاكتئاب والأمراض النفسيّة إلى ترك البُكُور ونوم الضُّحَى.
وبعد، فتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ حين يجتمع للعبد العاملِ الجادِّ البُكُور والبركة، بركة المال، وبركة العمل، وبركة الوقت، فينتفع بماله، ويُفْسَحُ له في وقته، ويُقْبِل على عمله، فينجز في الدقائق والساعات ما لا ينجزه غيره ممن لم يُبارَك له في أيام وليالي، يُبارَك له فيكون الانشراح والإقدام والإقبال والرضا والإنجاز.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، والزموا سُنَنَ الله، وخذوا بالجدّ من أعمالكم، والحَزْم من أموركم، يُكتَب لكم الفلاح في الدنيا والآخرة، فحيّ على الفلاح، فالصلاة خير من النوم.
[1] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (822).
(1/4231)
القلوب بين الخشية والقسوة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية, القرآن والتفسير, المسلمون في العالم
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
10/5/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات القلب المنشرح. 2- صفات القلب القاسي. 3- الاعتداء على القرآن بين أعداء الماضي والحاضر. 4- العمل بالقرآن هو السبيل لحفظه من الأعادي. 5- استمرار المحاولات الإسرائيلية لتهويد القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:22-24].
أيها المؤمنون، في الآية السابقة لهذه الآيات بيّن الله تعالى أنه يُنَزّل الماء من السماء، فيُنْبِتُ به للناس زرعًا مختلفًا ألوانه، وفي هذه الآيات يبيّن أنه أنزل ذِكْرًا تَتَلَقّاه القلوبُ الحيّة، فتَتَفَتّح وتنشرح، وتتلقّاه القلوب القاسية، كما تَتَلَقّاه الصخرةُ القاسية التي لا حياة فيها ولا نَدَاوَة.
نعم، إن الله تعالى يشرح للإسلام قلوبًا يعلم منها الخير، ويَصِلُها بنوره فتُشرِق به وتستضيء، والفرق بين هذه القلوب وقلوب أخرى قاسية فرق بعيد: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22]. حقًّا إن الصدور التي يشرحها الله تعالى للإسلام، ويمدّ لها من نوره ليست قطعًا كالقاسية قلوبهم من ذكر الله، وشَتّان شَتّان بين هؤلاء وهؤلاء. والآية عامّة فيمن شرح الله صدره بخلق الإيمان فيه.
وروى مُرّةُ عن ابن مسعود قال: قلنا يا رسول الله، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22]، كيف ينشرح صدرُهُ؟ قال: ((إذا دخل النورُ القلبَ انشرح وانفتح)) ، قلنا: يا رسول الله، وما علامة ذلك؟ قال: ((الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغُرور، والاستعداد للموت قبل نزوله)). فذكر صلوات الله وسلامه عليه خِصَالاً ثلاثة، ولا شكّ أن من كانت فيه هذه الخِصَال فهو الكامل الإيمان، فإن الإنابة إنما هي أعمال البِرّ؛ لأن دار الخلود إنما وُضِعت جزاءً لأعمال البِرّ، ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع [من] تنزيله، ثم قال عَقِب ذلك: جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [لقمان:14]. فالجنة جزاء الأعمال. فإذا انشغل العبد في أعمال البِرّ فهو إنابته إلى دار الخلود. وإذا خمد حرصه على الدنيا، وكفّ عن طلبها، وأقبل على ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع، فقد تجافى عن دار الغُرور، وإذا أحكم أموره متأدّبًا متثبّتًا حَذِرًا، يَتَورّع عما يَرِيبُه إلى مالا يَرِيبُه؛ فقد استعدّ للموت، وإنما صارت له هذه الرؤية بسبب النور الذي دخل القلب.
وفي شأن القاسية قلوبُهم جاء عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((قال الله تعالى: اطلبوا الحوائج من السُّمَحَاء؛ فاني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم؛ فإني جعلت فيهم سخطي)). وقال مالك بن دينار: "ما ضُرِب عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم".
أيها المؤمنون، وتُصوِّرُ الآية حال وهيئة تلقّي المؤمنين لهذا القرآن، هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته، ولا في روحه ولا في خصائصه، فهو مُتَشَابِه، وهو مَثَاني تتكرّر مقاطِعُه وقصِصُه وتوجيهاتُه ومشاهدُه، ولكنّها لا تختلف ولا تتعارض، إنما تُعَاد في مواضع متعدّدة لا تعارُض فيها ولا اصطدام. والذين يخشون ربهم ويتّقونه، ويعيشون في حذر وخشية، وفي تطلّع ورجاء، يتلقّون هذا القرآن في وَجَل وارتعاش، وفي تأثّر شديد تَقْشَعِرُّ منه الجلود، ثم تهدأ نفوسُهُم، وتأنس قلوبُهم بهذا الذكر، فتَلِينُ جلودُهم وقلوبُهم، وتطمئن إلى ذكر الله: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
أيها المسلمون، قال سعد بن أبي وقّاص: قال أصحاب رسول الله : لو حدثتنا. فأنزل الله عز وجل: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر:23]، فقالوا: لو قصصت علينا. فنزل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف:3]، فقالوا: لو ذَكّرْتَنا فنزل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحشر:16]. وهكذا كان أصحاب النبي إذا قُرِئ عليهم القرآنُ تدمع أعينهم، وتقشعِرُّ جلودُهم.
وعن زيد بن أسلم قال: قرأ أُبيّ بن كعب عند النبي ومعه أصحابه فَرَقُّوا، فقال النبي : ((اغتنموا الدعاءَ عند الرِّقَّة؛ فإنها رحمة)). وعن العباس أن رسول الله قال: ((إذا اقْشَعَرَّ جلدُ المؤمن من مخافة الله تَحَاتَّت عنه خطاياهُ كما يَتَحَاتُّ عن الشجرة البالية ورَقُها)). وعن [ابن عباس]: ((ما اقْشَعَرّ جلدُ عبدٍ من خشية الله إلا حرّمه اللهُ على النار)). وعن ثابِت البُنَاني قال: إني لأعلم متى يستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقْشَعَرّ جلدي، ووَجِل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حينئذ يُستَجاب لي.
أيها المؤمنون، ثم يعرض القرآن الكريم ما ينتظر أهل الضلال يوم القيامة في مشهد بائس في موعد حصاد الأعمال: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:24]. والإنسانُ يَقِي وجهَهُ عادة بيديه وجسمه، فأمّا في هذا الموقف فهو لا يملك أن يدفع عن نفسه النار بيديه ولا برجليه، فيدفعها بوجهه، ويتّقي به سوءَ العذاب، مما يدلّ على الهول والشدّة والاضطراب. وفي زحمة هذا التعذيب وهذا العذاب يتلقّى التأنيب: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر:24].
أيها المؤمنون، إن القرآن الكريم هو هديّة السماء إلى الأرض، هديّة الله تعالى إلى العالمين من الإنس والجن، إنه الهادي إلى الصراط المستقيم، والمُخْرِج من الظلمات إلى النور، وهو حبل الله المتين، والنور المبين، عصمة لمن تمسّك به، ونجاة لمن سار على نهجه وتعاليمه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ولكنّ أبصار وبصائر المشركين والكفّار قد عميت وضلّت عن إدراك هذه الحقائق وقت نزوله، فوصفوه بصفات هو منها بَرَاء، قالوا عنه: إنه أساطير الأوّلين، وقالوا عنه: إنه سحر مبين، وقالوا عنه: إنه شِعْر، إلى غير ذلك مما قالوا ظلمًا وافتراءً. فانتشر نورُه في الآفاق، وعَمّ خيرُه أرجاء المعمورة، وخشعت وتصدّعت الجبال من عظمته، فرجع الكافرون والملحِدُون القَهْقَرَى، يجرُّون وراءهم أذيال الخِزي والعار، ولكن سُرعان ما عاد الكثير منهم إلى صوابه، ودخلوا في دين الله أفواجًا؛ لأنهم أدركوا الحقيقة.
واليوم يحاول بعض الأقزام ـ عَبَثًا ـ من سَفَلَةِ القوم وسفهائهم أن ينالوا منه من جديد، فمرّة يكتبون على غِرَارِه ما أطلقوا عليه الفُرقان الحق، ومرّة عن طريق تدنيس أوراقه والمسّ بقُدْسِيّته، ومرّة عن طريق تفسيره الخاطئ بغير علم، مُتَنَاسين أنه كلام الله العليّ القدير الجبّار السميع العليم القاهر العزيز الحكيم.
إن هذه المحاولات والممارسات من قِبَل هؤلاء الطغاة المجرمين تُثبِت ـ وبدون أدنى شك ـ العداءَ للإسلام والمسلمين، ولذلك لم يكن غريبًا أن تعمّ موجاتُ غضب عارِمة الشارعَ العربي والإسلامي احتجاجًا على هذه الجرائم البَشِعة والأفعال المشِينة. وأقول: إن العرب والمسلمين إذا أرادوا تعظيم القرآن والحيلولة دون المسّ به، أو مجرّد التفكير بذلك، فعليهم أن يحفظوه بقلوبهم وصدورهم، ويطبّقوا تعاليمه وأحكامه في شؤون حياتهم، وأن يتمَثّلوه عقيدة وعملاً وسلوكًا، عندها لن يَجْرُأ أحد مهما كانت قوّته وجبروته على النيل منه بأي وسيلة كانت، لأن المبادئ والعقائد تثبت بثبات وقوة أصحابها، وصَدَقَ العظيمُ القائل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وهذا وعد من الله تعال،ى ولن يُخلِف اللهُ وعدَه. ويقول أيضًا: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المرابطون، ما زالت وسائل الإعلام تطالعنا بما تنوي بلديةُ القدس والحكومة الإسرائيلية القيامَ به من إجراءات عمليّة؛ لتنفيذ عمليات هدم منظّمة للمباني في مدينة القدس وضواحيها. والجدير بالذكر أن بعض هذه المباني والمنازل شُيّد قبل قيام إسرائيل واحتلال مدينة القدس، والبعض الآخر مُشيّد قبل عشرات السنين. والتبريرات لعملية الهدم جاهزة، وهي عدم وجود ترخيص لهذه المباني.
ومطالعتنا لهذه الإجراءات التعسُّفِية والقرارات الظالمة تتمثّل بالآتي:
أولاً: يبدو أن هذه الحملة لهدم البيوت في مدينة القدس وتهجير سُكّانها منها تُعتبر الأوسعُ والأكبرُ منذ احتلال المدينة عام سبعة وستين؛ لتنفيذ مخطط التهويد للمدينة المقدسة.
ثانيًا: لوحظ أن سلطات الاحتلال عمدت منذ عام سبعة وستين إلى عدم وضع خرائط هيكلية لمدينة القدس الشرقية بهدف منع البناء فيها، مما يضطر السكّان الشرعيين إلى البناء بدون ترخيص بسبب النمو السكّاني الطبيعي خلال السنوات الماضية. وهنا نسأل ونقول: إن لم يقم هؤلاء السكان الشرعيّون ببناء مساكن لهم ولأبنائهم وذويهم فأين يسكنون؟! وأين يعيشون؟! بل وكيف يعيشون؟! هل يفترشون الأرض، ويلتحفون السماء، أم يصعدون إلى الفضاء ـ ولا يستطيعون ـ؟!
ثالثًا: تَمّ الكشف مؤخّرًا عن وثيقة وُضِعت [عام] سبعة وسبعين تقضي بتحويل كافة المناطق المحيطة بالبلدة القديمة إلى حدائق عامة بُغْيَة السيطرة على الأحياء العربية المحيطة بها وتفريغها من سكّانها، وعليه فالأمر الذي يُخشَى منه أن لا تتوقّف الأمور عند هذا الحد، بل تتعدّاه لتطال الكثير الكثير، وهذه الإجراءات تعتبر تهديدًا واضحًا ومَسًّا شنيعًا بمكانة المسجد الأقصى ومستقبله.
إن هذه الإجراءات التعَسُّفِيّة يبدو أنها لم تعد تقتصر على الاستيلاء على الأراضي العربية في القدس وفي غيرها، وبناء المستوطنات عليها، وتجريفها وقلع أشجارها وحرقها، وإقامة الجدار العازل على الأراضي الفلسطينية، نعم لم تعد هذه الإجراءات مقتصرة على ذلك، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الممارسات لبعض المؤسسات الإسرائيلية الخدماتية في القدس الشرقية. وعليه فإننا نشجب ونستنكر كل هذه الإجراءات والممارسات غير الإنسانية، ونهيب بأهلنا في القدس وغيرها بأن يثبتوا ويرابطوا في أرضهم ووطنهم. ولمواجهة كل هذه الأخطار ندعو إلى توحيد الصفوف، ولَمّ الشَّمْل، ونَبْذ الخلافات الداخلية، ووَأْد الفتنة في مهدها. وندعو إلى الانضباط والمحافظة على النظام والقانون، والبُعْد عن أخذ القانون باليد، ووضع حدّ للتسَيُّب والانفلات الأمني قبل أن تتطور الأمور أكثر فأكثر، وعندها ـ لا سمح الله ـ تحدث أمورٌ لا تُحمَد عُقْباها.
أيها المرابطون، لقد آن الأوان أن يدرك العالم العربي والإسلامي، بل والعالم أجمع مدى الخطر الذي تتعرّض له المقدسات، وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك، ومدى الاضطهاد الذي يتعرّض له الفلسطينيون على جميع المستويات، فيعمل هؤلاء جميعًا على رفع الظلم عنهم، وحماية الإنسان والأرض والمقدسات من الأخطار.
(1/4232)
الجنة والنار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
17/5/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خَلق الخليقة. 2- إحصاء الله تعالى لأعمال العباد. 3- الجزاء من جنس العمل. 4- استدامة السلف لذكر الجنة والنار. 5- الحاجة إلى ذكر الجنة والنار. 6- صفة الجنة ونعيمها. 7- صفة النار وعذابها. 8- التحذير من الاغترار بالدنيا. 9- الأمن نعمة عظيمة، والمحافظة عليه مسؤولية الجميع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بَعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ تقواه، وتمسَّكوا بها، فنِعمَ العملُ والذُّخر والفَوز في دنيا العبدِ وأخراه.
أيّها المسلمون، لقَد خلقَ الله الخَلقَ لتنفُذَ فيهم قدرتُه، وتجرِيَ عليهم أحكامُه الشَّرعيّة والقدَريّة، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]. خلَقَ الكونَ بالحقِّ ليُطاعَ الربُّ، ويُعمَر الكونُ بالصَّلاح والإصلاح، وجعَل الله للمكلَّفين مشيئةً واختِيارًا أناطَ به التّكليفَ، ولا يخرُج العبدُ بتلك المشيئةِ عن قدرةِ الله ومشيئتِه، فمَن وافقَ مرادَ الله المحبوبَ لَه وعمِل بالحقّ الذي لأجلِه خلَقَ الكونَ، وأطاع ربَّه جَزاه الله الجزاءَ الحسَن في الدنيا وفي الآخرة، كمَا قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]. ومَن ضادَّ مُرادَ الله المحبوبَ له، وعارَضَ شريعةَ الإسلام وعصَى ربَّه، عاقبَه الله في الدنيا والآخرة، قال عزّ وجل: فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123، 124].
وأعمالُ العِباد مُحصاةٌ عليهم صَغيرُها وكبيرُها ليُجازَوا عليها، كما عز وجل: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]. فالجزاءُ الحَقِيقيّ الدّائمُ في الآخِرة، وأمّا الدّنيا وإن كان فيها جَزاءٌ على الخير أو على الشرّ فإنّه جزاءٌ قليل وجزاء منقطِع، تتصرّم أيّامُه وتسرِعُ ساعاتُه، حتّى إنّ عُمرَ الدنيا كلِّها يراه العُصاةُ مِقدارَ ساعةٍ من نهارٍ، قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ [الروم:55]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [يونس:45]. ولكنَّ الجزاءَ الأبديَّ السّرمديّ الذي لا ينقطِع في الآخرةِ؛ إمّا دارُ نعيم وإمّا دار جحيم.
والجزاءُ بالجنّة على الأعمالِ الصالحة والعقابُ بالنار على الأعمالِ الشّرِّيرة، في غايةِ المناسَبَة والمجانسة والعدل من رب العالمين، فإنّ الجزاءَ من جِنس العمَل، فكلمّا كانَت الأعمالُ صّالحة كان الجزاء أعظم، ولمّا كانَت الأعمالُ الصّالحة تتنوّعُ في حقائقِها ومنافِعِها، كان نعيمُ الجنّة منوَّعًا في حقائقِه ومنافِعه وطُعومِه ولذّاتِه، ولما عَبَد أهلُ الجنّةِ ربَّهم بالغَيب ولم يرَوه تجلَّى الله لهم، فأكرَمهم بلذَّة النظر إلى وجهِه الكريم، وأسمَعهم جلالَ كلامِه العظيم، ولمّا علِم الله مِنهم العَزمَ والتَّصمِيم والإرادةَ الجَازِمة على دَوام عبادةِ الله وطَاعتِه أبدًا، أدامَ الله عليهم النّعيمَ المقيمَ، قالَ تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108]. ولما كانَت الأعمالُ الشرِّيرة تتنوَّع في حقائِقها المُرَّة ومَضارّها وخُبثِها وشَرِّها على الناس وعلى الكون، كانَ عذابُ النار منوَّعًا في شِدَّتِه وألمِه ومَرارتِه بحسَب الأعمال، ولما حجَبوا قلوبَهم عنِ الهدَى والإيمانِ احتجَب الله عن أهل النار فلا يرَونَه، قال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]. ولما علِم الله أنّ أهلَ النّار دائمو العَزمِ والإرادة على الكفرِ والمعاصي، وأنهم إِن رُدّوا إلى الدنيا عَادوا إلى الكفرِ والمعَاصي، لما علِم الله منهم ذلك أدامَ عليهم العذابَ الأليمَ، قال عز وجلّ: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27، 28].
عبادَ الله، إنَّ أصفَى ساعاتِ المسلم وأفضلَها وأرقى درجاتِه أن يستوليَ على قلبه الطمَعُ في الجنةِ والخوفُ من النار، وقد كان السّلفُ الصالح رضي الله عنهم يغلِب على قلوبهم الخوفُ من النّار والطمعُ في الجنّة، فصَلحت أعمَالهم واستنارت سرائرهم.
هذا عبدُ الله بنُ رواحة يودِّع أصحابَه في غزوةِ مؤتَة، فيبكِي ويقال له: ما يبكِيك؟ فقال: والله، ما أبكي صَبابةً بِكم ولاَ جزَعًا على الدّنيا، ولكن ذكَرتُ قولَ الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فكيف لي بالصَّدرِ بعد الورود؟! [1]. وعُمير بن الحمام لما قال النّبيّ في غزوةِ بَدر: ((قوموا إلى جنّةٍ عرضُها السموات والأرض)) كان في يدِه تمراتٌ فرمى بهنّ، وقال: لئِن بقيتُ حتى آكلَ تمراتي هذه إنها لحياةٌ طَويلة، فقاتل حتى قُتِل [2]. وأنسُ بن النّضر قال: (إني لأجِدُ ريحَ الجنّةِ مِن دونِ أُحُد) [3].
والكلامُ عنهم في هذا يطول، ونحن بحاجةٍ إلى ذكر الجنة والنّار في قلوبِنا ونوادينا وفي ليلنا ونهارنا لتستقيمَ أحوالنا وتصلح أعمالُنا، ولا سيّما في هذا العصرِ الذي طغت فيه المادّة، وتظاهرت الفتَن، وقلَّ الناصحُ، وضعُف الإيمان، وتزيّنت الدنيا بزُخرفها وزهرَتها، وأثقلتِ الكواهلَ بكثرةِ مطالبها، وأرهقتِ الأعصابَ بتشعُّب حاجاتها، حتى صار التحابُّ من أجلِها والتباغُض من أجلها والتواصُلُ لها والتقاطُع لها إلا من شاء الله تعالى، فكانت أكبرَ ما يصُدُّ عن الآخرة، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7، 8].
الطّمَع في الجنّة قائِد، والخَوفُ من النّار زاجِرٌ وسائق. الجنّة حُقَّ أن يطلبَها المسلمُ جُهدَه، ففيها ما لا عينٌ رأَت ولا أذُنٌ سمعَت ولا خطَر على قَلبِ بَشَر، عن أسامة بن زيد قال: قالَ رسول الله : ((ألا هَل مشمِّرٌ للجنة، فإنّ الجنةَ لا خَطَر لها، هي ـ ورَبُّ الكعبةِ ـ نورٌ يتلألأ، وريحانَة تهتزّ، وقَصرٌ مَشيد، ونهر مُطَّرِد، وثمرةٌ نضيجَة، وزوجةٌ حسناء جميلة، وحُلَلٌ كثيرة، ومَقامٌ في أبَد في دارٍ سليمَة، وفَاكهةٍ وخُضرة وحَبرة ونِعمَة في محَلَّةٍ عالية بهيَّة)) ، قالوا: نعَم يا رسولَ الله، نحن المشمِّرون لها، قال: ((قولوا: إن شاءَ الله)) ، فقال القوم: إن شاء الله. رواه ابن ماجه وابن حبان في صحيحه والبيهقي [4].
وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((بِناءُ الجنة لبنةُ ذهَب ولبنَة فِضّة، وملاطُها المِسك ـ وهو ما يكون بين اللَّبِن ـ ، وحصباؤُها اللّؤلؤ والياقوت، وترابُها الزّعفران، ومَن يدخُلها ينعَم ولا يبأس، ويخلُد ولا يموت، ولا تبلَى ثيابُه، ولا يفنى شبابُه)) [5].
وعن أبي موسى الأشعري عن النبيِّ قال: ((إنّ للمؤمنِ في الجنّةِ لخيمةً مِن لؤلؤةٍ واحِدة مجوّفة، طُولُها في السّماءِ سِتّون ميلاً، للمؤمِن فيها أهلون يطوف عليهم المؤمِن، فلا يَرى بعضُهم بعضًا)) رواه البخاري ومسلم [6].
وأمّا شرابُهم فكما قال الله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:15].
وعن أبي هريرةَ قال: قالَ رَسول الله في أزواجِ أهلِ الجنّة: ((يضَع أحدُهم يدَه بَين كتفَيها، ثم ينظُر إلى يده من صدرِها من وراءِ ثِيابها وجِلدِها ولحمِها، وإنّه لينظُر إلى مُخِّ ساقِها كمَا ينظُر أحدكم إلى السِّلك في قصَبةِ الياقوت، كبِدُه مرآةٌ لها، وكبدُها مِرآة له)) رواه أبو يعلى والبيهقي [7].
وعن أنسِ بنِ مالكٍ يرفعه: ((إنّ أسفلَ أهل الجنّةِ أجمعين مَن يكون على رأسِه عشرةُ آلاف خادِم، معَ كلِّ خادمٍ صحفتان: واحدةٌ من ذهَب وواحدةٌ من فضّة، في كلّ صَحفةٍ لونٌ ليس في الأخرى مثلُها، يأكل من آخرِه كما يأكل من أوَّله، يجِد لآخرِه من اللذَّة والطّعم ما لا يجِد لأوّلِه، ثم يَكونُ فوقَ ذلك رشحُ مِسكٍ وجُشاء مِسك، لا يبولون، ولا يتغَوّطون، ولا يمتخِطون)) رواه الطبراني وابن أبي الدنيا [8].
وقد وصَف الله تعالى ما في الجنّةِ من النعيمِ المقيم في كتابِه بما لم يُوصَف في كتابٍ منزَّل، ووصف ذلك رسولُ الله بما لم يصِفه نبيّ لأمته؛ لنعمَلَ بأعمالِ أهلِ الجنّة ولنسارعَ إلى الخيرات ونطلبَ جنةَ ربِّنا بجُهدَنا، ونَسأل الله تبارك وتعالى أن لا يكلنا إلى أنفسنا، ونَسأل ذلك من ربِّنا.
وأعظمُ مِن نعيم الجنة رضوانُ ربِّ العالمين على العبد، والنّظرُ إلى وجهِهِ الكريم، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72].
وأمّا النّار وما أدرَاك ما النّار، فهي مثوَى الأشرارِ، ومكانُ الخُبث والذِلّة والخزيِ والصّغار، بعيدةُ القَعر، لو أنّ الحَجرَ يُلقى من شَفيرها ما أدرَك لها قَعرًا سبعين خريفًا. رواه مسلم [9].
شديدةُ الحرّ، ((نارُ الدّنيا جزءٌ واحِد مِن سبعين جزءًا مِن نارِ جَهنّم)) [10].
طعامُ أهلِها الزّقّوم من شجرةٍ تنبتُ في أصل جهنّم، يأكل منها أهل النار ويشربون عليها من الحميم، وطعامهم الضّريعُ لا يُسمِن ولا يُغني من جوع، خبيثُ الطّعم، مُرُّ المذاق، شديدُ الحرارَة، ينشَبُ في الحَلق فلا يسيغه إلى جوفِه إلاّ بالماءِ البالِغ الحرارة، فإذا وصل إلى الجوف قطَّع الأمعاء والعياذ بالله.
ومِن شَرابهم المُهلُ والغسّاق وهو الصّديد من القيحِ والدّم، ولباسُهم القطِران والحديد، قال الله تعالى: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22]. عَن عبد الله بن الحارث بن جزء قال: (إنّ في النارِ حيّاتٍ ـ أي ثعابين ـ كأمثالِ أعناقِ البُخت تنهَش الرّجل، فيجِد حَرَّ سُمِّها سبعينَ خريفًا) رواه أحمد [11]. وفيها العقارب التي وصفها النبي كأنها الخيل الدهم.
قال عز وجلّ: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [التوبة:105].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، ونفَعنا بهديِ سيّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/373) عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير به، ومن طريق ابن إسحاق رواه الطبري في تاريخه (2/149)، وأبو نعيم في الحلية (1/118)، وقال الهيثمي في المجمع (6/159): "رواه الطبراني، ورجاله ثقات إلى عروة". ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية (1/118) من طريق موسى بن عقبة عن الزهري قال: زعموا أن عبد الله بن رواحة بكى حين أراد الخروج إلى مؤتة.. وذكر نحو هذه القصة.
[2] رواه مسلم في الإمارة (1901) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] رواه البخاري في الجهاد (2806)، ومسلم في الإمارة (1903).
[4] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4332)، صحيح ابن حبان (7381)، وأخرجه أيضا البزار (2591)، والطبراني في مسند الشاميين (1421)، وأبو الشيخ في العظمة (602)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/265): "إسناده فيه مقال؛ الضحاك المعافري ذكره ابن حبان في الثقات وقال الذهبي في طبقات التهذيب: مجهول، وسليمان بن موسى الأموي مختلف فيه، وباقي رجال الإسناد ثقات"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3358).
[5] أخرجه أحمد (2/304)، والترمذي في صفة الجنة (2525)، والدارمي في الرقاق (2821)، وعبد بن حميد (1420)، والبيهقي في الشعب (5/409)، وقال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك القوي، وليس هو عندي بمتصل، وقد روي هذا الحديث بإسناد آخر عن أبي مدلة عن أبي هريرة عن النبي "، وصححه ابن حبان (7387)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2050).
[6] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4880)، صحيح مسلم: كتاب الجنة (2838) واللفظ له.
[7] عزاه المنذري في الترغيب (4/298) لأبي يعلى والبيهقي، قال الألباني في ضعيف الترغيب (2/492): "وهو حديث طويل جدا، في نحو ثمان صفحات، لا أعلم له شبيها... إسناده ظلمات بعضها فوق بعض، مما لا يشك الباحث أنه حديث مركب... وفيه جمل مستنكرة".
[8] المعجم الأوسط (7674)، ورواه أيضا أبو نعيم في الحلية (6/175)، وقال المنذري في الترغيب (4/279): "رواته ثقات"، وتبعه الهيثمي (10/401)، وقوى إسناده ابن حجر في الفتح (6/324)، وهو مخرج في السلسلة الضعيفة (5303).
[9] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2844) عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.
[10] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3265) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الجنة (2843).
[11] هذا الحديث في المسند (4/191) مرفوع، وأخرجه أيضا البيهقي في البعث (561)، وصححه ابن حبان (7471)، والحاكم (8754)، وقال الهيثمي في المجمع (10/390): "فيه جماعة قد وثِّقوا"، وهو في السلسلة الصحيحة (3429).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ذي العزّة والإكرام، والعزّة التي لا تُرام، أحمد ربي وأشكره على عظيم الإنعام، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له الملك القدّوس السلام، وأشهد أن نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله المبعوث رحمةً للأنام، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه الكرام.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى تقوَى من يخشاه سرًّا وجهرًا، فما أفلح أحدٌ إلا بتقوَى ربّه، وما خاب أحدٌ إلا باتِّباع الشهوات وتضييع الطاعات.
أيها المسلمون، لقد دعاكم مولاكم إلى جنّاتِ النعيم، بتقديم الأعمالِ الصالحات ومجانبة السيّئات، فقال عز وجلّ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]، وفي الحديث عن النبيّ : ((كلّكُم يدخُل الجنة إلا مَن أبى)) ، قالوا: ومن يأبى يا رسولَ الله؟! قال: ((من أطاعني دخلَ الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [1].
فلا يركننَّ أحدٌ إلى الدّنيا ونعيمِها؛ فإن الركون إليها يَصدُّ عن الآخرة، فما هي إلاّ أضغاثُ أحلام وظِلُّ شجرةٍ زائل ومتاعُ غرور، ففي الحديثِ عن النبيّ : ((يؤتَى بأشدِّ الناس في الدنيا بؤسًا ويغمَس في الجنّة فيقال له: يا ابنَ آدم، هل رأيتَ بؤسًا قطّ؟ فيقول: لا والله، ما رأيتُ بؤسًا قطّ. ويؤتى بأشدّ الناس تنعُّمًا في الدنيا ثم يُغمَس في النار، ويقال له: يا ابنَ آدم، هل رأيتَ نعيمًا في الدنيا قطّ؟ فيقول: لا والله، ما رأيتُ نعيمًا قط)) رواه مسلم [2].
أيها الناس، إن الأمن نعمة كبرى ومنّة عظمى، وإنه تنتظم به مصالح الدنيا والدِّين، وإن من يريد أن يخترق سياجه فإن مسؤولية ذلك على المجتمع كلِّه، وإن الأخذ على يدي المُفَسِّد والعابث بالأمن واجبُ على كل فردِ من أفراد المجتمع، فإن الله تبارك وتعالى قال: وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]. وإن من أعظم الإفساد السطو على الأرواح أو الأموال أو الأعراض أو انتهاك الحرمات، إن ذلك كلَّه مسؤولية الجميع، فيجب الأخذ على يدي الظالم، وفي الحديث عن النبي : ((لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر، ولتأخذنَّ على يدِ السفيه أو الظالم، ولتأطرُنَّه على الحقِّ أطرًا، أو ليضربنَّ الله قلوبِ بعضكم ببعض)) [3].
فاتقوا الله أيها المسلمون، وكونوا على الخير أعوانًا، حاربوا الشرَّ أينما كان وممن كان، وأحبّوا الخير ممن كان وأين كان، فإنكم لن تفلحوا إلا بمحاربة الشرِّ وأهله. فاتقوا الله تعالى.
عبادَ الله، إنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، فقال عزّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلَّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)) [4].
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا...
[1] أخرجه البخاري في الاعتصام (7280) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم كتاب صفة يوم القيامة (2807) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336)، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
[4] أخرجه مسلم في الصلاة (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(1/4233)
لمحات في استثمار الإجازات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
اغتنام الأوقات, الأبناء, التربية والتزكية
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
17/5/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المحافظة على الوقت. 2- أصناف الناس في الإجازة. 3- دور العلماء والدعاة والمربين والتجار في إعانة الشباب على حسن قضاء الإجازة. 4- عظم مسؤولية الوالدين تجاه أبنائهم في الإجازة. 5- وصايا للسيّاح والمصطافين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، خيرُ ما يوصُىَ به ويُستزاد لكل رائح وغاد، وأزكى ما يُدّخر ليوم المعاد، تقوى الإله في الغيب والإشهاد، فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ لِمَا حَبَاكم من الإيجاد والإعداد والإمداد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
أيها المسلمون، عُرُوج الأُممِ في مَدَارات الحضارة والارتقاء، وسَبْقُها في ميادين الفوز والنَّمَاء، وبلوغِ شَأْوِها في أَمْدَاء البُلَهْنِيّة والهناء؛ قرين اهتمامها بجوهر مكنون من جواهر الإسعاد والقيادة، ومِسَاكٍ مَكِينٍ من أُسُس الرِّيادة والسيادة، ألا وهو اغتنام الأوقات بالصالحات، واهْتِبَالُها في الخيرات والطاعات وإنماء المجتمعات. أجل، فالأعمار مَكْنَزُ الأعمال لدى الأخيار، وأحزمُ الناس وأَكْيَسُهم من اقْتَطَفَ أيامَه ولياليَه في جَلْبِ المصالح والخُيُور، ودَرْء المفاسد والشرور عن نفسه ومجتمعه وأمته. فكل دقيقة تمضي سُدَى إنما هي فرصةٌ فائتةٌ وشِيمَةٌ مائتةٌ لا تُسْتَعَاض ولا تُسْتَرد، ورسالتنا في الحياة ـ إخوةَ الإيمان ـ أسمى من أن يُجَازَف بسُوَيْعَاتها وثوانيها، بَلْهَ أيامها ولياليها.
إخوة الإسلام، منذ أيام سَوَالِف أرخى ليلُ العام الدراسي سُدُولَه، وتَنَفَّسَ صُبْحُ الإجازة عن أَشْذَائه العَبِقَة وأيامه الغَدِقَة، وزَّيّنَت العطلةُ الصيفية بحُلَلِها وحُلاهَا، واخْضَوْضَرَت سهولُها ورُباها لتُصَافح المجتهدين، وتُهنّئ المتفوّقين من أبنائنا الطلاب وفتياتنا الطالبات، الذين يُهَيَّؤون ـ بإذن الله ـ لمواصلة مسيرة التحصيل والجِدّ والعَلاء، تحت هاتِيكَ الرّاية وذَيَّاكَ اللواء.
بلغنا السماءَ مجْدُنا وجُدُودنا وإنا لنبغي فوق ذلك مَظْهَرًا
لا كالذي ما إن كَحَّل بالشهادة عينيه، وأطبق على زُخْرِفها بيديه، حتى هَجَر العلم والمَحَابِر، وطَوَى الأقلام والدفاتر، وانطلقت أفْرَاسُه في أَعِنّة العَبَث والبَطَالة واللهو والعَطَالَة، جاعلاً الليل سَهَرًا وإعْنَاسًا، والنهارَ نومًا وسُبَاتًا، يُمَزّق الزمانَ النفيسَ باللهو والعصيان، وفَرْيِ الأعراض بالأباطيل والهَذَيَان، يمتطي صَهْوةَ الفضائيات، ويَتَسَمَّر أمام شبكات المعلومات، ويقضي على شريف الدقائق بالتفَنُّن في ضروب الملاهي والبوائق؛ طوعًا لنَزَغَات الشباب، وخضوعًا لسلطان الفراغ ـ بظنّه ـ.
كلا عباد الله، إن المسلم الحَصِيف الواعي يخوض غِمَارَ الحياة عمومًا، والإجازة الصيفية خصوصًا، وسلاحه استقامته وصلاحه، ساعِدُهُ ساعِدُهُ، وسِنَادُهُ زِنَادُهُ، وكِنَانَتُهُ جِدُّهُ وسعيهُ وأمانتهُ، وما الأعمار إلا أمانة جُلاّ في أَطْوَاقِنا.
وهل يصحّ في الأذهان ـ أيها التربويّون والمعنيّون بقضايا الجيل ـ أن يبقى أبناؤنا الطلاب وأحبتنا الشباب مدة الإجازة التي تُناهِزُ ثلث السنة دون سعي أو عمل أو نشاط أو أَمَل، وقد عُلِمَ وتَقَرّر أن الحياة السهلة الرَّخِيّة التي يَكْتَنِفُها القُعُودُ والهُمُودُ والتواني والجُمُودُ لا تُفْرِزَ ـ غالبًا ـ إلا الترَهُّلَ الفكري والجسدي لدى مُعَايِشِها، ولا يَتَرَقَّى الإنسانُ في سُلّم الأمجاد إلا في مُرَاغَمَةٍ للصعوبات والشدائد، إذ هي مِسْبَارُ القوة والفُتُوّة.
وإذا كان ذلك كذلك ـ يا رعاكم الله ـ فإنه يجب تعويد الشباب والأبناء على تحمّل التَّبِعَات، وحبّ المسؤولية في استقلالية مَرْعِيّة دون انهزاميّة أو اتِّكَالِيّة.
وإنما رجلُ الدنيا وواحدُها من لا يُعَوِّلُ في الدنيا على رجلِ
فالخمول والتواكل يُغلِقان أبواب الخير والسموّ في وجوه الطالبين، والعجز والتراخي يطمسان معالم الهداية والرشاد عن أنظار السائرين، ومن دعائه عليه الصلاة والسلام: ((اللهم إني أعوذ بك من العَجْزِ والكسل والجُبْنِ والبخل)) رواه مسلم في صحيحه [1]. ومن رَقِيم الحِكَم: "من اسْتَوْطَأَ الراحةَ ما ملأ الراحَة"، يُقابِل ذلك: "بقدر ما تَتَعَنَّى تَنال ما تَتَمَنَّى"، ومن استعصم بالله ثقة به وتوكّلاً عليه، وَوَطَّنَ نفسه على الصِّعاب، هانت عليه مكابدة الصِّلاب، فلا الحَرّ يُقْعِدُه، ولا القلقُ يُثَبِّطُه، ولا اليأسُ عن مراده يَعْطِفُه، وألفَى كلَّ شيء أمامه باسمًا مَيسورًا، وافْتَرَعَ ـ بإذن الله ـ سُدَّةَ الشرف العالي، ومن صَدَقَ إلى الله فِرارُه حَسُن من الله قَرَارُه، والنبي يقول: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز)) خَرّجه مسلم في الصحيح [2].
ما اعْتَنَّ لي يأسٌ يُناجِي هِمّتي إلا تَحَدّاه رجائي فاكْتَمَى
أمة الإسلام، وفي نفوذ الشباب إلى ساحات المسؤوليات وتحقيق الذات والطموحات زمن الإجازات وجه من وجوه الإسلام المُشرِقة الذي اكْتَنَزَ الجِدّية الوَثَّابَة والمُثَابَرَة المُتَّقِدَة والنشاط الفَيّاض والسعي الدَّؤوب الدَّفَّاق؛ لحفظ أشرف الأوقات، وبلوغ أعلى الكَمَالات، مشاركة في إعزاز الأمة، واستئناف سُؤْدَدِها، وصَدّ التيارات الفاسدة والمبادئ الهدّامة دونها، مما قد يَتَسَلّل إليها لِوَاذًا، فَعِياذًا بالله عِيَاذًا. ومن المُتَقَرّر أن الجَدّ في الجِدّ، والحِرْمَان في الكسل، ومن نَصَبَ أصاب عما قريب غاية الأمل.
إخوة الإيمان، ومن اللّمَحَات اللمَّاحَات في استثمار الإجازات ما يُعقَدُ من آمال عِرَاض على العلماء والدعاة ورجال الحِسْبَة ورُوّاد الفِكر وحَمَلة الأقلام ورجال الإعلام، في الدُّلُوف بالبنين والبنات إلى تنمية عقولهم، وتقويم سِيَرهم، وتهذيب أرواحهم في رشاد، وإرْهَاف عواطفهم وأخلاقهم في سَدَاد، عبر الوسائل الإعلامية والدعوية والمراكز الصيفية والدروس العلمية واللقاءات التربوية، ويُخَصّ بالذِّكْرِ أشرف الذِّكْرِ القرآن الكريم، وما يجب من إيلائه العناية الفائقة، وسقي النشء والشباب من مَوْرِدِه السَّلْسَال حفظًا وتلاوةً واهتداءً ومُدارَسةً وتدبّرًا واقتداءً، خصوصًا والأمة تتعرّض لهجمات سَبْعِيّة حمراء على عِرْضِها وأرضها ومقدّساتها ومُقدّراتها، وبِأَخَرَةٍ أقدس مقدّساتها وسِرّ بقائها، في مُحَاذَرَة وَوَجَل من مسالك الغلوّ والإجرام وسفك الدم الحرام، خاصّة في البلد الحرام، وتبصير الشباب بمنهج الإسلام الوسطي المعتدل، وبذل النُّصْحِ والتوجيه المستمرّ لهم في رسم أهدافهم وتحديد أولوياتهم، واحتواء ردود أفعالهم، بالحكمة والحوار والحُسْنَى، واستثمار أوقاتهم بطرق فَذّة مُثْلَى، مع التأكيد على بذل الحوافز والمُشَجّعات في مختلف المجالات والمسابقات للنابهين والنابهات، إذ ثَمَّةَ الإكْسِيرُ الذي يحقّق كثيرًا من الآمال فيهم، ويَحُضّهم على التنافس النزيه المبدع، وفي ذلك فلْيَتَنَافسِ المُتنافِسُون.
معاشر المسلمين، وحين نُعرّج إلى مَضارِب الحديث عن الأعمال والمهارات التي يَحْسُن أن يُتقنها الشباب، ويتولاّها الجيل إعدادًا للمستقبل ونهوضًا بالحسّ المهني لديهم، فإن القول يُدَار على أنّ مُقوِّمات الأمّة وأُسُس نهضتها ما هي إلا بانصراف وُجَهائها ورجال أعمالها ورؤوس أموالها إلى تَوْفِيَة المصالح العامة حقّها، وإيثارها على المصالح الخاصة، وسَدّ كل ثُلْمَة من الحاجات التَّنْمَوِيّة، لحاقًا بركاب الحضارة والمَدَنِيّة، وفي طليعة ذلك يُهِيبُ الغَيورون بتوفير مزيد من فرص العمل الشريف لشبابنا الواعِد مَعَاقِد الأمل وركائز العِزّة والقوّة في الأمّة ومَبْعَث الازدهار والعمران فيها، وإشاعة ذلك في المجتمع كله، والتواصي به؛ لما فيه من التعاون على البرّ والمعروف، وإنها لكبيرة إلا على الذين هدى الله. ولنبعث في أجيالنا الاسْتِيفَازَ للعمل من جهة، وروح العزائم التي لا تقبل الهزائم من جهة أخرى، ولِنُعِدّ رجالاً أُبَاةً صالحين، تَقَرّ بهم الأعين، وتسعد بهم الأوطان، ويفتخر بهم الوالدان، ويُخَلّد مفاخرَهم وأمجادَهم الزمانُ. ولله دَرُّ الفاروق عمر كان يرى الرجل فيعجبه فيسأل: هل له من حِرْفَة؟ فيُقال: لا، فيسقط من عينيه، ويعلوه بالدِّرَّة. وكان يقول: (إني لأرى الرجل فأمْقُتُه ليس في عمل دنيا ولا في عمل آخرة). والله عزّ وجلّ يقول: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور:37]، فأَثِبْ لهؤلاء الأصفياء رضي الله عنهم أنهم تُجّار وباعَة، لكن لا يشغلهم العمل عن موارد الطاعة. ألا فُبورِك في الشباب الطموح، وردّ الله إلى حِيَاض الحق كل جَمُوح. وإن المسؤولية لعظيمة في إعداد الجيل الوسَطِي المعتدل، بعدما مرّت على شبابنا منعطفات فكرية خطيرة، جعلتهم يعيشون حيارى بين مِطْرَقة الغلو والعُنف والإفراط، وسِنْدَان التغريب والتفريط والإحباط.
فيا أخي الشاب المبارك، كن صادقًا راسخًا في انتمائك، صادِرًا عن توجيه علمائك، مشاركًا إيجابيًّا في حياتك، حاملاً هَمّ قضايا أمّتك، متفاعلاً في بناء مجتمعك، مِفْتاحًا لكل خير، مِغْلاقًا لكل شر، موازيًا بين متطلبات روحك وجسدك، بكل فضيلة مُتَحَلٍّ، وعن كل رذيلة مُتَخَلٍّ، تكن ـ بإذن الله ـ خير خَلَف لخير سلف. أما السَّلْبِيّة والنقد والبَطَالة والتضييع والتسْويف والعَطَالة فهي عَتَاد كل فارغ بَطّال، ولن تتحقّق الآمال ـ بعد توفيق الله ـ إلا على أيدي الشباب الإيجابي المعتدل الفَعّال.
ألا وإن مما يُنْعِمُ بالَ الغَيور، ويُبْهِجُ سُوَيْدَاءَهُ، ما يقوم به في هذه الإجازة موفّقون، ويضْطَلِع به مباركون، زادهم الله هدى وصلاحًا وتوفيقًا، من حرص يملأ نفوسهم على قضايا نَشْئنا الصالح، وبَذْل كل الطاقات للإفادة من الإجازة خير إفادة، أفلا ترون إلى ما بين أيديكم من حِلَق الوحيين الشريفين، والتنافس في حفظهما ومدارستهما، وإلى المعارض والمخيّمات الدعوية والمهرجانات التوعوية، وإلى الكتب والرسائل العلمية والمناشط الخيرية، وإلى الدورات العلمية، التي التَأَمَتْ كلها على حفظ أوقات الأُسَر وخصوصًا الشباب، وتنمية قدراتهم ومواهبهم، مما يؤكد أنها المَحَاضِن المأمونة للشباب الطموح، خاصة في إجازاتهم، ويسدّ المجال أمام من يَشْرَقُون بالأعمال الخيّرة، ويُجْلِبُون بخيلهم ورَجِلِهم في كَيْل الاتهامات جُزَافًا ضدها، مع ما يُؤمَّل من بذل المزيد من النصح الوَرِيف والتقويم الشَّفِيف.
بارك الله في الجهود، وسَدّد الخُطَى، وعفا بمنّه وكرمه عن السهو والخَطَا، واللهُ المسؤول أن يأخذنا بأيدينا جميعًا إلى مَعَاقِد العِزّ والتمكين لديننا ومجتمعاتنا وأمّتنا، إنه جواد كريم.
أقول هذا الكلام، وأستغفر الله الملك العلاّم، لي ولكم من كل الذنوب والآثام، فاستغفروه وتوبوا إليه على الدوام، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة (4899) من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنهما.
[2] صحيح مسلم، كتاب القدر (2664) من حديث أبي هريرة رضي لله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أهل التعظيم والتّمْجِيد، ووليّ الإنعام والفضل المَدِيد، جَلّ في عليائه خَصّنا بآلاءٍ مُتَرَادِفة تستوجب الشكر والمزيد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نرجو بها الفوز يوم الوعيد، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله المبعوث بالمنهج الرشيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه البررة الصِّيد، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المزيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا لا ينقضي ولا يَبِيد.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الغَفَلات والزلاّت، واهْتَبِلوا شريف الأوقات في الباقيات الصالحات.
إخوة الإيمان، ولئن انْصَبّ الحديث ونحن في فترات الإجازات على قيمة الأوقات وانتهازها، فلا يتبادر إلى فهم المحبّ اللبيب كون الحياة مجرّد كَدْحٍ ونَصَبٍ وعناءٍ، كلا! فللتّرْويح البريء وإجْمَام النفس من وَعَثِ الأعباء حَضٌّ وفُسْحَة في شريعتنا بحمد الله، وهو مَقْصِد من المقاصد الشرعية، ومُتطلّب من متطلّبات الفطرة السويّة في النفس البشرية، ولكن بمعايير وضوابط تحفظ الدين، وتجمع المروءة، وتُرطّب النفس، وتحدو بها في رَزَانة وأَناة.
أيها الأحبة في الله، ومن لمَحَات استثمار الإجازات ما يُؤمَّل من الآباء والأمهات في تحمّل العِبء الأكبر في هذه الإجازة الصيفية وسواها من مراقبةٍ مسؤولةٍ لبناتهم وأبنائهم، والأخذ بِحُجَزِهم عن مواطن الاختلاط والرِّيبة، وعن ذَرْع الأسواق والطرقات، كما هو دَيْدَن الخرّاجين والوَلاّجِين والخرّاجات والولاّجات، ودَعِّهم دَعًّا عن موجات التغريب والعولمة وصيحات التقليد وموضات التشبّه وتَقْلِيعات الانفتاح اللا منضبط، التي زَمْجَرَت أمامهم، فخَلّفت كثيرًا منهم مُذَبْذَبين صَرْعَى، والنبي يقول: ((إن الله سائلٌ كلَّ راع عما استرعاه حفظ أم ضيّع، حتى يَسأَلَ الرجلَ عن أهل بيته)) رواه ابن حبّان في صحيحه [1]. يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "فمن أَهْمَلَ تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سُدى فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبَل الآباء وإهمالهم".
وهنا مَلْحَظٌ مهمّ في إيلاء قضية أخواتنا وبناتنا وفتياتنا نصيبًا أكبر من الاهتمام والعناية والطَّرْح والتركيز والرعاية، في أَطْرِهنّ على الحجاب والحِشْمة والعِفّة والحياء، والمحافظة عليهنّ من دُعاة السُّفور والتبرّج والاختلاط، لا سيّما في هذا الزمن الذي زُجَّ فيه بالمرأة في سَرادِيب من الأُطروحات المثيرة، والزَّوْبَعَات الخطيرة، متناسين قضاياها الكبرى وأولوياتها العُظمَى، يتولّى كِبْرَ ذلك أربابُ فكر مهزوم، ويَتَلَقّفه في سياق محموم ذوو وذوات أنفس مريضة، لا تُقدِّرُ للأمة المصالح، ولا تَدْرأ عن المجتمع المفاسدَ والقبائحَ، وما يبلغ الأعداءُ من جاهل ما يبلغ الجاهلُ من نفسه.
كما أنّ ثَمّةَ هَمْسةً لطيفة لكل من عقد العزم على الاصطياف والسياحة، فحيث إن الإجازة الصيفية مَوْئلُ نُقْلَة ورِحْلة نُزْجِي لَفْتَةً بَرَّة للذين يَجْمَحُون للأسفار خارج مَغَانينا المَخْمَلِيّة الفَيْحَاء أن اتقوا الله حيثما كنتم، اتقوا الله في أوقاتكم، اتقوا الله في أُسَركم وذَرَارِيكم وأموالكم وجوارحكم، أَعَدَلْتُم عن الحياة المطمئنّة ومَسَرّاتها، وطلبتم الإفلاس والعِلَل وويلاتها؟! اتقوا الله ربكم، ففي مَصايفنا الغَرِدَة الغَنَّاء غَنَاءٌ لكم عن تلك الأسفار المُرِيبة وأيّ غَنَاء، فيا لأصالة المَبْنَى، وسُموّ المعنى، وطِيب المَغْنَى، ويا لله ما أجملَ الرُّبَا، وما أطيبَ المُصْطَاف والمُتَرَبّعَا.
[1] صحيح ابن حبّان (4492)، وأخرجه النسائي في الكبرى (5/374) ـ ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (9/235) ـ، والطبراني في الأوسط (2/197)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأعلّه البخاري بالإرسال فيما نقله عنه الترمذي في جامعه (4/208)، وبالتفرّد النسائي والطبراني وأبو نعيم، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (1636).
(1/4234)
وصايا في التعامل مع العمال والخدم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/5/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من تفاوت العباد في الأرزاق. 2- منزلة العمل والكد في الشريعة الإسلامية. 3- ضوابط شرعية في التعامل مع العمال. 4- الوصية بالعمال والخدم. 5- التحذير من الخلوة بالخادمات. 6- أخطاء ومحاذير يقع فيها بعض مكاتب الاستقدام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، من حِكمة الربّ جلّ وعلا [أن] فَاوت بين الخلق في أخلاقهم، في أرزاقهم، في قُدُرَاتهم، في غناهم، في فقرهم، في إيمانهم، في كفرهم، فسبحان الحكيم العليم فيما يَقْضِي ويُقَدِّر: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38، 39]. فتفاوت العباد في هذه الدنيا دليل أوّلاً على كمال قدرة الربّ، وأنه القادر على كل شيء، ثم في هذا التفاوت مصالح عامّة للعباد، فلو أن الخلق كلهم على مستوى من الغنى أو مستوى من الفقر أو مستوى في الأخلاق أو في المدارك لم تتحقّق الحكم والمصالح، ولكنّ الله حكيم عليم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون [الزخرف:32]، فالله فضّل بعض الخلق على بعض ليُسَخِّر هذا لخدمة هذا، ويسَخِّر هذا بالبَذْل لهذا، فسبحان الحكيم العليم فيما قضى وقَدّر.
أيها المسلم، ويتساءل المسلم عن علاقة العامل بصاحب العمل، وما هو موقف الشريعة من ذلك؟ ما موقف الشريعة من غَبْن العمل والعامل؟ وهل هناك في الشرع تنظيم لتلك العلاقة وإعداد لها؛ لتأخذ مَسَارها الصحيح، فترتفع عن الظلم والعدوان، وتغرز الأمانة في نفس العامل، وتمنع رَبّ العمل من ظلم وطغيان وتَعَدّ؟ نقول: نعم أيها المسلم، شريعة الله جاءت بما يحقّق للبشرية السعادةَ في الدنيا والآخرة، جاءت بالتوازن الحقّ والاعتدال الحقّ في كل الأحوال.
فأوّلاً من حيث العامل ورَبّ العمل، فشريعتنا جاءت بما يحقّق هذه المصلحة للطرفين معًا:
فأوّلاً: العمل في شريعة الإسلام له منزلته وفضله، والكسب الذي يناله العامل من أجل عمله هو من أفضل المكاسب وأجلّها، يقول : ((خير مال الرجل عمله بيده، وكل بيع مبرور)) [1] ، فخير كسب يناله العبد ما كان هذا الكسب ناتجًا من عمل يده وعرق جبينه، فذاك عزُّه وشرفُه وفضلُه، فهو أولى له من أن يسأل الناس ويذِلّ لهم، وفي الحديث: ((لو أن أحدكم أخذ حَبْلَه فأتى بحطَبٍ فباعه فأغنى به نفسه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه)) [2] ، فالعامل شريك في نفسه إذا أدّى عمله بصدق وإخلاص، واتقى الله في ذلك، فمكاسبه مكاسب طيبة، مكاسب شريفة، مكاسب تصحبها عزّة النفوس، عزّة النفس وعلوّها وابتعادها عن الذلّ والهوان باستعطاء الناس والالتجاء إليه.
ثانيًا: أَمَرَ اللهُ العاملَ ورَبّ العمل بالتزام العقد الذي بينهما، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، فرَبّ العمل يلتزم بالعقد بينه وبين العامل من حيث الأجرة، من حيث نوع العمل، من حيث مقدار العمل، حتى يكون الأمر واضحًا للجميع، فرَبّ العمل مطلوب منه أن يوفي بالعقد الذي التزمه بينه وبين العامل التزامًا كليًا؛ لأن هذا من الأمانة، وإذا خالف ذلك كان من الخائنين، ومن أخلاق المنافقين الذين إن حدّثوا كذبوا، وإن وَعدُوا أخلفوا، وإن ائتُمِنوا خانوا، ثم العامل واجب عليه الالتزامَ بتنفيذ ما جرى العقد عليه بأمانة وصدق وإخلاص، فإذا أدّى العامل ورَبّ العمل أدّى كلّ منهما الحق الواجب عليه فإن الأمور تسير على خير بتوفيق من الله.
وأمر آخر حَثّ الإسلامُ رَبَّ العمل أن يوفي العامل أجره، ويسارع في ذلك، فيقول : ((أدّوا العامل أجره قبل أن يجفّ عَرقُه)) [3]. فالتّمَاطُل بالعُمّال وتأخير مُستحقّاتهم، وجعلها أشهرًا عديدة مع أن رَبّ العمل يملك القدرة، لكن التهاون والتلاعُب واستغلال المال في مصالِحِه، وأولئك يرجون منه تسديد حقوقهم في وقتها، [و]هو لا يبالي، بل بعضهم يُلجِئهم إلى الشِّكاية، أو يُلجِئهم إلى التنازل عن بعض حقوقهم ظلمًا وعدوانًا، وتلك عواقبها سيّئة ووخيمة.
وأمر آخر أنه يحرم عليه أن ينقص من حقوقهم شيئًا إذا أدّوا الواجب عليهم، في الحديث يقول : ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم، ومن كنت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ)) ، ذكر منهم: ((رجلاً باع حُرًّا فأكل ثمنه، ورجلاً استأجر أجراء فاستوفى منهم حقّه، ولم يعطهم حقّهم، ورجلاً عاهد بي ثم غَدَر)) [4] ، فهؤلاء فالله خصمهم يوم القيامة، خصم صاحب العمل الذي أتعب العامل، واستوفى الحقّ الكامل، ثم ماطل بالحقوق وجحدها وظلمها، واختفى عن ذلك العامل، وأبدى من الحيل والخداع والتدليس والتلبيس ما لا يخفى، والله مُطّلع عليه وعلى سريرته.
وفي شريعة الإسلام ثناء على رَبّ العمل الذي أدّى الحق الواجب عليه، وأنّ أداء حقوق العمّال بصدق سبب لإجابة الدعاء والنجاة من الكربات والأزمات، أخبرنا نبينا عن قصة النفر الثلاثة الذين آواهم المَبِيتُ إلى غار، فانحدرت صخرة سدّت عليهم ذلك الغار كله، ولا يستطيعون أن يُزَحْزِحُوها، ولا يُعلَم بهم من ورائها، فلما ضاقت بهم الحيلُ التجؤوا إلى الله، وتوسّلوا إليه بصالح أعمالهم، وهم ثلاثة، فأحدهم قال: ((اللهم تعلم أني استأجرت أُجَراء، فأعطيتهم حقوقهم إلا واحدًا ترك الذي له ومضى، فثَمّرتُه حتى حصل منه إبل وبقر وغنم ورَقِيق وحَرْث، فجاء ذلك العامل بعد حين فقال: يا عبد الله، أعطني حقي. قال: كل ما ترى من إبل وبقر وغنم وحَرْث ورَقِيق فهو لك. قال: أتستهزئ بي؟! قال: لا. قال: يا رب، فأخذه كله، ولم يُبقِ منه شيئًا، اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فخلّصنا مما نحن فيه. فارتفعت الصخرة، وخرجوا يمشون)) [5]. هكذا ثواب الصادقين، أهل المعاملة الصادقة والأمانة والإخلاص.
وبضدّه من حاول التهرّب عن الحقوق لابد أن يُصاب بمَحْق في مكاسبه، وخسارة في صفقته التجارية، مع ما عند الله له من الوعيد ودعاء المظلومين، ودعوة المظلوم يرفعها الله، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول: ((وعزّتي لأنصرنّك ولو بعد حين)) [6] ، فليس بين دعوة المظلوم وبين الله حجاب، كما قال لمعاذ: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) [7].
أيها المسلم، إن الواجب على المسلم حينما يستخدم عُمّالاً رجالاً ونساءً أن يتّق الله في أولئك الخَدَم، تقوى لله فيما بينه وبين الله، فأوّلاً يعلم حاجة أولئك وفقرهم وحاجتهم، وأنهم إنما تركوا الوطن والأهل والولد لأجل طلب المعيشة، لأجل العادة والحاجة، جاؤوا من أقطار الدنيا طلبًا للمعيشة، فواجبٌ الرّفقُ بهم، والحِلم عليهم، وأن تدعوهم إلى الله جلّ وعلا، وأن تصلح ما لديهم من أخطاء ومخالفات شرعيّة، وأن تكون سببًا في استقامة أحوالهم وتهذيب سلوكهم والحرص على دعوتهم إلى الله، فعسى الله أن يهديهم على يديك، فيقول لعلي: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمُر النَّعَم)) [8] ، أن تعاملهم بالرّفق في الأمور كلها، يقول : ((إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، ومن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يَطْعَم، وليلبسه مما يَكْتَسِي، ولا تُكلّفوهم ما لا يطيقون، وإن كلّفتموهم فأعينوهم)) [9].
ومحمد ضرب أروع المَثَل في التعامل مع الخَدَم، فيحكي خادمه أنس بن مالك عن سيرته معه وعن تعامله معه، يقول: (خدمته عشر سنين، والله ما قال لي لشيء فعلتُه: لم فعلتَه؟! ولا لشيء لم أفعله: لِمَ لم تفعله؟!) [10]. هكذا كان.
إن أولئك قد تكون عندهم أخطاء وشيء من المخالفات سببه الجهل والبعد عن مَنَار العلم، فإذا استغلّ صاحبُ العمل أولئك دعاهم إلى الله، وشجّعهم على فعل الخير وعلى أداء الصلوات، وفقّههم في دين الله، جمع الله له بين خيري الدنيا والآخرة، وذاك يسير على من يسّره الله عليه.
أيها الإخوة، ثم قضية أخرى وهي قضية الخادمات، تلك المشكلة التي يعاني منها بعض البيوت، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
اعلم ـ أيها المسلم ـ أن هذه الخادمة في بيتك هي حُرّة ليست رقيقةً لك ولا مُلْك اليمين، هي حُرّة عفيفة ليست مُلكًا لك، ليست رَقِيقةً عندك، هي حُرّة جاءت للخدمة. فاحذر ـ أيها المسلم ـ أن تُسيء إليها، وأعظمُ الإساءة ـ والعياذ بالله ـ ما قد يقترفه بعض أولئك من استمتاع بأولئك الخادمات، واتخاذهنّ للمتعة، وهذا أمر خطير، ومنكر كبير، وزنا وفجور، والعياذ بالله.
أيها المسلم، هل ترضى الزنا لأمك؟! وهل ترضاه لبناتك وأخواتك وزوجاتك؟! إنك تنفر من ذلك، فاتق الله فيمن تعامل، واعلم أن ما تفعله من منكر فيُخشَى أن تدور الدائرةُ عليك، وأن يُعامَل أهلُكَ كما عاملتَ الآخرين، فعفُّوا تعفّ نساؤكم، هذه خادمة ليست زوجة، لا يحلّ لك التمتع بالنظر إليها، ولا يحلّ لك أن تخلو بها، ولا يحل لك أن تُجرِي معها أحاديث، ولا يحل لك أن تبقى في المنزل أنت وإياها وحدك، فالشيطان يجري من ابن آدم مَجْرَى الدم، وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما.
تَرَفَّع أخي عن هذه الدنايا، تَرَفَّع عن هذه الرّذائل، ابتعد عن هذه النقائص، عفّ نفسك، واجعل بيتك بيت عَفَاف وصيانة، لا بيت خَنَاء ودَعَارة والعياذ بالله. اتق الله في نفسك، وحافظ على من عندك كما تحافظ على زوجاتك وبناتك، فتلك الأمانة الصادقة، وإن خُنتَ فاعلم أنه قد تُدَارُ الدائرةُ عليك، وقد تُبتلَى في زوجاتك وبناتك، أسأل الله لنا ولكم العافية.
أيها الإخوة، إن مكاتب الاستقدام هي مسؤولة أحيانًا عن كثير من الأخطاء، وعن كثير من المخالفات، فمكاتب الاستخدام أحيانًا لا يبالون بمن يأتون به، ولا يُدقّقون فيمن يأتون به، ولا فيمن يتعاقدون معه، لا يسألون عن أخلاق من يأتون به، ولا عن سيرتهم، ولا عن أحوالهم، ولا هم أصحّاء أم مرضى؟ سُقماء أو فيهم عافية؟ هو لا يهتمّ بذلك، ربّما زَوّرَ شهادات كاذبة صحّية، يثبت بها البُعد عن البلاء، وذلك المستقدَم يحمل بلاءً عِدائيًا، بلاء يُعدِي، لكنّ مكتب الاستقدام لا يهتم بهذه الأمور، مهمّته أن يجلب عُمّالاً ذكورًا وإناثًا، الصلاح أو عدمه هو لا يُدقّق ولا يهتمّ بشيء من هذا.
ومن أخطائهم أحيانًا تلاعبهم بالخَدَم فهم يأخذون من هذا، ويؤجّرون على هذا، فإذا لم تصلح الخادمة لشخص أخذوها وأجّروها بأجرة أخرى، يأخذون ما زاد ولا يعطون العامل إلا الأقل، ولا يعلمون أن هذا حرام، وأن أكلهم لهذه الزيادة من المآكل الخبيثة والمكاسب السيئة.
أمر آخر أيضًا مما يخطئ فيه مكاتب الاستقدام، ويتعاونون مع بعض ضعفاء الضمائر لاستجلاب من لا حاجة له، ومن لا تدعو الحاجة إلى حضوره، لكنهم يأتون بهم ثم يتركونهم سائحين في الطرقات؛ ليعملوا ما شاؤوا مقابل قسط من المال شهريًّا أو سنويًّا يأخذونه من ذلك العامل، هذا العامل سُرّح في الطرقات إذا عجز عن المكاسب ربّما سلك الطرق المُلتوية لأجل تحقيق المصلحة المادّية له، ثم لذلك المكتب الاستقدامي أو المستقدم الذي يريد أن يكوّن ثروة من عرق جبين الآخرين، فما أقبحه من مكسب! وما أرذله من مال!
أيها المسلم، لنكون متّقين لله في أحوالنا، ولنكن حريصين على أمن أنفسنا وبيوتنا وأهلينا ومجتمعنا عمومًا، إن هذا التصرّف الخاطئ بهذه الأمانات وعدم المبالات وعدم التطبيق للأنظمة التي وضعها ولاةُ الأمر إنما يسبب فسادًا كبيرًا وشرًا عظيمًا, فليتق المسلمون ربهم، وليكونوا أعوانًا على البرّ والتقوى، وليحذروا أن يكونوا أعوانًا على الإثم والعدوان، وليعلموا أن المكاسب المادّية إذا لم تكن مكاسب نظيفة خالية من الحرام إذا لم تكن كذلك فلا خير فيها، فالمكاسب الخبيثة مآلها محقُ البركة وعدم الانتفاع بها.
فلنتق الله في أنفسنا، ولنعلم أن الخدم ليسوا ملكًا لنا وأرِقّاء، جئنا بهم بأجرة معيّنة، فلندفع لهم استحقاقهم، أما أن نأجّرهم من هنا وهناك، ونكتسب من وراء تأجيرهم، ونأخذ منهم ما زاد على ذلك، فبأي سبيل نستحلّ؟! بأي سبيل تستحلّه؟! أنت أتيت به بستمائة ريال مثلاً، وتؤجّر الخادمة بألف ريال أو ثمانمائة، هذا الزائد لماذا تستحلّه؟! ليس ملكًا لك، وليس هذا رقيقًا تحتك، هذا مسلم مثلك، كون الله فضّلك بالغنى والعطاء لا تظنّ بذلك أنك أعلى منزلة منه، فَعُلُوّا المنزلة إنما عند الله بالتقوى والعمل الصالح، فعامل المسلم، بل عامل بني الإنسان عمومًا بالعدل والإنصاف، فإن الله أمرنا بذلك: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]. أما الظلم والعدوان والتحايل من مكاتب الاستقدام ومن يتعاون معهم ممن يتستّرون على المجرمين، ويتغاضون عن المفسدين، فهؤلاء بالحقيقة ساعون في الأرض فسادًا.
نسأل الله للجميع التوفيق والسداد، وأن يعيننا وإياكم على كل خير، وأن يجعلنا وإياكم ممن أدّى الأمانة التي ائتمنه الله عليها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه من حديث أبي بردة رضي الله عنه: أحمد (3/466)، والطبراني في الكبير (22/197)، والحاكم (2158)، والبيهقي في الكبرى (5/236)، وفي الشعب (1226)، وأعلّه بالإرسال جماعة من النقّاد، وله شواهد من حديث رافع بن خديج والبراء وابن عمر رضي الله عنهم لا تخلو جميعها من مقال، انظر: التلخيص الحبير لابن حجر (3/3)، وقد أورده الألباني في السلسلة الصحيحة (607).
[2] أخرجه البخاري في الزكاة (1470، 1480)، ومسلم في الزكاة (1042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أ خرجه ابن ماجه في الأحكام (2443) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بسند ضعيف جدًّا، فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وأخرجه الطبراني في الصغير (ص9) من حديث جابر رضي الله عنهما، وسنده أيضًا ضعيف، فيه محمد بن زياد الكلبي وشيخه شرقي بن القطامي ضعيفان، ولكن صحّ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الطحاوي في شرح المشكل (3014)، والبيهقي في السنن (6/121)، انظر: الإرواء (1498).
[4] أخرجه البخاري في الإجارة (2270) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الإجارة (2272)، ومسلم في الذكر والدعاء (2743) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] أخرجه أحمد (2/445)، والترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعّفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
[7] أخرجه البخاري في الزكاة (1496)، ومسلم في الإيمان (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[8] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2942)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الإيمان (29)، ومسلم في الأيمان (1661) من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في الوصايا (2768)، ومسلم في الفضائل (2309) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه، كما يحبّ ربّنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى الدين.
وبعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيتها الأخت المسلمة ربّةَ البيت، أوصيك بتقوى الله، والمحافظة على مَن عندك من الخادمات محافظة كما تحافظين على بناتك وأولادك، حافظي عليهن، ولا تمكنيها من البقاء مع الزوج منفردة، وكوني عينًا ساهرة على أخلاقها وقيمها، فأنت راعية مسؤولة عن رعيتك، فاحذري أن يتحوّل البيت إلى بيت فجور وبِغَاء، حاولي بكل إمكان تأديب هذه الخادمة بالتوجيه والتعليم على أن تبقى بعيدة عن الاختلاط بالرجل وعن الخلوة به، ولا تمكّينها من الذهاب معه وحده في أي مسار، حاولي إخلاصًا وصدقًا أن تُبعدِيها عن هذه الرذائل، فقد يخدعها ذلك بشيء من المال، وقد يُغَرِّر بها، فكوني عينًا ساهرة على الأخلاق؛ لأن البيت إذا عُمِر بالعفّة والصيانة كان بيتًا طاهرًا نقيًّا، احذري أن يتحوّل الأمر إلى خلاف الشرع فتصابي في نفسك أو في بناتك بمصيبة، حاولي قدر اجتهادك عَزْلَ هذه الخادمة عن الشباب الكبار، وعن أي شيء، حاولي إرساء العفّة والتحذير من السوء، وأن تكوني دائمًا ذات رقابة على هؤلاء، فهنّ أمانة في الأعناق، فاحذري خَدْش الكرامة، واحذري التهاون، واحذري الإذلال والتسلّط بغير حق، فإن الواجب عليك وأنت راعية ومسوؤلة عن رعيّتك مسؤولة عن أهل بيتك، البيت أمانة في أعناق الأمهات، في أعناق رَبّات البيوت، فإن لم تكن رَبّة البيت ذات دين وحَزْم في أمورها كلها تفلّت البيت، وضاعت القيم والأخلاق.
نسأل الله أن يحفظنا وإياكم بالإسلام، وأن يثبتنا وإياكم على قوله الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يحصّن فروجنا، ويحفظنا من مخالفة الشرع، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد...
(1/4235)
كيف نحافظ على القدس؟
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الكبائر والمعاصي, المسلمون في العالم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد أحمد حسين
القدس
17/5/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من فضائل بيت المقدس. 2- واجبنا تجاه القدس. 3- وسائل تهويد القدس. 4- خطورة المخدرات على الفرد والمجتمع. 5- صور من الإجراءات القمعية اليهودية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم وإياي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذّركم ونفسي من عصيانه ومخالفة أمره؛ لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المُرابِطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، روى الإمام أحمد رحمه الله عن الصحابي الجليل ذي الأصابع قال: قلت: يا رسول الله، أين تأمرنا إن ابتُلِينا بالبقاء بعدك؟ قال: ((عليك ببيت المقدس؛ فلعلّه أن يُنْشِئ اللهُ لك ذُرّية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)). إنه نور النبوّة يخترق ُ الزمانَ والمكانَ مُخْبِرًا هذه الأمةَ المجيدة أنّ القدس ومسجدها وأكنافها مَوْئلُ المسلمين وملاذهم عند وقوع البلاء والابتلاء, فأرضها أرض الرباط والصبر والجهاد, وهذا ما حَدّثَ به التاريخُ منذ الفتح الإسلامي لهذه الديار المباركة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن المحافظة على القدس بهويتها الإسلامية ووجهها العربي يحتاج إلى موقف إسلامي وعربي فاعل، لا يقتصر على عقد الندوات والمؤتمرات وإصدار البيانات والتوجيهات التي تدعو لنصرة القدس وأهلها، ثم لا يتبع ذلك عملٌ مَلْمُوس يوقف إجراءات التهويد الزاحفة بوَتِيرة مُتسارِعة على المدينة وأهلها، من خلال جدران الفصل العنصري السياسي الذي يحيط بالقدس إحاطة السِّوار بالمِعْصَم، ومن خلال صفقات البيع المشبوهة في باب الخليل وغيره من الأماكن في البلدة القديمة وخارج أسوارها؛ للاستيلاء على مزيد من العقارات العربية؛ لإسكان المستوطنين، والتحكّم بالأحياء العربية بإحكام القبضة عليها؛ تمهيدًا لتهجير أهلها وإفراغ المدينة من سُكّانها الشرعيين.
وإذا كنا نطالب العربَ والمسلمين بموقف عملي لحماية المدينة المقدّسة، والقيام بهذا الواجب الديني والأخلاقي والتاريخي، فإننا في الوقت نفسه نطالب كل مسؤول في هذه الديار أن يجعل القدس هاجِسَه، وأن يجعلها في أولويات اهتمامه فعلاً لا قولاً، وعملاً يمسّه أبناء القدس في مناحي حياتهم؛ لتثبيتهم وتعزيز صمودهم في هذه المدينة المستغيثة بمن يسير على منهج الأوائل والذين سبقوا من الفاتحين العظام والمحرّرين الأُبَاة, مِصْداقًا لقوله تعالى: وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16], جاء في الحديث الشريف عن أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: قال رسول الله : ((إني على الحوض حتى أنظر من يَرِدُ عليّ منكم، وسيؤخذ ناسٌ من دوني، فأقول: يا ربّ، منّي ومن أمّتي! فيقال: هل شعرت بما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم)) رواه البخاري.
نعوذ بالله أن نرجع على أعقابنا، أو نُفتن في ديننا، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله أحبّ لعباده أن يعملوا لدينهم ودنياهم؛ حتى يفوزوا بنعم الله، وينالوا رضوانه، وأشهد أنّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون, اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن سار على منهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، كي نحافظ على القدس عربية إسلامية لابدّ من التمسّك بعقاراتها وأملاكها بعيدة عن أهداف التهويد، وذلك بإعمار هذه العقارات وإشغالها بالسكّان الذين لا يُفرّطون بهذه العقارات مهما كانت المُغْرِيات المادّية، ومهما حاول سَماسِرُة السوق تزيين تَسْريبها من خلال الصفقات المشبوهة الخاسرة التي تعود على صاحبها بالإثم والخسران في الدنيا والآخرة، وليكن شعار أهلنا في القدس أنهم على ثَغْرةً من ثُغُور الإسلام، فلا تُؤتيّن من قِبَلِك.
وبهذه العزيمة يكون الرباط والثبات في هذه المدينة المقدّسة التي جعلها الله بوّابة الأرض إلى السماء ليلة أُسرِي بعبده وحبيبه المصطفى من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله فيه، وبارك حوله، وجعله قبلة المسلمين الأولى، وثالث مسجد تُشدّ إليه الرِّحالُ في الإسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تُشدّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)). هذا المسجد المبارك الذي يتعرّض في هذه الأيام إلى محاولات المَسّ به من قِبَل المنظّمات اليهودية المتطرّفة الحالِمَة بإقامة الهيكل المزعوم مكانه، والساعية إلى فرض واقع جديد فيه، وتساعدها جهاتٌ رسميّة في حكومة الاحتلال ومؤسساتها.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن محاولات الجهات الأمنيّة الإسرائيلية تضييق الخِنَاق على المسجد الأقصى المبارك من خلال تركيب أَسْيِجَة أمنية متطوّرة على جدرانه وأَرْوِقَته، ورَصْدِ آلات تصوير تحته بذرائع الأمن والحماية من اعتداءات محتملة من قبل المتطرّفين اليهود، وهي محاولات جادّة لأحكام السيطرة على المسجد الأقصى والتدخّل في شؤونه كلها، وهذا ما رفضته الأوقافُ الإسلامية والمسلمون في هذه الديار منذ الأيام الأولى للاحتلال، وترفضه هذه الأيام.
إن حماية المسجد الأقصى المبارك تكون خارج نطاق المسجد ومكوناته بما يُحَافظ عليه مسجدًا للمسلمين وحدهم، وهو قرار ربّاني لا يقبل النقض أو الاستئناف إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
أيها المسلمون، أيها المُرابِطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ولكي نحافظ على أخلاق المُرابِطين في هذه الديار المقدسة وسائر الأراضي المباركة لابد من محاربة الآفات والأمراض الاجتماعية التي تفتك بأجسام وأخلاق أبناء هذه الأرض الطاهرة، ولعل من أخطر هذه الآفات آفةَ المخدرات التي ابتُلِي بها كثير من أبناء مدينة القدس، وانتشر ضررُها بنسب متفاوتة في سائر أرجاء الوطن من خلال المتاجرين بأخلاق أبناء الأمة والمتعاطين لها.
وإن ما تقوم به الهيئات المعنيّة بمكافحة هذه الآفة والأخذ بيد المُتعاطِين لهذه السموم لتُخلّصهم من بلائها لهي جهود خَيّرة ومشكورة تستدعي مؤازرة الجميع؛ ليكون وطن الرباط مهد الإسراء والمعراج نظيفًا من هذه السموم، مُعافًى من بلائها. فالله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، ويقول أيضًا: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157], والمخدرات بجميع أنواعها هي من الخبائث التي يحرم تعاطيها والاتّجار بها، وفي الحديث الشريف عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (نهى رسول الله عن كل مُسكِر ومُفْتِر) رواه أحمد وأبو داود.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن مدينة القدس قد ابتُلِيت بقسط وافِر من الإجراءات الاحتلالية منذ الأيام الأولى للاحتلال، ومن ذلك إعلان توحيدها وضمّها كعاصمة للكيان الإسرائيلي، وبسْط القوانين الإسرائيلية على الأرض والسكّان، والشروع في بناء المستعمرات الاستيطانية كحزام لفصل المدينة عن محيطها العربي الفلسطيني، وتوسيع حدود بلدية الاحتلال سعيًا لتحقيق وتكريس واقع القدس الكبرى بصيغة يغلب عليها التَّهْوِيد الزاحف على المدينة ومؤسّساتها، وقد عمل الاحتلال على إضعاف المؤسسات الصحية والاجتماعية والتعليمية والثقافية في المدينة المقدسة، وذلك لربط هذه المناحي بمؤسّساته التي تخدم الهدف المركزي للاحتلال بتهويد المدينة وتكريسها عاصمة لكيانه الاحتلالي.
والحاجزُ شاهد على البلاء الذي أصاب هذه الديار وأهلها جَرّاء ممارسات الاحتلال الصهيوني الاستيطاني، والذي يعمل جاهدًا لاقتلاع أهل هذه الديار من أرضهم بشتى الوسائل والأساليب التي ورثها عن الدول الاستعمارية التي احتلت هذه الديار إثر سقوط دولة الخلافة الإسلامية بعد الحرب الكونية الأولى.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، قد يقول قائل: إن هذه الإجراءات التي نشير إليها قد تَمّت خلال السنوات الأولى للاحتلال، فلماذا نذكرها اليوم؟ الجواب على ذلك: أن هذه الإجراءات وإن مضى عليها عقدين أو ثلاثة عقود من الزمان فهي إجراءات باطلة تَمّت في ظل القوة وفي ظل التنكُّر لكل القوانين والمواثيق والأعراف الدولية التي لا تُضْفِي أي شرعيّة على إجراءات الاحتلال ولا تغيّر أوضاع الأرض والسكّان الخاضعين للاحتلال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليكون أبناء القدس بخاصّة وفلسطين عامّة على بيّنة من هذا، فلا يُسلّموا بهذه الإجراءات، بل يصرّوا على بطلانها، ويعملوا على وقفها؛ صَوْنًا لحقوقهم، وتمسّكًا بأرضهم.
وصدق الله العظيم القائل: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [إبراهيم:47].
(1/4236)
قيمة الوقت في حياة المسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
24/5/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اقتران الإجازات بالصيف في كل العالم. 2- هدي الإسلام في الترويح عن النفس. 3- الإجازة وإهدار الأوقات. 4- التذكير بقيمة الوقت. 5- السلف والبركة في الأوقات. 6- همسات للخارجين عن جماعة المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها الناس، اتقوا ربكم الذي يعلم السرّ والنجوى، وكفى به بذنوب عباده خبيرًا بصيرًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن العبد في الدنيا بين مَخَافَتَيْن: بين أَجَلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وأجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العاقل من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الفراغ قبل الشُّغل، فو الذي نفسي بيده ما بعد الموت من حِيلة، وما بعد الدنيا إلا الجنة أو النار.
وبعد: أيها المسلمون، تتقَلّب أحوال الإنسان في هذه الدنيا بين صحّة ومرض وشُغل وفراغ وتعب واسْتِرْوَاح وجِدّ وفُتُور، وقد أحدث الفراغَ هذه الأيام انتهاءُ العام الدراسي، وتوافُقُ كثير من الناس على أخذ إجازاتهم السنوية في فصل الصيف، ولم يكن هذا مُشتِهرًا في الماضي، بل هو ممّا أفْرَزَته المدَنِيّة الحديثة، والتي تستهلك الإنسان كالآلة طوال العام في كَدّ وكدح ولَهَاث وراء الدنيا، في بُعْدٍ عن غذاء الروح من الإيمان، والذي هو اسْتِرْوَاحٌ للأبدان وراحة للقلوب والنفوس، وسرت عدوى الإجازات حتى أصبحت سِمَة للصيف في كل العالم.
وانطلاقًا من واقعية الإسلام وشموليّته وتوازن أحكامه واعتدال تشريعاته فقد أقَرّ بحق النفس والبدن في أخذ نصيبهما من الراحة والاستجمام، وقد قال النبي : ((إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لِزَوْرِك عليك حقًّا، فأعط كل ذي حقٍّ حقَّه)) رواه البخاري ومسلم [1]. والنفس قد تَسْأم من طول الجدّ، والقلوب تتعب كالبدن، وقد قال علي : (رَوّحوا القلوب ساعة وساعة؛ فإن القلب إذا أُكرِه عمي) [2].
إلا أن هذا الترويح لا يخرج عن دائرة المباح، وقد ثبت أن النبي كان يُمازِحُ ويُداعِبُ ولا يقول إلا حقًّا [3] ، وقد سابق عائشة رضي الله عنها [4] ، وداعَبَ الصبيان، وحثّ على مُلاعَبة الزوجة، وأقَرَّ الحَبَشَةَ في لعبهم بالحِرَاب [5] ، وقال: ((ارموا بني إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميًا)) [6]. وهذه بعض الجوانب المباحة من اللهو المباح والترفيه الذي لا يستهلك كلَّ الوقت، ولا يكون دَيْدَنَ الإنسان، ولا يخرج عن طَوْقِ المباح. إنّ إدخال السرور على النفس والتنفيس عنها وتجديد نشاطها من الأمور المعتبرة في الشرع. واللهو المباح في الإسلام هو ما لا يخالف قواعده ولا شريعته، فلا يكون محرّمًا أو ذريعة لمحرّم، ولا يصدّ عن واجب.
عباد الله، وإذا كانت الإجازات أمرًا واقعًا فإن المسلم الواعي لا ينبغي أن يغفل عن أمرين مهمّين:
الأول منهما: أن وقت الإجازة جزء من عمره، وأن الوقت هو الحياة، والإجازة لا تعني الفراغ والبَطَالة، ومُؤدّى ذلك هو الأمر الثاني:
أن التكاليف الشرعية لم تسقط عنه، فالإنسان مطالب باستفراغ وقته كله في عبادة الله تعالى، وهي الغاية التي خُلِقَ لها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذرايات:56]. ولا يعني هذا ملء جميع الأوقات بالصلاة والصيام والجهاد بلا فُتُور ولا توقّف، بل المقصود أنه لا يخرج عن طاعة ربه في أي حال من الأحوال، ولا يخرج عن تكليف، فهو مأمور ومَنْهِيّ، ولا يوجد وقت يكون فيه خارجًا عن التكليف يتصرف كيف يشاء، فهو دائر بين الواجبات والسُّنن والمباحات، وهو في أقلّ الأحوال مُكَلَّف بالابتعاد عن منطقة الحرام مهما كان نائيًا أو مُسترِخيًا.
إن الإجازة ليست وقتًا مُقْتَطَعًا على هامش الحياة، بل هي جزء من العمر الذي لا يملكه الإنسان، بل يملكه الله الذي خلقه ليوظّفه الإنسان في طاعة مولاه؛ لذلك حَرُم عليه أن يُهلِك عمره ووقته بأي صورة ولأي سبب، وقد قال الحق سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [النساء:29، 30]، مع أن المُنتحِر لم يقتل سوى عمره ووقته، وهذا يفسّر مسؤولية الإنسان عن عمره أمام خالقه، كما في الحديث الذي رواه الترمذي بسند صحيح أن النبي قال: ((لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه)) [7]. والأسفار جزء من الأعمار، وكلٌّ مسؤول ومحاسَب عن ساعات عمره فيما أمضاها، وبناء عليه ندرك أن المفهوم الشرعي للوقت لا يجعل للإنسان الحق في إضاعة وقته، وندرك أيضًا عظمة الوقت بإقسام الله تعالى به وبأجزائه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
وحين أقسم الله تعالى بالليل إذا يَغْشَى، والنهار إذا تَجَلّى، ونَوْعَي الخلق من الذكر والأنثى قال: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، وحين أقسم بالشمس وضُحَاها، والقمر والنهار والليل والنّفْس قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]، في إشارة من هذه الآيات إلى أن الوقت مادة الحياة، وأن سعي الناس فيها مختلف، فمنهم من يُزكّي نفسه ويُنَمّيها بالخير، ومنهم من يُهْبِطُها في أسفل الدّرَكات بتفريطه وعصيانه.
أيها المسلمون، إن العاقل من تفكّر في أمره، ورأى أن تصرّم أيامه مؤذن بقرب رحيله طال عمره أم قصر، فاحتاط لأمره، واجتهد في يومه، واستعد لغده. ما الوقت إلا حياة الإنسان وعمره الذي هو أنفاس تتردّد، وآماله التي تضيع إن لم تتحدّد، الوقت ثمين ونفيس، وما مضى منه فلن يعود، ولا الزمان بما مضى منه يجود. فهلاّ تنبّهنا لأعمارنا، فكم من غافل يبيع أغلى ما يملك وهو الوقت بأبخس الأثمان! فالوقت مُنْصرِمٌ بنفسه، مُنقضٍ بذاته، ومن غفل عن تداركه تَصَرّمت أيامه وأوقاته، وعظُمَت حسراته، ينقضي العمر بما فيه فلا يعود إلا أثره، فاختر لنفسك ما يعود عليك، ولهذا يقال للسعداء: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ويقال للأشقياء المعذّبين: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا [غافر:75، 76].
وللإنسان يومان يندم فيهما على ما ضَيّع من أوقاته، ويطلب الإمهال: فالأول في ساعة الاحتضار، وذلك حين يقول: رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10]، فيكون الجواب: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11]. والوقت الثاني والموقف الثاني في الآخرة حين يدخل أهلُ النارِ النارَ: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ، فيكون الجواب: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ [فاطر:37].
أيها المسلمون، إن الحفاظ على الأوقات واستثمار الأعمار يحتاج إلى حزم وعزم وهمّة وقوّة إرادة، أما البَطَالة والكسل فهي داء وَبِيل ومرض خطير تنعكس آثاره السيئة على الأفراد والمجتمعات، ويسبّب الخمول والفقر والتخلّف المادّي والمعنوي، ويؤدّي إلى الرذائل والمنكرات، وإن يكن الشُّغل مَشْهَدةٌ فإن الفراغ مَفْسَدَةٌ، ومَن أكثر الرُّقَاد عُدِم المُرَاد، ومن دام كسله خاب أمله، وقل لمن يلتمس الملاهي لصرف وقته: أراك تحسب الحياة لهوًا، فهل تحسب الموت لهوًا؟! وقل لمن يصْرف الأيام بين الأوهام والأحلام: إن كنت تجهل مقدار ما تضيّع من الزمن فقف بالقبور مُلتَمِسًا من سُكّانها بُرْهةً من الوقت؛ لتعلم أنه العزيز الذي لا يُمْلَك، والفائت الذي لا يُستدرَك؟! وكم من قائل: رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99، 100]، فيُقال: كلا؛ إن العمر لا يعود! إن الفراغ لا يبقى فراغًا أبدًا، فلابد أن يُملأ بخير أو شرّ، ومن لم يشغل نفسه بالخير شغلته بالباطل. وقد كان السلف يكرهون من الرجل أن يكون فارغًا لا هو في أمر دينه ولا هو في أمر دنياه. وإذا اجتمع مع الفراغ صحة ومال صار خطرًا إن لم يُشغَل بالخير، وفي صحيح البخاري أن النبي قال: ((نعمتان مْغُبُون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) [8].
عباد الله، إذا لم يكن للمرء غرض صحيح يسعى إليه، وهدف سليم يطلب تحقيقه والوصول إليه؛ ضاع زمانُه، وما أتعب من يمشي بلا مقصد! والإنسان بلا غَرَضٍ كسفينة ليس لها قائد تتقاذفها الأمواج حتى تهلك، والأيام صحائف الأعمال، فخَلّدوها بأحسن الأعمال، والفرص تمرّ مَرّ السحاب، والتَّواني من أخلاق الخَوالِف، ومن استَوَطَأ مَرْكب العَجْز عَثَر به، وإذا اجتمع التَّسْوِيفُ والكسل تولّد بينهما الخُسران. بكى أحد الصالحين عند موته فقيل: ما يبكيك وأنت العبد الصالح؟! قال: أبكي على يومٍ لم أصمه، وليلة لم أقمها. والواقع أن كل من دنا أجله ندم على كل لحظة مرّت بلا عمل صالح محسنًا كان أم مقصّرًا. فهلاّ تداركنا أعمارنا.
إنك لترى في القرون الأولى خير قرون حرصًا شديدًا على أوقاتهم فاق حرص البخيل على ديناره ودرهمه، مما كان حصاده علمًا نافعًا وعملاً صالحًا وجهادًا وفتحًا وعِزًّا وحضارة راسخة الجذور باسِقَة الفروع، ثم إذا نظرت إلى واقع كثير من المسلمين اليوم انقلب إليك البصرُ حَسِيرًا، حين ترى إضاعة الأوقات وتَبذِير الأعمار جاوز حَدّ السَّفَه إلى العَتَه، حتى غدوا في ذيل القافِلة بعد أن كانوا آخذي زمامها.
وبعد: أيها المسلمون، من بُورِك له في عمره أدرك في يسير الزمن مِن مِنَن الله تعالى ما لا يُحصَى، وكم من موفّق لأعمال كثيرة في أزمنة يسيره، حتى إنك لتحسب إنجازاتهم ضربًا من الخوارق، وما هو إلا التوفيق والبركة واستثمار الوقت فيما ينفع، وخير مثال لذلك رسول الله الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وغَيّر وجه التاريخ في ثلاث وعشرين سنة. وهذا عمر بن الخطاب يواصل ليله بنهاره يقول: (إن نمت الليل ضيّعت نفسي، وإن نمت النهار ضيّعت رَعِيّتي) [9] ، فكيف النوم بين هذين! وقال ابن عَقِيل رحمه الله: "إني لا يحلّ لي أن أضيّع ساعة من عمري، حتى إذا توقّف لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة؛ أعملت فكري في حال راحتي وأنا مُسْتطرِح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطّره"، لذا فقد ألّف كتابه الفُنُون الذي قال عنه الذهبي رحمه الله: "لم يُؤلَّف في الدنيا أكبر من هذا الكتاب". وقال ابن القيّم عن شيخه: "وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمرً عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعة"، وقال الذهبي: "إن تصانيفه تبلغ خمس مائة مجلّدة"، هذا مع ما يقوم به من تعليم ودعوة وجهاد، وعند الترمذي بسند حسن أن النبي قال: ((من خاف أَدْلَجَ، ومن أَدْلَجَ بلغ المَنْزِل، ألا إنّ سِلْعَة الله غالية، ألا إنّ سِلْعَة الله الجنة)) [10].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1975)، ومسلم في الصيام (1159) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه بنحوه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/129)، والسمعاني في أدب الإملاء (68).
[3] أخرج أحمد (2/340)، والبخاري في الأدب المفرد (265)، والترمذي في البِرّ (1990) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، إنك تُداعِبُنا! قال: ((إني لا أقول إلا حقًّا)) ، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وأورده الألباني في صحيح الترمذي (1621).
[4] أخرجه أحمد (6/264)، وأبو داود في الجهاد (2578)، وابن ماجه في النكاح (1979)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأورده الألباني في صحيح أبي داود (2248).
[5] أخرجه البخاري في الجهاد (2901)، ومسلم في صلاة العيدين (893) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2899) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
[7] سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة (2417) ، وأخرجه أيضًا الدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد انظرها في السلسلة الصحيحة للألباني (946).
[8] أخرجه البخاري في الرقاق (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[9] أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (44/273).
[10] أخرجه الترمذي في الزهد (2450)، وعبد بن حميد (1460) من طريق يزيد بن سنان التميمي عن بكير بن فيروز عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر"، وصححه الحاكم (4/343)، لكن تُعقِّب، فإن يزيد بن سنان ضعيف، وبكير بن فيروز مقبول، قال ابن طاهر ـ كما في فيض القدير (6/123) ـ: "الحديث لا يصح مسندًا، وإنما هو من كلام أبي ذر".غير أن للحديث شاهدًا يتقوّى به، ولذا أورده الألباني في الصحيحة (2335).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم المِفْضَال، جَزِيل العطاء والنَّوَال. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله وسلّم عليه وعلى جميع الصّحْب والآل.
أما بعد: أيها المسلمون، وحيث الحديث عن الوقت واستثمار العمر فيما ينفع فهذه هَمْسَة في أذن من صرف عمره، وخاطر بحياته في شبهات مظلمات أدّت للوُلوغ في دماء المسلمين.
شباب الإسلام، إن مصائب أمّتكم تَتْرا، وجراحها لم تزل حَرَّى، إلا أن جرحها النازِف وداءها الدَّوِيّ أن يكون مُصَابُها في شبابها، في قناعاتهم وتفكيرهم، وفي معتقداتهم وسلوكهم وحربهم وسلمهم، مصيبتها أن يَنُدَّ بعض شباب الأمة عن سِرْبٍ فيه العلماء والشيوخ والحكّام وأصحاب الرأي ممن يوازنون المصالح، ويدافعون أعظم المفسدتين بأخفّهما، شُرُودٌ تكون نتيجته جَزٌّ لأعناق، ودماء تُسْفَح وتُرَاق، في مواجهات ترى طَرَفَيها مُسلِمَيْن، وساحاتها بلاد الحرمين. لقد عَذَل العاذِلون، ونَصَح الناصِحون، وبيَّن العلماء الراسخون، فهل أنتم منتهون؟! كم أُريقت دماء كان أحرى أن تُصرف للبناء، متمسّكين في ذلك بغَرْز العلماء، سائرين على سَنن خاتم الأنبياء!
فنداء من مُشفِق ناصح لمن فارق الجماعة أن يعود، ولمن أخطأ أن يَسْتَعْتِب ويتوب، ولمن ظُنَّ به ظَنٌّ يخالف واقعه أن يُسلّم ليسلَم، ويزيل ما التبس ليأمن، والشجاعة ضروب، في ذُرَاها الاعتراف بالخطأ، وتحمّل تَبِعَاته. وأملنا وظنّنا أن تجدوا تَفَهّمًا وحكمة وعذرًا ورحمة، وإلا فكفّاراتٌ للذنوب وماحِيات للخطايا، وكلا الأمرين خير للمسلم من التمادي في الخطأ والإمعان في العناد، وما قدّره الله كائن، وله ـ سبحانه ـ الأمرُ من قبل ومن بعد، نعوذ بالله من مُضِلاّت الفتن.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الله أمركم بالصلاة والسلام على خير البريّة، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، ومن صلّى عليه صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا، اللهم صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/4237)
الصيّف والعناية بالشباب
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, قضايا المجتمع
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
24/5/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفكير في الفعل والقيام بالأفعال ملازم لكل إنسان. 2- الإنسان قابل لعمل الخير وقابل لعمل الشر. 3- منكرات ومخالفات تقع في الصيّف، وما يترتب عليها. 4- نصيحة للشباب في الاهتمام بأوقاتهم. 5- رسالة للوالدين وللمعنيين بأمر الشباب. 6- الوصية باستثمار الأيام قبل فواتها بالأعمال الصالحات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله بامتثال أمره الأكيد، وراقبوه مراقبة من يخشى العذاب الشديد.
أيها الناس، إن فترة الصيف فترةٌ فيها منافع، فمن انتفع بها بالأيام فقد أحسن إلى نفسه وإلى مجتمعه، ومن ضيع الساعات بلا مكاسب نافعة فقد أساء إلى نفسه وإلى مجتمعه، وإن الإنسان لا يمكن أن يبقى متوقفًا بلا حركة عَمَلٍ؛ فقد خلقه الله بإرادة يتبعها عمل، وأتاه الله القدرات والصفات التي يتمكن بها من تحقيق الآمال، والقيام بالأفعال بإذن الله. والإنسان بين تفكير وإرادة وعمل دائمًا لا ينفك عن ذلك، كما قال النبي : ((أصدق الأسماء حارث وهمام)) [1]. والمعنى: أن التفكير في الفعل والقيام بالأفعال ملازم لكل إنسان، فالحارث هو العامل، والهمّامُ هو المريد للأفعال.
والإنسان قابل لعمل الخير وقابل لعمل الشر؛ لما ركب الله فيه من الصفات، قال الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 7 ـ 10] وقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان: 2، 3]. فمن صَلُحَ وأَصَلَحَ في الدِّين والدنيا كان من المحسنين المصلحين، الذين وعدهم الله بقوله: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام:48]، وبقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170]. ومن فَسَدَ في نفسه وأَفَسَدَ في الدِّين والدنيا كان من الشياطين المَخَزِيّنَ المخذولين، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204 ـ 206].
وقد بين الله تعالى أعمال الخير والشر، وأحل الحلال وحرم الحرام، وفَصَّلَ المباحات، فمن الناس من أغتنم الأوقات فَمَلأَ زمن عمره بالأعمال الصالحات، وانتفع بالمباحات ونفع المسلمين في دينهم ودنياهم، ففاز بخيري الدنيا والآخرة. ومن الناس من ضيع ساعات عُمُرِه في اللهو واللعب، ونسي حق ربه عليه، ولم يؤدي حقوق الخَلَقِ فخسر خسرانًا مبينًا.
وزمن الصيف وما شابهه يشاهد فيه الكثير من الشباب وغيرهم، ينتشرون في الشوارع والطرقات في ساعات الليل كُلِّهَا، ويَتَحَلَقُونَ على الأرصفة، ويرتادون المقاهي والمنتزهات، يسهرون الليل كلَّه ويعودون أنفسهم على ذلك، يقضون الأوقات على شرب الدُخَانِ والشِّيشةِ ونحوها، ويخوضون في أودية الكلام الذي يضر ولا ينفع، ويجرهم ذلك إلى مخاطر تضرهم في دينهم ودنياهم وصِحَتِهمِ، ويجعلوا نومهم في النهار فيفوتون على أنفسهم مصالح كثيرة، ويضيعون فرص عظيمة، ويخسرون صلاة الفجر وغيرها، ويَعَكِسون سنن الله؛ فقد جعل الله الليل راحة وسَكْنًا، والنهار معاشًا وعملاً.
إن على الشباب أن يدركون ما ينفعهم فيجتهدوا في تحصيله مستعينين بالله تعالى، وأن يدركون ما يضرهم فيبتعدوا عنه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزنّ)) [2]. وكل يومٍ لا يعود أبدًا فهو شاهد لك أو عليك.
وعلى الوالدين والمعنيين أمانةٌ عظيمة، بأن يهيوا للشباب ما يستثمرون به أوقاتهم، بإيجاد البدائل النافعة بتوجيههم إلى أنشطة المراكز الأمَيِنَة والدورات العِلميَّة النافعة، وحلقات العلم وتحفيظ القرآن وحضور المحاضرات، وامتصاص طاقاتهم في حدود المباح، وأن يراقبوا مداخل الشباب ومخارجهم، وألا يدعوهم نهبًا لجلساء السوء ونزوات الشباب، ومخاطر الفراغ ومُفَسِدِ العقائد والأفكار، ومجالس اللهو والضياع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله : ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته ومسئول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عنه، والخادم راعٍ في مال سيدة ومسئول عنه، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) [3] رواه البخاري ومسلم.
ولَذَّةُ الحياة ونَعِيمُها في عبادة الله تعالى والجِّدِ والعمل بكل صالح مفيد، ونَكَدُ الحياة وتَعَاستُها وشقاؤها في معصية الله تعالى، وفي اللهو واللعب والكسل، واهتمامات البهائم والغفلة عن عواقب الأمور، قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:20، 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] أخرجه بهذا اللفظ ابن وهب في الجامع (ص7) قال: أخبرني داود بن قيس عن عبد الوهاب بن بُخْت مرفوعًا.
قال الألباني في الصحيحة (1040): "وهذا إسناد مرسل صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم".
وللحديث شاهد ـ قد يتقوى به ـ من حديث أبي وهب الجشمي ـ وكانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله : ((تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرّة)).
أخرجه أحمد (4/345)، وأبو داود في الأدب، باب: تغير الأسماء (4950).
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم في القدر (2664). من حديث أبي هريرة.
[3] صحيح البخاري كتاب الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893). وصحيح مسلم كتاب الإمارة (1829).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمد عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه مراقبة من يعلم أن الله مطلع على سِرِّه ونَجَواه.
أيها المسلمون، يقول ربكم جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19]. ومعنى نَسُوا اللَّهَ أي: نسوا أوامره ونواهيه فأنساهم أنفسهم، أنساهم أن يقدموا لأنفسهم خيرًا. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:19، 20].
فيا عباد الله، استثمروا الأيام قبل فواتها بالأعمال الصالحات، وبما ينفعكم في دنياكم وأخراكم، فالحياة المباركة هي حياة العمل الصالح الذي يُصْلِحُ كل شيء، والحياة الشقية هي الحياة التي يُضَيّعُ فيها الإنسان الأمانة، وفي الحديث عن النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) [1]. وفي الحديث أيضًا عن النبي : ((لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه)) [2].
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [3]. فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد...
[1] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417)، والدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191). من حديث أبي برزة الأسلمي.
قال الترمذي: "حسن صحيح". وله شواهد انظرها في السلسة الصحيحة للألباني (946).
[3] أخرجه مسلم في الصلاة (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(1/4238)
النكاح فوائد وأحكام
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/5/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص في الحث على النكاح. 2- من حكم النكاح وفوائده. 3- حث الشباب على النكاح. 4- دور المجتمع في تيسير النكاح. 5- توجيهات في الخطبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، من حكمة الربّ جلّ وعلا أنْ كَوّن بني الإنسان من ذكر وأنثى إلا ما استثنى الله من عيسى عليه السلام، فكان من أنثى بلا ذكر؛ آية ومعجزة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، فتأمّل قوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً ، فجعل الله جنس البشر من الذكر والأنثى، فَبِهِ امتداد حياة بني الإنسان.
ولذا جاءت النصوص من كتاب الله وسنة رسوله لترغّب في النكاح أوّلاً، لتأمر به وترغّب فيه، وتبيّن ما يترتّب عليه من الخير والثواب العظيم، قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ [النور:32]، وقال: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]. وأخبر تعالى أن الزواج من سُنن المرسلين، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38]. وامتنّ على زكريّا عليه السلام بقوله: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]. ونبيّنا ردّ على أناس أرادوا الزهد بترك الزواج فقال: ((لكنّي أتقاكم لله وأخشاكم له، أما إني أصلّي وأنام وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي)) [1] ؛ لأنّ بانقطاع النكاح وتعطيله سبب لانقطاع نَسْل بني الإنسان.
وفي هذا النكاح الشرعي من المصالح والفوائد ما الله به عليم، ولا يستطيع إنسان أن يُحصي جميع فضائله ومزاياه، لكن من ذلك: صَوْن النفس عن المحرّمات، والحَيْلُولة بين العبد وبين قضاء الغَرِيزة فيما حرّم الله، فإنّ الله جلّ وعلا رَكّب في الرجال هذه الغَرِيزة ومثلها في النساء أيضًا، إذن فهذه الغَرِيزة لا يَرْوِيها من جهة الجنسين إلا النكاح المشروع الذي أذن الله فيه وأمر به، فإنه الذي تُرْوَى به الغَرِيزة حقًّا، أمّا ـ والعياذ بالله ـ الطرق السيّئة وسلوك الطرق المُلْتَوِية فهذا ضرر وبلاء، نسأل الله السلامة والعافية، وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32].
ونبيّنا وجّه الشباب إلى هذا الأمر فقال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءَة فليتزوّج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج)) [2] ، فبيّن الحكمة العظيمة من هذا، وأنه غضّ للبصر عن التطلّع إلى ما حرّم الله، وتحصين للفرج وحفظ له من الانطلاق في الشهوات المُرْدِية، مع ما يترتّب عليه من بناء الأسرة والمساهمة في إصلاح المجتمع، والقيام بالحقوق والواجبات، وفي الحديث: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) [3].
ومن أهداف هذا النكاح ما يحصل للزوجين من الأُنس والراحة، فإنّ الله جعل المرأة سَكَنًا للرجل، قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [الأعراف:189]، فسَكَنُ الرجل إنما هو لامرأته التي أخذها بهذا النكاح الشرعي، فهو يطمئنّ إليها ويأتمنها، ويرعى فراشه الصحيح، ويعدّها شريكته في حياته، بخلاف العلاقات الجنسية الباطلة، فإنما هي مجرّد قضاء وَطَرٍ وبينهما من الشِّقاق والخلاف ما لا يعلمه إلا الله، وقَلَّ مُفسِد إلا وهو يُبغِض تلك الخبيثة ويكرهها، أما الزواج الشرعي فإن الله جعله سببًا للتآلف بين الزوجين، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
ومن أهدافه أيضًا حصول الولد، فحصول الولد نعمة من الله، وتحقيقٌ لأُمنية محمد القائل: ((تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مُكاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة)) ، جاءه رجل من أصحابه خطب امرأة أعجبته، فقال: يا رسول الله، خطبت تلك المرأة ـ وذكر من جمالها وحسنها ـ غير أنها لا تَلِد. قال: ((تزوّج غيرها)) ، فكرّر عليه، فقال: ((تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مُكاثِرٌ بكم الأمم يوم القيامة)) [4].
وأخبر عن زكريّا عليه السلام في دعائه لربّه أنه قال: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ، قال الله: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:89، 90].
ومع كون الولد زينة في الدنيا كما قال جلّ وعلا: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:46]، ومع هذه الزينة فهذا الولد تقرّ به عين أبيه إن رَبّاه على الخير والتّقى، فيكون عونًا لأبيه على مُهمّاته، ويشدّ الله به أَزْرَه، وتقرّ به عينه، وتمتدّ به حياته بعد موته، هذا الولد إن عاش فنعمة من الله تعالى على أبيه، يدعو لأبيه بعد موته، ويُذكَر بالخير بعد موته، يقول : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [5].
هذا الولد والزوجة والإنفاق عليهما مما يرفع به الله درجات العبد، ففي الحديث يقول لسعد بن أبي وَقّاص: ((إنك لن تُنفِق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرت عليها، حتى ما تضع في فيّ امرأتك)) [6].
وبيّن أن الرجل ينال الثواب العظيم مع تلذّذه بما أباح الله له، فيقول : ((وفي بُضْع أحدكم صدقة)) ، أي في فَرْجه، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) [7].
وتربيته للبنين والبنات وإعدادهم الإعداد الصحيح بتوفيق الله أجرٌ يناله بعد موته، فإن من دعا إلى الله كان له من الأجر العظيم وأجر من انتفع بدعوته إلى يوم القيامة، فالأولاد إذا رُبّوا على الخير، ووجُّهِوا التوجيه السليم فكل عمل صالح يفعلونه فإنّ لأبيهم مثل ذلك في الأجر إن قصد بذلك وجه الله والدار الآخرة.
أيها المسلم، وفي هذا الزواج ارتباط الأسر بعضها ببعض، وتآلف القلوب فيما بينها، فقد جعله الله سببًا للارتباط، واتصال الأسر بعضها ببعض، كل ذلك من حكمة الله العظيمة وفضله وكرمه وجوده وإحسانه.
أيها الشاب المسلم، إن الزواج نعمة من الله، ومن تَهَيّأ له في أول شبابه فنعمة من الله، نعمة من الله أن ينشأ الشاب عَفِيفًا صَيِّنًا، يعجب ربّك إلى شاب ليس له صَبْوَة، ينشأ عَفِيف الفرج، ينشأ عظيم الهمّة، ينشأ في أخلاق وطهارة وعِفّة، فيبني حياته على الخير والتُّقَى، فتلك النعمة العُظمَى، بخلاف ـ والعياذ بالله ـ من تكون غَرائزه في المنكرات والفساد والبلاء والأمراض المُعدِية والفساد العظيم، فيضطرب قلبُهُ، ولا تقرّ له عين، بل هو دائمًا من خبيثة إلى خبيثة، ومن فاجرة إلى فاجرة، هذا ـ والعياذ بالله ـ عين التّشتّت، وذهاب الدين والدنيا، نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية.
أيها الشاب المسلم، إن الزهد في الزواج ليس من أخلاق المسلمين، فمن أخلاق المسلمين المُبادَرة لهذا الأمر، والحرص عليه، والسعي الدؤوب في تحصيله، والاستعانة بالله، والتعفّف عن محارم الله، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، قال بعض السلف: وَعْدٌ لمن عَفّ عن محارم الله أن ييسّر الله له سبل الزواج، وأن يعينه على ذلك، ويهيّئ له من أمره رَشَدًا.
أيها الشاب المسلم، قد تُعلّل فتقول: عَقَبات كَأْدَاء، ومصارف كثيرة، وتبعات ومسؤوليات، من لي بتحمّل هذه المشاكل؟ وأين لي هذا المهر؟ وأين لي هذه التكلفات؟ وأين، وأين؟ فتحسب وتعدّ فتبقى حائرًا، وتقول: هذا الزواج مشكلة عُظمَى وبليّة لا أستطيع أن أجاوز عَقَباتها، ولا أستطيع تحمّلها تحمّلها. نقول: يا أخي، حقًّا إنها مشكلة، ولكن من استعان بالله، والتجأ إلى الله، وعَفّ عن محارم الله، وعلم الله ذلك من نيّته فإن الله سيفتح له باب الرزق، ويهيّئ له الأمور، وييسّر عليه العسير، فيقول : ((ثلاثة حقّ على الله عَوْنُهم)) ، ذكر منهم: ((الشاب يتزوج يريد العَفَاف)) [8] ، يعني: يستدين يريد العَفَاف، فإذا استدان دَيْنًا في مَعْقول وحدود قدرته من غير سرف وأراد بذلك عِفّة نفسه فإن الله يعينه على قضاء دَيْنه، وييسّر له الأمور، ويفتح له من عنده باب رزق، والله يرزق من يشاء بغير حساب، المهم الجدّ في الأمر، المهمّ العِفّة عن محارم الله.
ولأن كان المجتمع المسلم أيضًا مطالبًا بالتعاون في هذا الجانب وبذل كل سبب، وأن كل فرد من المسلمين مطلوب بأن يسعى في التيسير والتسهيل وتذليل الصعاب أمام شبابنا وشابّاتنا، فالرجل يُحِبّ لبناته أن يراهُنّ متزوّجات قد صانهنّ الله بالزواج، وبَرّهنّ بالصالح من الأولاد من ذكور وإناث، والرجل يُحِبّ أن يرى أبناءه متزوجين قد يسّر الله أمورهم، وهَيّأ لهم الأمور، إذن فالكل مطالب بالتيسير والتسهيل، والكل مطالب بأن يكون عونًا لهذا الشاب على الخير. عندما يتقدّم شابٌّ تعلم أخلاقه، وتعجبك سيرته وأخلاقه واتّزَانه وأهليته للزواج إذن أنت مطالب ـ يا أبا الفتاة ـ أن تُيسّر الأمور، ولا تحمل على الشاب ما لا يطيق، ولا تطالبه بما لا يستطيع، واجعل الأمر يسيرًا، فخيرهنّ أهونهنّ تكلفة، خيرهنّ أيسرهنّ مهورًا، فحاول [التيسير]، وحاول أن تبذل جهدك حتى تُزَوَّج هذه الفتاة، ويزوّج هذا الشاب، فأنت بهذا أحسنت لابنتك، وأنت بهذا أحسنت لابن أخيك الشاب المسلم، فأعنت الجميع على الزواج، وذلّلت الصعاب، ولم تجعلها مُمَاراة ومفاخرة ولا مُساوَمة، إن البعض قد يعدّها مفاخرة، يفخر بليلته وبوليمة عرسه، ويفخر بالحفلات، وتُنفَق عليه الأموال الطائلة التي قد تخرج من دور الحلال إلى دور التبذير المحرّم. إن المجتمع المسلم مطالب بأن يكون هذا التعاون بين أفراده، لا من جهة أولياء الفتيات، ولا من جهة الأزواج، أن يكون الكل بينهم تعاون وتفاهم وتساعد وحرص على الخير.
إن التفاخر بالولائم، إن التفاخر بالحفلات، إن التفاخر بهذه الأمور ليست ـ والله ـ من شريعة الإسلام، ليست من هدي الإسلام، الزواج مطلوب، والإعلان له مطلوب، والوليمة له مطلوبة، والدعوة لحضوره مؤكّد إجابتُها، لكن ليلتزم المسلمون العدل في أمورهم، ولا يكن للنساء السيطرة على هذا الفِكْر، وإنما الرجال العقلاء الذين يحبون لفتياتهم التوفيق، ويحبون لأبنائهم كذلك، فالمجتمع أيضًا مطلوب منه التعاون في هذا المجال؛ لأن التعاون بيننا يحقّق ولاية بعضنا لبعض: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فمن ولايتك لأخيك المسلم، من موالاتك له أن تسعى في إيصال الخير، فالفتيات أمانة في أعناق الآباء، حرام على الأب أن يَزُجَّ بالفتاة لمن لا يثق بدينه وأمانته، وحرام عليه أن يمنعها الكفء المناسب، وحرام عليه أن يُساوِم على زواجها، ويجعلها منزلة وميزانًا يزن به من تقدّم، بكثرة مال وكثرة وليمة أو نحو ذلك.
إن مجتمعنا المسلم إذا تأمّل هذا كل منا بذل جهده، وكل منا نصح أخاه، وكل منا كان سببًا في إيجاد الأمور الميسرة، فإن ذلك عنوان خير، والمطلوب منّا تشجيع من تكون هذه صفاته، أما المفاخرات والخروج عن المعقول ـ فيا إخواني ـ ضرره عظيم، نفقات طائلة، وقد يتحمّلها بعض المُقِلّين فيتحمّلون في ذممهم ما لا طاقة ولا قدرة لهم بوفائه، وقد تجود النفوس الغنيّة بالأموال في هذا المجال، ولو طَلَبَ فقيرٌ أو محتاجٌ منهم شيئًا لبخلت النفوس، وشحّت النفوس، وانقبضت الأيدي، لكن في سبيل السَّفَه والأمور الكثيرة تجود النفوس بهذه الأموال. فإن مجتمعنا يجب أن يتحلّى بالصدق والوفاء، يجب أن يتحلّى بالتعاون، فهي قضايا لا يمكن فرضها على كل أحد، لكن إذا كان في المجتمع حبّ الخير للجميع والتعاون على البرّ والتقوى فإن هذا يجعل الله فيه سببًا مباركًا، أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يحفظ شبابنا وفتياتنا، وأن يصلح حالنا، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأن يجعلنا ممن يسعى في الخير جهده، وأن نكون قدوة صالحة وأسوة لغيرنا، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1905)، ومسلم في النكاح (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه الترمذي في النكاح (1084)، وابن ماجه في النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم في المستدرك (2/179) وتعقّبه الذهبي، وحسّنه لغيره الألباني في السلسلة الصحيحة (1022)، وأعلّه البخاري والترمذي بالانقطاع.
[4] أخرجه أبو داود في النكاح (2050)، والنسائي في النكاح (3227) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (9/363)، والحاكم في المستدرك (2/176).
[5] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (56)، ومسلم في الوصية (1628).
[7] أخرجه مسلم في الزكاة (1006) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (2/437)، والترمذي في فضائل الجهاد (1655)، والنسائي في النكاح (3218)، وابن ماجه في الأحكام (2518)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسّنه الترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، إن المسلم يلزم الصدقَ في الأحوال كلها، إن المسلم بعيد عن الكذب والغش، إن المسلم بعيد عن الخداع والتدليس، إنه واضح في أحواله كلها، عندما يتقدّم الشاب للفتاة، ويتقدم لولي هذه المرأة ينشده أن يعقد له عليها، فسنة رسول الله أجازت لهذا الخاطب أن ينظر إلى تلك الفتاة، أجاز له أن ينظر إليها؛ فإنّ نظره إليها سبب لإنزال البركة بينهما، جاء أن النبي أمر رجلاً من أصحابه خطب امرأة قال: ((انظر إليها؛ فلعلّه أَحْرى أن يُؤدَم بينكما)) [1]. فسُنّ للأب أن يمكّن الخاطب من النظر إلى من خطبها، لكن هذا النظر مُقيّد بأن يكون بحضور محرمها أبوها، إن يكن الأب أو أي ولي من أوليائها؛ إذ هي أجنبية عنه قبل أن يعقد عليها، فينظر إليها من غير خلوة، وينبغي الصدق في كل الأحوال، لا الزوج لا ينبغي أن يغش أهل المرأة، ولا المرأة أن يغشوا الزوج، ولا الخاطبة أو الخاطب أن يزوِّرَا، بل الواجب على الجميع الصدق والإخبار بالحقيقة، فهذا سبب لاستمرار هذا العقد.
أيها الشاب المسلم، لعلّ البعض أن يستغلّ الخطبة فيتصل دائمًا بالفتاة ليلاً ونهارًا، هذا الاتصال الهاتفي الذي قبل عقد النكاح حكمه في الشرع أنه لا يجوز؛ لأنه قد يُسبّب مشاكل، وقد يحدث لقاءات بينهما، لقاءات مشبوهة؛ لأنه ما لم يتم العقد عليها فهي حرام عليه، إذن فلا ينبغي كثرة الاتصالات، ولا هذه اللقاءات التي لا تجوز، إذا خطب فليتق الله، وليبادر أولياء المرأة وأولياء الزوج بأن يحقّقوا الأمر، وينجزوا المهمّة؛ حتى يرتاحوا من هذه المشاكل والاتصالات التي قد لا تخدم هدفًا، ومن المصيبة أن هذه الاتصالات بعد الخطبة وقبل العقد كثيرًا منها تَسَبّب في انفساخ الخطبة، لماذا؟ لأن بعض الشباب قد يكون عنده شكوك ووساوس وأمور خطيرة، وقد يكون بعضهم ـ نسأل الله العافية ـ له علاقات مشبوهة مع أخريات، فيحاول أن يكتشف أمر هذه الزوجة، ويحاول أن يلفّ من هنا وهناك عسى أن يظفر منها بكلمة تدلّه على شيء منها، يبحث عن أمور ما كُلّف بها، وربما سبّب إلى فرقة بينه وبينها وبينه وبين أهلها؛ لأن هذه الاتصالات الكثيرة لا تخدم هدفًا، إذا نظرت إليها ونظرت إليك فالحمد لله، فليسع الجميع في تحقيق الزواج والاستعجال به إذا أمكن، أمّا تركه شهورًا عديدة واتصالات ليلاً ونهارًا فهذه تثير الغَرائز، ولا تحقّق هدفًا، وربما استغلّها عدو الله إبليس في أمور لا تُحْمد عُقْبَاها، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مَجْرَى الدم.
أسأل الله أن يحفظ الجميع بحفظه، ويحيطنا بعنايته، ويرزقنا العِفّة عن محارمه، إنه على كل شيء قدير...
[1] أخرجه أحمد (4/244)، والترمذي في النكاح (1087)، والنسائي في النكاح (3235)، وابن ماجه في النكاح (1866)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وحسّنه الترمذي.
(1/4239)
الصيّف والعناية بالشباب
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, قضايا المجتمع
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
24/5/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفكير في الفعل والقيام بالأفعال ملازم لكل إنسان. 2- الإنسان قابل لعمل الخير وقابل لعمل الشر. 3- منكرات ومخالفات تقع في الصيّف، وما يترتب عليها. 4- نصيحة للشباب في الاهتمام بأوقاتهم. 5- رسالة للوالدين وللمعنيين بأمر الشباب. 6- الوصية باستثمار الأيام قبل فواتها بالأعمال الصالحات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله بامتثال أمره الأكيد، وراقبوه مراقبة من يخشى العذاب الشديد.
أيها الناس، إن فترة الصيف فترةٌ فيها منافع، فمن انتفع بها بالأيام فقد أحسن إلى نفسه وإلى مجتمعه، ومن ضيع الساعات بلا مكاسب نافعة فقد أساء إلى نفسه وإلى مجتمعه، وإن الإنسان لا يمكن أن يبقى متوقفًا بلا حركة عَمَلٍ؛ فقد خلقه الله بإرادة يتبعها عمل، وآتاه الله القدرات والصفات التي يتمكن بها من تحقيق الآمال، والقيام بالأفعال بإذن الله. والإنسان بين تفكير وإرادة وعمل دائمًا لا ينفك عن ذلك، كما قال النبي : ((أصدق الأسماء حارث وهمام)) [1]. والمعنى: أن التفكير في الفعل والقيام بالأفعال ملازم لكل إنسان، فالحارث هو العامل، والهمّامُ هو المريد للأفعال.
والإنسان قابل لعمل الخير وقابل لعمل الشر؛ لما ركب الله فيه من الصفات، قال الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس: 7-10] وقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:2، 3]. فمن صَلُحَ وأَصَلَحَ في الدِّين والدنيا كان من المحسنين المصلحين، الذين وعدهم الله بقوله: فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام:48]، وبقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170]. ومن فَسَدَ في نفسه وأَفَسَدَ في الدِّين والدنيا كان من الشياطين المَخَزِيّينَ المخذولين، كما قال تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ [النحل:88]، وقال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
وقد بين الله تعالى أعمال الخير والشر، وأحل الحلال وحرم الحرام، وفَصَّلَ المباحات، فمن الناس من اغتنم الأوقات فَمَلأَ زمن عمره بالأعمال الصالحات، وانتفع بالمباحات ونفع المسلمين في دينهم ودنياهم، ففاز بخيري الدنيا والآخرة. ومن الناس من ضيع ساعات عُمُرِه في اللهو واللعب، ونسي حق ربه عليه، ولم يؤدّ حقوق الخَلَقِ فخسر خسرانًا مبينًا.
وزمن الصيف وما شابهه يشاهد فيه الكثير من الشباب وغيرهم، ينتشرون في الشوارع والطرقات في ساعات الليل كُلِّهَا، ويَتَحَلّقُونَ على الأرصفة، ويرتادون المقاهي والمنتزهات، يسهرون الليل كلَّه ويعودون أنفسهم على ذلك، يقضون الأوقات على شرب الدُخَانِ والشِّيشةِ ونحوها، ويخوضون في أودية الكلام الذي يضر ولا ينفع، ويجرهم ذلك إلى مخاطر تضرهم في دينهم ودنياهم وصِحَتِهمِ، ويجعلون نومهم في النهار فيفوتون على أنفسهم مصالح كثيرة، ويضيعون فرصًا عظيمة، ويخسرون صلاة الفجر وغيرها، ويَعْكِسون سنن الله؛ فقد جعل الله الليل راحة وسَكَنًا، والنهار معاشًا وعملاً.
إن على الشباب أن يدركوا ما ينفعهم فيجتهدوا في تحصيله مستعينين بالله تعالى، وأن يدركوا ما يضرهم فيبتعدوا عنه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزنّ)) [2]. وكل يومٍ لا يعود أبدًا فهو شاهد لك أو عليك.
وعلى الوالدين والمعنيين أمانةٌ عظيمة، بأن يهيئوا للشباب ما يستثمرون به أوقاتهم، بإيجاد البدائل النافعة بتوجيههم إلى أنشطة المراكز الأمَيِنَة والدورات العِلميَّة النافعة، وحلقات العلم وتحفيظ القرآن وحضور المحاضرات، وامتصاص طاقاتهم في حدود المباح، وأن يراقبوا مداخل الشباب ومخارجهم، وألا يدعوهم نهبًا لجلساء السوء ونزوات الشباب، ومخاطر الفراغ ومُفَسِدِ العقائد والأفكار، ومجالس اللهو والضياع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله : ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته ومسئول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عنه، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عنه، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) [3] رواه البخاري ومسلم.
ولَذَّةُ الحياة ونَعِيمُها في عبادة الله تعالى والجِّدِ والعمل بكل صالح مفيد، ونَكَدُ الحياة وتَعَاستُها وشقاؤها في معصية الله تعالى، وفي اللهو واللعب والكسل، واهتمامات البهائم والغفلة عن عواقب الأمور، قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:20، 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] أخرجه بهذا اللفظ ابن وهب في الجامع (ص7) قال: أخبرني داود بن قيس عن عبد الوهاب بن بُخْت مرفوعًا.
قال الألباني في الصحيحة (1040): "وهذا إسناد مرسل صحيح، رجاله ثقات رجال مسلم".
وللحديث شاهد ـ قد يتقوى به ـ من حديث أبي وهب الجشمي ـ وكانت له صحبة ـ قال: قال رسول الله : ((تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرّة)).
أخرجه أحمد (4/345)، وأبو داود في الأدب، باب: تغيير الأسماء (4950).
[2] جزء من حديث أخرجه مسلم في القدر (2664). من حديث أبي هريرة.
[3] صحيح البخاري كتاب الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893). وصحيح مسلم كتاب الإمارة (1829).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه مراقبة من يعلم أن الله مطلع على سِرِّه ونَجْواه.
أيها المسلمون، يقول ربكم جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19]. ومعنى نَسُوا اللَّهَ أي: نسوا أوامره ونواهيه فأنساهم أنفسهم، أنساهم أن يقدموا لأنفسهم خيرًا. وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:19، 20].
فيا عباد الله، استثمروا الأيام قبل فواتها بالأعمال الصالحات، وبما ينفعكم في دنياكم وأخراكم، فالحياة المباركة هي حياة العمل الصالح الذي يُصْلِحُ كل شيء، والحياة الشقية هي الحياة التي يُضَيّعُ فيها الإنسان الأمانة، وفي الحديث عن النبي : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ)) [1]. وفي الحديث أيضًا عن النبي : ((لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه)) [2].
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [3]. فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آله محمد...
[1] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417)، والدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191). من حديث أبي برزة الأسلمي.
قال الترمذي: "حسن صحيح". وله شواهد انظرها في السلسة الصحيحة للألباني (946).
[3] أخرجه مسلم في الصلاة (384)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
(1/4240)
الإشاعات والحرب النفسية
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
24/5/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب التثبت في نقل الأخبار. 2- الحذر من نقل وإشاعة الأخبار الكاذبة. 3- المفاسد والأخطار المترتبة على نشر الإشاعات. 4- انتهاج الدول والشعوب قديمًا وحديثًا سياسة حرب الأعصاب بنشر الإشاعات. 5- الوضع الحالي للمسلمين في حي البستان وحي وادي حلوة في قرية سلوان في فلسطين. 6- التوكيد لرفض محاولات التهويد بجميع أشكاله. 7- الأخطار تحدق بالمسجد الأقصى وتزداد يومًا بعد يوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
أيها المسلمون، لهذه الآية الكريمة سبب نزول، فقد أسلم بنو المُصْطَلق في السنة الخامسة للهجرة وحسن إسلامهم، وطال انتظارهم لموظف الصدقات لدفع الزكاة له، فبعث الرسول بناء على طلبهم موظّفًا إليهم لأخذ الزكاة منهم، ويُدعَى الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط، وذلك في السنة الثامنة للهجرة، فلما علم بنو المُصْطَلق بقدوم الوليد بن عقبة خرج عشرون رجلاً منهم لاستقباله ترحيبًا وتكريمًا له، فلما رآهم عن بُعدٍ ظنّ وتوهّم أنهم يريدون قتله، فرجع مسرعًا إلى المدينة المنورة، وأخبر الرسول بأن بني المُصْطَلق ارتدّوا عن الإسلام، وأنهم امتنعوا عن دفع الزكاة.
أيها المسلمون، وبعد [ذلك] استهجن النبي من هذا الخبر؛ لأن بني المُصْطَلق هم الذين أرسلوا شخصًا من طرفهم، يطلبون من الرسول أن يُكَلّفَ موظف الصدقات للوصول إليهم، ليدفعوا له زكاة أموالهم. فالخبر الذي أتى به الوليد بن عقبة يدعو للاستغراب.
أيها المسلمون، لقد كَلّفَ الرسول القائدَ خالد بن الوليد لاستكشاف الأمر، فسار خالد إليهم ووصلهم خُفْية بالليل، وحين حان وقت الفجر سمع الأذان يُرفَع في مسجد بني المُصْطَلق، فاطمأنّ خالد [إلى] أن بني المُصْطََلق مسلمون، ولا يزالون على دينهم.
من هنا ندرك أن رفع الأذان من علائم الإسلام، وأنه شعيرة من شعائر المسلمين لابد من المحافظة عليها، وأن المآذن رمزٌ لإسلامية البلاد، لذا قال معظم الفقهاء بأن رفع الأذان فرض كفاية على المسلمين.
أيها المسلمون، لقد دخل خالد بن الوليد حي بني المُصْطَلق وأخذ منهم الزكاة، وأخبروه أن الوليد بن عقبة لم يصل إليهم، وبالتالي لم يطلب منهم دفع الزكاة. فلما عاد خالد إلى المدينة المنورة أخبر النبي بما حصل معه، فنزلت هذه الآية الكريمة في حق الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيط، ووصفته بأنه فاسق.
أيها المسلمون، توضّح لنا هذه الآية الكريمة بأنه يجب علينا أن نتبيّن وأن نتثبّت من الأخبار التي نسمعها، ولا يجوز شرعًا أن نردّد خبرًا إذا كنا غير مستوثقين ولا متأكّدين منه، كما لا يجوز شرعًا للمسلمين أن يصغوا لمروّجي الإشاعات. وإن الله عز وجل قد ذمّ أولئك الذين يستمعون للأكاذيب بقوله في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ [المائدة:41].
وقد بيّن القرآن الكريم عقاب هؤلاء السمَّاعين بقوله: لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41]. وفي آية أخرى في سورة المائدة أيضًا: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]. وقال سبحانه وتعالى في وصف المنافقين وأتباعهم في سورة التوبة: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة:47].
أيها المسلمون، إن من المؤسف أن نجد في مجتمعنا من يستمع للمنافقين وللعملاء، فهو شريك معهم في الإثم؛ لأنه يروّج وينشر ما يقولون من الأكاذيب والافتراءات. وقد حذّرنا ديننا الإسلامي العظيم من أن نكون أداة نقل للأخبار الكاذبة والمضلّلة، حتى لا نكون مشاركين في ترويج الإشاعات بقصد أو بدون قصد، فنقع في الإثم الكبير، لقول رسولنا الكريم : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) متفق عليه عن الصحابي الجليل أبي هريرة. كما حذّرنا ديننا العظيم من أن ننقل كل شيء نسمعه، لقول الرسول : ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدّث بكل ما يسمع)) ، وفي رواية: ((كفى بالمرء إثمًا أن يحدّث بكل ما يسمع)) رواه مسلم عن أبي هريرة.
هذا وقد ذمّ الإسلام الثَّرْثَارين كثيري الكلام دون فِعَال، للحديث النبوي الشريف: ((إن من أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن من أبغضكم إليّ وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثَّرْثَارُونَ والمُتَشَدِّقُونُ والمُتَفَيْهِقُون)) ، قالوا: يا رسول الله، فما المُتَفَيْهِقُون؟ قال: ((المتكبّرون)) أخرجه الترمذي وأحمد عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
أيها المسلمون، إن نشر الإشاعات سلاح خطير يفتك بالأمة ويفرّق أهله، ويسيء ظن بعضهم ببعض، ويفضي إلى عدم الثقة بينهم، وأسرع الأمم تصديقًا للإشاعات هي الأمم الجاهلة الفاشلة، بسذاجتها تصدّق ما يقال، وتردد الأخبار الكاذبة دون تمحيص ولا تفنيد، وأما الأمم الواعية فلا تلتفت إلى الإشاعات، وتكون مدركة لأحابيل وألاعيب الطابور الخامس، فلا يؤثر على مسيرتها، ولا يهزّ أعصابها، والله سبحانه وتعالى يقول: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
أيها المسلمون، لقد انتهجت الدول والشعوب قديمًا وحديثًا سياسة حرب الأعصاب بنشر الإشاعات، فقد استعمل أهل قريش واليهود هذا الأسلوب ضد الرسول محمد ، وخاصة في مواقع بدر وأحد والخندق وحُنَين وتبوك، واستمرت حرب الإشاعات ضد المسلمين من فجر الإسلام وحتى يومنا هذا. وإن نجاح حرب الإشاعات أو فشلها يعتمد على مدى وعي المسلمين للمشكلة التي يواجهونها.
أيها المسلمون، أما في الوقت الحاضر فقد أعدّت الدول الكبرى أجهزة إعلامية خاصة بنشر الإشاعة، فنشرت الأخبار الكاذبة، وسلّطت الأضواء على الأخبار التي تخدم مصلحتها، بل تختلق بعض الأخبار بحيث يُتوّهم ـ ولأول وَهْلة ـ بأنّ الخبر صحيح، وحين تمحيصه يتبيّن بأنّ الخبر لا أصل له وغير مطابق للواقع، وإنما ينشر الخبر بقصد التشكيك أو للتهيئة لأمر سيقع، فالكلام يزداد بالانتقال والانتشار فيروج للإشاعة فتكبر وتصبح شيئًا ملموسًا، وهي في الحقيقة أوهن من خيوط العنكبوت.
فكونوا ـ أيها المسلمون ـ على حذر من هذه الأخبار الكاذبة، والإشاعات المثبّطة، والمناورات السياسية، والحرب النفسية التي لا تقلّ خطرًا عن الحرب الفعلية. وكونوا على اتصال مستمر برب العالمين، فالله لن يخذل أتباعه وجنده، والله لن يتخلّى عن عبيده وعباده.كونوا رابطي الجأش، هادئي الأعصاب، مطمئني النفس؛ لتفويت الفرصة على الأعداء، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)) حديث صحيح عن الصحابي الجليل حسن بن علي رضي الله عنهما. صدق رسول الله.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أرسله بشيرًا ونذيرًا. واعلموا أن الله قد صلّى على نبيه قديمًا، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلّون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أتناول في هذه الخطبة مسألتين لا تزالان حديث الناس، وتحتاجان إلى متابعة مستمرّة، وهما:
أولاً: حي البستان وحي وادي حلوة في قرية سلوان، لا تزال المخاوف تنتاب السكان العرب في هذين الحيين وفي الأحياء الأخرى في سلوان، من محاولات المستوطنين من الاستيلاء على بيوتهم، بدعم من بلدية القدس الإسرائيلية، وإن خيمة الاعتصام لا تزال قائمة للتباحث في كيفية حماية المواطنين لبيوتهم، وعدم تسريبها إلى الجماعات اليهودية المتطرّفة، ونؤكد وقوفنا إلى جانب أهلنا في سلوان للحفاظ على بيوتهم وممتلكاتهم وأراضيهم، وأن ما تقوم به السلطات الإسرائيلية المحتلّة من إجراءات ظالمة ضد أهالي سلوان وأهالي القدس بعامة تهدف إلى تهويد مدينة القدس، ونؤكّد موقفنا الإيماني الديني من رفضنا لمحاولات التهويد بجميع أشكاله، كما نرفض محاولات التبديل لهذه المدينة المقدّسة والمباركة التي قدسها الله وباركها في القرآن الكريم. وعلى أهل القدس التضامن وتوحيد الجهود والمواقف من أجل حماية مدينتهم ومقدساتها من أي اعتداء، ونحذر من أي محاولات لتسريب البيوت والعقارات، ولابد من إشغالها وترميمها وصيانتها. وهذه المدينة الطاهرة والمقدسة تكشف كل خَبَث وخيانة وتلفظه وتلعنه، والله لهم بالمرصاد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، ثانيًا: المسجد الأقصى المبارك للمرة تلو المرة، فالأخطار تحدق به وتزداد يومًا بعد يوم، فقد نشرت وسائل الإعلام بشأن التخطيط لوضع أجهزة رصد وتصوير ومراقبة، وذلك على البوابات الخارجية للمسجد الأقصى المبارك من قبل السلطات الإسرائيلية، تحت ذرائع أمنية، وقد شرعت في التنفيذ على أرض الواقع في محيط الأقصى.
أيها المصلّون، لقد أعلن المسؤولون في الهيئة الإسلامية العليا وفي دائرة الأوقاف بالقدس رفضهم لهذه الإجراءات التي لا تخدم أمن المسجد الأقصى المبارك، بل تعتبرها تدخّلاً مباشرًا من قبل السلطات الإسرائيلية بإدارة المسجد الأقصى، ومنازعة المسلمين حقّهم الشرعي والديني والحضاري والتاريخي في رعاية الأقصى والإشراف عليه، وتهيب الهيئة الإسلامية العليا بأهلنا في القدس وسائر بلادنا الطاهرة بضرورة شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك، وتكثيف التواجد في ساحاته في جميع الأوقات والأيام بشكل مستمر. كما نطالب المسلمين في أرجاء المعمورة حكومات وشعوبًا بتحمّل مسؤولياتهم في حماية هذا المسجد المبارك. فالأقصى دُرّة فلسطين، وفلسطين تاج المسلمين، وصدق رسولنا الأكرم محمد بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا ما أصابهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
فالثبات الثبات يا أهلنا في بيت المقدس، فتمسّكوا ببشارة سيدنا محمد. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
اللهم آمّنا في أوطاننا، وفرّج الكرب عنّا. اللهم احم المسجد الأقصى من كل سوء. اللهم يا أمل الحائرين ويا نصير المستضعفين، ندعوك بكل اليقين إعلاء شأن المسلمين بالحق والنصر المبين. اللهم لا تدع لنا ذنبًا إلا غفرته، ولا شهيدًا إلا رحمته، ولا جريحًا إلا شفيته، ولا أسيرًا إلا أطلقت سراحه. اللهم إنا نسألك توبة نصوحًا، توبة قبل الممات، وراحة عند الممات، ومغفرة بعد الممات. اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأَعْلِ بفضلك كلمة الحق والدين. اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
(1/4241)
عوائق في طريق الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
المرأة, النكاح, قضايا المجتمع
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
2/6/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الزواج وفضائله. 2- الآثار السيئة لظاهرة تأخير الزواج. 3- غلاء المهور والمبالغة في تكاليف النكاح سبب في إعاقة الزواج. 4- وجوب رضا الفتاة في الزواج وأثره على حياتها الزوجية. 5- صور من منكرات الأفراح. 6- أهمية تهيئة الفتيات للحياة الزوجية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، إن أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
ثم اتقوا الله تعالى أيها المؤمنون، واعلموا أنكم غدًا بين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم مَجْزِيّون، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وإياكم والتسويف؛ فإن طول الأمل يُنسِي الآخرة، واتّباع الهوى يصدّ عن الحق.
أيها المسلمون، لقد جَبَل الله تعالى النفوس على الفطرة، وصيّرها مُنجذِبة إليه، ومن رحمته وحكمته أن جعل الشريعة داعية إليها، والسعادة والثواب لمن سار عليها، ومن ذلك الارتباط بين الذكر والأنثى بالزواج.
عباد الله، لا يجادل عاقل في أهمية الزواج وفضائله، ومنزلة النكاح وفوائده، وأنه السبيل الطَبَعِي لاستقرار النفوس، وسَكَن القلوب، واستقرار المجتمع ونمائه، فهو الطمأنينة والسَّكَن، وبه تنتظم الحياة، وفي بحره تتدفّق أنهار المشاعر، وفي حِمَاه يَنْسِلُ الجيلُ الصالح، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
بالزواج يَنشُر الطُّهْرُ ضياءَه، ويُسْدِل العَفَافُ رداءَه، ويحصل الإحصان لمن استطاع الباءة، عندها تنحسِر المنكرات، وتظهر الخيرات والبركات، ويعيش المجتمع رفاهية الأمن الخلقي ورغد العيش الاجتماعي. لقد جعل الله تعالى الزواج فضيلة، وجعله سنة أنبيائه فقال سبحانه مخاطبًا خليله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
لذا ولأجل ما فيه من المصالح العظيمة فقد رَغَّبَت شريعة الإسلام في الزواج، وحثّت على تيسيره وتسهيل طريقه، ونهت عن كل ما يقف في سبيله، أو يعوق تمامه، ويكدّر صفوه، فأمر الله تعالى به في قوله: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]، وقال المصطفى : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفَرْج...)) الحديث، رواه البخاري ومسلم [1]. وقد أمر الله تعالى في كتابه بتزويج الأكفاء، ونهى عن عَضْل النساء، وبيّن في الكتاب والسنة الحقوق والواجبات بين الزوجين، داعيًا لتكوين الأسرة المسلمة واستصلاحها، فهي أساس المجتمع الذي يقوى ويشتدّ بقدر تماسك وترابط أسره.
أيها المسلمون، إن كل من يهمّه أمر مجتمعه وأمّته، ويحبّ الخير لأهل ملّته يلتمس الوسائل المفيدة لتنمية هذا الجانب، والسعي في إنجاح الحياة الزوجية لكل مسلم، والتحذير من كل ما يعيق مسيرة الزواج، كما يُقلِق الغيورَ ما يرى من فشل بعض الزِّيجات، أو حين يرى أشواك المشاكل الأسرية تنبت في بعض البيوتات؛ لذا كان لزامًا على كل عاقل أن يأخذ بالوسائل المفيدة لحياة زوجية سعيدة بإذن الله عزّ وجل.
عباد الله، الحديث عن الزواج حديث ذو شُجُون، وحسبنا في هذه الوقفة أن نعرّج على بعض الظواهر التي تسبق الزواج ولها أثر غير حسن على مسيرة الحياة؛ نصحًا للمسلمين، وتنبيهًا للغافلين.
فأوّلها ـ رعاكم الله ـ ظاهرة تأخير الزواج لدى الذكور والإناث بحجة إكمال الدراسة، أو الحصول على الوظيفة، أو القدرة المالية، أو عدم الرغبة في الارتباط المبكّر، أو غير ذلك من الأسباب، وهذا كله من كيد الشيطان وحبائله، يُذْكِي ذلك ما تُحْشَى به أدمغة الناس والشباب خاصّة من لَوْثَات الأفلام والمسلسلات والصحف والإذاعات والمجلاّت والقنوات، والتي أورثت رُكامًا هائلاً من التصوّرات الخاطئة عن الحياة الزوجية، وأفسدت أخلاق الناس، وقرّرت في نفوس مُتَلَقِّيها مبادئ مَغْلُوطَة، وقلبت المفاهيم، وفتحت على الناس باب شرٍّ عظيم.
إن تأخير الزواج مخالف للسنّة الشرعية كما هو مخالف للسنّة الفِطرية، وقد قرّر المتخصّصون في علم الاجتماع والحياة أنّ الزواج المبكّر هو أنجح الزِّيجات حتى ولو تعثّرت الظروف المادية، وأنه سبب رئيس لاستقرار الصحة النفسية والجسدية، وأن النبوغ والذكاء من الأطفال والصحة وانعدام الإعاقات الجسدية يكثر من الزِّيجات المبكّرة، هذا بالإضافة إلى اكتمال الدين والعَفاف وحصول الإحصان في بداية الحياة، وأن الزواج كان عاملاً رئيسًا في نجاح الكثيرين في حياتهم العملية.
وحينما تُفْتَعَل الحواجزُ والمعوّقاتُ أمام هذه السنّة الفِطرية فإن أثر ذلك يكون وبالاً على المجتمع بأسره، إنه لا تُعارض حقيقة بين الزواج ومتطلّبات الحياة الدنيوية، ذلك أنه جزءٌ من الحياة الطبيعية، والذي لا يجوز أن يُربَط بالمعوّقات والعَراقِيل الموهومة أو المُفْتَعَلَة من حَمْقَى البشر. كما أنّ المسلمين تجاه هذه السنّة الفِطرية الشرعية يجب أن تكون ثقتهم بالله تعالى، ويقينهم به لا بالمادّيات، وقد قال الحق سبحانه: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، وعن أبي هريرة أن النبي قال: ((ثلاثة حقّ على الله عَوْنهم: المجاهد في سبيل الله، والمُكاتَب، والناكح يبغي العَفَاف)) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه [2].
وإذا غالى في المهور والشروط بعضُ السفهاء ممن اتخذوا بناتهم سِلَعًا كالرَّقِيق يُتاجِرون بها، ويُساوِمون عليها؛ ففي بقيّة النساء غُنْيَة. وكم من بيوت تتمنّى الكُفْء الذي يُسعِد ابنتَهم، ويحفظها بدينه وحُسن عِشرته، ويرضون من المَهْر باليسير، مُقتَدِين في ذلك بالنبي الذي قال: ((إن من يُمْنِ المرأة تيسير خِطْبتها وتيسير صَدَاقها)) رواه أحمد وابن حبان والحاكم بسند حسن [3] ، وفي لفظٍ عند أحمد: ((أعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة)) [4]. إن إغلاء المهور، والمُباهَاة بها، وتقويم الخاطب بمقدار ما قدّم من مَهر؛ لهو صِغَرٌ في النفس، وانحدار في التفكير، ونقص في العقل، كما أن إرهاق الخاطب بالمهر الكثير، واشتراط الهدايا الكثيرة لأقارب الزوجة وأباعدها لهو جشع وطمع وانتهازية تورث الضغائن، وتُرهِق بالديون، وتُعيق مسيرة الزواج في المجتمع، ويسبّب بقاء الفتاة مدة طويلة بلا زواج، حتى تمتلئ البيوت بالعَوانِس، وهذا من صور العَضْل الذي حرّمه الله تعالى.
كما أنّ من أسوأ صور العَضْل حَجْر المرأة على أحد أبناء قرابتها، فلا يسمح لها وليّها بالزواج من غيره، ولو بقيت عانسًا طول حياتها! وهذه جريمةٌ كبيرة وأنانية مُفرِطة، تراعي أعرافًا بالية، وتخالف الشريعة الخالدة، إن المرأة لا يجوز أن تُجبَر على نكاح مَن لا تريد، وولاية أبيها عليها ولاية مُصلِحة لها وحفظ وصيانة وأمانة لا ولاية تسلّط وتجَبّر، وقد قال النبي : ((لا تُنكَح الأيّم حتى تُسْتَأمَر، ولا تُنكَح البِكْر حتى تُستأذَن)) ، فقالوا: يا رسول الله، فكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) رواه البخاري ومسلم [5]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليس لأحد الأبوين أن يُلزِم الولدَ بنكاح من لا يريد، وأنه إذا امتنع لا يكون عاقًّا، وإذا لم يكن لأحدٍ أن يلزمه بأكل ما يَنْفِرُ منه مع قدرته على أكل ما تشتهيه نفسه؛ كان النكاح كذلك وأولى، فإنّ أَكْلَ المكروهِ مَرَارة ساعة، وعِشرة المكروه من الزوجين على طولٍ تؤذي صاحبه، ولا يمكنه فراقه" انتهى [6]. فإجبار المرأة على من لا تريد طَمَعًا في ماله أو جاهه أو بسبب قرابته ظلم وحرام، فعلى الأولياء إدراك ذلك. كما أنّ على الفتاة أن تتفهّم مشورة وليّها في القبول والرفض، وأن تكون المصلحة مَناط الاختيار.
أيها المسلمون، إن على الأولياء مسؤولية عظيمة تجاه الخاطب، انطلاقًا من قول النبي : ((والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته)) رواه الشيخان [7]. ولأنها أمانة يُسأل عنها يوم القيامة أدّاها أم ضيّعها، ولأن الفتاة غالبًا تعتمد على معرفة وليّها ومشورته، فعليه أن يتقي الله تعالى، وأن يستقصي في استظهار حال الخاطب ومعرفة كفاءته، فكم من امرأة صالحة عفيفة بُلِيت بزوج فاسقٍ لا يصلّي، أو يشرب المسكرات، ويُقارِف محرّمات، أو سيّء العشرة كَرِيه الخُلُق، ولا ذنب لها سوى تقصير وليّها وإهماله في السؤال عن ديانة الخاطب، مكتفيًا بالرضا بظاهر الحال، أو الثقة في أهل الخاطب وعشيرته! إن الكفاءة بصلاح الديانة وحسن الخلق، وقد قال النبي : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخُلُقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي وابن ماجه [8].
وليعلم من جعل همّه السؤال عن الجاه والمنصب والمال، وتغاضى عن سوء الديانة؛ أنّ من خان الله ورسوله لا يمكن أن يؤتمن على ابنته، ويقال ذلك للخاطب أيضًا، فكم من رجلٍ اشترط كل الشروط الدنيوية في مخطوبته، ولكنّ الدين كان آخر اهتماماته، بل ربما ليس في حساباته، ثم يكتشف أنها لا تصلح زوجة؛ لنقص دينها وخُلُقها! وقد روى البخاري ومسلمٌ أن النبي قال: ((تُنكَح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تَرِبَت يداك)) [9]. وليعلم الخاطب أن المُقَصِّرَة في حق الله لن تقوم بحق الزوج والأولاد على الكمال.
ويتبع هذه المسألة تنبيه المستشار والمسؤول عن الخاطب أن يتقي الله تعالى فيما يقول وفيما يشير به، فقد تأخذ بعضَ الناس الحَمِيّةُ أو العَجَلةُ فيبالغ في الثناء والمدح أو في الذم والقدح، وهو لم يحط علمًا بما استشير فيه، يظن ظنًّا وليس بمستيقِن، فهذا غشٌ وخيانة للأمانة، وقد قال النبي : ((المستشار مُؤتَمَن)) رواه أبو داود بسند صحيح [10].
أيها المسلمون، لقد أُحيطت بعض حفلات الأعراس بهالةٍ من التكاليف والمبالغات والمخالفات والمنكرات، وتضخّمت حتى أصبحت عَقَبة كَأْدَاء أمام إتمام الزواج، بل تجاوزت تكاليفها قيمة المهر أضعافًا. وتُرِك القِياد فيها للنساء والسفهاء، وتعظم المصيبة إذا صحبتها المنكرات والمعاصي، فأيّ بركة تُرجَى، وأيّ توفيق يُؤمّل إذا استُفْتِحَت الحياة الزوجية من أوّل ليلة بالمنكرات، ومعصية ربّ الأرض والسماوات، الذي يملك وحده التوفيق، وبيده سبحانه القلوب يصرّفها كيف يشاء؟!
إن الاختلاط بين الرجال والنساء غير المحارم، وجَلْب المغنّين والمغنّيات بالمعازف وآلات الطرب، وتضييع الصلوات، وكشف العورات بالذات بين النساء، حيث التعرّي في لباس الحفلات، والتصوير العلني والتصوير الخفي؛ كل ذلك يُعدّ كفرًا بالنعمة لا شكرًا، وتمرّدًا وبَطَرًا لا فرحًا، ناهيك عن الإسراف والمباهاة في التجهيز والحفلات، لماذا كل هذا؟ ألا يتمّ الفرح إلا أن يُحاط بالمخالفات الشرعية، وإن لم يوفّق مخذول فليعلم من أين أُتي.
إن المعاصي والذنوب تهلك الدول، وتزلزل الممالك، فكيف بالبيوت الصغيرة؟! أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ [التوبة:109].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة سيد المرسلين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الصوم (1905)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] سنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد (1655)، سنن النسائي: كتاب الجهاد (3120)، سنن ابن ماجه: كتاب الأحكام (2518)، وأخرجه أيضًا الإمام أحمد (2/251، 437) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصحّحه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسّنه الألباني في غاية المرام (210).
[3] مسند الإمام أحمد (6/77)، صحيح ابن حبان (9/405)، مستدرك الحاكم (2/197) من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الهيثمي في المجمع (4/469): "رواه أحمد، وفيه أسامة بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وقد وُثِّق، وبقية رجاله ثقات"، وانظر: إرواء الغليل (6/350).
[4] مسند الإمام أحمد (6/145)، وأخرجه أيضًا النسائي في الكبرى (5/ 402)، والبيهقي في السنن (7/235)، وصحّحه الحاكم (2/ 178)، وفي سنده ابن سَخْبَرة لا يُدرَى من هو، ولذا ضعّف الألباني هذا الحديث في السلسلة الضعيفة (1117).
[5] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5136)، صحيح مسلم: كتاب النكاح (1419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] مجموع الفتاوى (32/30).
[7] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (893)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1829) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[8] سنن الترمذي: كتاب النكاح (1084)، سنن ابن ماجه: كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164، 165), وتعقّبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، ورجّح البخاري إرساله فيما نقله عن الترمذي، وللحديث شواهد يتقوّى بها، ولذا حسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[9] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5090)، صحيح مسلم: كتاب الرضاع (1466) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] سنن أبي داود: كتاب الأدب (5128)، وأخرجه أيضًا الترمذي في الأدب (2822)، وابن ماجه في الأدب (3745) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن"، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (1641).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: إن من حسن التربية وأداء الأمانة تهيئة الفتاة لحياتها الزوجية، وتعليمها وتربيتها لتحمّل المسؤوليات وإحسان التصرف تجاه مطالب الحياة، وإنك لتأسى لحال فتاة تُزفّ لبيتها الجديد لتمضي فيه حياتها وهي لا تعرف الحقوق والواجبات، ولا كيف تتعامل مع الرجل وأهله وقرابته، وكيف تُربّي الأولاد، وتتصرّف معهم، ولا كيف تدير شؤون منزلها وتدبّره، ممّا أفرز حالات كثيرة من الشِّقاق، ورفع مُعدّلات الطلاق.
إن الواجب على الوالدين وأهل التربية والتعليم والقائمين على المناهج وأرباب الأقلام والإعلام أن يبذلوا جهودًا مخلصة للتوعية والتثقيف للبنين والبنات. وما الفائدة من الدراسة سنين طويلة إذا كانت لا تُعلِّم مبادئ الحياة؟! إن الجميع بحاجة ماسّة إلى التربية قبل الزواج على التزام حدود الله في النكاح، والتعبّد لله بالعشرة بالمعروف والخلق الحسن، والتعاون على البرّ والتقوى، والبُعد عن الأنانية، وكذا إدراك مفهوم القِوَامة الشرعي والإقرار به، وأنه حفظ وصيانة وضبط وتربية وحسن إدارة ومسؤولية يُسأل عنها يوم القيامة، ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راعٍ ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)) [1].
وإذا صلحت النيّات، وأُدِّيت الواجبات رَفْرَفَتِ السعادة والهناء، وعَمّ التوفيق كل الأرجاء، ومن لزم الدعاء، وأخلص لله بصدق الرجاء فلن يُخيّب أمله، ولن يُضيع عمله.
هذا وصلّوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد خاتم الأنبياء...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(1/4242)
توجيهات ووصايا للأسرة المسلمة
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, المرأة, النكاح, الوالدان
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
2/6/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الفراغ والصحة. 2- مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم. 3- عامة فساد الأولاد يكون من قِبَلِ الآباء. 4- فتن البيوت المشكلة والعلاج. 5- الزواج المبكر من أعظم أسباب صلاح الأبناء والفتيات. 6- أهمية مرحلة الشباب. 7- نماذج من سلف الأمة ممن اغتنم شبابه فنشأ على الطاعة والعبادة والعلم. 8- وصايا للشباب المسلم. 9- وصايا وتوجيهات للأم. 10- وصايا للفتاة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نور في القلب وبشرى في المنقلب.
أيها المسلمون، الأعمار تطوى والأيام تفنى، والعبد يعاقب على تفريطه في زمانه، ويثاب على اغتنام أيامه، وعمارةُ الأوقات بالطاعة مما يَغْبِنُ به العباد بعضهم بعضًا، قال عليه الصلاة والسلام: ((نعمتان مغبون فيهما ـ أي لا يعرف قدرهما ـ كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ)) رواه البخاري [1].
قال ابن الجوزي: "من استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون". وفي شباب اليوم من يضيع الأوقات في الإجازة، ويفرط في الطاعات، وعلى الآباء عبء ثقيل في إصلاح أبنائهم وإرشادهم، فبأيديهم القيامة والرعاية. وعقوق الأبناء آباءهم، وضعف تمسكهم بدينهم، وانحراف سلوكهم وأخلاقهم من قصور القيام بواجبِ الولاية عليهم، وغفلة الأولياء عنهم والتقصير في السؤال عن أحوالهم خلل في التربية.
قال ابن القيم رحمه الله: "وإذا اعتبرت ـ أي تأملت ـ الفساد في الأولاد، رأيت عامته من قِبَلِ الآباء، والانغماس في لهو الحياة وزخرفها، والإعراض عن الأسرة إضاعة للأبناء، وميزان الشرع في ذلك قول المصطفى : ((وإن لنفسك حقًا، ولأهلك حقًا)) رواه البخاري [2]. وإهمال مراقبتهم وعدم تفقّد صحبتهم من نقص النصح لهم، والمال في أيدي الشباب مع قصور حُسْنِ التصرف فيه مفسدة لهم، وإنما ينفق عليهم بقدر حاجتهم من غير تبذير ولا تقتير، ووضع الملهيات في البيوت من القنوات ونحوها لها تأثير على المعتقد الصحيح، وفيها دُربة على الجريمة، وتسرّب فضلات الانحراف، وضررها بابٌ على الأسرة، قال عز وجل: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء:123].
وهي من أسباب حيرة عقول الشباب واضطراب أفكارهم؛ لما فيها من تناقض وتضارب في الأقوال، ولطرحها مسلمات من أحكام الشريعة، وجعلها أداةً للجدل والآراء البشرية، مما لا يتفق مع ما يحب على كل مسلم من التسليم والقبول لنصوص الوحي وأحكام الشريعة.
والفتن في البيوت داءٌ من استشرف عليها أخذته، ودواء الفتن نبذها والإعراض عنها والحذر من مغبتها. وقرب الوالدين من أبنائهم مِلء لفراغ قلوبهم، ومنع لهم من قرناء السوء، وفي الأولياء من هو مُعْرِضٌ عن أبنائه بمنأى عنهم بروحه وجسده، متوانٍ عن أسباب هدايتهم، وواجبٌ على الأب أن يكون قدوةً صالحة لأبنائه بالتمسك بالدين، والبعد عن الخطايا والسيئات، والتوجيه السوي المصحوب بالرفق خير معين على استقامتهم، مع الصبر والرفق واللين معهم، وإذا لم يتسع الصبر عليهم تلقفهم أهل الانحراف والشرور.
والزواج المبكر من أعظم أسباب صلاح الأبناء والفتيات، عملاً بوصية النبي : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) متفق عليه [3]. وتأخير الزواج يوقع الشباب والنساء في أمور تسوء العاقبة فيها، والإخلاص في تربية الأولاد وتوجيههم عبادة عظيمة يؤجر عليها الوالدان، وهي من أعمال أهل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: ((من عال جاريتين حتى تبلغا ـ أي قام عليهما بالمؤونة والتربية ـ جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه. رواه مسلم [4] ، وللترمذي: ((دخلت أنا وهو الجنة كهاتين)) وأشار بإصبعيه [5].
ودعاءٌ مستجاب ممنوح من الكريم سبحانه للوالد في دعائه لأبنائه، قال المصطفى : ((ثلاث دعوات يستجاب لهم لا شك فيها: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده)) رواه ابن ماجه [6]. وتُسر الأفئدة بحسن العاقبة في جني ثمار صلاحهم، قال عز وجل: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا [البقرة:133].
أيها الشباب، سِّنُّ الشباب من النعم التي لا تدوم، قال عليه الصلاة والسلام: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) رواه الحاكم [7].
والشاب يحاسب على إهمال فتوته وتقصيره فيها، قال النبي : ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم)) رواه الترمذي [8].
ومن حفظ شبابه بالطاعة أظله الله تحت ظل عرشه، قال عليه الصلاة والسلام: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر منهم ((شاب نشأ في عبادة الله)) رواه البخاري [9].
ومن مَلَكَ هواه في حال شبيبته أعزَّه الله في كهولته، وفي سلف الأمة من اغتنم شبابه فنشأ على الطاعة والعبادة والعلم، كان ابن عباس رضي الله عنهما يتهجد الليل وهو ابن عشر سنوات، قال رضي الله عنه: (صليت مع النبي فقمت إلى جنبه عن يساره، فأخذني فأقامني عن يمينه، قال: وأنا يومئذ ابن عشر سنين) رواه أحمد [10].
وصَنَّفَ الإمام البخاري رحمه الله كتاب التاريخ الكبير وعمره ثمانية عشر عامًا، قال: "صنفته في الليالي المقمرة". والذهبي قرأ القرآن على مسعود الصالحي أربعين ختمة، وعبد الملك بن عمر بن عبد العزيز توفي وهو في التاسعة عشر من عمره، وكان في شبابه مجتهدًا في العبادة، ومع قدرته في الدنيا وتمكنه منها، كان راغبًا عنها مقبلاً على الله. قال ابن رجب رحمه الله: "ففي ذكر مثل أخبار هذا السيد الجليل مع سِنِّه، توبيخ لمن جاوز سِّنَه وهو بطال، ولمن كان بعيدًا عن أسباب الدنيا وهو إليها ميال، فاغتنم زهره العمر وجانب قرناء السوء، ففي صحبتهم ندامة، قال جل شأنه: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً [الفرقان:26، 27].
والمرأة فتنة فاجتنب فتنتها وكن بمعزل عنها، وإياك والحديث مع من لا تحل لك، فالحرام متعته زائلةٌ ثم تعقبه حسرة، ومن اتبع هواه كانت نهايته الذّلَّ والصغار والبلاء.
وللطاعة لذة وسرور، وبر الوالدين من أسباب السعادة، والصلاة مع جماعة المسلمين عصمة لك من الشرور.
أيتها الأم، الأم يترعرع في أحضانها العظماء والنبلاء في الأمة، ثمرة حسن الرعاية والتوجيه من أمهاتهم، يقول الشافعي رحمه الله: "نشأت يتيمًا وأنا بالشام، فجهزتني أمي للسفر إلى مكة لطلب العلم وأنا ابن عشر سنين"، قال: "ولم يكن عندها ما تعطيني ما أشتري به القراطيس، فكنت أنظر إلى العظم فآخذه فأكتب فيه". ويقول الإمام مالك رحمه الله: "ألبستني أمي وأنا صبيٌ لباس العلم، ثم قالت: اذهب إلى الإمام ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه".
فالأم تشاطر زوجها أمانة إصلاح أبنائه، وإبعاد الشرور وأسباب الفتن من دورهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)) متفق عليه [11]. فعليها أن لا تهمل أمانتها، وأن لا تغلب جانب راحة أبنائها ورحمتهم على توجيههم وأمرهم بأوامر الشريعة.
أيتها الفتاة، الحياء نعت جمالٍ في المرأة، والأمم تُمدح باتصاف نسائها بالحياء، قال سبحانه في قصة موسى: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ [القصص:25]. وذات الحياء المانع حياؤها على ترك القبيح موعودة بالجنة، قال النبي : ((الحياء من الإيمان والإيمان في الجنة)) رواه الترمذي [12]. وقال: "حديث حسن صحيح".
قال أهل العلم: "ومن لم يستح من الله من معصيته، لم يستح الله من عقوبته". والحياء يُصان بالقرار في البيوت، وبملازمة الحجاب والستر والاحتراز من الحديث مع الرجال الأجانب، والحذر من سموم الفضائيات، فالمعاصي تذهب السعادة، يقول عمر بن الخطاب : (النساء عورة، فسترها بالبيوت).
وفي المجتمع نساء صالحات حافظات للغيب، ملازمات لكتاب الله العظيم، مستمسكات بالحجاب والحياء ملازمات للدين، فبمثلهن يفخر المجتمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
صحيح البخاري كتاب الرقاق، باب: لا عيش إلا عيش الآخرة (6412)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. [1]
[2] صحيح البخاري كتاب التهجد، باب: ما يكره من ترك قيام الليل لمن كان يقومه (1153). وأخرجه مسلم بنحوه في الصيام (1159). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] صحيح البخاري كتاب النكاح، باب: من لم يستطع الباءة فليصم (5066)، وصحيح مسلم كتاب النكاح (1400). من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[4] صحيح مسلم كتاب البر والصلة (2631)، من حديث أنس رضي الله عنه.
[5] سنن الترمذي كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في النفقة على البنات والأخوات (1914). وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه". وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (1563).
[6] سنن ابن ماجه كتاب الدعاء، باب: دعوة الوالد (3862) واللفظ له، وأخرجه أيضا أحمد (2/258، 348، 478، 517، 523)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب (1536)، والترمذي في الدعوات، باب: ما ذكر في دعوة المسافر (3448). عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (2699)، والقرطبي في تفسيره (13/223)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3115).
[7] هو في مستدركه (4/341) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وقال : "صحيح على شرط الشيخين" ، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355). لكن ذكر له البيهقي في الشعب علّة (7/263) وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
[8] سنن الترمذي كتاب صفة القيامة (2416). وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعّف في الحديث من قبل حفظه، وفي الباب عن أبي برزة وأبي سعيد". وله شاهد أيضاً من حديث معاذ رضي الله عنه، ولذا حسنه الألباني في الصحيحة (946).
[9] صحيح البخاري كتاب الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد (660)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أيضا مسلم في الزكاة (1031).
[10] مسند الإمام أحمد (1/364). والحديث أصله في صحيح البخاري كتاب الأذان، باب: إذا لم ينو الإمام أن يؤم ثم جاء قوم (699)، وصحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (763). دون قول ابن عباس: (وأنا يومئذ ابن عشر سنين) فقد تفرد بها رشدين بن كريب وهو ضعيف.
[11] صحيح البخاري كتاب الجمعة، باب: الجمعة في القرى والمدن (893). وصحيح مسلم كتاب الإمارة (1829)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[12] سنن الترمذي كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في الحياء (2009)، وأخرجه أيضا أحمد (2/501)، وابن ماجه في الزهد، باب: الحياء (4184)، والحاكم وصححه (1/52). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: "حسن صحيح". وصححه الألباني في صحيح الترمذي (1634).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فالأسرة تسعد بطاعة الله ورسوله، وصلاح أفرادها صلاحٌ للمجتمع، وفي البعد عن الفتن سلامة الدين، والتفقه وسؤال أهل العلم، وبذل الأسباب بالحكمة من أهم أسباب صلاح المجتمع وسعادة أفراده.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. اللهم صل وسلم على نبينا محمد...
(1/4243)
آداب السوق
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, البيوع, المرأة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
2/6/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الشريعة الإسلامية. 2- موقف الإسلام من المتاجرة والتكسب. 3- استحباب ذكر الله عند دخول السوق. 4- حال النبي مع السوق وأهله. 5- التحذير من الأيمان الكاذبة في البيع والشراء.6- استحباب إفشاء السلام في الأسواق. 7- من آداب السوق: غض البصر. 8- توجيهات للمتسوّقات. 9- التحذير من تبذير الأموال في الأندية الرياضية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، شريعة الإسلام نظّمت شؤون الحياة كلِّها، فما من شأن من شؤون حياة الإنسان إلا وللشريعة فيه التعليمات الطيّبة والتوجيهات القيّمة؛ لتحوّل المجتمع المسلم في كل ميادين حياته لأن يكون مجتمعًا مرتبطًا بدينه الإسلامي الحق.
أيها المسلم، ومن ذلكم شأن الأسواق، شأن أسواق البيع والشراء، فإن شريعة الإسلام جاءت بالضوابط الشرعية والآداب المستحبّة والتوجيهات النافعة لمن يأتوا الأسواق، ومن يشتغلون فيها، ومن مِهْنتُهم البيع والشراء فيها.
لقد كان للعرب في جاهليّتهم أسواق كعُكَاظ ومِجَنّة وذي المَجَاز، فلما جاء الإسلام تحرّجوا: هل يقيمون تلك الأسواق كما كانوا في الجاهلية؟ فأنزل الله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة:198]، أي بالتجارة في الحج وغيره.
أيها المسلم، لقد أثنى الله على رجال لم تكن الأسواق صادّة لهم عن ذكر الله، ولا مُلْهِية لهم عن طاعة الله، بل هم يزاولون البيع والشراء، ويؤمون الأسواق ويقيمونها، ولكنها لا تلهي قلوبهم عن ذكر الله، ولا تشغلهم ولا يشغلهم الضرب في الأسواق عن طاعة الله، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ [النور:36، 37].
مَرّ عبد الله بن مسعود على أهل السوق وقد غطّوا مبيعاتهم وأمّوا المسجد، فقال: إنكم من أهل هذه الآية، وبشّرهم بهذا الثواب العظيم رضي الله عنه وأرضاه [1] ، وذلك أن المسلم إذا بُشِّر بالخير كان عونًا له على مواصلة العمل الصالح.
أيها المسلم، إن إتيان الأسواق والبيع والشراء فيها ليس بعيب ولا نقص ولا إثم لمن اتقى الله وبَرّ وصدق، وتخّلَق بأخلاق الإسلام في أحواله كلها.
فمن آداب الإسلام في السوق أنه شَرَعَ ذكرَ الله عندما يدخل المسلم السوق؛ لأن السوق غفلة ولهو، والمسلم يذكر الله ليكون ذكره لله مصاحبًا له في أحواله كلها، فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، أي ليكن ذكر الله مصاحبًا لكم في بيعكم وعقدكم وعطائكم، ولا تكن الدنيا مُلْهية لكم عن طاعة ربكم، بل سخّروا كل حياتكم في سبيل إعزاز دينكم وقوة ارتباطكم بخالقكم ورازقكم. روى الترمذي بسند فيه ضعف، يُروى أنه قال: ((من أتى السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ كُتِب له ألف ألف حسنة، وحُطّ عنه ألف ألف خطيئة)) [2] ، وهذا وإن كان فيه ضعف لكنه يبشر بخير، ويحث المسلم على ذكر الله في أحواله كلها.
إن محمدًا كان يأتي الأسواق للتكسّب والبيع، ولذا عابه المشركون، ورأوا ذلك نقصًا في حقّه، فبرَّأه الله بقوله: وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا [الفرقان:7] الآية، إذن فالنبي كان يأتي السوق، وكان يراقب أسواق المسلمين مراقبة عظيمة، يراقب أسواقهم، ويوجّه لهم النصائح والتوجيهات، ويحثّهم على الصدق والوضوح في بيوعاتهم. أتى السوقَ يومًا فرأى بائع طعام فأدخل يده فنالت أصابعُهُ بللاً في أسفل الطعام، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟!)) قال: أصابته السماء يا رسول الله. قال: ((ألا وضعته فوق الطعام كي يراه الناس؛ من غشّنا فليس منّا)) [3]. وقَفَ على التجّار يومًا فقال: ((التجّار فُجَّار يوم القيامة، إلا من اتقى الله وبَرّ وصدق)) [4]. هكذا كانوا يحفظون الأسواق، ويوجّهون النصائح لأهلها؛ ليكونوا على بصيرة في بيعهم وشرائهم.
من أخلاق النبي التي وُصِفَ بها في الكتب السابقة: "ليس بالفَظِّ ولا بالغليظ ولا بالسَّخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، بل يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو"، ومعنى سَخَّاب: ليس صاحب لِجَاج ورفع صوت بالباطل، إنما السكينة والوقار والحِلْم خُلُق له ؛ لأن رفع الصوت والمغالاة في القِيل والقال لا تثمر خيرًا ولا تنتج خيرًا.
أيها المسلم، ومن آداب السوق أن النبي حذّر الباعة من الإقدام على الأيمان الكاذبة في بيعهم وشرائهم، بل أصل اليمين في البيع والشراء ينبغي تركه، هذا إن كان حقًا، فكيف إذا كان باطلاً؟! فنبيّنا يقول: ((ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكّيهم، ولهم عذاب أليم: المُسْبِل والمنَّان والمُنفِق سِلْعتَه بالحَلِف الكاذب)) [5] ، وقال: ((الحَلِف مَنْفَقَة للسِّلْعة، مَمْحَقَة للبركة)) [6].
إذن فمن آداب من يأتي السوق أن يَتَوَقَّ اليمين بالله، ولا يحلف ليخدع الناس، فيقول: والله العظيم إن دخول السلعة عليّ بألف، والله يعلم أن دخولها عليه بسبع مائة. هذا لا يجوز أن تحلف بالله فاجرًا لتُروّج سلعتك، وتُحمَّل الآثام والأوزار: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [آل عمران:77].
من آداب السوق إفشاء السلام، كان عبد الله بن عمر يأتي السوق، فقال له أحد أصحابه: وما شأنك والسوق، لا تقف على السلع ولا تسوم؟! قال: آتي لأسَلّم، وليُرَدّ السلامُ عليّ [7].
أيها المسلم، من آداب السوق أن تخلَّق بأخلاق الإسلام في غضّ بصرك وصرفه عن النظر إلى ما حرّم الله عليه، ففي الأسواق يختلط الرجال والنساء، فالمسلم حقًّا يغضّ بصره حتى لا ينطلق البصر فيرى ما يُشغِل القلبَ ويلهيه، فإن النظر يأسر القلب، فمتى ما امتلأت العين من النظر أوقع ذلك في القلب مرض الشهوات، وإذا غضّ البصر طفأت نار شهوة القلب: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
أيتها المرأة المسلمة، وأنت مأمورة بذلك: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31]، في الحديث عنه قال: ((كُتِب على ابن آدم حَظّه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والرِّجْل تزني وزناها الخُطَا، واليد تزني وزناها البطش، واللسان يزني وزناه النُّطق، والنفس تتمنّى وتشتهي، والفرج يصدّق ذلك أو يكذبه)) [8].
ومن آداب السوق أن تتقي المرأة المسلمة ربّها، فإن احتاجت لنزول السوق، واضطرت إليه فلتلزم الحِشْمة في لباسها، ولتمتنع عن الطِّيب أثناء دخول السوق؛ فإن المرأة إذا تعطّرت ومرّت بالرجال فوجدوا رائحة الطِّيب فإنها زانية، تحذيرًا لها من هذا البلاء، فلتتّقي المسلمة ربها، ولتغضّ بصرها، ولتبتعد عن التبرّج وعن اللباس الجميل وعن التعطّر؛ حتى لا تفتح للفسّاق طريقًا عليها، فتكون مساهمة في الإثم.
أيتها المرأة المسلمة، كثير من النساء هداهُنّ الله يؤمون الأسواق في كل يوم، ويا ليت إتيانها للسوق لحاجة، ولكن إتيانٌ من باب التفرّج، فتنتقل من سوق إلى سوق، وربما مضى جزء كبير من الليل ما عادت إلى منزلها، هذا ـ يا أختي ـ في حدّ ذاته خطأ، فالمرأة مسلمة مأمورة بالقرار في بيتها: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33]، فإني لا أمنعك من الخروج مطلقًا؛ لأن هذا قد تضطرّ المرأة للخروج، ولكن ليكن بأدب، ليكن بحشمة، ليكن بسكينة، ليكن بأدب الإسلام في كل الأحوال، ومتى انقضى الغرض المطلوب عادت المرأة إلى بيتها، أمّا تَسَكُّع النساء في الأسواق معظم النهار وكثير من الليل، وتضيع البيوت، وتفقد من يقودها ومن ينظّم شأنها فهذا في الحقيقة خطأ منكِ أيتها المرأة المسلمة. فهذه آداب السوق أيها المسلم. آداب السوق هذه: غضّ البصر وعدم التطلّع وتقوى الله في الأمور كلها، فإن المسلم مأمور بلزوم آداب الإسلام.
أيها الشباب المسلم، أيتها الفتيات المسلمات، ليتّق الجميع ربَّهم في أحوالهم كلها، وليراقب كلٌّ ربَّه في أحواله كلها، وليتّق الباعةُ ربَّهم فيلزموا الصدق والأمانة.
أيتها المرأة المسلمة، إياكِ وكثرة القِيل والقال في السوق، إياك والخضوع بالقول، فإن الله يقول: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، فكثرة تحدّث المرأة مع الرجال بلا موجب ولا سبب يقتضيه، إن ذلك لخطأ، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مَجْرَى الدم. فلتكن المرأة المسلمة حريصة على صيانة عِرضها وكرامتها وترفّعها عن الرّذائل في كل أحوالها. ولتكن أسواق المسلمين أسواقًا نظيفة بعيدة عن الربا والغشّ والخداع والخيانة؛ لأن المسلم إذا سَلِمت مكاسبه من هذه الرذائل صار مكسبه مكسبًا مباحًا طيبًا مباركًا عليه في حاضره ومستقبله.
أسأل الله للجميع التوفيق والسداد والعون على كل خير، إنه على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الطبري في جامع البيان (9/329).
[2] أخرجه أحمد (1/47)، والترمذي في الدعوات (3428)، وابن ماجه في التجارات (2235)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث غريب"، وقال ابن القيم في المنار المنيف (33): "هذا الحديث معلول، أعلّه أئمة الحديث"، وانظر: علل الدارقطني (2/48-50)، وقد صححه الحاكم في المستدرك (1/721)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3139).
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (101، 102) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في البيوع (1210)، وابن ماجه في التجارات (2146)، والدارمي في البيوع (2538) من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه بنحوه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4910)، والحاكم (2/6)، وفي إسناده مجهول كما حققه الألباني في غاية المرام (168).
[5] أخرجه مسلم في الإيمان (106) من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في البيوع (2087)، ومسلم في المساقاة (1606) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه مالك في الموطأ (1793)، والبخاري في الأدب المفرد (1/348).
[8] أخرجه البخاري في الاستئذان (6243)، ومسلم في القدر (2657) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، المال بيد المسلم أمانة، هو ماله وملكه الذي خَوّله الله إياه، ولكنه أمانة عنده، تصرّفه في ماله لا يكون تصرفًا سليمًا إلا إذا كان وفق الشرع، فإن تصرّف في المال التصرّف السيئ كان وَبَالاً عليه. سيُسأل كلٌّ منا عن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ تسأل عن طريق الاكتساب: أهي طرق شرعية، أم طرق خبيثة؟ تسأل عن طرق الإنفاق: أأنفقت هذا المال فيما يرضي الله، أم أنفقته في معاصي الله؟ هل كان إنفاقك [في] أعمال صالحة تبقى لك بعد موتك، أو أنفقته في أعمال سوء، تتحمّل الأوزار والآثام يوم القيامة؟ في الحديث عنه قال: ((إن رجالاً يتَخَوّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) [1]. هو مال الله خَوَّلَك إياه، إن خُضت فيه بالباطل كان عليك وزر وآثام يوم القيامة، فتتمنّى أن لم يكن لك مال عندما ترى الآثام والأوزار التي سُجِّلت عليك في صحائف أعمالك.
أيها الإخوة، لقد نُشِر في هذا الأسبوع وقبله، نُشِر عن تنافس الأندية الرياضية فيما يُسمّى بشراء اللاعبين أو اكتساب اللاعبين ونحو ذلك، نُشِر هذا المقال للأسف الشديد، وهناك تنافس مَحْمُوم لدى الأندية أو لدى من يمدّهم ويعينهم، إلى أن ارتقوا أحيانًا بما يسمى بالمنافسة بينهم، أن هذا يرتقي من عشرين مليونًا إلى تسع وأربعين مليونًا تدفع للاعب واحد مقابل اشتراكه في نادٍ ما من الأندية، والتنافس يجري بينهم في هذا، وتُنفَق هذه الملايين الطائلة بلا مُبرّر شرعي ولا مُوجِب شرعي. إن أولئك الذين ينفقون سواء كان في الأندية أو من يُعدّ منهم ويعينهم، إن هذه نفقات ما أُرِيد بها وجهُ الله، وإنها إنفاق في الباطل، وإنها تبذير: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27].
إن الواجب على هذه الأندية وعلى المسؤولين فيها أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يحوّلوا هذه الأندية إلى أندية خير وتنافس، رياضةً بدنيةً وعقليةً وأخلاقًا وتربيةً إسلامية ومنتدى خير يؤمّه الناس فيستفيدون، ويقضون أوقاتهم في خير، أما أن يكون التنافس في الأموال لكسب هذا وكسب هذا بهذه النفقات الجائرة فهذا أمر منكر، والذي ينفق هذا المال من أولئك المشجّعين لهم، الذي ينفقه ليعلم أنه مأزور غير مأجور، وليعلم أنه آثم وليس بِمُثاب، وليعلم أنه مخطئ وليس بمصيب، وليعلم أن نفقاته تلك ستكون وَبَالاً عليه يوم القيامة وحسرة وندامة؛ لأنه لم ينفقها في وجه شرعي يحبه الله ورسوله.
هذه الأموال لو أُنفِقت في خير، وأُنفِقت في معروف، وسُوهِمَ فيها في خير، وأُعِين بها مُعْتاز، وأُنفِق في طرق الخير لكان لها النفع والفائدة الدائمة، لكن هذا التنافس السيئ إنما يدل على أن هذه الأندية ـ هدى الله القائمين عليها ـ لم يقصدوا بذلك المنفعة، إننا نريد منهم أن يحوّلوها إلى تربية بدنية وعقلية وأخلاقية لتؤدّي واجبها، وتساهم في المعروف، أما أن تُنفَق هذه الأموال في سبيل كسب هذا أو هذا فهذا في الحقيقة أمر مَشِين.
والصحف تنشر هذه الأسماء وهذه المقالات كل يوم، ولا شك أن هذا خطأ واضح، وإنفاق مال في غير حقّه، والله يقول: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].
أسأل الله أن يهدي إخواننا لطاعته، وأن يمنّ على الجميع بالرجوع للحق، وأن يجعلنا وإياكم ممن يسعى في الخير بقوله وعمله، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في فرض الخمس (3118) من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها.
(1/4244)
التذكير بالاستعداد ليوم الرحيل
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, الموت والحشر
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
2/6/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بقرب الحساب. 2- حال السلف مع الإعداد للموت والحساب. 3- إنكار المهرجانات الغنائية في فلسطين. 4- السبب الحقيقي لواقع الأمة المرير وكيفية الخروج منه. 5- وقفة مع تفجيرات لندن. 6- أحوال الأسرى في السجون الإسرائيلية. 7- استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على الأقصى والقدس والمدن الفلسطينية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، يقول الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:1-3].
عباد الله، ذكر المفسرون: إن رجلاً من أصحاب رسول الله كان يبني جدارًا، فمرّ به آخر في يوم نزول هذه السورة ـ وهي سورة الأنبياء ـ فقال الذي كان يبني الجدار: ماذا نزل اليوم من القرآن؟ فقال الآخر: نزل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ، فنفَضَ يده من البنيان، وقال: والله لا بنيت أبدًا وقد اقترب الحساب.
وسُئل الصحابي عامر بن ربيعة : هلاّ سألت النبي عنها. فقال: نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا.
عباد الله، ومن عَلِم اقتراب الساعة قَصُرَ أملُه، وطابت نفسُه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، فكأنّ ما كان لم يكن إذا ذهب، وأنتم تعلمون أنّ كل آتٍ قريب، والموت لا محالة آت، وموت الإنسان قيام ساعته.
عباد الله، الموت باب وكل الناس داخله، وكأس وكل الناس شاربه، وحوض وكل الناس وارده، وصدق الله وهو يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35].
هذا نبي الله نوح عليه السلام أطول الأنبياء عمرًا، حينما جاءه مَلَك الموت ليتوفّاه سأله: كيف وجدت الدنيا؟ قال: وجدتها كدار لها بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.
عباد الله، مرض أحد الصالحين مرض الموت، فعاده بعض أصحابه فقالوا له: أي شيء تشتكي؟ قال: أشتكي ذنوبي. قالوا له: وأي شيء تشتهي؟ قال: مغفرة ربي. قالوا له: ألا ندعو لك طبيبًا؟ قال: الطبيب هو الذي أمرضني. هكذا كانت قلوب أهل الإيمان معلّقة بالله عزّ وجل، كل ما يشغلهم هو لقاء الله، وحسابهم بين يدي الله تعالى. كان خوفهم من الله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]. لا يرتكبون المعاصي والآثام، ولا يقعون في الحرام، ويبتعدون عن الشبهات والشهوات.
استمعوا ـ أيها المؤمنون ـ لهذه القصة، وتعلّموا منها، فقد جاء رجل إلى الإمام أبي حنيفة النعمان وقال له: أقرضني مبلغًا من المال، وخذ هذا البيت رَهْنًا عندك. وقَبِل أبو حنيفة الرَّهْن، وذات يوم مرّ به أحد الناس فرأى الإمام واقفًا والحرّ شديد الأُوَار، والشمس ترسل لُعَابًا كالمُهْلِ يشوي الوجوه، وأبو حنيفة واقف في حرّ الشمس وأمامه البيت، فقال له: يا إمام، لماذا تقف في حرّ الشمس وأمامك ظل هذا البيت؟ فقال له الإمام: إن هذا البيت مرهون عندي، وأنا أخشى أن أقف في ظلّه فأكون قد انتفعت منه، فيسألني الله عن ذلك يوم القيامة.
عباد الله، لو أن الإمام أبا حنيفة نظر اليوم إلى عصرنا ورأى أحوال المسلمين الصعبة ماذا سيكون موقفه؟ وكيف سيكون موقفه من أكلة الربا والذين يتعاملون بالحرام؟ وكيف سيكون موقفه لو علم أن حصص التربية الإسلامية في بلادنا تنقص يومًا بعد يوم، وأنها ستكون حصة أسبوعية واحدة في المنهج الصناعي، وأن أولادنا لن يتعلموا مادة الدين إلا كما يضع المريض القطر في عينه؟ وإني لأعجب وإياكم من ذلك، ندرس أولادنا ما يضرهم ولا ينفعهم ونحذف حصص الدين من المناهج! إن هذا لشيء عجيب، غيرنا يركّز على أمور دينه ونحن نبتعد عن ذلك، وأحوالنا يُرثَى لها، أحوالنا أصبحت لا تُطاق في أرضنا المباركة، نحن نقيم المهرجانات التي تلهي الناس عن دينهم وتُبعدهم عن عقيدتهم ـ وللأسف الشديد ـ شعبنا يتخبّط هنا وهناك، ولا يعرف أين هي المصلحة، ويتقوقع بين الملاهي واللعب والغناء الفاحش [بدل] أن يتّجه إلى الله.
ونحن من هنا، من هذا المقام الرفيع نقولها صريحة وواضحة: إن إقامة هذه المهرجانات في أرضنا المباركة هو من الفساد في الأرض، فبالله عليكم كيف يليق بأمة دماء شهدائها لم تجفّ بعد، كيف تقوم بمثل هذه الأعمال؟! فاتقوا الله يا من تروّجون لأمثال هذه المهرجانات، واعملوا لرِفْعة دينكم وأمّتكم خير لكم عند ربكم، وإلا فانتظروا عذاب الله تعالى، وتذكروا أن الله يمهل ولا بهمل، وأنّ عذابه واقع بأهل الفساد والعناد.
عباد الله، ونحن من هنا نهيب بعلماء الأمة أن ينكروا هذا المنكر، وإلا فهم داخلون في ساحة من يرتكب المعصية، ويسكت عنها، وقانا الله وإياكم من شرّها ومن شرّ أصحابها وشر من يروّج لها.
عباد الله، كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم إذا نزل بأحدهم بلاء رجع إلى نفسه وقال: لا بد أني قد أذنبت وقصّرت في حق الله، فسرعان ما يرجع إلى ربه، ويقرع بابه تائبًا مستغفرًا ويقول: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]. وكان الواحد منهم يقول: إني لأرى شؤم معصيتي في سوء خُلُق امرأتي ودابّتي، فالمعاصي لها آثارها الوخيمة ـ يا عباد الله ـ في الدنيا والآخرة.
يقول حَبْر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونورًا في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القلب، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبُغضًا في قلوب الخلق).
عباد الله، لا بد أن نسأل أنفسنا: لماذا أصابنا ما أصابنا؟ كما كان أصحاب رسول الله ، فقد سألوا أنفسهم بعد غزوة أحد حينما خالفوا ما أمرهم به رسول الله ، وتركوا ظهرهم للمشركين، فكان أنْ قُتِل سبعون من خيارهم، فلما سألوا أنفسهم ردّ الله عليهم بقوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، هكذا يجب أن نحاسب أنفسنا أيها المؤمنون، أن نقف مع أنفسنا ساعة ونسأل أنفسنا: ماذا فعلنا لإسلامنا؟ وماذا فعلنا لإقامة دولتنا الإسلامية؟ أيكفي الواحد منا أن يقيم العبادات فقط، ويتناسى أحوال الأمة؟ كلا، فإن الإسلام جزء واحد كما قال جلّ وعلا: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85].
فالمؤمن ـ يا عباد الله ـ بعيد المدى، شديد القوى، يقول فَصْلاً ويحكم عدلاً، يتفجّر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواهيه، ليستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته، غزير العَبْرة، طويل الفِكْرة، يقلّب كفّيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خَشُن، ومن الطعام ما قلّ، يعظّم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، إذا أرخى الليل سُدوله، وغارت نجومه قام ممتثلاً في محرابه، قابضًا على لحيته، يَتَمَلْمَلُ تَمَلْمُلَ السليم، ويبكي بكاء اليتيم، ويقول: يا دنيا، غُرِّي غيري، إليّ تَعَرَّضْتِ أم إليّ تَشَوَّقْتِ، هَيْهات هَيْهات، لقد طلّقتك ثلاثة لا رَجْعة فيها، فعمرك قصير، وخطر حقير، آه من قلّة الزاد، وبعد السفر ، ووحشة الطريق.
عباد الله، لو أن الناس استحضروا الآخرة والموت والقبر والقيامة والصراط والميزان، واستحضروا الجنة والنار؛ لانحلّت مشكلات الحياة، ولما رأينا الصراع على هذا المتاع الأدنى، وما رأينا الإنسان يقاتل أهله، ويجافي إخوانه، وما رأينا تنازع البقاء أو تنازع الفناء الذي نشهده، إن مشكلة الناس في عصرنا أن الآخرة غائبة عنهم، لو أن الآخرة حاضرة في وَعْيهم وعقولهم وقلوبهم لحلّت المشكلات بِتَسَامِ الناس، لأعطى كل ذي حقّ حقّه، ولما تظالم الناس، ولا طغى بعضهم على بعض، ولكنها الغفلة عن الآخرة، والغفلة شرّ ما يصيب الناس، ولهذا قال الله تعالى في ذمّ قومٍ جعلهم حطب جهنم: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُون [الأعراف:179].
عباد الله، سُئل بعض السلف: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت قريبًا أجلي، بعيدًا أملي، سيئًا عملي. وسُئل الإمام الشافعي: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ سُئل في مرضه الأخير، فقال: أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى الله تعالى وارِدًا، ولا أدري روحي تصير إلى الجنة فأُهَنّيها، أم إلى النار فأُعَزّيها، ثم أنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مَذاهبِي جعلت رجائي نحو عفوك سُلّمًا
تعاظَمَني ذنبي فلما قرنتُه بعفوك ربي كان عفوك أعظمًا
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو مِنَّةً وتكرُّمًا
فلولاك لم يصمد لإبليس عابد فكيف وقد أغوى صَفِيّك آدما
فالمهم ـ أيها المسلم ـ أن تستعدّ للموت، لقوله : ((فالكيِّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله)).
والعاقل ـ يا عباد الله ـ من حاسبها، وأعدّ للأمر عُدّته، وأخذ له أُهْبته، حتى لا يسير بغير زاد، وصدق من قال:
تَزَوّد للذي لا بدّ منه فإن الموت مِيقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
عباد الله، قال الجريري رحمه الله: حضرت الجُنَيد عند وفاته وهو يقرأ ويختم، فقلت: يا أبا القاسم، في مثل هذه الحالة؟! فقال: ومن أولى بهذا مني، والآن تُطوى صحيفتي؟
فنحن ـ أيها المؤمنون ـ بحاجة إلى الإيمان الحق، نحن بحاجة إلى الثقة بالله حتى ننجو يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أنّ من انقطع إلى الله كفاه الله، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وَكَلَهُ الله إليها. فأكثروا ـ أيها المؤمنون ـ من الاستغفار، فمن اتّقى واستغفر جعل الله له من كل هَمِّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ومن كل عسر يسرًا.
عباد الله، جعلنا الله وإياكم ممن أفاق لنفسه، وفاق بالتحفّظ أبناء جنسه، وأعدّ عُدّة تَصلُح لرَمْسِه، واستدرك في يومه ما مضى من أمسه، قبل ظهور العجائب، ومَشِيب الذَّوائِب، وقدوم الغائب، وحَزْم الركائب.
توجهوا إلى الله يا عباد الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لم يزل عليمًا عظيمًا عليًّا، جبّارًا قهّارًا قادرًا قويًّا، قسم الخلائق سعيدًا وشقيًّا، وقسم الرزق بينهم فترى فقيرًا وغنيًّا، فهو الذي جاد لأوليائه بإسعاده، وبنى لهم مناهج الهدى بفضله وإرشاده، ورمى المخالفين له بطرده وإبعاده، وأجرى البرايا على مشيئته ومراده، واطّلع على سرّ العبد وقلبه وفؤاده، وقدّر صلاحه وقضى عليه بفساده، فهو الباطن الظاهر وهو القاهر فوق عباده.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، المرسل إلى الناس في جميع بلاده.
أما بعد: قال رئيس الوزراء البريطاني: "إن منفذّي هجمات لندن يوم الخميس الماضي تحرّكوا باسم الإسلام، وإن العالم يشهد صراع حضارات وقِيَم، حضارة الغرب وحضارة الإرهاب وقيمه".
أيها المسلمون، أين كانت حضارة وقِيَم بريطانيا حين أعطت وعد (بلفور) المشؤوم عام (1917) حقًّا لليهود لإقامة وطن لهم في فلسطين؟! هذا الوعد الذي لا يزال شعبنا الفلسطيني حتى هذه اللحظة يدفع الثمن غاليًا، ويعاني من ظلم المعتدين. أين كانت حضارة وقِيَم أمريكا ودول الكفر في عدوانها واغتصابها لثروات الشعوب الإسلامية في العراق والسودان وأفغانستان؟! أين كانت حضارة وقِيَم روسيا في عدوانها على شعب الشيشان؟!
أيها المسلمون، إسلامنا العظيم يحرّم سَفْك الدماء، وقتل الأبرياء، وتشريد الآمنين، واضطهاد الشعوب وإذلالهم، إسلامنا كان وسيظل دومًا منارة للعلم، ونورًا يضيء ظلمات الجهل والجهالة، وعلى العالم المُسْتَبِدّ الظالم أن يعيد حساباته، ويراجع مواقفه من الإسلام والمسلمين، دين المحبّة والإخاء والرخاء.
أيها المؤمنون، في زيارتها الأخيرة لفلسطين دعت وزيرة الخارجية الأمريكية السلطة الوطنية الفلسطينية إلى عدم إضاعة ما أسمته فرصة تحقيق السلام في المنطقة، وذلك من خلال الالتزام التام بوقف إطلاق النار المعلن بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومحاربة الإرهاب.
وزيرة الخارجية الأمريكية تعمّدت أن تتناسى وتتجاهل الممارسات الإسرائيلية ضد أبناء شعبنا الفلسطيني في مدنه وقُراه ومخيّماته، والتي لم تتورّع قوات الاحتلال عن استمرار عمليات التصفية والاغتيالات والاعتقالات، ومصادرة الأراضي وهدم المنازل وتوسيع المستوطنات، ألم تعلم الوزيرة الأمريكية أن الفلسطينيين فقدوا منذ وقف إطلاق النار وحتى يومنا هذا أكثر من خمسين شهيدًا اغتالتهم إسرائيل بوسائلها القذرة المعهودة جوًّا بالطائرات، وبرًّا بالوحدات الخاصة والمستعربين، في حين استمرّ الجانب الفلسطيني ملتزمًا بوقف إطلاق النار؟! ألم تعلم الوزيرة الأمريكية أن إسرائيل اعتقلت زهاء خمسمائة من أبناء فلسطين خلال الأشهر الثلاثة الماضية؟! تقول إسرائيل: إنها أطلقت سراح أربعمائة أسير فلسطيني، وبذلك تكون قد أخرجتهم من باب، وأعادت أكثر منهم من باب آخر.
أيها المسلمون، أسرانا يعاملون معاملة سيّئة، أوضاعهم صعبة، سوء في التغذية والعلاج والرعاية، وقد نبّه نادي الأسير الفلسطيني مؤخّرًا إلى المخاطر التي يتعرّض لها الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية، وأشار إلى أن عشرة من المعتقلين قد استشهدوا داخل زنازين الاحتلال جرّاء التنكيل والتعذيب، وعدم تقديم العلاج الناجع، وإهمال الحالة الصحية للعديد من المعتقلين، ونحن من هنا نتوجه إلى الله العلي القدير أن يخفّف آلامهم، وأن يطلق سراحهم، وأن يكتب لهم الأمن والأمان وأن يعيدهم إلى أهلهم سالمين غانمين آمنين.
أيها المسلمون، كشفت صحف أمريكية مؤخّرًا أن الرئيس الأمريكي الحالي بعث برسالة إلى رئيس وزراء إسرائيل الحالي يقول فيها: "إن الحكومات الأمريكية المتعاقبة منذ عام سبعة وستين وحتى اليوم تعارض سياسة الاستيطان التي تقوم بها إسرائيل في الأراضي المحتلة عام (1967)". ولكن لم تطلب أية حكومة أمريكية أو رئيس أمريكي من إسرائيل وقف عمليات البناء! هذه السياسة المُلْتَوِيَة والتي تندرج ضمن سياسة التعمية الإعلامية التي تمارسها الإدارة الأمريكية ضد الشعوب الإسلامية والعربية، والتوافق الإستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل.
وأوضحت الصحيفة الأمريكية المعنية بتغطية الاستيطان الإسرائيلي أن مستوطنة معاليه أدوميم ستمتد إلى مشارف جبل المكبر جنوب القدس، وأن الحزام الفاصل سيكون على امتداد الضفّة الشرقية، وأن التواصل الاستيطاني حول القدس الكبرى لإحكام القبضة.
أيها المؤمنون، إن كانت عمليات بناء المستوطنات وتوسيعها مستمرّة فإن عملية الاستيلاء على العقارات العربية داخل حدود القدس ـ سواء داخل البلدة القديمة أو خارج أسوارها ـ لم تتوقف كذلك، فقد ذكرت الإذاعة الإسرائيلي الناطقة بالعِبْرِيّة عشيّة ذكرى حرب حُزَيران على لسان أحد زعماء المستوطنين في لقاء مفتوح أنه تم الاستيلاء وامتلاك أكثر من تسعين منزلاً داخل أسوار البلدة القديمة خلال السنوات القليلة الماضية عبر صفقات تجارية، وسيتم استلام هذه العقارات والبيوت بعد عدة سنوات. وقال: "إننا نتطلع إلى اليوم الذي نقيم فيه صلواتنا على جبل المكبر"، ويقصد به الحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى المبارك.
أيها المؤمنون، المستوطنون يعيثون في الأرض فسادًا ، يعربدون ويعتدون ويقتلون دون مبرّر، وإسرائيل لا تعاملهم بحزم وقوّة، وكأنها تعطيهم الضوء الأخضر للاستمرار باعتداءاتهم.
لقد قلنا مرارًا: إن القدس في خطر، والأقصى في خطر، المقدسيون أصحاب هذه الديار في خطر، وإسرائيل تواصل بناء الجدار العنصري وقد أصبح أمرًا واقعيًّا، وتواصل إقامة البوّابات الدائمة على مدخل القدس لعصر المدينة وخنقها، وتواصل تهديداتها بهدم المنازل في سلوان وغيرها من المناطق.
عباد الله، إلى متى سنبقى هكذا؟ هل تصحو الأمة من سُبَاتها؟ وهل تتنبه الأمّة حكّامًا ومحكومين للخطر المُحدِق بنا، أم تبقى الأمور كما هي ومن سيئ إلى أسوأ؟ هل سنصبح في القريب مُهجّرين ومُهمّشين، ويُسحَب البساط من تحتنا رويدًا رويدًا؟
وأنتم هنا تسألون: كيف يكون الخلاص؟ والجواب بيّن، أن تعمل أمتنا لإقامة دولتنا الإسلامية التي تحكمنا بشرع الله، وترفع عنا الذل والهوان، الدولة التي تعيد الكرامة والعزة والشرف لأبنائنا، أن نعتصم بحبل الله، وأن نتجاوز الخلافات القائمة بيننا، وأن نتعاون على البر والتقوى، وأن نتوقف عن اتهام لآخرين بغير الحق، وأن نعرف ونطبّق أحكام ديننا، وبغير ذلك فلن تقوم لنا قائمة، لن يكون لنا مكانة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
عباد الله، لا يفوتني في الختام أن أشيد بالجهود الحثيثة التي قامت بها الهيئة الوطنية العليا لمحاربة المخدرات تحت شعار: "وطن بلا مخدرات"، من أجل دفع الأذى عن شبابنا، وتنقية مجتمعنا من الفواحش المضرّة القاتلة، نسأل الله تعالى أن يجنّب شبابنا هذه الآفة الخطيرة، وأن يكتب لنا ولهم الصحة والعافية في الدنيا والآخرة.
عباد الله، توجّهوا إلى الله، ولا تقنطوا من رحمة الله، ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، ولا تيأسوا من روح الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
(1/4245)
أمانة الكلمة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
9/6/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمولية مفهوم الأمانة لأعمال الإنسان وأقواله. 2- اللسان دليل القلب. 3- خطر الكلام وعظم شأنه. 4- وقفات مع الصحافة والكُتّاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جلّ جلاله: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72].
أيها المسلم، مفهوم الأمانة في شريعة الإسلام مفهوم عام شامل لأقوال العبد وأعماله، فكما أنه محاسب على أعماله مُؤتَمَن عليها فهو محاسب على الأقوال ومُؤتَمَن عليها.
إذن ـ أخي المسلم ـ فالكلمة أمانة، فإمّا أن تؤدي كلمة صادقة نافعة مفيدة فتكتسب بها أجرًا وثوابًا، وإما كلمة سيئة وكلمة خبيثة وكلمة تدعو إلى باطل، وتؤيد الشرّ والفساد؛ فتلك كلمة تُحاسب عليها. فاسمع إذن فضل الكَلِم الطيّب، في الحديث عنه قال: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان؛ سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) [1].
أخي المسلم، كم تتكلّم في حياتك بكلمات؟ هذه الكلمات ستكون وبالاً عليك في دنياك وآخرتك، وسيخفّ بها ميزان أعمالك، فأنت محاسب على الأقوال كما أنت محاسب على الأعمال، بل الأقوال أشدّ، فكم من مُسيطِر على نفسه في أعمال جوارحه، لكنّه أمام لفَظَات اللسان عاجز يُطلِق للسانه العَنان ليقول ما يشاء؛ فتعظم الأوزار والآثام.
أخي المسلم، إنّ ربّنا جلّ وعلا أخبرنا أن أقوالنا مُحْصاة علينا: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]. وقال: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:24، 25].
أخي المسلم، كلماتك تُعبِّر عمّا انطوى عليه ضميرُك، كلماتك تُعبِّر عمّا استقرّ في قلبك، كلماتك تُعبِّر عن اتجاهك الفِكري، ومدى ما وصل إليه اتجاهُك وتفكيرُك، إذن فاللسان تُرْجُمَان القلب، يتكلم هذا بلسانه فتستطيع أن تُقوِّم فكرَه ورأيَه، وتستطيع في الغالب أن تطّلع على أفكاره ومكنوناته من خلال تلكم الكلمات التي تلَفّظَ بها، ولذا قال الله لنبيه مخبرًا له عن حال المنافقين، وأنّه جلّ وعلا قادر أن يُطْلِع نبيّه على أعيانهم كلهم، لكن حكمة الله تقتضي عدم ذلك، وإن عَلِم ما عَلِم منهم فغيرُهم لا يعلَمهم، إلا أن الله جلّ وعلا أخبر نبيه بصفة عامة وهي الأقوال فقال: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:30]، فما انطوى عليه الضمير لابدّ أن يكشفه اللسان، وإن تَحَفَّظ ما تَحَفَّظ فإنّ فَلَتات لسانه تُنبئ عما في مكنون قلبه.
أخي المسلم، كم زلّت بالكلمات أرجل أقوام، وضلّوا عن سواء السبيل! يقول الله لنبيه في أخباره عن المستهزئين به وبأصحابه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66]، أناس مع محمد مجاهدون معه في غزوة تبوك تكلّموا بكلمات زلّت بها القدم فنالوا الوعيد الشديد، قال قائلهم: ما رأينا مثل قُرّائنا هؤلاء، أكذبنا ألسنًا، وأرغبنا بطونًا، وأجبننا عند اللقاء! يعنون رسول الله وأصحابه، فجاء الوحي من الله ليطلع نبيّه عن تلكم المقالة السيئة والمقالة الخبيثة والمقالة المُنْبِئة عن نفاق وغِلٍّ على الإسلام وأهله، فجاؤوا ليعتذروا، وليقولوا: هي كلمات قلناها نقطع بها مَشَقّة الطريق وعناءه، والرسول يقول لهم: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة:65]، لا يزيد على ذلك، ولا يرد عليه [2].
إذن ـ أخي المسلم ـ فلنتثبّت في ألفاظنا، ولنحاسب أنفسنا قبل أن تزلّ القدم، ولنعلم أن الكلمات السيئة كم هدمت من بناء أعمال صالحة! وكم أوردت صاحبها موارد العَطَب والهلاك! يقول : ((إن العبد ليتكلّم بالكلمة من سَخط الله لا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه، وإن العبد ليتكلّم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه يوم لقاه)) [3].
أخي المسلم، إن للكلمة أمانة، فالتزم أمانة الكلمة لتكون من المؤمنين حقًّا، أنت مسلم آمنت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا رسولاً، فلتكن كلماتك كلمات نافعة وكلمات مؤثّرة وكلمات تخدم دينك وكلمات تسعى في لَمِّ شَعَثِ أمّتك، وكلمات تسعى في [جمع] الصفّ، وكلمات تُعالَج بها قضايا الأمة على ضوء من كتاب الله ومن سنة رسوله.
أخي المسلم، للصحافة في هذا العصر دورها الفعّال في توجيه الأمّة وبثّ الأفكار والآراء وعلاج القضايا وطرح القضايا من خلال الصفحات؛ لكي تأخذ مسارها في التوجيه والإرشاد، وإن كنا لنشكر لصحافتنا تغطيتها الأحداث ومحاولتها علاج قضايا الأمّة، إلا أنّ لنا معهم وقفات نريد بها الخير والصلاح للجميع.
فأوّلاً: إنّ أغلى ما عند المسلم دينه، فدينه الذي شرّفه الله به، ودينه الذي أعزّه الله به، ودينه الذي اختاره الله له أن جعله من هذه الأمّة المحمّدية التي هي خير أمة أخرجت للناس، فالمؤمن بالله ورسوله ودينه حينما يطرح للصحافة قضية، وحينما يكتب مقالاً، وحينما يعالج قضية من القضايا يُهمّه قبل كل شيء: هل هذه الأطروحة، وهل هذه القضية، وهل هذه الكتابة ستكون في ميزان أعماله عملاً صالحًا، أو تكون عملاً سيئًا؟ فينظر إليها من هذه النظرة، فإن كان ما سيكتبه ويسطّره عملاً صالحًا يرجو به ما عند الله من الثواب، ويكون سببًا لرجحان ميزانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]، فليكتب وليمضِ مخلصًا لله قاصدًا وجه الله والدار الآخرة، وإن فكّر في هذا المقال ونظر إلى ما يريد طرحه من قضايا أنها لا تخدم هذا الدين، ولا تساهم في إسعاد الأمّة فليبتعد عنها؛ ليسلم له دينه وإيمانه.
أخي المسلم، كم نقرأ أحيانًا في الصحف مقالات لبعض كُتّابنا أو بعض الكاتبات، لكن للأسف الشديد يطرح بعضهم قضية، ويعالج بعضُهم بعضَ القضايا، وللأسف الشديد العلاج بعيد عن الواقع وشاقٌّ عن الصواب، وهذا للأسف الشديد مرجعه إما لأن هذا الكاتب كتب في حَقْلٍ ليس من اختصاصه وفي أمر لا يتقنه ولا يدركه حقًّا، وفي أمر لا يتصور نتائجه، فيكتب من فراغ، فتأتي تلك الكتابة مشلولة عن الخير؛ لأن الكاتب ليس من أهل الاختصاص، ولا ممن يعرف حقيقة ما يكتب ونتيجة ما يكتب، فتكون الكتابة ضارّة غير نافعة، ومفسدة غير مصلحة.
أيها المسلم، إنّ خدمة هذا الدين أمانة في أعناق الجميع في أقوالنا وأعمالنا، فلابد إذا أردنا أن نعالج قضية من القضايا أن نعالجها من خلال كتاب ربّنا وسنّة نبينا وأخلاق إسلامنا، ففيهما الخير والكفاية لمن اكتفى بهما. إن المجتمع المسلم يحلّ قضاياه على وفق كتاب ربّه وسنة نبيه. فتطرح قضايا يتحدث المتحدثون عن علاجها، ولكن للأسف الشديد لا ترى إلا قليلاً من الصواب، يُؤتَى بقضية المرأة أحيانًا فيُكتب حولها ما يُكتب، ويقال عنها ما يقال، وكأنّ من يقرأ هذه الكتابة يرى أن المرأة عندنا في سجن وراء القضبان وأنها وأنها... وواقعنا ـ ولله الحمد ـ يُبِين على أن المرأة عندنا قد نالت حظَّها من خلال تعاليم دينها، فهي الأم، وهي الوارثة، وهي الأخت وإلى آخره... وربما غلوا في طرح قضايا المرأة وقالوا عنها ما قالوا، وإذا تأمّلت تلك المقالات رأيت فيها الشَّطَط والبُعد عن الصواب.
إننا نريد من صحافتنا سُموًّا في الكتابة وعُلوًّا في الهمّة، نريد إذا عالجنا قضية دينية أو قضية اقتصادية أو قضية اجتماعية أن يكون العلاج علاجًا مصيبًا، لا يُكتب إلا بعد التمحيص والنظر الدقيق: هل هذا العلاج مؤثر أم لا؟ الناس اليوم كل صباح والصحف بأيديهم يقلّبونها يمينًا ويسارًا، فلذا نريد أن تكون الصحافة تتحسّس مشاكل المجتمع باعتدال ووسطية لا إفراط ولا تفريط، ولكن باعتدال ووسطية، ونظرًا للمصالح العامة؛ لأن هذا من الدعوة إلى الله أن تكون الكتابة هادفة وقاصدة خيرًا، ولا تكون شاقّة عن الصواب. وعندما نعالج القضايا السياسية فلنعالجها من خلال مختصّين، ومن خلال من ينظرون إلى ما وراء السطور، هذا هو الأولى حتى لا تختلط الأوراق، ويتكلّم من يتكلّم في أي قضية ما دون أن يُحسَب لها حساب، البعض غيور على أمته بلا شك، ويحاول من خلال كتابته أن يعالج قضية ما، والخطأ موجود، ولا أحد يدّعي الكمال، لكن كيف أعالج الخطأ؟ هل أعالج الخطأ بخطأ أكبر منه، أم أعالج الخطأ بالصواب والاعتدال؟ إن الاعتدال في الأمور والوسطية في الأمور هي كفيلة لأن تكون صحافتنا صحافة هادفة وصحافة نافعة وصحافة مفيدة توجّه المجتمع التوجيه الصالح، وتقوده إلى الخير والصلاح.
إن البعض قد ينظر إلى قضية ما وقد تكون قضية شخصية له فمن خلال تأثّره الشخصي ربما حمل على فئة معيّنة أو على دائرة معيّنة بما يقول ويكتب إذِ المعنى خاص به، فيجعل خصوصيته سببًا للانتقام. عندما أعالج الأفكار الهدّامة والأفكار الخاطئة أعالجها بحكمة، أعالجها باعتدال واتزان، كما أني أرفض الغلو، فأنا أرفض التطرف والغلو من الجانب الآخر، فنعالج أي قضية فكرية بعلاج شافع شافي معتدلين في أطروحاتنا قاصدين الخير متحرّين الصواب.
عندما نطرح إعلانات ما فليس الهمّ أن يكون الإعلان يأخذ مساحة في صحافتنا، ولكن المهم: هل هذا الإعلان يخدم هدف الأمة؟ هل هو خادم لدينها وأمنها واستقرارها وصلاحها، أم هذا الإعلان يحمل في طيّاته ما ينافي الحق ويبعد عن الصواب؟
إن أمانة الكلمة أمانة عظيمة، لو تدبّرها العاقل لعلم حقًّا أنها أمانة كبرى وأمانة عظمى مُلقاة على رجال صحافتنا. أسأل الله أن يأخذ بأيدي الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل هدف الجميع رضوان الله والتقرّب إليه بما يرضيه.
فإن المسلم حقًّا داع إلى الله في أي ميدان من ميادين حياته، الخطيب على منبره، المدرس في مدرسته، المعلم في جامعته، الصحفي في صحيفته، المعدّ برامج الإعلام في إعداده، الكل يخدمون هذا الدين، ويسعون لتمكين الخير في قلوب المجتمع، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه إلى يوم القيامة.
فلنحرص ـ إخواني جميعًا ـ أن نكون يدًا واحدة في سبيل إسعاد هذا المجتمع المسلم والحفاظ على دينه وأخلاقه وقِيَمة وأمنه من خلال ما نكتب وما نتحدّث به. أسأل الله أن يأخذ بيد الجميع لما فيه خير الأمة وصلاحها في أمر دينها ودنياها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الدعوات (6406)، ومسلم في الذكر والدعاء (2694) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (6/1830)، والطبري في تفسيره (14/ 333) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى، وانظر: الصحيح المسند من أسباب النزول (122).
[3] أخرجه مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969) من حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
وبعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
جاء في الحديث: ((أن الجوارح تُكفّر اللسان تقول له: نحن بك؛ إن استقمت استقمنا، وإن اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا)) [1] ، إذن فاللسان سبب لاستقامة الجوارح، سبب لاستقامتها وثباتها أو سبب لانحرافها والعياذ بالله.
أخي المسلم، يكتب كاتب أحيانًا فيعالج قضية فكرية معيّنة للأسف الشديد صار ذلك العلاج مبنيًا على السخرية بأركان الإسلام وأركان الإيمان، فيتحدث عن أركان الإسلام عند فئة ما ويقول: إنهم يعدّون أركان الإسلام كذا وأركان الإيمان كذا، هذه السخرية بأركان الإسلام وإيمانه لا تصدر ممّن باشر الإيمان قلبه، الواجب عندما أعالج فكرًا خاطئًا وعندما أناقش رأيًا خاطئًا أن يكون النقاش باعتدال وإنصاف، فلا أَظلم ولا أُجْحِف، لا أزيد ولا أنقص، وإنما أضع الدواء على الداء مُعِيِّنًا حتى أعالج القضية، وأما أن أُجازِف في الأقوال، وأما أن أُحاول أن أفتري وأقول فإن هذا أمر غير لائق، الواجب تقوى الله، والله يقول: إِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [الأنعام:152]، فأمرنا الله بالعدل في أقوالنا كما أمرنا بالعدل في أعمالنا، فإذا اعتدلت أقوالنا وصارت عدلاً لا جور ولا ظلم استطعنا بتوفيق الله أن نساهم في سلامة هذا المجتمع المسلم، ولَمِّ شَعَثِه وتوحيد صفّه على الخير وربط بعضه ببعض وربطه بقيادته الرشيدة. نسأل الله أن يوفّق الجميع لما فيه الخير والصلاح، وأن يجعلنا دعاة إليه على علم وبصيرة، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه أحمد (3/95)، والترمذي في الزهد (2407) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحسّنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1962).
(1/4246)
هدي النبي مع الغيث
فقه, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, الصلاة
لافي بن حمود الصاعدي
مكة المكرمة
جامع الفتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاعل النبي مع الظواهر الكونية. 2- أوجه استسقاء النبي. 3- هدي النبي عند رؤية الغيم وعند نزول الغيث. 4- وجوب نسبة إنزال الغيث إلى الله تعالى وحده. 5- دلالة إنزال الغيث على البعث والنشور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، لقد كان رسولنا عليه الصلاة والسلام يتفاعل مع الظواهر الكونية، فله مع كُلٍّ منها هدي، فإذا هاجت الريح كان له هدي، وإذا نزل الغيث كان له معه هدي، وإذا كسفت الشمس أو خسف القمر كان له هديُ، فحريٌّ بالمسلم أن يكون على علم بهديه؛ ليتسنّى له الاقتداء برسولنا ، فالله يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
عباد الله، في هذه الخطبة سنتناول هدي الرسول مع الغيث؛ تعليمًا للجاهل، وتذكيرًا للعالم، وتفاؤلاً بنزول الغيث.
أيها المؤمنون، لقد صحّ عنه أنه كان يدعو الله مرارًا، ويلحّ عليه أن ينزل الغيث، يدعوه في صور شتّى، ولم يكن يقتصر على صلاة الاستسقاء فحسب، كحالنا نحن ولا حول ولا قوة إلا بالله. يقول ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في هدي خير العباد: "ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه استسقى من وجوه:
الوجه الأول:
يوم الجمعة على المنبر أثناء الخطبة، وقال: ((اللهم أغثنا)) ثلاثًا، أخرجه البخاري ومسلم.
الوجه الثاني:
وَعَد الناس يومًا يخرجون فيه إلى المصلّى، فلما طلعت الشمس خرج متواضعًا مُتَبذّلاً مُتخَشّعًا. وهذه صلاة الاستسقاء المعروفة.
الوجه الثالث:
أنه استسقى على منبر المدينة استسقاءً مجرّدًا في غير يوم جمعة، ولم يُحفظ عنه في هذا الاستسقاء صلاة، خرّجه ابن ماجه.
الوجه الرابع:
أنه استسقى وهو جالس في المسجد، فرفع يديه ودعا الله عز وجل، فحُفِظ من دعائه حينئذ: ((اللهم اسقنا غيثًا مُغِيثًا مَرِيعًا طَبَقًا عاجلاً غير رائِث نافعًا غير ضار)) رواه أبو داود بسندٍ صحيح من حديث جابر بن عبد الله، ومعنى مَرِيعًا: أي ذا خَصَابةٍ ومَرَاعةٍ.
الوجه الخامس:
أنه استسقى عند أحجار الزيت قريبًا من الزَّوْرَاء وهي خارج باب المسجد، رواه أبو داود وهو حديث صحيح.
الوجه السادس:
أنه استسقى في بعض غزواته لمّا سبقه المشركون إلى الماء، فأصاب المسلمين العطشُ، فاستسقى لهم"أهـ.
أيها المسلمون، إذن يُستحبّ لنا أن نهتدي بهدي الرسول عليه الصلاة والسلام وندعو الله بنزول الغيث في شتّى الأوقات التي تُرجى فيها الإجابة، كالدعاء في السجود، وفي وقت السحر، وبين الآذان والإقامة ونحوها.
عباد الله، وكان من هدي النبي مع الغيث ما روته عائشة رضي الله عنها حين قالت: كان رسول الله إذا رأى غَيْمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، قالت: يا رسول الله، إنّ الناس إذا رأوا الغَيْم فرحوا؛ رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية، فقال رسول الله : ((يا عائشة، ما يؤمّنني أن يكون فيه عذاب، قد عُذِّب قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب وقالوا: هذا عارضٌ مُمطِرُنا)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده. وروى مسلم في صحيحه حديثًا عن عائشة قالت: كان رسول الله إذا عَصَفِت الريح قال: ((اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أُرسِلت به، وأعوذ بك من شرها وشرّ ما فيها وشر ما أُرسِلت به)) ، قالت: وإذا تَخَيَّلَتِ السماء تغيّر لونه، ودخل وخرج، وأقبل وأدبر، فإذا أَمطرت سُرِّيَ عنه، فعرفتْ ذلك عائشة رضي الله عنها فسألته، فقال رسول الله : ((لعله ـ يا عائشة ـ كما قال قوم عاد: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [الأحقاف:24] )). وهذا الفعل ـ يا عباد الله ـ منه من عدم أمنه من مكر الله، وقد عاب الله قومًا أمنوا مكره، قال سبحانه: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون [الأعراف:99]، ومَن فعل هذا الهدي النبوي ـ أي خاف عند الغيم أو الريح ـ ربما رماه بعض الناس بالتشاؤم، وهذا من الجهل بالسنّة النبوية، والله المستعان.
أمة محمد ، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام مع الغيث هو أنه إذا أمطرت السحاب سُرِّيَ عنه هذا الخوف، كما قالت عائشة هذا عنه: (فإذا أمطرت سُرِّيَ عنه) أخرجه مسلم.
بل إنه يفزع إلى المطر يكشف عن ثوبه، كما قال أنس بن مالك : أصابنا مطر ونحن مع رسول الله فَحَسَر عن ثوبه حتى أصابه المطر وقال: ((إنه حديث عهد بربه)) خرّجه مسلم.
وكان إذا رأى المطر قال: ((اللهم صَيِّبًا نافعًا)) أخرجه مسلم.
أيها الأمّة، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام مع الغيث أنه إذا كثر وخاف من الضرر على الناس قال: ((اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومَنابِت الشجر)) متفق على صحته بين البخاري ومسلم. والآكام والظِّراب هي الجبال الصغيرة. وتأمّل هذا الدعاء النبوي العظيم حيث خصَّ بقاء المطر في هذه الأماكن؛ لأنها أسهل في الزراعة، وأيسر في الرعي من شواهق الجبال العظيمة التي لا تُنال إلا بالمشقّة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فإن الواجب علينا تجاه نعمة المطر أن ننسبها إلى الله تعالى وحده، لا إلى نجمٍ ولا إلى فصل، فإن هذا من كفران هذه النعمة العظيمة، فعن زيد بن خالد الجهني قال: صلّى لنا رسول الله في الحديبية على إِثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف من صلاته قال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ((قال الله: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال: مُطرنا بِنَوْء كذا وكذا فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكواكب)) رواه مسلم.
ومن تأمّل القرآن حين يتحدث عن تكوّن الغيث يجد أنه ينسب الأفعال إلى الله سبحانه، مثل قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ [النور:43].
ولا نكون ـ أيها الإخوة ـ ممّن إذا شرح ظاهرة تكوّن المطر لم ينسب الأفعال إليه سبحانه فيقول: الشمس تُبخّر الماء في البحر، ثم تتصاعد الأبخرة، ثم يتكون السحاب، ثم تسوقه الرياح، ولا يذكر الله سبحانه.
أحبّتي في الله، إن من تدبّر الآيات التي تتحدّث عن الغيث يجد أنها في نهايتها تذكر إحياء الله للموتى؛ لأن ظاهرة المطر دليل واضحٌ على إمكانية بعث الله الموتى، قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فصلت:39]. وقال الله: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الأعراف:57]، وكثير مثلها في القرآن.
وذلك أنه إذا نُفِخ في الصور النفخةَ الأولى صَعِق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ويبقى الناس موتى ما شاء الله. وكل شيء يَبْلَى من ابن آدم إلا عَجْبُ الذَّنَب ـ وهو آخر فقرة من فقرات الظهر ـ يبقى تحت الأرض مدفونًا، حتى إذا أراد الله إحياء الموتى أرسل سحابًا يمطر على الأرض أربعين صباحًا كماء الرجال، فينبت الإنسان كما ينبت الزرع، حتى يكتمل نموّه، فينفخ النفخة الثانية فترجع كل روحٍ إلى جسدها، ويقومون من قبورهم، ويصور ابن القيم هذا بأبيات جميلة يقول فيها:
وإذا أراد الله إخراج الورَى بعد الممات إلى المعاد الثاني
ألقى على الأرض التي هم تحتها والله مُقْتَدِرٌ وذو سلطانِ
مطرًا غليظًا أبيضًا متتابعًا عشرًا وعشرًا بعدها عَشْرانِ
فتظلّ تنبت منه أجسام الورَى ولحومهم كمَنابِت الرَّيحانِ
حتى إذا ما الأمّ حان وِلادُها وتمخّضت فنِفَاسُها مُتَدانِ
أوحى لها ربّ السما فتشقّقت وبدا الجنينُ كأكمل الشُّبَّانِ
وتخلّت الأمُّ الولود وأخرجت أطفالها أنثى ومن ذُكْرانِ
عباد الله، صلّوا وسلّموا على أفضل خلق الله محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
(1/4247)
العفة والاستعفاف
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة, الفتن, قضايا المجتمع
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
9/6/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- واجب المسلم تجاه الفتن. 2- منزلة العِفة في الإسلام. 3- وصية لمن عجز عن الزواج ونفقاته. 4- عون العاجز عن النكاح من أفضل أعمال البِّر والإحسان. 5- أضرار ومفاسد المغالاة في المهور وطلبات الزواج. 6- أثر الصوم في العفة. 7- الآفات العظيمة المترتبة على النظر للحرام. 8- رسالة إلى من يريد العفاف ويخشى السقوط والانحراف. 9- رسالة للمرأة المسلمة. 10- رسالة إلى من اتخذ من السفر إلى الخارج طريقًا إلى الحرية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله؛ فإنّ تقواه أفضل مُكتسَب، وطاعته أعلى نَسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون، إذا عَجَّ الزمن بالفتن، وكثرت دواعي الانحراف؛ لزم المسلم الاستعفاف عن مواقعة الحرام، والاستعلاء عن مقارفة الفواحش، والاستعصام عن الرغبات الجَامِحَةِ والإرادات المهلكة، ومجاهدة النفس وصونها عن الأقذار، وكَبْتها عمَّا لا يَحِلّ. ومتى استسلم المرء لنوازع الشهوة والغريزة واللذة المحرمة فقد تردَّى في مستنقع البؤس والخيبة، وخَرَّ في دركات الضياع والقلق والتوتر والحيرة، وهوي في حَضِيض الانحلال والاضطراب والشقاء، وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38].
أيها المسلمون، العفّة برهان على صدق الإيمان، وطهارة النفس وحياة القلب، وهي عِزُّ الحياة وشرفها وكرامتها، بها تحصل النجاة من مَرارات الفاحشة، وآلام المعصية، وحسرات عذاب الآخرة، الخارج عنها قَذِرُ المَشْرَبِ، خبيث المَرْكَبِ، نَتِنُ المَطْلَب، ضالّ المذهب، موصوف بأقبح الأوصاف وأسْوَء النُّعُوت، الخزي يلاحقه، والهلاك يدركه، والعذاب يهلكه، فيا خَسَارَ من وقع في حَمْأَة الخَنَث وأوهاك العبث، وخاب العادون المسرفون، وشقي الظالمون المجرمون، لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]. سكروا بحب الفاحشة فلا يبالون ذَمًّا، ولا يخشون لومًا، ولا يخافون عَذْلا، فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:73-77].
فيا سعادة من عَفَّ، ويا فوز من كَفَّ، ويا هَنَاءَة من غضّ الطرف، طوبى لمن حفظ فرجه، وصان عِرضه، وأحصن نفسه، فعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله : ((من يَضْمَنُ لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رِجْلَيْهِ أَضْمَن له الجنة)) أخرجه البخاري [1]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يا شباب قريش، احفظوا فروجكم، لا تزنوا، ألا من حفظ فرجه فله الجنة)) أخرجه الحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: "صحيح على شرطهما" [2]. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)) ، فعدّهم، ومنهم: ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)) متفق عليه [3].
يا من تاقت نفسه إلى النكاح، وعَجِزَ عن طَوْله، وتعَذّر عليه صداقه، وعَسُرت عليه أُهْبَتُه ونفقاته، استعفف عن الحرام، وترفّع عن الآثام، وأصغِ السمع لقول الملك العلاّم: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]. وقد تكفّل الله بمقتضى وعده في إعانة الناكح يريد العفاف، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ثلاثة حقّ على الله عزّ وجل عونهم: المكاتَب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله)) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه [4].
أيها المسلمون، إن عون العاجز عن النكاح ممن يستضِرّ بفقده، ويصيبه العَنَت لعدم وَجْده؛ من أعظم أعمال البر والإحسان، وأجلّ طرق نشر العفّة والإحصان.
ويتوجّب القول بأنّ التمادي في المغالاة في المهور والتباهي بإظهار البذَخ في حفلات الزواج، وتجاوز الحد في الطلبات والشروط، والخروج عن الاعتدال في تكاليف النكاح، أدى إلى عجز الكثير عن إعفاف نفسه بالمباح، وإحصانها بالتزوج، وجَرَّ كثيرًا من الشباب والفتيات إلى الانحراف والفساد، وربنا يقول: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]. ويقول عمر : (ألا لا تغالوا صَدُقة النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها نبي الله ، وما علمت رسول الله نكح شيئًا من نسائه، ولا أنكح شيئًا من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية) أخرجه الترمذي [5].
أيها المسلمون، الصوم مَقْطَعة للنكاح، مَدْفَرَةٌ للماء، مَسْكَنة لداعي الزنا والفجور، به يستعين المتعفّفون، وبه يتحصّن المتحصّنون، وبه ينشغل العاجزون، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الهدى : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجَاء)) متفق عليه [6].
أيها المسلمون، ومن تداوى بما حرم عليه تخلّفت عنه المعونة، وإطلاق البصر وإرسال النظر وتقليب الطرف في المحرمات عدو العفّة ورائد الفجور، ورسول الشرّ وبذرة الشهوة في القلب، السعادة في غضه، والنجاة في كسره، قال جل في علاه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31].
والصور المحرمة تنجس النفس، وتقوي إرادتها على التمرّد والعصيان، وهل أنتجت مشاهد الإثارة ولقطات التهييج وصور العري والتفكّك إلا خرق سياج العفّة والشرف، وشيوع الجريمة الأخلاقية، وفقدان الأمن وانتشار الاعتداءات المروّعة، وهل يحمل الإلحاح الغريزي الجامح، والسُّعَار الجنسي الهائج، إلا على السَّفَه والخفّة وركوب الشر، وما عساه يُجنَى من أفلام ومجلات وقصص وروايات، وأطباق وقنوات جعلت الإثارة إحدى ركائزها، وتأجيج الغرائز أساس قيامها، ومحاربة العفة والطهارة من أولويات أهدافها؟!
وبادر ـ أخي المسلم ـ في التخلّص من ويلها وبلائها؛ صونًا لشرفك وحفظًا لعرضك وسلامة لنفسك وذريتك، فالدين يوجب رفعها، والأمانة تقتضي دفعها.
يا من يريد العفاف، ويخشى السقوط والانحراف، اختر الصاحب الملازم، واصطفِ القرين المجالس، وابحث عن الخليل المجانس، وإياك والتجمعات المشبوهة والرفقة الشاذة والصحبة السيئة، التي تدعو المرء إلى الوقوع في الرذيلة، والولوغ في الفاحشة، فكم جَرَّ صاحب السوء إلى صاحبه من خزي دام لا يزول، وشرٍ قائم لا يحول، عن أبي هريرة أن النبي قال: ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) أخرجه أبو داود والترمذي [7].
يا عبد الله، اعرف شرف الزمان وقدر الوقت وقيمة العمر والحياة، ولا تجعل فراغك مسرحًا للهواجس الضارة والأفكار المنحرفة، والتخيّلات القاتلة، وعادات العبث المهلكة، واجْأَر إلى الله بالدعاء، واسْأَله أن يصرف عنك السوء والفحشاء، وعُذْ به والتجِئ إليه، وحافظ على الصلاة؛ فإنها منهاة عن الفحشاء والمنكر، وتزوّد لمشقة المسير وعظم البلاء بملازمة مجالس الإيمان ودروس القرآن، وعدم مفارقتها إلا من عذر؛ لأنها المرتع الخصيب والروض الأريج، الذي تصح القلوب بخوضه، وتزكو النفوس برعيه. فعن أنس أن رسول الله قال: ((إذا مَرَرْتُم برياض الجنة فَارْتَعُوا)) ، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: ((حِلَقُ الذِّكْرِ)) أخرجه الترمذي [8].
وقاني الله وإياكم الشرور والآثام، وحمانا بفضله من الفتن والبلايا العظام، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري كتاب الرقاق، باب: حفظ اللسان (6474).
[2] مستدرك الحاكم (4/358)، والبيهقي في شعب الإيمان (4/353)، وأبو نعيم في الحلية (3/100-101).
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم". وللحديث شواهد انظرها في الفتح (11/309). وذكره الألباني في الصحيحة برقم (2696).
[3] صحيح البخاري كتاب الأذان، باب: من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، وفضل المساجد (660)، وصحيح مسلم في الزكاة (1031).
[4] سنن الترمذي كتاب فضائل الجهاد (1655)، وسنن النسائي كتاب الجهاد (3120)، وسنن ابن ماجه كتاب الأحكام (2518)، وأخرجه أيضًا أخرجه أحمد (2/251، 437).
قال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
[5] سنن الترمذي في كتاب النكاح (1114)، وأخرجه أيضًا أحمد (1/40-41، 48)، وأبو داود في كتاب النكاح (2106)، والنسائي في كتاب النكاح (3349)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1887).
قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4620 الإحسان)، والحاكم (2/175-176)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1852).
قال الترمذي: "الأوقية عند أهل العلم أربعون درهما، وثنتا عشرة أوقية أربع مائة وثمانون درهما".
[6] صحيح البخاري كتاب النكاح، باب: من لم يستطع الباءة فليصم (5066)، وصحيح مسلم كتاب النكاح (1400).
[7] سنن أبي داود كتاب الأدب، باب: من يؤمر أن يجالس (4833)، وسنن الترمذي كتاب الزهد (2378)، وأخرجه أيضًا أحمد (2/303). قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/188)، وحسنه الألباني في تعليقه على كتاب الإيمان (ص60).
[8] سنن الترمذي كتاب الدعوات (3510)، وأحمد (4/387)، وأبو يعلى (6/155). عن محمد بن ثابت البناني قال: حدثني أبي عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله قال: فذكره.
قال الترمذي: " حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس".
وأورده ابن عدي في الكامل (6/136) في ترجمة محمد بن ثابت، وقال: "لا يتابع عليه".
وللحديث شواهد من حديث جابر وابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم؛ لذا حسنّه الألباني في الصحيحة (2562).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيتها المرأة المسلمة والعفيفة الطاهرة، إن دورك خطير وواجبك كبير في حفظ طهارة الأمة، ورعاية أسباب العفة ووقاية المجتمع؛ وذلك برعاية واجب الستر والحشمة والحجاب، ونبذ الاختلاط والتبرج والسفور، والحذر من الخلوة المحرمة، فقومي بواجبك المعظم، قومي بواجبك المعظم، قومي بواجبك المعظم، تنالي العيش الكريم والفخر العظيم والفوز في جنات النعيم.
يا عبد الله، يا من اتخذ من السفر إلى الخارج طريقًا إلى الحرية، ووسيلة للممارسات اللا أخلاقية، ومسلكًا للولوغ في الفاحشة والمحرمات، تحت جنح الاستخفاء والاستهتار، تذكّر أنه مهما غَابَ الرقيب وبَعُدَ عنك القريب فإن الله يراك، فإن الله يراك، فإن الله يراك وهو شهيد على سرك ونجواك. أحاط علمه بالأشياء كلها، سِّرها وجهرها، فأقصر عن طريق الهلاك، واستحِ من نظر مولاك، فقد قرعت باب البلاء، ووطئت ذَنَبَ الحية الصماء، وسرت إلى الشقاء والعناء، والعاقل اللبيب يتبصّر العواقب، ويتجنب المصاعب والمصائب، ومن غَرّته أيام السلامة حدّثته ألسنة الندامة، ومن لم تنفعه الإشارة لم يردعه كثير العبارة، يقول الحق في أعظم كتاب: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الرعد:19].
أيها المسلمون، إن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقُدْسِه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
(1/4248)
العفة بين أعاصير الفضائيات وطوفان الإنترنت
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, الكبائر والمعاصي, المرأة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
9/6/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر الأخلاق في الحضارات الإنسانية. 2- خطورة الغزو الأخلاقي. 3- إعدام الطهر والفضيلة في وسائل الإعلام. 4- دور شبكات الإنترنت في نشر الإباحية والرذيلة. 5- دعوة لمواجهة تيارات التغريب والرذيلة. 6- توجيهات لأصحاب الحفلات والأعراس. 7- صرخة غيور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأيقنوا أنّ التقوى هي العزّ والظَّفَر، وفي الحياة الدنيا ـ وايْمُ الله ـ خير ما يُدَّخَرُ، وأولى ما يُتَّعظ به ويُزْدَجَر، وأعدّوا واستعدّوا ليومٍ يُنادَى فيه: كَلاَّ لا وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة:11، 12].
أيها المسلمون، الحقيقة التي يشهد بها الواقع، وينطق بها التأريخ، ولا تَتَخَلّف عنها السُّنن بحال؛ هي أنّ الأمم والحضارات لا تقوم أركانها، ولا يعلو بُنيانها إلا على قواعد الفضيلة، ولا تحلّ الانتكاسات، وتَدْلَهِمُّ الارْتِكاسات إلا إذا يَمَّمَتِ الأممُ شطرَ الرّذائل. ألا وإن مما يتحسّرُ منه الغيورون أنّ أمتنا الإسلامية الكَلْمَى لا تزال تَتَناوشُها الأرْزَاء من كل مَضِيق، والخُطُوب من كل فجٍّ عميق. يقال ذلك والأسى مِلْءُ جوانحنا، فمن أمعن النظر في بعض القضايا الاجتماعية وسَبَر غَوْرَها بمنْظَار الفَحْص والافْتِقاد، ودقَّقَ فيها بِمُقَلِ التسديد بُغْية الرشاد؛ أَلفاها ذاتَ سُلَمٍ تستوجِبُ الرُّفُوَّ والإرفاد، ووَهَاءٍ شَنِيع ذَرِيع يهْتِفُ بعاجل الرَّتَقِ والإعْضَاد، إنْ تراخت فيها الأمّة أو هَاوَدَت خَلَصت إلى بئيس القرار ووَبِيل المهاد.
ومع ما رُزِئ به العالم اليوم من حوادث العنف والتفجير، وأقضّ مضاجعه من أعمال الإرهاب والتدمير مما يتنادى العقلاء والشرفاء بتجريمه، ويتوارد علماء الأمة المعتبرون على تحريمه، وتتجرّع الأمة الإسلامية سَلبيّاته وآثاره، فإن من أخطر الحروب التي رُزِأَت بها الأمة، بل وانتكست يوم أن ارْتَكَسَت في حَمْأَتها الأممُ والحضارات هي الحرب على الفضيلة وإعلاء راية الرذيلة.
وقد قصدت الشريعة الغَرّاء إلى إيلاء كافة القضايا العناية والرعاية، ومن أهمها قضية حفظ الأعراض، بل قضية وقاية الأسر وحفظ المجتمعات والأجيال من لهيب الرّذيلة والسفور، وبراكين الفجور، وأعاصير الشرور، وجَحَافِل العُهْر وسَعَار اللذّة والإباحية البهيميّة. وإنّ أَنْكَى سلاحٍ بَتّارٍ أشهره العدو في صدورنا فمزّق به نَظِيم أمورنا، وكدّر به نَمِير حياتنا الروحية، وعَكّر به صفو أحوالنا الاجتماعية؛ هو ذلك الطوفان الغاشم من صنوف الرذيلة مما يُعدّ نوعًا من ألوان الإرهاب الأخلاقي والسلوكي ضد قيم الأمة ومُثُلِها وفضائلها، عبر القنوات الفضائية الإباحيّة، والشبكات العنكبوتيّة الدَّنِيّة في الفضاءات المفتوحة التي عَجَّت من قَتَامِها السماء، وضَجَّت من قَتَارِها الأرجاء، وتلك الأقراص الحاسُوبِيّة الخفيّة بَوْتَقة الإثم التي يَنْتَهِبُها الكبير والصغير والطَّرِير والغَرِير في غفلةٍ أو استغفال من الآباء والأمهات والمربّين والمربّيات، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
والذي يصهر الفؤاد صهرًا من تلك الأرْجَاس والأدْنَاس أنها تُسَوَّق لنا، ونُرْجَمُ بها من قبل عدوٌ مبين، وخَصِيم وراء الأَكَمَة كَمِين عبر سَمَاسِرة الرّذيلة، وقَرَاصِنة الفِكر والفضيلة، من مُلاّكٍ ومُنْتِجِين ومُسَوِّقين يشوّهون بذلك مِلّة الإسلام وهدي سيد الأنام، شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
إخوة الإيمان، لقد تبيّن الصبحُ لذي عَيْنين في غير مَوَارَبة أو مَيْن كون أعداء الفضيلة ودَهَاقِنة الإباحية وجَلاوِزَة المتع الجنسيّة الفاجرة مُنْيَةُ أبصارهم ومَعْقِدُ آمالهم المشؤومة تصديرَ الأوبئة التناسلية والرذائل، في طاعون قاصِف يدكُّ مَعَاقِل المسلمين دَكًّا، مَعَاقِلَ الشرف والفضائل، ومغادرةَ صروح العِفّة والنُّبْل والمروءة، وقد عَفَا عليها الزمان، وباتت في خبر كان.
فما أجسادٌ شبه مُعَرَّاة وسُحَنٌ بالأَصْبَاغ مُطَرَّاة وغِيدٌ رَعَابِيب عَارِمة الأنوثة والغَنَج، ترمي إلى إظهار المفاتِن بكل التّكَسُّر والتمَيُّع الهاتِن، إلا مكيدةٌ نَكْرَاء تُزيّن الفواحش، وتنشر الدعارة، وتصوّر الحياة غرائز يجب انتهازها وإشباعها عياذًا بالله. خرج الطبراني وغيره بسند صحيح أن النبي قال: ((سيكون آخر أمتي نساء كاسيات عاريات مائلات مُمِيلات على رؤوسهنّ كأَسْنِمَة البُخْتِ المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها)) [1].
أمة الطُّهر والفضيلة، إن الفضائيات المُتَهَتِّكَة الخليعة وكذا المجلات الفاضحة الرَّقِيعة والمشاهد الدَّاعِرة والأفلام الفاضحة ذات الصور العارية والأغاني الصاخِبَة التي تدعو جِهَارًا إلى الفحشاء مع الرقص المثير بهزّ الأعطاف والأرداف التي لا تزيد الغَرِيزة إلا شُبُوبًا وضِرَامًا؛ كلها تَتَرسَّبُ في أَحْناء المراهقين والمراهقات، وتتخطّفهم نحو البحث عن اللذة الفاتكة من أي سبيل وفَجّ، بل ما هي إلا السُّمُّ الزُّعَاف بذاته يُصَبُّ ناقِعًا في حياة كل زوج وشاب عَزَب؛ لأن نار الشهوة العاصفة المُلتهِبة في الصدور لا تَخْمُدُ بكل مَنْظر جديد من الخلاعة والتفسُّخ، بل تزداد أُوَارًا، وتستشرف في قَرَمٍ مشهدًا آخر أكثر إثارة وفتونًا عن العلاقة المشروعة برباط الزواج المقدس إلى حياة الجنس والنزوات المُتَقَلِّبة دون كابحٍ أو حاجز، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
إن تلك الشَّنَائِعَ والفَظَائِع ـ لَعَمْرُ الله ـ للنَّارُ الملتهبة والقنابل الموقوتة والخناجر المسمومة، تذيب قوالب المجتمع، وتُدَمْدِمُ من الأسرة أركانها، ومن الفضيلة شُمّ بُنيانها، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19]. نعم: عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. فهل أنتم ـ يا هؤلاء وأولئك ـ منتهون ومُرْعَوون، وإلا فَأُفٍّ لكلّ يدٍ تمتدّ لنشر الرذيلة، ولا قَرَّتْ لأصحابها عيون.
ومن لَفْح ذلك الأسى المُحْرِق قوله عليه الصلاة والسلام: ((لم تظهر الفاحشةُ في قوم قَطّ حتى يعلنوا بها إلا تَفَشَّى فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا)) خرّجه البيهقي وابن ماجه والحاكم بسند صحيح [2]. وما يومُ تلك الأدواء بسِرّ، فهي كمثل ريحٍ فيها صِرّ.
ومن يتحرّش بالرَّدَى يَكْرَعِ الرَّدَى زُعَافًا ومن يَسْتَنْبِتِ النارَ يُحرَقِ
ومن عدل الله وحكمته أن أعقب الفضيلة والنَّقَاء الصحةَ والنشاط، وأعقب الفساد والرذيلة الأدواء والانحطاط.
وأمّا من رَقّ دينُه، واضطرب يقينُه فزعم أن التخَلُّع تمدُّن ورُقِيّ، فالذي أتاه الفَدْمُ أمرًا كُبَّارًا فَرِيًّا، لا بدّ من الاسْتِيقَان بلا مِرَاء، لاسيما من المنهزمين البُلَهاء؛ أنّ الفضائل خيرات وبركات، ومن ثَمَّ عزائم وانتصارات، وأنّ الرذائل مصائب وجِراحات، ومن ثَمَّ هزائم وانتكاسات، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100].
معاشر المسلمين، إن القلم المُجَلَّلَ بسواد الألم الرّاعِفَ بدماء اللَّوْعَة والظَّلَم والمآسي التي عصرت القلب بما به ألَمَّ لَكَهَامٌ تِلقاء وصف هذا الحال المرير الهالِع، والمآل الخطير الخالِع، برهان ذلك إحصاءات مذهلة، وحقائق مُروِّعة، وأعداد مُفْجِعة: (260) موقعًا إباحيًّا يتم إنشاؤها يوميًا على ما يُسمّى بشبكة الإنترنت، و(63 ) من المراهقين والمراهقات يرتادون صفحات الدَّعَارة ولا يدري آباؤهم ماذا يتصفّحون، (83 ) من الصور المتداولة في المجموعات الإخبارية صور إباحية، يا لله! هولٌ هائل، وبلاءٌ مُدْلَهِمّ نازل، لا تَسَعُه لَهَاتُ القائل! أليس من الأولى، بل من المتعيّن أن تصرف الأموال الطائلة في التسابق الإباحي على ما فيه إنماء المجتمعات ورفع مستوى الشعوب؟! وفي دراسة علمية لبعض الباحثين المتخصّصين عن سبب الإدمان الإباحي يقول: غالبًا ما ينطلق الإدمان بفضول بريء، ثم يتطور إلى إدمان له عواقب وخيمة دينية واجتماعية واقتصادية وأمنية، والله عز وجلّ يقول: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ الآية [النور:30، 31].
إخوة العقيدة، إن الانحرافات الغَرِيزيّة وتجارة الإباحية التي أرخصت قيمة الإنسان، وأهدرت حقوقه ذَكَرًا وأنثى، وعَفَّرَت في الرَّغَام الأعراض، وطمست الحشمة والحياء دون خجل أو اعتراض؛ امتدّت في قذارة ودناءة إلى طهارة المجتمعات بأسرها التي تفتك بها ذئاب الرذيلة بينما هي تُلِّوحُ بالإنسانية والتقدُّميّة والمدنيّة، فيا ويحهم على الوِلا، وكلاّ للإغضاء ولا، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
أمة الإسلام، وفي عُرَام البثّ المباشر لسَعِير الشهوات القبيحة والحياة المنحرفة الذَّرِيحة التي تُؤجِّجُها في الصدور أوساط إعلامية؛ أنّى للجيل النَّزِيه النَّضِّ والنَّشء العَفِيف الغَضّ سواءٌ البنين والبنات أن تتوفر له بيئة نقية تُهذّب قواه الفكرية، ومداركه العقلية والذهنية، وعواطفه القلبية، وتهفو به إلى المعالي، وتَرْنُو ببصره إلى أسمى المعاني، فلا يجنح إلى امْتِطَاء أفكار منحرفة، ولا تُطَوِّحُ به عن شاطئ السلامة تيارات مُنْجَرِفَة.
ألا فلتشهد الدنيا يمينًا نعلنها صريحة مُدَوِّية دونها المَشْرَفِيّات البَوَاتِر أنه ما أُهدِرت الفضيلة وأدبرت، واستُرخِصت الرذيلة وأقبلت؛ إلا دُمِّرت القيم والأخلاق، وأَلَمَّ بالأمة الذلّ والهوان وحاق، وهل كان من وراء ذلك الفجور إلا انحلال عِرْض، واحتلال أرض، وفساد دين، واختلال أمن، وضَيْعة آمال، وتحطيم مآل، ومَحْو تاريخ، وتشتيت أجيال، وفشوّ زِيْجَات آنِيَّة سِرِّية، مُبتدؤها اللذّة والمُتعة، وخبرها الطلاق والفُرْقة، قد جَفّت منها مُضامين الزواج ومقاصده؟! وهل كان وراء المجاهرة بالفسوق إلا أن تَمَدَّل السفهاءُ الفُجّار بالمرأة، عَبْر مَوَاخِير السِّفاح، في أَفَارِين اللذّة والشهوة والغِوَاية على سمع وبصر من أنصارها المزعومين.
فيا أيها المُنْتَحِبُون على قضايا المرأة وحقوقها، دونكم قضيتَها الكبرى، انتَشِلوها بضاعة ساقطة من أوكار قنوات الزنا ومراقص الخنا، أنقذوها ينبوعًا للحنان ومدرسة للأجيال ومَحْضِنًا زكيًا للرجال، وانزعوا عن بُنَيّات الطريق وأُقْصُوصَتِها والأطروحات المثيرة التي تَتَلَمَّظُون بها حينًا بعد حين إن كنتم صادقين، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
وقد يَتَشَبّث بعضُهم بأمور قد تكون في الأصل مشروعة، لكنّها تؤول إلى أمور ممنوعة، ومن القواعد المقرّرة في الشريعة: أنّ الأمر المشروع إذا أدّى إلى الممنوع فهو ممنوع، كما في قاعدة اعتبار المآلات التي نص عليها جمع من أهل العلم المحقّقين كالشاطبي وشيخ الإسلام رحمهما الله.
فيا إخوة الإيمان، ويا أيها المسؤولون مَعَاقِد الآمال، ويا أيها المصلحون حُمَاة الذِّمَار، هل تفلح أمةٌ تَبَطَّحَت أمام مُستنقعات الفَجَرَات، وأدمنت العَبَّ من قنوات الشهوات؟! لاهَ الله، رَبَّاه رَبَّاه، واخَجَلَتَاه؛ مما أصابنا من ضُمُور الغَيْرة واخَجَلَتاه!
ألا فَلْتَنْثَنُوا ـ يا رعاكم الله ـ في هِمّةٍ بَدْرِيّةٍ كاسِحَة، وَحَمِيّة إسلامية مَاسِحَة، دون تلك الخَلاعات والدِّنايات صَفًّا، وجمعًا مُلْتَفًّا؛ لِدَحْر تلك الويلات ساعدًا وكَفًّا، ودفعًا لأعاصير السُّفُور وكَفًّا.
هِمَمٌ غُرٌّ تَعَافُ الدَّنَسَا وذِمَمٌ طُهْرٌ تُجَافِي النَّجَسَا
واعلموا أنه لا ارتفاع لرايات المؤمنين، ولا تَألّق لجبين الصالحين المصلحين، إلا بمقدار انتصارهم على شهواتهم، وامتلاكهم أَزِمَّة رغباتهم. وإن المسلم منيعُ حِجَاب القُبَّة الذي يغار لعينيه أن تسترقّهما وَهَنَانَةٌ حَسَّانة، فَيَكْْرَعُ من الإثم والندامة صَرَى، وتلك عاقبة التمرُّغ بأوحال الرذائل.
فيا هذا وذاك،
أتفرح بارتكابك للمعاصي وتنسى يوم يُؤخذ بالنَّواصِي
فلا تَرْضَ المعايِبَ فهي عارٌ عظيم يورِث الإنسانَ مَقْتًا
وتَهْوي بالوجيه من الثُّرَيّا وتُبْدِلُه مَكان الفوق تَحْتَا
والدعوة الحرَّا موجّهة إلى الآباء والأمهات، وأرباب الفكر ورجال الإعلام، والمعنيين بقضايا التربية؛ أن يسهموا في انتشال الأمة من التردّي في مستنقعات الرذيلة، واضعين الأكفّ بالأكفّ لإيجاد البدائل المشروعة، والحلول العاجلة التي تُقَلِّم أظفار الإباحية، وتُجفّف منابع الرذيلة، مما يحقّق الطموحات والآمال، ويسير بالمجتمع نحو التوازن والاعتدال، ويقصد إلى جلب الخيرات والمصالح ودرء المفاسد والقبائح، وكان الله في عون العاملين المخلصين لدينهم وأمّتهم ومجتمعاتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21].
أجارنا الله وإياكم من مُضِلاّت الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وحفظنا جميعًا من الرذائل والدنايا، وعصمنا من البلايا والرزايا، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، سبحانك الله وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك، ونتوب إليك.
[1] أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (2/257)، والأوسط (9/131) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الطبراني في الأوسط: "لا يُروى هذا الحديث عن عبد الله بن عمرو إلا بهذا الإسناد، تفرّد به عبد الله بن عياش"، وحسّنه الألباني في الثمر المستطاب (317).
[2] شعب الإيمان للبيهقي (3/196)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4019)، مستدرك الحاكم (4/582) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة (113).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المُتفَضِّل بالإنعام وسابِغ المِنَن، حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة نستعصم بها من مَهَاوِي الفتن، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله خير من دعا إلى أقوم الهدى وأزكى السُّنن، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه المُقْتَفِين لخير السَّنَن، ومن تَرَسَّم هداهم ما غَرَّدَتْ وَرْقَاءُ بِفَنَن.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله على الدّوام وأطيعوه، وراقبوه في الخلوة والجَلْوة ولا تعصوه.
أيها الإخوة في الله، ولما كانت الإجازة الصيفية مَظِنَّة الفراغ ومَوْئل الأفراح والمناسبات فإن التنبيه يوجّه إلى أهل الإيمان ـ سيّما الأخوات المؤمنات ـ بإعلاء راية الفضيلة، وذلك بالتمسّك بالحجاب والعفاف والاحتشام، وعدم التشبّه بأزياء غير المسلمات، والانسياق المذموم واللهَّثِ المَحْمُوم خلف الموضات والتّقْلِيعات التغريبية المستوردة، والحذر من التبرّج والسفور والاختلاط المحرّم، وما يصاحب ذلك من آلات اللهو والمعازف، إذ لا يُعْقِب ذلك إلا المهالكَ، والشرورَ الحَوَالِك، وإذا كانت بعض الأحوال من هذا السِّفَال أنّى تتنَزّل رحمات الله وبركاته؟! أبانتهاك حدوده وحرماته؟! فلا خير في الأفراح إذا أدّت إلى أَتْراح، أين الغيرة على الأعراض والمحارم؟! وأين الحفاظ على الشرف والمكارم؟! عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى يغار، وغَيْرة الله أن يأتي المرء ما حرّم الله عليه)) رواه البخاري [1].
أحبّتي في الله، ومن مظاهر الرذيلة التي كَلَّت من سُوئها نَوَاظِر ذوي الشرف كَلاّ، وتلَّ الطُّهرُ والخجلُ للجَبِين تَلاّ؛ ما يُعرض بجسَارَة وصَفَاقة في بعض الأسواق ووسائل الإعلام والقنوات الفضائية من الأزياء المحرّمة التي تُشِفّ، وللسَّوآت تُبَيِّنُ وتصفّ، فأي داء حَطّم الحياء وأي بلاء؟! هل تبكي الفضيلة من الرذيلة؟! هل تنتحِبُ الفضيلة بقولها على الأعراض والعفاف الرِّثاء، وسَطّروا على تلك الأطلال عبارات العَزَاء؟! يُضاف إلى ذلك ظاهرة حديثة مُنْكَرة وجريمة شنيعة مُدَمّرة تَسلَّلت لِوَاذًا لمجتمع الحياء والحشمة والطُّهر المكَين ألا وهي ظاهرة تصوير النساء المؤمنات الغافلات والفتيات الشريفات العفيفات عبر الهواتف المحمولة في الأفراح والمناسبات، ورفع تلك الصور على رِماح أغراض دَنِيئة مما عظمت به المصيبة على أهل الغَيْرة والحياء، فكم كانت سببًا في دمار البيوت وتفكّك الأسر وهتك الأعراض ونشر الأحقاد والضغائن! يأبى، ثم يأبى أهل الشرف والعفّة والفضيلة أن تُهدَر أعراضهم، وتُنْتَهك محارمهم بتصرُّف غِرٍّ مَأفُون قليل الذوق عديم المروءة لا يبالي بحرمات المسلمين وصون أعراضهم. ولكن نحمد الله، ونثني عليه أن أقام الصُّدُقَ والغُيُر من أهل الغَضْبة المُضَرِيّة لتلك الدسائس بكل مرصد، وفي صدارتهم رجال الحسبة الميامين، لازالوا بالتوفيق مَكْلوئين.
فيا من عزمتم على الأفراح، احذروا التلطّخ بهذه الأَتْراح، والتلبّس بهذه المنكرات والآثام، واسعوا جميعًا إلى مرضاة الملك العلاّم. فكيف ـ يا أمة الطُّهر والنّقاء ـ بما يُجاهَرُ به كثيرًا من تفسّخ وميوعة مرذولة، فإلى الله نَجْأر بشكوانا، فهو العالم بسرنا ونجوانا.
وها هو الغيور يصطرخ في وَجْدٍ لَهِيف لكل قلب شَفِيف: اللهَ اللهَ في مكنونات شرفكم، غارُوا عليها واحفظوها، وفي أعراضكم حَذَارِ حَذَارِ أن تهتكوها، ولا يستخِفَنّكم الذين أُشْرِبت قلوبهم التَّفَرْنُجَ والاستغراب، وانساقوا وراء شعارات العولمة والانفتاح والخراب.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وسيروا على دروب الفضيلة، وصونوها أن يمسّها يراعُ طائش، أو يَثْلِمَها تصرُّف دَعِيّ فاحش، واللهَ المسؤول أن يحفظنا والمسلمين من أدران المعاصي والرذائل، وأن يُزيّننا بحُلى الإيمان والفضائل، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول.
هذا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على سيد الأنام، النبي المصطفى من ولد عدنان، الذي أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فقد أمركم بذلك المولى الرحيم الرحمن، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلّم وبارك على سيد الأولين والآخرين نبينا محمد...
[1] صحيح البخاري: كتاب النكاح (5223)، وأخرجه أيضًا مسلم في التوبة (2761).
(1/4249)
المسارعة في الخيرات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المرأة, المسلمون في العالم, فضائل الأعمال
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
9/6/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل الحرص على الخير والمسارعة إليه. 2- نماذج من حرص الصحابة على الخير، والسؤال عنه، والمسارعة إليه. 3- الوصية بتربية الأبناء على حب الخير والحرص عليه. 4- وصية خاصة للمرأة المسلمة. 5- الاعتراض والاستنكار على ما قامت به الحكومة الإسرائيلية، بالمصادقة بشكل نهائي على جدار الفصل العنصري في محيط القدس الشرقية، والشجب على استمرار عمليات هدم البيوت في ضواحي القدس وغيرها.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:148]. في هذه الآية الكريمة يُبيّن الله تعالى أن وجهات الناس وغاياتهم مختلفة، فمنهم من تتحكّم فيه الشهوات البدنيّة، ومنهم من تتحكّم فيه الشهوات النفسيّة كالجاه والرئاسة، وحبّ المناصِب الرَّفِيعة، والعلو في الأرض بغير الحق. ومن هنا فإن الله تعالى يجعل وجهة المسلم مُتّجهة إلى فعل الخيرات والمسابقة إليه دائمًا، لا يشغلهم عنه شاغل، ومصيرهم إلى الله القادر على جمعهم ومجازاتهم في نهاية المطاف.
إنّ أسمى الغايات وأنبل المقاصد الحرص على الخير والمسارعة إليه، وقد أكثر الله سبحانه وتعالى من الدعوة إلى الخير، وجعله أحد عناصر الفلاح والفوز، فقال الله تعالى: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
وأخبر أنه أوحى إلى أنبيائه ورسله فعل الخيرات: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ [الأنبياء:73]. ومدح المسارعين إليه، والحريصين عليه فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]. وجعل جزاءه الجنة فقال: وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20].
أيها المؤمنون، إن للخير بوادر، وإن للشر نهايات، فبوادر الخير توصل إلى الغايات الحميدة والنتائج الحسنة، وأما نهايات الشر ومصائره فإنها تُسبّب الألم، وتُورِث الحسرة والندامة.
وإن من بين بوادر الخير مسلك السلف الصالح في الصدر الأول رضوان الله عليهم، حيث كانوا يتّجهون إلى الرسول وهو بين أظهرهم، يسألونه عن سُبُل الهداية والهدى، ويبحثون عن طريق النجاة والسلامة، ويسترشدون عن أوجه الخير، فوصلوا بذلك إلى الغاية المحمودة، وإلى الهدف النبيل، وكانوا هداة مَهديين، يقول حذيفة بن اليمان : (كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه). ويقول أحد الأنصار : يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك؟ قال له: ((قل آمنت بالله، ثم استقم)). ويقول معاذ بن جبل : يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني عن النار؟ قال: ((لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)). فأرشده في البداية إلى عبادة الله وحده ونفي الشرك عنه؛ لأن العبادة توحيد وإخلاص، ولأن الشرك لا يليق بحقّ الله تعالى.
نعم ـ أيها المؤمنون ـ توحيد يرتفع به العبد المؤمن إلى أعلى درجات القُرَب والرضوان. قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. أي: الذين أخلصوا توحيدهم لله هم الآمنون يوم القيامة، المهتدون في الدنيا والآخرة.
وشرك يَهْوِي بصاحبه إلى الحَضِيض، قال تعالى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
ثم أرشده الرسول إلى بقية أركان الإسلام، وهي جزء لا يتجزّأ؛ من فرّط في جزء منها فقد فرّط في الجميع. ثم أرشده إلى التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض، فقال: ((ألا أدلك على أبواب الخير، الصوم جُنّة)) ، أي: سِتر ووقاية للعبد من النار. يقول رسول الله : ((ما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك الصوم وجهه عن النار سبعين خريفًا)). ((والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل)) ، ثم تلا قوله تعالى: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]. ثم قال: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟)) ، قلت: بلى يا رسول الله. قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله)). ثم قال: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) ، قلت: بلى يا رسول الله. فأخذ بلسانه وقال: ((أمسك عليك هذا)) ، قلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ((ثَكِلَتْك أمك يا معاذ، وهل يُكَبُّ الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)). أي: ما تجنيه من الذنوب كالغيبة والنميمة، والوقوع في أعراض الناس، والاستهزاء بآيات الله، والإسراف في التجنّي على الناس بالسخرية واللّمْز، فهذا طويل وذاك قصير وهذا أحمق وذاك أَرْعن، إلى غير ذلك من العبارات المتداولة والتي نسمعها صباحًا ومساءً. وكأنه وُكِل إلى هؤلاء تشريح عباد الله وتجريحهم والنَّيْل منهم، وتتبّع عوراتهم وأكل لحومهم.
أيها المؤمنون، ولكل الناس عورات ومعائب، وزلاّت ومَثَالِب، فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس. ومن وصية رسول الله الطويلة لأبي ذر: ((وليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك)). وأما رمي المسلم بما هو منه بريء فهو أفظع وسائل النَّيل والوقيعة وهو البُهْت؛ لأنه يجمع بين الكذب والغيبة، وكلاهما رَذِيلة وكبيرة من كبائر الذنوب. وإنّ كلّ معصية لله فإنها تجرّ أسوأ العواقب، وحسبنا قول الله تعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].
أيها المؤمنون، والخير الذي نُدِب إليه يشمل كل بِرِّ وكل عمل صالح، وكل عمل ينهض بالفرد، ويرقى بالجماعة فهو خير، والفطر السليمة تهتدي إلى الخير، وتشعر به، وتنجذب إليه، فهو الكمال الذي تطلبه وتسعد به، إلا أن القيام به والنهوض بأعبائه يحتاج إلى ترويض وتعويد، حتى تألفه النفس، ويسهل عليها فعله.
وقد أمر الإسلام أن نربي الأبناء على الفضائل السليمة والأخلاق الحميدة، ونعوّدهم على أداء الواجبات الدينية منذ الصغر، حتى ينشؤوا وقد اصطبغوا بصبغة الإسلام، وانطبعوا به، لا أن نربيهم على مظاهر الفسق والفجور والبعد عن هدي الإسلام.
أيها المؤمنون، وخير الأعمال ما قام به الإنسان وهو في عافية من البدن ووفرة من المال، وأمل في الحياة، فإن ذلك مظهر الوعي الديني.
سئل رسول الله : أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: ((أن تصدّق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، ومن الخير الذي دعا إليه الإسلام التمسّك بالفضائل والابتعاد عن الرذائل، ومن الفضيلة محافظة الفتيات والنساء على أعراضهن وأجسادهن، وذلك بارتداء الملابس الشرعية، والابتعاد عن الاختلاط بالرجال الأجانب، وعن التبرّج المحرّم، وعن المشاركة في مهرجانات الفن الساقط الموجه لإفساد الأخلاق، فالمرأة كالزهرة الناضرة البهيجة، تلبث محافظة على نضارتها وبهجتها، ما لم تتناولها الأيدي، أو تعصف بها الرياح.
وهكذا المرأة تستمرّ محافظة على عفافها وصيانة عرضها، وتلبث زهرة ونورًا يشع بالبهجة فيه، ما لم تتبذل، أي تكشف عن مفاتنها، وتخرج عن الحجاب المشروع لها والمفروض عليها، فتمتد إليها النظرات المحرمة، وتعصف بها رياح الفتنة.
أيها المؤمنون، ولقد كان من الأدب الذي أدّب الله به أمهات المؤمنين زوجات رسول الله ونساء الأمة تبع لهن، أمره إياهن بالاستقرار في البيوت وعدم الخروج منها إلا للحاجة أو للصلاة، شريطة أن يخرجن غير متبرجات، أي في ثياب الحشمة الساترة، لا متعطرات يتبخترن في الثياب القصيرة، أو البراقة والشفافة والمجسمة، التي تبدو من خلالها مفاتن المرأة وتكشف عما لا يحل من جسدها وزينتها. قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33]. والجاهلية الأولى هي الجاهلية قبل الإسلام، يقابلها الجاهلية الأخرى وهي عمل صنف من النساء في هذا الزمان، كفعل الجاهلية الأولى.
ومصداق ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: ((صنفان من الناس لم أرهما)) ، أي يكون وجودهما في آخر الزمان، وذكر أن أحد الصنفين: ((نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)). والمعنى: أنهن يلبسن ثيابًا شفافة أو قصيرة، وكأنهن غير لابسات. وإن مما يَحُزُّ في نفس كل مسلم غيور على دينه ومحارمه، أن يكون لهذا الصنف من النساء وجود في عصرنا وفي مدننا وقرانا، يخرجن إلى مجامع الرجال في الأسواق وغيرها وإلى حفلات العرس والمهرجانات يكشفن عن أجسامهن ويبدين زينتهن أمام الرجال الأجانب، تلتقط لهن الصور وهن في هذه الحالة، وكل ذلك حرام شرعًا، وإن المسؤولية في ذلك لا تقع على النساء وحدهن، بل تقع أيضًا على الرجال، تقع على الآباء والإخوة والأزواج، وتقع على المجتمع الذي لا يحارب أفراده وعلماؤه والمسؤولون عنه أمثال هذه الرذائل.
أيها المسلمون، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فاتقوا الله، فخير مناهج السعادة تقوى الله، وخذوا على أيدي النساء واحملوهن على الاحتشام والتأدب بأدب الدين، وحاربوا الرذيلة بكل صورها وأشكالها ومسبباتها بالحكمة والموعظة الحسنة، فشر الخطيئة الاسترسال والتمادي في معصية الله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، قبل بضعة أيام صادقت الحكومة الإسرائيلية بشكل نهائي على مسألة جدار الفصل العنصري في محيط القدس الشرقية، رغم الاعتراضات من قبل الفلسطينيين ومن قبل المجتمع الدولي. وقد تزامنت هذه المصادقة مع الذكرى السنوية الأولى للقرار الذي أصدرته محكمة العدل الدولية في لاهاي، بعدم قانونية هذا الجدار، وطالب القرار في حينه بوقف العمل فيه، وهدم ما تم بناؤه منه. وهو الموقف نفسه الذي عبرت عنه الجمعية العمومية للأمم المتحدة.
لكن الحكومة الإسرائيلية قد تجاهلت هذه المطالب بشكل واضح، وضربت بها عرض الحائط، إن هذا الجدار سيترتب على بنائه عزل حوالي مائة ألف مقدسي عن مدينتهم وأهاليهم ومصالحهم، وسيؤدي إلى عزل القدس عن بقية المدن والقرى الفلسطينية، وهذا من شأنه أن يجعل الوصول إليها وإلى الأماكن المقدسة فيها وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك أمرًا في غاية الصعوبة.
وكما هو معلوم فإن المسجد الأقصى جزء لا يتجزأ من عقيدة العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
وقد أدّى بناء هذا الجدار إلى الاستيلاء على مساحات كبيرة من الأرض الفلسطينية، لهذا الغرض ولأجل بناء المستوطنات، وإن الأضرار المرتبة على بنائه يصعب ذكرها.
كما أننا نستنكر الاستمرار بعمليات هدم البيوت في ضواحي القدس وغيرها. ونعلن رفضنا القاطع لكل هذه الإجراءات والممارسات التعسّفية، وفي مقدمتها الاستمرار في منع المصلّين، وإزاء ذلك: فإننا ندعو العالم العربي والعالم الإسلامي والمجتمع الدولي إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه ما يحدث في القدس بشكل خاص، وما يحدث في فلسطين بشكل عام. اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
وفي الوقت ذاته فإنني أدعو أبناء فلسطين إلى الاعتصام بحبل الله جميعًا، والاحتكام إلى شرع الله واستعمال الحكمة والعقلانية في حل ما قد يحدث بينهم من خلافات. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
(1/4250)
التقليد والتبعية
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الفتن, قضايا دعوية, مساوئ الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
16/6/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال المسلم الحقّ أمام الفتن والمتغيّرات. 2- تعريف الإمَعَّة ووصفه. 3- صور ونماذج من ثبات الصحابة. 4- ذم التقليد. 5- العواقب الوخيمة على الفرد والمجتمع الناجمة عن التقليد والتبعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، إن مما يُعزّز مكانة المرء المسلم وصدق انتمائه لدينه وثباته على منهاج النبوة ثقته بنفسه المُستخلَصَة من ثقته بربه وبدينه، فالمسلم الواثق بنفسه إنما هو كالطَّوْد العظيم بين الزَّوَابِع والعواصف، لا تعصف به ريح، ولا يَحطمه موج، وهذه هي حال المسلم الحقّ أمام الفتن والمتغيّرات، يرتقي من ثبات إلى ثبات، ويزداد تعلّقه بربه وبدينه كلما ازدادت الفتن، وادْلَهَمَّت الخُطُوب، وهو إبّان ذلك كله ثابت موقن، لا يستهويه الشيطان، ولا يلهث وراء كل ناعِق، حادِيه في هذا الثبات سلوك طريق الهدى وإن قلّ سالكوه، والنَّأي عن طريق الضلال وإن كثر الهالكون فيه. وبمثل هذا المنهج يصبح المؤمن الغُّرّ ممن وعى حديث النبي يحذر أمته بقوله: ((لا تكونوا إمَّعَة تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا)) رواه الترمذي وحسنه [1].
والإمَّعَة ـ عباد الله ـ هو الذي لا رأي له، فهو الذي يتابع كل أحد على رأيه، ولا يثبت على شيء، ضعيف العزم، كثير التردّد، قلبه مَحْضِن للدَّخَل والرِّيَب، تجدونه يومًا يمانيًّا إذا ما لاقى ذا يَمَنٍ، وإن يلاقِ مَعَدِّيًّا فعَدْناني، وهذا هو الإمَّعَة المَمْقُوت، وهو الذي عَنَاه النبي في الحديث الآنف ذكره.
ولقد أشار ابن مسعود إلى مثل هذا الصنف في زمنه حينما ظهرت الفتن فقال: (كنا في الجاهلية نعد الإمَّعَة الذي يتبع الناس إلى الطعام من غير أن يُدعى، وإن الإمَّعَة فيكم اليوم المُحْقِبُ الناسَ دينَه)، أي: الذي يقلّد دينه لكل أحد [2] ، وقال أيضًا: (ألا لا يقلّدنّ أحدكم دينه رجلاً؛ إن آمن آمن، وإن كفر كفر؛ فإنه لا أسوة في الشرّ) [3].
إن من أعظم ما يقاوم به المرء وصف الإمَّعَة أن يكون ذا ثقة بنفسه، وذا عزيمة لا يُشتّتها تردّد ولا استحياء، فمن كان ذا رأي فليكن ذا عزيمة؛ فإن فساد الأمر أن يتردّد المرء. وبالتّتبع والاستقراء لأمور الشريعة وأحوال السلف عُلِم أنه لا تجتمع العزيمة والرأي السديد الموافقان لصِبْغة الله وشرعته ثَمَّتَ يحصل الفساد، وليس بخافٍ عنا موقف النبي في صلح الحديبية في حين أن بعض الصحابة رضي الله عنهم رأى أن ظاهر الصلح ليس في مصلحة المسلمين، ولكن ثقة النبي بربه وبوعده لم تورده موارد التردّد، ولم تؤثر على عزمه كثرة الآراء والتهويل.
وهذا أبو بكر الصديق حينما أصَرّ على قتال المرتدّين وقد راجعه في ذلك بعض الصحابة غير أن الثقة بالله والقناعة بالدين كانت حافزًا قويًا في المُضِيّ قُدُمًا في نفاذ عزمه وعدم الالتفات إلى الآراء الأخرى نصرة للدين وإمضاءً للحق، وقد قال مقولته المشهورة: (والله، لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة) [4] ، فلم تكن كثرة الآراء والأصوات سبيلاً إلى إحْجَامه، وزعزعت قناعته عما كان عليه من الحق.
وقد ذكر شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن علي بن أبي طالب عندما أراد المسير لقتال الخوارج عرض له مُنَجِّم فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسافر؛ فإن القمر في العَقْرب؛ فإنك إن سافرت والقمر في العَقْرب هُزِم أصحابك. فقال علي : بل نسافر ثقة بالله وتوكّلاً على الله وتكذيبًا لك. فسافر فبورِك له في ذلك السفر حتى قتل عامّة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سُرَّ به [5].
عباد الله، لسائل أن يسأل فيقول: هل أحوال المجتمعات المعاصرة تستدعي الحديث عن الإمَّعَة؟ وهل هو من الكثرة بحيث يجب التحذير منه؟ فالجواب: نعم، لاسيما في هذا العصر الذي كثر فيه موت العلماء، واتخاذ الناس رؤوسًا جُهّالاً، والذي فشا فيه الجهل، وقلّ فيه العلم، ونَطَق الرُّوَيْبِضَة، وأصبح فيه الصَّحفي فقيهًا، والإعلاميّ مُشَرِّعًا، وقَلَّت فيه المَرْجَعِيّة الدينيّة وهَيْمنتها على الفتوى الصحيحة السالمة من الشوائب والدَّخَن، بل أصبح فيه الحديث والنطق من دَيْدن الرُّوَيْبِضَة، وهو الرجل التافِه يتكلّم في أمور العامة.
ولا جَرَم عباد الله، فإن مجتمعًا هذا واقعه لفي حاجة لمثل هذا الطَّرْح، ومما يدل على صحة ما ذكرنا ما تحدّث به ابن قتيبة رحمه الله يصف فيه أحوال الناس، وكون نفوسهم قابلة للتحوّل والتأثّر والتقليد الأعمى الذي يوصف صاحبه بالإمَّعَة، فيقول: "والناس أسراب طير يتبع بعضُها بعضًا، ولو ظهر لهم من يدّعي النبوة مع معرفتهم بأن رسول الله خاتم الأنبياء أو من يدّعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعًا وأشياعًا" [6].
أيها المسلمون، إن التقليد الأعمى ووصف الإمَّعَة وجهان لعملةٍ واحدة، وهما في الوقت نفسه لا يقتصران على السُّذَّج والرّعَاع من الناس فحسب، بل إن وصف الإمَّعَة يتعدّى إلى ما هو أبعد من ذلك، فكما أنه يكون في الفرد فإنه كذلك في المجتمع بفكره وعاداته وتقاليده، فقد يكون الفرد إمَّعَة، والمجتمع إمَّعَة، والناس إمَّعِين، وقولوا مثل ذلك عفي العامّي والمتعلّم والمنتسب إلى العلم، فإن مجرّد انتساب المرء للعلم لا يعفيه من أنه قد يكون ضحية التقليد الأعمى ومَعَرَّة الوصف بالإمَّعَة إذا ما كان كثير الالتفات، واهن الثقة بالصواب، وعلى هذا يُحمل ما يلاحظ بين الحين والآخر من اضطراب بعض المنتسبين للعلم في المنهج والفتوى، وكثرة التنقّل بين المذاهب والآراء بسبب المؤثّر الخارجي، وفق المزاحمة والضغوط والمحدثات التي تنهش من جسد التشريع، ما يجعل المنتسب للعلم يسير حيث سار الناس، فيُطَوِّع لهم الفقه، ولا يُطَوِّعُهم هم للفقه. يقول ابن مسعود في مثل هذا: (اغْدُ عالمًا أو متعلّمًا، ولا تغْدُ إمَّعَة فيما بين ذلك) [7]. قال ابن القيم رحمه الله معلّقًا: "انظر كيف أخرج المقلّد من زمرة العلماء والمتعلّمين، وهو كما قال ، فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلّمين للعلم والحجة، كما هو معلوم ظاهر لمن تأمّله" انتهى كلامه رحمه الله [8].
وقد روى الإمام أحمد عن غُضَيف بن الحارث أنه قال: بعث إليّ عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا سليمان، إنا قد جمعنا الناس على أمرين. فقلت: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقَصَص بعد العصر والصبح. فقلت: أما إنها أمثل بدعتكم عندي، ولست بمجيبكم إلى شيء منها. قال: لِمَ؟ قال: لأنه ما أُحدث قوم بدعة إلا رُفِع مثلها من السنة، فتمسُّكٌ بسنة خير من إحداث بدعة [9].
ورحم الله الحافظ ابن حجر حيث يقول شاكيًا ما يراه في زمانه من انتشار وصف الإمَّعَة حتى في صفوف المنتسبين للعلم، فيقول: "وقد توسّع من تأخّر عن القرون المفضّلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك حتى مَزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردّون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مُستكرَهًا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتّبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأنّ من لم يستعمل ما اصطلحوا عليه فهو عامّي جاهل، فالسعيد من تمسّك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف" انتهى كلامه [10].
فللّه ما أشبه الليلة بالبارحة! وما أقرب اليوم بالأمس!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [المائدة:105].
بارك لله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قد قلت ما قلت إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غَفّارًا.
[1] أخرجه الترمذي في البر والصلة (2007) من حديث حذيفة رضي الله عنها، وقال: "حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (2/77).
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك (4/146)، والطبراني في الكبير (9/153)، وقال الهيثمي في المجمع (4/56): "رواه الطبراني في الكبير بإسنادين، وكلاهما ضعيف".
[3] أخرجه الطبراني في الكبير (9/152)، والبيهقي في الكبرى (10/116)، وأبو نعيم في الحلية (1/136)، وقال الهيثمي في المجمع (1/433): "رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح".
[4] أخرجه البخاري في الزكاة (1400)، ومسلم في الإيمان (20).
[5] الفتاوى الكبرى (1/57).
[6] تأويل مختلف الحديث (14).
[7] أخرجه ابن حزم في الإحكام (6/234).
[8] إعلام الموقعين (2/238).
[9] مسند الإمام أحمد (4/105)، قال الهيثمي في المجمع (1/447): "رواه أحمد والبزار وفيه أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم وهو منكر الحديث"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (1/10).
[10] فتح الباري (13/253).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، واعلموا أن وصف الإمَّعَة إذا دَبَّ في مجتمع ما قَوّض بناءه، وأضعف شخصيته، وأبقاه ذليلاً منبوذًا بين سائر المجتمعات، يُشرب بسببه روح التبعيّة في المنبع، فيعيش عالة على غيره في العادات والطبائع والفكر.
إن وقوع المجتمع المسلم في أَتُون التقليد الأعمى للأجنبي عنه لهو مَكمن الهزيمة النفسية والألغام المخبوءة التي تقتل المروءة بتقليد أعمى وغرور بَلِيد، حتى يتلاشى عن المجتمع المسلم جملة من ركائز التميّز التي خصّه الله بها بشِرْعته وصبغته، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ [البقرة:138].
إن المجتمع المسلم إذا كان إمَّعَة يلهث وراء سراب الغَرْب ليُؤلّف نفسه على خُلُق جديد ينتزعه من المدنية الأجنبية عنه وعن دينه وتقاليده فإن عليه أن يدرك جيّدًا أن الخُلُق الطارئ لا يرسخ بمقدار ما يُفسِد من الأخلاق الراسخة، فتتغيّر رجولة بعض رجاله، وأنوثة بعض نسائه، كل ذلك بسبب الاندفاع المحموم وراء المجهول في ساحة التقليد الأعمى مهما كان لهذا التقليد من دواعي زُيِّفت أو زُيِّنت ببريقٍ وتزويقٍ ولَمَعانٍ يأخذ بلُبّ النُّظَّار لأول وَهْلة، فلا يلبث ويتلاشى سريعًا. وقديمًا قيل:
فلا تَقْنَعْ بأول ما تراه فأول طالعٍ فجرٌ كَذُوب
وإذا كان المجتمع في قَرَارة نفسه يوحي إلى أنه لابد للأمة في نهضتها أن تتغير فإن رجوعنا إلى شِرْعة المصطفى أعظم ما يصلح لنا من التَّغَيّر وما نصلح به منه. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، وهل مثل هذا التغير إلا الأخلاق الإسلامية الحقّة؟! وهل في الأرض نهضة ثابتة تقوم على غير هذا التغيّر؟! أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ [الأنعام:114].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية، وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المُسبِّحة بقُدْسه، وأيَّهَ بكم أيها المؤمنون فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمد...
(1/4251)
الخشوع وأثره في الصلاة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة, فضائل الأعمال
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
16/6/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة الصلاة في الإسلام. 2- فضل الخشوع في الصلاة. 3- صور ونماذج من خشوع السلف. 4- حالنا مع الصلاة. 5- أمور تعين على الخشوع في الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وقال تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
الحديث عن الصلاة يحتاج إلى تذكير وتكرار، لا يمل سماعه الأبرار، ولا تشبع منه قلوب الأخيار.
الصلاة من أعظم الفرائض أثرًا وأفظعها عند الترك خطرًا، وأجلها بيانًا وخيرًا؛ فيها أكرم قول يردده لسان، مع أكرم حركة يؤديها المسلم، هي عمود الدين ومفتاح جنة رب العالمين، عُرِج برسول الله وفتحت له أبواب السماء، فأخذ يتجاوزها مكانًا ومكانة، عُرِج به بمقامٍ يسمع فيه صريف الأقلام، فكان قاب قوسين أو أدنى، ثم نزل عليه الأمر من ربه تبارك وتعالى بالصلاة [1] ، وحين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه وقد أَتى عليه الأجل، عَلمَ أنه يودع الدنيا إلى لقاء ربه، فكانت الصلاة خاتمة وصيته، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، فأصبح يقول: ((الصَّلاَةَ الصَّلاَةَ وما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)) رواه أحمد [2].
من حافظ عليها فقد تَوثَّقَ من عُرَى دينه وأخذ بأصله، ومن ضيّعها فقد ضيّع دينه من أصله، الصلاة دواء يشفي من أمراض القلوب وأدوائها، وفساد النفوس وأسقامها، النور المزيل لظلمات الذنوب والمعاصي، يتطهّر بها المسلم من غَفَلات قلبه، وهفوات نفسه، كما قال المصطفى : ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يَبْقَى من دَرَنِهِ شيء؟)) ، قالوا: لا يَبْقَى من دَرَنِهِ شيء. قال: ((فذلك مَثَلُ الصلوات الخمس؛ يَمْحُو الله بهن الخطايا)) رواه مسلم [3]. وكما ورد في حديث فضائل الوضوء وفيه أن رسول الله قال: ((فإن قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه وَمَجَّدَهُ بالذي هو له أَهْلٌ، وَفَرَّغَ قلبه لله إلا انصرف من خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يوم وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)) رواه مسلم [4].
إن عبادة هذه نتائجها، وعملاً هذا شأنه لجدير بأن يسعى لتحقيقه والعناية به، وأن نجعله نُصْبَ أعيننا وحديث نفوسنا، الله أكبر حي على الصلاة حي على الفلاح، نداء يصدح في الأرجاء، وأذانٌ يخترق الآذان، ليوقض أجسادًا مشرقة بالإيمان، وقلوبًا مخبتة، فإذا بالوفود تتقاطر، والجموع تصطف ولا تتناثر، لها هدير كالبحر في تلاطمه، وعرش النحل في تلاحمه، وترى المسجد وقد غَصَّ بالناس فاتّصلوا وتلاحموا، تجد الصف منهم على استوائه، كما تجد السطر في الكتاب ممدودًا محتبكًا منتظمًا، وتراهم تتابعوا صفًا وراء صف، ونسقًا على نسق، فالمسجد بهم كالسنبلة ملئت حبًا ما بين أولها وآخرها، فليس فيهن على الكثرة حبة واحدة تهبها السنبلة فضل تميز لا في الأعلى ولا في الأدنى.
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]. بالخشوع ـ عباد الله ـ يجمع المصلي في صلاته بين طهارة الظاهر والباطن، إذ كان يقول في ركوعه في الصلاة: ((خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)) رواه مسلم [5] ، وفي رواية عند أحمد: ((وما استقلت به قدمي)) [6].
بالخشوع تغفر الذنوب وتكفر السيئات، وتكتب الصلاة في ميزان الحسنات، كما ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله قال: ((ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله)) رواه مسلم [7].
الصلاة إذا زينها الخشوع وترسخ في أقوالها وأفعالها الذُّلُ والانكسار، والتعظيم والمحبة والوقار، نهت صاحبها عن الفحشاء والمنكر، فيستنير قلبه ويتطهر فؤاده ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير وتنعدم في الشر. بالخشوع يزداد إقبال المصلي على ربه، فيكون اقتراب ربه منه، فقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي رحمهم الله تعالى، أن رسول الله قال: ((لا يزال الله عزّ وجلّ مقبلاً على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا صرف وجهه انصرف عنه)) [8].
الخشوع أمرٌ عظيم شأنه، سريع فقده، نادرًا وجوده خصوصًا في زماننا وحاضرنا، وحرمان الخشوع من أكبر المصائب، والعلل وخطبٌ جَلل، كان يستعيذ منه المصطفى ، ويقول في دعائه: ((اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع)) رواه الترمذي [9].
وما أصاب بعض المسلمين من ضعف في أخلاقهم، وانحراف في سلوكهم، إلا لأن الصلاة غدت جثة من غير روح وحركات مجرّدة، أخرج الطبراني وغيره أن رسول الله قال: ((أول ما يُرفع من هذه الأمة الخشوع، حتى لا ترى فيها خاشعًا)) [10]. وقال الصحابي الجليل حذيفة : (أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ورب مصلي لا خير فيه، ويوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيهم خاشعًا) [11].
حين نتجوّل في سير الأوائل نرى أن أمثالهم قليل، فإن في أخبار صلاتهم عِبَرًا، ودموعهم تنهلّ على وجوههم صِدْقًا. ذكروا من خبر الحبيب المصطفى أنه كان يباسطهم ويمازحهم، فإذا حانت الصلاة كأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه.
الصلاة أُنس المسلم وسلواه، غاية مراده ومناه، يقول لبلال: ((أرحنا بها)) [12] ، ويقول أيضًا: ((جُعِلت قُرّة عيني في الصلاة)) أخرجه النسائي وأحمد [13]. قُرّة عينه ونعيم روحه وجنة قلبه ومستراحه في الدنيا، فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها فيستريح بها لا منها، يخلع على أعتاب المسجد الدنيا ومباهجها، ويترك هناك أموالها وشواغلها، يطوي صحيفة ذكرها من قلبه، يدخل المسجد بقلب أخذته الرهبة إجلالاً لله ورغبة في ثوابه سبحانه، الصديق أبو بكر إذا كان في صلاته كأنه وَتَد، وإذا جهر بالقراءة خنقته عبرة من البكاء.
والفاروق عمر بن الخطاب كان إذا قرأ لم يسمع مَن خلفه مِن البكاء، وعمر بن عبد العزيز رحمه الله إذا قامت الصلاة كأنه عود من خشب، وعلى بن أبي طالب إذا حان وقت الصلاة يضطرب ويتغير، فلما سئل قال: (لقد آن أوان أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها).
ومن الناس من يصلون بأجسامهم وأعضائهم، يحركون ألسنتهم وأفواههم بالكلم، يحنون ظهورهم راكعين، يهوون إلى الأرض ساجدين، لكن قلوبهم لم تتحرك نحو بارئها الأعلى، يظهرون له الخضوع وقلوبهم نافرة، يقرؤون القرآن لكنهم لا يتدبرونه، يسبحون لكنهم لا يفقهونه، زيّنوا ظواهرهم وغفلوا عن بواطنهم، وقفوا أمام الله وفي بيته وهم في الحقيقة واقفون أمام مشاغلهم، مقيمون بأرواحهم في مساكنهم، فترى الرجل قد شاب عارضاه في الإسلام، وصلّى زمانًا طويلاً لكنه لم يكمل صلاته يومًا؛ لأنه لا يتم ركوعها وسجودها وخشوعها، من كان هذا حاله لا ينتفع بالصلاة، لذا قد يأكل أموال الناس بالباطل، يسعى بالفساد بين الناس، يقوم بأعمال تتنافى مع الدين والأخلاق، بل ربما أخذ الصلاة أحبولة يتصيد بها ثناء الناس عليه، ويستر به جناية يديه ورجليه.
إخوة الإسلام، هذا الحديث للمحاسبة، فقف مع نفسك وقفة صادقة، ليرى كل منا موقعه، قال : ((إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشر صلاته، تُسعها، ثُمنها، سُبعها، سُدسها، خُمسها، رُبعها، ثُلثها، نصفها)) رواه أبو داود [14]. قال حسن بن عطية رحمه الله: "إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما من فضل كما بين السماء والأرض". إذ ليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته وتعظيمه من الصلاة، كحظ القلب الخالي من ذلك، وليس حظ القلب المخبت الخاشع كحظ القلب الذي ملذات الدنيا وشهواتها خاضع، ليس حظ القلب الذي يرتع في رياض القرآن كحظ القلب الذي تملكه الشيطان.
أيها المصلي، إنها معركة حامية الوَطِيس مع الشيطان، معركة الوساوس والصوارف والخطرات؛ لأنك قمت أعظم مقام وأقربه وأغيظه للشيطان، يزين أمام ناظريك الملذات، يعرض مشاهد ومغريات، يذكرك ما نسيت فيستطير فرحًا حين تلف صلاتك كما يلف الثوب الخَلَقَ لا أجر ولا فضل.
أيها المصلي، من جرى على منهاج النبي ، وسلك طريقته في الصلاة تحقق له الخشوع، ومما يعين على الخشوع ويحقق الخضوع أمور، أن يخرج المصلي إلى المسجد مبكرًا بسكينة ووقار، قد نظف ثيابه وطهر بدنه وفَرَّغَ قلبه من الشواغل، طيب رائحته، وأن يعمل على تسوية الصفوف وسُدّ الفُرَجِ، رَفْعُ البصر إلى السماء نُهي عنه المؤمن ويُخِلُّ بالخشوع.
ترك الالتفات في الصلاة ببصره أو قلبه، وهذا خَلَف بن أيوب سُئل: ألا يؤذيك الذباب في صلاتك؟ قال: لا أعوّد نفسي شيئًا يفسد علي صلاتي، قيل له: وكيف تصبر على ذلك؟ قال: بلغني أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان، فيقال فلان صبور ويفتخرون بذلك، فأنا قائم بين يدي ربي، أفأتحرك لذبابة؟! وبعضنا يملأ صلاته حركة بدون ذبابة، فكيف إذا تراءت أمام ناظريه الذبابة؟!.
ومن الأمور: عدم التهويش في القرآن على الآخرين، وأن لا يصلي في ثوب أو قميص فيه نقوش أو كتابات أو ألوان وتصاوير، تشغله وتشغل غيره، وكذا الأصوات المنبعثة من أجهزة الهواتف النقالة، التي آذت المسلمين في مساجدهم وصلواتهم، أفسدت عليهم خشوعهم، ناهيك عما تحمله من نغمات محرمة يتردد صداها في بيوت الله ومع كلام الله تبارك وتعالى. نسأل الله السلامة والعافية.
عن أبي قتادة ، قال: قال رسول الله : ((أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف يسرق من صلاته؟ قال: ((لا يُتِمّ ركوعها ولا سجودها)) ، أو قال: ((لا يقيم صُلْبه في الركوع والسجود)) رواه أحمد [15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] حديث فرض الصلاة أخرجه البخاري في التوحيد، باب: قوله: وكلم الله موسى تكليما (7517)، ومسلم في الإيمان (162). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] مسند أحمد (3/117)، وأخرجه ـ أيضًا ـ أبو داود في الأدب، باب: في حق المملوك (5156)، وابن ماجه في الوصايا، باب: هل أوصى رسول الله ؟ (2698). من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وأخرجه الضياء في الأحاديث المختارة (6/158)، (7/35-37)، وقال البوصيري في الزوائد (2/55): "هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين". وصححه الحافظ في الفتح (5/361)، والألباني في إرواء الغليل (2178).
[3] صحيح مسلم كتاب المساجد (666). واللفظ له. وأخرجه أيضًا البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة (528). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (832)، من حديث عمرو بن عَبَسَةَ السلمي.
[5] صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (771)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
[6] مسند أحمد (1/119)، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة في الصلاة (607)، وابن حبان في الصلاة (1901).
[7] صحيح مسلم كتاب الطهارة (228)، من حديث عمرو بن العاص.
[8] مسند أحمد (5/172)، وسنن أبي داود كتاب الصلاة، باب: الالتفات في الصلاة (909)، وسنن النسائي كتاب السهو، باب: التشديد في الالتفات في الصلاة (1195). من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وصححه ابن خزيمة (482)، والحاكم (1/236)، وحسنه بشواهده الألباني في صحيح الترغيب (544).
[9] سنن الترمذي كتاب الدعوات، باب: ما جاء في الدعوات عن النبي (3482). وأخرجه أيضًا أحمد (2/167)، والنسائي في الاستعاذة، باب: الاستعاذة من قلب لا يخشع (5442). من حديث عبد الله بن عمرو. وله شواهد عدّة. وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2769).
[10] أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (2/400) عن أبي الدرداء. قال الهيثمي في المجمع (2/326): "إسناده حسن". وذكره الألباني في صحيح الترغيب (542).
[11] ذكره ابن القيم في مدارج السالكين (1/521).
[12] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في الأدب، باب: في صلاة العتمة (4985)، والطبراني في المعجم الكبير (6/276). صححه الألباني في صحيح أبي داود (4171).
[13] سنن النسائي كتاب عشرة النساء، باب: حب النساء (3939)، ومسند أحمد (3/128)، وأخرجه أيضًا أبو يعلى (3482)، والضياء في المختارة (1737)، من حديث أنس رضي الله عنه، وجوّد إسناده العراقي، وقواه الذهبي في الميزان (2/177)، وحسنه الحافظ في التلخيص الحبير (3/116).
[14] سنن أبي داود كتاب الصلاة (796)، وأخرجه أحمد (4/321)، والنسائي في الصلاة من الكبرى (612)، والبيهقي (2/281) من حديث عمار بن ياسر بنحوه، وصححه ابن حبان (1889)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (537).
[15] مسند أحمد (5/310)، والدارمي (1/304 ـ 305)، والبيهقي (2/385 ـ 386) من حديث أبي قتادة ، وصححه الحاكم (1/229)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (2/120): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني لطرقه في صحيح الترغيب (524).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
من أعظم الدواعي لحضور القلب وخشوعه، تدبر الألفاظ والمعاني، فكلما قال المصلي: الله أكبر تأمل عمق هذا المفهوم وجلال المدلول. الله أكبر من الشيطان يُغرره بالدنيا، الله أكبر من الشهوات والمال والجاه والولد، فإذا استقر في قلبه معنى هذه الكلمة وأتى بمقتضاها، اطرح خلف ظهره كل ما عداها.
ومن دواعي حضور القلب: تأمّل الجزاء العظيم في كل فاتحة تقرأها وركعة تركعها، تأمل الأجور الجزيلة، ومنها: إذا قرئ الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين قالت الملائكة: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفر له ما تقدم من ذنبه [1]. وأجور جزيلة أخرى، وفضائل كبرى في القيام والقعود، وأذكار الركوع والسجود، فمن تأملها أيقن برحمة الإله المعبود.
ومما يجلب الخشوع: وصية الرسول الخالدة: ((صَلِّ صلاة مَوَدِّع)) [2].
والمتأمل في هذه الأيام وما تؤول إليه الأحوال، وفي مصائر الناس يعلم جلال هذه الوصية، ((صَلِّ صلاة مَوَدِّع)) ، دواءٌ ناجع لمن يرون القلب الخاشع، فإذا شرع العبد في صلاته وكأنها آخر عهده بالدنيا، أحسن خشوعها أتم سجودها وركوعها؛ لأن لحظة الرحيل بين يديه، وكأن هادم اللذات مقبل عليه، فلا يلتفت بصره، ولا يشغل قلبه بغير الله، ولا يذهل لبه، ولو رأيت منصور بن معمر التابعي الجليل، لو رأيته يصلي لقلت يموت الساعة، كما قال سفيان الثوري.
ثم إن عثمان بن العاص أتى النبي فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبّسها علي، فقال رسول الله : ((ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثًا)) فقال: ففعلت فأذهبه الله عني. رواه مسلم [3].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الأذان، باب: جهر الإمام بالتأمين (780)، ومسلم في الصلاة (410)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (4588)، والقضاعي في مسند الشهاب (952)، عن الحسن بن راشد بن عبد ربه قال: حدثني أبي عن نافع، عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا نبي الله، حدثني حديثًا واجعله موجزًا، فقال : ((صلّ صلاة مودع...)). قال الهيثمي في المجمع (10/229): "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه من لم أعرفهم". وللحديث شواهد؛ لذا ذكره الألباني في الصحيحة (1914).
[3] صحيح مسلم كتاب السلام (2203).
(1/4252)
آثار الإيمان على الفرد والمجتمع
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
16/6/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإيمان أعظم النعم. 2- آثار الإيمان على العبد. 3- الإيمان قول وعمل. 4- المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. 5- الإنكار على أعمال الفئة الضالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، إن الإيمان بالله وتوفيق الله للعبد لهذا الإيمان نعمة من أجلّ نِعَم الله على عبده، يقول جلّ وعلا: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7، 8]، ويقول جلّ وعلا: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].
أيها المسلم، فنعمة الإيمان من أجلّ النِّعَم ومن أكبرها وأفضلها، أن يمنّ الله على العبد بهذا الإيمان، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ ، حبّبه لنفوسكم، زيّنه في قلوبكم، فقبلت قلوبكم الحق، واطمأنّت به النفس: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الزمر:22].
أيها المسلم، يا مَن مَنَّ الله عليه بالإيمان بالله ورسوله ودينه، فاحمد الله على هذه النعمة، واعلم أنها من أجلّ النِّعَم وأكبرها وأعظمها شأنًا، حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، ثم ذكر نعمته عليهم بأن كرَّهَ لهم ما يُضادّ الإيمان أو يُضادّ كماله، فقال: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمْ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7، 8]. أي هذا الإيمان وكراهية الكفر والفسوق والعصيان فضل من الله عليكم، لم تدركوه بقوّتكم، ولكن بمنّة الله وهدايته واختيار الله لكم لهذه النعمة أن جعلكم من أوليائه وعباده المؤمنين: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا [الإسراء:74، 75].
أيها المسلم، يقول : ((ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا رسولاً)) [1]. فمن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا رسولاً؛ فقد ذاق طعم الإيمان، ووجد حلاوة الإيمان، فليحمد الله على هذه النعمة.
أيها المسلم، هذا الإيمان إذا استقرّ في القلب، واطمأنّت إليه النفس، فهذا إيمان نافع، إيمان ملأ القلب، فانقادت الجوارح بالأعمال الصالحة، ونطق اللسان بالحق والهدى، فتلك النعمة الكبرى والمنّة العظمى.
أيها المسلم، لهذا الإيمان الصحيح آثاره على العبد في حياته وفي آخرته، فمن أعظم آثاره على العبد أن يكون العبد عبدًا لله حقًّا، مخلصًا لله دينه، عابدًا الله على علم وبصيرة: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14].
إذن فمن آثاره أنّ العبد يعبد الله على بصيرة، يعلم أن ربه خالقه ورازقه، وأن ربه موصوف بصفات، وله أسماء حسنى، وأنه المستحق أن يُدعى ويُرجى ويُخاف ويُستغاث به ويُستعان به، وتَتَعَلّق القلوب به محبّة وخوفًا ورجاءً.
من آثار ذلك الإيمان كون المؤمن مُصدِّقًا بالله، مُصدِّقًا بما جاء عن الله، مُصدِّقًا برسول الله : آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة:285].
ومن آثار ذلك الإيمان قوة حبّ المؤمن لإيمانه، وأن هذا الإيمان في قلبه أغلى من كل شيء، فمهما حُمِل عن ترك الإيمان فهو ثابت عليه مستقيم عليه، أحبّ الإيمان ورضي به، وفي الحديث عنه : ((ثلاث من كُنّ فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُقذف في النار)) [2].
ومن آثار ذلك الإيمان أنك ترى المؤمن ثابتًا في مواقفه، ثابتًا على مبادئه، ثابتًا على قِيَمه وفضائله في أي أرض كان وفي أي مجتمع كان، فلا الشهوات تقوده، ولا الشبهات تخدعه، فعنده عقل، فعنده بصيرة نافذة لا تستطيع الشبهات أن تؤثر عليه بتوفيق من الله، ولا يستطيع دعاة الباطل والضلال أن يؤثّروا عليه، وعنده عقل كامل أمام الشهوات، فلا يميل إليها خوفًا من الله، وعلمًا باطلاع الله عليه، لا خوفًا من الدنيا ولا خوفًا من عقوبة، ولكن خوف من اطلاع الخالق العالم بالسرائر والخفايا: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46].
فترى المؤمن في أي مجتمع وفي أي أرض كان هو على مبدئه، هو على منهجه، هو على قِيَمه وفضائله، ليس تركه للمعاصي لأجل بلده أو حياء من خَلْق من أهله أو ممن يعرفه، ولكن تركه للشرّ مراقبة لله وطاعة لله: مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، فهو يترك السوء خوفًا من الله، ويبتعد عن الجرائم خوفًا من الله.
ومن آثار الإيمان أنك ترى المؤمن كلما نظر إلى هذه المعاصي والمخالفات، وكلما رأى من انغمس في الشهوات أو انخدع بالشبهات؛ تراه يزداد حبًّا لإيمانه وخوفًا على إيمانه، فيرى أمَمًا قد انحرفت عن منهج الله المستقيم، وضلّت عن سواء السبيل، فيتذكّر قول الله: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، ويتذكّر قوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، فهو كلما رأى المنحرفين وأعمالهم السيئة وطرقهم الضالّة سعى ناصحًا فيهم، وداع إلى الله بعلم وبصيرة وحكمة، فإن استُجِيب له فالحمد لله، وإلا فلسان حاله يقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاهم به، وفضّلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.
ومن آثار الإيمان على المؤمن حسن تعامله مع الخلق، فهو يتعامل مع الخلق بالقول الحسن والفعل الحسن امتثالاً لقول الله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وقوله: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]. فهو يتعامل مع عباد الله بحسن القول وحسن العمل، فليس مفاخرًا عليهم، ولا مُدّعيًا تعالٍ عليهم، لا يخدعه نَسَبُهُ، ولا يغرّه منصبه، ولا يملأ قلبَه كِبرٌ مالُه، وإنما قلبه مؤمن حقًّا، فهو يتعامل مع الناس بالقول الحسن والخلق الحسن، وخالِقِ الناسَ بخلق حسن.
من آثار هذا الإيمان أنك ترى المؤمن مهذب اللسان، بعيدًا عن الكذب، بعيدًا عن النميمة، بعيدًا عن الغيبة، بعيدًا عن البهتان، لا يغتاب مسلمًا، ولا يسعى بنميمة، ولا يكذب ولا ينسب كذبًا على مسلم، ولا يحاول الحطّ من قدره، ولا يحاول إهانته مهما كانت الظروف، يتقي الله، ويراقب الله في أحواله كلها.
من آثار هذا الإيمان أنك ترى هذا المؤمن صادق اللسان، قوي القلب في الخير، ذا أمانة ووفاء، وصِدْق في الحديث ووفاء بالعهود، وأمانة فيما اؤتمن عليه، إيمانه يدعوه إلى ذلك، إيمانه يدعوه إلى الخير، ويقوده إلى الخير، وهذا الإيمان يزداد في القلب المؤمن، ولذا إذا خالطت بَشَاشَة الإيمان قلب المؤمن فإنه على خير بتوفيق من الله.
من آثار الإيمان في قلب العبد أنك ترى تصرّفاته كلها تنبثق عن إخلاص وصدق وحب الخير للأمة أجمع، فهو داع إلى الله بلسانه، وداع إلى الله بأعماله، وداع إلى الله في تعامله، فمن عامله فقلبه مطمئن إليه. المؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، من عامله فإنه مطمئن إليه، يرى الإيمان الصادق الذي يحمله على الوفاء واحترام أموال الناس وعدم الخيانة والغش والخداع، الناس في سلامة من شرّ لسانه، فلا يظلمهم بالأقوال ولا يَبْهَتُهُم ولا يقذفهم ولا يرميهم بالعظائم: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]. وهم سالمون من شرّ يده، فلا تخطّ يده كلامًا سيئًا ولا كذبًا ولا بُهْتانًا ولا تعدّيًا على الناس في أموالهم وأجسادهم.
المؤمن هكذا خير كله، إن تكلّم فقول حسن، وإن عمل فعمل حسن، وإن عاملته فالمعاملة طيبة، وإن جاورته أحسن الجوار، وإن صاحبته أحسن الصحبة، فأنت مطمئن إليه؛ لأن هذا الإيمان الصحيح قد ملأ قلبه فاستنار قلبه بالإيمان فظهرت تلك الأخلاق والأعمال والفضائل.
لمّا ابتُدِئ الوحي بمحمد ، وأصابه من الهمّ ما أصابه، فأتى لزوجته خديجة يعرض عليها ما حصل له، فقالت لكمال يقينها وعقلها: (كلا والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتُقْرِي الضيف، وتصل الرحم، وتكسِب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق) [3]. فعلمت بكمال عقلها أن الله من كمال فضله لا يخزي من تلك أفعاله: واصلاً للرحم، مُقْرٍ للضيف، كاسبًا للمعدوم، صادقًا في الحديث، قالت: (كلا والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتكسب المعدوم، وتُعِين على نوائب الحق)، فتلك خصال كان محمد متخلّقًا بها قبل أن يوحى إليه، كان الصدق والأمانة خُلُقه، تعرفه قريش من بين سائر بني هاشم بأنه الصادق الأمين، فيصفونه بالصدق، ويصفونه بالأمانة، وربك أعلم حيث يجعل رسالته، فاختاره الله لهذا الأمر العظيم والمهمة الكبرى ليكون سيد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أيها المسلم، إن الإيمان حقيقته في القلب، وآثاره في الجوارح، والأعمال جزء من الإيمان، ولا انفصال بين إيماننا وأعمالنا، فأعمالنا من إيماننا، ولا يمكن أن يكون إيمان خالٍ من عمل، وما ذَكَر الله الإيمان في القرآن إلا وذكر الأعمال مقرونة معه، إنما أتى النقص والقصور فينا عندما يضعف الإيمان من قلوبنا، فكل من ضعف الإيمان في قلبه فعلى قدر ضعف الإيمان تكون المخالفات، وتكون الجرائم والأخطاء، كلما ضعف الإيمان في القلب كثرت الجرائم والمخالفات، وقَلّ الحياء، نسأل الله العافية.
فعلى المؤمن أن يتقي الله في إيمانه، ويراعي أخلاق الإيمان؛ ليكون من المؤمنين حقًّا، فليس الإيمان بالتحلِّي ولا بالتمنِّي، ولكن ما وَقَرَ في القلوب، وصدَّقه العمل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [الأنفال:2].
فالمؤمن حقًّا مستقيم على الطاعة، مستقيم على الهدى، يعامل الخلق بمثل ما يحب أن يعاملوه به، متذكّرًا قول النبي : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّه لنفسه)) [4]. وتلك مرتبة الكمال لمن أراد الله به الخير، ووفّقه للعمل الصالح، وربك يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (34) من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (16)، ومسلم في الإيمان (43) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في بدء الوحي (3)، ومسلم في الإيمان (160) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، يقول : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم)) [1] ، هذا هو الإسلام الحق، وهذا هو الإيمان الحق، فدعوى الإسلام مع إلحاق الضرر باللسان واليد، ودعوى الإيمان مع سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم وتدمير ممتلكاتهم؛ أمر مستحيل، فهذا ينقض هذا، فالمؤمن حقًّا أَمِنَه الناس على دمائهم، فلا يخشون منه ظلمًا وعدوانًا، ولا يسعى في فساد، ولا يسعى في إلحاق الضرر، ولا يسعى في تدمير الأمة، بل هو يتقي الله في كل شيء، ويعلم لإخوانه المسلمين حق الإكرام والاحترام، هو يبذل جهده في الخير لا يبذله في السوء، ويُسخّر فكره وعقله ورأيه فيما يسعد أمته، لا فيما يلحق الأذى والضرر بها.
أيها الإخوة، وإذ نُشِر ما نُشِر منذ يومين عن بعض الفئات المنحرفة عن سبيل الحق والاستقامة ممن اكتُشِف لهم أوكار سوء ومخابئ فساد ومجموعة من أنواع الأسلحة المختلفة، هذه الفئة وأمثالها الذين عملوا هذا العمل أيشكّ مسلم في أخطائهم؟ أو يشكّ مسلم في أنهم لا يريدون بالأمة خيرًا، وإنما يريدون الشر والبلاء؟ ولكنّ الله سَلَّم، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، نسأل الله السلامة والعافية.
إن الواجب على المؤمن حِيَال هذه الأمور أن يكون مُتّقيًا لله، حريصًا على سلامة أمته، لا يتواطأ مع المجرمين، ولا يرضى بأفعالهم، ولا يقرّهم على أخطائهم، ولا يتعاون معهم بأي وسيلة كانت، بل هو بعيد عن هذا الأذى والضرر؛ لأن هذه الأشياء التي ذُكِرت وبُيِّنت ـ والعياذ بالله ـ كلها ضرر على الأمة، وكلها خطر. وماذا يريد بها أولئك؟ يريدون أن يدمروا بها الأمة، أن يسفكوا الدماء المعصومة، ويدمروا الممتلكات، وينشروا الفوضى، ويحدثوا في الأمة ما يريدون من الشر والبلاء، ولكنّ الله سَلَّمَ، وحفظ الأمة من هذه المكائد، وله الفضل والمنّة دائمًا وأبدًا.
وعلى المسلم أن لا يكون عونًا لأي مجرم ولا مساعدًا له ولا راضيًا به ولا مُؤْوِيًا له ولا مؤجّرًا له ولا ساكتًا عنه؛ لأن هذه المصائب لابد أن يكون بين أفراد الأمة تعاون قوي لكفّ هذه الشرور والبلايا التي يريد بها أعداء الأمة بالأمة الضرر، ويأبى الله ذلك والمؤمنون، فهذه أمور خطيرة وأمور ضارّة لا تتفق مع الإيمان الصادق الذي يحبّ لإخوانه ما يحب لنفسه، ويرضى لهم ما يرضى لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، أمّا هذه الأمور الباطلة وهذه الأوكار الخطيرة فإنها بلاء على الأمة.
فالواجب تقوى الله والالتفات في الخير، واجتماع الكلمة، وأن لا يُمَكّن من يريد بالأمة شرًا من مراده، بل يؤخذ على يده، فلا يجوز التغاضي ولا السكوت ولا الرضا بهذه الجرائم الخطيرة؛ لأنها ضرر على الأمة في حاضرها ومستقبلها.
نسأل الله أن يحفظ بلاد المسلمين من كل سوء، وأن يردّ عنهم كيد الكائدين وحقد الحاقدين، وأن يجعل من أرادهم بسوء أن يجعل تدبيره تدميرًا عليه، وما أراد من سوء أن يكون عليه آثاره السيئة، إنه على كل شيء قدير، وأن يهدي ضالّ المسلمين، ويثبّت مطيعهم، ويرزق الجميع التوفيق لما يحب الله ويرضاه والسعي فيما يصلح الأمة في حاضرها ومستقبلها، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (10)، ومسلم في الإيمان (40) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
(1/4253)
دعوة إلى الوحدة وجمع الكلمة
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
16/6/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التغليظ في قتال المسلم لأخيه. 2- التحذير من الاختلاف والدعوة إلى الائتلاف. 3- أثر الفرقة والشقاق على العالم الإسلامي. 4- نداء إلى الإخوة المتنازعين في غزة. 5- التعليق على تصريحات المسؤول الأمريكي بضرب الكعبة. 6- تحريم بيع أراضي القدس لليهود. 7- وجوب زيارة المسجد الأقصى للمستطيع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد صحّ أن رسول الله قال: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)) ، فقيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: ((إنه كان حريصًا على قتل صاحبه)).
أيها المسلمون، نعم إن ديننا الإسلامي العظيم يُحمّل المسؤولية للطرفين المتنازعين، وليس لطرف واحد. فهذا الحديث النبوي الشريف يُشدّد على تحريم الاقتتال فيما بين المسلمين، وأنّ القاتل والمقتول في المنازعات الداخلية إثمهما واحد ومصيرهما النار.
نعم أيها المسلمون، إن ديننا الإسلامي العظيم يحرص كل الحرص في المحافظة على دماء المواطنين، وأن الدماء يجب أن تكون مُصَانة كصيانة الأموال والأعراض أيضًا، فلا يُفسِح ديننا الحنيف مجالاً لسفك الدماء؛ لأن في ذلك مفسدة للمجتمع واضطرابًا في الأمن، وتقطيعًا للإخوّة والمحبّة بين الناس، وأن حمل الدم ـ كما يقولون ـ ثقيل وهَمّ.
اسمعوا ـ أيها المسلمون ـ ماذا يقول حبيبكم محمد في حجة الوداع يوم عيد الأضحى المبارك: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجِعُنّ بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)). فيركّز عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث النبوي الشريف على وحدة المسلمين وتكافئهم، بحيث يحرم قتال بعضهم بعضًا، ففي الخصومة والشقاق رجوع إلى الكفر والجاهلية والضلال، لقول رسولنا الأكرم في حديث شريف آخر: ((سِبَاب المسلم فسوق، وقتاله كفر)).
أيها المسلمون، لقد نهى ديننا الإسلامي العظيم عن التنازع والتفرّق والتخاصم، فيقول سبحانه وتعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيم [آل عمران:105]، ويقول عزّ وجلّ في آية أخرى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، ويقول ربّ العالمين في آية ثالثة: وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31، 32].
أيها المسلمون، نحن في وقت أحوج ما نكون فيه إلى الوحدة وجمع الكلمة، ومن حَقّنا ذلك، بل هو أمر واجب علينا، وإنّ الوضع القائم من التفكّك والاختلاف يُنذِرُ بتطَايُر الريح، والله سبحانه وتعالى يقول: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]. وإن الذئاب في العالم الغربي في أمريكا وبريطانيا قد جهّزت نفسها لتأكلنا واحدًا واحدًا، ألم تسمعوا قول رسولنا الأكرم : ((ما من ثلاثة من قرية ولا بدو لا تُقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغَنَم القَاصِيَة)). صدقت يا سيدي يا رسول الله، إنما يأكل الذئب القاصِيَة من الغَنَم، أي البعيدة عن مجموعة الأغنام، فالذئب يتجرّأ ويهجم عليها.
أيها المسلمون، إن التشبيه النبوي الذي ورد في هذا الحديث الشريف ينطبق على واقعنا اليوم في العالم الإسلامي، فما حصل في أفغانستان والعراق أقرب دليل على ذلك، وهناك تهديدات أمريكية لأقطار إسلامية أخرى، وكأنّ عَرَب عدنان وقحطان لم يسمعوا قول أحد الحكماء في وصيته لأبنائه:
كونوا جميعًا يا بَنِيَّ إذا اعْتَرَى خَطْبٌ ولا تتفرّقوا آحادا
تأبى الرماحُ إذا اجتمعن تكَسُّرًا وإذا افترقْنَ تكسَّرت أفرادا
ثم إن محاولات أمريكا تقسيم العراق نتيجة خلافاتنا، ونقول: هل توافق أمريكا أن تُقسّم نفسها، وأن تنفصل الولايات عن بعضها بعضًا في أمريكا؟ فالويل للقوي المستبدّ المُتَغَطْرِس، فالله عزّ وجلّ له بالمرصاد، وإنه سبحانه وتعالى يمهل ولا يهمل.
أيها المسلمون، عودة إلى الساحة الداخلية ـ الساحة الفلسطينية ـ فأقول من على منبر المسجد الأقصى المبارك إلى إخوتنا في غزّة هاشم، غزّة الصمود: إننا نناشدكم الله رب العالمين أن توحّدوا صفوفكم، وأن تحقنوا دماءكم، وأن تكونوا إخوة مُتحابّين، والله تعالى يقول في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]. فالإصلاح هو الأصل في حالة وقوع أي خلاف بين الإخوة، وهو واجب على الجميع، فيقول عزّ وجل في السورة نفسها: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9].
هذا ونبارك اتفاق المصالحة ووقف الصراع الدموي بين الإخوة، ونقول أيضًا لأخوتنا في غزة الصمود: أن يكونوا حَذِرين من الفتن، حَذِرين من الذين يصطادون في الماء العَكِر، حَذِرين من الطابور الخامس، حَذِرين من العملاء، حَذِرين من الإشاعات، ونذكّركم بقول الله عزّ وجلّ في سورة البقرة: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:191]، وبقوله سبحانه وتعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:217]، وفي السورة نفسها: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:191].
أيها المسلمون، علينا أن نتّعظ بما حلّ بأمتنا عبر التاريخ من مصائب وتفكّك ونزاعات دموية، كما حصل في معركة الجَمَل ومعركة صِفِّيين، فماذا كانت النتيجة؟ إن المسلمين لا يزالون يعانون من النتائج السلبية لهذه الصراعات الدموية التي كانت بفعل طرف ثالث هو عبد الله بن سبأ.
أيها المسلمون، إن الاختلاف في وجهات النظر لا يجوز أن يؤدّي إلى صراعات دموية؛ لأن هذه الصراعات لا تحلّ المشاكل، بل تزيدها تعقيدًا، إنها فتنة جَهْلاء، وضلالة عَمْياء، لا يستفيد منها إلا الأعداء. ومن الخطأ وليس من المصلحة أن يوجّه كلٌّ منا أصابع الاتهام إلى بعضنا بعضًا، علينا جميعًا أن نوجّه أصابع الاتهام إلى الاحتلال نفسه؛ لأن سبب التوتّرات والتعقيدات والمشاحنات هو وجود الاحتلال على أرضنا المباركة، فكونوا جميعًا يدًا واحدة في مواجهة الاحتلال الغاصب، والله معكم ويرعاكم.
جاء في الحديث النبوي الشريف: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
هناك ثلاث مسائل أتناولها بإيجاز:
أولاً: تصريحات عضو الكونغرس الأمريكي بشأن مكة المكرمة: يزعم أحد [أعضاء] الكونغرس الأمريكي بأنه إذا تعرّضت الولايات المتحدة الأمريكية إلى هجوم عسكري إرهابي ـ حسب قوله ـ فان أمريكا ستدمّر المقدّسات الإسلامية ومنها مكة المكرمة بالسلاح النووي، والمعلوم أن الذي صرّح بهذه التصريحات الحاقدة هو من الحزب الجمهوري الحاكم في أمريكا عن ولاية كولورادو، هذا وإن المسلمين في أمريكا قد تصدّوا له، وطالبوه بالاعتذار، ولكنه رفض ذلك؛ لأنه لم يقل شيئًا يستوجب الاعتذار حسب زعمه.
أيها المسلمون، إن هذه التصريحات العدوانية تسيء إلى الإسلام والمسلمين، وإنها تَنُمّ عن حقد على الإسلام، ولو افترضنا أن مسلمًا اعتدى على مؤسسات أمريكية، فما ذنب الكعبة المشرّفة لأن تهدم؟! وما ذنب مليار ونصف المليار من المسلمين في العالم؟! والله تعالى يقول: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]. ثم إذا قام يهودي أو نصراني بعمل معيّن هل نُحمّل المسؤولية على جميع اليهود أو النصارى؟! ثم لماذا لا نسأل أمريكا نفسها: ما السبب في كراهيتها للمسلمين، وفي المقابل لماذا يكرهها المسلمون؟ على أمريكا أن تعيد حساباتها، وأن تغيّر سياستها العدوانية ضد المسلمين والإسلام.
أيها المسلمون، ثانياً: البيوت في البلدة القديمة في القدس، هناك بعض البيوت قد تسرّبت بصورة مباشرة وغير مباشرة بهدف تهويد المدينة المقدّسة وما حولها. ونؤكد الفتوى الشرعية التي صدرت قبل سبعين سنة من قِبَل علماء فلسطين بتحريم بيع الأراضي والعقارات، وأن الذي يقوم بالبيع أو يُسَمْسِرُ فإنه يكون خارجًا عن جماعة المسلمين، لا يُغسّل، لا يُكفّن، ولا يُصلّى عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، ونطالب أصحاب البيوت الشاغرة بإشغالها؛ حتى لا تكون عُرضة للضياع.
أيها المسلمون، المسجد الأقصى المبارك، لقد أصدرنا فتوى جديدة تؤكد على الفتاوى السابقة بوجوب شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك لإعماره وتكثيف التواجد فيه، وحمايته من المخاطر المحدقة به، ولصدّ أي اعتداء ظالم متوقّع عليه؛ لقول رسولنا الأكرم: ((لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)). وعلى المسلمين المصلّين أن يتجاوزوا الحواجز العسكرية الاحتلالية الظالمة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:114]، ويقول تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُون [التوبة:17].
أيها المسلمون، إذا مُنِع المسلم من الدخول إلى المسجد الأقصى بسبب هذه الحواجز العسكرية الظالمة فإنه يصلي في الموقع الذي يُمنع فيه، وله ثواب الجمعة في الأقصى إن شاء الله، بهذا نفتي.
وإن المسلم الذي يستطيع الوصول إلى الأقصى ولا يأتي إليه، ثم يصلي في مسجد آخر فإنه يكون آثمًا؛ لأن ذلك يؤدي إلى هجران الأقصى، وإلى تقليل عدد المصلين فيه. وإن سلفنا الصالح منذ عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد أقاموا المساجد والمصليات في مدينة القدس وحولها دون إشادة المنابر فيها؛ للدلالة على عدم قيام صلوات الجمع فيها أصلاً، وللدلالة على أن إقامة صلاة الجمعة تكون في المسجد الأقصى المبارك الذي هو الجامع لأهل المدينة ومن حولها أيام الجمع.
هذا ونثمّن الجهود المباركة للقائمين على مشاريع البيارق وشدّ الرحال، كما نثمّن جهود القائمين على المؤسسات التربوية والتعليمية والمخيّمات الصيفية لقيامهم برحلات مستمرّة إلى الأقصى: إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، صدق الله العظيم.
أيها المصلون، اعلموا أن الدنيا خُلقت لكم، ولكنّكم خُلقتم أنتم للآخرة، وأن الله عزّ وجلّ قد أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطها لكم لتركنوا إليها، واعلموا أن المؤمن بين مخافتين: بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاصد فيه، فليتزوّد العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن حياته لموته، ومن شبابه لهرمه: وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [لقمان:33]، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:89]. واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، بأعمالكم تحاسبون، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/4254)
حسن الظن بالله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الفتن, القضاء والقدر, الكبائر والمعاصي
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
23/6/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم اليأس والقنوط من رحمة الله وعفوه. 2- المؤمن دائما يكون بين الرجاء والخوف. 3- عِظَمُ كرم الله وفضله. 4- موقف المسلم عند نزول الكروب والشدائد به. 5- المصائب والأمراض كفارة للإنسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، شرُّ ما مُنِيَت به النفوس، واضطربت به القلوب؛ يأسٌ يُمِيتُ الشعور، وقنوطٌ تُظلِم به الدنيا، وتتحطّم به الآمال، وتخبوا به الأماني، وتُسَدّ به المسالك، وتُغْلَقُ به المنافذ.
ولقد جاء ذكر اليأس والقنوط في آيتين من كتاب الله، في مَعْرِض الذَّمِ لهما والتنفير من سلوك سبيلهما؛ لأنهما من كبائر الذنوب، فقال عزَّ من قائل: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، ورَوْح الله ـ يا عباد الله ـ هو رحمته ورجاء الفرج عنده.
وقال سبحانه: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّون الآية [الحجر:56]، فأوضح سبحانه أن المؤمن ليس من شأنه اليأس والقنوط، وإنما يكون على الدوام خائفًا راجيًا، يخاف جَرِيرَة ذنبه وتَبِعَة معصيته، ويرجو مع ذلك رحمة ربه وعفوه ومغفرته، مقرونًا بالعمل بطاعته.
ولقد أطمع الله عباده في رحمته ورغّبهم في عفوه، وعلّق آمالهم في مغفرته، فقال عَزَّ اسمه: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، وقال سبحانه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]. وفي الحديث القدسي ـ الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح، عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله قال ـ: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عَنَان السماء ثم اسْتَغْفَرْتَنِي غفرت لك. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بِقُرَابِ الأرض خَطَايَا ثم لَقِيتَنِي لا تشرك بي شيئا لأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مغفرة)) [1]. أي: بقريب مِلْئها غفرانًا وعفوًا. وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)) [2].
وكل ذلك ـ يا عباد الله ـ وما في معناه من نصوص الوحيين لَمِن مَّا يفتح أمام المرء أبواب الأمل والرجاء، ويصرفه عن اليأس والقنوط، ويوجّهه خير وُجْهَة، ويسلك به أحسن المسالك، ويجعله ينظر إلى ما يستقبل من أيامه نظرة المتفائل الذي يحسن الظن بربه، ويرجو رحمته وجميل العاقبة عنده.
وإن حسن ظن العبد بربه يجب أن لا يكون مقصورًا على حالة مخصوصة، أو حادثة بعينها، أو زمن دون آخر، فكما يجب أن يحسن المرء ظنه بالله وهو مقبل عليه، يرجو عفوه ومغفرته، فكذلك يجب أن يكون حسن ظنه بالله مصاحبًا له في كل ما يعرض له في هذه الحياة الدنيا من شدائد، وما ينزل به من نوازل، وما يغشاه من كروب، فإذا ابتُلِي بداءٍ أو أصابته جَائِحَة أو غَلَبهُ الدَّين أو فَقَدَ حبيبًا كان مِلء السمع والبصر؛ وجب عليه أن لا ييأس من رَوْح الله، وأن لا يقنط من رحمته، بل يجب عليه أن يستيقن أنّ ما نزل به من بلاء لم يكن إلا خيرًا له؛ يرفع الله به الدرجة أو يدفع عنه شرًّا أعظم مما ابتلاه به، أو يعوّضه خيرًا مما فقد في عاجل أو آجل، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال: ((من يرد الله به خيرًا يُصِب منه)) [3]. أي: يبتليه بالمصائب ليثيبه. وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه في سننهما بإسناد جيد، عن أنس ، أن رسول الله قال: ((إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السَّخَط)) [4].
وأولئك الذين ينظرون إلى الحياة بمنظار أسود حين تنزل بساحتهم الكوارث، وحين تصيبهم البلايا يسكن في نفوسهم، أن البلوى سوف يطول أمدها، وأنهم سوف يُشْرِفون بها على الهلاك، وأن الشدائد سوف تلاحقهم، وأن المحن لن ينقطع نزولها بهم، وذلك كله ـ يا عباد الله ـ سوء ظن بالله ليس من صفات المؤمنين، ولا من سجايا المخبتين. فكم بَدّل الله خوف عباده أمنًا، وفقرهم غنى، وبأساهم نَعْمَاء، وفواجِع الأيام رِفْعة ورحمة وغفرانًا!
حدّث عتبة بن غَزْوَان في خطبة له فقال: لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله ما لنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قَرِحَت أشداقُنا، والتقطت بُرْدة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك، فاتّزرت بنصفها، واتّزر سعد بالنصف الآخر، فما أصبح اليوم منا أحد إلا وهو أمير على مِصْر من الأمصار [5].
وكم لهذا ـ يا عباد الله ـ من أمثالٍ وأشباه لا يكاد يستوعبها حصر في ماضي الأيام وحاضرها.
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا على الدوام أن حسن الظن بالله في كل حال، والأمل فيه ورجاء ما عنده مع الخوف من تَبِعات معصيته هو شأن المؤمنين الصادقين ودَيْدَن المحسنين، وصدق الله إذ يقول: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً [الإسراء:83، 84].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان غَفّارًا.
[1] مسند الإمام أحمد (5/167)، وأخرجه أيضًا الترمذي في الدعوات (3540)، وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". وصححه الضياء في المختارة (4/399)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب (1616).
[2] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2877).
[3] صحيح البخاري، كتاب المرضى (5645).
[4] سنن الترمذي، كتاب الزهد (2396)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (4031)، قال الترمذي: "حسن غريب من هذا الوجه"، وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة (146).
[5] أخرجه مسلم في الزهد (2967).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا عباد الله، جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، أن رسول الله قال: ((ما يُصِيبُ المسلم من نَصَبٍ ولاَ وَصَبٍ ولاَ هَمٍّ ولا حَزَنٍ ولا أَذَىً ولا غَمٍّ حتى الشوكة يُشَاكُهَا إلا كفّر الله بها من خَطَايَاهُ)) [1]. وفيه ـ كما قال أهل العلم ـ: بشارة عظيمة لكل مؤمن؛ لأن الآدمي لا ينفك غالبًا عن ألم بسبب مرض أو هَمٍّ أو نحو ذلك، وأن الأمراض والأوجاع والآلام بدنية كانت أم قلبية تكفّر ذنوبًا وقعت عليه، وإن كان هذا التكفير مخصوص عند جمهور أهل العلم بالصغائر، أما الكبائر فلا تكفرّها إلا التوبة النصوح؛ لقوله في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه: ((الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفّرات لما بينهنّ إذا اجتُنِبت الكبائر)) [2].
وبكل حال فإن في هذه البشارة فتحًا لباب الأمل والرجاء في كرم الله تعالى، وجميل عفوه وعظيم غفرانه، فهي باعث قوي لكل مؤمن على تحسين الظن بالله، والنهي عن اليأس والقنوط من فضله.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على قطع جذور اليأس من قلوبكم، وأحسنوا الظن بربكم تكونوا من المفلحين.
واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
[1] صحيح البخاري، كتاب المرضى (5642)، صحيح مسلم، كتاب البر والصلة (2573).
[2] صحيح مسلم، كتاب الطهارة (233).
(1/4255)
الإيمان بالملائكة
الإيمان
الملائكة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
23/6/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الملائكة آية من آيات الله. 2- أثر الإيمان بالملائكة. 3- عِظَمُ الملائكة وعبادتهم. 4- عدد الملائكة. 5- وظائف الملائكة الكرام. 6- الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تمثال أو صورة أو كلب. 7- فضل صلاتي الفجر والعصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وقال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [فاطر:1]. هذه الآية تبيّن مظاهر قدرة الله تعالى، وآثار قوته المشهودة في خلق السموات والأرض، وفي خلق الملائكة العظام، الذين خلقهم من نور، وجعلهم رسلاً في تنفيذ أوامره، وتبليغ وحيه وأحكامه، اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75]، وزاد في خلقهم جمالاً وقوة أنْ جعلهم أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ودقة المصنوع تدل على عظمة الصانع.
الملائكة آية من آيات الله، قال : ((أُذِن لي أن أحدّث عن مَلَكٍ من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عَاتِقِهِ مسيرة سبعمائة عام)) رواه أبو داود [1]. كل حركة في السموات والأرض من حركات الأفلاك والنجوم والشمس والقمر والسحاب والنبات والحيوان فهي ناشئة عن الملائكة الموكّلين بالسموات والأرض، قال تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات:5]. لهم مقامات مختلفة: وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ [الصافات:164].
أثر الإيمان بالملائكة كأثر الإيمان جملة، له آثار عقدية وسلوكية تقرّب العبد من ربه، وتشعره بحلاوة الإيمان، ولهذا كان الإيمان بالملائكة من البرِّ ودليل التقوى، قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ [البقرة:177]. نطق الحديث الشريف بمشهد عادل من مشاهد عبادتهم، تُبْرِزُ جلالة عملهم وشموخ طاعتهم، قال : ((إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أَطَّتِ السَّمَاءُ وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع أربع أصابعَ إلا وفيها ملك واضع جَبْهَتَهُ ساجدًا لله)) رواه الترمذي وأحمد [2]. سعادة أبدية واستقامة لا غَبَشَ فيها، لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20].
إن هذه النصوص تدفع أولي الألباب إلى الاتصاف بصفة الملائكة، بالتسبيح والحمد والثناء، قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، لاسيما والقلب البشري سريع التقلّب، سريع النسيان، يشرق ويفيض بالنور، فإذا طال عليه الأَمَدُ بلا تذكير ولا ذكرٍ تبلّد وقسا وأظلم وأَعْتَم. إن النفس التي بين جوانحنا تفتقر إلى خلوة بعض الوقت في الذكر، وانقطاع عن شواغل الأرض وضجّة الحياة في عبادة للرب وترتيل للقرآن.
سلك الملائكة موكب الثناء والحمد، وحياتهم كلها عبادة وتسبيح، فإذا كان يوم القيامة قالت الملائكة جميعًا: ((سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، إلا أنا لا نشرك بك شيئًا)) رواه الطبراني [3].
والمسلم مهما بلغ في العبادة، وبذل في الدعوة، وأنفق من مال فلن يبلغ مقدار عبادة الملائكة، فهو أولى بنَبْذِ الكِبْر في الطاعة، والاغترار بالعمل، والعُجْب المُحْبِط.
أقسم سبحانه بطوائف منهم: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا [الصافات:1]، وفيهم يقول الرسول : ((ألا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائكة عند ربها)) ، فقلنا: يا رسول الله، كيف تَصُفُّ الملائكة عند ربها؟ قال: ((يُتِمُّون الصُّفُوفَ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّون في الصَّفِّ)) [4]. وهذه دعوة إلى حسن النظام وإتقان العمل؛ استجابة للشارع واقتداءً بالملائكة الكرام، فتصطف الخلائق على نسق واحد في الأرض والسماء. ألا ما أروعها من صورة، وأعظمه من دين!
عددهم لا يُحصَى، فقد أجاب جبريل النبي لما سأله عن البيت المعمور الذي في السماء السابعة، فقال: ((هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملكٍ، إذا خرجوا لم يعودوا إليه آخر ما عليهم)) رواه البخاري ومسلم [5]. هذه عظمة المخلوق فكيف بالخالق!
تصلي الملائكة على من يحضر وينتظر صلاة الجماعة: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه [6] ، وعلى الصف الأول [7] ، وعلى معلّم الناس الخير [8] ، ومن صلّى على النبي صلت عليه الملائكة [9] ، وصلاة الملائكة لها تأثير في هدايتنا وإخراجنا من ظلمات المعاصي والذنوب إلى النور، قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الأحزاب:43]. والصلاة من الملائكة للمؤمنين الاستغفار والدعاء لهم، تشفع الملائكة في المذنبين، ومن دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكّل به: آمين، ولك بمثل [10].
تنزل الملائكة بالسكينة لقراءة القرآن، قال لأُسَيد بن حُضَير : ((تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت ـ أي: بقيت ـ تقرأ لأصبحت ينظر الناس إليها لا تَتَوارَى منهم)) رواه البخاري [11].
ومن أعمالهم تسجيل أعمال البشر وحفظها: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17، 18]، والإنسان بمحضر الكرام من الناس يحتشم في سلوكه، ويستحي أن يُسِفّ في قول أو يَتَبَذّل في حركة، فكيف به في حَضْرة حَفَظَة من الملائكة الكرام؟!
إن هذه الآيات تَسْتَجِيشُ القلب، وتُحرّك المشاعر؛ كي لا يصدر من المسلم إلا كريم الخصال وسَامِق الصفات، لا فرق بين خلوته وجَلْوته، هذا يُنمّي الشعور بالمسؤولية ودوام المراقبة لله، فهو في قرارة نفسه يعلم أن هناك ملائكة ترافقه، تحصي عليه كل لحظة من لحظات حياته، وكل حركة من حركاته، وهذا يبين أهمية الأدب مع الملائكة، والخجل من اقتراف المعصية، فيكون إيمانه بالملائكة حافزًا لعمل الخير وترك الشر، وحصنًا من الوقوع في المنكر، قال تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]، قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11].
وَكَلَّ سبحانه بابن آدم ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، يحفظونه من المضار، يُحَصِّنُونه من المهلكات، لا يفارقونه، بل يرافقونه من بين يديه ومن خلفه، وفي صحيحي البخاري ومسلم: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)) [12]. قال مجاهد: "ما من عبدٍ إلا له مَلَكٌ موكّل يحفظه في نومه ويقظته، من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه" [13]. فلك الحمد ـ يا ربنا ـ على كريم فضلك، وجزيل عطائك.
الملائكة ـ إخوة الإسلام ـ لا تدخل بيتًا فيه تمثال أو صورة أو كلب، قال النبي : ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة)) رواه البخاري ومسلم [14]. فهل يفرّط العاقل في حفظ الملائكة من أجل كلب أو صورة.
من عِظَمِ خلق الله وجلال إبداعه أنّ الملائكة تتمثّل حسب المناسبة، فقد جاء جبريلُ عليه السلام بصورة بشرٍ سوي الخِلقة مريمَ عليها السلام، يبشّرها بغلامٍ زكيٍّ هو المسيح عيسى ابن مريم، وجاء إلى إبراهيم عليه السلام ملائكةٌ في صورة شباب حِسَان ضيوف، وبشّروه بغلام: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ [الذاريات:24، 25]. وكان جبريل يأتي النبي بصورة رجل أعرابي، كما في يوم بني قريظة، فلما رجع رسول الله من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: ((قد وضعتَ السلاح! والله ما وضعتُه، أخرج إليهم)). قال النبي : ((فأين؟)) فأشار إلى بني قريظة، فخرج النبي ، رواه البخاري ومسلم [15]. قال أنس : (كأني أنظر إلى الغبار ساطعًا في زُقَاقِ بَنِي غَنْم مَوْكِبَ جبريل صلوات الله عليه، حين سار رسول الله إلى بني قريظة) رواه البخاري [16].
تنزل الملائكة على المؤمنين بالتأييد والنصرة: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، وهذا يورث العزّة في نفوس الصادقين، بتحقّق مَدَد وأنصار لمن نصر الدين. ثبت أن النبي قال لحسان: ((اهْجُهُمْ ـ أي المشركين ـ أو هَاجِهِمْ وجبريلُ معك)) [17] ، وقال: ((إن رُوحَ الْقُدُسِ مع حَسَّانَ مَا نَافَحَ عن رسول الله )) [18].
وإذا أحبّ الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القَبول في الأرض [19]. وهذه ثمرة الطاعة ونور العبادة، حُبٌّ في الملأ الأعلى يفيض على الأرض قبولاً، ومن أهلها حُبًّا، ومن شؤم المعصية غَضَبٌ في الملأ الأعلى، وبغضٌ في الأرض وصدود من الخلق.
ولله ملائكة سيّاحون في الأرض يبلّغون رسول الله سلام أمته وصلاتهم عليه. ومن الملائكة من وُكلَ بنفخ الأرواح في الأجِنَّةِ وكتابة الآجال والأعمال والأرزاق. وإسرافيل صاحب الصور ينفخ فيه بأمر الله النفخة الأولى، فيهلك من في السموات إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه النفخة الثانية للبعث للحياة بعد الموت.
خَزَنة النار ملائكة أقوياء أشدّاء، لا يُقاوَمُون ولا يُغَالَبُون، وعلى جهنم تسعة عشر من الملائكة، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((يؤتَى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زِمَام، مع كل زِمَام سبعون ألف ملك يجرّونها)) [20] ، وفي حديث الإسراء واجتماعه بالأنبياء عليهم السلام، حانت الصلاة كما قال : ((فَأَمَمْتُهُم فلما فرغت من الصلاة، قال قائل: يا محمد، هذا مالكٌ صاحب النار، فَسَلِّمْ عليه، فَالْتَفَتُّ إليه فَبَدَأَني بالسَّلاَمَ)) رواه مسلم [21].
تقبض الملائكة الأرواح حين ينقضي أجلها: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]، وهذا دليل على أن الحياة الدنيا فانية لا تدوم، ويكفيك منها متاع طيّب وحلال بَيّن لتفوز بالآخرة الباقية. تَنَزَّل الملائكة ساعة الموت لأهل الاستقامة بالبشرى والإيناس، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، وفي القبر مُنْكَر ونَكِير، وسؤال وموقف عسير، لا ينجو منه إلا صادق الإيمان، تُرَحّبُ الملائكةُ بالمؤمنين الذين فازوا برضوان الله في مقام عالٍ رفيع، وفي جو راضٍ وديع، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23، 24].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن أبي داود كتاب السنة، باب في الجهمية (4727)، وكذا الطبراني في الأوسط (2/199) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. قال ابن كثير في تفسيره (4/415): "وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات". وقال الهيثمي في المجمع (1/80): "رجاله رجال الصحيح". وقال ابن حجر في الفتح (8/665): "وإسناده على شرط الصحيح".
[2] سنن الترمذي كتاب الزهد (2312)، ومسند الإمام أحمد (5/173)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الزهد، باب: الحزن والبكاء (4190). من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
قال الترمذي: " وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس وأنس"، وقال: "هذا حديث حسن غريب". وصححه الحاكم (2/510) ، وذكره الألباني في الصحيحة (1722).
[3] الطبراني في الكبير (2/184)، وفي الأوسط (4/44)، من حديث عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء عن جابر.
وقال: " لم يرو هذا الحديث عن عطاء إلا عبد الكريم، ولا عن عبد الكريم إلا عبيد الله بن عمرو".
قال الهيثمي في المجمع (10/649): " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عروة بن مروان قال الدارقطني : ليس بقوي في الحديث. وبقية رجاله رجال الصحيح".
[4] أخرجه مسلم في الصلاة (430)، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3207)، وصحيح مسلم كتاب الإيمان (164)، من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه.
[6] عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث فيه، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه)). أخرجه البخاري في الصلاة (445) واللفظ له، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (649).
[7] عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله وملائكته يصلون على الصَّفِّ اْلأَوَّلِ)).
أخرجه أحمد (4/294)، وأبو داود في الصلاة، باب: تسوية الصفوف (664)، والنسائي في الإمامة، باب: كيف يقوم الإمام الصفوف (811)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: فضل الصف المتقدم (997) واللفظ له.
وصححه ابن خزيمة (3/26)، والألباني في صحيح الترغيب (513).
[8] عن أبي أمامة الباهلي، قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم)) ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)).
أخرجه الترمذي في العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2685) واللفظ له، والطبراني في الكبير (8/234).
قال الترمذي: "حديث غريب". وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2161).
[9] عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم يصلي علي إلا صلت عليه الملائكة ما صَلَّى عَلَيَّ، فَلْيُقِلَ العبد من ذلك أو ليكثر)).
أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: الصلاة على النبي (907)، وأبو داود الطيالسي في مسنده (1/156)، والطبراني في الأوسط (2/182)، وأبو يعلى في مسنده (13/121). وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه.
[10] عن أم الدرداء قالت: حدثني سيدي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به: آمين، ولك بمثله)).
أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2732).
[11] علقهُ البخاري في كتاب فضائل القرآن، باب: نزول السكينة والملائكة عند قراءة القرآن، قال: قال الليث: حدثني يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أسيد بن الحضير. وأخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (796) بنحوه.
[12] صحيح البخاري كتاب مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاة العصر (555)، وصحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة (632)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه ابن جرير في تفسيره (7/350).
[14] صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق (3322)، وصحيح مسلم في كتاب اللباس (2106). من حديث أبي طلحة رضي الله عنه.
[15] صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير، باب: الغسل بعد الحرب والجهاد (2813)، وصحيح مسلم كتاب الجهاد والسير (1769). من حديث عائشة رضي الله عنها.
[16] صحيح البخاري كتاب المغازي، باب: مرجع النبي من الأحزاب (4118).
[17] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3213)، ومسلم في فضائل الصحابة (2486)، من حديث البراء رضي الله عنه.
[18] أخرجه أبو داود في الأدب، باب: ما جاء في الشعر (5015)، وأصله في مسلم كتاب فضائل الصحابة (2490)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
[19] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3209) واللفظ له، ومسلم في البر والصلة والآداب (2637)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[20] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2842).
[21] صحيح مسلم كتاب الإيمان (172)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على توفيقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
تحضر الملائكة الحفظة عند صلاتي الفجر والعصر، قال رسول الله : ((تجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر وصلاة العصر)) ، قال: ((فيجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر)) ، قال: ((فيجتمعون في صلاة الفجر)) ، قال: ((فتصعد ملائكة الليل، وتثبت ملائكة النهار)) ، قال: ((ويجتمعون في صلاة العصر)) ، قال: ((فيصعد ملائكة النهار وتثبت ملائكة الليل)) ، قال: ((فيسألهم ربهم، كيف تركتم عبادي؟)) قال: ((فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)) ، قال سليمان: ولا أعلمه إلا قد قال فيه: ((فاغفر لهم يوم الدين)) رواه الشيخان [1].
وهذه ـ عباد الله ـ مزيّة كبرى، وفضل عظيم للمواظبين على صلاة الجماعة، خاصة في صلاتي الفجر وصلاة العصر، أما الذين يرفضون الخير، ويحرمون أنفسهم الفضل، ويفرّطون في صلاتي الفجر والعصر جماعة، فصفقتهم خاسرة، وفعلتهم بائرة؛ لأنهم لا يعرفون صلاة العصر إلا إذا غدت بين قرني شيطان، ولا يؤدون صلاة الفجر إلا إذا طلعت الشمس، ماذا ستقول عنهم الملائكة، وبماذا يجيبون ربهم وهذا ديدنهم وحالهم؟! يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6، 7]، ما غرّك بربك الذي خلقك في أحسن صورة، وجَمّلك بأبهى خلقة، وأغدق عليك نِعَمًا لا تعدّ ولا تحصى؟! ما غرّك حين يناديك ربك فتقف أمامه مقصّرًا مذنبًا مفرّطًا، حين ترى المساجد في صلاة الجمعة لا تكفي المصلين، وتمتلئ بهم الطرقات، إذا هي تشتكي هجر المسلمين لها في صلاتي الفجر والعصر؟! وحينما تكتظ مدرجات الملاعب بآلاف الشباب، أين هؤلاء عن صلاة الفجر في بيوت الله؟! مشاهد محزنة تدل على عبودية الهوى، وتفريطٍ مَقِيت بأعظم ركن من أركان الصلاة، حتى صار كالعُرْف العام. نسأل الله السلامة والعافية.
عن أبي هريرة ، قال: قال رسول الله : ((إن لله ملائكة يطوفون في الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أهل الذكر، فإذا وجدوا أقوامًا يذكرون الله تنادوا: هَلُمُّوا إلى حَاجَتِكُمْ، قال: فَيَحُفُّونَهُمْ بَأجْنِحَتِهِم إلى السماء الدنيا)) [2] ، وفي رواية مسلم: ((حتى يملؤوا بينهم وبين السماء الدنيا)) [3].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. اللهم صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد...
[1] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (2/396). وأصله في صحيح البخاري كتاب مواقيت الصلاة، باب: فضل صلاة العصر (555)، وصحيح مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة (632)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الدعوات، باب: فضل ذكر الله تعالى (6408) واللفظ له، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689).
[3] صحيح مسلم كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2689).
(1/4256)
أما آن للأمة أن تتوب؟!
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التوبة, المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
23/6/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة إلى التوبة. 2- التوبة في الكتاب والسنة. 3- شروط التوبة. 4- سبب تخلف الأمة الإسلامية وتسلط الأعادي عليها. 5- تواصل عمليات تهويد القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:53-55].
أيها الناس، هذه دعوة كريمة من الله جلّ وعلا لعباده أن لا يقنطوا من عفوه ورحمته، بل يتوبوا إليه، ويرجعوا إلى رحاب كرمه وجوده وعفوه ومغفرته. فهو سبحانه الغفور الرحيم لمن آمن به ربًّا، ولم يشرك به أحدًا، واتّبع السبيل الذي أنزل على سيد الخلق أجمعين، إذ الإنسان مَجْبُولٌ على الميل إلى الهوى، وقد حُفّت الجنة بالمكاره، وحُفّت النار بالشهوات، كما لا تضرّ مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر والشرك طاعة. فالمعصية تمسحها التوبة، ويغسلها الاستغفار، فالله يقول: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد حثّت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة على التوبة. من ذلك قول الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8]، وقوله تعالى: وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:71]. والرسول يقول : ((والله إني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرّة)). وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن النبي قال: ((إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغِر)) ، أي تصل الروح إلى الحلقوم.
أيها المسلمون، ولقد قرّر العلماء رضوان الله عليهم أنّ التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يُقْلِع التائب عن المعصية. والثاني: أن يندم على فعل المعصية. والثالث: أن يعزم أن لا يعود إلى المعصية أبدًا.
وإن كانت المعصية تتعلّق بحق الآدمي فعلى التائب أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو متاعًا ردّه إلى صاحبه، وإن كانت غيبة أو نميمة طلب المسامحة والصفح ممن اغتابه أو نَمَّ عليه.
وهذه شروط التوبة النصوح التي ندبنا الله إليها، فليحرص كل منا أن يتوب إلى الله من جميع ذنوبه، وينخرط في سلك الطاعة حتى نكون في صفّ من أنعم الله عليهم بقوله: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:70].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن البلاء النازل على العالم وعلى المسلمين على وجه الخصوص سببه كثرة الذنوب والمعاصي التي وقع فيها المسلمون. فأي ذنب فعلته الأمم السابقة، وأُهلكت بسبب لم تقترفه أمتكم؟ ولولا رحمة الله بهذه الأمة بتكريم نبيكم باستجابة الله له بأن لا يُهلِك أمته بما أهلك به الأمم السابقة لهلكت أمتكم، فلله الحمد والمنّة، والصلاة والسلام على رسول وسيد هذه الأمة صاحب المقام المحمود، واللواء المعقود، والحوض المورود، والشافع المشفَّع يوم تجثوا الأمم ولسان الحال يقول: اللهم نفسي، فيشفع للأمم بالحساب، وللمذنبين من أمته بالنجاة من النار، أعاذنا الله من عذابها، إنه هو الرؤوف الرحيم.
أيها المسلمون، أما آن لأمتنا أن تعلن توبة صادقة نصوحًا، وتسلم قيادها إلى الله بالإنابة إليه واتباع أحكام كتابه العزيز في جميع شؤون حياتها، والسير على هدي نبينا عليه الصلاة والسلام، فهذا السبيل هو سبيل العزة والكرامة، وهو الطريق لنيل رضوان الله في الدنيا والآخرة، وهو عنوان التوبة من جميع الذنوب التي تحول بين الأمة وبين عزّتها.
إن من أكبر الكبائر التي اقترفتها الأمة هو تنحية الإسلام عن سُدّة حكمها، واستبدلوا الحكم الذي هو أدنى بالذي هو خير، فأي نفع حقّقته الأمة جرّاء احتكامها إلى قوانين الأرض الوضعية، أو إثارة النزعات القومية والإقليمية؟! لقد زادت فرقة الأمة، ووقعت في ضنك الحياة، وأصبحت في ذيل قافلة الأمم الأخرى جرّاء تفريطها في حب الله وإعراضها عن ذكره. ولا سبيل إلى النجاة من هذا الحال المؤلم إلا بالعودة الصادقة إلى منهاج الله، وبتوبة نصوح لمحو الذنوب؛ لتكون أهلاً لرحمة الله التي لا يقنط منها إلا القوم الكافرون. والرسول يقول: ((قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني، والله لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة، ومن تقرّب إليّ بشبر تقرّبت إليه ذراعًا، ومن تقرّب إليّ ذراعًا تقرّبت إليه باعًا، وإذا أقبل إليّ يمشي أقبلت إليه أهرول)). أو كما قال: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).
وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، خلال الأيام القليلة الماضية نشرت وسائل الإعلام المحلية الإسرائيلية خبرًا مفاده أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تنوي إقامة حي استيطاني في مدينة القدس بالقرب من باب الساهرة أحد أبواب البلدة القديمة لمدينة القدس، وقد وافقت لجان التنظيم والبناء على إقامة هذا الحي بالرغم من قربه من أسوار البلدة القديمة الذي تمنع سلطات البناء والتنظيم إقامة أي بناء بالقرب منه، كما أن الأبنية التي ستقام هناك ستكون مرتفعة عن سور المدينة القديمة؛ مما يؤثّر على طابع أبنيتها، ويغيّر معالم المدينة.
ويأتي هذا العدوان الجديد في الوقت الذي تتسارع فيه أعمال البناء في جدار الفصل العُنْصِريّ حول مدينة القدس؛ لعزلها عن محيطها الفلسطيني، ويتزامن مع الحملة المسعورة بهدم البيوت العربية، وتشريد سكّانها بحجة عدم الترخيص وغيرها من الذرائع الواهية التي تتذرّع بها سلطات الاحتلال؛ لتنفيذ أهدافها التي ما عادت تنطلي على أحد بتهويد المدينة المقدّسة، وتغيير واقعها الحضاري والتاريخي والسكّاني، مما يُهَوّد مقدّساتها وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك الذي تحول سلطات الاحتلال بينه وبين المصلين من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة، وتُمْعِن في إجراءاتها التّعَسُّفِيّة في تضييق الخناق على المسجد والمصلين فيه من خلال نصب المزيد من آلات التصوير عند بوّاباته والطرق المؤدية إليه، في إجراءات غير مسبوقة، ولا يكاد مكان عبادة في العالم تؤدّى فيه العبادة في ظل حصار آلي وعسكري كما يجري في المسجد الأقصى المبارك.
وإننا من على هذا المنبر الشريف لنحمّل العالمين العربي والإسلامي والعالم بأسره مسؤولياته في حماية المدينة المقدّسة، ولَجْم سلطات الاحتلال من تنفيذ مخططاتها الهادفة إلى تهويد المدينة والاعتداء على حضارتها الإسلامية وتراثها الإنساني.
أما انتم يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، يا من شرّفكم الله بسِدَانة المسجد الأقصى، وجعلكم من المرابطين فيه وحوله، وقدّر لكم الوصول إليه في الوقت الذي لا يستطيع آلاف الملايين من المسلمين أن تكتحل عيونهم برؤيته والصلاة فيه؛ فعليكم بالمزيد من شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى لإعماره، والصلاة فيه في جميع الأوقات وعلى مدار أيام السنة، وبهذا تساهمون في حماية المسجد، وتؤكّدون عروبة وإسلامية مدينة القدس أمانة الفاروق عمر ومحرَّرة صلاح الدين، فإن السماء لا تمطر قُدْسًا كل يوم.
(1/4257)
الصدق والنصيحة في التعامل
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أخلاق عامة, الآداب والحقوق العامة, حقيقة الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
23/6/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الصدق. 2- الصدق صفة من صفات أهل الإيمان. 3- القلب الصادق يدعو إلى الإيمان بالله ولوازمه. 4- أعظم صدق يتخلق به المسلم صدقه فيما يخبر به عن الله ورسوله. 5- صفات المؤمن الصادق. 6- الصدق منجاة. 7- من أعظم الكذب والفرية أن ينسب إلى الإسلام ما الإسلام بريء منه. 8- المؤمن الصادق يحمي بلاد الإسلام عن كل مبدئ خطير، وعن كل رأي ضال، وعن كل فكر منحرف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من خُلق المؤمن الصدق في أحواله كلِّها، فالصدق خلق للمؤمن يلزمه ويستمر عليه؛ لقناعته أن الصدق سبيل الهدى والرشاد، وأن الصادق له عِزُّ في الدنيا ورفعة في الآخرة. هذا الصدق نجاة لصاحبه وسبب لعِزّه في الدنيا ورفعته في الآخرة، وقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يلزموا الصدق ويكونوا مع الصادقين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، كونوا معهم في أقوالهم، في أفعالهم، في ما انطوت عليه سرائرهم من الخير والهدى.
إن الصدق صفة لأهل الإيمان ليضادوا به المنافقين الذين تظاهروا بالصدق وأبطنوا الكذب المحض، إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون: 1]. أجل إنهم أظهروا الصدق والوفاء وحب الدين حب الله ورسوله ودينه، ولكن يعلم الله ما في قلوبهم من الكفر والضلال، إذن فليسوا على هدى ولا على خير، لكن المؤمن حقًا مخالف لولئك، صادق في معتقده، صادق في قلبه، صادق بلسانه، صادق في أعمال جوارحه، فالقلب ممتل بالإيمان والخير، القلب مستنير بنور الإيمان مستضيئ بالهدى والطاعة، القلب عامر بالإيمان، قلب صلح فاستقام، ((ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها الجسد كله، ألا وهي القلب)) [1].
ففي القلب تصديق بالله وتصديق بأمر رسوله، وتصديق بكتابه وتصديق بلقائه، وتصديق بقضائه وقدره. إيمانه بالله صادق، هذا الصدق في الإيمان بالله دعاه إلى الإيمان بالله، وأن الله رب كل شيء ومالكه وخالقه، والمتصرف كيف يشاء لكمال حكمته وعلمه ورحمته وعدله، فدعاه إلى الإيمان به والتصديق بأسمائه وصفاته، والإيمان بكمال علمه واطلاعه على الخَلْقِ، ودعاه إلى تصديق الرسول ، فآمن به نبيًا ورسولاً، صدقه فيما أخبر به، انقاد لسنّته، أحبه وحرص على اتباع شريعته؛ لأنه على يقين أنه لا سبيل له إلى الله إلا من طريق هذا النبي الكريم، إيمانه بالله دعاه إلى الصدق في عبادة الله، فعبد الله مخلصًا له الدين، وصرف كل العبادة لرب العالمين؛ لعلمه أن الله المستحق للعبادة دون سواه، أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:3].
صدق في إيمانه بكتب الله التي أنزلها على أنبيائه الصادقين، فاعتقد أنها حق وجاءت بالحق، وأن أنبياء الله صادقين فيما قالوا، لكن العمل والاتباع إنما هو لهذا الكتاب العزيز، فآمن بالقرآن وصدق أنه كلام الله، وآمن به حقًا وحكّمه وتحاكم إليه، وتأدب بآدابه ونفذ أوامره وابتعد عن نواهيه، وتخلق بأخلاق القرآن العظيم، هكذا حال المؤمن؛ آمن بهذا الدين الإسلامي إيمانًا صادقًا، فاعتقد حقًا كمال هذه الشريعة، وأنها الشريعة الحقه التي أكملها الله وارتضاها، وأتم بها علينا نعمته، ولن يقبل من أحد دينًا سوى هذا الدين، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
صدق في إيمانه بهذه الشريعة فاعتقد كمالها، واعتقد شمولها، واعتقد أنها الشريعة الصالحة المصلحة لكل زمان وفئة من الناس، وأن هذه الشريعة هي الشريعة الحق، مشتملة على أسباب السعادة في الدنيا والآخرة، شريعة باقية منذ أنزلها الله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فهو يعتقد كمال هذه الشريعة، وأنها مغنية للخلق عما سواها، ولا يمكن أحد من الخلق أن يوجد للناس أحكامًا غير هذه الشريعة، فكل أحكام غير أحكام هذه الشريعة فمبنية على الجور والظلم والعدوان.
أيها المسلم، إن المؤمن صادق في قوله، صادق فيما يخبر عن الله، صادق فيما يخبر عن رسول الله، صادق فيما يخبر عن شرع الله، فلا يقول على الله إلا الحق، ولا يقول عن رسوله إلا الحق، ولا يقول عن شرع الله إلا الحق. صادق فيما أخبر به من الدعوة إلى الحق والهدى، والتحذير من الباطل والضلال.
إن أعظم صدق يتخلق به المسلم صدقه فيما يُخبر به عن الله ورسوله، فإنه لا يُخبر إلا بالحق، ولا يقول على الله وعلى نبيه ودينه إلا الحق.
إنه صادق في أفعاله، فأعمال جوارحه بأركان الإسلام وواجبات الدين كلها تنبعث عن إخلاص وصدق، وإيمان جازم لا رياء ولا سمعة، ولكن إيمان في القلب صّدقه العمل، فليس إيمانه دعوى ولكن إيمانًا ظاهرًا وباطنًا، إيمان في القلب صّدقه العمل الصالح، كالصلاة والزكاة والصوم والحج وواجبات الإسلام وفرائض الدين، كلها يؤديها العبد عن صدق ويقين، موقنًا بالثواب راجيًا من الله ذلك، خائفًا من عقابه. قال بعض السلف: "التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا بذلك ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
أيها المسلم، المسلم صادق مع نفسه؛ فهو يسعى لتخليص نفسه وفكها من عذاب الله، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]، هو صادق في تعامله مع زوجته وأولاده، صادق مع أولاده فيصدق معهم في تربيتهم وتوجيههم بالخير والهدى، وتربيتهم على الأخلاق الكريمة والصفات العالية. صادق مع زوجته بحسن المعاشرة وقلة الأداء وبذل المعروف. صادق في البر بالأبوين، فهو يَبُرُ بهما برِّ الصادق الموقن بالثواب الراجي للخير، الخائف من عقوبة الله. صادق مع جيرانه؛ فلا ينالون منه أذى ويأمنون بوائقه وغدراته، وهو صادق مع رحمه في صلته لهم والإحسان إليهم.
المؤمن صادق في تعامله مع الخلق، فإنه يكن في ميدان البيع والشراء ترى هذا المسلم صادق، صادق فيما يخبر عن قِيم سِلَعه، صادق إن كان ذا مصنع فلا ينتج إلى خير، ويوضح الأمر ويجلوا الأمر، فليس غاش ولا خادعًا ولا مدلسًا، ولكن وضوح في أموره، ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لها في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيتعهما)) [2] , صادق في تعامله مع الناس، فإذا استدان أدى الحق وحرص على إيفاء الحقوق، ((مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ)) [3].
صادق في تعامله مع الناس فليس يخبر بخلاف الواقع، ولكن يخبر بالواقع، وكم من أناس تظاهروا بالخير وأظهروا الصدق في كثير من معاملتهم، ولكن الواقع خلاف ذلك؛ فهم يظهرون للناس شيئًا ويخفون أشياء، كم ينخدع بهم الناس ويوعطونهم الأموال، واثقون بهم وبأحاديثهم وإخبارهم، ثم تنعكس القضية عليهم وإذا القول الذي قالوه كذبًا وافتراءً.
هو صادق في نصيحته عندما تستنصحه أو تستشيره، يعطيك الرأي الصادق ويشير عليك بالرأي الحق الذي يعتقده لنفسه، وإما كون ذلك يخطئ فالخطأ فهذا معفو عنه، لكن لا يشير عليك بأمر وهو يعتقد أن الحق بخلافه، ولا يعطيك نصيحة تراه صادقًا وتعتقد صدقه والله يعلم أنه كاذب، يشير عليك فيقول: هذه المساهمة طيبة، وهذه كذا وكذا، فإذا أعطيته المال وتطلعت إلى الأمر وجدت أن صاحبك قد كذب عليك، له مصالح فيما يدعوا إليه ومنافع لا يبالي أن يُخبر الناس بحديث خلاف الواقع، يثني على مساهمته، ويثني على هذه التجارة، ويمدح لك تلك الشركة، ويثني على تلك المساهمات مهما كان يثني عليها ويدعوك للاشتراك بكذا وكذا، وإذا استبان لك الأمر وجدته صاحب مطمع وصاحب هوى، يشير عليك بخلاف الواقع، وينصحك بخلاف الحق؛ لأن له مصالح ذاتية فهو يقدم مصلحة نفسه، ويغش إخوانه ولا يبالي.
إن شاركته في التجارة صدق معك فلا كذب ولا تزوير، إن استشهد به أدى الشهادة بصدق فلا زور ولا كذب، وإن تحمل الشهادة تحملها بصدق، إن أخبرك عن أشياء أخبرك بالصدق، هكذا يكون المسلم، إن أقام دعوى على أحد فهو لا يقيمها دعوى كيدية لأجل الضرر والإيذاء، وإنما يقيم دعوى هو على حق أنه هو صادق فيما يقول، ليس دعواه لأجل الإضرار والمكائد وتأخير حاجات الناس، هو صادق مع خَدَمِه ومن عنده من يد عامله، فهو صادق معه في العقود التي بينهم وبينه، وفي الأعمال التي تناط بهم، فلا يغشهم ولا يخدعهم ولا يكذب عليهم، ولكن يصدقهم في كل تعامله معهم، هكذا يكون المؤمن حقًا.
فالمتخلق بالصدق يجعل الله في قلوب الناس محبتًا له وثقتًا به وطمأنينة إليه، لاسيما إن صحب ذلك تدين وورع وخوف من الله، وصار صدقه في تجارته مبنيًا على الإيمان الحق، فذاك نعمة من الله على العبد، قد يصدقك أحيانًا لمصلحة دنيوية، لكنه يكذب في غيره، لا. المؤمن إن صدقك فصدقه لك منطلق من إيمان الحق الذي تلقاه عن ربه وعن نبيه ، صادق فيما وكل إليه من عمل، فيؤدي الأمانة العملية بصدق وإخلاص، لا يظلم أحد ولا يحابي ولا تأخذه العاطفة ويسوقه الهوى، بل من عنده ومن تحت يده يعاملهم بالصدق ويعاملهم بالوفاء، إن وعد صدق في وعده وأنجز وعده، وإن قال صدق في قوله، فلا تسوقه العاطفة والهوى أن يكذب على هذا ويغش هذا، بل يعامل من تحت يده ومن هو المسؤول عنهم بالصدق في الأحوال كلها، فيعطي كل ذي حق حقه عن أمانة وديانة، إن ائتمن ـ فهو على المال ـ وجدته الأمين الصادق الذي يخاف الله ويرجوه، وإن ائتمنه على السِرِّ وجدته الصادق في حفظ الأسرار، وإن استشرته وجدته الصادق فيما يشير به، والناصح فيما ينصح، إنه المؤمن حقًا الذي تحلى بالأخلاق الفاضلة، ((ولا يزال الصدق يهدي إلى البِرَّ، والبِرُّ يهدي إلى الجنة، ولا يزال العبد يتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا)) [4].
تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك فلما رجع النبي من غزوة تبوك إلى المدينة، اعتذر من اعتذر من المنافقين، وقالوا قولاً كذب وافتراءً، وكعب بن مالك أبان الحق وقال: والله، ما هناك سببًا يدعوني إلى عدم الخروج، وما ذاك عن نقص في إيماني، لا، ولكن أمر قضاه الله وقدره. وجاء للنبي قائلاً: يا رسول الله، إني صدقتك فأرجو الله أن ينجيني الله بالصدق، وليعلم الله أني صاحب جدل استطيع أن أكذب كذبا ترضاه عني، ولكن أخشى أن يسخط الله علي، فنجاه الله بصدقه وتاب عليه بصدقه، فالصدق فيما يقول : ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) [5] ، فالصدق طمأنينة والكذب ريبة.
أيها المسلم، فأعظم الكذب أن تخبر عن الله بما لم يقل، أو تنسب إلى نبينا ما لم يقل، ففي الحديث: ((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)) [6] ، والله يقول: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ [الأنعام:93].
ومن الكذب: أن تخبر الناس بأخبار لا أصل لها ولا صحة لها، تَثَبَّتَ فيما تُخبر فكفى بامرئ كذبًا أن يحدث بكل ما سمع. من أنواع الكذب والمخالفة للصدق أن تفشي إشاعات باطلة، وترجف بأقوال كاذبة لا أصل ولا صحة لها، فليحذر المسلم أن يكون كذلك.
إن الصدق خلق للمسلم ينال به ثواب الله والعِزَّة في الدنيا، قال الله: هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119]. فكن مع الصادقين أخي المسلم، كن مع الصادقين؛ فالصدق نجاة لك، ولا تقل الكذب سلعة رائجة، والصدق صعب، الصدق هو الحق وإن تحملت شيئًا فالعاقبة للصادقين، وأما الكذب فعاقبته النار. نسأل الله لنا ولكم السلامة والهداية.
أيها المسلم، الزم الصدق وكن صادقًا في الظاهر والباطن، كم أناس خدعوا الناس فتظاهروا بالصلاح والتقى، وأنهم الصادقون في أحوالهم كلها، انخدع بهم بعض الناس، فربما خطبوا من رجل ابنته فزوجه نظرًا لما يتحرى فيه من الخير والهدى، ويسمع من الأقوال الطيبة، فما هو إلا أن يكتشفوا سَبُعًا ضاريًا لا يقيم للنكاح قدرًا، ولا يعرف للزوجة حقًا، خلق سيء وتعامل سيء، وظلم وعدوان. كم ينخدع الناس ببعض أناس تزعموا شركات ومساهمات وأمور مالية، فظن الناس بهم الخير ووثقوا بهم، فما هو إلا أن انقلبوا لصوص يسرقون وينهبون ويتكاثرون بالحرام، ويهربون عن الناس، ويبدون من الأعذار والأشياء ما الله به عليم، والله يعلم أنهم كاذبون في ذلك. كم من متظاهر بالصلاح وكاتب كتابات يرى أنها إصلاح وخير، وهو يعلم في باطن أمره أن ما كتبه باطل وضلال، فليحذر المسلم وليخش من الله، وليتذكر قول الله: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب. فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في البيوع (2079)، ومسلم في البيوع (1532)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
[3] هذا النص مركب من حديثين: الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات (2287)، ومسلم في المساقاة (1564)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والثاني قوله : ((لَيّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته)) علّقه البخاري في الاستقراض، باب: لصاحب الحق مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية (3628)، والنسائي في البيوع (4689)، وابن ماجه في الأحكام (2427)، من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5089)، والحاكم (4/102)، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62).
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6094)، ومسلم في البر (2607)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في المغازي (4418)، ومسلم في التوبة (2769)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في المقدمة (3)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من أعظم الكذب والفرية أن ينسب إلى الإسلام ما الإسلام بريء منه، فكم من متقولين على الإسلام ومحملين الإسلام أمور، الإسلام ضدها وتعاليمه تخالفها، نسبوا إلى الإسلام ـ ظلمًا وعدوانًا ـ: أن الإسلام دين الإرهاب، ودين التعدي وسفك الدماء وظلم العباد، ويأبى الله ذلك. الدين الإسلامي دين الحق والرحمة والعدل، والصدق والوفاء، بعيد عن الضرر والأذى، دين الإسلام جاء لحقن الدماء، وأن الدماء المعصومة من مسلم لغيره لا يجوز التعدي عليها بغير حق، جاء الإسلام ليحفظ العهود والعقود ويراعي العهود والأمانات والذمم، فالإسلام برئ من كل ما نسب إليه أعدائه الذي يحاولون تشويه صورته، وأنه دين الإرهاب والظلم والعدوان، وإنهم كاذبون في ذلك؛ لأنهم يعلمون كذبهم، فالإسلام دين الصدق والوفاء واحترام العقود والوفاء بالعهود، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون: 8].
أيها المسلم، المسلم عندما يرى حب وطنه فهو صادق في ذلك، نعم صادق يحب وطن الإسلام فيدافع عنه بكل ممكن، ويرى أن كل ضرر يصيب بلاد الإسلام يراه ضرر حائط به، فتراه يحمي بلاد الإسلام عن كل مبدئ خطير، وعن كل رأي ضال، وعن كل فكر منحرف، لا يعين المفسدين ولا يستر على المجرمين، ولا يقيم الأعذار للمنحرفين، وإنما هو صادق في حب وطن الإسلام، يدعوا المنحرفين إلى الحق ويرشدهم إلى الهدى، لا يضحى ببلاد الإسلام لمصالح مادية أو مصالح ذاتية، هو أرفع من ذلك فوطن الإسلام غال في نفسه، يدافع عنه بكل مستطاع، وهو عين ساهرة على أمنه واستقراره، على دينه وقيمه وأخلاقه، على قيادته وانتظام حاله، هكذا المسلم المحب لبلاد الإسلام، والصادق في وطنيته ليست دعوى فقط ولكن منبثقة عن إيمان، يحب أهل الإسلام ويواليهم، ويحب أوطان المسلمين ويدافع عنهم، ويبغض كل من أراد الشر بالإسلام وأهله، سواء في المعتقد أو في القيم والسلوك، فلا يقر مجرمًا على إجرامه، ولا يتستر على مفسد في فساده، وإنما هو دائمًا ناصحًا لله ولكتابه ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، يحمي بلاد الإسلام من كل من يريدها بسوء مهما كان حاله؛ لأن محبته لوطن الإسلام محبة صادقة منبثقة عن إيمانه الصادق، فهو يحب الله ورسوله ودينه، ويحب إخوانه المسلمين، ويحب أوطان الإسلام، فلا يرضى لها بالنقص من أي إنسان كائنًا من كان، هكذا الصدق في محبة وطن الإسلام، صدق حقيقي لا مجرد تظاهر، والله يعلم منه خلاف ذلك.
أيها المسلمون، اعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد...
(1/4258)
ملك يُودَّع وملك يُبايع
فقه
الجنائز
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
30/6/1426
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ التوحيد الخالص والعقيدة الصافية من أهم المطالب الشرعية 2- سعي النبي صلى الله عليه وسلم لحماية جانب التوحيد طوال حياته 3- وقوع الخطأ مقرون بحالتي الفرح أو الحزن 4- فاجعة وفاة خادم الحرمين الشريفين 5- الزجر عن النياحة والتأكيد على الصبر حال المصائب 6- الواجب الشرعي على المسلمين عند وفاة إمامهم وبيعة إمام جديد.
_________
الخطبة الأولى
_________
فأعظم الوصايا هي الوصية بتقوى الله، فلا فلاح ولا صلاح للناس إلا بتقوى الله، فمن اتقى الله سعد في الدنيا والآخرة ، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]
أيها الناس : الحياة الدنيا سائرة وماضية إلى قيام الساعة، لا يضرها أحداث أو متغيرات، فهذه الدنيا على عظمها وكبرها لا يؤثر فيها شيء من متغيرات الحياة ، ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته))
لكن متى ما أخل الناس بأمر هو عماد حياتهم الدنيا، فعند ذلك يزول عنهم كل ما كانوا يجدونه في هذه الدنيا من نعيم.
التوحيد الخالص والعقيدة الصافية هو الأساس الذي قامت عليه الحياة الدنيا ، فما قامت السموات والأرض إلا عليه، والجن والإنس ما خُلقوا إلا لأجله، إنه توحيد العبادة لله وحده، والبراءة من الشرك كله أصوله ومقدماته.
حتى إذا أراد الله قيام الساعة؛ فإنه لا يبقى في الأرض من يقول : الله، الله ، كما ثبت في الحديث ، وكل ذنب فعسى الله أن يتجاوز عن صاحبه إلا من مات مشركاً مع الله غيره إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيداً [النساء: 116]، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72].
عباد الله : ما بُعث نبيٌ من الأنبياء ليدعو الناس إلى أمور الدنيا أو الركض وراء حطامها، إنما بعث لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى? رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [الشعراء: 109]
على هذا سار جميع أنبياء الله ورسله إلى أن ختمهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي كان دينه خاتم الأديان، وأنزل الله عليه كتاباً من أوله إلى آخره يدعو إلى توحيد الله وإخلاص العبادة لله وحده، وينهى عن الشرك بكل صوره وأشكاله.
وإن الناظر عباد الله في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يراه من مبتدأ حياته إلى أن توفاه الله وهو يحامي عن هذه العقيدة ويطهرها من كل ما يدنسها أو يلوثها ، تنازل عن بعض الأمور مراعاة لمصالح المسلمين لكنه لم يتنازل أو يتهاون في أمر التوحيد: قُلْ ي?أَيُّهَا ?لْكَـ?فِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَـ?بِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ [سورة الكافرون] قُلْ ي?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ تَعَالَوْاْ إِلَى? كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ?للَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ [آل عمران: 64].
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفي يده حلقة من صفر فقال : ((انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا ، فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا)) رواه أحمد ، وروى أحمد والحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((من علق تميمة فقد أشرك)) وسمع رجلاً يحلف بأبيه فقال : ((لا تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)) أخرجاه في الصحيحين ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه أحمد والترمذي وأبو داود.
ولما كان صلى الله عليه وسلم في طريقه قافلاً من حنين، مرّ بشجرة يقال لها ذات أنواط يعلق المشركون عليها أسلحتهم فقالوا يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله أكبر هذا كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة ، لتركبن سنن من كان قبلكم)) رواه ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي.
وهكذا ما ترك محمد صلى الله عليه وسلم باباً يفضي إلى الشرك إلا أغلقه وزجر عنه ، لكن كلما قلّ في الناس العلم وقلّ تمسكهم بهديه صلى الله عليه وسلم؛ كلما كان الخلل والزيغ، وإن من أكبر ما يجرف الناس إلى الوقوع في الزلل ويقربهم من الخطل ما يصيبهم من عوارض الدنيا، لذلك أُثر عن بعض السلف أنه قال : الناس يخلون بالتوحيد في موضعين : في أيام فرحهم وأيام حزنهم ، ولذلك كان يقال : إن العاقل يفعل يوم المصيبة ما يفعله المجنون في شهر.
نعم ، إن الناس حال فرحهم أو حال حزنهم تعرض لهم من العواطف والمشاعر التي جبل عليها بنو البشر ما يغلق على أفهامهم أو ينسيهم صوابهم، فيغضوا الطرف عن أمور قد تخل بعقيدتهم أو يرتكبوا أموراً قد تكون بداية لطريق من طرق الشرك.
وأوضح مثال على هذه القاعدة قصتين من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته ، روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر صبي لها فقال : ((اتقي الله واصبري)) ، قالت : إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، ولم تعرفه صلى الله عليه وسلم، فقيل لها : إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت إليه فلم تجد عنده بوابين، فقالت : يا رسول الله، لم أعرفك، فقال صلى الله عليه وسلم : ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))
ولما أحس النبي صلى الله عليه وسلم بقرب أجله خاف على الناس الشرك ، تقول عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين : لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصةً له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها، فقال : وهو على ذلك : ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا)) ويقول جندب بن عبد الله رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ يقول : ((ألا إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك)) رواه مسلم.
لقد خاف صلى الله عليه وسلم أن يجرّ حزن الصحابة على وفاته إلى الغلو فيه، وإنزاله فوق قدره الذي جعله الله عليه، ولذلك فقد استجاب الله دعاء نبيه صلى الله عليه وسلم فما فِعْلُ أبي بكر رضي الله عنه بعد فجيعة الصحابة بوفاة نبي الله صلى الله عليه وسلم إلا أكبر شاهد على ما ينبغي أن يكون عليه المسلم عند الفواجع والمصائب، فقد كان الصحابة بين مصدِّق ومكذب بوفاة رسول الله من هول ما أصابهم، حتى خرج عليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر: 30] وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران: 144] يقول الراوي : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت حتى تلاها أبو بكر يومئذ وأخذ الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم.
أيها الأخوة المؤمنون : هكذا ينبغي أن نكون عند وفاة العظماء من حكام وعلماء، وإن ما أصيبت به هذه البلاد من وفاة إمامها لهو فاجعة كبيرة، ومصاب جلل يحس به كل مسلم، لكنّ عزاءنا أننا أمة عظيمة لها كتاب وسنة لا يحملنا حزننا على أن نقع فيما حرمه الله علينا، فهاهو قد مات وودعته الأمة قاطبة، شاهدةً له بما قدم، داعيةً له بحسن الوفادة على ربه، لم يحملنا حبنا له أن نرفعه فوق قدره الذي له، فلسنا أشد حباً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا أن نفعل شيئاً يكرهه الله ورسوله فلقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)).
عباد الله : إن من النصوص الشرعية التي جاءت بوعيد شديد وتغليظ في العبارة ما ورد في البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال : ((ثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب والنياحة على الميت)) يقول شُرّاح الحديث : معناه أن هاتين الخصلتين قائمتان بالناس لا يسلم منهما إلا من سلمه الله ورزقه علماً وإيماناً يستضيء به.
وانظروا تلك العقوبة التي توعد الله بها النائحة على الميت، يقول صلى الله عليه وسلم : ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) رواه مسلم ، وما هذه العقوبة إلا لأنها لم تسلِّم لقضاء الله وقدره.
أيها الأخوة : إن من المطالب الشرعية الأكيدة؛ الصبر عند المصيبة ، يقول الله سبحانه : وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لاْمَوَالِ وَ?لاْنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة: 155 ـ 157]
وفقنا الله جميعاً لما يرضيه وجنبنا جميعاً أسباب سخطه ومعاصيه.
أقول ما قد سمعتم واستغفر الله فاستغفروه إنه رب غفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي العز والجبروت، حي لا يموت ، بيده مقادير الخلق كتب أعمارهم وآجالهم وأرزاقهم قبل أن يخلقهم، وهو على كل شيء قدير ، أحمده وأشكره وأثني عليه وأستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله مع الجماعة ومن شذ شذ في النار.
أيها الناس : إن الواجب الشرعي على المسلمين في ظل وفاة إمامهم وبيعة إمام جديد ثلاثة أمور :
أولها : إكمال واجبهم تجاه الإمام السابق وذلك بالدعاء له بالمغفرة والرحمة وأن يتجاوز الله عنه، وأن يكافأه الله على ما قدم للمسلمين خيرا، وأن يجبر مصاب المسلمين به وأن يخلف على المسلمين خيراً منه ، لأن الإنسان مهما بلغ من الملك والرفعة فإنه لن يبقى معه بعد وفاته إلا ما حدده صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، أو ولداً صالحا تركه أو مصحفاً ورثه أو مسجداً بناه أو بيتاً لابن السبيل بناه أو نهراً أجراه أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته)) رواه ابن ماجه واللفظ له وابن خزيمة والبيهقي بإسناد حسن
وإن من أحق حقوقه على المسلمين الدعاء له وسؤال الله المغفرة والرحمة. فأكثروا من الدعاء لإمام كان عطاؤه عليكم كثيراً، وشواهد أعماله لا تنكر، فلقد أفضى إلى رب رحيم ، فاللهم عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه كن لعبدك فهد بن عبد العزيز، أحسن وفادته وأكرم نزله وأسكنه منازل الصديقين والشهداء، وأخلفه في أهله وماله.
الثاني : لزوم بيعة الإمام الجديد الذي تثبت ولايته إما بتولية من قبله له، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في توليته الخلافة من بعده لعمر بن الخطاب، أو بتوليته من قبل أهل الحل والعقد كما فعل الصحابة ممن خصهم عمر باختيار الخليفة من بعده، فإذا ثبتت البيعة كما حصل في هذه البلاد من مبايعة الملك عبد الله بن عبد العزيز لزم جميع أهل البلد مبايعته والسمع والطاعة له.
يقول القرطبي في المفهم : ومن تأبّى عن البيعة لعذر عذر، ومن تأبّى لغير عذر جُبر وقُهر لئلا تفترق كلمة المسلمين وهذه البيعة تسمى بيعة الأمراء وسميت بذلك لأن المقصود بها تأكيد السمع والطاعة وعدم الخروج والافتيات على الإمام كما في حديث عبادة ((بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله)) رواه البخاري ومسلم.
وأما من كان من أهل الحل والعقد والشهرة فبيعته بالقول والمباشرة باليد إن كان حاضراً، أو بالقول والإشهاد عليه إن كان غائباً، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن دينار قال لما بايع الناس عبد الملك بن مروان كتب إليه عبد الله بن عمر: إلى عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إني أُقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت وإن بنيّ قد أقروا بذلك.
وأما بقية الناس فليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل أحد، يقول القرطبي : ليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل من يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين، فإن هذا الاشتراط مردود بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم سابقهم ولاحقهم. أ.هـ
فمن هنا نعلم عباد الله أنه بمبايعة وجهاء هذه البلاد من أمراء وعلماء وأعيان قبائل وأسر للملك عبد الله فقد ثبتت بيعته في عنق الجميع ووجب على جميع الناس في هذه البلاد السمع والطاعة له وتطبيق تلك النصوص التي وردت في السنة النبوية بشأن طاعته وتحريم الخروج عليه فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايعَ رجلٌ على بيع الله ورسوله ثم يُنصب له القتال)) وفي صحيح مسلم عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)).
أيها الناس : أما ثالث الأمور الواجبة على الناس تجاه إمامهم الجديد فهو ألزم شيء عليهم وهو الدعاء له بالصلاح والتوفيق والتسديد فأكثروا من الدعاء لولي أمركم فإن بصلاحه صلاح البلاد والعباد، ذكر الطرطوشي في كتابه سراج الملوك أن الفضيل بن عياض قال : لو ظفرت ببيت المال لأخذت من حلاله وصنعت منه أطيب الطعام ثم دعوت الصالحين وأهل الفضل من الأخيار والأبرار فإذا فرغوا قلت لهم : تعالوا ندعو ربنا أن يوفق ملوكنا وسائر من يلي أمرنا.
وقال الفضيل أيضا : لو كان لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان.
فالزموا نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم واتبعوا طريقة صحابته وعليكم باجتماع الكلمة وألحوا في الدعاء لإمام جديد أن يلهمه الله التوفيق في قوله وعمله ، اللهم وفق ولي أمرنا وسدده وارزقه بطانةً ناصحة تدله على الخير وتعينه عليه يا حي يا قيوم.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم.....
(1/4259)
عبرات المقلتين في وفاة خادم الحرمين
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الموت والحشر, تراجم, معارك وأحداث
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
30/6/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت نهاية كل حي. 2- الفاجعة العظيمة بوفاة الملك فهد بن عبد العزيز. 3- لئن مات الفهد فإن أعماله العظيمة ماثلة خالدة. 4- مبايعة الملك عبد الله بن عبد العزيز في جو من الأمن والاتفاق. 5- أهمية البيعة في الشريعة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فإنها أمانٌ عند البلايا، وذُخْرٌ عند الرزايا، وعصمة من الدنايا، فاتقوا الله رحمكم الله، ولا تغرّنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنّكم بالله الغَرُور. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، ما كان حديثًا يُفترَى، ولا أمرًا يُزْدَرَى؛ أنّ هذه الدار دار امتحان وابتلاء، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وأنّ حقيقتها ظلّ زائل، وعَرَض حائل، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39].
ومن يذق الدنيا فإني طَعِمْتُها وسِيق إلينا عَذْبُها وعَذَابُها
فلم أرها إلا غرورًا وباطلاً كما لاح في أرض الفَلاة سَرَابُها
معاشر المسلمين، الحقيقة الحاضرة الغائبة أنّ الموت في هذه الدنيا نهاية كل حي، وختام كل شيء، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
وما الدهرُ إلا كَرُّ يومٍ وليلةٍ وما الموت إلا نازِلٌ وقريبُ
كأس الموت المُتْرَعَة يتجرّعها كل البشر، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، تَحَسَّى مرارته الأنبياء والأولياء، والعلماء والنبلاء، والعظماء والزعماء، بل كل صغير وكبير، وغني وفقير، ومأمور وأمير.
حُكْمُ المَنِيَّةِ في البرِيَّة جارِي ما هذه الدنيا بدار قَرَارِي
فالعَيْش نومٌ والمنيَّة يَقْظَةٌ والمرء بينهما خَيال سارِي
*****
خُلِقنا للحياة وللمماتِ ومن هذين كل الحادثاتِ
ومن يولَد يَعِش ويمتْ كأنْ لم يمرَّ خيالُه بالكائناتِ
قضاء نافِذ، وحكم شامِل، وأمر حَتْم لازِم، لا مهرب منه ولا مفرّ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ [القيامة:12]، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
إخوة الإيمان، ولئن كانت مصيبة الموت بعامّةٍ كبيرة، والفاجعة بالفَقْد عظيمة؛ فإن الرزِيّة تكون أعظم وقْعًا، وأكبر أثرًا، حينما تكون بفَقْد ولي أمر المسلمين، وإمام عظيم من أئمة الإسلام، وقائد فَذّ من أبرز قادة الأمة الإسلامية.
لَعَمْرُكَ ما الرزِيَّة فَقْدُ مالٍ ولا شاةٌ تموتُ ولا بَعِيرُ
ولكنّ الرزِيَّة فَقْدُ شَهْمٍ يموت بموته بَشَرٌ كثيرُ
*****
وما كان قيسٌ هُلْكُهُ هُلْكُ واحدٍ ولكنّه بُنْيَان قومٍ تَهَدَّما
يؤكّد ذلك ـ أيها المسلمون ـ في الوقت الذي:
طوى الجزيرةَ حتى جاءني خبرٌ فَزِعْتُ فيه بآمالي إلى الكذبِ
شَرِقْتُ بالرِّيقِ حتى كاد الرِّيقُ يَشْرَقُ بي
في حَدَثٍ هزّنا خبُرُه، وأفزعنا نبؤه، خبرٍ عزّ علينا مَسْمَعُه، وأثّر في قلوبنا مَوْقِعُه، خبرٍ تألمّت له المسامِع، وسُكَبت من أَثْره المَدامِع، وارتجّت من هَوْله الأضالِع، نبأٍ كادت له القلوب تتفَجّع، والنفوس تتوجّع، فقد كان من الحزن أن تعجز الألسن عن ذكره، وتتضاءل الكلمات عن وصفه، نبأ أشخص النَّبَرَات، وأذرف العَبَرات، وأورث الحسرات، وأطال الزَّفَرات، من أكباد حَرَّى، ومُقَلٍ شَكْرَى، وأنّات تَتْرَى.
يا لَوْعَةً لا يزال لاعِجُها يَقْدَحُ نارَ الأسى على الأكبادِ
*****
مَنْ لقلبٍ شَفَّهُ الحَزَنُ ولنفسٍِ ما لها سَكَنُ
إنه الخَطْب العظيم، والمُصاب الجَلَل، والفاجعة العُظْمَى، والمصيبة الدَّهْيَاء، في فَقْد الأمة إمامها ووليّ أمرها، فعليه فلتبكِ البواكي، رحمه الله رحمة الأبرار، وألحقه بعباده المصطفَين الأخيار، وأسبغ عليه الرحمة والغفران، وأمطر على قبره شآبيب العفو والرضوان، وجعل مستقرّه الفردوس الأعلى في الجِنان، وجمعنا وإياه وسائر المسلمين مع النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، ورفع درجته في المهديين، وبوّأه الدرجات العُلا في علِّيين، وأخلفه في عَقِبه في الغَابِرين، وجزاه خير الجزاء على ما قدّم للإسلام والمسلمين، وأثقل بها له الموازين، اللهم آمين، اللهم آمين.
إخوة العقيدة، ومع فَدَاحة المصيبة، وعِظَم الفَجِيعة، فلا يملك المسلم حيالها إلا الرضا والتسليم، والتذرُّع بالصبر والاحتساب.
اصبر لكلّ مصيبة وتجلّدِ واعلم بأنّ الموت غيرُ مُخَلِّدِ
وإذا أتتك مصيبةٌ تَشْجَى بها فاذكر مُصَابك بالنبي محمدِ
فلم يعرف التاريخ فاجِعة أعظم من فَقْد المصطفى عليه الصلاة والسلام، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته فيّ)) [1].
فلله ما أعطى ولله ما جَرَى وليس لأيام الرَّزِِيّة كالصبْرِ
*****
هوَّنْ عليك ولا تُوْلَعْ بإشْفَاقِ فإنما مالُنا للوارِثِ الباقِي
كما ينبغي ـ يا رعاكم الله ـ حُسن العزاء، وعدم التسخّط والجَزَع.
أيتها النفسُ أَجْمِلِي جَزَعًا إنّ الذي تحذَرِين قد وَقَعَا
عزاء ليس يَلْفِظُهُ جازِع، ورثاء ليس يَنْطِقُهُ طامِع.
إني أُعَزِّي لا أنّي على ثِقَةٍ من الحياة ولكن سُنَّةُ الدِّينِ
ليس المعَزَّى بباقٍ بعد ميّتِهِ ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حينِ
أمة الإسلام، ولئن غاب فقيد الأمة الإسلامية في شخصه وذاته فإنه لم يغب في أفعاله وصفاته.
قد مات قومٌ وما ماتت مَكارِمُهُمْ وعاش قومٌ وهمْ في الناس أمواتُ
*****
لَعَمْرُكَ ما وَارَى الترابُ فِعَالَهُ ولكنّه وَارَى ثيابًا وأَعْظُمًا
فلله دَرُّه، ما أجمل صنائعه! وما أجلّ مكارمه! فلقد كان نَسِيجًا وحده، وطرازًا بمفرده.
ردّت صنائعُهُ عليه حياتَهُ فكأنّه من نَشْرِها مَنْشُورُ
*****
فإنْ يُكَ أَفْنَتْهُ الليالي فأوشكتْ فإنَّ له ذِكْرًا سيُفْنِي الليالِيَ
شاهِدُ ذلك بجلاء تلك الأعمال الفريدة: الحرمان الشريفان حرسهما الله، اللذان شهدا في عهده رحمه الله أكبر توسعة عرفها التأريخ، ملايين النسخ من المصحف الشريف طُبِعت ووزِّعت في جميع أقطار المعمورة، سائلِو المساجدَ والمدارس والجامعات والمراكز الإسلامية والصروح الحضارية ومعاقل التربية وقلاع التعليم؛ فسَتَنْطِقُ شاهدة على أعماله الجليلة، ومآثره العظيمة.
فارْفَعْ لنفسك بعد موتك ذكرها فالذكرُ للإنسان عُمْرٌ ثاني
تبكيه ـ رحمه الله ـ قضايا المسلمين الكبرى، وفي مقدمتها قضية فلسطين والأقصى، والأقلّيات الإسلامية في شتّى أنحاء العالم. فَسَجِّلْ يا تأريخ، واشهد يا عالم، وسَطِّرِي يا أقلام، واكتبي يا مِدَاد بأحرف من نور وفاء بحقّ فقيد الأمة الإسلامية، وذِكْرًا لمحاسنه، أداءً لبعض حقّه علينا، رحمه الله رحمة واسعة.
فالمشْرِقان عليه ينْتَحِبانِ قاصِيهما في مَحْزِنٍ والدّانِ
يا خادمَ الحرمين أجرُ مجاهدٍ في الله من خُلْدٍ ومَن رِضْوَانِ
نسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، أن لا يحرمه ثواب ما قدّم للإسلام والمسلمين بمنّه وكرمه، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول.
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم الذي إذا دُعِيت به أجبت، وإذا سُئلت به أعطيت؛ أن تحسن عزاء الجميع، وأن تخلف عليهم الخَلَف المبارك، وأن تجبر المصاب، وتغفر للفقيد. والحمد لله على قضائه وقدره، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلّ شيء عنده بأجل مسمّى.
وإننا من منبر المسجد الحرام لنرفع باسم المسلمين جميعًا أحرَّ التعازي وأصدق المواساة إلى مقام ولاة أمرنا وفّقهم الله، والأسرة الكريمة، وأبناء هذه البلاد خاصة، وأهل الإسلام بعامّة، سائلين الله أن يُلْهِم الجميع الاحتساب والصبر، وأن يعظم لهم المثوبة والأجر، وأن لا يُرِي الجميع مكروهًا في عزيز لديهم.
ألا فليرحم الله فقيد الأمة الإسلامية، وليجزه خير الجزاء كِفَاء ما أبدى، ولقاء ما أسدى، وجزاء ما قدّم وأعطى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155ـ157].
بارك الله لي ولكم في آي الكتاب، وبسنّة النبي الأوّاب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله الكريم الوهّاب لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، ذلكم الله ربي عليه توكلت، وإليه متاب.
[1] أخرجه الدارمي (1/53) من حديث مكحول عن النبي مرسلاً، وللحديث عدة شواهد يرتقي بها إلى الصحيح، انظرها في السلسلة الصحيحة للألباني (1106).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهّار، العزيز الغفّار. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هدم بالموت مَشِيد الأعمار، وأمر بالتزوّد لدار القرار، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلّى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها الإخوة الأحبّة في الله، وفي خِضَمّ المآسي والآلام تبرز فُلُول الآمال، وفي طَيّات المِحَنِ تبدو المِنَحُ، ومن مَخَاض الأتْرَاح تتوالد الأفراح، يقال ذلك تحدّثًا بنعم الله، وتذكيرًا بآلائه، فمع لَوْعَة الفراق تمّ الوفاق والاتفاق، ومع أسى الوداع تم الاعتصام والاجتماع، في مظهر فريد، ونسيج متميّز، ومنظومة متألّقة من اجتماع الكلمة، ووحدة الصف، والتفاف الأمّة حول قيادتها، بأعين دامعة، وقلوب مُبَايِعة، ومُبادَرة للبيعة الشرعية على الكتاب والسنة، بسلاسة وانسيابيّة ويُسر وتلقائيّة، قَلَّ أن يشهد لها التأريخ المعاصر مثيلاً.
وهذا بحمد الله ومَنّه يُعدّ من عاجل البشرى، وصالح العُقْبَى، في عصرٍ اتّسم بالتموّجات والاضطرابات، مما شفى صدور المؤمنين، وخيّب ظنون المُرْجِفين الذين يُساوِمون على استقرار هذه البلاد المباركة، ويراهنون على أمنها وثباتها ورسوخها، مما يؤكد مكانتها، ويبرز ريادتها، إسلاميًّا وعالميًّا ودوليًّا، وإنها لا تزداد مع أحلك الظروف ومع أشد الأزمات إلا حَمِيميّة وتماسكًا وتلاحمًا، فلله الحمد والمنة.
وبهذه المناسبة فإننا نجدّد ونؤكّد البيعة الشرعية لولاة أمرنا وفّقهم الله، على كتاب الله وسنة رسوله ، بيعة مخلصة، وولاءً صادقًا، على السمع والطاعة بالمعروف في العُسْر واليُسْر، والمَنْشَط والمَكْرَه، امتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ، واستنانًا بسنة رسوله ، يقول الله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:10]، قال أهل العلم: وهذه الآية وإن كانت نزلت في بيعة رسول الله فإن البيعة لمن بعده من ولاة أمر المسلمين داخلة في عمومها. وهذه الآية الكريمة نصٌّ في وجوب البيعة وتحريم نقضها ونكثها، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10].
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه: ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةٍ جاهلية)) [1] ، وفي حديث عبادة : (بايعْنا رسول الله على السمع والطاعة في عُسْرِنا ويُسْرِنا، ومَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا، وأَثَرَة علينا، وأن لا نُنازع الأمر أهله) الحديث خرّجه مسلم في صحيحه [2].
فالبيعة قرّرتها الشريعة، وأوجبتها نصوص الكتاب والسنة، وحكى الإجماع عليها غير واحد من أهل العلم، فهي أصل من أصول الديانة، ومَعْلَم من معالم المِلّة ومنهج السنة، يجب التزامها والوفاء بها؛ لأنها أصل عقدي، وواجب شرعي. يقول الإمام النووي رحمه الله: "وتنعقد الإمامة بالبيعة"، ويقول العلامة الكِرْماني رحمه الله: "المبايعة على الإسلام عبارة عن المعاقدة والمعاهدة عليه". ولذلك فإنا نوصي المسلمين جميعًا بلزوم البيعة لولي الأمر على الكتاب والسنة ومنهج سلف هذه الأمة.
ألا وإنّ مما أبهج نفوس المسلمين تلك الكلمات النورانية المؤثرة لولاة أمرنا وفّقهم الله، وتأكيدهم على لزوم العقيدة، وتحكيم الشريعة، وإحقاق الحقّ، وإرساء العَدْل، واتخاذ القرآن دستورًا، والإسلام منهجًا، مما يسد الطريق أمام المصطادين في المياه العَكِرَة في جَرِّ هذه البلاد المباركة عن ثوابتها الشرعية، وزحزحتها عن أصولها ومبادئها الإسلامية.
إذا مات منّا سيدٌ قام سيدٌ قَؤُولٌ لأقوال الكرامِ فَعُولُ
ولا غَرْوَ، فهم قد ورثوا المآثر كابرًا عن كابر.
أعانهم الله، ووفّقهم لما فيه عزّ الإسلام وصلاح المسلمين، وجعلهم خير خلف لخير سلف، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
هذا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، كما أمركم بذلك ربكم جلّ وعلا، فقال في محكم كتابه، وجليل خطابه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1851) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[2] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1709)، وأخرجه أيضًا البخاري في الفتن (7056).
(1/4260)
وقفات وعبر في وفاة الملك فهد ومبايعة أخيه
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ, فقه
الجنائز, الموت والحشر, محاسن الشريعة, معارك وأحداث
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
30/6/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كل نفس ذائقة الموت. 2- الموت عظات وعبر. 3- لمحة موجزة عن تاريخ الدولة السعودية. 4- رحيل الملك فهد بن عبد العزيز ومبايعة أخيه الملك عبد الله. 5- أهمية البيعة ولزومها. 6- عظم نعمة الأمن والاستقرار حال انتقال السلطة. 7- هدي الإسلام في إكرام الميت ودفنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أهبط الله أبانا آدم أبا البشر للأرض، وقال له ولزوجته: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36]، فأخبرهم تعالى أنّ لهم في الأرض مستقرًّا، مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرى [طه:55]، وأنّ لهم فيها متاعًا إلى حين، متاعًا ليس دائمًا، متاعًا مُقدّرًا، عمرٌ مقدّر، أجل محدود لن يتأخّر عنه لحظة.
أيها المسلم، إن الله جلّ وعلا خلق الموت والحياة؛ ليبلونا أينا أحسن عملاً: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2].
أخي المسلم، هذا الموت مكتوب على كلّ فرد منّا، فهي نهاية كل حي: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
هذا الموت لن ينجو منه أحد مهما علت منزلته، لا الأنبياء والمرسلون ومن دونهم، قال الله لنبيه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:31]، وأخبرنا تعالى أنه لن يُعطَى أمان لأحد عن هذا الموت: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34، 35]، وأخبرنا تعالى أن هذا الموت لا فرار لنا منه: قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، وبيّن لنا ربنا أنّ هذا الأجل إذا حان فلا يمكن ردّه، ولن يستطيع أحد أن يوقفه: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11]، وأخبرنا تعالى عن عجز البشر كلهم عن تأخير ذلك: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87]، وفي الحديث القدسي يقول الله: ((ولا تردّدت عن شيء أنا فاعله تردّدي من قبض روح عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأكره إساءته، ولا بد له منه)) [1].
أيها المسلم، وهذا الموت فيه عظة للمتّعظ، وعبرة للمعتبر، ولذا يقول : ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) [2] ، ففي الإكثار منه تسلية، وفي الإكثار منه إنابة إلى الله، ورغبة فيما عند الله، واستعداد للقاء الله، ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
أيها المسلم، وهذا الموت يهدم أعمال الإنسان، هذا الموت يوقف أعمال الإنسان، وبموته تنقطع أعماله، وتُطوَى صحائف أعماله، ولن يُسمح لشيء يصحبه إلا عمله الذي عمله إن خيرًا وإن شرًّا، في الحديث: ((يتبع الميت ثلاث: أهله وماله وعمله، فيرجع الأهل والمال، ويبقى العمل)) [3] ، لا يفارقه دافنوه وهو يسمع قَرْع نعالهم حتى يأتيه الملكان فيسألانه عن ربه، عن دينه، عن نبيه.
أيها المسلم، ففي تذكّر الموت عظة للعبد وإيقاظ له من سِنَته وغفلته، وحث له على الازدياد من هذه الأعمال الصالحة، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
والمسلم أمام مصاب الموت صابر محتسب، في الحديث يقول : ((عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله لعجب؛ إن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له)) [4] ، وهو عند المصائب يرضى ويسلّم، ويتذكّر قول الله: وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155، 156].
ثم ليعلم أن هذا الموت لله فيه حكمة بالغة، فهو يتذكّره ليستبين له عظمة الله وقدرته على كل شيء، وأنه ملك الملوك، وربّ الخلائق أجمع، هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:65].
أيها المسلم، ولنلق نظرة سريعة على شأن هذه الدولة المباركة منذ تأسيسها إلى اليوم، نسأل الله لها الاستمرار على الخير والصلاح.
فمنذ أن نشأت دعوة الإصلاح المباركة في هذه الجزيرة على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وأيّده ووازره ونصره الإمام محمد بن سعود رحمه الله، وتعاهد الإمامان على القيام بالواجب؛ دعوة الناس إلى الخير، ربطهم بالصراط المستقيم، إعادتهم إلى المنهج القويم والصراط المستقيم، إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله ، إلى تطهير البلاد من أدران الشرك والوثنية، إلى دعوتهم إلى إخلاص الدين لله، وإلى تحكيم شرع الله وإلغاء أعراف الجاهلية وضلالاتها، وإلى العودة إلى المنهج الصافي كتاب ربنا وسنة نبينا ، فكانت تلك الاتفاقية منطلق الخير وما زالت حتى عمّ الجزيرةَ الخيرُ والهدى، واضمحلّ الشرك، وانطمست معالم الجاهلية، وعاد الناس إلى الخير والهدى بفضل الله ورحمته، فرحم الله الإمامين، وجزاهما عمّا قدّما خيرًا.
توالى على هذا الأمر أولاد الإمام محمد نهوضًا بهذه الدعوة، وقيامًا بالواجب، ثم جاء دور الإمام تركي بن عبد الله رحمه الله، فأعاد الناس إلى الحق أيضًا، وجاهد وصبر، وابنه فيصل كذلك، ثم جرى ما جرى، ولكنّ الله لطف بالعباد، ففي الأول من القرن الرابع عشر هيّأ الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله، وأيّده بنصره ووفّقه فقام بواجب عظيم بعدما تشتّت أمر البلاد، واضطرب الأمر، واختلّ النظام، وعاش الناس في فوضى، فأتى الله به ليصحّح هذه المسيرة، وليعيد الناس إلى نصاب الحق، وليؤمّن الجزيرة من كل الاضطرابات، وليجمع الشمل، وليوحّد الصفّ، ونهض المسلمون معه تأييدًا له وعونًا له، إلى أن يسّر الله الأمر، فأقرّ الله عينه بهذه الجزيرة، وقد انتظم شملها، واتّحد صفّها، وأصبحت ـ بتوفيق من الله ـ تحت قيادة حكيمة تحكّم فيها شرع الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتقيم حدود الله، وتؤمّن السبل إلى بيت الله الحرام، وإلى مسجد محمد ، وانتشر العلم والخير، وعمّ الرزق، فلله الفضل والمنة.
ولما انتقل رحمه الله إلى جوار ربه رحمه الله رحمة واسعة خلفه أبناؤه الملوك الذين تولّوا من بعده، وكل ترك لمسات في نهضة هذه الأمة لا تخفى، فالملك سعود والملك فيصل وخالد وخادم الحرمين فهد بن عبد العزيز رحم الله الجميع، كلٌّ أدّى رسالته، وكلٌّ أدّى واجبه، وكلٌّ قام بما استطاع، فرحم الله من مضى، وأصلح من بقي.
هذه البلاد قامت على أسس الخير والتقوى، هذه البلاد يحكمها ملوك من أبنائها بشرع الله ودينه، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، يقيمون حدود الله، ويؤمّنون السُّبُل، ويسعون فيما فيه راحة الأمة، والدفاع عن دينها، والدفاع عن خيراتها، وحماية الحرمين الشريفين، وخدمتهما والقيام بذلك خير قيام، مضى أولئك الملوك على أحسن حال، فالحمد لله رب العالمين.
وفي هذه الأيام رحل من بيننا فهد بن عبد العزيز غفر الله له، رحل من بيننا بعدما أمضى ما يقارب أربعة وعشرين عامًا في الحكم، كانت أيامه أيام خير وبركة ونعمة واستقرار وطمأنينة، وأيّده ولي عهده وإخوته على هذا المنهج العظيم، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عمّا قدّم للإسلام والمسلمين خيرًا.
أيها الإخوة، رحل من بيننا فهد بن عبد العزيز رحمه الله، وقد اعتصر الألم قلوبنا، وتأثّرنا تأثّرًا عظيمًا، ولكن برحمة الله سَلاّنا عن مصيبتنا، وهوّن علينا ذلك المصاب الجَلَل ما مَنّ الله به علينا من الاتفاق وهذا الاتحاد واجتماع الكلمة والصفّ، فهذه من أجلّ نعم الله علينا بعد نعمة الإسلام. بايع المسلمون في هذا البلد عبد الله بن عبد العزيز ملكًا عليهم، وثقوا بالله ثم به، وأعطوه عهودهم ومواثيقهم، بايعوه بيعة شرعيّة على كتاب الله وسنة رسوله ، والسير بهذا البلد بما سار عليه أبوه وإخوته الماضون، وبايعوا سلطان بن عبد العزيز وليًا لعهده، فهما رجلان معروفان، قاما بواجب كبير، وفّقهما الله، وأيّدهما بنصره، وصحبهما بالتوفيق في الحاضر والمستقبل، وبارك الله لهما في أعمارهما وأعمالهما، وجعلهما أنصارًا لدين الله، قائمين بشرع الله حق قيام، إنه على كل شيء قدير.
أيها المسلم، إن نعمة الأمن والاستقرار نعمة من أجلّ النعم بعد نعمة الإسلام، نعمة الاتفاق والتحام الصفّ، التحام الكلمة، اجتماع الأمة، فهي نعمة من نعم الله على المسلمين، إنّ ما أصاب المسلمين في دينهم أوّله اختلال الأمن والتسلّط على السلطة عندما قام الأراذل من البشر على قتل عثمان وهو الخليفة الراشد، فعاث الناس في دمائهم سنين عديدة، إلى أن جمعهم الله على يد أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان ، كل ذلك مما يعطي التصوّر على أن الأمن والاستقرار واجتماع الكلمة وقوة القيادة والتحامها أن هذا نعمة من الله للعباد، يعيش الناس في ظل الالتحام والاتفاق أمنًا واستقرارًا، يعبدون الله جلّ وعلا، ويسعون في مصالح دينهم ودنياهم آمنين مطمئنّين مستقرّين، يعلمون أنّ الله هيّأ لهم من يحمي بلادهم، ويدافع عن دينهم ودنياهم، ويسعى في إيصال الخير لهم، فهذه نعمة من الله.
البيعة أمرها عظيم، والبيعة تكون لأهل الحل والعقد، وكل المسلمين يبايعون بقلوبهم قبل أن تبايع أيديهم؛ لأن هذه البيعة أمر مستقرّ في نفس كل مسلم، ولهذا حذّر النبي المسلم من أن يلقى الله وليس في قلبه بيعة، فيقول : ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) ، وفي لفظ: ((لقي الله ولا حجّة له)) [5] ؛ لأن المسلم في قلبه حبّ الخير للمسلمين، حبّ اجتماع الكلمة وتآلف القلوب، الحرص على الأمن والاستقرار، السمع والطاعة في المعروف، فبها تنتظم الكلمة، ويجتمع الصفّ. الفوضى والعياذ بالله، وفقدان القيادة من أي مجتمع يحوّل هذا المجتمع إلى مجتمع فوضوي، وإلى مجتمع تنتهك فيه الأعراض، وتسفك فيه الدماء، وتُنهب فيه الأموال، وتتعطّل فيه السُّبُل، ويعيث الناس بعضهم بعضًا، وواقع الحال مشاهد فيما تنقله الأخبار، وتحمله لنا من أمور يعرفها كل أحد.
إن هذا البلد واستمرار أمنه واستقراره، وكونه يعيش في ظله فئات من المسلمين في أمن واستقرار ورعاية للعهود وحفظ للعقود كل ذلك ـ ولله الحمد ـ من رحمة الله علينا، والله جلّ وعلا قد ذكّر سكّان بيته الحرام بقوله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:66]، نعم يتخطّف الناس من حولنا، ونحن نسمع فقط، في أمن واستقرار وانتظام حال.
مضى فهد بن عبد العزيز رحمه الله وتولّى خليفته بعده الأمر والناس في أعمالهم وفي أسواقهم وما كأنّ شيئًا كان، ذلك أن هذه الأمّة قد رحمها الله بهذه القيادة، ومنّ عليها بهذه الحكومة الراشدة، زوّدها الله من التقوى، وبصّرها بالخير، وجعلهم أئمة هدى، إنه على كل شيء قدير.
فليحمد المسلمون ربهم على هذه النعمة، وليعرفوا قدرها، وليقوموا لله بحقها، وليحمدوا الله آناء الليل وأطراف النهار أن هيّأ لهم تلك النعمة، ومنّ عليهم بذلك الفضل، فلله الفضل والمنة أوّلاً وآخرًا، نسأله شكر نعمته وحسن عبادته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر والحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (5780)، والقضاعي في مسنده (671)، والبيهقي في الشعب (7/353) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال المنذري في الترغيب (4/118): "إسناده حسن"، وتبعه الهيثمي، وتعقّبهما الألباني بأن في إسناده رجلاً مجهولاً، لكن لشطره الأول شواهد يثبت بها، انظر: الإرواء (3/145-146).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6514)، ومسلم في الزهد (2960) من حديث أنس رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه.
[5] أخرجه والذي قبله مسلم في الإمارة (1851) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، من إكرام الله للمؤمن أن شرع تغسيله، تكفينه، ثم وضعه في قبره، قال تعالى: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21]، ففي قبر المسلم سِتْر له، وحفظ لجسده من أن تتلاعب به السباع، كلّ هذا من كرامة الله لهذا المسلم: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ [عبس:21].
وقف أمير المؤمنين عثمان بن عفان على القبر فبكى، قيل: ما يبكيك؟! تذكر الجنة والنار ولم تبك كبائك هذا! قال: سمعت رسول الله يقول: ((القبر أول منازل الآخرة؛ فمن نجى منه فما بعده أيسر منه)) [1].
أيها المسلم، هذا القبر هو مقرّ الإنسان بعد موته، يُنقل من فراشه وبيته، ويضعه أحبّ الخلق إليه في لحده، ويوسِّدُونه اللَّبِن، ويُهِيلُون عليه التراب، ويتركونه وشأنه، هذه سنة الله في خلقه.
محمد بن عبد الله سيد ولد آدم على الإطلاق، توفي ، ويوم وفاته أصاب أصحابَه الذهولُ، وأصابهم من الهمّ والغمّ ما الله به عليم؛ لتمكّن حبّه في سويداء قلوبهم، فلما بلغهم موته ما بين مكذّب وما بين ذاهل وما بين وبين، حتى قال عمر : ليخرجنّ رسول الله وليقطعنّ أيدي رجال وأرجلهم، فلما جاء الصديق ـ وكان أثبت الخلق عند المصائب وأقواهم إيمانًا ويقينًا ـ دخل على النبي في بيته فقبّله وقال: طبت حيًّا وميتًا، ولن يجمع الله لك بين الميتتين، أما الميتة التي قدّرها الله عليك فقد متّها، ولن يجمع الله عليك بين ميتتين. ثم خرج إلى الناس وأمر عمر أن يسكت، فخطب الناس فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. ثم قرأ عليهم قول الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُم [آل عمران:144]، وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، فكأنّ الصحابة لم يسمعوا بها إلا الآن، فخرجوا وهم يتلونها ويردّدونها، فلما انتهى الأمر اجتمع الصديق وعمر وكبار المهاجرين والأنصار في السقيفة، وما زالوا يتداولون بينهم، فما انتصف النهار إلا وقد أسرعوا بانتظام الأمر وبيعة الصديق خليفة لرسول الله ، فلما بايعه عمر وعثمان وكبار الصحابة، بايعه الباقون على المنبر ثاني يوم، فانتظم الأمر ولله الفضل والمنة [2].
وهذا طريق المسلمين في انتقال خلافتهم بالطرق الشرعية التي حصلت، وكما حصل لنا في هذه الأيام، فانتقلت السلطة على أحسن حال وأهدأ حال، فالحمد لله على كل حال، وفي كل حال.
أيها المسلم، محمد دُفِن في المكان الذي توفّي فيه؛ لأن الصحابة خافوا من إبراز قبره أن ينخدع به من ينخدع، قالوا: فلولا ذلك لأبرزوا قبره، غير أنهم خشوا أن يتخذ مسجدًا، حفروا له ولحدوا له، وكفنوه في ثلاث لفائف بيض، ليس فيها قميص ولا عمامة، وأنزلوه في اللحد، ونصبوا اللَّبِن عليه، ثم أهالوا التراب، ثم جلّلُوه بالحصباء، صلوات الله وسلامه عليه، ولم يرفعوا قبره إلا قدر شبر، هكذا صنعوا بمحمد وهو خير الخلق وسيد ولد آدم على الإطلاق.
إذن فقبور المسلمين ـ ولله الحمد ـ على هذا المنوال في قادتهم وسائر أفراد الأمة المسلمة، القبر واحد، ومظهره واحد، فلا غلو ولا رفع للقبور ولا مباهاة بها، ولكن يسلكون سنة رسول الله في الصلاة على ميتهم ومواراته في لحده، يحمدون الله على ذلك، ويسألون الله لميتهم المغفرة والرضوان، والتجاوز عن السيئات، ولذا النبي إذا دفن ميتًا وقف على قبره وقال: ((استغفروا لأخيكم، واسألوا الله له الثبات؛ فإنه الآن يُسأل)) [3] ، هكذا هدي الإسلام، فالحمد لله على موافقة السنة، فما يصحب جنائزنا مزامير ولا موسيقى ولا مدافع ولا ولا... ولكنها السنة المحمدية من المسجد إلى القبر اتباعًا لهدي محمد ، فالحمد لله على نعمة الإسلام.
[1] أخرجه الترمذي في الزهد (2308)، وابن ماجه في الزهد (4267)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (7942)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3550).
[2] أخرج القصة البخاري في المناقب (3670) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه أبو داود في الجنائز (3221)، والبيهقي في الكبرى (4/56) من حديث عثمان رضي الله عنه بنحوه، وصححه الحاكم (1372)، وحسنه النووي في الأذكار (212)، ورمز السيوطي لحسنه، وصححه الألباني في أحكام الجنائز (198).
(1/4261)
حق الراعي والرعية
الأسرة والمجتمع, الإيمان, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, خصال الإيمان, قضايا المجتمع
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
30/6/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت لا مفرَّ منه. 2- الموت أكبر واعظ وأعظم زاجر. 3- التعزية في وفاة خادم الحرمين الشريفين، وذكر بعض أعماله. 4- أهمية الاجتماع على إمام واحد. 5- من أصول الإيمان الطاعة لولي الأمر في غير معصية الله. 6- الحقوق المتعلقة بالراعي والرعية. 7- التحذير من مخالفات وبدع تقع في شهر رجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله حقّ التقوى تسعدوا دُنيًا وأُخرى.
معاشر المسلمين، من سُنَّةِ الله جلّ وعلا التي مضت في خلقه أن جعل الموت مَطَيّتهم من الدنيا إلى الأخرى، واقعٌ ما له دافِع، ولا مردّ له ولا شافِع، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]. لباسه لا يستثني مخلوقًا، وكأسه لا يترك جوفًا، الكُلُّ لكأسه شاربٌ، ولطعمه ذائق، والله المستعان. إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر:30].
الموت ـ عباد الله ـ مُفرّق الجماعات، وهادم اللذات، وقاطع الأُمنيات، كم أنزل راكبًا عن مركوبه الفاخر! وكم نقض بنيانًا شُيّدَ تشييدًا زاخرا! كم من أفراح جعلها همًّا وأتراحًا، وصيّرها غمًّا وآلامًا! فسبحان الله جلّت حكمته، وعظمت قدرته، وهو الحي الذي لا يموت! يقول الحسن رحمه الله: "إن الموت قد فضح الدنيا فلم يدع لذي لُبٍّ بها فرحًا"، ويقول مُطرّفٌ رحمه الله: "إن هذا الموت أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه، لقد أَمِنَ أهل الجنة الموت فطاب لهم عيشهم، وأمنوا الأسقام فهنيئًا لهم طول مقامهم". ويقول بعض السلف: "شيئان قطعا عني لَذَاذة الدنيا: ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله جلّ وعلا".
إخوة الإسلام، الموت أكبر واعظ وأعظم زاجر، ومن هنا أوصى النبي أمّته بالإكثار من ذكره: ((أكثروا من ذكر هاذم اللذات)) حديث صحيح [1]. ذلكم أن الموت يذكّر العبد أن هذه الدنيا دنيا يُفجَع فيها الواثق، ويُصرَع فيها المطمئنّ، سلطانها دُولٌ، وحلوها مُرٌّ، وعَذْبُهَا أُجَاجٌ، العزيز فيها مغلوب، والعظيم فيها أسير، وجودها إلى عدم، سرورها إلى حَزَن، وكثرتها إلى قِلّة، وعافيتها إلى سَقَم، وغناها إلى فقر، جاء عن النبي بسندٍ حسن أنه قال: ((فما ذكره ـ أي الموت ـ أحدٌ في ضيق من العيش إلا وسَّعَه، ولا في سَعَة إلا ضيّقها)) [2].
عباد الله، اذكروا الموت والسَّكَرات، وحَشْرَجَة الروح والزَّفَرَات، فما أَلَزْمَ عَبدٌ قلبه ذكر الموت إلا وهان عليه أمر هذه الدنيا. قال القرطبي: "قال الدقّاق: من أكثر من ذكر الموت أُكرم بثلاثة: تعجيل التوبة، وقناعة القلب، والنشاط في العبادة. ومن نسي الموت عوقب بثلاثة: تسويف التوبة، وترك الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة". فواجب على العقلاء أن يتّعظوا، وعلى الغافلين أن ينتبهوا، وفرض على المسلم أن يذكر الموت حق الذكر، بمحاسبة النفس بالأعمال والأماني، فرحم الله عبدًا أعتق نفسه من رِقِّ شهواتها، ونَظَرَ لها قبل مماتها، وأخذ من جِدَتِه عتادًا لفقره، وادَّخَر من صحّته زادًا لقبره. وقف النبي على شَفِير قبر ثم بكى حتى بَلَّ الثَّرَى، ثم قال: ((إخواني، لِمِثْلِ هذا فَأَعِدُّوا)) حديث حسن [3]. وسئل النبي : من أكيس الناس؟ فقال: ((أكثرهم ذكرًا للموت، وأشدهم استعدادًا له، أولئك هم الأكياس، ذهبا بشرف الدنيا وكرامة الأخرى)) رواه ابن ماجه والطبراني وسنده حسن [4].
أيها المسلمون، بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره، أُصيبت الأمة الإسلامية عامّة وبلاد الحرمين خاصة، بمصاب جَلَل وهو فقدان قائدها وإمامها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله، وغفر له، وأسكنه فسيح جناته، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وإنا لله وإنا إليه راجعون، لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمّى، وأحسن الله العزاء وأعظم الأجر للجميع.
عرفته الأمة رائدًا من روّاد التضامن العربي الإسلامي، عُرف بمدّ يده للمساعدة في الكوارث والمحن في كل مكان، دَعَمَ المسلمين وقضاياهم بما كان معلَنًا وغير معلَن، اهتم بالدعوة للإسلام ودعمها، شَيَّدَ المساجد، وأقام المراكز الإسلامية في أرجاء العالم، فجزاه الله خيرًا على ما قدّم. ولا غَرْوَ فهو القائل رحمه الله: "إن العقيدة الإسلامية هي الخير والبركة، والالتفاف حولها هو الأساس والقاعدة الأساسية، والمنطلق لهذه البلاد".
عرفته الأمة بنصرة قضية فلسطين والاهتمام بها، والانشغال بشأنها بحكمة وحِنْكَةٍ، له من المشاريع القيمة والأفعال الطيبة والمواقف المشرّفة ما يُذكَر فيُشكَر، فجزاه الله عن ذلك خير الجزاء، وأعلى درجته في جنات النعيم.
فمن مناقبه الكبرى: هذه التوسعة المشهودة للحرمين الشريفين، بما لم يشهد له التاريخ مثيلاً ولا نظيرًا، كيف وقد لقّب نفسه بخادم الحرمين الشريفين. ومن مآثره العظمى: تأسيس مطبعة للمصحف الشريف وترجماته؛ من أجل نشر الإسلام في أصقاع الأرض، ومن لا يَشْكُرِ الناسَ لا يَشْكُرِ الله، رحمه الله رحمة واسعة وأعلى درجته في المهديين.
معاشر المسلمين، بلاد الحرمين كانت ولا تزال ـ بحمد الله ـ تقوم على أساسها التي أسّست عليه، القرآن والسنة دستورها، والإسلام منهجها، قامت على تحقيق هذا الدين، والقيام بتوحيد رب العالمين، والالتزام بشرعه، والاعتصام بحبله، يتوارث ذلك قادتها، ويتواصون به كابرًا عن كابر. وإننا ـ وبحمد الله ـ وقد اجتمعت كلمتنا، وانعقدت بيعتنا الشرعية بالإمامة لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وبولاية العهد لأخيه الأمير سلطان بن عبد العزيز ببيعة شرعية على كتاب الله وسنة رسوله ، وهما ـ بحمد الله ـ خير خلف لخير سلف، فإننا حين إذن نذكّر أنفسنا جميعًا أن الدِّين بالسلطان يقوى، والسلطان بالدِّين يبقى، والصلاح للجميع في الدارين يتحقّق بتعاون الحاكم والمحكوم على البرّ والتقوى، وإقامة شرع الله وتنفيذ أحكامه وإقامة شرائعه. قال علي : (الناس لا يصلحهم إلا الإمام بَرًا كان أو فاجرًا). يقول بعض الحكماء: "السلطان زِمام الأمور ونظام الحقوق وقِوَامُ الحدود، والركن الذي عليه مدار الدين والدنيا، وهو حِمَى الله في البلاد، وظلّه الممدود على عباده، وبه يمتنع المجرم، وينتصر المظلوم، ويأمن الخائف". وفي كلام متين قوي يقول شيخ الإسلام ـ في السياسة الشرعية، رحمه الله رحمة واسعة، يقول ـ: "يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام لدين إلا بها؛ فإن بني آدم لا تتمّ مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس"، إلى أن قال رحمه الله: "فالواجب اتخاذ الإمارة دينًا وقربة يُتقرّب بها إلى الله جلّ وعلا، وإن انفرد السلطان عن الدِّين أو الدِّين عن السلطان فسدت أحوال الناس" انتهى [5].
فالتمسّك بالبيعة الشرعية لولي الأمر، والثبات عليها واجب شرعي ومطلب ديني، وهو ما تحقّق في هذه البلاد ـ بحمد الله ـ لولي أمر هذه البلاد الملك عبد الله، ولولي عهده بولاية العهد، فالبيعة لهما صدرت من رعيتهم من منطلق إسلامي وواجب ديني، فلله الحمد والمنة. يقول عبادة بن الصامت مخبرًا عن منهج أهل التوحيد، منهج صحابة رسول الله : (بايعنا رسول الله على السمع والطاعة، في مَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا وعُسْرِنا ويُسْرِنا، وَأَثَرَة علينا) الحديث متفق عليه [6].
وروى مسلم عن النبي أنه قال: ((من خَلَع يدًا من طاعة لقي الله ولا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) [7]. ومن هنا واجبٌ على الرعية في أرض هذه البلاد، أن يعلموا أن واجبهم الديني الطاعة لولي الأمر، فطاعته في غير معصية واجبة فيما رضوا وكرهوا، فذلك أصل من أصول الإيمان في المنشط والمكره، لا تتوقّف على رغبة وهوى ولا على محبة ورضا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، ورسولنا يقول: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني)) [8] ، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي قال: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أُمِرَ بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) متفق عليهما [9].
إخوة الإسلام، ومن الواجب المُحَتَمَّ إكرام السلطان في الأرض، عن أبي موسى ، قال: قال رسول الله : ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) حديث حسّنه المحقّقون [10]. قال سهل بن عبد الله: "لا يزال الناس بخير ما عظّموا السلطان والعلماء، فإذا عظّموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفّوا بهذين فسدت دنياهم وأخراهم".
وإنّ مما يرفع الله به الدرجات، ويحقّق به الخير والإصلاح الإكثار من الدعاء لولي الأمر وولي عهده بكل خير بالحماية والرعاية والصلاح والتوفيق والسداد والإعانة والرشاد، يقول القاضي عياض: "لو أعلم أن لي دعوة مستجابة لجعلتها في الإمام"، وروي عن الإمام أحمد مثل ذلك.
إخوة الإسلام، أعظم واجب على الحاكم والمحكوم تحقيق تقوى الله في كل أمر خاص أو عام، ومراقبته في كل شأن. ومن أهم هذه الأمور التعاون بين الحاكم والمحكوم على تحقيق شرع الله، والالتزام بالتوحيد والإسلام شريعة ومنهجًا، سلوكًا وعملاً، قولاً وفعلاً، مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسعي بإصلاح أمور الحياة من منطلق الوحيين ونور الهديين، والواجب على الجميع التآلف وتحقيق المحبة، والسعي لما يحقق الأمن والرخاء والاستقرار للمسلمين جميعًا، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة:2]، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر]. فبذلك صلحت حياتنا في هذه البلاد، واستقامة أمورنا، وعزّ شأننا، كما قال ربنا جلّ وعلا: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، فبلاد الحرمين كانت ـ ولا تزال ـ وستستمرّ بإذن الله على التوحيد والإسلام.
معاشر المسلمين، واجب على الحاكم والمحكوم التناصح وفق القاعدة الشرعية، والآداب المرعية للنصيحة في الإسلام، فبذلك تصلح الأحوال وتستقيم الأمور، فرسولنا يقول: ((الدين النصيحة)) ثلاثًا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) [11]. وفي حديث جرير قال: (بايعت رسول الله على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) متفق عليه [12].
ومن أعظم النصيحة للإمام الصدق معه ظاهرًا وباطنًا، وبذل كل الجهود الخيّرة فيما يعين الإمام على خير دينه ودنياه، وفيما يحقّق الصالح العام، خاصةً ممن ولاّه ولي الأمر مسؤولية ما، أو استرعاه ولي الأمر على شيء من مصالح رعيته، قال في الحديث الذي رواه البخاري: ((ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه، والمعصوم من عصم الله)) [13]. وفي حديث روته عائشة عن النبي أنه قال: ((إذا أراد الله بالأمير خيرًا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإذا أراد له غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكره، وإن ذكر لم يعنه)) رواه أبو داود بإسناد جيد على شرط مسلم، وأخرجه النسائي وسنده صحيح [14].
اللهم هيّئ لخادم الحرمين الشريفين الولاة الصادقين، والوزراء الناصحين، والرعية المطيعين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/292)، والترمذي في كتاب الزهد، باب: ما جاء في ذكر الموت (2307)، والنسائي في كتاب الجنائز، باب: كثرة ذكر الموت (1824)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له (4258). قال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب". وصححه ابن حبان (2992)، وذكره الضياء في المختارة (1701-1702). وحسّن المنذري إسناده في الترغيب (4/117)، وقال الهيثمي في المجمع (10/308): "رواه البزار والطبراني وإسنادهما حسن". وصححه الألباني بشواهده في إرواء الغليل (682).
[2] أخرجه الطبراني في الأوسط (8/256)، والقضاعي في مسنده (670)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن حبان (2993). قال المنذري في الترغيب (4/118): "إسناده حسن". وتبعه الهيثمي في المجمع (10/556)، والألباني في صحيح الترغيب (3333).
[3] أخرجه أحمد (4/294)، وابن ماجه في كتاب الزهد، باب: الحزن والبكاء (4195)، وحسّن إسناده المنذري في الترغيب (4/120)، والألباني في السلسلة الصحيحة (1751).
[4] سنن ابن ماجه كتاب الزهد، باب: ذكر الموت والاستعداد له (4259) مختصرًا، والطبراني في الكبير (13536) واللفظ له، من حديث ابن عمر. وحسّن الهيثمي إسناد الطبراني في مجمع الزوائد (10/556). وحسّن الألباني الحديث بطرقه في السلسلة الصحيحة (1384).
[5] السياسية الشرعية (136) وما بعدها.
[6] صحيح البخاري كتاب الفتن، باب: قول النبي : ((سترون..)) (7056)، وصحيح مسلم كتاب الإمارة (1709).
[7] صحيح مسلم كتاب الإمارة (1851)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[8] أخرجه البخاري في الأحكام، باب: قول الله تعالى: وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول (7137)، ومسلم في الإمارة (1835)، من حديث أبي هريرة.
[9] صحيح البخاري كتاب الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7144)، وصحيح مسلم كتاب الإمارة (1839)، واللفظ له.
[10] أخرجه أبو داود في الأدب، باب: في تنزيل الناس منازلهم (4843)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/440)، والبيهقي في الشعب (2/550). من حديث أبي موسى الأشعري. وحسنه ابن حجر في التلخيص الحبير (2/118)، والألباني في صحيح أبي داود (4053).
[11] أخرجه مسلم في الإيمان (55) بنحوه، من حديث أبي الدرداء. والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في النصيحة (1926)، واللفظ له.
[12] صحيح البخاري كتاب الإيمان، باب: الدين النصيحة (57)، وصحيح مسلم كتاب الإيمان (56)، من قول جرير بن عبد الله البجلي.
[13] صحيح البخاري كتاب الأحكام، باب: بطانة الإمام وأهل مشورته (7198)، من حديث أبي سعيد الخدري.
[14] سنن أبي داود كتاب الخراج والإمارة والفيء، باب: في اتخاذ الوزير (2932) واللفظ له، والنسائي في البيعة، باب: وزير الإمام (4204) مختصرًا، وكذا أخرجه أحمد (6/70). وصححه ابن حبان (4494)، والألباني في صحيح أبي داود (2544).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا لا ينفذ، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل من تعبّد. اللهم صلِّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمين، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، فهي وصية الله جلّ وعلا لعباده الأوّلين والآخرين.
عباد الله، نحن في مستهلّ رجب شهر كريم، ينبغي أن يُعْمَرَ كغيره من الأوقات والأزمان بطاعة الرحمن والبُعد عن سَخَط الديّان، ولكن الحذر من تعبّدات محدثة لا برهان عليها من كتاب الله وسنة رسوله ، فالأصل المقطوع به في الدين النهي عن تخصيص زمان أو مكان بعبادة من العبادات إلا بدليل من الوحيين. فما أحدث من صلاة الرغائب وهي ما يفعل من الركعات ليلة أول جمعة من رجب، اعتقادًا بشرعيتها وفضيلتها في هذا الزمان بعينه، فذلك بدعة محدثة، كما صرح بذلك النووي وشيخ الإسلام والعز ابن عبد السلام والشاطبي وغيرهم.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن ما شاع عند بَعْضٍ من الاحتفال بليلة الإسراء والمعراج ليلة السابع والعشرين من رجب، فهو أمر محدث لم يكن عليه عمل النبي ولا أصحابه، ولا القرون المفضّلة، ولا من تبعهم بإحسان من أهل الفضل والإيمان. ثم إن هذا العمل كما هو خطأ شرعًا فهو خطأ تاريخيًا؛ فإن تحديد هذه الواقعة بهذه الليلة لم يثبت تاريخيًا، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وذكر بعض القصّاص أن الإسراء والمعراج كان في رجب، وذلك كذب". ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ عند الكلام عن ليلة الإسراء والمعراج ـ: "ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا على عَشْرها ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يُقطع به، ولا شُرِعَ للمسلمين تخصيص الليلة التي يُظنّ أنها ليلة الإسراء، بقيام ولا غيره بخلاف ليلة القدر".
فيا أمة محمد، احذروا الخروج عن هديه، والتزموا سنّته؛ تنالوا الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
ثم إن الله أمرنا بأمر عظيم، ألا وهو الصلاة والسلام على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلّم وبارك على سيدنا ورسولنا محمد...
(1/4262)
الدين النصيحة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, التربية والتزكية, قضايا المجتمع
عماد الدين علي أبو اليسر
القاهرة
نور الإسلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف النصيحة. 2- أهمية النصيحة. 3- مفهوم النصيحة لله تعالى. 4- كيف تكون النصيحة لكتاب الله تعالى. 5- بيان النصيحة لرسول الله. 6- النصيحة لعامة المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: روى مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال : ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم)).
أحبتي في الله، كلمة النصيحة من الكلمات التي يرتاح إليها السمع، وتطمئنّ إليها النفس، وتميل إليها المشاعر النقيّة؛ لأنها تهدف إلى الودّ والصلاح، وإلى ما ينفع الناس، يقولون: إنك نصحت القول لفلان، أي قصدت مصلحته ومنفعته.
وكان الصحابة الكرام رضي الله عنهم يبايعون الرسول على الصلاة والزكاة والنصيحة لكل مسلم، جاء ذلك في قول جرير بن عبد الله حينما قال: (بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم) متفق عليه. وقال النبي فيما رواه عن ربّ العزّة جلّ وعلا: ((أحب ما تعبّدني به عبدي النصح لي)). وقال : ((إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له)) ، من هنا نجد أن النصيحة مهمّة جدًّا بين المسلمين، حيث إن رسول الله اهتم بها، وأمر بها وكأنها ركن من أركان الإسلام، ولُبّ الإسلام، وجوهر الإسلام.
فما معنى النصيحة لله تعالى؟ معنى النصيحة لله تعالى أن تراقب الله في السرّ والعلن، وأن تصون نفسك ـ أخي المسلم ـ عما لا يرضى الله، وعندما سُئِل أحد العارفين عن معنى النصيحة لله قال: إذا عُرِضَ عليك أمران أحدهما لله والآخر لنفسك ولدنياك قدمت ما هو لله على ما هو لنفسك ولدنياك.
ومتى أخلص المسلم الطاعة والعبادة لله، وصان نفسه عما يغضب الله؛ رزقه الله تعالى من حيث لا يحتسب، جاء ذلك في قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3]، وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وقال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]، هذا معنى النصيحة لله تعالى.
أما معنى النصيحة لكتاب الله عز وجل فهي أن تقرأ كتاب الله عزّ وجلّ، وتتدبّر آياته، وتحسن الاستفادة بما جاء فيه من آداب وسلوك وهدى وعظات وبينات، كما قال الله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:138]. ومعنى النصيحة لكتاب الله عزّ وجلّ هي أن نحسن الاتباع، ونطبّق ما جاء في كتاب الله على أنفسنا وعلى من هم تحت ولايتنا، وأن نحسن الاستماع إليه بخشوع، كما قال الله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
وقد وصف رسول الله أن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخَرِب، وأنه من دواعي الغِبْطة والسرور، إنّ رسول الله بَشّر الذين يجتهدون في تلاوة القرآن الكريم بأجر الملائكة الكرام، فقال : ((الماهر بقراءة القرآن الكريم مع الملائكة الكرام البررة)) ، كما بيّن لنا رسول الله أنّ الذي يقرأ القرآن وهو عليه شاق فله أجران.
ولم يكتف رسول الله بتعليم أصحابه تلاوة القرآن فحسب، بل كان يحب أن يسمعه من غيره، فعن عبد الله بن مسعود قال: أتاني رسول الله وقال: ((اقرأ عليَّ شيئًا من القرآن)) ، قال: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! فبدأت بسورة النساء حتى بلغت هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان بالدموع.
فهذا معنى النصيحة لكتاب الله، أما معنى النصيحة لرسوله فهو أننا جميعًا نؤمن أنّ محمد بن عبد الله هو رسول الله، نؤمن إيمانًا جازمًا وكاملاً أنه هو خاتم النبيين وإمام المرسلين. ومعنى النصيحة لرسوله أنّنا نتأسّى به، ونقتدي به في معاملاته وآدابه وسلوكه، كما جاء في كتاب الله عزّ وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ومعنى النصيحة لرسوله أي أننا نُشهد الله عزّ وجل أن رسول الله قد بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، وأنه لم يترك لنا بابًا من أبواب الخير إلا ودلّنا عليه، وأمرنا بالدخول فيه، ولم يترك لنا بابًا من أبواب الشر إلا وحذّرنا منه، وأمرنا بالابتعاد عنه، فجزى الله رسول الله محمد بن عبد الله عن أمته خير الجزاء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد: مضت النصيحة لأئمة المسلمين وعامّتهم وهي أن يهتمّ كل مسلم بالنصيحة لأخيه المسلم، وذلك بما جاء بكتاب الله من هدى وبيّنات، وبما جاء بسنة رسول الله ، ولكن برفق ولين دون تعصّب أو غِلْظة، كما جاء في كتاب الله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
وإذا قام كل فرد منا بالنصح يصدق فينا قول الله تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، ورسول الله أمرنا أن ننصح بما يرضي الله ورسوله، فقال : ((من أشار على أخيه بغير الحق فقد خانه)) ، فلابد للمسلم أن ينصح لأخيه بالحق حتى لا يكون خائنًا؛ لأنه إذا اؤتمن إنسان لابد أن يكون أمينًا على ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
وإليكم هذه القصة، ذهب شاب ليخطب إحدى البنات، فذهب إلى والدها فقال: أريد أن أتزوج ابنتك. فقال له: من تعرف؟ فقال له: أعرف بلال بن رباح وهو يعرفني. فذهب والد البنت إلى بلال فقال: أتعرف فلانًا؟ فقال: أعرفه، ولكنه لا يصلح للزواج. ظنّ الشاب أن بلالاً سيكتب عنه أشعارًا، ولكن بلالاً أشار على أخيه بالحق بأن هذا الشاب لا يصلح للزواج متمسّكًا بقول رسول الله : ((من أشار على أخيه بغير الحق فقد خانه)).
أيها الإخوة الأحباب في الله، لو أن النصيحة أُسْديت لمن هم بحاجة إليها، وأخذ ببعضها على الأقل لقلّت الأخطاء في حياة المجتمع، ولتجنّب المسلمون مشاكل كثيرة وفسادًا كبيرًا، والمُحْجِم عن إسداء النصيحة ورافضها لاشك أنهما آثمان، ويكفي أن النصيحة من سنن المرسلين، ومن أخلاق المؤمنين، ومن قَبِلَ النصيحة فقد فاز بالخير، ومن رفضها فقد أساء لنفسه.
ويا لها من نعمة عظيمة أن تهدي إلى أخيك نصيحة تكون بها سعادة الناصح والمنصوح، ويسود الحب بين الناس، ويعرفون أن هناك من يحب لهم الخير، ويتوارى العصاة خجلاً، وأولى الناس بالنصح الأهل والأقارب؛ امتثالاً لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات...
(1/4263)
النصر أسبابه ومقوماته
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
30/6/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقفة محاسبة مع حال أمتنا الإسلامية. 2- حالنا مع الدعاء. 3- أسباب النصر وشروطه. 4- الخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة. 5- واجب العلماء والدعاة والصالحين. 6- الممارسات الإسرائيلية في القدس، والنشاط الاستيطاني. 7- الغلبة لهذا الدِّين.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، لماذا ندعو الله ليلا ونهارا، سرا وجهارا، أن يكتب لنا النصر ولا يستجاب لنا؟ نتوجه إليه بقلوب خاشعة وألسنة طاهرة وأيد ضارعة ولا يستجيب لنا؟!.
أيها المؤمنون، لماذا لا تزال أمتنا تحت الحصار؟ لماذا لا تزال تقرب من اليمين ومن اليسار؟ لماذا يظل أعداؤنا يتحكمون فينا تحكم السادة في العبيد؟
أليست أمتنا هي القائمة على الدين الحق؟! أليست هي الشهيدة على الناس؟! ألم يخاطبنا المولى تبارك وتعالى بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. أو ليست أمتنا الإسلامية هي الأمة الوحيدة التي تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر؟!
وقد وصف الله عز وجل سِوَانا بقوله: كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:79].
إذا لماذا أصبحنا أذلاء نستجدي غيرنا وقد كنا أعزاء؟ ألم تحكم دولتنا الإسلامية العالم لقرون عديدة؟!
فما هو سبب هذا التردي والانحسار؟ ما هو سبب هذا الانكسار؟
تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نعالج هذه الأمور، ونضع النقاط على الحروف، حتى نعرف من أين نبدأ وإلى أين نقف؟
عباد الله، المشكل أننا ندعو الله ونحن بعيدون عن الله، ندعو الله أن ينصر الإسلام وأن يُعِزَّ المسلمين ونحن قعود على جنوبنا، ولا نريد أن نبذل أنفسًا ولا أموالاً، ولا نضحي بغال ولا رخيص، وما هكذا يستجاب الدعاء. إنما يستجاب الدعاء من قوم بذلوا ما يستطيعون وتركوا لله ما لا يستطيعون، فالله تعالى هو الذي يكمل النقص ويسد الثغرات، لأن النصر من عنده وحده، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:10].
وهذا نصر الله أصحاب طالوت وكانوا قلة، كانوا في عدد أهل بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، وحينما رأوا جنود جالوت قال الكثيرون: لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ [البقرة:249]، فماذا قال أهل الإيمان ـ اسمعوا أيها المؤمنون، ماذا قالوا ـ: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249].
انظروا ـ يا عباد الله ـ إلى هذه اللفتة الإيمانية في قوله تعالى: قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ ، بمجرد ظن الفئة المؤمنة أنهم ملاقوا الله، قد جعل الله لهم هذه العقيدة، وإذا كان هذا حال مجرد الظن فما بالك باليقين؟
هكذا يجب علينا أن نفعل أيها المؤمنون، لكن الأعمال القبيحة والنيات الفاسدة منعت من ذلك، حتى ينكسر العدد الكبير منا أمام اليسير من العدد كما شاهدناه غير مرة، وذلك بما كسبت أيدينا، ومن هنا يقول الصحابي الجليل أبو الدرداء : (إنما تقاتلون بأعمالكم). فالأعمال فاسدة، والضعفاء مهملون، والصبر قليل، والاعتماد ضعيف، والتقوى زائلة، ومشاكلنا كثيرة، وأهل العلم والصلاح نائمون وغافلون.
ألم يقل الله تعالى: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، ألم يقل سبحانه وتعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا [المائدة:23]، ألم يقل عز وجل: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، ألم تقرؤا ـ أيها المؤمنون ـ قوله تعالى في سورة الأنفال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45، 46]؟!.
فهذه أسباب النصر وشروطه، وهي معدومة عندنا غير موجودة فينا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، على ما أصابنا وحَلَّ بنا، بل لم يبق من الإسلام إلا ذكره، ولا من الدِّين إلا رسمه؛ لظهور الفساد ولكثرة الطغيان وقلة الرشاد، حتى استولى العدو شرقا وغربا، برا وبحرا، وعمت الفتن وعظمت المحن ولا عاصم إلا من رحم.
عباد الله، ونظرة أخرى في هذه الآيات مع قوله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]. هذا هو دعاؤهم، توجهوا إلى الله وهم في قلب المعركة، وهم في ساحة القتال، هذه هي الشُحْنَةً الإيمانية لمن يريد أن يواجه عدوه، فهو ينادي قائلاً: (ربنا)؛ لأن الرب هو الذي يتولى التربية والعطاء.
وتأملوا ـ أيها المؤمنون ـ في قوله تعالى: أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا أنهم طلبوا أن يملأ الله قلوبهم بالصبر، ويكون أثر الصبر تثبيت الأقدام حتى يواجهوا العدو بإيمان، وعند نهاية الصبر وتثبت الأقدام يأتي نصر الله للمؤمنين على القوم الكافرين، وتأتي النتيجة للعزم الإيماني والقتال في قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:251].
تلك هي النتيجة التي يتمناها المؤمنون، هزيمة أعدائهم، فهل تتحقق هزيمة أعدائنا أيها المؤمنون؟ نعم سوف تتحقق باذن الله، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله : ((ساعتان تفتح أبواب السماء وقلما ترد على داع دعوته، عند حضور النداء، والصف في سبيل الله)).
واعلموا ـ يا عباد الله ـ علم اليقين أن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم ـ ونرجو أن يكون عارضا ويزول ـ ولو قام العلماء والأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحيوا روح القرآن، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة، واستلفتوهم عهد الله الذي لا يخلف، لرأيتم الحق يسمو والباطل يسفل، ولرأيتم نورا يُبِهِرُ الأبصار، وأعمالا تحار فيها الأفكار، وأن الحركة التي نلمسها ونحس بها الآن في نفوس المسلمين في أغلب الأقطار، تُبشرنا بأن الله تعالى قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين، ويوحد بها بين جمع الموحدين، وسوف يكون قريبا إن شاء الله. فإن فعل المسلمون وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم، صحت لهم التوبة وعفا الله عنهم والله ذو فضل على المؤمنين.
فعلى الأمة وعلمائها أن تسارع إلى هذا الخير، وهو الخير كله جمع كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]، وما يذكر إلا أولوا الألباب، قال رسول الله : ((لا تزال يد الله عز وجل على هذه الأمة وفي كنفه وفي جواره وجناحه، ما لم يمل قراؤهم إلى أمرائهم، وما لم يبر خيارهم أشرارهم، وما لم يعظم أبرارهم فجارهم، فإذا فعلوا ذلك رفعها عنهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وأنزل بهم الفاقة، وسلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب)). وقال: ((إذا كان ذلك لا يأتيهم أمر يضجون منه إلا أردفه بآخر يشغلهم عن ذلك)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، من الأمور الهامة التي تستوجب انتباه وحذر ويقظة أمتنا الإسلامية، وبخاصة نحن أهل فلسطين، قضية بيت المقدس التي قفزت إلى ساحة الأحداث الساخنة، ليس بفعل يقظة الأمة الإسلامية وإنما ـ وللأسف الشديد ـ بفعل الممارسات الإسرائيلية، والنشاط الاستيطاني المتسارع داخلها وخارجها، والأنباء التي تتحدث عن الشروع بإقامة حَيِّ استيطاني في البلدة القديمة، وبالتحديد في باب الساهرة بالقرب من برج اللقلق المجاور لباب حطة.
عباد الله، قلناها أكثر من مرة أن القدس في خطر، ولكن لا حياة لمن تنادي! والحقيقة الجلية هي أن اسقاط القدس من قضية ما يسمى مفاوضات التسوية، وتأجيل بحثها لما يسمى مفاوضات الحل النهائي ـ إن وجد حَلُّ أو بقيت قدس ـ، قد أعطت إسرائيل الضوء الأخضر للإسراع بتنفيذ مخططات تهويد المدينة المقدسة، مستغلة ضعف الموقف الفلسطيني، وعدم وجود أي موقف عربي أو إسلامي واضح وصريح ضد هذه الممارسات، وبعبارة أخرى هو استسلام للأمر الواقع.
أيها المؤمنون، إن الحديث عن إقامة حَيِّ استيطاني في البلدة القديمة ليس أمرًا جديدًا، بل هو مخطط قديم حان الوقت لتنفيذه، والإعلان عنه في ظل التواطئ الدولي ومعاداة دول الكفر للإسلام، وفي ظل أوضاع مزرية يعيشها شعبنا الفلسطيني المسلم.
فالقدس ـ يا مسلمون ـ تضيع رويدا رويدا، البؤر الاستيطانية تزداد اتساعا مساحة وعددا، حول المسجد الأقصى، وفي محيطه أكثر من خمسين بؤرة استيطانية، وفي حارات البلدة القديمة المتعددة نحو ثلاثين بؤرة، محال تجارية وعقارات تتسرب بالخفاء. الحي اليهودي الواقع في الجنوب الغربي من البلدة القديمة يحتل خمس مساحة البلدة القديمة. الحي الاستيطاني المزعم إقامته سيحتل مساحة كبيرة من القسم الشمالي الشرقي من البلدة القديمة. ومما يلفت الأنظار أن الحَيَّ الاستيطاني الجديد يأخذ الطابع الديني كما ذكرت الصحف ليتحدى مشاعر المسلمين، وسيقام في الحي كنيس تعلوه قبة صفراء يقولون: أنها ستضاهي قبة الصخرة المشرفة على حد زعمهم. والأنباء تتحدث عن اعتزام السلطات الإسرائيلية جلب نحو مليون يهودي خلال السنوات العشر القادمة، حيث سيتم إسكان غالبيتهم في القدس والمستوطنات اليهودية المحيطة بها.
عباد الله، ما أشبه اليوم بالبارحة؛ أبرهة الأشرم بعد أن استأثر بحكم اليمن، أراد أن ينال رضا ملك الحبشة، فبعث إليه قائلا: سأبني كنيسة كبيرة تعلوها قبة مزركشة، يتحدث عنها العرب والعجم. واسماها القليس لعلوها، وكان هدف أبرهة أن يستقطب العرب للحج إلى هذه الكنيسة بدلا من الحج إلى بيت الله الحرام والكعبة المشرفة، فالعرب كانوا يقدسون الكعبة ويحجون إليها قبل الإسلام، ونحن نفرط بمسرى رسول الله !. ولما دَنَّسَ العرب هذه الكنيسة استشاط أبرهة غضبا، وجهز جيشا لغزو مكة وهدم الكعبة، فمذا جرى؟ محقه الله وسحق جيشه وشتت شمله ومزق جمعه، وتلك سنة الله لمن أراد لبيته بسوء، ولن تجد لسنة الله تبديلا.
أيها المسلمون، ومهما طغى الطغاة، ومهما تكالبت قوى الشر والبغي والعدوان في محاربة الإسلام والمسلمين، وتدنيس المقدسات وقتل الأبرياء، فإن الغلبة لهذا الدين، وستبقى مدينة القدس درة فلسطين إسلامية العقيدة عربية الجذور، ستبقى مدينة إسلامية إن شاء الله تعالى.
أيها المسلمون، الأيام القادمة ستكون صعبة على أهل بيت المقدس، سيما بعد الانتهاء من بناء الجدار العنصري، والذي سيشدد على المدينة ويضعف الحالة الاقتصادية، ويزيد من معاناة التنقل والتواصل.
أيها المسلمون، هذا هو قدرنا، إن شرفنا الله بالرباط على ثغرة من ثغر الإسلام، فهنيئا لكم ـ يا أهلنا ـ بهذا الشرف الإلهي وهذه النعمة العظيمة، فكونوا على قدر المسؤولية، كونوا أهل نعمة وشكر، ولا تكونوا أهل نقمة وكفر، وتذكروا أن العاقبة للمتقين، وأن الأرض يرثها عباد الله الصالحون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/4264)
الإمامة العظمى في الإسلام
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
7/7/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفظ الشريعة الإسلامية للضرورات الخمس. 2- مقاصد تنصيب الإمام ومصالحه. 3- وسطية أمة الإسلام. 4- منهج أهل السنة والجماعة في الإمامة العظمى. 5- من حقوق الراعي على رعيته الدعاء له.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ فهي العُدّة في الأمور، والزاد إذا بُعْثِر ما في القبور، وحُصِّلَ ما في الصدور، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
عباد الله، إن الشريعة الإسلامية الغَرَّاء هي الشريعة الخاتِمة التي أكمل الله بها الدين وأتمّ بها النعمة، وجعلها صالحة للخلافة في الأرض في كل زمان ومكان، لا تَبْلَى نصوصُها، ولا تهتزّ قواعدُها، ولأجل ذا صارت هي الأُسّ في حفظ الضرورات الخمس في الحياة البشرية، وهي الدين والنفس والعِرض والعقل والمال، فهي شريعة جُلاّ تسعى لتحصيل المصالح وجلبها لتلك الضرورات، كما أنها في الوقت نفسه تقوم بالدفع قبل الرفع لأي مفسدة تخل بضرورة من الضرورات، بَلْهَ الضرورات الخمس برُمَّتها.
ولما كانت أمور الناس ومصالحهم تدور رَحَاها حول تلك الضرورات الخمس، وتحصيل مصالحها، ودَرْء مفاسدها، وحراسة ذلك وسياسته؛ كان لزامًا أن يكون للمجتمع المسلم رأس يجتمعون عليه، ويضعون كفوفهم على كفّه؛ ليقيم الحق فيهم، ويزهق الباطل، ويسُوسَهم على مِلّة الإسلام، يجتمعون بالبيعة الشرعية على إمامته وولايته أمرهم، وهذا ما يُسمَّى في الشريعة بالإمامة العُظْمَى، التي أجمع العلماء قاطِبة على أنها واجبة، خلافًا لبعض الخوارج والمعتزلة.
والمصلحة في تَنْصِيب الإمام ظاهرة جَلَيّة، لا تحتاج إلى كبير تأمّل وبحث؛ لأنه لا يمكن أن يستقيم أمر الناس، ويصلح حالهم، ويُحْفَظ الخير لهم، ويُدْرَء الشر عنهم إلا بها، بل إنها مطلب شرعي ديني قبل أن تكون مطلبًا سياسيًا دنيويًا؛ لأن قيامها وقيام الطاعة لها من طاعة الله ورسوله؛ لقوله : ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصا الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني، وإنما الإمام جُنَّة يُقاتَل مِن ورائه، ويُتَّقَى به، فإن أمر بتقوى الله وعَدَل فإن له بذلك أجرًا، وإن قال بغيره فإنّ عليه مِنْهُ)) رواه مسلم [1].
إن لم يكن مثل هذا الأمر ـ عباد الله ـ فليس للناس إلا الفوضى، وغَلَبة الأهواء، وتقاذف الفتن من كل جانب، والتعدّي على الدين والأنفس والعقول والأعراض والأموال، ولقد صدق القائل الأول:
لا يَصْلُحُ الناسُ فوضى لا سَرَاةَ لهم ولا سَرَاةَ إذا جُهّالُهم سادُوا
ولذا فإنّ الأمم مع تعاقب الأزمان لا تَدَعُ واقعها سَبَهْلَلاً دونما سلطان يرأسها، فلقد قال النبي : ((إن بني إسرائيل كانت تَسُوسُهم الأنبياء، كلّما هلك نبي خَلَفَه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وإنه سيكون خلفاء فيكثرون)) ، قال: فما تأمرنا؟ قال: ((فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعله الله عزّ وجلّ لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم)) أخرجاه في الصحيحين [2].
ومن هنا يتّضح لنا ـ عباد الله ـ حاجة الناس إلى سلطان يسُوسُهم بشرعة الله ومنهاجه؛ حماية لهم من الفتن والأهواء أن تعتريهم، ولقد صدق الإمام أحمد بن حنبل حين قال: "الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس" [3].
أيها الناس، لقد أكرم الله أمة الإسلام من بين سائر الأمم بأن جعلها وسطًا بينهم عَدْلاً خِيارًا، كما قال سبحانه: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]، وإن من وسطية هذه الأمة وعدلها نظرتها للإمامة والولاية، حيث تراها عهدًا واجبًا بين السلطان وعموم المسلمين، وهذا العهد يقتضي السمع والطاعة في المَنْشَط والمَكْرَه والعُسْر واليُسْر ما لم يكن في معصية أو منكر وإلا فلا. لتكون الأمة وسطًا بين بعض أهل الجاهلية الذين يظنّون أنّ مخالفة السلطان وعدم الانقياد له فضيلة ورِفْعة، وأن السمع والطاعة والانقياد دُونٌ وذِلّة ومهانة ونقصٌ في الرجولة والعلم والكرامة، وبين بعض أهل الكتاب الذين يغالون في السمع والطاعة حتى في معصية الله سبحانه، كما في حديث عدي بن حاتم قال: سمعت النبي يقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، فقلت: إنا لسنا نعبدهم! فقال: ((أليس يحرمون ما أحلّ الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه؟)) فقلت: بلى. قال: ((فتلك هي عبادتهم)) رواه أحمد والترمذي [4].
كما أن منهج أهل الحديث والحق في الإسلام بين سائر الفرق هو المنهج الوسط في الإمامة والولاية، خلافًا لمن ذهب إلى تكفير الأئمة، والخروج عليهم، وعدم السمع والطاعة بالمعروف لهم، وخلافًا لمن يرى المغالاة فيهم، ويجعلهم معصومين من الخطأ والنقيصة، والحق كل الحق، والعدل كل العدل، ما كان عليه أئمة الهدى والدين من السلف الصالح والتابعين الذين قالوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك المصير. ديدنهم في ذلك سنة المصطفى في السمع والطاعة والألفة والاجتماع، لا في المعصية والعناد والفرقة والابتداع، لعلمهم الجازم بأن النبي بيّن أن من خرج من السلطان شِبْرًا مات مِيتة جاهلية، كما في الصحيحين وغيرهما [5].
ومن هذا المنطلق ـ عباد الله ـ عُنِيَ السلف الصالح بمسألة الإمامة، وجعلوها من جملة أبواب الاعتقاد وأصول الدين، وأكثروا الحديث عنها، وفصّلوا فيها القول، وما ذاك إلا لعظم شأنها وخطورة سوء الفهم تجاهها، وأن مبدأ التعامل مبني على العلم والأثر لا على العاطفة والنظَر؛ لما يترتب على ذلك من مراعاة المصالح والمفاسد العامة الطاغية على المفاسد والمصالح الخاصة، ولهذا بيّن أهل العلم حاجة الأمة إلى السلطان، ووجوب بيعته البيعة الشرعية، كما بيّنوا وجوب السمع والطاعة في غير معصية الله، عملاً بما جاء عن النبي أنه بعث جيشًا وأمَّرَ عليهم رجلاً فأوقد نارًا، فقال: ادخلوها. فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها. فذكروا للنبي فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: ((لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة)) ، وقال للآخرين: ((لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف)) رواه البخاري ومسلم [6].
وقد بيّن أهل العلم أيضًا حرمة الخروج على السلطان أو ملاقاته بالسيف، وأنه يجب على الرعيّة مَحْضُ النصح له؛ لقول النبي : ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن لا تعبدوا إلا الله، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم)) رواه أحمد [7]. ولم يكتف أئمة العلم والهدى بمطلق النصح لولي الأمر، بل قيّدوا ذلك في السّر دون العلانية؛ درءًا للفتنة وخروجًا من التشهير والتعيير، لما رواه ابن أبي عاصم في كتاب السُّنّة مرفوعًا إلى النبي أنه قال: ((من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يُبْدِهِ علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلا كان قد أدّى الذي عليه له)) [8]. ولما جاء في الصحيحين في الذين قالوا لأسامة : ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ فقال: قد كلمته ما دون أن أفتح بابًا أكون أول من أفتحه، وما أنا بالذي أقول لرجل بعد أن يكون أميرًا على رجلين: أنت خير... الحديث [9]. وقد نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله كلامًا عن معنى هذا الحديث: "وهو أن قصد أسامة بقوله: (قد كلمته سرًا دون أن أفتح بابًا)، أي باب الإنكار على الأئمة علانية؛ خشية أن تفترق الكلمة، ثم عرَّفهم أنه لا يُداهِن أحدًا، ولو كان أميرًا، بل ينصح له في السّر جهده" انتهى كلامه رحمه الله [10].
وقد نقل ابن عبد البر عن أيوب ابن القَرْيَة قال: "أحق الناس بالإجلال ثلاثة: العلماء والإخوان والسلطان، فمن استخفّ بالعلماء أفسد مروءته، ومن استخفّ بالسلطان أفسد دنياه، والعاقل لا يستخفّ بأحد" [11].
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن البيعة الشرعية فيها حقّان: أحدهما حق للإمام كما ذكرناه آنِفًا، وأما الآخر فهو حق للرعية بإقامة شرع الله فيهم، ونشر الحق والعدل بينهم، والسعي في مصالحهم العامة والخاصة، وتدوين الدواوين ومراعاة المصالح المرسلة التي تعتري الناس بين الحين والآخر، ومنع الظلم والبغي والفساد، وما يسبّب الفرقة بين المسلمين.
وحاصل الأمر ـ عباد الله ـ أنّ استقامة الناس، واستقرار المجتمع، وحفظ الضرورات لا يكون إلا بطاعة الله وطاعة رسوله وأولي الأمر منا؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره: "أن أولي الأمر هم أصحاب الأمر وذووه وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء، فإذا صلحوا صلح الناس، وإذا فسدوا فسد الناس" [12].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفّارًا.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1841)، وأخرجه أيضًا البخاري في الجهاد والسير (2957)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3455)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1842)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه الخلال في السنة (1/81).
[4] سنن الترمذي: كتاب التفسير (3095)، وأخرجه أيضًا ابن جرير في جامع البيان (10/114)، والبيهقي في الكبرى (10/116) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وفي بعض نسخ الترمذي قال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2471). تنبيه: عزا ابن كثير في تفسيره (1/378، 2/349) هذا الحديث إلى مسند أحمد، ولم أجده فيه، وإنما فيه قصة إسلامه بين يدي النبي ، فالله أعلم.
[5] أخرجه البخاري في الفتن (7054)، ومسلم في الإمارة (1849) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في المغازي (4340)، ومسلم في الإمارة (1840) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنهما.
[7] مسند أحمد (2/360)، وأخرجه أيضًا مسلم في الأقضية (1715) دون قوله: ((وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم))، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] السنة لابن أبي عاصم (2/273)، وأخرجه أيضًا الحاكم في المستدرك (3/329)، والطبراني في المعجم الكبير (17/367)، والبيهقي في الكبرى (8/164)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2/154)، وصححه الألباني في تعليقه على السنة لابن أبي عاصم.
[9] أخرجه البخاري في الفتن (7098)، ومسلم في الزهد (2989).
[10] فتح الباري (13/52).
[11] جامع بيان العلم وفضله (1/581).
[12] مجموع الفتاوى (28/170).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ثَمَّةَ حقًا يجب على الرعية تجاه سلطانهم وولي أمرهم المبايَع بالبيعة الشرعية، متمثّلاً ذلكم الحق في محض الدعاء له بالتوفيق والسداد والصلاح للمسلمين؛ لأن في صلاحه صلاحًا للإسلام والمسلمين. وإنه ليخطئ من ظنّ أن الدعاء للسلطان مُجرّد تَزَلُّفٍ ومَذْقٍ يَشِين بصاحبه، كلا بل هو ديانة واعتقاد بأهمية ذلكم وأثره في صلاح المسلمين. وقد أشار جملة من أئمة الدين إلى هذه المسألة من باب الديانة وتصحيح الفهم تجاه هذه المسألة، فقد ذكر الطحاوي رحمه الله في متن الاعتقاد عن الأئمة والولاة قوله: "وندعو لهم بالصلاح والمعافاة" [1]. وقد أخرج الخلاّل في كتاب السنة بسند صحيح عن الفُضَيل بن عياض أنه قال: "وددت أن الله عزّ وجلّ زاد في عمر هارون الرشيد"، وقد وجّه الإمام أحمد مقولة الفُضَيل هنا بأنها لما يُخاف من الشر الذين يكون بوفاة الإمام، فإذا ما جاء إمام آخر هَدَأَ الأمرُ وسَكَن [2]. وقد تحدّث الإمام أحمد رحمه الله عن الخليفة المتوكّل قائلاً: "إني لأدعو الله له بالصلاح والعافية"، وقال: "لأنْ حَدَثَ به حَدَثٌ لتنتظرنّ ما يحل بالإسلام" [3]. وقد دعا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لسلطان زمانه بالتأييد والتسديد والزيادة في العلم. وكلام أهل العلم في هذا الباب متواطئ على القول باستحباب الدعاء لولاة الأمور بالتوفيق والصلاح والمعافاة دون مجازَفة، ومن أشهر من قال بذلك الطحاوي والفُضَيل وأحمد والبيهقي والبَرْبَهَاري وابن قدامة والنووي وابن تيمية والحافظ العراقي والحافظ ابن حجر، وخلق كثير من العلماء وأئمة الدين.
وإنما نقول مثل هذا ـ عباد الله ـ لنؤكّد موقف أئمة الدين من أهل السنة والجماعة تجاه هذه المسألة، ولنصحّح بعض المفاهيم المشَوّشَة في هذا الجانب من باب الديانة والالتزام بالحق ليس إلا، لاسيما في هذا الزمن الذي غاب فيه الوعي الديني فيما يخص حقوق الراعي والرعية، والذي قَلَّ فيه الألفة والتناصر.
وجامع الأمر في هذا ـ عباد الله ـ هو قول النبي : ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم)) الحديث رواه مسلم [4]. والصلاة في هذا الحديث بمعنى الدعاء على أحد التفسيرين.
وبمناسبة ما رُزِأت به بلاد الحرمين الشريفين من فَقْد إمامها وولي أمرها الراحل لنسأل الله جلّت قدرته أن يتغمّده بواسع رحمته، وأن يرفع درجته، وأن لا يحرمنا أجره، ولا يفتنّا بعده، ويغفر لنا وله، كما نسأل المولى جل شأنه أن يحفظ إمامنا وولي أمرنا، ويوفّقه لما فيه صلاح المسلمين، وأن يجعله وولي عهده ذُخْرًا لما فيه خير البلاد والعباد، إنه سميع مجيب.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة، وأزكى البشريّة، محمدٍ بن عبد الله، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المُسَبِّحة بقُدْسه، وأَيَّه بكم أيها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ على محمد...
[1] العقيدة الطحاوية (47).
[2] السنة (1/80).
[3] أخرجه الخلال في السنة (1/84).
[4] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1855) من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه.
(1/4265)
حق الراعي
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, محاسن الشريعة
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
7/7/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أهداف بعثة الرسول تأليف القلوب بين المسلمين. 2- من القواعد التي استقرت عليها الملة ضرورة إقامة وال على الرعية يسوس الدنيا بالدين. 3- الآثار المترتبة على إقامة وال على البلاد. 4- أهمية النصيحة لولي الأمر. 5- آداب النصيحة لولاة الأمر. 6- واجب على الرعية السمع والطاعة لولي الأمر في غير معصية الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، واستقيموا على أمره سرًا وجهرًا.
أيها المسلمون، بعث الله نبينا محمدًا لتقصد قلوبُ الأفراد والجماعة الإلهَ وحده، وشعائر الإسلام تعلوا بِأُلفة واجتماع أفراد المجتمع على هذا الدِّين. بعثه ربه والناس أشد تقاطعًا وتعاديًا، وأكثر اختلافًا وتماديًا، فأتى بأمر روابط أواصر المودّة بين أفراده، ليفردوا خالقهم بالعبادة، وجعل ذلك من أوليات قواعد الدين. يقول عمرو بن عَبَسَة : دخلت على النبي بمكة فقلت له: من أنت؟ قال: ((أنا نبي)) ، فقلت: وما نبي؟ قال: ((أرسلني الله)) ، فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: ((أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان، وأن يوحد الله ولا يُشرك به شيء)) رواه مسلم [1]. ودعا إلى لُحْمَة الائتلاف بين المسلمين وحرّم ضدها، فقال: ((لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) متفق عليه [2].
ولتبقى القلوب سليمة نهى عن الهجر فوق ثلاث ليال، فقال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) متفق عليه [3].
ولما هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، كان من أول أعماله تأليف القلوب على طاعة الله، وأَلَّّف بين الأوس والخزرج بعد حروب طاحنة بينهم، فزالت محنهم، وانقطعت عداوتهم، وصاروا بالإسلام إخوانًا متحابّين، وبألفة الدين أعوانًا مُتناصرين، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، فكانت تلك نعمة سابغة امتنّ بها على الأنصار، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟! وكنتم متفرّقين فألّفكم الله بي!)) متفق عليه [4].
والمجتمع المتآلف ينتصر على أعاديه، ويؤدي الإسلامُ رسالته، وتقوم الشريعة كما أمر الله. ومن القواعد التي استقرت عليها الملة، وجاءت بها الفطرة، ضرورة إقامة والٍ على الرعية يسوس الدنيا بالدين؛ ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فلا دين ينتشر إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة. قال الماوردي رحمه الله: "ولولا الولاة لكانوا فوضى مهملين".
الوالي يحفظ الله به الدين ليكون محروسًا من الخلل، وينفذ الأحكام بين الأخصام، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم، ويذبّ عن الحرمات ليأمن الناس في المعاش، يحفظ الحقوق، ويقيم الحدود؛ لتصان محارم الله عن الانتهاك، يرفع راية الدعوة إلى الله، ويظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليذوق الناس حلاوة الدين، به تقام شرائع الملة وأعلام الإسلام.
وعبء أمانة الولاية ثقيل، يعين على حمله النصيحة الصادقة المخلصة من الرعية للراعي، يقول عليه الصلاة والسلام: ((الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم)) متفق عليه [5]. قال ابن رجب رحمه الله: "النصيحة لأئمة المسلمين معونتهم على الحق وطاعتهم فيه، وتذكيرهم به وتنبيههم برفق ولطف، والدعاء لهم بالتوفيق وحث الأغيار على ذلك" [6].
ونصح الولاة من الأعمال الفاضلة التي يحبها الله ويرتضيها، قال النبي : ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تنصحوا من ولاّه الله أمركم)) رواه أحمد [7].
والنصيحة تكون سرًا بين الناصح الصادق وبين الوالي؛ لتكون أخلص عند الله، وعلى هذا سار السلف الصالح. سُئل ابن عباس رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف ونهيه عن المنكر؟ قال: "إن كنت فاعلاً ففيما بينك وبينه" [8]. قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "الواجب مناصحتهم على الوجه الشرعي برفق، واتباع ما كان عليه السلف الصالح من عدم التشنيع عليهم في المجالس ومجامع الناس"، قال: "أما مخالفة ذلك واعتقاد أنه من إنكار المنكر الواجب إنكاره على العباد فإنه غلط فاحش وجهل ظاهر، لا يعلم صاحبه ما يترتب عليه من المفاسد العظام في الدين والدنيا، كما يعرف ذلك من نَّور الله قلبه، وعرف طريقة السلف الصالح وأئمة الدِّين".
وتوقير الولاة مع النصح لهم من الفقه في الدين، يقول سهل بن عبد الله رحمه الله: "لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين فسدت دنياهم وأخراهم". ونصحهم يكون بتلطّف في العبارة وحكمة ولين. قال ابن القيم رحمه الله: "مخاطبة الرؤساء بالقول الليّن أمرٌ مطلوب شرعًا وعقلاً وعرفًا، ولذلك تجد الناس كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبي يخاطب رؤساء العشائر والقبائل" [9].
ومن تمام النصح دعوة صادقة خفية لولي الأمر ابتغاء ثواب الله، وكان الإمام أحمد والفضيل بن عياض رحمهما الله يقولان: "لو كانت لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان".
وواجب على الرعية مع النصيحة السمع والطاعة له في غير معصية الله، قال النبي : ((تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع)) رواه مسلم [10]. قال ابن رجب رحمه الله: "السمع والطاعة لولاة أمور المسلمين فيها سعادة الدنيا، وبها تنتظم مصالح العباد في معاشهم، وبها يستعينون على إظهار دينهم وطاعة ربهم" [11].
وبالألفة بين الراعي والرعية يظهر الدين، ويهنأ العيش، ويطاع الرب بالعمل بنصوص الشريعة في ذلك، فترتفع منزلة العبد عند الله في الآخرة، وتتحقق له الرفعة. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (832).
[2] صحيح البخاري كتاب الأدب، باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر (6065)، وصحيح مسلم كتاب البر والصلة (2559)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[3] صحيح البخاري كتاب الأدب، باب: الهجرة (6077)، وصحيح مسلم كتاب البر والصلة (2560)، من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري كتاب المغازي، باب: غزوة الطائف في شوال (4330) واللفظ له، وصحيح مسلم كتاب الزكاة (1061)، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
[5] هو في البخاري معلقًا أخرجه في كتاب الإيمان، باب: الدين النصيحة، ومسلم في الإيمان (55) بنحوه، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
[6] جامع العلوم والحكم (ص80).
[7] مسند الإمام أحمد (2/367)، وأخرجه أيضًا بهذا اللفظ مالك في الموطأ (1863)، ومسلم في الأقضية (1715) بنحوه. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] ينظر: جامع العلوم والحكم، لابن رجب (ص82).
[9] بدائع الفوائد (3/652).
[10] صحيح مسلم كتاب الإمارة (1847)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه.
[11] جامع العلوم والحكم (ص262).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون، الموفق من اغتنم عمره بالطاعة، وعَمَرَ حياته بأعمال من البِرِّ متنوعة، ممتثلاً أمر الله: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [المائدة:48]. وقد كان لخادم الحرمين رحمه الله يدٌ طولى في ذلك، وتمتد الرفعة بعد العجز عن العمل بانقطاع الحياة بالدعاء والصدقة الجارية، قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم [1].
ومن حقه على الرعية الدعاء له بالمغفرة والرضوان، وما قدّم لرعيته وللمسلمين من أعمال صالحة.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
[1] صحيح مسلم كتاب الوصية (1631) بنحوه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/4266)
رضا الله عن العبد
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, حقيقة الإيمان
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
7/7/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مرتبة الرضا من أسمى المراتب الإيمانية وأرفعها. 2- غاية المسلم الحق رضا الله عنه. 3- السعادة في رضا الله. 4- لوازم الرضا. 5- من صفات الصادقين تقديم رضا الله على رضا الجميع. 6- المستوطنات الإسرائيلية حق غير مشروع. 7- الإجراءات الاحتلالية بحق القدس وأهله.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة براءة: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
أيها المسلمون، سئل أحد الصالحين عن أمنيته في هذه الحياة الدنيا؟ فأجاب: أملي أن يرضى الله عني. وسئل آخر من الصالحين: ما غاية الرضا؟ فأجاب: أن لا تفرح بما أقبل من متاع دنياك، ولا تأسى على ما أدبر منها، ولا تمكّن التسويف من قلبك؛ فإنه سبيل الضلال.
أيها المسلمون، لقد عَدَّ علماء التوحيد مرتبة الرضا من أسمى المراتب الإيمانية وأرفعها، واستدلّوا بقول رسولنا الأكرم : ((اتّقِ المحارم تكن أعبد الناس، وارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب)).
نعم أيها المسلمون، لقد أوضح حبيبكم محمد بأن الذي يرضى بما قسم الله له يكون أغنى الناس؛ لأنه أعظمهم سرورًا واطمئنانًا، وأبعدهم عن الهمّ والحزن والسخط والضجر والتبرُّم؛ إذ ليس الغنى بكثرة المال، إنما يكون بغنى القلب والإيمان والرضا. والمعلوم أن القناعة كنز لا يفنى.
أيها المسلمون، يُعدّ الرضا من أسباب سعادة المؤمن وطمأنينته في الدنيا وفي الآخرة، وأن السخط سبب الشقاء في الدنيا والخسارة في الآخرة، لقول رسولنا الأكرم عليه أفضل الصلاة: ((ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله تعالى، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله تعالى له)).
أيها المسلمون، لقد هذَّب رسولنا الأكرم سلوك أصحابه الكرام رضي الله عنهم، وغرس في قلوبهم الرضا بالله تعالى ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا ورسولاً، فاطمأنّت قلوبهم، وهدأت نفوسهم، ورضي الله عنهم، للحديث الشريف: ((من قال إذا أصبح وأمسى: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً؛ كان حقًّا على الله أن يرضيه)). فكان الصحابة رضوان الله عليهم يكرّرون هذا الحديث الشريف صباحًا ومساءً، مُعْرِبِين عمّا تُكنّه قلوبهم المؤمنة من نعيم الرضا بالله عز وجل والتسليم. فاحرصوا ـ أيها المسلمون ـ على تكرار هذا الحديث النبوي الشريف، فقولوا: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولاً؛ يرضى الله عنكم.
أيها المسلمون، إنه من لوازم الرضا بالله تعالى ربًّا الرضا بكل أفعاله في شؤون خلقه من إعطاء ومَنْع، وخَفْض ورَفْع، وضرّ ونفْع، ووصْل وقطْع. ومن لوازم الرضا بالإسلام دينًا أن يتمسّك المسلم بأوامره، وأن يبتعد عن نواهيه، وأن يستسلم لأحكامه، ولو كان في ذلك مخالفة لهوى نفسه ومعارضة لمصالحه الخاصة وأموره الدنيوية. ومن لوازم الرضا بسيدنا محمد نبيًّا ورسولاً أن يتخذ من شخصه مَثَلاً أعلى وأسوة حسنة، فيتبع هديه، ويقتفي أثره، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين)). حينئذ فإن المسلم يتذوّق طعم الإيمان وحلاوة اليقين، لقول الرسول الكريم: ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا)).
أيها المسلمون، إن المؤمن هو الذي يحرص على التماس رضا الله، سواء رضي الناس عنه أو سخطوا، حينئذ فإن الله ربّ العالمين يتولاّه ويرعاه، ويحميه من شرار الناس وعداواتهم؛ لأن المسلم الصادق ينبغي أن يكون ملتزمًا بأوامر الله، ومجتنبًا نواهيه. وعلى العكس من ذلك فإن المسلم إذا سعى إلى رضا الناس بما يغضب رب العالمين فإن الله عزّ وجل يتخلّى عنه، ويسلمه للناس، وبمعنى آخر: إذا كانت أقواله وأفعاله وتصرّفاته مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية بهدف إرضاء الناس ومداراتهم فإن الله سبحانه وتعالى يسخط عليه، ويتخلى عنه، ويكله إلى الناس.
أيها المسلمون، هناك أحاديث نبوية شريفة في هذا المجال، فيقول رسولنا الأكرم : ((من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس)) ، وفي حديث آخر: ((من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)). فنقول للذي يحاول أن يرضي الناس رغم مخالفته لأحكام ديننا العظيم نقول له: فمن الذي يحميك من غضب الله العزيز الجبار؟! يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
أيها المسلمون، إن الذي يرغب في الجمع بين محبة الله ومحبة الناس له، فعليه أن يلتزم بقول رسولنا الأكرم : ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)). ويؤخذ من هذا الحديث النبوي الشريف بأن محبة الله للإنسان مَنُوطة بالتزام أوامر الله عزّ وجل، والابتعاد عن المحرمات والشبهات في المأكل والملبس والمسكن وسائر شؤون الحياة، كما أن محبة الناس للإنسان تأتي من خلال المعاملة الحسنة لهم وعدم أكل أموالهم، والإعراض والعزوف عما في أيديهم. وأن لا يطمع الإنسان بأموال الناس والتي ليست من حقّه. حينئذ يحبه الله ويحبه الناس أيضًا. أما إذا تعارضت محبة الله مع محبة الناس فيجب على المسلم أن يرجّح محبة الله على محبة الناس له.
نعم أيها المسلمون، إن المؤمن يسعى في هذه الدنيا لينال رضا الله عزّ وجل، وذلك بقبول الله لأعماله، ولكن لا يتحقّق ذلك إلا إذا كان المسلم نفسه راضيًا عن ربه، أي مستسلمًا للذي خلقه، وراضيًا بثواب الله عزّ وجل وبجنته، أي قانعًا برضا الله ورحمته، حينئذ يكون الرضا متبادلاً بين الإنسان وخالقه، لقوله سبحانه وتعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [المجادلة:22]، وهذه قمّة العلاقة الإيمانية بين الله تعالى والإنسان.
جاء في الحديث الشريف: ((إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. يقولون: لبيك ربّنا وسعديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك. فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المصلون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، تكرّرت تصريحات المسؤولين لدى السلطات الإسرائيلية المحتلة بشأن القدس واللاجئين والمستوطنات، مما يؤكد أنهم لا يريدون حلاًّ ولا سلامًا، أما القدس فيزعمون بأنها عاصمة أبدية لهم بشقّيها الغربي والشرقي، وأنها غير خاضعة للتفاوض. ونقول: إن مدينة القدس بشقّيها الغربي والشرقي هي وقف إسلامي، ولا مجال للتفاوض عليها، كسائر مناطق فلسطين.
أما موضوع اللاجئين فقد سبق أن أصدرنا فتوى شرعية بضرورة عودتهم إلى ديارهم، فهو حق شرعي لهم، وأن حقّهم غير قابل للمُسَاومة.
وأما المستوطنات فهي غير شرعية؛ لأنها مقامة على أرض مُغْتَصَبة، وأن المستوطنين يمثلون الاحتلال، والاحتلال مرفوض شرعًا.
أيها المصلون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، أما مسجدنا الأقصى المبارك فإن التشديدات الاحتلالية حول القدس وداخلها تهدف إلى محاصرته، وعَرْقَلة وصول المصلّين إليه، وحرمان مئات الآلاف من المسلمين الصلاة في الأقصى، والسؤال: من الذي يُعاقَب: المعتدِي أم المعتدَى عليه؟! إن اليهود والمتطرّفين هم الذين يهدّدون بالاعتداء على الأقصى المبارك، فلماذا هذه التشديدات على المصلين المسلمين؟!
إننا نرفض هذه الإجراءات الاحتلالية بحق القدس وأهلها، وبحق أهل فلسطين بشكل عام. وان هذه الإجراءات الظالمة لتؤكّد على الأطماع المبيّتة تجاه مسجدنا المبارك.
أيها المصلون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، نذكّركم بشدّ الرحال بعد غد الأحد 14/8/2005، وهو اليوم الذي أعلن عنه اليهود المتطرّفون بأنهم سيقتحمون الأقصى، فمن واجب كل مسلم التوجّه إلى الأقصى؛ لأنه مهدّد بالأخطار، وأن حمايته واجب علينا، وسبق أن عاهدنا الله رب العالمين على حمايته، ولنجدّد هذا العهد، فردِّدوا من بعدي ـ أيها المصلون ـ وقولوا: نقسم بالله العظيم أن نحمي الأقصى من أي اعتداء عليه.
أيها المصلون، اعلموا أن الدنيا خُلِقت لكم، ولكنّكم خُلِقتم للآخرة، وأن الله عز وجل قد أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة، ولم يعطها لكم لتركنوا إليها، واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون، وبأعمالكم تحاسبون، وسيعلم الذين ظلموا أي مُنقلب ينقلبون.
(1/4267)
التحذير من السحرة والمشعوذين
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي, نواقض الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
7/7/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشروعية التداوي. 2- طلب العلاج لا ينافي التوكل. 3- طرق معرفة الساحر. 4- حكم إتيان السحرة والكهان. 5- من شبهات المشعوذين. 6- قصص في السحر والشعوذة. 7- كيفية الوقاية من السحر. 8- خطورة استغلال الخادمات في عمل السحر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، من حكمة الله جلّ وعلا ابتلاؤه بعض عباده بأنواع من الأمراض والأسقام، وهذا الابتلاء لتكفير السيئات، وحطّ الخطايا، ورفع الدرجات، لمن صبر ورضي، واطمأنّ لقضاء الله وقدره.
وربّنا جلّ وعلا شرع لنا تعاطي الأدوية النافعة، الأسباب النافعة، لعلاج أي مرض ما من الأمراض، يقول : ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، علمه مَن علمه، وجهله مَن جهله)) [1] ، وقال: ((تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام)) [2] ، وما جعل الله شفاءنا فيما حرّم علينا. والمؤمن حينما يتعاطى أسباب العلاج يتعاطاها مع ثقته بالله ورضاه بقضاء الله وقدره، وعلمه الكامل أن هذه الأسباب لا أثر لها إلا بإرادة الله: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29].
أيها المسلم، فتعاطي المسلم للأسباب لا ينافي توكّله على الله، بل فعله للأسباب من توكّله واعتماده على ربّه، ولكنّ المؤمن حقًّا ينأى بنفسه عن تلكم الأدوية الضارّة، عن تلكم الوسائل الخبيثة، عن تلكم الأسباب المؤذية التي تفسد الإيمان، وتطفئ نورَ الإيمان من القلب.
أيها المسلم، نسمع في أحيان كثيرة عن بعض متعاطي السحر والشعوذة الذين خدعوا الناس وضلّلوهم بما يدّعون عندهم من معرفة العلاج بسائر الأدواء، وأنّ كل داء لا يستصعب علاجه عندهم. هؤلاء السحرة الظَّلَمَة أكلة أموال الناس بالباطل، هؤلاء السحرة الضالون المضلون، الخارجون عن منهج الله المستقيم، لا يجوز للمسلم أن يأتيهم، لا يحلّ له أن يقصدهم ليتعاطى الشفاء على أيديهم، فليس عندهم شفاء، وإنما عندهم الفساد والبلاء، يدّعون الإصلاح وهم المفسدون على الحقيقة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أخي المسلم، العلاج مطلوب ومُرَغَّبٌ فيه، لكن شريطة أن لا يتنافى مع إيمانك، ولا يكون مُصادِمًا لعقيدتك السليمة، وهي توحيد الله وإخلاص الدين له، والبعد عن الشرك قليله وكثيره.
أخي المسلم، قد تتساءل وتقول: كيف لي علم بأنّ هذا الذي يدّعي الرُّقية أنه ساحر، أنه مشعوذ، أنه كاهن، أنه عَرَّاف، أنه مفسد في الأرض؟ نقول: يُعلَم ذلك بحاله ووصفاته الطبّية وحاله في تديّنه وعدم ذلك، فالسحرة والمشعوذون أوّلاً لا دين عندهم، إيمانهم ضعيف أو معدوم، هم قوم غَلَبت عليهم شِقْوَتُهُم وحب الدنيا والتفاني لأجلها، فلا يبالون بعد ذلك ما يصنعون، تعرفهم بِسِيماهُم، فهم أدنس مَلْبَسًا، وأنْتنُهُم رائحة، وأقذرهم مسكنًا، نعم لأن لهم اتصالاً بالشياطين، والشياطين مأواها الحُشُوش والأماكن القذرة، تعرف هذا الساحر والمشعوذ عندما يأتيه المريض، فأوّل سؤال يسأله: اسمك، واسم أمك، اسم أبيك، اسم زوجتك، اسم أخيك، اسم أختك، اسم عائلتك، ثم يفتح لك أيضًا ملفًّا فيقول: حالك كذا وكذا، وفي بيتك كذا وكذا، ولك اتصال بفلان وفلان، إلى آخر ذلك من الأمور المُغَيَّبَة التي يكتسبها من طريق قرينه الشيطان الجني.
ثم وصفاته الطبّية العلاجية وصفات كلها خاطئة، فيأمرون بالذبح لغير الله، ويخصّصون حيوانًا خاصًّا، يقول: اذبحه لغير الله، لا تستقبل به القبلة، لا تذبحه الذبح الشرعي، وإنما يُذبَح خَنْقًا ونحو ذلك. وأيضًا يعطي حُجُبًا فيها مربّعات، طلاسم وكلام لا يُفهم، وألفاظ لا يُدرى ما هي، يأمره بالتكلّم بها والدعاء بها، وفيها استغاثة بالشياطين والتجاء إليهم. يعطيه أوراقًا معيّنة، وأعشابًا معيّنة، يقول: احرقها وتداوَ بدخانها عند غروب الشمس أو عند طلوعها وأوقات معيّنة يحددها له. ربما أمره بالانزواء عن الناس والانفراد عنهم وقتًا، وربما أمره بأن يُلوّث بدنه وملابسه بالنجاسات، وربما زَيّن له تمزيق القرآن، أو التغَوُّطَ على المصحف أو البول عليه، وربما أمره، وربما أمره... لكن كثير من أولئك قد يخفون ما تدعوهم إليه السحرة رجاء أن يكون عند هذا المشعوذ شفاء، وليس عنده والله إلا البلاء، وإن شُفِيت على يده مرّة تعلّقَ قلبك به، ووثقت به، وظننت أنه الطبيب المداوي والمعالج النافع، ولكنّه أفسد دينك، وقضى على إسلامك وهو خير لك من كل ذلك.
أيها المسلم، هؤلاء السحرة حرام على المسلم قصدهم، حرام عليهم إتيانهم، يقول : ((من أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )) [3] ، ذلك أنهم يدّعون علم المُغَيَّبات، والله يقول: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ [النمل:65]، وفي لفظ: ((من أتى كاهنًا فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين يومًا)) [4] ، هذا الساحر مفسد، حدّه في الشرع القتل، فروي قتله عن ثلاثة من الصحابة: جُنْدُب بن عبد الله، وبَجَالَة وحَفْصَة رضي الله عنهم [5] ، وكتب عمر إلى عُمّاله: (أن اقتلوا كل ساحر وساحرة) [6] ، فوجودهم بلاء، وإتيانهم ضرر، وفساد الدنيا والآخرة، قوم لا خَلاق لهم، وقوم لا دين لهم، إن نظرت إلى دينهم وجدتهم لا دين عندهم، ولا قِيَمَ فضائل عندهم، عندهم البلاء والضرر العام في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، العلاج مطلوب، والسبب مطلوب، ولكن بأي سبب وأي علاج؟ فعلاج فيه منافاة لدين الإسلام هذا ضرر له ولا خير فيه.
كم تأتيهم النساء يطلبن منهم أن يقرّبوهم إلى أزواجهم، ويدّعون قدرتهم على تحبيب المرأة لزوجها والرجل لامرأته! وكل هذا من الباطل، فالمحبة [في القلوب] الله الذي يقذفها لا هؤلاء الضالين. وقد يأتيهم بعض الجهلة ليستعين بهم إلحاق ضرر بهذا وهذا، فبعض النسوة قد تأتيهم لتحثّهم على أن يصنعوا لزوجها ما يُبغّضُ به ضَرّتها، ويُقْبِل بقلبه عليها. وقد يأتيهم قوم من باب العدوان؛ ليلحقوا الضرر بالآخرين، والله يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
أيها المسلم، إن الله بعث محمدًا بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه الكتاب؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فأخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشرك والباطل إلى نور التوحيد، وخَلّصَهم من الخرافات بالحجج الواضحة البيّنات، فيا أيها المسلم، احذر هؤلاء، فلا خير فيهم.
إننا نسمع أحيانًا بوجود سحرة ومشعوذين في مكان كذا وكذا، إنما هي مصيبة في الأمة، والواجب اجتِذاذ هؤلاء، وأن لا يكون لهم شأن، وأن لا يقصدهم المسلم، وأن يعلم أنه إن قصدهم فقد أفسد دينه، فهم لا خير فيهم، ولا علاج عندهم، وإن تظاهروا بما تظاهروا به. أحيانًا يقولون: إن لنا قُرَنَاء من الجن المسلمين يعينوننا، ويبينون لنا، ويكشفون لنا الحقائق، وكل هذا من الجهل والضلال، فإن الشياطين لا يعينون السحرة إلا إذا ذلّ الساحر للشيطان، عبده من دون الله، وأطاعه من دون الله، وارتكب كل الخسائس والدنايا في سبيل إرضاء الشيطان حتى يرضيه فيعينه على الشر والفساد، فيستمتع الجن بالإنس بعبادة الإنس لهم، بسجودهم لهم، بذبحهم لهم، بعبادتهم إياهم، بارتكابهم الرذائل والدنايا لأجل إرضاء الشيطان حتى يعينه على تنفيذ مراده، فأمر بين الشيطان وبين فاسق وظالم وبَشَر لا خير فيه ولا منفعة فيه، فعلى المسلم أن ينتبه لنفسه، وعليه أن يسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، وإذا ابتُلِي فليصبر، وليتعاط الأسباب المأذون فيها شرعًا، ولا يأتي سببًا الله حرّمه عليه، والله أخبرنا عن السحرة أنه لا خَلاق لهم: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102].
فيا أخي المسلم، نصيحة لله أن تبتعد عن هؤلاء، ولا تثق بهم، ولا تسَتَّرَ عليهم، ولا تستعن بهم، ولا تجعلهم أهل علاج وشفاء، والحذر الحذر منهم، فلا خير فيهم ولا في دوائهم، بل عندهم الداء العُضَال، وليس عندهم دواء ولا شفاء، اطلب الشفاء من رب العالمين، يقول الخليل عليه السلام: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، فاسألوا الله الشفاء من عنده، واصبر على ما أصابك، إن ذلك من عزم الأمور، وإياك أن تأتي أولئك، أو تثق بهم، أو تحسن الظن بهم مهما قالوا، ومهما تظاهروا، فلو تظاهروا بالتقوى والصلاح وأنت تعلم سيرتهم السيئة ووسائلهم الضارة فلا تثق بهم، فليس عندهم خير.
وليحذر أرباب الرُّقْيَة أن يكذبوا على الناس، أو يخدعوا من يأتيهم بأنواع الخرافات ليبتزّوا أموالهم، ويكثروا السواد عندهم، فلا خير في السحر لا لمن يقدر عليه ولا لمن يدّعيه وهو غير قادر عليه، وليحذر أهل الرُّقْية من هذه الخرافات، وليرقوا المرضى بكتاب الله والمأثور من سنة محمد ، وليحذروا الأكاذيب والأباطيل التي يخدعون بها من يأتيهم ليقوّوا ثقة الناس بهم، ويستلبوا أموالهم، والله يعلم أنهم لا يحسنون شيئًا من هذا، فليتق المسلم ربه في أحواله كلها.
أسأل الله لي ولكم العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم عافنا في ديننا وأهلينا وأبداننا وأموالنا، اللهم استر عوراتنا، وأمّن رَوْعاتنا، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، ونعوذ بعزّتك أن نُغْتال من تحتنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (1/377)، وابن ماجه في الطب (3438) مقتصرًا على جزئه الأول، والحميدي (90)، والشاشي (752)، وأبو يعلى (5183)، والطبراني في الكبير (10/163) والأوسط (7036)، والبيهقي في الكبرى (9/343) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد اختلف في رفعه ووقفه، قال الدارقطني في العلل (5/334): "ورفعه صحيح"، وصححه الحاكم (8205)، وقال الهيثمي في المجمع (5/84): "رجال الطبراني ثقات"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (451).
[2] أخرجه أبو داود في الطب (3874)، والبيهقي في الكبرى (10/5)، وابن عبد البر في التمهيد (5/282) من طريق إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن أبي عمران الأنصاري، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وليس عند ابن عبد البر "عن أم الدرداء"، وثعلبة حديثه حسن في الشواهد، انظر: السلسلة الصحيحة (1633). وفيه اختلاف آخر فقد أخرجه الطبراني في الكبير (24/254) فجعله من مسند أم الدرداء، قال الهيثمي في المجمع (5/86): "رجاله ثقات".
[3] أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (339)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "وضعف محمد ـ يعني: البخاري ـ هذا الحديث من قِبَل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك. وله شاهد من حديث جابر أخرجه البزّار (9045 ـ كشف الأستار)، وجوّده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (11715): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285).
[4] أخرجه مسلم في السلام (2230) عن صفية عن بعض أزواج النبي بنحوه.
[5] انظر: تفسير ابن كثير (1/145).
[6] أخرجه الشافعي في مسنده (1/383)، وابن أبي شيبة في المصنف (5/562).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يتنوّع خداع السحرة للناس، فيوحُون إليهم قدرتهم على كل شيء، بل ربما قالوا: نحن نحيي الموتى، ونعيد الميت إلى الحياة، ونفعل ونفعل! في زمن جُنْدُب بن عبد الله صاحب النبي كان رجل ساحر عند بعض أمراء ذلك الزمان، وكان يقول لهم: إني أُزِيل رأس الإنسان من جسده، ثم أعيده ثانيًا، وأجرى شيئًا من هذا، والحاضرون معجبون؛ لأن هذا يقتلع الرأس، ثم يعيده ثانية؛ لأنه خيّل على أنظارهم ذلك، فجاء جُنْدُب بن عبد الله سيفه في ردائه، فلما أبصره ضرب عنقه بالسيف، وقال: ليعد رأسه إن كان صادقًا! فتفرّق القوم، وعلموا أن ذلك خداع وضلال [1] ؛ لأن السحرة لا يمكن أن يكافح شرهم إلا ذكر الله.
سُحِر النبي ، سحره اليهودي لَبِيد بن الأعصم، فلما سحره في مِشْط ومِشَاطة، وجعله في بئر يقال لها: بئر ذَرْوَان، خُيّل إلى النبي أنه فعل الشيء وما فعله، وأنه لم يفعله وقد فعله، لكنّ الله عصم الوحي من أن يطَّرَق إليه سحر الساحرين، فرأى النبي في منامه مَلَكين، قال أحدهما: ماله؟ قال: مَطْبُوب، أي مسحور، قال: من سحره؟ قال: لَبِيد بن أعصم في كذا وكذا، فأمر النبي فأخرج ذلك السحر من ذلك البئر [2]. وأنزل الله على نبيه سورتي: قل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، فيقول : ((ما استعاذ مُسْتعِيذ بمثلهما، وما سأل الله أحد بمثلهما)) [3]. وكان إذا آوى إلى فراشه جمع كفّيه فقرأ فيهما: قل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس ، يمسح بهما رأسه ووجهه وما استطاع من جسده ثلاث مرات [4]. وكان يقول: ((من قرأ آية الكرسي كل ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح)) [5] ، وفي أحد المنتديات التي للشرك وأمثاله كان ساحر يروج على الناس هذا الباطل، وأنه يحيي الموتى، ويبتدع الأشياء وإلى آخره، فكان رجل من الحاضرين يقرأ آية الكرسي فبطل سحر ذلك الساحر، وانفضّ المجتمع من غير أن يستطيع ذلك الساحر أن يظهر سحره؛ لأن القرآن الكريم هو أعظم ما يبطل سحر الساحرين، ويقضي عليهم.
إخوتي الأعزاء، أيها المسلم، إن البعض من النسوة أو البعض من ضعفاء العقول من الرجال ربما استغلّوا بعض الخادمات عندهم لكي يأخذوا منهن استعانة للسحر والشعوذة، ثم يُصاب البيت وأهله بهذه الأضرار العظيمة، والنتيجة غالبها إما من المرأة أو من الرجل. أو يكون عند ذلك الرجل فساد وانحلال خلقي مع تلك الخادمات حتى يذهب هيبته من قلبها، فتصنع له من الشر والبلاء عقوبة من الله على انحراف الأخلاق وسوء الأعمال، فليتق المسلمون ربهم، وليكونوا على حذر من هذه الأمور كلها، وليباشروا أمورهم الخاصة بأنفسهم، وليحذروا من أن يسلّموا أشياءهم الخاصة وفرشهم الخاصة لكثير من هؤلاء الذين لا تعلم حقيقة أمرهم، ولا تستطيع فهم كثير من الأمور، فإن المرأة إذا أهملت بيتها، وأهملت فراش زوجها، وأهملت أولادها، واستهانت بتلك الأمور، وألقت بالثقل والمسؤولية على هؤلاء الذين لا يُدرَى عن تربيتهم ولا عن ما هم عليه، فربما أفسدوا ودمّروا البيوت، فيندم الناس ولات حين مَنْدَم.
فيا أيها الإخوة، الحذر الحذر من هؤلاء وأمثالهم، ولنستعذ بالله من شرهم، ولنكثر من الأوراد التي يحفظ الله بها العبد من كيد شياطين الجن والإنس.
أسأل الله لي ولكم العافية في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير.
[1] أخرجه البيهقي في السنن (8/136).
[2] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3268)، ومسلم في السلام (2189) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرج نحوه النسائي في الاستعاذة (5432)، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي (5020) من حديث ابن عابس الجهني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا ابن عابس، ألا أدُلّك ـ أو قال: ألا أخبرك ـ بأفضل ما يتعوّذ به المتعوّذون؟)) قال: بلى يا رسول الله. قال: (( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، هاتين السورتين)).
[4] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5018) عن عائشة رضي الله عنها.
[5] جاء هذا في الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (3275) عن أبي هريرة في قصته مع الشيطان الذي أراد أن يسرق من زكاة رمضان، فأرشده إلى أن يقرأ آية الكرسي كل ليلة، وفي آخره قال : ((صدقك وهو كذوب)) ،
(1/4268)
أصول البيعة الشرعية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
14/7/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نوائب الدهر مقياس لثبات الأمم. 2- خطورة الجهل بأصول البيعة الشرعية. 3- حقوق الحاكم بعد بيعته. 4- التحذير من الوقيعة في ولاة الأمور. 5- مفهوم النصيحة لولي الأمر. 6- التذكير بنعمة الأمن في بلاد الحرمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن وصية الله للأولين والآخرين تقواه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها الناس، الأمم في أحوالها وأطوارها كبني الإنسان، لا تَسْلَم في تاريخها من مصائب ونُوَب، وحوادث وكُرَب، تَعْتَوِرُها ذات اليمين وذات الشمال، فإن لم توهنها تلك الحوادث والكروب فإنها تزيدها تمكينًا وثباتًا وقوة ورسوخًا، وقد يُقاس ثبات الأمم وقوتها بكثرة المصائب التي مرّت بها فتخطّتها سالمة قائمة. وإنّ مما يمرّ بالأمم والدول وفاة قادتها ومنظِّريها، أو غياب عظمائها ومُرشِديها، ممن اجتمعت عليهم الكلمة، وبُسِط بهم الأمن، وتخطّوا بها مضايق وعقبات وعثرات وأزمات أَوْدَتْ بدول، وعَصَفَتْ بشعوب، وأضرّت بأمم، وزلزلت كيانات.
ولقد كانت هذه البلاد في أيامها السالفة على موعد مع يوم حزين أودعت فيه حاكمَها الثَّرَى وودّعته، وشدّت على يد خليفته وبايعته، بايعته في لحظات سرّت المحبّين، وساءت الشانئين، والحمد لله رب العالمين، لحظات أسدلت ستارًا على زمنٍ من الإشاعة والإرجاف، ممن تشاءموا بالخلاف، وانفراط عقد الاجتماع والائتلاف.
أيها المسلمون، ومن انقضاء عهدٍ وإطلالة عهدٍ جديد ينبغي للمسلم أن يدرك أن للبيعة الشرعية أصولاً وأحكامًا، وللسمع والطاعة حدودًا وأعلامًا، ولحقوق الراعي والرعية في الشريعة آدابًا وأحكامًا، وقد بيّن ذلك العلماء والخطباء، وطبّقوه واقعًا مع العامّة والكبراء، كما يحسن بالمسلم أن يدرك ما يحقّ له الاهتمام به، ويجب عليه الكفّ عنه، فإن لذلك آدابًا وأصولاً تنبغي الإحاطة بها ومعرفة حدودها ورسومها، وكم أورث الخلْطُ فيها من إضاعة للأوقات، وإثارة للنفوس والحزازات، وانشغال بالإشاعات، وإرجاف بالناس، والتساؤل فيها مدعاة للجُرْأة على أمورٍ يذوق المجتمع مرارتها.
وإن النار بالعُودَيْن تُذْكَى وأمرُ الحربِ أوّله كلامُ
وإن الناظر في واقع الأمة الإسلامية عامة يرى أن جزءًا كبيرًا من القضايا الخاطئة والتي أضرت بالمسلمين، وساهمت في الشَّتَات، ومنها الغلوّ والتكفير والخروج على جماعة المسلمين وولاتهم؛ هو عدم الإدراك والاستيعاب للبُعْد الشرعي لمسألة الولاية في الإسلام، وكذا البُعْد عن اتّباع السنة في التعامل مع ولاة الأمر باختلاف الأحوال. وقد أخبر النبي عن وجود النقص في الحكّام، ومع ذلك أَمَرَ بالسمع والطاعة بالمعروف، ففي الصحيحين أن النبي قال: ((إنها ستكون بعدي أَثَرَة وأمور تُنكرونها)). قالوا: يا رسول الله، كيف تأمر من أدرك منّا ذلك؟ قال: ((تؤدّون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم)) [1] ، وذلك لِمَا في الخروج على الولاة وجماعة المسلمين من المفاسد ما يفوق المصالح المتوهّمة أضعافًا كثيرة، وهل خرجت الخوارج والنواصِب والروافض، وانقسم الناس أحزابًا وأشياعًا، وتقاتل المسلمون، وعمّتهم الفتنة، ووقع الاختلاف؛ إلا بسبب النقد الجائر على الخليفة عثمان بن عفان ، وتحريض الأوباش عليه حتى قتلوه، واستحلّوا دمه الطاهر، ثم قتلوا بعده الخليفة علي بن أبي طالب ، فَانفتح باب شرّ لم يزل أثره حتى اليوم؟! وكل ذلك كان بعيدًا عن التوجيه الإلهي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
أيها المسلمون، حق الحاكم بعد بيعته إحسان الظن فيه، والتماس العذر له فيما يأتي ويذَر من أمور الحكم، خصوصًا إذا كان مُحَاطًا بِسَاسَة وعلماء ومختصين، فإنهم يرون ما لا يرى غيرهم، يوازنون الأمور، ويراعون المصالح، والمعافى من كُفِي. ولقد قرّر أهل الأدب والعلم بالتاريخ أنّ من شأن الرعية قلّة الرضا عن الأئمة، وتَحَجُّرِ العذر عليهم، وإلزام اللائمة لهم، ورُبَّ مَلوم لا ذنب له. ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة إذا كان إرضاء الجميع من المُعْجِز الذي لا يُدرَك، والممتنِع الذي لا يُملَك، ولكلٍّ حصّته من العدل ومنزلته من الحكم. فمن حق الإمام على رعيته أن يقضي عليهم بأغلب من فعله، والأعم من حكمه، ومن حق الرعية على الراعي حسن القبول لظاهر طاعتها، كما قال زياد لما قدم العراق واليًا عليها: "أيها الناس، قد كان بيني وبينكم إِحَنٌ، فجعلتُ ذلك دَبْرَ أُذُنِي، وتحت قدمي، فمن كان محسنًا فليزدد في إحسانه، ومن كان مسيئًا فلينزع عن إساءته، إني لو علمت أن أحدكم قد قَتَله السَّلُّ من بُغْضِي لم أكشف له قناعًا، ولم أهتك له سترًا حتى يبدي صفحته لي" [2]. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائرًا فله الوزر وعليك الصبر). ومما يعين على الصبر الإدراك بأن الرفق في إنفاذ الأمور من سَجِيّة السلاطين، وقد قال عبد الملك لأبيه عمر بن عبد العزيز رحمه الله: يا أبتي، مالك لا تنفذ في الأمور؟! فوالله لا أبالي في الحق ولو غلت بي القدور. فقال عمر: لا تعجل يا بني؛ فإن الله ذمّ الخمر في القرآن مرتين، وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق حَمْلة فيدفعوه فتكون فتنة [3]. ومحصِّلة ذلك أن إعذار الحاكم وإحسان الظن فيما يُمْضِي هو الأسلم، وكم جرّب المجتمع أحوالاً تبيّن بعد انقشاع الغُمّة أن المصلحة كانت فيما أمضاه الحاكم؟!
ومن أدب الرعية وحق سَاسَتها عليها احترام الخوض في الأمور الكبرى وإيكال الأمر لأهله في القضايا المصيرية، فإن هذه الشؤون كثيرًا ما تكون حقائقها أعمق من فُهُوم العامة، وبواطنها أبعد عن إدراكهم، مع ما ينتج من الإذاعة بها من الإرجاف والخلاف. ولقد عاتب الله قومًا سارعوا في مثل هذه المقالات فقال سبحانه: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83]، قال السعدي رحمه الله: "هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمرٌ من الأمور المهمة والمصالح العامة وما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف أن يتثبّتوا، ولا يستعجلوا في إشاعة ذلك الخبر والخوض فيه، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يُولَّى من هو أهل لذلك، ولا يُتَقَدّم بين أيديهم، فهو أقرب للصواب وأحرى للسلامة من الخطأ" انتهى كلامه رحمه الله [4].
ومع أن البُعْد عن الخوض فيما لا علم للإنسان به مما جاء به التوجيه الشرعي فإنه حِسٌّ حضاري، وذوق رفيع يتحلّى به ذوو الأقدار، والله تعالى يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
أيها المسلمون، الوقيعة في المسلم معصية في ذاتها، وفي حق ذوي الأقدار أشدّ، وهي مُذْهِبَة لهَيْبة الحاكم في نفوس العامة، كما هي الشرارة الأولى لتهييج القلوب عليه، وإذكاء الفتنة، ولإيصاد هذا الباب جاء الشرع المطهّر بالنهي عن سب الولاة والطعن عليهم، فعن أنس بن مالك قال: (نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله أن لا تسبّوا أمراءكم ولا تغشّوهم ولا تعصوهم، واصبروا واتقوا الله عز وجل، فإن الأمر قريب) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة والبيهقي في شعب الإيمان [5].
وروى الترمذي بسند حسن عن زياد العدوي قال: كنت مع أبي بَكْرَة تحت منبر ابن عامر وهو يخطب وعليه ثياب رِقاق، فقال أبو بلال: انظروا إلى أميرنا يلبس ثياب الفسّاق! فقال أبو بَكْرَة : اسكت؛ سمعت رسول الله يقول: ((من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله)) [6].
وأخيرًا فإن من حق الحاكم مناصحته وإعانته على ما ولي إذ التبعة كبيرة والمسؤولية عظيمة، ففي صحيح مسلم عن تميم الداري قال: قال رسول الله: ((الدين النصيحة)). قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم)) [7]. قال الخطابي رحمه الله: "النصيحة كلمة جامعة معناها: حِيَازة الحظّ للمنصوح له" [8]. وقال النووي رحمه الله: "وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه، وأمرهم به، وتنبيههم وتذكريهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألّف قلوب الناس لطاعتهم، وأن لا يُغرّوا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يُدعَى لهم بالصلاح" انتهى كلامه رحمه الله [9]. ومنه يُعلَم أن النصيحة تشمل أمرين:
الأول: أن يتقن كل صاحب عمل عمله الذي ولاّه الحاكم إياه، وأن يخلص فيه ويجيد، ويكمّله حسب جهده وطاقته.
والثاني: إسداء النصح والتوجيه بمراعاة آداب النصيحة وأصولها، وهذا كله من التعاون على البرّ والتقوى.
هذه بعض الآداب والأصول، نسأل الله تعالى التوفيق لما يحبّ ويرضى.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3603)، وصحيح مسلم: كتاب الإمارة (1843) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] انظر: البيان والتبيّن للجاحظ (1/244).
[3] انظر: الموافقات (2/93، 94).
[4] تيسير الكريم الرحمن (160).
[5] السنة لابن أبي عاصم (2/217)، شعب الإيمان للبيهقي (6/69)، وجود إسناده الألباني في تعليقه على السنة.
[6] سنن الترمذي: كتاب الفتن (2224)، وقال: "حسن غريب"، وأخرجه ـ أيضًا ـ الإمام أحمد (5/42) مختصرًا، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2297).
[7] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (55).
[8] معالم السنن (7/247) بتصرف.
[9] شرح صحيح مسلم (2/38).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أولى مِنَنَه، وأسبغ نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى سُنَنه.
أما بعد: أيها المسلمون، ففي مصائب الأمم ونوائبها ونوازلها وحوادثها يتبين معدنها، ويُسْفِرُ واقعها عن مُرْتَكَزِها، والمَحَك يُظْهِر المكنون، وفي كل أحوال هذه البلاد قد أظهر الله أمنها، وأعلى شأنها، وأرغد عَيْشها؛ بسبب تمسّكها بدين الإسلام وتطبيقها شريعته، فما كان الله ليخذلها إذ أتمّ عليها النعمة باجتماع الكلمة وظهور السنة.
أيها المسلمون، إن المقام مقام حمدٍ لله وثناء، لا مقام فخر ورياء، وحين تُذْكر النعم فإنه لأجل شكر مُسْدِيها، وحَمْدِ بارِيها: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]. وليزداد تشبّث المسلم بها وبأسبابها الجالبة لها.
عباد الله، في عالم يُتَخَطَّفُ فيه الناس من حولنا، وتُفْنَى فيه شعوب، في عالم مضطرب بالحروب والاعتداءات، والفوضى والانقلابات، وانفلات الأمن واحتلال الديار، والتفجير والاغتيالات، في خضمّ هذه الصراعات تظلّل سحابة الأمن والاستقرار بلاد الحرمين الشريفين، وتمطر مُزْنةٌ الأمن هدوءًا وسكينة، ألا يستحقّ هذا تفكّرًا وتدبّرًا وحمدًا وتشكّرًا؟!
إنها نعمة عظيمة لا يُقدّرها إلا من فقدها، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]. إن هذا الأمن الوارِف، واجتماع الكلمة من غير مخالف؛ لهو إحدى ثمرات التوحيد الذي أنعم الله به على هذه البلاد، وقد قال الحق سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. وقد روى البخاري ومسلم رحمهما الله أنه لما نزلت هذه الآية شقّ ذلك على أصحاب النبي وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟! فقال رسول الله : ((ليس هو كما تظنون؛ إنما هو كما قال لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )).
كما أكّدت الأيام تمسك هذه البلاد وولاة أمرها بكتاب الله وسنة رسول الله منهجًا وطريقًا وعملاً وتطبيقًا، ذلك أن شريعة الإسلام في كل تفاصيل الحياة هي قَدَرُ الله لهذه الأرض ووظيفة أهلها تجاه العالم، فهي مهبط الوحي الخاتم، وإليها الحج والمقصد، وهي قبلة المسلمين أحياءً وأمواتًا، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150]. ومنه يُعلَم أيضًا عظم جُرْم من أخلّ بأمن هذه البلاد أو إيمانها، حفظ الله بلادنا وبلاد المسلمين من كل سوء ومكروه.
نسأل الله تعالى للراحل نُزُل الجنات، ورِفْعة الدرجات، وسابِغ الرحمات، وأن يجزيه على ما قدّم لأمته خيرًا. اللهم إنا نسألك لولي أمرنا التوفيق والسداد، وأن تأخذ به للهدى والرشاد، اللهم كن له مؤيّدًا ونصيرًا ومعينًا وظهيرًا، ووفّقه ونائبه وإخوانه وأعوانه لما فيه صلاح العباد والبلاد، وأصلح له بطانته يا سميع الدعاء.
ثم صلّوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المُسْداة، محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد...
(1/4269)
حقوق الولاة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
14/7/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة بلاد الحرمين. 2- السمع والطاعة لإمام المسلمين فريضة، وطاعته في غير معصية من طاعة الله. 3- لزوم البيعة لإمام المسلمين. 4- أهمية لزوم الجماعة ونبذ الاختلاف والافتراق. 5- من حقوق الراعي. 6- من حق الله علينا وحق أجيالنا وأوطاننا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله فإن تقواه أفضل مكسب وطاعته أعلى نسب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون، تتفاوت البلدان والأوطان شرفًا ومكانة، وعلوًا وحرمةً ومجدًا وتأريخًا، وتأتي بلاد الحرمين الشريفين وراعية المسجدين العظيمين وخادمة المدينتين المقدستين، في المكان الأعلى والموطن الأسمى، مهبط الوحي وموئل العقيدة ومأرز الإيمان وحرم الإسلام، ومحط أنظار المسلمين في جميع الأمصار والأقطار، ومهوى أفئدة الحجاج والزوار والعُمَّار، فيها الكعبة المعظمة، وفيها مسجد رسول الله وبه الروضة المطهرة. بلادٌ في ظلال الشرع وادعة، وفي رياض الأمن راكعة، ولأطراف المجد جامعة، وإن بلادًا تعلن الإسلام منهجًا والقرآن دستورًا والشريعة حاكمًا ستظل في إطار الشرف والفخار والإجلال والإكبار. بلدًا آمنًا مطمئنًا ساكنًا مستقرًا، متلاحمًا متراحمًا، وإن رغمت أنوفٍ من أناس فقل: يا رب لا ترغم سواها.
أيها المسلمون، الأمن بالدين يبقى، والدين بالأمن يقوى، ومن رام هدىً في غير الإسلام ضَلَّ، ومن رام إصلاح بغير الإسلام زَلَّ، ومن رام عزًا في غير الإسلام ذَلََّّ، ومن أراد أمنًا بغير الإسلام ضاع أمنه واختل، نحن قومًا أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. يقول جل في علاه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. وإن هذه البلاد المباركة ستبقى بحول الله تعالى ثم بعزمات رجالها، وإيمان أهلها، وصدق ولاتها، ونصح علمائها، حامية لمعاقل الدين من التغير، حافظة لموارد الشريعة من التكذيب، لا تساوم على حساب دينها، ولا تصانع على مقتضيات عقيدتها، ولا تداهن على موجبات إيمانها، وبذلك أضحت درة المدائن ودرات المحاسن وأرض الميامن، بلد العطاء والنماء والوفاء والإسلام والسلام، امتدت يد الخير منها إلى كل منكوب، وسرت يد العطاء منها إلى كل مكروب، فحماكِ الله ـ يا بلاد الحرمين ـ عزيزة بعز الإسلام، منيعة محفوظة مصونة بحفظ الدين.
أيها المسلمون، بالإمامة والسلطان تحفظ البيضة وتصان الحوزة، وتكون بها ظافرين بما تطيب به حياة الدنيا والدين، والسمع والطاعة لإمام المسلمين فريضة، وطاعته في غير معصية من طاعة الله عز وجل، يقول جل في علاه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله : ((الطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يُؤمر بمعصية، فإذا أُومر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) متفق عليه [1]. وعنه رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله يقول: ((من خلع يدا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) أخرجه مسلم [2]. وها هي أيدينا تمتد إلى ولاة أمرنا مجددين البيعة على السمع والطاعة، والولاء والوفاء على كتاب الله وسنة رسوله ، صدقًا من قلوبنا، وإخلاصًا من نفوسنا في العسر واليسر والمنشط والمكره.
أيها المسلمون، الجماعة مَنَعَةُ والفرقة مهيعة، الجماعة لُبُّ الصواب والفرقة أُسُّ الخراب، الفرقة باذرة العِثَار وباعثة النِفَار، تُحيل العَمَارَ خرابًا والأمن سرابًا، وهي العاقرة والحالقة، ومن قواعد الشرع المعتبرة وأصوله المقررة وأسسه المحررة، أنه لا دين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمامة، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة. فاحذروا سَلَّ الأيدي عن رِبَقَةِ الطاعة ومفارقة الجماعة، وأصيغوا السمع أيها الجمع؛ لقول رسول الهدى : ((من فارق الجماعة شبرًا فمات مات ميتة جاهلية)) أخرجه البخاري [3]. وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: قال رسول الهدى : ((ثلاثة لا يَغِلُّ عليهن قَلْبُ امْرِئٍ مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم)) أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه [4]. ومعنى ((لا يغل عليهن)) أي: من لزمهن انتفى عن قلبه الغِلُّ والغش.
أيها المسلمون، لم يمشي ماشّْ شرٌ من وَاشّْ، ورأس الأشرار كل محرّش شنار، ونصيحة الأئمة واجبة على اليقين، والإنكار عليهم فيما يخالف الشرع حَتَمُ من الدين، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة واللين، فعن عياض بن غَنْم رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : ((من أراد أن ينصح السلطان بأمر فلا يُبْدِ له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلوا به، فإن قَبِلَ منه فذاك، وإلا كان قد أَدَّى الذي عليه له)) أخرجه أحمد وابن أبي عاصم وله شواهد [5].
ولا يجوز الخروج على ولاة أمر المسلمين، ولا قتالهم ولا منابذتهم ولا إظهار الشناعة عليهم، ولا تحريك القلوب بالسوء والفتنة ضدهم، ولا إشاعة أراجيف الأخبار عنهم، ومن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنَّة وطريقة السلف، يقول سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى: "لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإن عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفوا بهذين أفسدوا دنياهم وأخراهم". فاعرفوا لولاتكم وعلمائكم قدرهم وحقهم ترشدوا وتسعدوا.
ويدعى لولاة المسلمين بالصلاح والمعافاة والتوفيق والسداد، يقول الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام؛ لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت البلاد والعباد".
أيها المسلمون، الثبات، الثبات في زمن الزوابع والمتغيرات والفتن والتقلبات، فلا رسوخ لقدم ولا بقاء لمجد ولا دوام لعِزِّ، إلا بالتمسك الصادق بكتاب الله وسنة رسوله ؛ لأنهما الميزان الحق والمقياس الصدق على طريق الخطأ والصواب، وليس غير الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة حصنًا من المخاطر وحرزًا من المآسر، وجلاءً عند الشبهة وموردًا عند اللهفة، وأنسًا عند الوحشة وضياءً عند الظلمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : ((إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)) أخرجه الحاكم [6].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنَّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينات والحكمة. أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري كتاب الأحكام، باب: السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية(7144)، وصحيح مسلم كتاب الإمارة (1839).
[2] صحيح مسلم كتاب الإمارة (1851).
[3] صحيح البخاري كتاب الفتن (7054)، وأخرجه أيضا مسلم في الإمارة (1849). من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] سنن الترمذي كتاب:العلم، باب: ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2658)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ومسند أحمد (4/80، 82)، وسنن ابن ماجه كتاب المناسك، باب: الخطبة يوم النحر (3056) عن جبير من مطعم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الدارمي في العلم (1/74-75)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني في الكبير (2/126-127)، والحاكم (1/87). قال البوصيري في الزوائد: "هذا إسناد فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس، وقد رواه بالعنعنة، والمتن على حاله صحيح".وله شاهد من حديث زيد بن ثابت، ومن حديث أنس بن مالك، وأورده الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2480).
[5] مسند أحمد (3/403)، وابن أبي عاصم في السنة (1096)، وصحح إسناده الألباني في السنة لابن أبي عاصم.
[6] مستدرك الحاكم (1/93)، أخرجه أيضا مالك في الموطأ: "كتاب الجامع، باب: النهي عن القول بالقدر (1661) بلاغاً، والدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد (24/331): "وهذا أيضاً محفوظ عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغني بها عن الإسناد". ثم ذكر له شواهد. وصححه ابن حزم في الإحكام (6/243)، وحسنه الألباني إسناد الحاكم في مشكاة المصابيح (186) والصحيحة (4/361).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، إننا نعيش في قوة وصحة وأمن توجب الشكر لله بالمنَّ، وإن من حق الله علينا وحق أجيالنا وأوطاننا أن نكون أوفياء للإسلام، أمناء على الإسلام، فلن تصان حمى الأوطان بمثل طاعة الرحمن، فتستديم بالطاعة النعم برغيد عيشها وطيب أمنها ونفيس زينتها، وكفوا عن المعاصي المهلكة والذنوب الموبقة، وتوبوا توبة صادقة تدفع عنكم النقم، وتحرص عليكم النعم، ويدم عِزُّكم بين الأمم.
أيها المسلمون، إن ثمرة الاستماع الاتباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيه بكم أيها المؤمنون من جنه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]. اللهم صَلِّ وسلم على النبي المصطفى المختار، اللهم صَلِّ عليه ما تعاقب الليل والنهار...
(1/4270)
إن الله لا يصلح عمل المفسدين
أديان وفرق ومذاهب, الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, التوبة, العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع, مذاهب فكرية معاصرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/7/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت سعي بني آدم. 2- طبيعة النفس المفسدة المنحرفة. 3- بطلان دعاوى المفسدين. 4- دعوة أهل الإفساد للتوبة. 5- خطورة الانفصال بين العلم الصحيح والعمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جلّ جلاله في كتابه العزيز: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى [الليل:4]، أخبرنا ربنا أنّ سعينا في هذه الدنيا مختلف، سَعْينا شتّى، كلٌّ مُيَسّرٌ لما خُلِق له، سَعْينا مختلف، من عباد الله من سعيه في هذه الدنيا فيما يزكّي نفسه، وفيما يخلّصها من عذاب الله، وفيما يطهّرها من أدران الذنوب والمعاصي، وفيما يصعد بها إلى الكمال؛ لتكون نفسًا لوّامة تلوم على ترك الخير، ثم نَفْسًا مطمئنة بالخير راضية به. ومن عباد الله من سعيه في الباطل، سعيه فيما يُدنّس نفسه، وفيما يذلّ نفسه، وفيما يكسبها الهوان والذلّ، وفيما يوقعها في عذاب الله، سعيه في الأرض فسادًا، وسعيه إجرامًا، وسعيه ضررًا على نفسه وعلى أهله وعلى من صحبه ومن شاركه، فلا تراه يفعل الخير جهده، بل يسعى في الباطل، ويستبرئ الأخطاء، ويرتاح بالإجرام، فلا تطمئن نفسه إلا بيوم هو فيه مجرم، وهو فيه آثم، وهو فيه مُقترِف للمحرمات، وهو فيه فاعل للمعاصي والسيئات، وساع في الأرض فسادًا بأي أنواع الفساد، وصدق رسول الله حيث يقول: ((كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها)) [1] ، كلٌّ يسعى، فساع في إصلاح النفس وفي رِفْعتها، وساع إذلالها واحتقارها. ويقول الله جلّ وعلا: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10].
أخي المسلم، نفسك عليك عزيزة، لا تَسْتَرْخِصْهَا في الباطل، ولا تُزهقها في الباطل، وإنما تسعى في الخير جهدك، وتسعى في الخير قدر استطاعتك، وإياك أن تَسْتَرْخِصَ النفس التي اؤتمنت عليها في سبيل الباطل وطاعة الشيطان.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، من عباد الله من لا يرتاح إلا بالفساد، لا يمكن أن تطمئن نفسه على خير، ولا يمكن أن يقتنع براحة البال وطمأنينة النفس، لكنه مجرم بطبعه، مجرم بأخلاقه، قد تأصّل الإجرام في نفسه، فلا تردعه موعظةُ واعظ، ولا تؤثّر فيه ذكرى مذكّر، إنْ ذكّرته بآيات القرآن أصَمَّ سمعه عنها، وإن تلوت عليه نصوص السنة أعرض عنها، وإن بيّنت له منهج سلف الأمة في التعامل مع الخلق سخر بك، واستهزأ بك. لماذا؟ لأنه اقترن مع شياطين الإنس والجن يسُوقُونه إلى الباطل سَوْقًا، ويَزُجُّون به في كل هَوِيّة سَحِيقة، لا يبالون في أي أودية البلاء وقع، وهو لا يشعر ولا يدري ولا يتبصّر في أمره، وصدق الله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22، 23].
أخي المسلم، هذا الضرب من الناس عناهم الله بقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
أيها المسلمون، هذه الفئة من الناس الذين رضوا بالإجرام منهجًا، ورضوا بظلم العباد مسلكًا، ورضوا بالإفساد في الأرض، ورضوا بالسعي في الإفساد في الأرض رأوه طريقًا صحيحًا، أطاعوا أعداء الإسلام، أطاعوا شياطين الإنس الذين لا خَلاق لهم ولا دين، ولكن يحبون أن يَزُجّوا بالشباب الفارغ عقله من العلم والإيمان، أن يزُجُّوه في هذه الأودية السَّحِيقة، يُحَسِّنون له الباطل، ويزيّنون الإجرام، والقلب خالٍ من العلم، والقلب ضعيف الإيمان، ربّاهم الأعداء على أيديهم، فامتلأت القلوب حقدًا وغيظًا على الإسلام وأهله. هؤلاء دُعُوا للصواب فأبوا، وعُرِضت عليهم المُصالحة فلم يستجيبوا، وعُرِض عليهم العفو فلم يقبلوا، بل لَجُّوا في طغيانهم، واستمرؤوا الباطل، واستمروا على الظلم والإجرام. أَمَا وَعَظَهم ما يشاهدونه من مَصارِع الموت بهؤلاء؟! أَمَا أيقظهم أن الله أدار دائرة السوء على كثير منهم؟! أَمَا أيقظهم قول الله جلّ وعلا: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، أَمَا أخذوا من هذه الانتكاسة عِظَة وعبرة أن المنهج الذي هم عليه منهج خاطئ وطريق منحرف، ليس له ارتباط بدين ولا إيمان، ولكنه مرتبط بأعداء الله، ممن لا يرقبون في المؤمنين إلاًّ ولا ذمّة.
فيا بقيّة أولئك، عودوا إلى رشدكم، وأنيبوا إلى ربكم، وتوبوا إلى الله توبة نصوحًا تمحون بها ما مضى، وضعوا أيديكم بأيدي جماعة المسلمين؛ لتطمئنّوا وترتاحوا وتعبدوا الله على بصيرة، دعوا عنكم هذا الذل والهوان والرعب الذي ملأ قلوبكم فأصبحتم مُتَنَقّلين في كل ميدان، لا يقرّ لكم قرار، ولا تطمئنون في أي مكان، إذِ الجرم والظلم مبغوض من كل أحد، وعيون الملأ عليكم ساهرة ترقب حركاتكم وسَكَناتكم السيئة، فهلاّ توبة إلى الله نصوحًا، تمحون بها ما سلف، وتضعون أيديكم في جماعة المسلمين، وتحمدون الله على نعمة الدين والأمن والاستقرار والخير. إن هذا الطريق الوعر والمسلك السيئ لا يقربكم إلى الله زُلْفَى، بل يبعدكم عن الله ودينه، احذروا أن تلقوا الله ولا حجة لكم، وأن تموتوا ميتة جاهلية؛ لأن في قلوبكم حقدًا على الإسلام وأهله، قد كنتم سببًا في إزهاق أرواح بعضكم وإزهاق أرواح الآخرين، فتوبوا إلى الله، وعودوا إلى رشدكم، واعلموا أن الطريق سيء، وأن الاستمرار على هذا الطريق ينهيكم إلى عذاب الله وسخطه، فتقتلون نفوسكم بغير حق، استرخصتم النفوس الغالية في سبيل الشيطان: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]. عليكم التوبة إلى الله والندم على ما مضى، والاستمرار على الخير، وأن تحمدوا الله على نعمة الإسلام.
هذا المجتمع الآمن المطمئن المتلاحم الذي وفَّق الله له قيادة جعلها سببًا في اطمئنانه واستقرار حاله وثبات أمره وخيراته المتواصلة من رب العالمين، يكون كل مسلم يحمد الله على هذه النعمة، ويسعى في الخير، ولا يسعى في الفساد والإجرام، فتوبوا إلى الله توبة نصوحًا، واعلموا أن هذه عظة وعبرة، والعاقل يأخذ العظة والعبرة، ويعتبر بمن مضى، ومن لا عقل عنده لا تؤثّر فيه المواعظ، ولا توقظه العِبر، بل هو على باطله وأخطائه مستمر، لا توبة إلى الله مما مضى، ولا تذكير بالتخلّص من هذا الإجرام. إن أعداء الإسلام لا يولونكم نصحًا، وإن أعداء الأمة لا يريدون نصحًا، وإنما يريدون الشر والبلاء بكم، وأن تكونوا وقودًا لأي نار أوقدتموها، فاحذروا غضب الله وسخطه؛ فإن الله جل وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، فالله لا يصلح أعمال المفسدين والمجرمين، لا يصلح أعمال الضالين، لا يصلح أعمال من يتربّصون بأمتهم الدوائر، ويسعون في إيقاعهم في البلايا، لا يصلح الله أعمالهم؛ إذ أعمالهم قائمة على نوايا سيئة لا صلة لها بالدين ولا بالقيم والأخلاق.
فتوبوا ـ أيها البقية ـ إلى ربكم، وعودوا إلى رشدكم، وتفكّروا في واقعكم؛ لتعلموا أن الطريق مظلم، وأن هذا المسلك مسلك وعر لا خير فيه، والله ناصر دينه، ومعلن كلمته: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38]، أسأل الله أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يعصم قلوبنا وقلوبكم من مضلات الفتن، وأن يجعلنا وإياكم ممن يسعى في الخير جهده، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (223) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إن الله جلّ وعلا يقول: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، تلك الخسارة العظمى، يعملون أعمالاً يظنونها صالحة وهي في واقع الأمر أعمال باطلة، أعمال لا قيمة لها، أعمال حابِطة يوم القيامة؛ لكون هذا العمل لا يوافق شرع الله، لا يوافق كتاب الله، لا يوافق سنة رسول الله ، سواء كان هذا العمل من أعمال الأمم السابقة الذين أدركوا محمدًا ولم يؤمنوا به، واستمروا على ما هم عليه، فإن من أدرك محمدًا فلم يؤمن به فإنه كافر مهما عمل من الأعمال، أو سواء في ذلك أولئك القوم الذين فهموا الإسلام على غير فهمه الصحيح، كالخوارج الذين ظهر منهم تديّن من صلاة وقراءة قرآن وقيام ليل، إلا أنهم أخطؤوا في فهم الكتاب والسنة، فاستباحوا دماء المسلمين وأموالهم، وسَلُّوا سيوفهم على أهل الإسلام، فقال بعض السلف: إنها في الخوارج الذين عملوا أعمالاً، ولكنها أعمال باطلة؛ لكون هذه الأعمال لم تكن على وَفْقِ على الكتاب والسنة، وإن صلّى أولئك أو صاموا وقرؤوا القرآن، إذا استحلّوا دماء المسلمين وأموالهم صاروا بذلك ضالين مُضلّين، ولهذا أرشد النبي لقتالهم وقال: ((لو يعلم الذين يقاتلونهم ما لهم من الأجر لَنَكَلُوا عن العمل)) [1]. وأخبرنا أن الواحد منا يحقر صلاته عند صلاة أحدهم، وتلاوته عند تلاوة أحدهم، لكنّهم يَمْرُقُون من الدين كما يَمْرُقُ السهمُ من الرَّمِيَّة [2] ، خرجوا في آخر عهد الخلفاء الراشدين فسَلُّوا سيوفهم على أهل الإسلام، وتركوا غيرهم، فما عُرِف عنهم قتال في ثَغْر، ولا راية تدافع عن الإسلام، إنما عُرِف عنهم قتل المسلمين وسفك دماء المسلمين والتعدي على المصلين الصائمين القانتين، يقتلون كل مسلم تقي ورع، ويدعون كل مجرم ضال مضل، هذا سوء الفهم وقلة الديانة والعياذ بالله.
فأحذّر أولئك الذين سلكوا هذا المسلك السيئ أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يعودوا إلى رشدهم، ويحاسبوا أنفسهم حتى لا يكونوا ممن شملهم عموم هذه الآية.
أسأل الله للجميع التوفيق والسداد، اللهم اهد ضال المسلمين، وثبّت مطيعهم، ورُدَّ ضالّهم إلى الطريق المستقيم، إنك على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم الله أن أحسن الحديث كتاب الله...
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (223) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الزكاة (1066) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه بنحوه.
(1/4271)
الأمة الإسلامية بين التخلف والاستخلاف
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
التربية والتزكية, جرائم وحوادث, فضائل الأعمال, معارك وأحداث
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
14/7/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مفهوم الاستخلاف الإسلامي في الأرض. 2- وراثة الصالحين للأرض. 3- الصفات التي أهّلت المسلمين لقيادة الأمم. 4- السبيل إلى وراثة الأرض. 5- بوارق الأمل في الانسحاب الإسرائيلي من غزة. 6- وقفات مع الأقصى في الذكرى السادسة والثلاثين على إحراقه.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106، 107].
أيها المؤمنون، لقد استخلف الله تعالى آدم في الأرض؛ لعمارتها وإصلاحها وتنميتها، واستخدام الكنوز والطاقات المرصودة فيها، واستغلال الثروات الظاهرة والباطنة، ووضع الله تعالى ـ جَلّت قدرتُهُ ـ للبشر منهجًا كاملاً متكاملاً للعمل على وفقه في هذه الأرض، منهجًا يقوم على الإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
أيها المسلمون، وفي هذا المنهج، وفي هذا الدين ليس إعمار الأرض واستغلال ثرواتها والانتفاع بطاقاتها هو وحده المقصود فقط، ولكن المقصود ـ بالإضافة إلى هذا الشيء ـ هو العناية بالضمير الإنساني، وتربيته تربية إسلامية صحيحة، دون تحريف أو تأويل. وأخيرًا إرساء قواعد العدل والحرية والمساواة في هذا الكون. ويأتي ذلك من أجل أن يبلغ الإنسانُ كمالَه المقدَّر له في هذه الحياة، فلا ينتكس حيوانًا في وسط الحضارة المادية الزاهرة، ولا يهبط إلى الدرك الأسفل بإنسانيته.
أيها المؤمنون، قد يغلب على هذه الأرض جَبّارون وظَلَمَة وطغاة، وقد يغلب عليها هَمَجٌ وبَرَابِرة وغُزَاة وشُذَّاذ آفاق، وقد يغلب عليها كفّار فُجّار يحسنون استغلالها استغلالاً ماديًّا، ولكن هذا الأمر ليس سوى الطريق، فالوارثة الحقيقية والأخيرة هي للعباد الصالحين بالمفهوم الواسع الشامل، وهم الذين يجمعون بين الإيمان الصادق والعمل الصالح، بين الإعداد المادّي والمعنوي. وحيثما اجتمع إيمان القلب ونشاط العمل في أمة من الأمم فهي الوارثة للأرض في أي فترة من فترات التاريخ، وحين يتخلّف أحد هذين الأمرين فإن الميزان يتَأَرْجَح.
أيها المؤمنون، لقد ظهر المسلمون، وورثوا الأرض، وأقاموا دولتهم، وتزعّموا العالم، وساروا بالإنسانية سيرًا عادلاً، وذلك راجع إلى وجود صفات فيهم تؤهّلهم لقيادة الأمم، ومن أبرز هذه الصفات:
أولاً: أنهم أصحاب كتاب منزّل وشريعة إلهية، فلا يقتنعون ولا يشرعون من عند أنفسهم، ولا يتخبّطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خَبْطَ عَشْوَاء؛ لأن الله جعل لهم نورًا يمشون به في الناس، وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس. قال الله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
ثانيًا: أن المسلمين الأوائل لم يتولّوا القيادة والحكم بغير تربية خلقية، وتزكية نفس.
فقد كان صلوات الله وسلامه عليه يؤدّبهم ويزكّيهم، ويأخذهم بالزهد والورع والعفّة والأمانة والعدل والإيثار وخشية الله تعالى، وعدم الاستشراف والتطلّع للإمارة والمنصب والحرص عليها، وكان يقول لهم: ((إنا ـ والله ـ لا نولّي هذا العمل أحدًا سأله، أو أحدًا حرص عليه)). ولا يزال يقرع سمعهم قول الله تبارك وتعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب، فضلاً عن أن يرشّحوا أنفسهم، وينشروا الدعاية لها، وينفقوا الأموال سعيًا وراء الإمارة. والأهمّ من كل ذلك أنهم لم يتنازلوا عن شيء من عقيدتهم أو دينهم من أجل الحصول عليها. وكانوا إذا تولّوا شيئًا من أمور الناس لم يعدّوه مغنمًا، بل عدّوه أمانة في أعناقهم، وامتحانًا لهم من الله، وكانوا على علم بأنهم موقوفون بين يدي ربهم، وأنهم سَيُحاسبون على كل شيء. وتذكّروا قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [الأنعام:165].
ثالثًا: لم يخرج المسلمون الأوائل ليؤسّسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها، بل قاموا ليُخرِجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام. فالأمم عندهم سواء، والناس كلهم من آدم، وآدم من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
وباختصار: كانوا سحابة خير انتظمت البلاد، وعمَّت العباد.
أيها المرابطون، إن أعداء الإسلام اليوم يتكالبون على أرض وبلاد المسلمين شرقًا وغربًا؛ ليستعمروها وينالوا من أهلها، مستغلّين فترة تفرّق المسلمين، وعدم اجتماع كلمتهم، بالإضافة إلى ركون الكثير منهم إلى شهوات الدنيا وملذّاتها ومناصبها، مما أدّى بهم إلى الابتعاد عن منهج الله تعالى وحكمه.
واليوم لا سبيل لوراثة الأرض والمحافظة عليها من كل طامع إلا بالرجوع إلى الإسلام عقيدة وعملاً وسلوكًا، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ [الأنبياء:106]. وليس هذا حُلمًا مستحيلاً كما يظهر للبعض، ولكنّه مُنتَهَى الواقعية.
أيها المسلمون، أما بالنسبة لأرض فلسطين, أرض الإسراء والمعراج فقد ظلّت هدفًا للغُزَاة منذ فجر التاريخ، وشهدت معارك ضارِيَة، كان النصر في نهاية المطاف لأهلها. فكم على أرضها اندحرت جيوش، وانهزم غزاة، وعلى ثَرَاها رَوَّى أصحابُ رسول الله بدمائهم الزكيّة أرضها الطهور؟!
ومنذ احتلالها عام ثمانية وأربعين وهي تتعرض للنهب والسلب والمصادرة وتغيير المعالم، وتدمير الحضارات، وإخراج أهلها منها على مرأى ومسمع العالم.
واليوم نشاهد بارِقة أَمَل تتمثّل ببدء جلاء قطْعان المستوطنين وقوّات الاحتلال عن قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، بعد احتلال دام ثمانية وثلاثين عامًا. وهي خطوة بالاتجاه الصحيح، يجب أن تتبعها خطوات أخرى؛ لإتمام تحرير كامل الأرض الفلسطينية والمقدّسات الإسلامية، وفي مقدّمتها المسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس، ومن أجل ضمان عودة اللاجئين إلى وطنهم، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم:4، 5].
وعلينا أن لا نقلّل من أهمية هذا الجَلاء؛ فهو في حد ذاته انتصار للحق ودَحْر للباطل، ولكن في نفس الوقت يجب أن لا نُبالغ بذلك؛ لأن الإسرائيليين ما زالوا يسيطرون على القطاع برًّا وبحرًا وجوًّا كما تُطالِعنا بذلك وسائل الإعلام المختلفة.
أيها المرابطون، لا بد من التذكير بضرورة الحفاظ على هذه الأرض المحرّرة بالثبات عليها واستثمارها، آخذين العبر من تثبّت هؤلاء المستوطنين بها، بالرغم من أن وجودهم عليها لم يزد على ثمانية وثلاثين عامًا. فكيف بنا ونحن أصحاب الأرض الشرعيين منذ آلاف السنين؟! ولا يتم ذلك إلا بالاعتصام بحبل الله جميعًا، وبتوحيد الكلمة، ورصّ الصفوف، ونبذ الخلافات؛ لتفويت الفرصة على المتربّصين بنا.
أيها المؤمنون، كما أنه لا يفوتنا أن نعلن شَجْبَنا واستنكارنا للجريمة النكراء التي ارْتِكبت بحق أبناء شعبنا في مستوطنة شيلو وبدم بارد، والتي تأتي امتدادًا لجرائم سابقة، فنسأل الله تعالى لهم الرحمة، ونتمنّى للجرحى الشفاء.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، بعد غَدٍ الذكرى السادسة والثلاثون لحريق المسجد الأقصى المبارك مَسْرَى رسول ، أولى القبلتين، وثالث المساجد التي تُشدّ إليها الرحال، هذا المسجد الذي تجمّعت من حوله على بركات الله قلوب المسلمين تحجّه وتعظمّه وتهفوا إليه.
إن هذه الذكرى الأليمة تعيد إلى الأذهان صورة النار التي أتت عليه من جميع الجوانب، وأتت بجحيمها المتأجّج منبره، منبر القائد المظفّر صلاح الدين، المنبر الذي أُقِيم لتعلوا من فوقه أصوات الحق والحرية والعدالة من بعد ظلم غاشم وعبودية قاتلة ملأت آفاق الأرض المقدسة، وأهدرت إنسانية العباد وكرامة البلاد، المنبر الذي يرمز إلى تخليص المدينة المقدّسة من دَنَس الاحتلال الصليبي الحاقد. كما أتت النيرانُ المسعورة على قُبّته التي كانت ـ وستبقى إلى يوم الدين ـ تُردّد أصداء النداء الإلهي: الله أكبر، الله أكبر، فتهزم بهذا النداء الباطل والظلم، وتفتح أمام الصدق والحق أرجاء الدنيا وصفحات التاريخ، لتجد شعوب الأرض من خلال هذا النداء العدالة والأمن والسلام والاطمئنان، وينزاح به عن صدورها ثقل الأمم الظالمة، وقسوة الطواغيت والمستبدّين.
إن المسجد الأقصى قد شهد بإسراء الرسول ومعراجه النور الذي لا يخبو، والدعوة التي لا تنطفئ شعلتها، وازداد فيه فيما أفاء الله عليه من سابغ نعمه، من صفاء نفس ونقاء بصيرة، مصداقًا لقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
أيها المسلمون، إننا لا نريد أن تكون ذكرى الحريق المشؤوم مبلغ الحزن والأسى في النفوس، وإنما نريد منها أن تحمل المسلمين على العزّة والكرامة، وجمع الكلمة، ورصّ الصفوف، ولمّ الشَّتات، والعمل الجادّ الذي يتم به تحرير المسجد الأقصى وتحرير الأرض والإنسان.
إن قلوب العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تتجّه بشَوْق وحَنِين ولهفة إلى فلسطين، حيث فيها مدينة القدس والتي فيها المسجد الأقصى. وقد دعا رسول الله إلى المرابطة في هذه البلاد حيث قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، ولعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)). قيل: وأين هم يا رسول الله؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
وقد تعاقب الحكم الإسلامي على هذه الديار حيث تمتعت الطوائف المختلفة بحقوقها الدينية والمدنية.
أيها المسلمون، إن الحادث الخطير الذي جرى في الحادي والعشرين من شهر آب عام تسعة وستين، والذي خططت له نفوس شريرة آثمة تعمّدت فيه الإساءة إلى القلوب المؤمنة الطاهرة، بحيث لم تدع لهذا البيت حرمة، ولا لقيمته هيبة وإجلالاً. هذا الحادث قد هزّ في حينه العالم بأسره، وأدمى القلوب والمشاعر، وإن بشاعته ستبقى ماثلة في الأذهان إلى أن يتم تحريره وتطهيره من دَنَس الاحتلال.
وفي هذه الذكرى نعلن نحن المرابطين في فلسطين للعالم أجمع أننا سنبقى صابرين ومصابرين ومرابطين، وسنبقى متمسّكين بحقوقنا المشروعة والثابتة في أرض الإسراء والمعراج، وسنحافظ عليها ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، ولن تضعف لنا عزيمة إن شاء الله تعالى. وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/4272)
الانقياد للحق
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, حقيقة الإيمان, مكارم الأخلاق
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
21/7/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من كريم سجايا المسلم الإذعان للحق. 2- فوائد قبول الحق والتحذير من ردّه. 3- أهمية سلامة المقصد لطالب الحق. 4- معية الله لعباده المحسنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حقّ تقاته، واعملوا على كلّ ما تكون به النجاة غدًا، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى [النازعات:35]، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى [الفجر:23].
أيها المسلمون، إن من كريم سَجَايا المسلم، وجميل خِصَاله، وشريف صفاته؛ كمالَ سَعْيِهِ في طَلَب الحق، وشدّةَ حرصه على الإذعان له والنُّفْرَةِ من رَدِّه؛ ابتغاء وجه ربه الأعلى، وأَمَلاً في بلوغ رضوانه، وازْدِلافًا إليه، رَغَبًا ورَهَبًا، محبةً وشوقًا، وحَذَرًا من الترَدِّي في وَهْدَةِ الكِبْر المُهلِك الذي بَيّن واقعه، وأوضح حقيقته رسولُ الهدى بقوله: ((لا يدخلُ الجنة من كان في قلبه مِثْقَالُ ذَرّة من كِبْر)) ، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا! فقال النبي : ((إن الله جميل يحب الجمال، الكِبْر بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس)) [1] ، وبَطَرُ الحقّ ـ يا عباد الله ـ هو ردّه ودفْعه وعدم القبول به، وغَمْطُ الناس هو احتقارهم والترفّع عليهم بكل ألوان الترفّع القوليّة والعمليّة.
وقد كان ردّ الحق تكذيبًا به وكراهة له وإعراضًا عنه دَيْدَنَ الأمم السابقة التي حاقَ بها العذابُ، وجاءهم بأسُ الله، ونزل بساحتهم، فكان ما أصابَهم عبرة للمُعتبرِين، وذكرى للذاكرين، كما قال سبحانه: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:4-6]، وقال عزّ اسمه: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:78].
أما أهل الإيمان والتقوى فإن من أظهر صفاتهم القَبُولَ بالحق، والاحْتِفَاء به، والانقياد له، والدعوة إليه، ولِذَا فهم أعقل الخلق، وأحكم الناس، وأبصر العباد بأسباب السعادة وأبواب الظَّفَر وأسرار التوفيق؛ لأن الحكمة ضالّة المؤمن أينما وجدها التقطها، ولأن في التجافي عن ردّ الحق سلامةً من مشاركه الضالّين المكذّبين بآيات الله عزّ وجلّ ورسله في أَوْزَار ضلالهم وأَوْضَار تكذيبهم وعاقبة استكبارهم وعلوّهم في الأرض بغير الحق، وتراهم من أجل ذلك قد وطّنوا أنفسهم على قَبُول الحق ممن أُجْرِيَ على لسانه، لا يستثنون صَبِيًّا أو جاهلاً أو عدوًّا، كما قرّره القاضي عياض وغيره من أهل العلم، بل إن من كريم مناقبهم وحُلْوِ شمائلهم أنّ أحدهم إذا ناظَرَ غيره أو ناقشه دعا له بظهر الغيب أنْ يُثَبَّتَ ويُسَدّد ويوفّق للصواب، وأن يُظْهِرَ اللهُ الحقَّ على لسانه، ومن ذلك قول الإمام الشافعي رحمه الله: "ما ناظرتُ أحدًا إلا أحببتُ أن يُظْهِرَ اللهُ الحقَّ على لسانه" [2] ، فهو يترفّق بأخيه غاية الترفّق، ويغضّ من صوته، ويحفظ لسانه ويده، فلا يقدح في دينه، ولا ينال من عِرْضه، ولا يؤذيه بأي جارحة من جوارحه، مُسْتَحْضِرًا في ذلك قول نبي الرحمة والهدى في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود أنه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((ليس المؤمن بالطعَّان ولا اللعَّان ولا الفاحِش ولا البذِيء)) [3]. ومُسْتَحْضِرًا أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: ((المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما [4]. وهو يكفّ عن المناقشة، ويمسك عن الجدال إذا لم تُرْجَ منه فائدة، بل خُشِيَ الضررُ بثَوْرَةِ الخصومة المُفْضِيَة إلى البغضاء، مُسْتَحْضِرًا قول رسول الله : ((أنا زَعِيم ببيت في رَبَضِ الجنة لمن ترك المِرَاء ـ أي الجَدَل ـ وإن كان مُحِقًّا)) أخرجه أبو داود في سننه بإسناد صحيح [5]. ومُسْتَحْضِرًا أيضًا قوله صلوات الله وسلامه عليه: ((ما ضلّ قومٌ بعد هُدى كانوا عليه إلا أوتوا الجَدَل)) ، وفي رواية: ((وسُلِبُوا العمل)) أخرجه الإمام أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد حسن عن أبي أمامة رضي الله عنه [6].
وبالجملة فإن إخلاص النية وسلامة القَصْد في كون الوصول إلى الحق هو الغاية، وإن الحذر من الانتصار للنفس وطَلَبِ العلو وإظهار الفضل والتقدّم مع الحرص على كمال الشَّفَقَة على الخلق وتمام الرحمة بهم وإرادة الخير لهم، كل أولئك مما لا غَنَاء عنه لطُلاّب الحق ودعاة الهدى والسعاة إلى الخير المُبتغِين الوسيلة إلى ربهم بتوحيده وذكره وشكره وحسن عبادته والنزول على حكمه، وصَدَقَ سبحانه إذ يقول: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه كان غَفّارًا.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (91) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] رواه ابن حبان في صحيحه (5/498)، وأبو نعيم في الحلية (9/118)، وانظر: المدخل للسنن الكبرى (ص172)، وتهذيب الأسماء واللغات (1/53).
[3] مسند الإمام أحمد (1/404)، وأخرجه ـ أيضًا ـ الترمذي في البر (1977)، وابن أبي شيبة (6/162)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193)، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم (29)، ورجّح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وهو في السلسلة الصحيحة (320).
[4] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (10)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (40) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[5] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، قال الحافظ في الفتح (13/181): "وله شاهد عند الطبراني من حديث معاذ بن جبل"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2648).
[6] مسند الإمام أحمد (5/252، 256)، سنن الترمذي: كتاب التفسير (3253)، وابن ماجه في المقدمة (48)، وليس فيه الزيادة المذكورة، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3674)، وحسنه الألباني في تخريج شرح الطحاوية (175).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وليّ الصالحين، أحمده سبحانه جعل مَعِيَّته للمتقين المحسنين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الصادق الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه الغُرِّ المَيامِين.
أما بعد: فيا عباد الله، كتب بعضُ السلف رضوان الله عليهم إلى أخٍ له يَسْتَنْصِحُهُ ويَسْتَشِيرُهُ في أمر نزل به، فكتب إليه قائلاً: "أما بعد: فإذا كان الله معك فممّن تخاف؟! وإذا كان عليك فمن ترجو؟! والسلام"، وإنها ـ يا عباد الله ـ لموعظة بليغة، ونصيحة عظيمة، وكلام مُضِيء، وبيان صادق، فمَعِيّة الله لعبده هي المَعِيّة التي لا تعدلها مَعِيّة، فلا حاجة به إلى مَعِيّة سواها، غير أن هذه المَعِيّة الخاصة بالرعاية والحفظ والتأييد والنصر قد بيّن الله مُسْتَحِقّها في قوله عزّ اسمه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]. جعلني الله وإياكم من المتقين المحسنين، وسلك بنا سبيل عباده المُخْبِتين، وجنّبنا أسباب سَخَطِه، آمين آمين.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واذكروا على الدوام أن الله تعالى قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد...
(1/4273)
ولاية الله للعبد
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الأولياء, حقيقة الإيمان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
21/7/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أصلح ما بينه وبين ربه أصلح الله له أخرته ودنياه. 2- من صدق مع الله صدق الله معه. 3- فضل الدعاء. 4- الآثار المترتبة على انعقاد الولاية. 5- شكر النعم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد:
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ بامتثال ما أَمَرَ، والبعد عما نهى عنه وزجر؛ فإن تقوى الله صلاح الأعمال وحُسن المنقلب والمآل.
عباد الله، إن من أصلح ما بينه وبينه ربه أصلح الله له آخرته ودنياه، وأصلح له ما بينه وبين الناس. وإصلاح العبد ما بينه وبين الله؛ هو بتوحيد الله عز وجل، بأن يعبد الله تعالى وحده لا يشرك به شيئًا، بدعائه ورجاءه والتوكل عليه وخوفه ومحبته وتعظيمه، والاستعانة به وطاعته، والإيمان بأسمائه وصفاته والثناء على الله بها، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان وحج بيت الله الحرام، وبر الوالدين وصلة الأرحام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واجتناب المظالم وترك ما نهي الله عنه من المحرمات والموبقات، إلى غير ذلك مما أمر الله به أو نهى عنه، مع التمسك بالسنة والإخلاص لله في كل عمل، فمن أصلح ما بينه وبين خالقه بالتمسك بالإسلام، أصلح الله له أموره كلها، وأحسن له العاقبة في أخرته. قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنْ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأعراف:35]، أي: لا خوف عليهم في مستقبل أمرهم، ولا هم يحزنون على ما مضى من شأنهم. وقال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأنعام:48]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ [محمد:2].
وإصلاح الناس ما بينهم وبين ربهم بالعمل الصالح يصلح الله به الأمور، ويحفظ الله به الأمة من الشرور، قال الله تعالى: مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا [النساء:147]، أي: لا يعذبكم الله تعالى إن آمنتم وشكرتم. وقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170]، وفي الحديث عن النبي : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)) [1].
عباد الله، إن ربكم تبارك وتعالى أَجَلُّ وأَكَرم وأوفى من أن يتخلى عن عبده ويضيعه إذا صدق معه، وخاف من اتباع هوى النفس، وعمل بما يحب ربه من الطاعات فرائضها ونوافلها، وجانب المحرمات. فمن كان لربه على ما يحب الرب كان الله له على ما يحب، قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، وقال تعالى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ [التوبة:111]، وقال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40، 41].
وأحسن أحوال العبد أن يتولى اللهُ تعالى أموره كلها، ويحفظه في دينه ودنياه، ويسدده ويوفقه في أقواله وأفعاله وعاقبة أمره، ولا يُنال ما عند الله إلا بطاعته، وهل شقي بطاعة الله أحد، أو سَعِدَ بمعصية الله أحد؟!. عن أنس عن النبي ، عن جبريل عليه السلام عن ربه تعالى قال: ((من أهان لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما ترددت عن شيء أنا فاعله، ما ترددت في قبض نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأكره مسأته ولا بد له منه. وإن من عبادي المؤمنين من يريد بابًا من العبادة فأكفه عنه لا يدخله عجب فيفسده ذلك، وما تقرب إلي عبدي بمثل أدى ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتنفل إلي حتى أحبه، ومن أحببته كنت له سمعًا وبصرًا ويدًا ومؤيدًا، دعاني فأجبته، وسألني فأعطيته، ونصح لي فنصحت له. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغناء، ولو أفقرته لأفسده ذلك. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر، وإن بسطت له أفسده ذلك. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده ذلك. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته أفسده ذلك، إني أدبر عبادي بعلمي بما في قلوبهم، إني عليم خبير)) رواه الطبراني [2]. ولهذا الحديث شاهد في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في بعض ألفاظه [3]. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((من الْتَمَسَ رضا الله بسخط الناس كفاه مُؤْنَةَ الناس، ومن الْتَمَسَ رضا الناس بسخط الله وَكَلَهُ الله إلى الناس)) رواه الترمذي [4].
عباد الله، إن من أعظم العبادات وأجمعها للخير الدعاء؛ فالدعاء ينزل الله به الخيرات، ويدفع به البلاء والشرور والمكروهات، قال الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60]، وفي الحديث: ((ما من مسلم يدعوا الله تعالى إلا أتاه الله مسألته، أو ادخرها له في الآخرة، أو صرف عنه من السوء مثل دعوته)) ، قالوا: يا رسول الله، إذًا نكثر؟! قال: ((الله أكثر!)) [5]. والدعاء مضطر إليه كل أحد، قال عمر بن الخطاب : (إني لا أحمل هَمَّ الإجابة ولكن أحمل هَمَّ الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء كانت الإجابة ووقعت) [6]. فالدعاء يصلح الله به الأمور ويدفع الله به الشرور.
بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المناقب (3641)، ومسلم في الإمارة (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه بنحوه، وورد عن غيره من الصحابة.
[2] عزاه الهيثمي للطبراني في الأوسط (10/270)، وقال: "وفيه عمر بن سعيد أبو حفص الدمشقي وهو ضعيف". وذكره الألباني في الضعيفة (1775).
[3] صحيح البخاري، كتاب الرقاق (6502).
[4] سنن الترمذي كتاب الزهد (2414)، وأخرجه أيضا القضاعي في مسند الشهاب (499)، والبغوي في شرح السنة (4214). وأورده الألباني في الصحيحة برقم (2311).
[5] أخرجه أحمد (3/18)، والبزار (3144الزوائد)، والبخاري في الأدب المفرد(710) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الحاكم (1/493): " هذا حديث صحيح الإسناد، إلا أن الشيخين لم يخرجاه عن علي بن علي الرفاعي". وقال المنذري في الترغيب والترهيب: " رواه أحمد والبزار وأبو يعلى بأسانيد جيدة". وقال الهيثمي في المجمع (10/224): " رواه أحمد وأبو يعلى بنحوه والبزار والطبراني في الأوسط، ورجال أحمد وأبي يعلى وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح، غير علي بن علي الرفاعي وهو ثقة". وأورده الألباني في صحيح الترغيب (1633). وللحديث شاهد من حديث أبي هريرة وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما.
[6] ينظر: مجموع الفتاوى (8/193)، واقتضاء الصراط المستقيم (1/359)، والفوائد، لابن القيم (ص97).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العليم القدير، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير. أحمد ربي وأشكره على فضله الكثير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الكبير، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير. اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى.
عباد الله، لقد مَنَّ الله عليكم فأصلح لكم برحمته وحكمته، وجمع كلمتكم على إمامكم وولي أمركم، فَعَمِلْتُم بما أمر الله تعالى به من الاجتماع والإتلاف، وحَذِرتم مما نهى عنه من الفرقة والاختلاف، حيث قال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
ألا وإن انعقاد الولاية قوة في الدين، وانتظام لمصالح الدنيا، وحفظ للجماعة والحوزة، تقام بها الحدود، ويقمع بها المفسدون المجرمون، ويرغم العدو ويستتب الأمن، فاشكروا الله على الأحوال السارة، والأرزاق الدارة، فما حفظت النعم إلا بطاعة الله تعالى والاحتراز عن المحرمات، ولن يؤتى العبد إلا من قبل نفسه، ولا يضره إلا عمله ومخالفة ربه، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة:208-211]، وعن تميم الداري قال: قال رسول الله : ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة)) ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) رواه مسلم [1].
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) [2]. فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
[1] صحيح مسلم كتاب الإيمان (55).
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (408)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/4274)
التحذير من البدع
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
3/7/1419
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على التمسك بالكتاب والسنة. 2- التحذير من البدع. 3- حث السلف على لزوم السنة وترك البدعة. 4- هجر المبتدع. 6- بدع رجب. 7- بدعة الاحتفال بالإسراء والمعراج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ سرًّا وجَهرًا لَيلاً ونهارًا.
أيها المسلمون، كتابُ الله سبحانه وسنّة رسوله لم يترُكا في سبيل الهِداية لقائل ما يقول، ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يُعتَدّ به، فالدين قد كَمُل، والسعادة الكبرى فيما وضع، والطِلْبة فيما شرَع، وما سِوى ذلك فضلالٌ وبهتانٌ وإفكٌ وخسران، والعاقد عَليهما بكِلتا يديه مستمسكٌ بالعروة الوثقى، محصِّلٌ لكلمتَي الخير دنيًا وأخرى.
إخوة الإيمان، دين الإسلام مبنيٌّ على أصلين عظيمين وركيزتين أساسيتين: الإخلاص لله جل وعلا والاتّباع لهدي المصطفى ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:112].
وخيرُ طريق يكون به الاتِّباع المحمود ويحصُل به الاقتِداء المنشود هو طريق نبيِّنا ؛ إذ طريقه هو الَمعِين الصافي ومصدَر النور والهدى وإشعاع الخير والفلاح والزكاء، والبُعد عن هذا الطريق أو الجنوح عنه بليّةٌ عظمى وفِتنةٌ كبرى يدعو إليهَا عدوُّ الأمّةِ إبليسُ وحِزبه، يستغِلّ جهلَ بعضِ المسلمين لدينهم أو مَيلَهم مع الهوى، فيزيِّن لهم ما ليس بمشروع، ويُحسّن لهم ما ليس بمحمود، يُحدث لهم رهبانيّة مبتدَعة وشرائعَ محدثة تنأى بهم عن عِلم السنّةِ المطهرة، يُسوّغ لهم التعصّبَ للآراء والرِّجال لِيحولَ بين المرءِ واتِّباع الدليل وسبيلِ الحقّ، وبذا انحرَف بعضٌ عن سواءِ السبيل، فشوَّهوا حقيقةَ الدين، وأصبحوا لا يفرّقون بين حقٍّ وباطلٍ، ولا يعرفون السنَّة من خلافِها، فظنوا الحسنَ قبيحًا والقبيحَ حسنًا، فصدق فيهم قول المولى جل وعلا: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، فما يفتح لهم الشيطان بابًا من الضّلال إلا ولَجُوه، ولا يُزيِّن لهم طريقًا من طُرقِ البدَع إلاّ سلكوه.
أيّها المسلمون، لا شيءَ بعد الشرك أعظم فسادًا للدّين وأشدّ تقويضًا لبنيانه وأكثر تفريقًا لشمل الأمّة من البدع؛ فهي تفتِك به فتكَ الذئب في الغنم، وتنخر فيه نخرَ السوس في الحبِّ، وتسري في كيانه سَريان السرطان في الدّم والنار في الهشيم، جَعَلَت المسلمين شِيعًا وأحزابًا، شتَّت شملهم، وجعلتم لقمةً سائغةً لأعدائهم؛ إذ فيها البُعد عن الصراط المستقيم والهديِ المستبين، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].
ومن هنا ـ إخوة الإيمان ـ جاءت النصوص المتكاثرة والأدلة المتضَافِرة في وجوبِ اتّباع السنَّة والتحذير من البدعةِ وكشف سوءِ عاقبتِها في الدنيا والآخرة.
فهذا كتاب ربِّنا يبيِّن لنا عظيمَ ثواب الاتّباع وكبيرَ خطَر الابتداع، يقول سبحانه: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تَبْيَضُّ وجوه أهل السنة، وتَسْوَدُّ وجوه أهل البدع). ويقول عزّ شأنه مبيِّنًا أن البدعَ تفريقٌ للدّين وخروجٌ عن هدي سيِّد المرسَلين : إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، جاء عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((هم أصحاب الأهواء والبِدَع والضلالة من هذه الأمة)).
ولذا فمن له عقلٌ بَصيرٌ ورأيٌ سديدٌ يجِد عظمَ المصائب والفتَن التي وُجِدَت في هذه الأمّة عبر تأريخها إنما ترجع في أصلها ولو من طَرْفٍ خفيّ إلى الإفراط والتفريط أو الغلوّ والتقصير في الهديِ النبويِّ الرشيد والمسلَك السّلفيِّ السديد، وما تفرَّقت الأمّة أحزابًا وشيَعًا إلاّ بسبَب التنكُّبِ عن الصراط المستقيم والهديِ النبويّ الكريم، قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، قال مجاهد وغيره: "هذه لأمّة محمد ".
أتباعَ محمد ، نبيّنا عليه أفضلُ الصلاة والسلام حَريصٌ على أمّتِه مشفِقٌ عليهم رَحيمٌ بهم، حذَّرهم من الابتِداع أشدَّ التحذير، وأوصاهم باتّباع سنّته وسنّة خلفائه الراشدين؛ فلا تخالفوا أمرَه، ولا تنتهِجوا غيرَ نهجه، تمسَّكوا بهديه، واستنّوا بسنّته؛ يكن منهجُكم سويًّا سليمًا وصحيحًا مستقيمًا، في الصحيحين عن النبي أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، قال العلماء: "وهذا الحديث ثلُث العِلم لأنّه جمع وجوهَ أمرِ المخالفَة لأمره ".
ويوجز لنا مَكمَن الخير ومستَودَع السلامة والأمنِ، فيقول فيما صح عنه: ((علكيم بسنّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعضّوا عليها بالنواجذ)). وفي هذا الحديث يوضّح المصطفى أصلَ الشرّ والفساد فيقول محذِّرًا: ((وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)). وكان يقول في خطبته يوم الجمعة: ((أما بعد: فإنَّ خيرَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ رسولِ الله، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعة ضلالة)) خرجه مسلم.
أيها المسلمون، وعلى نهج السنة والهدَى سار سلفنا الصالح من صحابةِ رسولنا وأتباعهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين من أهل الحديث والأثَر، فهم بالوحيَين مستمسِكون، وعن غيرهما حائدون، وبذا فازوا بحُسن الثنَا وعظيمِ السيرةِ والهدى، أجمعَت أقوالُهم على ذمِّ البدَع والنهي عنها والتحذير من عاقبَتها وسوء مصيرها.
فهذا صِدّيق الأمّة أبو بكر رضي الله عنه يقول: (إنما أنا متّبِع، وليس بمبتدع، فإن استقمتُ فتابِعوني، وإن زغتُ فقوِّموني)، وفي سنن أبي دواد عن حذيفة رضي الله عنه: (كلُّ عبادة لا يتعبَّدُها أصحابُ رسول الله فلا تعبَّدُوها؛ فإنَّ الأوّل لم يدَع للآخرِ مقالاً).
كُلّيةٌ مُجْمَعٌ عليها، وأصلٌ متَّفقٌ عليه بينَهم رضي الله عنهم، قال أنس رضي الله عنه: (اتَّبعوا آثارنا، ولا تبتدعوا، فقد كُفِيتم)، وينبِّه حبرُ الأمّة ابن عباس رضي الله عنهما على لزوم الاتّباع والحذَر من الابتداع فيقول: (عليكم بالأثر، وإياكم والبدَع، فإنَّ من أحدث رأيًا ليس في كتاب الله ولم تمضِ به سنة رسول الله لم يدرِ ما هو عليه إذا لقِيَ الله عز وجل)، وكان رضي الله عنه يوصي من لقِيَه بتقوَى الله والاستقامةِ والاتّباع وترك الابتداع.
وها هم التابعون لهم من أهلِ الحديث والأثَر يأخذون منهَجَهم ويرتَسِمون خطاهم، فعن غير واحد منهم: "صاحِب البِدعة لا يَزداد اجتهادًا من صلاةٍ وصيام إلا ازدَاد من اللهِ بُعدًا".
واسمع ـ أخي المسلم ـ لجهبذ من جَهابِذة الحديث وعلَم من أعلام السنّة المطهرة، إنّه ابن المبارك إذ يقول: "اعلم أُخَيّ، إنَّ الموتَ كرامةٌ لكل مسلم لقيَ الله على السنة، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، فإلى الله نشكو وحشتَنا وذهابَ الإخوان وقِلّة الأعوان وظهورَ البدَع، وإلى الله نشكو عظيمَ ما حلَّ بهذه الأمة من ذهابِ العلماء وأهلِ السنة وظهور البدع".
ومن محاسِن كلامِ العلماء قولُ بعضهم: "اختلاف الناسِ كلِّهم يرجع إلى ثلاثة أصول، فلكلِّ واحدٍ منها ضدّ، فمن سقَط عنه وقع في ضدِّه: التوحيد وضدُّه الشّرك، والسنة وضدّها البدعة، والطاعة وضدها المعصية". وما أروع كلامَ الجنيد حين يقول: "الطرُقُ كلُّها مسدودةٌ على الخَلق إلا على من اقتفَى أثرَ الرسول ، ولا مقامَ أشرف من مقام متابعةِ الحبيب في أوامره وأفعاله وأخلاقه".
أيّها المسلمون، البِدعة ما أُحدِث في الدين على خلافِ ما كان عليه النبي والأربعةُ الخلفاء الراشدون، إمّا بالاعتقاد بخلاف الحقّ الذي دلّ عليه الكِتاب والسنّة، وإمّا بالتعبُّد بما لم يأذَن به الله من الأوضاع والرسوم المحدثة، وليس في الدين بدعةٌ حسنة، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "فقوله : ((كل بدعة ضلالة)) مِن جوامع الكَلِم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدّين، فكلّ مَن أحدث شيئًا ونسبَه إلى الدين ولم يكن له أصلٌ من الدين يرجِع إليه فهو ضلالة والدين بريءٌ منه، وسواء ذلك في مسائِلِ الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة"، وما أجمل قولَ إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله إذ يقول: "من ابتدَع في الإسلام بدعةً يراها حسنة فقد زعم أن محمّدًا خان الرسالة؛ لأنّ الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا".
عُلماءَ الإسلام ودعاةَ الخير، العِلم أمانة أنتم مطالبون بأدائها وإظهارها، وإظهارُ العلم هو إظهارُ السنة والدّعوة إليها بكلِّ ممكن، قيل للوليد بن مسلم رحمه الله: ما إظهارُ العلم؟ قال: "إظهارُ السنة".
والتنبيه على البدَع سبيلُ الصالحين ومَنهج الصحابةِ والتابعين، وذلك بالحِكمة والموعظةِ الحسنة والموازنةِ بين الحَزم واللِّين، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "ألا وإني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلاّ الله، قد فَنِيَ عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينًا، لا يرونَ الحقَّ غيره"، وما أروعَ قول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنَّ عند كلّ بدعة كِيد بها الإسلام دليلاً من أوليائه يذبّ عنه وينطق بعلامتها، فاغتَنِموا حضورَ تلك المواطن وتوكَّلوا على الله، وكفى بالله وكيلاً).
وتذكّروا ـ إخوة الإيمان ـ أنَّ السكوتَ من أهلِ العلم عن الإنكارِ على البدَع وأهلها يصيِّرها وكأنَّها سننٌ مقرَّرات وشرائع محرَّرات، قال الأوزاعيّ رحمه الله: "إنَّ السلف رحمهم الله تشتدّ ألسنتهم على أهل البدع وتشمئزّ قلوبهم منهم ويحذِّرون الناسَ بدعتَهم، ولو كانوا مستَتِرين ببدعتهم دون الناس ما كان لأحدٍ أن يهتِك سترًا عليهم ولا يظهِرَ منهم عورَة، الله أولى بالأخذِ بها وبالتوبة عليها، فأمّا إذا جاهروا بها فنشر العلم حَياة، والبلاغ عن رسول الله رَحمة، يُعتصَم بها على مصِرّ ملحد.
ثمّ إنَّ منهجَ السلف عدمُ الإسراف في إطلاقِ كلِمة البدعة على كلِّ أحد خالَف بعض المخالفات، إنما يصِفون بالبدعة من فعل فِعلاً لا أصلَ له من الشّرع ليتقرَّب به إلى الله جلّ وعلا، فليس كلُّ عاصٍ ومخطِئ مبتدِعًا.
ومَنهج السلف رحمهم الله مع المبتَدِع مناصحتُه وإقامَة الحجّةِ عليه بكلِّ حِكمة ولين، ومتى عاند واستكبَر عن الحقّ وجَب هجرُه إن كانت بدعتُه مكفِّرة، وإن كانت دونَ ذلك فالأصل هو الهَجر إلاّ إن كانت في مجالَسَتِه مصلحةٌ ظاهرة لتبيين الحقّ والتحذير من البدعة، وإلاّ وجب الابتعاد عنه مطلقًا، فكان السّلَف رضي الله عنهم إذ هجَروا المبتدع ترَكوا السلام عليه وزيارتَه وعيادتَه.
ألا وإنَّ مِن هجرِ المبتدعة تركَ النظر في كتبِهم خَوفًا من الفِتنة بها أو تَرويجها بين الناس، إلا لمن كان عنده من العِلم والبصيرة ما يحذَر به من شرِّها.
أيها المسلمون، مِن مفهوم الولاء والبراء في الدين عدمُ تعظيم المبتدِع أو الثناء عليه مطلقًا، فهذا دَأب المؤمنين الصالحين المعتصمين بكتابِ الله المهتدينَ بهدي رسول الله.
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من الذين قال الله فيهم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بما أوصي به الخلفيةُ الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله أحدَ ولاته حين يقول: "أوصيك بتقوَى الله والاقتصادِ في أمرِه واتِّباع سنة نبيّه وتركِ ما أحدثَ المحدثون بعدما جرَت به سنّتُه وكُفُوا مؤنته، فعليك بلزوم السنّة، فإنها لك بإذن الله عِصمة، ثم اعلم أنه لم يبتَدِع الناس بدعةً إلا قد مضى قبلَها ما هو دليلٌ عليها أو عِبرةٌ منها، فإنَّ السنة إنما سنّها من قد علِم ما في خلافها من الخطأ والزّلل والحمقِ والتملّق، فارضَ لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فقد قصر قومٌ دونهم فجفوا، وطمح عنهم أقوام فضلّوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدي مستقيم".
ثم اعلموا ـ إخوة الإيمان ـ أنّ شهرَ رجب من الأشهر الحرُم التي يجب فيها تعظيم أمرِ الله وترك ما حرَّم الله جل وعلا كغيرِه من الأوقات والشهور، ولكن لم يثبُت أنَّ للعبادة فيه مزيّةً على غيره من الشهور، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وقد روِيَ أنه كان في شهرِ رَجب حوادث عظيمة، ولم يصِحَّ شيءٌ من ذلك، وأما الصلاة فلم يصحَّ في شهر رجب صلاةٌ مخصوصة تختصّ به، لا عن النبي ولا عن صحابته، والأحاديث المرويّة في فضل صلاةِ الرغائِب في أوّل جمعةٍ من شهر رجب كذِبٌ وباطل لا تصحّ، وأما الاعتمار فقد أنكرَت عائشة رضي الله عنها أن يكونَ النبي اعتمرَ في شهر رجَب، بل هو كغَيره من الشهور، وأما الصّيام فلم يصحَّ في فضل صومِ رَجَب بخصوصه شيء عن النبيِّ ولا عن أصحابه" انتهى كلامه يرحمه الله، وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "لم يرِد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ولا في صيام شيءٍ منه معيَّن ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديثٌ صحيح يصلح للحجة".
ومن الأخطاء التي قد يقَع فيها من يرغَب في الخير الاحتفال بالإسراءِ والمعراج زَعمًا أنها ليلة سبعٍ وعشرين، وهذا خطأ من أمرين: الأوّل: أنّ علماءَ الشريعة بيَّنوا أنه لم يأتِ في تعيينها حديثٌ صحيح، لا في رجب ولا في غيره، وما ورد في تعيينها فغيرُ ثابت عند العارفين بالحديث ورجاله، الثاني: أنها لو كانت معيّنة فهذا ـ أي: الاحتفال بالإسراء والمعراج ـ عملٌ لا أصلَ له منَ الشريعة، فنبيّ الأمة وصحابته رضي الله عنهم لم يحتفِلوا بها، ولم يخصّوها بشيءٍ ما، ولو كان مشروعًا لحصَل ذلك إمّا بالقول أو الفعل، ولمّا لم يقَع شيء من ذلك البتّة فهي من البِدَع المحدثة في الدين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "صلاةُ ليلة السابِع والعشرين من رجب وأمثالها فهذا غَير مشروع باتفاق أئمة الإسلام، كما نصّ على ذلك العلماء المعتبَرون، ولا ينشِئ ذلك إلا جاهل مبتدع".
فاحذروا ـ عباد الله ـ ممّا ليس بمشروع، والزَموا السنة في كل شيء؛ تفوزوا وتسعدوا بخيرَي الدنيا والآخرة.
اللّهمّ صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين في كل مكان...
(1/4275)
فضائل المسجد الأقصى تاريخه وبعض أحكامه
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة
لافي بن حمود الصاعدي
مكة المكرمة
جامع الفتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شد الرحال إلى المسجد الأقصى. 2- سبب تسميته بالمسجد الأقصى وبيت المقدس. 3- حدوده وتاريخ بنائه. 4- فضائله. 5- تنبيهات على أخطاء ومعتقدات شائعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فقد شدَّ المسلمون رحالهم إلى المسجد الحرام لأداء مناسك الحج، ثم شدُّوا رحالهم إلى المسجد النبوي، ولو أنهم استطاعوا لشدُّوا رحالهم إلى المسجد الأقصى، ولكنَّه تحت غصب وعدوان اليهود، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، ما دمنا لا نستطيع في هذه الحال شدَّ الرحال إلى المسجد الأقصى بالأجساد فسنشدُّ إليه الرحال بالأرواح والفؤاد، فنتجول في تاريخه وفضائله وبركاته وشيء من أحكامه، فقد عظُم جهل المسلمين به، وما ذاك إلا ليأسهم من إعادته واسترداده، ولكنَّنا سنتحدّث عنه أملاً وتفاؤلاً في فتحه وانتزاعه من إخوان القرود.
أيُّها المسلمون، سُمي هذا المسجد بالمسجد الأقصى لبعد المسافة بينه وبين الكعبة، ويُسمَّى أيضًا بيت المقدس أي: المكان الذي يُطَهَّر فيه من الذنوب.
وأمَّا حدوده فقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: "المسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان عليه السلام، وهو اسم لجميع ما دار عليه السور، ويشتمل على المسجد الذي في صدره وقبة الصخرة هذا هو الصحيح" اهـ، فعلى هذا كل ما كان داخل السور فهو من المسجد الأقصى وما لا فلا.
وأمَّا تاريخ بناء المسجد الأقصى فقد أخبر الصادق الصدوق بأنَّه ثاني مسجد وضع على ظهر الأرض، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجدٍ وُضِع في الأرض أولاً؟ قال: ((المسجد الحرام)) ، قلت: ثم أيّ؟ قال: ((المسجد الأقصى)) ، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنةً، ثم أينما أدركتك الصلاة فصلَّه، فإنَّ الفضل فيه)) رواه البخاريُّ.
عباد الله، من فضائل المسجد الأقصى ما رواه النَّسائيُّ بسندٍ صحيحٍ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لما فرغ سليمان بن داود عليهما السلام من بناء بين المقدس سأل الله ثلاثًا: سأله حكمًا يصادف حكمه ـ أي: حكمًا يوافق حكم الله ـ فأعطاه إياه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه)) ، فقال رسول الله : ((فنحن نرجو أن يكون الله عز وجل قد أعطاه إياه)) ، ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنهما يأتي إلى المسجد الأقصى فيصلي فيه ولا يشرب فيه ماء لتصيبه دعوة سليمان عليه السلام لقوله: ((لا يريد إلا الصلاة فيه)) ، وهذا من تمام ورع ابن عمر رضي الله عنهما، وإلا فلو خرج رجل من بيته وهمه الأول الصلاة في المسجد الأقصى ثم شرب فنرجو أن تصيبه دعوة سليمان عليه السلام.
أيها الإخوة، في الحديث السابق ما يدل على أن سليمان عليه السلام بنى مسجدًا ولم يبن هيكلاً كما تزعمه اليهود، كما يدل الحديث السابق على أن بناء سليمان لم يكن بناء ابتداءٍ وتأسيس، وإنما كان بناء تجديد للمسجد؛ لأنَّا علمنا مما سبق في الحديث الصحيح أن بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى أربعين سنة، فإن قلنا: إن إبراهيم أوّل من بنى المسجد الحرام فليس بين إبراهيم وبين سليمان عليهما الصلاة والسلام أربعون سنة، بل بينهما أكثر من ذلك قطعًا، فعلى هذا لا يدرى على وجه التعيين من الذي ابتدأ بناء المسجد الأقصى؛ لأنه لم يصح شيء عن رسول الله في ذلك، ولكن قال بعض العلماء اجتهادًا: إن آدم أوّل من أسس المسجد الحرام والمسجد الأقصى، وإن بناء إبراهيم للكعبة وبناء سليمان للمسجد الأقصى كان بناء تجديد لا بناء ابتداء وتأسيس والله أعلم.
ومن فضائل المسجد الأقصى إخبار الله تعالى في كتابه بأن البركة حوله قال تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1]، والمراد بالبركة هُنا هي البركة الدينية والبركة الدنيوية، فالبركة الدينية لأنه مقرّ الأنبياء والصالحين، ولأن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة كما سيأتي، وما سبق من دعوة سليمان وما سيأتي في هذه الخطبة كلّها من بركاته الدينية، وأما البركة الدنيوية فما جعل الله حوله من البركة لسكانه في معايشهم وأقواتهم وحرثهم وزروعهم، فقد أجرى الله حوله الأنهار وأنبت الثمار.
ومن فضائل المسجد الأقصى استحباب شدّ الرحال إليه على وجه العبادة، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى)) ، ولهذا فقد أجمع العلماء على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه كالصلاة والدعاء والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف وغيرها.
ومن فضائل المسجد الأقصى وبركاته أن الصلاة فيه بخمسمائة صلاة على الراجح من أقوال العلماء، لما روى أبو الدرداء رضى الله عنه قال: قال رسول الله : ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي هذا بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)) وهذا حديث حسن رواه الطبراني في الكبير. فاللهمّ ارزقنا فيه صلاةً بل صلوات قبل الممات تخرجنا من الذنوب والخطيئات كما ولدننا الأمهات، إنك تسمع الأصوات وتجيب الدعوات.
ومن فضائل المسجد الأقصى أن رسول الله أسري إليه وصلى بالأنبياء هناك.
ومن فضائل المسجد الأقصى أن الدجال لا يدخله، فقد روى جنادة قال: أتينا رجلاً من الأنصار من أصحاب رسول الله فذكر الحديث وفيه: ((علامته ـ أي: المسيح الدجال ـ يمكث في الأرض أربعين صباحًا، يبلغ سلطانه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: الكعبة ومسجد الرسول والمسجد الأقصى ومسجد الطور)) رواه أحمد ورجاله ثقات.
ومن فضائل المسجد الأقصى أن نبي الله محمدًا وأصحابه كانوا يصلون وقبلتهم المسجد الأقصى في ابتداء فرضية الصلاة، ثم تحولت القبلة إلى الكعبة بعد الهجرة بستة أو سبعة عشر شهرًا كما روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: صلى رسول قِبَل بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا بعد الهجرة. رواه البخاري.
ومن فضائل المسجد الأقصى أنه في أرضٍ مباركةٍ وهي أرض بلاد الشام كما قال تعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:81].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
فبرغم ما ذكرنا من بركات المسجد الأقصى وفضائله ومزاياه، فإن المسجد الأقصى ليس حرمًا بإجماع العلماء، ومن الخطأ وصفه بالحرم أو ثالث الحرمين كما هو شائع، فإن الحرم ما حرم الله صيده ونباته، ولم يحرم الله صيدا ونباتا إلا في مكة والمدينة.
أيها المسلمون، وممَّا يتعلق بالحديث عن المسجد الحديثُ عن مسجد قُبَّة الصخرة، لقد كانت الصخرة قبلةً لليهود، ولذا فهم يعظمونها، ثم نسخت، وعلى هذا فليس لها في شريعة محمد أيّ فضلٍ ومزية، يقول ابن القيم رحمه الله: "وأرفع شيء في الصخرة أنها كانت قبلةً لليهود، وأبدل الله بها هذه الأمة المحمدية الكعبة البيت الحرام، وهي ـ أي: الصخرة ـ في الزمان كيوم السبت" اهـ، أي: كان يوم السبت عيدًا لليهود فأبدلنا الله بخيرٍ منه وهو يوم الجمعة.
إخوة الإيمان، لقد روي في فضائل هذه الصخرة كثير من الإسرائيليات، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: "كلّ حديث في فضل الصخرة فهو كذب مفترى، روى الإمام أحمد عن عبيد بن آدم قال: سمعت عمر بن الخطاب وذلك لما فتح عمر بيت المقدس قال لكعب الأحبار: أين ترى أن أصلي؟ فقال: إن أخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك، فقال عمر: ضاهيتَ اليهودية، لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله ، فتقدم إلى القبلة وصلى، ثم جاء فبسط رداءه، فكنس الكناسة بردائه، وكنس الناس أي: كنسوا القمامة التي كانت على الصخرة لأنها كانت في أيدي النصارى، وقد جعلوها مزبلة مكافأةً لليهود الذين كانوا يلقون القمامة على قبر المصلوب الذي شُبه لهم بعيسى عليه السلام، فأما المسلمون فهم وسط؛ لا يعظمونها تعظيم اليهود، ولا يهينونها إهانةَ النصارى، بل هي كأي صخرةٍ في أي مسجدٍ من مساجد المسلمين. وأمَّا بناء القبة على الصخرة فقد ذكر ابن تيميه بأنَّه لم يكن على عهد الخلفاء الراشدين على الصخرة قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان، ثم لما تولى ابنه عبد الملك بنى القبة على الصخرة وكساها في الصيف والشتاء، وظهر في ذلك الوقت تعظيم الصخرة بما لم يكن يعرفه المسلمون من قبل" اهـ، وجاء بعض الناس ينقل الإسرائيليات في تعظيمها، والذي يظهر أن عبد الملك بن مروان كان هدفه من هذا العمل يعود إلى رغبته في مواجهة روعة بناء الكنائس عند النصارى، وعلى أيّ حالٍ فإن بناء تلك القبة لا داعي له، بل إنَّ هذا العمل كان له أثر واضح في تعظيم الصخرة وتقديسها عند بعض الناس.
الحاصل ـ إخواني في الله ـ أنه لا يجوز تعظيم الصخرة ولا التبرك بها بأيّ وجه كان كالصلاة عندها أو تقبيلها أو التمسح بها أو الطواف حولها ونحو ذلك، ولا يقال: الصخرة المشرَّفة لأنه لا دليل على تشريفها، وكذلك لم يصحَّ أن النبي عُرج به منها، ولا يصح أنها تبعت النبي بعد معراجه وأن الملائكة أمسكتها فبقيت بين السماء والأرض، فإن هذا كلّه من الخرافات التي يتداولها العوام، ولم يدل عليها نقل صحيح، ولم يرد نقل صحيح كذلك في إثبات آثار قدمي النبي على هذه الصخرة، وعليه فإنَّها كسائر الصخور، لا يجوز تعظيمها.
نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح...
(1/4276)
مع سورة الكهف: الامتحان في الدين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الفتن, القرآن والتفسير
عبد الله بن محمد الحمادي
غير محددة
مسجد الإسراء
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة تدبر الآيات. 2- فضل سورة الكهف. 3- محاور القصص الأربع. 4- قصة أصحاب الكهف وقضيتها الأساسية. 5- كيف نعصم أنفسنا من الفتن؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، لماذا أنزل الله القرآن الكريم؟! أمن أجل التبرك به ووضعه على الرفوف أم من أجل أن يكون بركة في تطبيقه والعمل بهديه وتنفيذ أحكامه؟!
هناك من يقرأ القرآن بلسانه وعينِه فقط، وهناك من يقرؤه بلسانه وعينه وعقله، والواجب أن يقرأ القرآن باللسان والعين والعقل والقلب.
ربنا سبحانه ينكر على من يقرأ القرآن دون أن يعتبر بما فيه ويتأمل حِكَمه وأحكامه فيقول في سورة محمد: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [محمد:24]، ويصف المؤمنين الخاشعين بأن من أبرز صفاتهم التفاعل مع آيات الكتاب الحكيم فيقول سبحانه في سورة الأنفال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
كما يبين ربنا عز وجل أن القرآن ميسر لكل أحد لحفظه والاعتناء به والتدبر في آياته والعمل به، ولكن أين هم؟! وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
روى الحاكم في مستدركه قوله : ((من قرأ الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) ، قال عنه الحاكم: "صحيح الإسناد". فلماذا سورة الكهف بالذات التي يقدر لها هذا الفضل في قراءتها في يوم الجمعة؟!
وروى مسلم في صحيحه: ((من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال)) ، وما علاقة الدجال بسورة الكهف؟!
هذه السورة ـ أيها المسلمون ـ تعرض لنا أربع قصص لم تتكرّر أبدا في سور القرآن الأخرى، ولكل قصة منها قضيّة خطيرة ينبغي عليك ـ أيها المسلم ـ أن تعيها وأنت تقرأ السورة في كل جمعة: قصة أصحاب الكهف، قصة صاحب الجنتين...
سنقف اليوم وقفة تأمّل في القصة الأولى التي سمّيت السورة بسببها قصة أصحاب الكهف والرقيم، هذه القصة التي تأتي لبيان قضية الامتحان في الدين والابتلاء في التمسك بالعقيدة الصحيحة والإيمان الذي لا تشوبه شائبة.
إن المحور الرئيس في هذه القصّة هو المتعلّق بما يفتن به المرء بسبب دينه، ما صفة أولئك؟ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13]، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14]، ما الذي وجدوه من قومهم مقابل ذلك الإيمان؟ هل وجدوا الترحيب والاحتفاء والتكريم؟! هل وجدوا السماحة وترك حرية الاختيار لهم؟! لم يجدوا من قومهم سوى الاضطهاد والإيذاء والمطاردة والتضييق والتهديد بالقتل أو إرجاعهم إلى عقيدة الشرك والأوثان، إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20].
هكذا يبتلى المسلم في دينه أيها المؤمنون، هكذا نفتن في ديننا صباح مساء، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].
في بعض الدول يودع المسلم في السجن لأنه ضبط متلبّسا بصلاة الفجر في المسجد، وفي بعضها الآخر تحرم المسلمة من الوظيفة لأنها ترتدي الحجاب، وفي غيرها يحارب الدعاة ويسخر منهم في الصحافة والتلفاز لأنهم يدعون إلى الفضيلة والطهر، وفي فلسطين يتهم شعبها بالإرهاب لأنهم لم يخنعوا للمحتل الذي غصب أرضهم وسرق ديارهم.
قبل يومين قرأنا في صحيفة محلية أن القوات المتعددة الجنسيات في العراق تمكنت من قتل 60 إرهابيا عراقيا، يا للعجب! لكن هذه بعض مظاهر الفتنة في الدين، فاللهم إنا نسألك أن تربط على قلوبنا وتثبت إيماننا ونحن نواجه مثل هذه الفتن حتى نكون ثابتين كثبات أصحاب الكهف، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14]
أقول قولي هذا، وأستغفر الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أيها المسلمون، هذه الفتن المحيرة التي قال عنها الهادي : ((فتن كقطع الليل المظلم، يمسي الرجل فيها مؤمنا ويصبح كافرا)) ، ما سبيل الخلاص من ويلاتها؟ ما طريق العصمة من الوقوع فيها؟
إن آيات سورة الكهف نفسها تعطينا الدواء الناجع والعلاج الناجح. إن قصة أصحاب الكهف تدلنا على ضرورة التزام الصحبة الصالحة، وذلك يتبين من خلال كون الفتية مجتمعين غير متفرقين، وكذلك يتبين ذلك من أول تعقيب رباني على القصة مباشرة، إذ يوصي رب العزة من ابتلي في دينه بقوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف:28]، لا بد أن نتّحد، لا بد أن يضع المؤمنون أيديهم في أيدي إخوانهم وينبذوا التنافر والتعصب والتشرذم حتى نواجه هذه الفتن الحالكة، علينا أن نواجه أعداءنا بمثل ما يحاربوننا به، هم يحاربوننا بالتكتلات الاقتصادية والبرلمانات الدولية والتحالفات العسكرية ثم نواجههم بمزيد من التشرذم والتفرق؟! تجمّع الباقون على باطلهم، وتفرقنا نحن عن حقنا.
الأمر الآخر الذي يجعلنا نثبت أمام هذه الفتن وهو كذلك مذكور مباشرة بعد قصة أصحاب الكهف: تذكر الآخرة وما فيها من العذاب الأليم لأولئك الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ولأولئك الذين خلدوا إلى الأرض ورسبوا في الامتحان وارتدوا عن دينهم وعقيدتهم، فلنتذكر أن أقسى عذاب في الدنيا إنما هو عافية أمام عذاب الآخرة، ولهذا يأتي التعقيب الرباني بعد هذه القصة مباشرة: وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، أما أولئك المؤمنون الثابتون: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:30، 31].
أيها المسلم، إذا قرأت سورة الكهف يوم الجمعة فلتتذكر قصة أصحاب الكهف التي جعلها الله عبرة لمن ابتلي في دينه وأوذي في إيمانه، ولتتذكر أن الرفقة الطيبة والجماعة المؤمنة وتذكر اليوم الآخر هو خير ما يعينك على الثبات على الدّين حتى الممات.
صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه حيث أمرنا المولى فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/4277)
الشيخ الشهيد
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
عبد الله بن فريح البهلال
الرياض
5/2/1425
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقتل الشيخ أحمد ياسين. 2- غدر اليهود وجرائمهم. 3- غرور أمريكا. 4- درس الاغتيال. 5- واجب المسلمين. 6- من كلمات الشيخ أحمد ياسين. 7- ما وراء مقتل أحمد ياسين. 8- كيف نواجه العدو؟
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الآخر الأول، الذي لا يزول ملكه ولا يتحوّل، صرف الخلائق بين رفع وخفض وبسط وقبض وإبرام ونقض وإماتة وإحياء وإيجاد وإفناء وإسعاد وإضلال وإعزاز وإذلال، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعزّ من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، مبيد القرون السالفة، ومهلك الأمم المخالفة، لم يمنعهم منه ما اتخذوه معقلاً وحِرزًا، فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا؟! بتقديره النفع والضر، وله الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله إلى الخلق أجمعين، المنزل عليه نبأ القرون الأولين، سيد العرب والعجم، المبعوث إلى جميع الأمم، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ومصابيح الظلَم.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا ربكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين، اتقوا الله يجعل لكم من كل كرب فرجًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2].
أيها المؤمنون، في فجر الاثنين الماضي كان شيخ المجاهدين على موعد مع التكريم بعد حياة حافلة بالجهاد في سبيل الله، كانت الأمة تغط في نومها إلا قلة قليلة سمعت: "حي على الفلاح"، فلبت، استيقظ الشيخ أحمد ياسين كعادته كل ليلة ولسانه يلهج بذكر الله، والابتسامة الصافية لا تفارق وجهه السمح الطيب، وصدى صوته يتردد بين السماء والأرض: "أمَلي أن يرضى الله عني".
مضى الشيخ مع مرافقيه إلى بيت الله، وأدى الصلاة، وعاد وهو في ذمة الله، ليصيبه ما كان يتمناه، فتطلق عليه المروحيات الإسرائيلية ثلاثة صواريخ، أصابه أحدها مباشرة، وتحول الشيخ إلى أشلاء على باب المسجد الذي عرفه خطيبًا ضدّ الاحتلال، كانت المعادلة هذه المرة صعبةً بل مستحيلة، شيخ مقعَد على كرسيّ في مواجهة صاروخ، وانتصر الشيخ هذه المرة أيضا، فرغم أن الصاروخ حول البدن الضعيف إلى أشلاء وتدلى دماغه على الأرض ولكن المعجزة أن وجهه لم يتأثر، وحتى شعيرات لحيته التي غطاها الشيب لم تحترق، وظلت ابتسامة الشيخ تنير وجهه. ذهب البدن كله وبقيت هامة الشيخ مرفوعة على أكتاف الآلاف من محبيه، تحطم الكرسي ومعه البدن المعوق لكن روح الشيخ الطليقة حلقت إلى السماء، مات الشيخ ربما ولكن لتعيش الأمة.
غدروا بشيبتك الكريمة جَهْرةً أَبشرْ فقد أورثتَهم خذلانا
أهل الإساءة هم ولكنْ ما دروا كم قدَّموا لشموخك الإحسانا
يا أحْمدُ الياسين إن ودَّعتنا فلقد تركتَ الصدق والإيمانا
ستظلُّ نجمًا فِي سَماءِ جهادنا يا مُقْعَدًا جعل العدوَّ جبانا
أجل، مات الشيخ المجاهدُ أحمد ياسين عظيمًا مثلما عاش كبيرًا، ولم يكن هيّابًا للموت، بل كانت الشهادة أغلى أمانيه، والناس كلُّهم يموتون ولكن فرقٌ بين موتِ الأبطال وموت الجبناء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
نعم قتلوا الرمز والقائد والزعيم والحبيب وقرة العين ومهجة القلب, وإن كانوا قتلوه فلقد هموا بقتل رسول الله من قبل فأمكن الله منهم، وإن كانوا قتلوه فقد قتلوا أنبياء الله من قبل.
اقرؤوا التأريخ ـ أيها الإخوة ـ لتدركوا أن يهود الأمس سلف سيِّئ، ويهودَ اليوم خلف أسوأ، كفَّارُ النعم ومحرِّفو الكلم، عُبَّاد العجل، قتلة الأنبياء، مكذِّبو الرسالات، خصوم الدعوات، شُذَّاذ الآفاق، حثالة البشرية، مَن لَّعَنَهُ ?للَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ?لْقِرَدَةَ وَ?لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ?لطَّـ?غُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:60].
هؤلاء هم اليهود، سلسلةٌ متّصلة من اللؤم والمكر والعناد والبغي والشر والفساد، وَيَسْعَوْنَ في ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]. حلقات من الغدر والكيد والخسة والدناءة، تطاولوا على مقام الربوبية والألوهية: لَّقَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء [آل عمران:181]، وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ [المائدة:64]، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
لقد رموا الرسل بالعظائم، واتهموهم بالشناعات والجرائم، آذوا موسى، وكفروا بعيسى، وقتلوا زكريا ويحيا، وحاولوا قتل محمد ، عملوا له السحر، ودسّوا له السمّ بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
ولئن كانوا قد فعلوا فقتلوا شيخ المجاهدين فهم أهلُ كلِّ خسةٍ ودناءة وكل نذالة وكل حقارة، وما العجب أن تصدر الخسّة من أهلها, وإنما الذي يحرق صدورنا أن تسلمه الأمة هكذا وهو رمزها وقائدها وزعيمها، والمؤسف أيضًا أن يقف العالم بدولِه ومنظماته متفرّجًا وصامتًا وذليلاً وغائبًا، بل ويكيل بمكيالين أمام إرهاب دولة بل دولٍ بهذا المستوى.
سُحقًا للقوم المجرمين وهم يستخدمون الطائرات والصواريخ الآثمة لشيخ لا تحمله رجلاه ولا تتحرك يداه، بل يُحمل على عربته ويحيط به جمعٌ من إخوانه وأبنائه ومحبيه وكان مصيرُهم مصيرَه، وسحقًا لليهود الغادرين وزعيمهم السفاح شارون يتبجح أمام الملأ بأنه المخطط والمتابع لهذه الجريمة النكراء، أويظن شارون وكل الذين شاركوه من الأمريكيين والخائنين من العرب أنهم سيهنؤون بارتقاء الشيخ, لا وألف لا، بل "لا" تحملها الملايين الغفيرة التي خرجت وراء الشيخ في جنازته، فعلى خطى الشهيد سيسير ألف شهيد, وروح شهيد فلسطين وإن علت ستظل تخبر كلَّ من مشى في طريق التيه العربي أن سبيل الشيخ هو السبيل الحق.
ولا ننسى ـ أيها الإخوة ـ أمريكا، وما أدراك ما هي، غرور القوة وولَد الحماقة، فما زالت مخمورة بعنجهية النصر الكاسح على اليابان بعد قنبلتَيها النوويتين، فلا حكمة بل لا عقل لديها، بلد تديره عصابة من الصهاينة الأوغاد، ويا للعجب! لا مفكر ولا باحث ولا متأمل يرشدها سبيلها، ولعلها إرادة الله حتى تسقط سقوطًا يشفي صدورَ قوم مؤمنين.
لقد باعت أمريكا دنياها ودينها من قبل بثمن بخس، إرضاءً لليهود بسخط الجميع. هذه أمريكا، ما أرادت حتى الاستنكار، مع أن استنكارها قد يقال: إنه لا يغنينا عما نحن فيه شيئا، بل رأينا وقاحتها، وشيمتها الوقاحة، رأيناها وهي تطلب من الفلسطينيين الكفَّ عن إطلاق النار وضبط النفس, ضبط النفس!! وأي ضبط للنفس وهذه المجازر؟! بل كيف يملك أن يضبط نفسه من يرى أفراد أسرته يقتلون ومنزلَه وغُرَفَ بيوته تهدم بقذائف صاروخية؟! ثم يقولون: ضبط النفس! فاللهم ربنا أهلكها بعذاب من عندك، وأرسل عليها جندًا من جندك، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم.
معاشر المسلمين، إن اغتيال الشيخ أحمد ياسين لهو من أوضح الدلائل على سجية القوم وما يكنُّونه لأمتنا ومقدّساتنا وقادتنا المصلحين، إنه لأمر تبكي له العيون دمًا، يُقتَل الأبرياء العزّل على أيدي سفاحي الصهاينة ورثة النازية والفاشية، فأيُّ حقٍّ لهم في فلسطين؟! الأرضِ العربية الإسلامية التأريخية إلى قيام الساعة، التي تبوّأت منذ فجر التأريخ مكانتها المرموقة لدى المسلمين، بل هي جزء من ثوابتهم وأمانة في أعناقهم، ولن يفرّطوا بشبر من أرضها ـ بإذن الله ـ ما دام فيهم عرق ينبض، وإن الحق الذي يدعيه يهود في فلسطين خرافةٌ لا سند لها وصلافةٌ لا مبرِّر لها، لقد مضى أكثر من خمسة عقود من الزمان على قضية المسلمين الكبرى والمأساة تتجدد يومًا بعد آخر، فأين المسلمون؟!
إنِّي أنادي والرّياح عصيبة والأرض جَمرٌ والدّيار ضِرام
يا ألف مليون ألا من سامع؟! هل من مُجيب أيّها الأقوام؟!
قد بُحّ صوتي من نداكِ أمتِي هلا فتًى شاكي السلاح هُمام؟!
لقد آن لكلِّ مسلمٍ أن يُخرجَ القلمَ ويَكتُبَ، وأن يرفعَ عقيرتَه ويَندُبَ، وأن يرتقيَ منبرَه ويَخطُب، وأن يرفعَ سلاحَه ويَضرِب، فلقد نكأت عملية الاغتيال جراحًا فوق أوجاعنا، يا ويح أمتِنا ماذا أصابها؟! أيطيب لنا عيش ويهدأ لنا بال ويرقأ لنا دمع ومقدساتنا تئنّ وقدسُنا تستنجد وفلسطيننا تنادي والأقصى يستصرخ قائلاً:
كلُّ المساجد طُهِّرت وأنا على شرفي أُدنَّس؟!
كل ذلك يحدث على مسمع من العالم ومرآه، وكأن المسلمين لا بواكي لهم، أين العالم بهيئاته ومنظماته؟! أين مجلس أمنهم وهيئة أممهم؟! أين هم من بكاء الثكالى وصراخ اليتامى وأنين الأرامل واغتصاب الأرض وتدنيس العرض؟! أين شعارات ومنظمات حقوق الإنسان الزائفة؟! ماذا يردّ الضمير العالمي؟! وأين هي المقاطعات السياسية والاقتصادية على مجرمي الحرب والمستهترين بالأعراف الدولية والقرارات العالمية؟! أين صناع القرار؟! أين قادة العالم؟! أين أصحاب الرأي؟! أين من يدّعي محاربة الإرهاب؟! أينهم جميعًا؟! ماذا يسمون ما فعله هؤلاء المجرمون بالشيخ ياسين وبالمسلمين في فلسطين؟! بل أين الحكومات العربية؟! أين الزعماء العرب أم أن قصاراهم شجب واستنكار؟! فالكل مدرك أن الزعماء العرب لن يفعلوا شيئا لأبناء الشعب الفلسطيني مثلما لم يفعلوا شيئا لأبناء العراق، حتى لو رأوا الدماء تصل إلى الركب في الضفة وغزة فقد فقدوا في معظمهم دماء الحياء. الزعماء العرب والحكومات سينسون غدا أو بعد غد اغتيال الشيخ ياسين، وستعود الفضائيات العربية إلى سيرتها السابقة في عرض البرامج المثيرة والمسلية لتعلمنا كيف نجيد تبادل القبلة المحرمة وفن الخمّة والضمّة، بينما سيواصل أبناء الشيخ ياسين وتلاميذه عملياتهم الاستشهادية ومواجهة الدبابات والطائرات الإسرائيلية كما فعلوا على مدى الأعوام الماضية.
أما والله إن عملية اغتيال الشيخ ياسين لهي رسالةُ إذلالٍ للقمّة العربية التي تلتئم أواخر الشهر الحالي, ولقد دأب على ذلك شارون دوما ردًا للجميل العربي.
معاشر المسلمين، وقبل بضعة أشهر ظهر الشيخ أحمد ياسين بكلمات مدوّية لم تأبه لها وسائل الإعلام، ولم تُعِرْها أيّ اهتمام، يشكو ياسين في سمو عجيب حاله وما آلَ إليه من شيخوخة، ويبين لنا حاله كمن شُلّ عن الحركة الجسمية لا من شُلّ عن البذل لهذا الدين ولو بروحه، يتحدث عن نفس قد سأمها المرض، ثم يتأوه من حال أمته ويرسل برقيات إلى قادة الأمة وشعوبها، ويختم حديثه بالدعاء والتضرع لله رب العالمين، وهكذا يكون السمو وإلا فلا.
وأنقل لكم كلامَه نصيًا وحرفيًا، يقول الشيخ المجاهد أحمد ياسين رحمه الله: "أوما ترون ـ أيها العرب ـ ما بلغ بكم الحال؟! إنني أنا الشيخ العجوز لا أرفع قلمًا ولا سلاحًا بيدي الميتتين، لستُ خطيبًا جمهوريًا أرجّ المكان بصوتي، ولا أتحرك صوب حاجة خاصة أو عامة إلا عندما يحركني الآخرون لها، أنا ذو الشيبة البيضاء والعمر الأخير، أنا من هدّته الأمراض وعصفت به ابتلاءات الزمان، كل ما عندي أنني أردتُ أن يَكتُبَ أمثالي ممن يحملون في ظواهرهم ما يبدو على أجسادهم كل ما جعله العرب في أنفسهم من ضعف وعجز، أحقًّا هكذا أنتم أيها العرب صامتون عاجزون أو أموات هالكون؟! ألم تعد تنتفض قلوبكم لمرأى المأساة الوجيعة التي تحل بنا؟! فلا قوم يتظاهرون غضبًا لله وأعراض الأمة، ولا قوم يحملون على أعداء الله الذين شنوا حربًا دولية علينا، بل وحولونا من مناضلين شرفاء مظلومين إلى قتلة مجرمين إرهابيين، وتعاهدوا على تدميرنا والقضاء علينا، ألا تستحي هذه الأمة من نفسها وهي تُطعَن في طليعة الشرف لديها؟! ألا تستحي دول هذه الأمة وهي تغضُّ الطرف عن المجرمين الصهاينة والحلفاء الدوليين دون أن يعطفوا علينا بنظرة تمسح عنّا دمعتنا وتربط على أكتافنا؟! ألا تغضب منظمات الأمة وقواها وأحزابها وهيئاتها وأشخاصها لله غضبة حقة فيخرجوا جميعًا في حشود هاتفة ليقولوا: يا الله، اجبر كسرنا وارحم ضعفنا وانصر عبادك المؤمنين؟! أوما تملكون هذا أن تدعوا لنا؟! قريبًا ستسمعون عن مقاتل عظيمة بيننا لأننا لن نكون حينها إلا واقفين مكتوبًا على جبيننا أننا متنا واقفين مقبلين غير مدبرين، ومات معنا أطفالنا ونساؤنا وشيوخنا وشبابنا، جَعَلْنا منهم وقودًا لهذه الأمة الساكنة البليدة، لا تنتظروا منّا أن نستسلم أو أن نرفع الراية البيضاء لأننا تعلمنا أننا سنموت أيضًا إن فعلنا ذلك، فاتركونا نمت بشرف المجاهد، إن شئتم كونوا معنا بما تستطيعون، فثأرنا يتقلده كل واحد منكم في عنقه، ولكم أيضًا أن تشاهدوا موتنا وتترحموا علينا، وعزاؤنا أن الله سيقتص من كل من فرّط في أمانته التي أعطيها، ونرجوكم أن لا تكونوا علينا، بالله عليكم لا تكونوا علينا يا قادة أمتنا ويا شعوب أمتنا، اللهم نشكو إليك نشكو إليك نشكو إليك نشكو إليك ضعف قوتنا وقلة حيلتنا وهواننا على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربنا، إلى من تكلنا؟! إلى بعيد يتجهمنا أم إلى عدو ملكته أمرنا، اللهم نشكو إليك دماءً سفكت وأعراضًا هتكت وحرماتٍ انتهكت وأطفالاً يتّمت ونساءً رمّلت وأمهات ثكّلت وبيوتًا خُرّبت ومزارع أتلفت، نشكو إليك تشتّت شملنا وتشرذم جمعنا وتفرّق سبلنا ودوام الخُلف بيننا، نشكو إليك ضعف قومنا وعجز الأمة حولنا وغلبة أعدائنا" انتهت كلمته رحمه الله رحمة واسعة.
أمة الإسلام، لا بأس أن نبكي اليوم ونحزن طويلا، فعلى مثل شيخ الجهاد أحمد ياسين لتبكي البواكي، ولكن على أن نغضب غدا، نغضبَ غضبا طويلا، وهذا الغضب سيصب على كل الصهاينة وأذنابِهم ودولة الطاغوت الكبرى الحامية لهم، وسيكون دم شيخ المجاهدين الشهيد بإذن الله أحمد ياسين وكلِّ المجاهدين بركانا يتفجر، ولن يهدأ حتى النصر بإذن الله.
اللهم إنا نسألك أن تخزي اليهود والنصارى المعتدين, اللهم عليك بأمريكا ودولة يهود، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نسألك أن تنصر الإسلام والمسلمين, اللهم إنا نسألك أن تحفظنا بالإسلام قائمين وقاعدين وراقدين يا رب العالمين.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الأحد الواحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو المستعان على ما نرى ونشاهد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقد عظم البلاء وقلّ المساعد، وحسبنا الله ونعم الوكيل وقد عظم الخطب والكرب زائد، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أفضل أسوة وأكرم مجاهد، صلى الله عليه وعلى آله أولي المكارم والمحامد، وصحبه السادة الأماجد، والتابعين ومن تبعهم بأحسن السبل وأصح العقائد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله، لقد كان مقتل الشيخ ياسين منظرًا هيّج نفوسنا وأجج أحاديثنا وقلّب مواجعنا وكشف عوراتنا وأهان رجولتنا ومرغ أنوفنا وأغرقنا بالدموع كالنساء. إن قتل الشيخ ياسين برهانٌ عملي لنسف كل محاولة للسلام الهزيل، ورسالةٌ واضحة أن الصهاينة لا يرضون بوجود آخرَ غير وجودهم ولو كانوا أبناء فلسطين الأصلاء، وهي رسالة للساسة والزعماء أيضًا تخبرهم بأن منهج التصفية وأسلوب الغدر هو سلوك إسرائيل وأخلاق اليهود، وأن اليهود قادمون وسيبحثون عمن يختبئ أو يظهر، وسيعاقبون ـ إن تُركوا ـ الجبناء وأصحاب الشجاعة، ولن يبالوا بمن داهنهم فترة من الزمن، فسكين الجزار لن تتوقف ما دام الجزارُ قادرًا على الذبح والإبادة.
وهنا يرد السؤال وهو: ماذا سيكون ردُّ المجتمعين في مؤتمر القمة العربية القادمة؟! لا سيما وقد انتهى زمن التضليل والتخدير، وما عادت الشعوب الواعية تقتنع بالمسكِّنات وامتصاص الغضب، أو ترضى بمجرد البيانات الختامية أو حتى الخطابات الثورية. إنها تنتظر مشاريع استراتيجية عملية، وتتلهف إلى رفع الهوان ووضوح الهوية وسلامةِ الراية ونزاهة القضية، وإذا سكتت الأمة على هذه الجريمة أو اكتفت بمجرد الشجب والتنديد فالعدو لا يغتال ياسين وحده، بل يغتال الأمة بأسرها، ولن تقف اعتداءاته في فلسطين بل سيجاوزها إلى غيرها، وفي العراق درسٌ وشاهدٌ، وفي المخطط والدهاليز فصول أخرى.
إخوة الإيمان، ولعلّ اللبنة الأولى في مواجهة هذا الصراع مع العدوّ الصهيوني الغاشم هي العودة إلى الذات، إصلاحُ بناء الأمة من الداخل، اعتصامُها بحبل الله وسنة رسوله ، والوقوفُ صفًا واحدًا أمام العدو المتربِّص، والتفطّنُ للعدو من الصديق، في الوقت الذي تواجه فيه الأمة ألوانًا من التحديات، يتولى كبرَها والتخطيطَ لها حكامُ صهيون وأذنابهم وأفراخهم، في حروبٍ معلنة وخفية، حتى بلغوا مبلغًا خطيرًا، أنجبت هذه المخططات نوابتَ في بلاد المسلمين ترفض الشريعة وتعبث بالأخلاق والقيم، سُخِّرت أقلامٌ وأفلام ووسائل إعلام لخدمة هذه المخططات الآثمة، وفي الأمة من لا يزال سادرًا في غيّه وضلاله، يُثبِّط ويُخذِّل، ولا تمثِّل عنده مقدسات الأمة شيئًا، لا تثير فيه عاطفةً إسلامية، يرى الأقصى كأيّ مبنى آخر، في وجه علمانيٍّ كالح، وآخرون في الأمة أشتاتٌ متنافرون، لعبت بهم الفرقة والخلافات والأهواء، واكتوت قلوبهم بالحسد والبغضاء والتباغض والشحناء، وأشغِل كثير منهم بالبدع والمحدثات، ولربما تشاءموا من بعض الشهور والأيام وذوي العاهات والأسقام.
إنها دعوة للأمة إلى أنه لا يستردُّ مجدٌ ولا يُطلب نصرٌ إلا بالسير على خُطى سلف هذه الأمة، فليس يصلُح أمرُ آخر هذه الأمة إلا بما صلَح به أولها، وإن التفريط في الثوابت ودخول النقص على الأفراد والمجتمعات في عقيدتها وقيَمها وأخلاقها وفضائلها سببٌ لحلول الهزائم في الأمم والانتكاسات في الشعوب والمجتمعات، فلن يُحرَّر الأقصى إلا بالقيام بما أمر الله به ووصى، ولن تُسترَدَّ المقدسات إلا برعاية العقيدة والشريعة والمكرمات، في محافظةٍ على سياج الفضائل ومجانبةٍ للشرور والرذائل، في محافظةٍ على قيم أبناء المسلمين وفتياتهم، ومجانبَتهم دسائسَ اليهود ومسالك الشر والفساد والسفور والتبرج والاختلاط.
فلقد علمت الأمة الإسلامية اليوم أن الأرض المقدسة لن تحرر من خلال التسكع في المنتجعات ولا من خلال الجلوس مع العلوج على الطاولات، وإنما الحل هو فعل النبي مع اليهود عندما نقَضوا العهود، نعم الجهاد في سبيل الله، حاصرهم حتى نزلوا عند حكمه من الجلاء أو القتل. إنّ الحل مع اليهود هو قوله : ((لقد جئتكم بالذبح)) كما عند أحمد، وكما في قول الصحابي: (من يبايعني على الموت).
نعم إن الحل مع هؤلاء ليس في السلام والوئام، ونحن نعلم أن الحقّ عندهم لا يؤخذ بالمدمَع ولكن بالمدفع، لا يؤخذ بالسلم ولكن بالحرب، لا يؤخذ بالضعف ولكن بالقوة، ليس السلام هو الحل، ولكن الجهاد هو الحل.
فوا عجبًا كيف أن ذروة السنام قد دَرَسَتْ آثاره فلا ترى، وطُمِست أنواره بين الورى، وأَعتم ليله بعد أن كان مُقمَرًا، وأظلم نهاره بعد أن كان نيّرًا، وذوى غصنه بعد أن كان مورقًا، وانطفأ حسنه بعد أن كان مشرقًا، وقفلت أبوابه فلا تطرق، وأهملت أسبابه فلا ترمق، وصفدت خيوله فلا تركض، ورُبطت أسوده فلا تنهض، وامتدت أيدي الكفرة الأذلاء إلى المسلمين فلا تُقبض، وأغمدت السيوف بعيدًا عن أعداء المسلمين إخلادًا إلى حياة الدعة والأمان، وخرس لسان النفير إليهم، فصاح نفيرهم في أهل الإيمان، ونامت عروس الشهادة إذ عُدمت الخاطبين، وأهمل الناس الجهاد كأنهم ليسوا به مخاطبين، فلا نجد إلا من طوى بساط نشاطه عنه، أو تركه جزعًا من الموت وهلعًا، أو جهلاً بما فيه من الثواب الجزيل، ورضي بالحياة الدنيا من الآخرة، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
وأخيرًا عباد الله، هذا ما يقاسيه المسلمون من مآسٍ وقروح، ولكن الذي يطمئننا أن جولة البغي ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِين وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمرتن:140، 141]، والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يهيِّئ لهم من أمرهم رشدا، إنه جواد كريم.
هذا واعلموا أن الله قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الراشدين، وعن باقي العشرة المبشرين بالجنة، وعن سائر صحابة رسولك، وعن تابعيهم، وعنا معهم برحمتك ومنك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، اللهم عليك باليهود الحاقدين والنصارى المعتدين...
(1/4278)
أهمية اغتنام الإجازة الصيفية
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عامر بن عيسى اللهو
الدمام
17/5/1426
جامع الأندلس
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قدوم الإجازة الصيفية. 2- مشروعية الاستجمام وملاطفة النفس. 3- ضرورة الحرص على الوقت. 4- مفهوم خاطئ للإجازة. 5- الحث على اغتنام الإجازة بالمفيد. 6- التحذير من السفر إلى بلاد الكفر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، تعيش كثير من الأسر هذه الأيام ما يُعرف بالإجازة الصيفية والمقصود بها ما يكون بعد العمل والتعب والدراسة النظامية من هدوء واستجمام وراحة، وهذا الأمر لا غضاضة فيه، فإن النفس البشرية لا تقوى على التكاليف الشرعية إلا إذا أخذت قسطها من الراحة والاستجمام.
قال ابن الجوزي رحمه الله: "فينبغي أن يقطع الطريق بألطف ممكن، وأخذُ الراحة للجد جدّ، وغوص السابح في طلب الدرّ صعود، ومن أراد أن يرى التلطّف بالنفس فلينظر في سيرة الرسول ، فإنه كان يتلطّف بنفسه ويمازح ويخالط النساء ويقبّل ويختار المستحسنات ويختار الماء البارد والأوفق من المطاعم" اهـ.
عباد الله، ولما كانت أيام الإجازة الصيفية من عمُر الإنسان ووقته الذي سيسأل عنه يوم القيامة كما قال : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال)) وذكر منها: ((عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟)) رواه الترمذي والطبراني بسند صحيح كان من الضروري التذكيرُ بأهمية اغتنام هذه الأيام بما يعود على الإنسان بالنفع والفائدة والمتعة المباحة.
إنّ ثمة أناسًا من الناس ارتبطت الإجازة في أذهانهم بتضييع الأوقات والتفريط بالصلوات والسهر بالليل والنوم بالنهار وعبث وفسق، ليس لأحدهم هدف يسعى لتحقيقه، ولا غاية محمودة يخشى فواتها، فهم عالة على الزمان، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني أكره أن أرى أحدكم سبهلَلا، لا في عمل دنيا، ولا في عمل آخرة).
كتب ابن الجوزي رحمه الله رسالة لطيفة إلى ابنه ينصحه فيها وسماها لفتة الكبد في نصيحة الولد، وكان مما جاء فيها: "اعلم ـ يا بُني ـ أن الأيام تُبْسَطُ ساعات، والساعات تبسط أنفاسا، وكل نفس خزانة، فاحذر أن يذهب نفس بغير شيء فترى في القيامة خزانة فارغة فتندم، وانظر كل ساعة من ساعاتك بماذا تذهب، فلا تودّعها إلا إلى أشرف ما يمكن، ولا تهمل نفسك، وعوِّدها أشرف ما يكون من العمل وأحسنه، وابعث إلى صندوق القبر ما يسرك يوم الوصول إليه" اهـ.
إن كون الإنسان في إجازة ـ يا عباد الله ـ ليس معناه أن يفتح باب المعاصي على مصراعيه ويقعد عن العمل الصالح ويفرط في الواجبات، فإن حياة المسلم ليس فيها إجازة بهذا المفهوم.
إن فيما أباح الله من إمتاع النفس والترويح عنها غُنية عمّا حرّم، فاجعل من شعارك دائما أن تسائل نفسك: ماذا عملتُ في وقت فراغي؟ هل كسبتُ علمًا أو مالا أو نفعا لنفسي أو لغيري؟ وانظر هل خضع وقت فراغك لحكم عقلك فكان لك غاية محمودة صَرفت فيها زمنك؟ إن كان كذلك فقد نجحت، وإلا فحاول حتى تنجح.
أخلِق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمِن القرع للأبواب أن يلِجا
فقليل من الزمن يُخصّص كلَّ يوم لشيء معيّن قد يغيِّر عندك مجرى الحياة ويجعلك أقوم مما تتصور وأرقى مما تخيَّل.
إن الأمة تعيش عُشْر ما ينبغي أن تعيش أو أقل من ذلك، سواء في إنتاجها المالي أو ثقافتها العقلية، وباقي حياتها هدر في كسل أو خمول أو لعب أو لا شيء، ولا ينقصها أن تعيش كما ينبغي إلا أن تكتشف طريقة ملء الزمن وخضوعه لحكم الشرع والعقل.
إن الإنسان يستطيع أن يُغيّر موضوعات حبِّه وكرهه كما يشاء، ويستطيع أن يُغيّر ذوقه كما يشاء، فيستطيع أن يُمرّن ذوقه على أشياء لم يكن يتذوّقها من قبل وعلى كراهية أشياء كان يحبّها من قبل، ففي استطاعة أغلب الناس ـ إذا قويت إرادتهم ـ أن يُقسموا أوقات فراغهم إلى ما ينفعهم دينيا وعقليا واجتماعيا ونحو ذلك، فهل فراغك إلا جزء من حياتك؟! وهل حياتك إلا وقتك الذي يمضي بين الميلاد والوفاة؟!
ثم اعلم ـ يا عبد الله ـ أن الأوقات تتفاوت في يمنها وبركتها، فساعة أعظم بركة من ساعة، ويوم أفضل عند الله من يوم، وشهر أكرم من شهر، فليأخذ الإنسان من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن حياته لموته.
بسم الله الرحمن الرحيم، وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إن في المنازل آلافَ الطلاب والطالبات يقضون أشهر الإجازة الصيفية، فما دوركم أيها الآباء والمربون؟!
إن المربي الواعي يستطيع بذكائه أن يحوِّل أيام الإجازة إلى أيام فائدة ومتعة واكتساب مهارات، لكن لا بد من شرط مهمّ في تحقيق ذلك وهو القناعة التامة بأهمية اغتنام الإجازة، فكم من الأفكار والبرامج التي يستطيع بها المربي أن يشغل وقت الأبناء والبنات بما ينفعهم وهم في ذلك مسرورون فرحون، وكم من مهارة وموهبة عند الأولاد تحتاج إلى من يستخرجها ويوجهها التوجيه الصحيح.
إن من أفضل المُتع عند الأبناء أن يشتركوا مع آبائهم وأمهاتهم في تحقيق برنامج معين في جوّ أسري تسوده المحبة والمودة المتبادلة، فلا تحرموا أبناءكم هذه المتعة.
إن بعض الناس يظن أن مفهوم الإجازة لا يكون إلا بالسفر والتنقل، وهذا غير صحيح، فإن السفر وإن كان لونًا من ألوان قضاء الإجازة إلا أنه ليس المفهوم الوحيد لقضائها، ونعني به السفر المحمود أو المباح على أقل الأحوال، أما السفر المحرم الذي يكون لبلاد الكفار لغير حاجة فهذا لا خير فيه، وضرره عند العقلاء أكبر من نفعه، قال : ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح.
فكيف يرضى المسلم أن يعرض نفسه وأهله وأولاده للفتن صباح مساء؟! وهل هذا من الوقاية المأمور بها في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا الآية [التحريم:6]؟!
بل اعلموا ـ يا عباد الله ـ أن على المسلم أن يقي أهله الفتن حتى وإن كان السفر إلى بلاد المسلمين، فلا يجوز حضور المهرجانات الغنائية المشتملة على المنكرات، قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68]، فهذا النهي يشمل كل خائض بالباطل وكل متكلم بمحرم أو فاعل له.
وقانا الله وإياكم شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/4279)
تعظيم الله جل شأنه
الإيمان, التوحيد
الربوبية, الله عز وجل
حمود بن عبد الله إبراهيم
الدمام
16/6/1426
جامع بلاط الشهداء
_________
ملخص الخطبة
_________
1– أهمية تعظيم الله تعالى. 2– فوائد تعظيم الله تعالى. 3– حال الملائكة في تعظيم الله عز وجل. 4– الرسول وتعظيمه لربه سبحانه. 5– كيف عظم السلف ربهم؟ 6- كيف نعظم ربنا؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الإخوة، إن الله قد شرع لنا عبادات متنوعة من أجل أن نعبده ونشكره، وإن من أهم العبادات القلبية التي شرعها الله لنا تعظيمه جل وعلا، فتعظيم الله عبادة يجب تحقيقها والتركيز عليها خصوصا في هذا الزمن الذي ظهرت فيه بعض الأمور المنافية لتعظيم الله والمنافية لتعظيم شعائر دينه عز وجل.
والإيمان بالله تعالى مبني على التعظيم والإجلال له سبحانه وتعالى، حيث جاء في تعريف العبادة أنها تعظيم الله وامتثال أوامره، فتعظيم الله من العبادات التي خلقنا الله لتحقيقها.
والله جل وعلا عظيم قد جاوزت عظمته عز وجلَّ حدود العقول، ومن معاني عظمته تعالى أنه لا يستحق أحد من الخلق أن يعظَّم كما يعظَّم الله، قال الله تعالى: تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [مريم:90] أي: تكاد السموات يتشققن من عظمة الله عز وجل.
أيها المسلمون، لقد ذم الله تعالى من لم يعظمه حق عظمته ولا عرفه حق معرفته ولا وصفه حق صفته، قال تعالى: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا [نوح:13] أي: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته؟!
إن روح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا تخلى أحدهما عن الآخر فسدت العبادة.
أيها الإخوة، إن تعظيم الله يعود على العبد بفوائد كثيرة منها:
1- أن المسلم الذي امتلأَ قلبه بعظمة الله لديه ثقة مطلقة بالله، فتجده هاديَ البالِ ساكنَ النفس مهما ضاقت به السبل.
2- أنّ استشعارَ عظمة الله تملأ القلب رضًا وصبرًا.
3- أنّ معرفتنا بعظمةِ الله تورث القلبَ الشعورَ بمعيّته سبحانه، وتمنحنا الطمأنينة في المحن والبَصيرة في الفتن.
4- أنّ استشعارَ عظمةِ الله ومعيّته تبعَث في النفس معنى الثبات والعزّة, وتقوّي العزائم حتى في أشدّ حالات الضّعف.
أيها الإخوة، لقد قص علينا ربنا جل وعلا في كتابه عن تعظيم الملائكة له جل وعلا ف قال تعالى: وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23] أي: لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء إلا من بعد إذنه له في الشفاعة.
وإن من عظيم قدرة الله عز وجل أنه إذا تكلم سبحانه بالوحي فسمع أهل السموات كلامه أرعدوا من الهيبة, حتى يلحقهم مثل الغشي, فإذا زال الفزع عن قلوبهم سأل بعضهم بعضا: ماذا قال ربكم؟ قالت الملائكة: قال الحق, وهو العلي بذاته وقهره وعلو قدره الكبير على كل شيء.
وقد أورد البخاري في صحيحه عند تفسير هذه الآية الكريمة أن نبي الله قال: ((إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير)).
وأما حال رسولنا في تعظيمه لربه فحاله لا يوصف، فمن ذلك أنه لما قال له رجل: فإنا نستشفع بالله عليك، فقال النبي : ((سبحان الله سبحان الله!)) فما زال يسبّح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ((ويحك، أتدري ما الله؟! إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه)).
ومن أروع الأمثلة التي دوّنها التاريخ عن سلفنا الصالح وتعظيمهم لله عزّ وجلّ ما وقع للإمام مالك رحمه الله تعالى لما سأله أحدهم عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] فقال: كيف استوى؟ فما كان موقف الإمام مالك إزاء هذا السؤال إلا أن غضب غضبا شديدا لم يغضب مثله قط، وعلاه العرق، وأطرق القوم إلى أن ذهب عن الإمام مالك ما يجد، فقال: "الكيف غير معلوم، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني لأخاف أن تكون ضالاً"، ثم أُمر به فأُخرج.
فتأمّل ـ رحمك الله ـ ما أصاب الإمام مالك رحمه الله من شدة الغضب وتصبّب العرق إجلالاً وتعظيمًا لله تعالى وإنكارًا لهذا السؤال عن كيفية استواء الربّ تعالى.
ومن الأمثلة في هذا الباب ما جرى للإمام أحمد رحمه الله تعالى لما مر مع ابنه عبد الله على رجل يحدث الناس بغير علم ويذكر حديث النزول فيقول: إذا كان ليلة النصف من شعبان ينزل الله عزّ وجلّ إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، وهذا كذب على الله، يقول عبد الله: فارتعد أبي، واصفر لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: "قف بنا على هذا الكذاب"، فلما حاذاه قال: "يا هذا، رسول الله أغيَر على ربّه عزّ وجلّ منك، قل كما قال رسول الله".
أيها المسلمون، يجب علينا أن نعظم الله حق التعظيم لأننا جميعا عبيده، فهو يستحق التعظيم جل وعلا، وإن مما يعيننا على تعظيم الله أمورا كثيرة منها:
1- التفكر في آياته المشاهدة التي نراها صباحا ومساء، فمنها خلق السماوات والأرض؛ فإن الناظر في السماء ليدهش من بديع صنعها وعظيم خلقها واتساعها وحس نها وكمالها وارتفاعها وقوتها، كل ذلك دليل على تمام عظمته تعالى، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا [النازعات:27، 28]، وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [الذاريات:47]، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6].
ومن نظر إلى الأرض كيف مهدها الله وسخرها لنا وجعل فيها جبالا رواسي شامخات مختلفة الألوان، وكيف جعل الله تعالى الأرض قرارا للخلق لا تضطرب بهم ولا تزلزل بهم إلا بإذن الله، من تأمل ذلك استشعر عظمة الله جل وعلا، وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ [الذاريات:20].
ومن آيات عظمته عز وجل ما بث الله تعالى في السموات والأرض من دابة، ففي السماء ملائكته، لا يحصيهم إلا الله تعالى، ما من موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك قائم لله تعالى أو راكع أو ساجد، يطوف منهم كل يوم بالبيت المعمور في السماء السابعة سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
وفي الأرض من أجناس الدواب وأنواعها ما لا يحصى أجناسه، فضلا عن أنواعه وأفراده، هذه الدواب مختلفة الأجناس والأشكال والأحوال فمنها النافع الذي به يعرف الناس عظم نعمة الله عليهم، ومنها الضار الذي يعرف الإنسان به قدر نفسه وضعفه أمام خلق الله، فكيف حاله مع خالقه عز وجل؟!
ومن آيات عظمته تعالى الليل والنهار، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص:71-73].
ومن آيات عظمة الله تعالى الشمس والقمر، حيث يجريان في فلكهما منذ خلقهما الله تعالى حتى يأذن بخراب العالم، يجريان بسير منتظم، لا تغيير فيه ولا انحراف ولا فساد ولا اختلاف، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:38-40].
ومن آياته تعالى الدالة على عظمته هذه الكواكب والنجوم العظيمة التي لا يحصيها كثرة ولا يعلمها عظمة إلا الله تعالى، تسير بأمر الله تعالى وتدبيره، زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها، فالكون كله من آيات عظمة الله، هو الذي خلقه، وهو المدبر له وحده، لا يدبر الكون أحد غير الله.
فيا عجبا كيف يعصى الإله أم كيف يَجحده الجاحد
وفِي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
أيها الإخوة، إذا علمنا عن عظم بعض مخلوقات الله استصغرنا أنفسنا، وعلمنا حقارتها وضعفها أمام عظم قدرة خالقها جل وعلا، وإن ما غاب عنا من مشاهد قدرة الله عز وجل أعظم وأعظم بكثير مما نشاهده، فمن أعظم المخلوقات كلها العرش، قال رسول الله في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود: ((أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش، ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام تخفق الطير)) أي: يحتاج الطائر المسرع إلى سبعمائة عام كي يقطع هذه المسافة، وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: ((ما السموات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة)).
يا من يرى مد البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليَل
ويرى نياط عروقها فِي نَحرها والمخ في تلك العظام النحَّل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه في الزّمان الأوّل
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرا طيبا مباركا كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من الأمور المعينة على تعظيم الله:
2- تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى؛ فالعبد كلما تقرب إلى ربه بأنواع العبادات وأصناف القرُبات عظُم في قلبه أمر الله؛ فتراه مسارعًا لفعل الطاعات مبتعدًا عن المعاصي والسيئات.
3– ومن الأمور كذلك التدبر الدقيق للقرآن الكريم، والنظر في الآيات التي تتحدث عن خلق الله وبديع صنعه، والآيات التي تتحدث عن عقوبته وشديد بطشه، وآيات الوعد والوعيد، فإن تدبر القرآن يؤثر في القلب ولا شك، ويجعله يستشعر عظمة الخالق والخوف منه، فمن قرأ كتاب الله وتأمل فيه يجد فيه صفات الرب سبحانه، ملك له الملك كله، والأمور كلها بيده، مستوي على عرشه، لا تخفى عليه خافية، عالم بما في نفوس عبيده، مطلع على أسرارهم وعلانيتهم، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه.
4– مما يعيينا على تعظيم الله النظر في حال السابقين؛ فلقد عاش على هذه الأرض أقوام وشعوب أعطاهم الله بسطة في الجسم وقوة في البدن لم يعطها أمة من الأمم، ولكنها كفرت بالله وكذبت بالرسل، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ودمرهم تدميرًا.
5- ومن ذلك الدعاء، وهو أنفع الأدوية وأقوى الأسباب متى ما حضر القلب وصدقت النية؛ فإن الله لا يخيب من رجاه.
6– ومما يعين كذلك التعرف على الله من خلال صفاته جل وعلا، فإنه موصوف بكل صفة كمال، فله العلم المحيط والقدرة النافذة والكبرياء والعظمة، فعلى قدر معرفة العبد لربه يكون تعظيم الله عز وجل في قلب العبد، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالاً.
7– وكذلك مما يوجب التعظيم التعرف على نعم الله وآلائه وشكرها، فإنك ـ أخي المسلم ـ إذا تفكرت في نعم الله عليك أن هداك للإسلام وأعطاك سمعا وبصرا وعقلا ومالا وصحة وعافية وغنى ومسكنا وأولادا وأمنا وأمانا وأن سلمك من الشرور والمحن فإنك إذا رجعت إلى نفسك وتأملت وتفكرت في تلك النعم فإنك ستعظم الله حق التعظيم وتجله جل وعلا.
أيها المسلمون، الله وحده يستحق منا التعظيم والإجلال، وإن من تعظيمه جل وعلا أن يتَّقى حق تقاته، فيطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
فليتك تَحلو والْحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضَاب
وليت الذي بينِي وبينك عامر وبيني وبين العالَمين خرَاب
إذا صح منك الود يا غاية المنى فكل الذي فوق التراب تراب
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم إنا نسألك تعظيمك والخوف منك، وأن تمن علينا بتوبة صادقة تعيننا على طاعتك واجتناب معصيتك...
(1/4280)
مدرسة الصحابة
الإيمان
خصال الإيمان
علي بن عبد الرحمن العويشز
الدمام
2/4/1425
أبو بكر الصديق (شركة أرامكو)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الصحابة لرسول الله. 2- أسباب محبة النبي. 3- صدق الصحابة رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أحدثكم في هذه الخطبة عن مدرسة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، إنها ـ عباد الله ـ مدرسةٌ كان معلمها سيّد ولد آدم محمد بن عبد الله ، وتلاميذها صحابته الكرام رضوان الله عليهم، مدرسة في الإيمان، مدرسة في الفضائل، مدرسة في الأعمال.
عبد الله، إنّ هذه المدرسة العظيمة تعلمنا أول ما تعلمنا محبّة هذا النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه، كيف لا وأنت تقرأ ما يقوله عروة بن مسعود الثقفي حال كفره عندما رجع إلى قومه وقد انبهر بما رأى من تعظيم النبي وإجلاله؟! يقول: (أي قوم، واللهِ لقدْ وفَدْتُ على الملوكِ، وَوَفَدْتُ على قيصرَ وكسرى والنجاشيِ، والله إِنْ رأيتُ ملكًا قطُ يُعَظمُهُ أصحابُه ما يُعظمُ أصحاب محمدٍ محمدًا، واللهِ إِنْ تَنَخّمَ نخامةً إِلا وَقَعَتْ في كفِ رجلٍ منْهمْ فَدَلك بها وجهَه وجلدَه، وإذا أمرَهمْ ابتدروا أمره، وإذا توضأَ كادوا يقتتلونَ على وضوئه، وإذا تكلمَ خفضوا أصواتهَم عنده، وما يحدون إليه النظرَ تعظيمًا له) رواه البخاري.
ويقول عمرو بن العاص: (وما كان أحدٌ أحبَ إليَّ منْ رسولِ اللهِ ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنتُ أُطيقُ أَنْ أَملأَ عيني منه إِجلالاً لهُ، ولو سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ ما أَطَقْتُ؛ لأني لم أَكُنْ أَملأُ عيني منه) رواه مسلم.
حتى صغار الصحابة رضي الله عنهم كانت محبتهم لرسول الله عظيمة، يقول عبد الرحمن بن عوف: بينا أنا واقف في الصفّ يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار، حديثة أسنانهما، فتمنيتُ أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدُهما فقال: يا عمّ، هل تعرفُ أبا جهل؟ قلت: نعم، وما حاجتُك إليه يا ابن أخي؟! قال: أُخبرتُ أنّه يَسُبُ رسولَ الله ، والذي نفسي بيده لئنْ رأيتُه لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منّا، فتعجبتُ لذلك، فغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أَنشَبْ أنْ نظرتُ إلى أبي جهل يجول في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله فأخبراه، فقال: ((أيكما قتله؟)) قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: ((كلاكما قتله)) رواه البخاري.
وعندما توفي النبي ماذا كان حالهم؟ يقول الواصف لهم: كانوا كقطيعٍ في ليلة شاتية مطيرة. مع أنهم من بينهم دهاة العرب رضي الله عنهم أجمعين، وما ذاك إلا لحبهم لرسول الله.
وإذا أردت أن تحب نبيك ـ أخي المسلم ـ فاقرأ سيرته وتعلمها وعلمها أبناءك وبناتك، فإنك ـ عبد الله ـ إذا قرأت في سيرته أحببته ولا بد، كيف لا والله جل جلاله يقول: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
ومن الأسباب الموصلة لحبه أن تعلم أن النبيّ كان يتمنى أن يراك، نعم أن يراك أنت، أنت يا من تؤمن به ولم تره، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((وددت أنا قد رأينا إخواننا)) ، قالوا: أوَلسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: ((أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد)) ، وفي بعض الروايات: ((يؤمنون بي ولم يروني)) روا مسلم.
وأن تعلم أن النبي كان يخاف عليك ويحزن لأجلك، عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي النبي : ((اقرأ عليّ)) ، قلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((نعم)) ، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] قال: ((حسبك الآن)) ، فالتفتّ إليه فإذا عيناه تذرفان. رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم بالقرآن، ونفعنا بما فيه من البيان...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: ومن الأمور التي نتعلمها من الصحابة الكرام الصدق مع الله، لا كذب، ولا إخلاف موعد مع الله، عن شداد بن الهاد أن رجلاً من الأعراب جاء النبي فآمن به واتبعه، فقال: أُهاجر معك، فأوصى به النبي بعض أصحابه، فلما كانت غزوة خيبر غنم رسول الله شيئا، فقسم وقسم له، فأعطى أصحابه ما قسم له، وكان يرعى ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟ قال: قسم قسمه لك، فأخذه فجاء به النبي فقال: ما هذا يا محمد؟ قال: ((قسم قسمته لك)) ، قال: ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى ها هنا ـ وأشار إلى حلقه ـ بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: ((إن تصدق الله يصدقك)) ، ثم نهضوا إلى قتال العدو، فأتي به النبي يحمل وقد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي : ((هو هو؟)) قالوا: نعم، قال : ((صدق الله فصدقه)) ، فكفنه النبي في جبته، ثم قدمه وصلى عليه، فكان مما ظهر من صلاة النبي : ((اللهم هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك قتل شهيدا أنا عليه شهيد)).
إذًا عباد الله، القضية قضية صدق مع الله، كم من الأيام قضاها هذا الصحابي حتى يحصل له ما حصل؟! وما قصة سعد بن معاذ عنا ببعيد.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
اللهم صل على محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصل على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وصل على محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين وسائر أعداء الدين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان...
(1/4281)
موالاة المشركين ومشاركة العلمانيين
الإيمان
الولاء والبراء
مهران ماهر عثمان نوري
الخرطوم
2/6/1426
خالد بن الوليد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الولاء والبراء. 2- أهمية هذه العقيدة. 3- البراء من المشركين هدي النبيِّين. 4- تحريم موالاة الكفار والمشركين. 5- الناس في ميزان الولاء والبراء. 6- تحريم التعاون مع الأحزاب العلمانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28].
هذه الآية تنهى المؤمنين عن موالاة الكافرين، والمؤمن مطالب في نصوص كثيرة بموالاة المؤمن ومعاداة الكافر، وهذا ما يُعرف بعقيدة الولاء والبراء.
فالولاء والوِلاية والوَلاية: النصرة، والموالاة ضد المعاداة. والبراء: التنزه والتخلص والعداوة والبعد. وعلاقة الولاء والمحبة والبراء والبغضاء علاقة ملازمة، فالولاء لازم المحبة، والبراء لازم البغض.
هذه العقيدة من الأهمية بمكانٍ في ديننا الحنيف، ومما يدلل على ذلك:
1- أنَّ الإيمان لا يتحقق إلا بها، قال تعالى: وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ [المائدة:81]، قال شيخ الإسلام: "وهذه جملة شرطية إذا وُجد الشرط وُجد المشروط... ولا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء، فمن اتخذهم أولياء ما فعل الإيمان الواجب" [1].
2- تحقيقها أوثق عُرى الإيمان، سأل النبي أبا ذر: ((أتدري أي عرى الإيمان أوثق؟)) قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله عز وجل)) رواه الطبراني وصححه الألباني، وقال : ((مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ)) رواه أبو داود والترمذي وصححه الألباني. إذًا فدين الإسلام دين حب وبغض، دين ولاء وعداء، دين رحمة وسيف.
3- يجد الإنسان إذا حققها حلاوة الإيمان، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ قَالَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)) أخرجاه في الصحيحين. فالحب والبغض من المعاني التي تجري على كل أحد، لكنَّ الموفَّق من أخضعها للشَّرع؛ فلا يحب إلا لله، ولا يبغض إلا لله، وما يُلقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم.
4- وبايع النبي جرير بن عبد الله فقال له: ((أُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَتُقِيمَ الصَّلاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ وَتُنَاصِحَ الْمُسْلِمِينَ وَتُفَارِقَ الْمُشْرِكِينَ)) رواه أحمد والنسائي.
معاشر المؤمنين، لقد أعلمنا القرآن الكريم أن التبرؤ من الكافرين دأب الأنبياء عليهم الصلاة والتسليم، ونحن مأمورون بالسير على طريقهم.
فهذا أبو الأنبياء خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى عنه: قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:75-77]، وقال: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28]. ومع شدة بره بأبيه الذي يلمسه كل من قرأ سورة مريم أظهر التبرؤ منه لما وضح له أنه من أعداء رب العالمين ومات على ملة المشركين، وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]، وتبين له ذلك لما مات على الكفر.
وهذا هود عليه السلام قال الله تعالى عنه: قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:54-56]. وقد جمع بين إظهار هذه العقيدة وبين القوة والحزم في ذلك، وقد ذُكر لنا سرُّ قوته هذه في قوله: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم [هود:56]، فصدق التوكل على الله سبب حفظه ورعايته، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
وقد سلك نبينا طريقهم واهتدى بهديهم كما أمره الله في قوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90]. فقد أظهر هذا البراء من المشركين ولم يداهنهم، قال تعالى: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:19]. وأعلن للمشركين براءته الصريحة التي لا لَبْسَ يكتنفها من دينهم وطريقهم بأفصح عبارة وأدل لفظ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون].
ومما يدل على اعتنائه بترسيخ هذه العقيدة في نفوس أصحابه أنهم ضربوا في تطبيقها أروع الأمثلة في غزوة بدر، وغزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، فهذا دليل على أن إرساء عقيدة الموالاة والمعاداة في نفوسهم كان من أولويات دعوته، قال تعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]. آبَاءهُمْ نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح قتل أباه يوم بدر وكان على الإشراك، أَبْنَاءهُمْ نزلت في الصدِّيق همَّ بقتل ابنه يوم بدر ولم يُقدَّر له ذلك، إِخْوَانَهُمْ نزلت في مصعب بن عمير قتل أخاه عُبيد بن عمير فيها، عَشِيرَتَهُمْ نزلت في حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة، وفي عمر بن الخطاب قتل خاله يوم بدر.
ولما قبل النبي الفداء من المشركين يوم بدر كان رأي عمر بن الخطاب أن يُمكن كل أحد من قريبه فيضرب عنقه؛ ليعلم الكفار أنه لا محبة عند المؤمنين لهم، نزل القرآن الكريم مؤيدًا لرأي عمر : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:67، 68]، والكتاب الذي سبق: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً [محمد:4].
عباد الله، إن نصوص عقيدة الولاء والبراء طافحة في القرآن الكريم، وهذا مما يدل على أهميتها في ديننا الحنيف، وهذه جملة من النصوص تنهى عن موالاة الكافرين، وتتوعد من ألمَّ بشيء من ذلك من المسلمين: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:1، 2].
إن فئامًا من الناس يريدون أن يجعلوا قول الله تعالى: إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28] سترًا يواري خبث فعالهم وسوء صنيعهم، فتراهم يسارعون في الكافرين بكل سبيل، فإذا ما اتجه إليهم صوتُ لومٍ ونصحٍ قالوا: ألم يقل الله: إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ؟! فيضربون القرآن بعضه ببعض، وإلى هؤلاء: لماذا لم يعذر الله سبحانه حاطب بن أبي بلتعة لما ظاهر المشركين وأعانهم؟! أما كان حاطب متأوِّلاً؟! ألم يرد حماية أهله وماله؟! أوليس الذي عاتبه وطرح عذره هو الذي قال: إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ؟!
أيها المؤمنون، لئلا يغتر أحد بمقالتهم هذه أُفسح المجال لشيخ المفسرين وإمامهم أبي جعفر الطبري ليجلي لنا تفسيرها ويوضح معانيها، يقول الإمام الطبري مفسرًا قوله تعالى: إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً : "إلا أن تكونوا في سلطانهم، فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل" [2]. أين هذا من السعي لتأصيل مبدأ الأخوة بين المؤمن والكافر؟! أين هذا من السخرية بمن يدعو لإقامة عقيدة الولاء والبراء؟! أين هذا من التلاعب بقول الله تعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]؟!
ولو كان كل خوف من المشركين عذرًا لموالاتهم وإظهار التقية لأبطلنا كثيرًا من النصوص؛ لأن عداءهم وكيدهم وحربهم للإسلام وأهله مستمر لا ينقطع، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217].
إن موالاة أعداء الله بأعذار واهية وليّ أعناق النصوص سمة من أبرز سمات المنافقين، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ [المائدة:52].
ومن النصوص التي تزجر عن موالاة الكافرين والمشركين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا [النساء:144]، والسلطان الحجة، فإذا فعلتم ذلك استوجبتم غضب الله.
ومنها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:23، 24]. فإذا كان هذا فيمن والى أباه أو أخاه ومقتضى ذلك مركوز في النفوس فكيف بغيرهم؟!
ومن التحذيرات القرآنية كذلك: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139].
وفي القرآن عدد من الآيات التي تدل على أن موالاة المشركين من علامات المنافقين ومنها: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28]، فأي وعيد فوق هذا الوعيد؟!
ولعلَّي أتحدث عن الفرق بين الموالاة والتولّي في الجمعة القادمة إن شاء الله.
أيها المؤمنون، إن الناس في باب الولاء والبراء منقسمون إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الكُمَّل من المؤمنين، كالأنبياء والصديقين والشهداء والأولياء الصالحين، فهؤلاء يواليهم المؤمن ولاء مطلقًا، ويتقرب إلى الله تعالى بحبِّهم.
الثاني: أهل الكفر والإشراك، ومنهم أهل النفاق والكتاب وهؤلاء يُبغضون بإطلاق، ولا يُكِنُّ لهم المسلم إلا العداوة والبغضاء، فالمؤمن ذليل للمؤمن محبّ له، عزيز على الكافر مبغض له، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]، وقال: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
الثالث: أهل المعاصي من المؤمنين، وهؤلاء نحبهم لإيمانهم، ونبغضهم بقدر معصيتهم، فالزاني مبغوض، والمشرك مبغوض، وفرق بين البغضَين، وشارب الخمر يُبغض، وبذيء اللسان يُبغض، وفرق بين البغضين.
ولذا ثبت أن النبي تبرأ من بعض المؤمنين من أهل المعاصي، فقد تبرأ من الصالقة التي ترفع صوتها بالبكاء عند المصيبة، والحالقة التي تحلق رأسها عندها، والشاقة التي تشق ثيابها عندها، ولكن ليست هذه البراءة كبراءته الواردة في قول الله تعالى: وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].
ولما أمر الله بقتال الفئة الباغية ـ وهذا من معاني ومظاهر البراء من المعصية وأهلها ـ بقوله: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:9، 10]، فأمر بقتالهم وأثبت أخوتهم وإيمانهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليعلم أنَّ المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه والبغض لأعدائه، والإكرام لأوليائه والإهانة لأعدائه، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه، وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا؛ كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته. هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة وخالفهم الخوارج والمعتزلة" [3].
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
[1] كتاب الإيمان (ص14).
[2] جامع البيان (3/228).
[3] مجموع الفتاوى (28/209).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإن من أقبح الآثام أن يضع المؤمن يده على يد الأحزاب العلمانية والحركات اليسارية، وقد دلت كثير من آي القرآن الكريم على تحريم ذلك وتجريم أهله، فمن ذلك قوله تعالى: وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]. وكل من وقف على دعوات هؤلاء ومبادئهم لا يشك في أن التعاون معهم تعاون على الإثم والعدوان.
ومن أدلة التحريم جميع الأدلة التي تنادي بعقيدة البراء من الكفر وأهله، ومنها: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، فالآية تحرم الجلوس في المكان الذي يُكفر فيه بآيات الله ويستهزأ بها، وإذا لم تكن مجالس الأحزاب العلمانية مُتناوَلة بهذه الآية فأي المجالس هي التي حُذرنا منها؟! والآية المُشار إليها في هذه الآية هي: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68].
وقد توعد رسول الله كل من ظاهر مبطلاً بقوله: ((من أعان ظالمًا ليدحض بباطله حقًا فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله)) رواه الحاكم والطبراني وصححه الألباني. وممن لعنهم النبي من آوى محدثًا كما في صحيح مسلم، فكيف بمن عاونه؟!
هذا، ولا يُغتر بطرحهم لبعض البرامج التثقيفية أو الإنسانية الخيرية أو غير ذلك مما يصدق عليه: باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب؛ لأنهم يريدون بها التدليس والتلبيس على الناس.
نسأل الله أن يبرم لنا أمرًا رشدًا يُعز فيه الطائعون...
(1/4282)
وسائل الثبات على الدين
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
محمد بن عبد العزيز الشمالي
الرياض
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار الفتن في آخر الزمان. 2- خوف السلف الصالح على قلوبهم. 3- عوامل الثبات: الإقبال على القرآن، الالتزام بشرع الله، تدبر قصص الأنبياء، التربية المتينة، الإخلاص والمتابعة، الجليس الصالح، البصيرة وفهم الواقع، التفاؤل بنصر الإسلام، لزوم الاستغفار. 4- أهمية الالتجاء إلى لله تعالى. 5- كلكم راع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق التقوى كما أمركم الله بذلك فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أما بعد: فقد أخبر المصطفى بأنه ستكون في آخر الزمان فتن كما روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل)) رواه الحاكم (4/485), وفي زمن تكثر فيه الشهوات والشبهات التي تصرف المرء عن دينه يقول الرسول : ((يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر)) رواه الترمذي (4/526)، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: ((إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبهما كيف يشاء)) ، ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم: ((لقلب ابن آدم أشد تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا)) ، وقال أيضا: ((إنما مثل القلب مثل ريشة بفلاة ـ أي: بالصحراء ـ تعقلت في أصل شجرة يقلبها الريح ظهرًا لبطن)).
ويقول الشاعر:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب
وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من هذا الدعاء: ((اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك)).
ونهج منهجه الصحابة الكرام والأئمة الأعلام من سلف هذه الأمة، فقد كانوا أشدَّ الناس خوفًا على قلوبهم مع حرصهم وكثرة طاعتهم لله سبحانه وتعالى؛ لهذا كله ولأننا نعيش هذه الأيام في فتن تلاطمت وشُبَه انتشرت وأنواع من الردّة خرجت حتى أصبح المرء يخشى على نفسه عدم الثبات والخوف من أن ينكص على عقبيه كفرًا والعياذ بالله أو عصيانا أو بعدًا أو جفاءً عن طاعة الله فازدادت الحاجة إلى معرفة عوامل الثبات على دين الله، لأننا جمعنا بين تقصير في طاعة الله وأمن من عقابه وبين مجتمعات انتشر فيها الباطل على أرقى المستويات، أما سلفنا الصالح فإنهم كانوا يجمعون بين طاعة الله ومجتمع صالح يعينهم على ذكر الله، ومع ذلك فقد كانوا يخافون على أنفسهم من الزيغ وعدم الثبات، فهل تبصر المسلمون اليوم بعوامل الثبات على دين الله وأنهم أشد حاجة إلى معرفتها والعمل بها والدعوة إليها؟!
إخوة الإسلام، إن من رحمة الله عز وجل بنا أن بين لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرة نبيه وسائل كثيرة للثبات لعلنا نتناول بعضًا منها، فمن هذه العوامل:
أولاً: الإقبال على كتاب الله، كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً [الفرقان:32]، لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفوس، ولأنه يزوّد المسلم بالتصوّرات الصحيحة لواقعهم، فيردّ على الشبهات ويفضح المخططات. والإقبال على القرآن يكون بتلاوته وحفظه ومعرفة تفسيره والعمل به، فداوم على تلاوته، ولا تقطع صلتك به، ولا تعرض عنه.
ثانيًا: الالتزام بشرع الله والإكثار من الأعمال الصالحة والسنن الرواتب والنوافل المطلقة، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17]، يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة [إبراهيم:27].
وهذا والله واضح ومرئي رأي العين، وإلا فهل نتوقع ثباتًا من الكسالى القاعدين والعصاة المنافقين إذا أطلقت الفتنه رأسها وادلهم الخطب؟! فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [الصف:5].
ثالثًا: ومن عوامل الثبات على دين الله والاستمرار عليه تدبر قصص الأنبياء ودراستها والتأسي بها، وَكُلاً نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:12]، فكم نالهم عليهم الصلاة والسلام من الأذى والعذاب والفتن من أقوامهم.
رابعا: ومن ذلك أيضا التربية الصحيحة للنفس، تربية إيمانية علمية واعية قائمة على الدليل الصحيح، منافية للتقليد، ولكي ندرك أهمية هذا الأمر لنعُد على سيرة رسول الله ، ولنسأل أنفسنا: ما مصدر ثبات صحابته رضوان الله عليهم؟ كيف ثبت بلال وخبيب ومصعب وآل ياسر وغيرهم من المستضعفين وحتى كبار الصحابة في حصار الشعب ذلك العقاب الجماعي أو تحت التعذيب الفردي؟ هل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة صقلت شخصياتهم؟! فهذا خباب بن الأرت كانت مولاته تحمي أسياخ الحديد حتى تحمر ثم تطرحه عليها عاري الظهر، فلا يطفئها إلا شحم ظهره حين يسيل عليها، ما الذي جعله يصبر على هذا كله؟! وبلال تحت الصخرة في الرمضاء، وسمية في الأغلال والسلاسل، فهل يتبصر المسلمون مثل هذه الثلة المشرفة والأنوار المضيئة؟!
خامسًا: من عوامل الثبات أيضا الحرص على أن يسلك المسلم في هذه الحياة الطريق المستقيم خالصًا لله ومتبعًا هدي رسول الله بهمة عالية تربي فيها نفسك كما تربي النبته الصغيرة.
والنفس كالطفل إن تتركه شبّ على حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطم
سائرًا إلى الله بقصد وتأني، فقليل دائم خير من كثير منقطع، ومع ذلك تقف مع نفسك محاسبًا ولتقصيرها معاتبًا ولإقبالها مشجعًا.
سادسًا: الالتفاف حول من يعينك على الثبات والإقبال على طاعة الله من جليس صالح وجماعة معينة ومنهج مثبّت على الطريق، فإن من الناس أناسا مفاتيح للخير مغاليق للشر، فابحثوا عن العلماء والصالحين والدعاة المؤمنين الذين هم كالنجوم في الليلة الظلماء، بهم يهتدي الضالون، فإخوانكم الصالحون هم العون لكم في الطريق والركن الشديد الذي تأوون إليه، فيثبتونكم بما معهم من آيات الله والحكمة، فألَفوهم وعيشوا في كنفهم، وإياكم والوحدة فتتخطفكم شياطين الإنس والجن.
سابعًا: البصيرة وفهم الواقع وعرض كل صغير وكبير على شرع الله، وأن تعرف الباطل وأن لا تغتر به، لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197].
فوالله، إن الباطل وأهله ضعفاء جبناء، أصول مخططاتهم أوهى من بيت العنكبوت، ويتبين ذلك كله لمن رزقه الله بصيرة واعية وحكمة نافذة وعلمًا نافعًا، ومع ذلك كله يجب أن نثق بنصر الله للمؤمنين، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم:76]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ [غافر:51].
وكذلك العلم بأن المستقبل للإسلام والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، وهذا هو العامل الثامن من عوامل الثبات على دين الله.
تاسعًا: تقوى الله ولزوم الاستغفار؛ فإنهما خير معين على الثبات، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
وأخيرًا إخوة الإسلام، إن كل تلك الوسائل فقيرة ومحتاجة إلى الالتجاء إلى الله، فعليكم بالإكثار من الدعاء في كل حين ووقت بأن يثبتكم الله على دينه أن لا يفتنكم، فقد كان عليه الصلاة والسلام يكثر من قول: ((اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على دينك)).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأصلي وأسلم على خير خلقه أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أخي المسلم، وصيتي إليك أن تحفظ نفسك، وأن تحفظ من ولاك الله عليهم من أزواج وذرية، وأن تنجو بهم من هذا البحر المتلاطم من فتن الشهوات ومن فتن الشبهات مما نراه في واقعنا من تساهل كثير من أولياء الأمور بإحضار ما فيه فتن إلى بيوتهم من دشوش وغيرها مما يأجج فتن الشهوات ومما يزعزع ركائز الإيمان من فتن الشبهات، وإنه لنذير شؤم وعلامة خطر على مجتمعنا المسلم الذي وجّه الشرق والغرب الكافر على طمس هويته، فاحذروا ـ أحبتي في الله ـ ذلك، وتذكروا قول النبي : ((ما من راع يسترعيه الله رعيه يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)).
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب، اللهم احفظنا بالإسلام واحفظ ذرارينا واحفظ مجتمعاتنا من كل كائد ومن كل مفسد، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير الخلق أجمعين كما أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على خير خلقك أجمعين محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسمين، وأذل الشرك والمشركين...
(1/4283)
فضل التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
28/7/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عز العبد وصغاره. 2- التوبة من أعظم أنواع العبادة. 3- وجوب التوبة. 4- معنى التوبة. 5- شروط التوبة. 6- دعوة الله تعالى عباده إلى التوبة. 7- من حكم محبة الله تعالى للتوبة. 8- وقت التوبة. 9- التوبة من صفات الأنبياء والصالحين. 10- التحذير من الغرور والأمل والأماني الكاذبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله أيّهَا المسلِمون، فإنَّ تقواه فَوزٌ وفلاحٌ وسَعادة ونجَاح.
واعلَموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ عزَّ العَبدِ في كَمالِ الذّلِّ والمحبّة للرّبِّ جلّ وعلا، وأنَّ هَوان العبد وصَغارَه في الاستكبارِ والتَّمرّدِ على الله والخروجِ علَى أمرِه ونهيِه، بمحبَّةِ ما يَكرهُه الله وبُغضِ ما يحبّه الله تعالى، قال الله عز وجلّ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر:10]، وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
والعِبادَة بجمِيعِ شُعَبها وأنواعِها هي التي يتحَقَّق بها الذّلُّ والخضوع والمحبَّة لله تعالى.
ومِن أَعظمِ أنواعِ العِبادةِ التوبةُ إلى الله عز وجلّ، بل إنَّ التوبةَ العظمَى هِي أفضلُ العِبادةِ وأوجبُها، وهي التوبةُ من الكفرِ والنّفَاق، قال الله تَعالى عن هودٍ عليه الصلاة والسلام: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52]، وقالَ تعالى دَاعيًا المنافقين إلى التّوبةِ: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [التوبة:74].
والتّوبةُ واجِبةٌ علَى المكلَّفين جميعًا من كلِّ ذَنبٍ صَغير أو كبير، قال الله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقالَ عز وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8].
ومَعنى التّوبةِ الرّجوعُ إلى اللهِ بتَركِ الذّنب الكبير أو الصَّغير، والتوبةُ إلى الله مما يَعلَم منَ الذنوب ومما لا يَعلَم، والتّوبةُ إلى الله منَ التّقصير في شكرِ نِعَم الله على العَبد، والتوبةُ إلى الله ممَّا يتخلَّل حياةَ المسلِم من الغَفلَةِ عن ذكرِ الله تعالى، عن الأغرِّ المزني رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((يا أيّها النّاس، توبوا إلى الله واستَغفِروه، فإنّي أتوب في اليومِ مائةَ مرّة)) رواه مسلم [1].
قال أهل العلم: "للتَّوبةِ النَّصوحِ ثلاثةُ شروط إن كانت بين العبدِ وربِّه، أحدُها أن يقلِعَ عن المعصيةِ، والثّاني أن يندَمَ على فِعلِها، والثالث أن يعزِمَ أن لا يعودَ إليها أبَدًا، وإن كانت المعصيَةُ تتعلَّق بحَقِّ آدميٍّ فلا بدَّ أن يردَّ المالَ ونحوَه ويستحلّه من الغِيبةِ، وإذا عفَا الآدميّ عن حقِّه فأجرُه على الله عز وجلّ".
واللهُ قد رغَّب في التوبةِ، وحثَّ عليها، ووعَد بقَبولها بِشروطِها، قال الله تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وأخبَر النبيّ بأنَّ جمِيعَ ساعاتِ اللّيل والنّهارِ وقتٌ لتَوبةِ التائبين وزمَنٌ لِرجوع الأوّابين، عن أبي موسَى الأشعريّ رضي الله عنه عن النّبيِّ قال: ((إنَّ اللهَ تعالى يَبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مُسيءُ النهار ويَبسُط يدَه بالنّهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلعَ الشّمس مِن مغرِبها)) رواه مسلم [2].
مَا أعظمَ كَرمَ الرّحمنِ، وما أجَلَّ فَضلَه وجودَه على العِبادِ، هؤلاءِ خَلقُه يعصونَ باللّيل والنّهار، ويحلمُ عليهم، ولا يعاجِلهم بالعقوبة، بل يرزُقهم ويعَافِيهم، ويغدِق عليهم النّعَم المتظاهِرَة، ويدعوهم إلى التّوبَة والنّدَم على ما فرَط منهم، ويعِدُهم المغفِرةَ والثّواب على ذلك، ويفرَح بتوبةِ العبدِ إذا تاب أشدَّ الفرح، فإن استجاب العبدُ لربِّه وتابَ وأناب وجَدَ وعدَ الله حَقًّا، ففازَ بالحياةِ الطيّبَة في الدّنيا وحسنِ الثوابِ في الآخرة، وإن ضيَّع التوبةَ زمنَ الإمهال وغرَّته الشهواتُ والآمال عاقَبَه الله بما كسَبَت يدَاه، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، ولا خيرَ فيمن هلَك مع رَحمةِ أرحمِ الراحمين.
أيّها المسلِم، هل لَك أن تعلَمَ بعضَ الحِكَم لمحبّةِ الله لِتوبةِ عَبده وفرَحِه بها أشدَّ الفرَح؟! نعَم، مِنَ الحِكَم العظيمةِ لمحبّة الله لتوبةِ التائِبين أنَّ أسماءَ الله الحسنَى تتضمَّن صِفاتِه العلا، وتَدلّ على هذه الصّفات العظمَى، وهذه الأسماءُ تقتضِي ظهورَ آثارِها في الكَون، فاسمُ الله الرَّحمنُ الرّحيم يَدلّ على اتِّصافِ الله عز وجلّ بالرّحمة كما يَليق بجَلالِه، ويقتضِي أن يوجَدَ مخلوق مرحوم، واسمُ الله الخالقُ يَدلّ على اتِّصاف الله تعالى بالقدرَةِ على الإيجادِ والخَلق، ويقتضي إيجادَ اللهِ للمخلوقاتِ منَ العَدَم، واسمُ الله الرزاقُ يدلّ على اتِّصاف الله تعالى بإمدَادِ الخَلق بالرّزق، وكذلك يقتضِي أنه القائم بالرزق، ويقتضي وجودَ مَرزوق مخلوقٍ، وكذلك اسمُ الله عز وجل التوّابُ يدلّ على اتِّصاف الله تعالى بقَبول التوبةِ مهما تكرَّرت، ويقتضِي إيجادَ مذنِبٍ يتوب من ذنبِه فيتوب الله عليه، وبقيّةُ أسماءِ الله الحسنى علَى هذا النّحوِ، كلّها يَدلّ على ذَاتِ الله العَظيم، ويدلُّ على صِفةِ الله العُظمى التي يتضَمَّنها ذلك الاسم، ويقتضِي كلُّ اسمٍ مِن أسماءِ الله الحسنى ظهورَ آثارِه في هذا الكَون، قال الله تعالى: فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:50].
وَالمقصودُ أنَّ قَبولَ تَوبةِ المذنِب مُقتضَى اسمِ اللهِ التوّاب، وثَوابُ التّائب أثرٌ من آثارِ هذا القَبول، والله عز وجلّ أرحَم الراحمين، قالَ الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25].
ومِنَ الحِكَم لمحبّةِ الله لتوبَة التائِبين أنَّ الله تعالى هو المحسِن لذاته وذو المعروف الذي لا ينقطع أبَدًا، فمن أطاع الله بالتّوبة أحسن إليه وأثَابه في الدّنيا والآخرة، ومن ضيَّع التوبةَ أحسن إليه ومتّعه في الدنيا وعاقبه في الآخرة بسوء عمَله، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46].
ومِن الحِكَم لمحبّةِ الله تعالى لتَوبةِ عبدِه عفوُه عز وجل وشمول رحمتِه للعصاةِ مع قدرتِه على العقاب، وفي الحديث: ((إن الله كتَب كتابًا عنده فوق العرش: إنَّ رحمتي سبَقت غضبي)) [3] ، إلى غير ذَلك من الحِكَم التي لم نطَّلع إلاّ على القليلِ مِنها.
وتصحُّ التّوبَة من بَعض الذنوبِ، ويبقَى الذنبُ الذي لم يَتُب منه مؤاخَذًا بِه، والتّوبةُ بابُها مفتوحٌ لا يغلَق ولا يُحَال بين العَبدِ وبينها حتى تطلعَ الشمس مِن المغرِب، فعندَ ذلك إذا طلعَتِ الشّمس من مغربها يغلَق بَابُ التوبة ولا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنَت من قبلُ، عن زِرّ بن حُبيش عن صفوانَ بن عسّال رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((إن الله فتح بابًا قِبَل المَغرِب، عَرضُه سَبعون عَامًا للتّوبة ـ جعله للتوبة ـ ، لا يغلَق حتى تطلعَ الشمسُ مِنه)) رواه الترمذيّ وصحَّحه والنسائي وابن ماجه [4].
وقد وَعَد الله على التّوبةِ أعظمَ الثّواب وحُسن المآب، فقال تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70]، قال بعض المفسرّين: "يجعَل مكانَ السيّئةِ التوبة، فيعطِيهِم علَى كلِّ سيّئة عمِلوها حسنةً بالنّدَم والعَزم على عَدَم العودةِ".
وعن أنس رضي الله قال: قال رسولُ الله : ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةِ عَبده حين يتوب إليه مِن أحدِكم كان على راحِلته بأرضِ فَلاة، فانفَلتت منه وعليها طَعامه وشرابُه، فأيِس منها، فأتى شَجرةً فاضطَجع في ظلِّها وقَد أيِس من راحِلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمةٌ عندَه، فأخذ بخِطامها ثم قال من شدّةِ الفرح: اللهم أنت عبدِي وأنا ربُّك، أخطَأ مِن شدّةِ الفَرح)) رواه مسلم [5].
وأَسعدُ الساعاتِ والأيّام على ابنِ آدم اليَومُ الذي يتوبُ الله فيه عَليه؛ لأنّه بدونِ توبةٍ كالميِّت الذي لا حياة فيه، وبالتوبة يكون حيًّا، عن كعب بن مالك رضي الله عنه قال لما أنزل الله توبتَه في تخلُّفه عن غزوة تبوك: وانطلقتُ أتمَّمُ رسولَ الله يتلقّاني الناسُ فوجًا فَوجًا، يهنّئونَني بالتوبةِ ويقولون لي: لتَهنِك توبةُ الله عليك، فسلَّمتُ على رَسول الله وأسَاريرُ وجهِه تَبرُق، وكانَ إذَا سُرَّ استَنارَ وَجهُه كأنه فِلقَةُ قمَر، فقال: ((أبشِر بخيرِ يومٍ مرَّ عليك منذ وَلدَتك أمّك)) رواه البخاري ومسلم [6].
والتّوبةُ عبادةٌ عالِية المقَام، قام بها الأَنبياءُ والمرسَلون والمقرَّبون والصّالحونَ، وتمسَّكوا بعُروتها، واتَّصفوا بحقيقتِها، قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:117]، وقال تعالى عن الخليلِ إبراهيم وإسماعيل عليهِما الصلاة والسلام: رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:128]، وقال عن موسى عليه الصلاةُ والسلام: فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143].
والمسلِمُ مضطَرّ إلى التوبة ومحتَاجٌ إليها في حَالِ استقامتِه أو في حالِ تقصيره، يحتاج إلى التّوبةِ بعد القُرُبات وبعدَ فعل الطاعات، أو بَعد مقارَفَةِ بعضِ المحرّمات.
يا أمَّةَ الإسلامِ، أذكِّركم جميعًا بالتّوبةِ بالتمسُّك بالكتابِ والسنة والبُعدِ عن البِدَع والخرافاتِ والمحدَثات في الدِّين وكبائرِ الذّنوب؛ ليحفظَكم ربكم مِن شرورِ أعداءِ الإسلام ومكرِهم وكَيدِهم وليقِيَكم عقوباتِ الذّنوب، فإنَّ أعداءَ الإسلام لن يَنالوا مِن المسلِمين إلاّ بغِياب التّوبةِ النصوح عن الأمّةِ، ولم تتفرَّق الأمّةُ الإسلاميَّة إلاّ باختلافِ مشارِبها وأفهامِها، فاجعَلوا مشربَكم من معينِ كتاب الله وسنّةِ رسولِه ، واجعَلوا أَفهامَكم وتفسيرَكم للقرآن والسنة تبَعًا لفَهم الصحابةِ والتابعين ومن تَبِعهم بإحسانٍ؛ يُصلِح لكم أعمالكم ويصلح لكم دنياكم وأُخراكم.
قال الله تعالى: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:3].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار (2702) بنحوه، ومرّة رواه عن الأغرّ عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب (2759).
[3] رواه البخاري في كتاب التوحيد (7114، 7115)، ومسلم في التوبة (2751) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] سنن الترمذي: كتاب (3535)، سنن ابن ماجه: كتاب (4070)، وأخرجه أيضا أحمد (4/240)، والحميدي (881)، والطيالسي (1168)، والطبراني في الكبير (8/56، 60، 66، 69)، وأبو نعيم في الحلية (7/308)، والبيهقي في الشعب (5/400)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (193)، وابن حبان (1321)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3137).
[5] صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: من الحض على التوبة... (2747). وهو عند البخاري في الدعوات مختصرًا (6309).
[6] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب: حديث كعب بن مالك (4418)، صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك (2769).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيزِ الغفورِ، الحليم الشكور، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، أحمدُ ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شَريك له إليه المصير، وأشهد أن نبيَّنا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله سابقُ الخَلق إلى كلِّ عملٍ صَالح مَبرور، اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله؛ تفوزوا بمرضاتِه وجنّتِه، وتنجُوا من سخَطِه وعقوبته، يقول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ [القصص:67]، وفي الحديث عن النبيِّ : ((يقبَل الله توبَةَ أحدِكم ما لم يغرغِر)) [1].
فسارِع ـ أيّها المسلم ـ إلى التوبَةِ مِن كلّ ذنب، السّرُّ بالسِّرّ والعلانية بالعلانية، وداوم عليهَا بعد القرُبَات أو الإلمام بشيءٍ من المحرَّمات، قال الله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58].
وإيّاك وأمانيَّ الشيطانِ وغرورَ الدّنيا وشهواتِ النَّفس والطّمَعَ في فُسحةِ الأجَل، فتقول: سَأتوب قَبلَ الموت، وهل يأتي المَوت إلاّ بغتةً؟! وبعضُ الناس حِيل بينَهم وبين التّوبةِ ـ والعياذ بالله ـ لعَدَم الاستعدادِ للموتِ وغَلَبة الهوى وطولِ الأمل، فأتاهم ما يوعَدون وهم علَى أسوَأ حال، فانتقَلوا إلى شرِّ مآل. ومِنَ النّاس مَن وُفِّق للتّوبة النّصوحِ بعد أن أسرَفوا على أنفسِهم أو قَصَّروا في حقِّ الله أو حقوقِ العباد، فصاروا من الصالحين والصّالحاتِ بالتوبة، ذِكرُ سِيرتِهم توقِظُ القلوبَ الغافلة، ويقتدِي بها السائرون على الصِّراط المستقيم والآمُّونَ النّهجَ القويم.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيّدِ الأوّلين والآخِرين وإمامِ المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرا...
[1] أخرجه أحمد (2/153)، والترمذي في كتاب الدعوات (3537)، وابن ماجه في الزهد (4253)، وأبو يعلى (5609) عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (628)، والحاكم (7659)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3143).
(1/4284)
المفاصلة بين الرجال والنساء
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, المرأة, قضايا المجتمع
عبد الله بن سعد قهبي
جدة
جامع أم القرى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقرير الإسلام لخصلة الحياء. 2- ثناء الله تعالى على البنتين العفيفتين. 3- دروس وعبر من قصة موسى عليه السلام مع الفتاتين المدينيتين. 4- أحاديث نبوية تقرر منع الاختلاط. 5- مناداة بعض الغربيين بمنع الاختلاط. 6- مفاسد الاختلاط. 7- شبهات دعاة التحرر. 8- أسباب الاختلاط. 9- واجب الآباء والأمهات. 10- منع الاختلاط لا يحبس المرأة عن المنافسة والتميز والإبداع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، وإنّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: فإنّ شريعة الإسلام جاءت بتقرير الأحكام وتعيين الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة؛ لينشأ المجتمع المسلم طاهرًا نظيفًا طاهرًا عفيفًا، لا أثر فيه لفاحشة، ولا دعوة فيه لخنى، ولا أمر فيه بمنكر. جاء الإسلام يقرّر أن الحياء مطلوب من الرجال والنساء، لكنه في حق النساء ألزم، ومن حياء النساء أن لا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وأن لا يتبرّجنَ تبرج الجاهلية الأولى، وأن لا يبدينَ زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها، وأن يضربنَ بخمُرهنّ على جيوبهنّ، ولا يبدينَ زينتهنّ إلاّ للأصناف التي ذكرها الله عز وجل في كتابه.
ومن حياء النساء كذلك أن لا يخالطنَ الرجال ولا يزاحمنهم، بل الواجب على النساء أن يأخذنَ حافّات الطريق، وأن يكون لهنّ مجتمعاتهنّ الخاصة بهنّ، ولا يخالط النساء الرجال في حفلات عامة ولا خاصة ولا مؤتمرات ولا ندوات ولا تعليم ولا عمل ولا غير ذلك من نواحي الحياة، إلا ما دعت الضرورة إليه.
في القرآن الكريم يثني ربنا جلّ جلاله على رجلٍ صالح أنه ربّى ابنتين فاضلتين؛ علّمهما مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، وبيّن لهما الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة، يقول الله عزّ وجلّ في خبر كليمه موسى عليه السلام: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23].
موسى عليه السلام وجد جماعة من الناس طائفة من الرجال يسقون بهائمهم أنعامهم، ووجد امرأتين بعيدتين نائيتين، لا تزاحمان الرجال ولا تخالطاهم، سألهما: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقى حتى يصدر الرعاء، لا نزاحم هؤلاء الرعاة، ولا نخالطهم في سقي الماء، بل نصبر وننتظر حتى إذا سقوا أنعامهم وقضوا حوائجهم وانصرفوا من عند ذلك الماء جئنا نحن فسقينا. ثم تأمل قولهن: وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ، لو لم يكن في ذكر قولهن هذا مغزى لاكتفين برد الجواب بقولهن: لاَ نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وكفى ذلك جوابا لموسى، لكن أضفن جوابا آخر مع الجواب الكامل ليشعِرن موسى أن السبب في خروجهن أن أباهن شيخ كبير، ولو لم يكن كذلك لقام هو بهذا العمل، لكن ضعفه اضطرنا لارتياد أمكنة الماء مع الرجال لنستسقي مما لا غنى لنا عنه، ضرورة ملحة استلزمت مجيئهن لهذا الأمر. قال تعالى عن موسى: فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].
يقول الله عزّ وجلّ: فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ ، تمشي مشية فيها حياء، لا فيها تبذُّل، لا فيها تبرُّج، لا فيها إغواء، لا فيها تهييج، وإنما مشية الحياء، تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، في أقصر لفظ وأوضحه وجهت الدعوة إلى موسى، ما أكثرت من الكلام، ولا أطالت في الحديث، وإنما لفظ مختصر، لكنه واضح في غير ما اضطراب ولا تلجلج يغري أو يهيّج، قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ، هكذا دعوة ترفع اللّبس والغموض، أسندت الدعوة إلى أبيها ليطمئنّ قلبه صلوات ربي وسلامه عليه، إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا.
هكذا ثناء ربنا عزّ وجلّ في القرآن على هاتين الفتاتين وعلى أبيهما الصالح القانت الذي أحسن تربيتهما وتوجيههما وتعليمهما حتى كانتا على مثل هذا الخلق القويم.
وهكذا ـ أيها المسلمون عباد الله ـ شريعة محمد ، جاءت بمثل هذا الخلق الكريم، تأمر النساء أن لا يخالطنَ الرجال، وتأمر بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء، تسدُّ كل ذريعة مفضيةٍ إلى الاختلاط. في المسجد رسول يجعل للرجال بابًا وللنساء بابًا، يقول: ((لو تركتم هذا الباب للنساء)) ، يقول نافع رحمه الله: فوالله، ما دخل منه عبد الله بن عمر ولا خرج حتى قبضه الله إليه.
للنساء في المسجد بابٌ خاص، وكذلك في الصلاة للرجال صفوفهم وللنساء صفوفهنّ، يقول رسول الله : ((خيرُ صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) ، مباعدة بين الرجال والنساء في أقدس مكان، في أطهر بقعة، عند أعظم شعيرة هي شعيرة الصلاة، بل أكثر من ذلك لو ناب الإمام شيء في صلاته، لو أنه سها، لو أنه أخطأ شريعة الإسلام تجعل للرجال التسبيح وللنساء التصفيق، إذا ناب الإمام شيء في صلاته سبح الرجال ينبِّهونه، أما النساء فإنهنّ يصفقن بأصابعهنّ على ظهور أكفهنّ، لا يرفعن أصواتهنّ في المسجد. ويقول رسول موجهًا الخطاب للنساء: ((ليس لكنّ أن تحققن الطريق)) ، ليس لكنّ أن تأخذن حُقّة الطريق ووسطه، عليكن بحافات الطريق، يمشي النساء على جنبات الطريق، لا يزاحمن الرجال في الشوارع والطرقات، ولا في الأسواق والتجمعات، بل للمرأة خصائصها وللرجل خصائصه، كل ما يؤدي إلى الاختلاط شريعة الإسلام تمنعه؛ لأن الاختلاط شرٌّ محض يؤدي إلى شيوع البغاء وقلة الحياء واسترجال النساء وخنوثة الرجال وضياع الأعراض وشيوع المنكرات وفشوِّ الزنا وغير ذلك من الموبقات العظيمة.
نهت شريعة الإسلام عن دخول الرجال على النساء: ((إياكم والدخول على النساء)) ، قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ ـ الذي هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه ونحو ذلك ـ، قال رسول الله : ((الحمو الموت)) ، هذا أشدّ خطرًا من غيره؛ لأن النفوس لا تنفر من دخوله، ولا تستريب من ولوجه، ((الحمو الموت)).
شريعة الإسلام تحرم نظر أحد الجنسين إلى الآخر نظرة عمد: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرةَ، فإنما لك الأولى وعليك الثانية)).
شريعة الإسلام تمنع مُمَاسّة الرجال للنساء والعكس حتى لو كان مصافحة، تمنع اختلاطهم، بل لو خرجت المرأة إلى المسجد، لو خرجت تريد بيت الله، تريد الصلاة فلا بد من شروط معتبرة، لا بد من أمورٍ مرعية فرضتها الشريعة الإسلامية، لا تخرج المرأة متبرجة بل متحجبة، لا تخرج متطيبةً متزينة بل تخرج تَفِلَة، لا تخرج المرأة مزاحِمَةً للرجال في الطريق ولا في المسجد، لا بد أن تُؤمَنَ الفتنة منها وعليها، لا تَفتِن ولا تُفتَن. ثم بعد ذلك إذا جاءت إلى المسجد لا ترفع صوتًا حتى لو كان مجلس علم، كان رسول الله يجعل للرجال مجلسًا وللنساء مجلسًا، الرجال قريبون منه، والنساء نائيات عن الرجال بعيدات عنهم، كل هذا لأن شريعة الإسلام منزلة من رب حكيم خبير يعلمُ ما يصلح الناس وما يفسدهم.
الآن في بلاد الغرب في أُوربا وأمريكا المصلحون وعلماء الأخلاق ورجال التربية الكل ينادي بمنع الاختلاط، الكل يذكر أن الاختلاط ما أتى بخير، لا في علم ولا عمل، لا في تحصيل ولا تدريب، بل متى ما وجدت المرأة بجوار الرجل فهي به مشغولة وهو بها مشغول، قال رسول الله : ((ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء)).
المرأة إذا وجدت بجوار الرجل فهي ضررٌ عليه وهو ضررٌ عليها، كلاهما يضر الآخر، ما أمرت شريعة الإسلام بالفصل، ما أمرت شريعة الإسلام بمنع الاختلاط إلاّ لأنها تعلم أنّ الاختلاط ينتج عنه عواقب وخيمة تعود على الأفراد والمجتمعات وعلى الأسر والجماعات، الكل يعاني، لا أحد يأمنُ على عرضه، لا أحد يأمن على دينه؛ لأن الخطر بجواره ظاهرٌ غير كامن.
الآن في أوربا وأمريكا يدعون إلى منع الاختلاط، إلى منع اختلاط الرجال بالنساء؛ لأنهم عانوا من ثماره المرة؛ كثرة اللقطاء، كثرة حوادث الاغتصاب، كثرة الجريمة، فُشوّ الفاحشة، انتشار الأمراض، قال رسول الله : ((ما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى يعلنوا بها إلاّ ابتلاهم الله عزّ وجلّ بالأسقام والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم)) ، أسقامٌ وأوجاعٌ يضج منها البشر، ولا يجدون لها علاجًا، لا يعرفون لها دواءً حتى الساعة، حتى اللحظة لا يجدون لها علاجًا، والجزاء من جنس العمل.
أيها المسلمون عباد الله، إذا أردنا لهذا المجتمع أن يكون نظيفًا طاهرًا عفيفًا معافى سالمًا من الآفات حتى لو كانت هناك فاحشة مرةً أو مرتين تكونُ مستترةً مختفيةً بعيدةً عن الأنظار يفعلها أهلها في حياء، إذا أردنا للمجتمع أن يكونَ كذلك فالدرجة الأولى والخطوة الأولى هي منع الاختلاط في سائر المرافق والخدمات، يكون للرجال مجتمعهم وللنساء مجتمعهن، ولا يتوقف هذا على الحاكم وحده، بل الصراحة والنصيحة تقتضي أن نقول في هذا المقام: إننا ـ معشر المسلمين ـ كثير منا في بيته لا يمنع الاختلاط، قد يكون في بيته حفلة عرس، أو يكونُ في بيته مأتم، أو اجتماع الأقرباء المحارم بغير المحارم أو غير ذلك من العوارض والمناسبات، فيختلطُ الرجال بالنساء، ولا نغيِّر بل لا تتمَعّرُ وجوهنا، مما يدلّ على أنّ الناس قد انتكس فهمهم للدين.
أيها المسلمون عباد الله، كما يقول بعض من لا خلاق لهم بأن الاختلاط لا بأس منه ولا حرجَ فيه!! أيكون مجتمعنا أطهر من مجتمع رسول الله ؟! هل قلوبنا أسلم من قلوب الصحابة؟! الصحابة أطهر الناس قلوبًا، رسول الله منعهم من الاختلاط، عمر بن الخطاب رضى الله عنه في أيام خلافته كان يمنع النساء من أن يسرن في وسط الطريق، بل يُعيِّن محتسبين في الطرقات ينصحون النساء بأن يأخذن الحواف والجنبات.
بعض الناس الآن يقولون: إن المجتمع ناضج وفاهم وواعٍ، سبحان الله! أيدركون المسؤولية أعظم من إدراك الصحابة؟! معاذ الله أن يقول هذا عاقل.
أيها المسلمون عباد الله، إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لن يسكتوا، سيجلبون بخيلهم ورجلهم، ستصدرُ كتابات، وتدون مقالات، وتلقى خُطَب، ويتكلم كل ناعِق: لم تمنعون؟ لم تفصلون؟ سياسة الفصل ما عادت نافعة! بل لا بد من التحام الرجال بالنساء! فالمرأة نصف المجتمع.. إلى غير ذلك من كلام بارد تعودنا سماعه من أولئك الذين لا يريدون للمجتمع طهرًا ولا نظافة ولا عفافًا ولا استقامة. نقول: لا.
أيها المسلمون عباد الله، القول ما قاله الله وما قاله رسول الله ، ليس هناك مجال للتنظير ولا للشقشقة ولا لدغدغة العواطف بمثل هذه الشعارات، المرأة نافعة، لكن ليس بالضرورة أن يكون نفعها قرينًا باتصالها بالرجل والتصاقها به من أجل أن نأمن على أعراضنا وعلى أبنائنا وبناتنا، ومن أجل أن يسلم ذكورنا وإناثنا من كل تحريضٍ على باطل أو أمر بمنكر.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه ردًا جميلاً، وأن يصرف عنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين، لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله حق تقاته، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
واعلموا أن من الأسباب المفضية إلى الاختلاط والتي منعتها شريعة الإسلام تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، مما تُرى آثاره وتسمع أخباره، وقد قال رسول الله : ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال)) ، وأخبر أن ثلاثةً حرّم الله عليهم الجنة، ومن هؤلاء الثلاثة رَجلَة النساء المرأة المسترجلة المتشبهه بالرجال في المشية والهيئة، في السمت والصوت، وفي الكلام والسلام، التي تخالطهم، لا تتحاشاهم، ولا ترى حرجًا في الحديث الطويل معهم، مثل هذا الصنف ملعون على لسان رسول الله.
واجب علينا ـ معشر الآباء ـ أن ننشِّئ بناتنا على أنّ لهن مواهب وخصائص، لهن شخصيات وقدرات، للبنات وظيفة كلفهنّ الله عزّ وجلّ بها، والله تعالى يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، هكذا قانون القرآن، القانون العادل، القانون الأبدي، لا يمكن أن تكون المرأة رجلاً، ولا يمكن أن يصبح الرجل امرأة، ما يمكن أن يختلط الحابل بالنابل إلى هذا الحدّ.
واجب علينا ـ معشر الآباء معشر الأمهات ـ أن ننشِّئ بناتنا على أن تعتزّ الواحدة وتحمد ربها على أن جعلها أنثى، قال الله عزّ وجل: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النساء:32]،ما ينبغي للمرأة أن تتمنى لو كانت رجلاً، ولا ينبغي للرجل أن يتمنى لو كان امرأة، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32]. هذه التربية هي التي نشّأ عليها محمد الرجال والنساء.
أيها الإخوة المسلمون، لا يقعدُ بالمرأة عن بلوغ أمل ولا عن تحصيل علم ولا تفاضل في عمل، فقد كان نساء من المؤمنات يشهدن صلاة الصبح مع رسول الله متلفعات بمروطهن، ما يُعرفنَ من الغلس، كانت المرأة تشهد صلاة الصبح مع رسول الله ، وكنَّ يشهدن الجمعة والجماعة والغزو والجهاد، وكنّ يتلقّين العلم، ويسابقنَ في مضامير العمل، ما قعد بهن منع الاختلاط عن تحصيل ثواب أو التفوق في الحصول على أجر، لكن أعداء الله عزّ وجلّ يريدون أن يصوِّروا لنا أن منع الاختلاط معناه أن تحرم المرأة من العلم والعمل، يقولون لنا: أتريدون أن نعود إلى عصر الحريم؟! أتريدون لنا أنْ نرجع إلى القرون الوسطى؟! إلى العصور المظلمة؟! ونحو ذلك من كلام يهوِّلون به، ويخوّفون كل مُصْلِح، كل من يدعو إلى إصلاح، وكل من يدعو إلى منع الفساد، يهولون عليه بمثل تلك الشعارات الباطلة، لكن يبقى الحق حقًا، ويبقى الباطل باطلاً، وإن دان به أكثر الناس، وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
فنسأل الله عزّ وجلّ أن يصرف عنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار إلاّ طارقًا يطرق بخير يا رحمن...
(1/4285)
الأقصى في ذكرى الإسراء والمعراج
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
21/7/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عبر ودروس من الإٍسراء والمعراج. 2- عظم منزلة المسجد الأقصى. 3- ازدياد عمليات تهويد القدس بعد الانسحاب من غزة. 4- استمرار جرائم اليهود في حق المقدسات الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، بعد أيام قلائل تحلّ على العالم الإسلامي ذكرى عظيمة، ومناسبة جليلة، إنها ذكرى الإسراء والمعراج بنبينا محمد عليه الصلاة والسلام من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله فيه، وبارك حوله.
وقبل بضعة أيام مرّت على المسلمين ذكرى أليمة، وجريمة مشؤومة، إنها جريمة إحراق المسجد الأقصى، تلك الجريمة البَشِعَة، والذكرى المشؤومة التي دُبِّر لها بِلَيل، وخُطِّطَ لها بإحكام؛ للنيل من المسجد الأقصى نهاية معجزة الإسراء، وبداية المعراج بالنبي الكريم إلى السماوات العُلا، إلى سِدْرَة المُنْتَهى: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى [النجم:16ـ 18].
ولقد اشتملت معجزة الإسراء والمعراج على معانٍ عظيمة وعِبَرٍ جليلة، من أبرزها وأهمها ارتباطهما بعقيدة المسلمين، إذ إن هذا الحَدَث العظيم مُعْجِز للبشر؛ لأنه طارِق لنواقيس الزمان والمكان، وهو جزء من المعجزات التي أيّد الله بها نبينا محمدًا عليه الصلاة والسلام، فالتصديق والإيمان بالمعجزة هو الإيمان والتصديق بالرسول والإقرار برسالته، والتكذيب بالمعجزة كفر وعناد وخروج عن الصواب، وهو ما حصل للمشركين وكفار مكة.
كما نال من معجزة الإسراء والمعراج مرتبة الصدق، وهو ما كان من أبي بكر الذي قال حينما سمع ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام من أمر الإسراء والمعراج: (إن كان قال ذلك فقد صدق، إني لأصدّقه على أبعد من ذلك، إني أصدّقه بخبر السماء).
أيها المسلمون، لقد ربطت هذه المعجزة بين ديار الإسلام ومساجد الله في الأرض، وعلى وجه الخصوص بين المسجد الحرام في مكة والمسجد الأقصى في القدس. ولما كان المسجد الحرام أول بيت وُضِع للناس في الأرض فإن المسجد الأقصى هو البيت الثاني والقبلة الأولى. وإذا كانوا يتوجّهون في صلاتهم إلى الكعبة المشرّفة في اليوم خمس مرات لأداء الفريضة فإن هذه الفريضة العظيمة التي هي عمود الدين والفارق بين المؤمن والكافر قد فرضها الله تعالى من فوق سماء بيت المقدس التي هي بوّابة الأرض إلى السماء، وفي هذا ما يكفي لتذكير المسلمين بأهمية المسجد الأقصى ومكانته في عقيدة المسلمين وموقعه من ديارهم، فكما يجب الحفاظ على المسجد الأقصى الذي يعيش هذه الأيام ذكرى حريقه المشؤوم، تلك الجريمة التي استهدفت المسجد وجودًا وحضارة، وكشف نيرانها عن نيران الحقد الأسود على عقيدة المسلمين ومكان عبادتهم في أقدس مقدساتهم في هذه الديار المباركة والأرض الطاهرة التي رُوّيت بدماء الشهداء والأبرار من الصحابة الكرام وتابعيهم من المحرّرين العِظام، الذين لم يرتضوا الظلم لديار الإسراء والمعراج، ولم يذوقوا طعم الراحة؛ حتى عادت إلى حَوْزة الإسلام والمسلمين عزيزةً كريمةً يُدَوِّي في سمائها، ويعلو مآذن مسجدها نداء التوحيد الخالد: "الله أكبر، الله أكبر". هذا النداء الذي يسعى أعداء الإسلام إلى خَنْقِهِ وقَتْلِهِ من خلال مؤامرات العدوان على المسجد الأقصى وهدمه ـ لا سمح الله ـ لإقامة الهيكل المزعوم، وطَمْس معالم الحضارة والتاريخ الذي يرمز إليها المسجد الأقصى الذي تَتَلامَعُ قِبابُهُ شامخة في سماء القدس، مؤكّدة إسلامية هذه الديار، ومانحة إياها وجهها الحضاري والعربي الذي تعمل مَعاوِل الاحتلال على تغييره وتهويده، في ظلِّ غفلة العرب، وانشغال المسلمين: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد جاءت معجزة الإسراء والمعراج بالنبي بين حَدَثَين كبيرين في مسيرة الدعوة الإسلامية والرسالة النبوية، وما ترتّب عليها من مَصاعب واجهها النبي عليه الصلاة والسلام من قبل المشركين والمعاندين، وقد أغلقت الأرض أبوابها في وجه الدعوة الإسلامية، فكان الإسراء والمعراج فَتْحًا لأبواب السماء للترحيب بالرسول في هذه الرحلة القُدْسِيّة، وتكريمًا له، وبيانًا لعلوّ قَدْرِهِ ومنزلته في الأرض والسماء، وإمامته لجميع الأنبياء الذين التقاهم في رحاب المسجد الأقصى، إيذانًا بأنَّ نبوّته خاتمه لكل الرسالات، وأنَّ ميراث الرسل قد انتقل إليه وإلى أمّته: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143].
وجاءت المعجزة النبوية الشريفة بعد حادثة الإسراء والمعراج لتكون المدينة المنورة عاصمة الدولة الإسلامية الأولى، ومنها انطلقت كتائب الإيمان ودعوة الإسلام إلى أرجاء المعمورة، ومن ضمنها هذه الديار المباركة ديار الإسراء والمعراج التي تشرّفت بالإسراء بالنبي عليه الصلاة والسلام إليها ومعراجه منها، ومن ثَمَّ جاءها الصحابة الكرام فاتحين ومنفذين للقرار الرباني بإسلاميتها وبناء مسجدها الأقصى الذي تشد إليه الرحال، وتأتي أمام هيبته مواكب الرجال، فقد جاء في الحديث الشريف ((لاتشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، وتهتف بنا ذكرى الإسراء والمعراج التي تمثل الرابطة الإسلامية الكبرى بين العالم الإسلامي وهذه الديار المقدسة إلى مزيد من اليقظة بما يحيط بهذه الديار ومقدساتها ـ وعلى رأسها المسجد الأقصى ـ من المخاطر والمؤامرات، فلم يكُفّ المتطرفون اليهود وقطعان المستوطنين عن التحريض ضد المسجد الأقصى ودعوتهم الصريحة إلى هدمه؛ لإقامة هيكلهم المزعوم على أنقاضه. وقد ازدادت في الآونة الأخيرة مظاهر التحريض على المسجد في الوقت الذي أُخلِيت فيه المستوطنات من قطاع غزّة والضفة الغربية، في محاولة مكشوفة لاستهداف المسجد بما يحقق أطماع المتطرفين والمستوطنين، وجني الثمن لإخلاء تلك المستوطنات التي أقيمت ظلمًا في الأرض الفلسطينية.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، إن الحريق المشؤوم الذي اشتعل في المسجد الأقصى قبل ستة وثلاثين عامًا ما زال يشتعل بأشكال وصور متعدّدة تستهدف المقدسات ورموز عقيدة المسلمين، وما جريمة إلقاء رأس خنزير في ساحة مسجد حسن بيك، والمسّ باسم النبي الكريم في كتابته في اللغة العِبْرِيّة على رأس الخنزير إلا حلقة من حلقات هذا الحريق، كما أن منع الأذان أن يرفع بالمسجد الإبراهيمي، وما يتعرّض له المصلّون من مضايقات ومنع وصولهم إلى المسجد الأقصى؛ يعتبر مَسًّا بعقيدة المسلمين وشعائرهم، وحرّية الوصول إلى أماكن العبادة التي كفلتها كل الشعائر الإلهية والأنظمة الوضعية. إننا من على هذا المنبر الشريف ندين كل هذه الجرائم ونشجبها ونستنكرها، ونهيب بالأمة الإسلامية ـ أمة الإسراء والمعراج ـ أن تنهض من سُبَاتِها، وتوجّه غايتها للدفاع عن عقيدة المسلمين ومقدساتهم في هذه الديار المقدسة.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، في غمرة الضجّة الكبرى التي تثيرها الحكومة الإسرائيلية حول الانسحاب من مستوطنات القطاع وشمال الضفة الغربية، وفي نَشْوَه الفرح التي ينتظرها، ويعيشها أبناء فلسطين برحيل المستوطنين وهدم المستوطنات؛ تقوم الحكومة الإسرائيلية بمصادرة ما يزيد على سبعين كيلو مترًا مربعًا من الأرض الفلسطينية حول مستوطنة ما يُسمّى الخان الأحمر الواقعة إلى الشرق من مدينة القدس، كما تكثّف الاستيطان في منطقة الأغوار.
إن شعبنا الصابر المرابط الذي يطالب بزوال الاحتلال والاستيطان لن يقبل بحال أن تكون القدس والأرض المباركة ثمنًا لخطوة إخلاء المستوطنات من قطاع غزة، فقد جاء هذا الإخلاء ثمرة للتضحيات التي قدّمها أبناء هذا الشعب من قوافل الشهداء وآلاف السجناء الذين لم تكتمل فرحة شعبنا إلا بخروجهم، ونيل حريتهم وحرية أرضنا من بَرَاثِن الاحتلال، وإذ كان المستوطنون يرون الاستيطانية فكرة صهيونية فإن شعبنا يرى الرباط في هذه الديار عقيدة إسلامية، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
(1/4286)
إعصار كاترينا
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الربوبية
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
28/7/1426
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- زيادة الإيمان عند رؤية الكوارث. 2- تلاشي قدرات البشر وعلومهم أمام قدرة الله وعلمه. 3- من ثمرات الابتلاء. 4- خطأ نسبة الكوارث إلى الطبيعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ إخوتي في الله ـ بما أوصي به نفسي تقوى الله عزّ وجل، وصية الله لخلقه الأولين والآخرين، يقول تبارك وتعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين.
اللهم اجعلنا جميعًا من عبادك المتقين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم عاملنا بعفوك، وأحسن إلينا بلطفك، ولا تحرمنا من فضلك. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن، ومن المصائب والمحن، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين التائبين المنيبين المؤمنين الصادقين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تقل خلوتُ ولكنْ قل عليَّ رَقِيبُ
ولا تَحسبنَّ اللهَ يغفل ساعةً ولا أنّ ما تخفي عليه يغيبُ
غفلنا لعَمْرُو الله حتى تداركت علينا ذنوبٌ بعدهُنّ ذنوبُ
فيا ليت أنّ الله يغفر ما مضى ويأذن في تَوْبَاتنا فنتوبُ
اللهم تُب علينا، اللهم مُنَّ علينا بتوبة نصوح يا رب العالمين.
أيها الإخوة المؤمنون، وتنقل لنا وسائل الإعلام ما يجعل الإنسان العاقل يزداد إيمانًا، ويزداد يقينًا بقدرة خالقه ومولاه، وما يجعله يقول: "لا إله إلا الله" خالصة من قلبه. أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [النمل:60-64].
لا إله إلا الله، في شهر ذي القعدة من العام الماضي دمّر المدُّ البحري قرى بأكملها، دقائق ثار البحر من أعماقه، فتلاطمت أمواجه، فأهلك الحرث والنسل.
ثوانِي أذلَّتْ رقابًا عَوَاتِيا كم ارتقب الناسُ إذلالَها
بِها ذُهِل الأب عن ولده ولَم تذكر الأمّ أطفالَها
وكم فئة في العَوَالي تمنّت لو الكُوخ قد كان سُكنى لَها
وفي العام الذي قبله، وفي شهر ذي القعدة أيضًا حدث زلزال بام، آلاف القتلى تحت أنقاض منازلهم. وفي هذه الأيام ها هي وسائل الإعلام تنقل ما يحدث من أعاصير مدمّرة، تسببت بقتل مئات البشر، وصدق الله عزّ وجل: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:58، 59]. تأمّلوا هذه الآية أيها الإخوة: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا ، أي: طغت وأَشِرت وكفرت بأنعم الله، كثير هي القرى التي أهلكها الله عزّ وجل، مَنِ الذي أغرق قوم نوح؟! ومَنِ الذي أهلك عادًا بريح صَرْصَرٍ عاتِية؟! ومَنِ الذي أهلك ثمود بالصاعقة؟! ومَنِ الذي قَلَبَ على قوم لوط ديارهم وأتبعها بالحجارة من السماء؟! ومَنِ الذي أغرق فرعون وجنده؟! يقول عزّ وجل: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58]، أي: دثرَت ديارهم، صارت خرابًا ليس فيها أحد.
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا [القصص:59]، الله عزّ وجل عادل، الله عزّ وجل لا يمكن أن يظلم أحدًا أبدًا، لا يهلك قرية حتى يقيم الحجة على أهلها بأن يبعث في أُمّها رسولاً، يعني في مكة أم القرى، يقول ابن كثير في تفسيره: " فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ، فيه دلالة على أن النبي الأمّي وهو محمد المبعوث من أم القرى رسول إلى جميع القرى من عرب وأعجام، كما قال تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى:8]".
أيها الإخوة المؤمنون، مهما وصل الناس من علم، ومهما بلغوا من تطوّر، ومهما بلغوا من قدرة، أمام الجبّار جلّ جلاله لا شيء، أين علمهم؟! أين قدرتهم؟! أين سيطرتهم؟! أين أسلحتهم؟! أين أجهزتهم؟! نعم؛ ولكنّه الله مالك الملك العزيز القهّار الجبّار، لا تقف قوة أمام قوته، ولا توازي عظمة عظمته، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:103].
أيها الإخوة، إن الله عزّ وجل من سعة رحمته وجزيل فضله وتمام كرمه أنه يبتلي عباده؛ لتستيقظ نفوس غافلة، ولتلين قلوب قاسية، ولتدمع عيون جامدة. إن الله سبحانه وتعالى يذكّر عباده ليتعظوا ويعتبروا، ليستيقظوا من غفلتهم، وليراجعوا أنفسهم، يقول جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف:27]، أي: لعلهم يستيقظون من غفلتهم، لعلهم يراجعون أنفسهم.
ويقول تبارك وتعالى: وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31]، يقول ابن عباس: ( تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ عذاب من السماء ينزل عليهم)، وفي رواية عنه أيضًا قال: (نَكْبَة)، أي: تصيبهم نَكْبَة. فالله سبحانه وتعالى يذكّر عباده ليتعظوا بغيرهم، والسعيد من وُعِظَ بغيره.
أسأل الله عزّ وجل أن يجعلني وإياكم من الذين إذا وُعِظُوا اتعظوا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا ابتلوا صبروا، برحمته فهو أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، يخطئ كثير من الناس لضعف إيمانهم وقلّة يقينهم في تفسير ما يحدث حولهم، وإن دلّ هذا على شيء فإنما يدل على خلل في عقائدهم ولَوْثَة في أفكارهم وكفر بربهم، ففي الحديث المتفق عليه عن زيد بن خالد قال: صلى بنا رسول الله صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال : ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مُطِرنا بنَوْء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)).
أيها الإخوة، ينسب بعض الجهلة مثل هذه الأعاصير وتلك الزلازل وما يحدث من نَكَبات إلى الظواهر الطبيعية، وهذا الفعل من أخطر الأفعال، وهذا القول من أشنع الأقوال، يقول فضيلة الشيخ صالح الفوزان في إحدى خطبه: "قد يقول بعض المُتَحَذْلِقين من الجغرافيين: هذه الزلازل ظواهر طبيعية، لها أسباب معروفة، لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم، كما يجري ذلك على ألسنة بعض الصحفيين والإعلاميين، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها، ولا يعتبرون بها، كما يقول أشباههم من قبل عندما تصيبهم الكوارث والنكبات: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف:95]، فيعتبرون ذلك حالة طبيعية، وليست عقوبات لهم، فيستمرون على غيّهم وبَغْيهم، ولا يتوبون من ذنوبهم. والذي نقوله لهؤلاء المُتَحَذْلِقِين: إن الكتاب والسنة يدلاّن على أنّ هذه الزلازل كغيرها من الكوارث إنما تصيب العباد بسبب ذنوبهم، وكونها تقع لأسباب معروفة لا يخرجها عن كونها مُقَدَّرة من الله سبحانه على العباد لذنوبهم، فهو مُسَبِّب الأسباب".
أيها الإخوة المؤمنون، فلنتق الله عزّ وجل، ولنعتبر بمن حولنا، ولنتعظ بما يجري بالأقوام من غيرنا، فالسعيد من وُعِظَ بغيره، والشقي من صار موعظة لغيره.
أسأله عزّ وجل أن يهدي ضالّ المسلمين، وأن يرزقنا جميعًا الفقه في الدين، وأن يجعلني وإياكم من عباده الصالحين. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك...
(1/4287)
الطريق إلى العزة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
28/7/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية إصلاح ذات البين. 2- نظرات في واقع العالم الإسلامي الأليم. 3- أسباب مهانة المسلمين وسبل خروجهم منها. 4- خطورة أكل أموال الناس بالباطل. 5- آثار المعاصي والغفلة على المسلمين. 6- معوقات العملية التعليمية في ظل الاحتلال. 7- المخطط الأمريكي للهيمنة على دول العالم الإسلامي. 8- ما وراء الانسحاب الإسرائيلي من غزة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، لقد أمر الله تعالى الأمة الإسلامية بما فيه خيرها وصلاحها، فقال سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
إذا أردتم ـ أيها المؤمنون ـ أن ينزل الله عليكم النصر والسكينة فأصلحوا ذات بينكم، إذا [كانت] فئتان في حالة شِجَار وخلاف وخصام فأصلحوا بينهما.
فيا من يقف موقف المتفرّج على نزيف الدم، أصلحوا ذات بينكم، إصلاح ذات البين أفضل عند الله من الصلاة والصيام والصدقة والحج، أفضل من صلاة النوافل وصيام النوافل وزكاة النوافل وحج النافلة، أما قطيعة ذات البين فقد قال رسول الله : ((هي الحالِقَة، لا أقول: تحلق الشعر، إنما أقول تحلق الدين)).
عباد الله، ومن ينظر إلى أمتنا الإسلامية يجدها اليوم تعيش أسوأ أيامها، أسوأ أيام تمرّ بالأمة هي هذه الأيام، نزيف دموي رهيب لا يكفّ ليلاً ولا نهارًا. هناك في العراق القتلى مئات الآلاف من الأطفال والنساء والشيوخ والرجال يقتلون ليلاً ونهارًا، والعالم بأسره يقف موقف المتفرّج، فماذا فعلت أمة الإسلام؟!
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى قول رسول الله : ((والله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تفتح عليكم الدنيا بعدي، فينكر بعضكم بعضًا، وينكركم أهل السماء عند ذلك)).
أتدرون ـ يا عباد الله ـ لماذا تقف الأمة موقف المتفرّج؟! لأنها لا تملك إرادة نفسها، فالذي يحركها عدو الإسلام، فمرة نولي وجوهنا شطر أمريكا، ومرة شطر أوروبا. القتلى في العراق لحساب من؟! لمصلحة من؟! لمصلحة أعداء الإسلام.
عباد الله، للأسف الشديد، وأقولها بحرارة: إن المسلمين في هذه الأيام ماتت عزائمهم، ومات فيهم كل شيء إلا شهواتهم: شهوة البطن وشهوة الفرج، إلا من رحم الله، وهم قلّة، وقليل من عبادي الشكور.
أتدرون ـ يا عباد الله ـ متى تتوقف هذه المأساة؟ يوم يجتمع أمر المسلمين على قول: "لا إله إلا الله وأن سيدنا محمدًا رسول الله"، يوم نكون أمة واحدة، ويكون سبيلنا واحدًا، يوم نعود إلى منهج الحق ونطبّق سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام في عبادتنا ومعاملاتنا، يوم تكون أُسرنا مجتمعة على المحبة والوفاء والإخلاص لدين الإسلام، يوم نبتعد عن الخلافات والخصومات وظلم الآخرين ونزن بالقسطاس المستقيم. بعض التجار والذين يبيعون الناس يزنون بموازين غير مستقيمة ويظلمون العباد.
عباد الله، سفيان الثوري كان يصاحب تاجرًا ما فاتته الصلاة ولا الصيام ولا الحج، يقول سفيان: رأيته بعد موته في حال مكروب ومهموم ومحزون، فقلت له: كيف لقيت الله يا صديقي؟ قال له: يا سفيان، لقيت الله وهو عليّ غضبان، فقلت له: ولم؟! فقال له: لأنني كنت أبيع الناس، فقال لي ربي: لِمَ لَمْ تكن تمسح الميزان قبل أن تزن الأشياء لعبادي؟ فما بالكم بمن يأكلون التراث أكلاً لَمًّا ويحبّون المال حُبًّا جَمًّا؟! ألم يسمع هؤلاء قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:1-6].
عباد الله، مالك بن دينار كان له صاحب، ومات هذا الصاحب فرآه مالك بن دينار في المنام بعد موته، فقال له: كيف حالك بعد لقاء الله؟ قال له: يا مالك، إني محبوس على باب الجنة لم أدخلها، فقال له ابن دينار: وكيف وأنت الذي كنت تصلي وتصوم وتزكي وتحج؟! لماذا حُبِست على باب الجنة؟! فقال له الميت: لأنني استعرت من الجيران شيئًا ومت قبل أن أردّه، ولم أوصِ أهلي بردّه. لا إله إلا الله! استعار شيئًا ولم يردّه، ومات قبل أن يردّه، ولم يوصِ أهله بردّه، فلما استيقظ مالك من منامه ذهب إلى أهل الميت وأخبرهم كما بيّنه الميت، فقاموا وردّوا الشيء إلى أصحابه، ورآه بعد ذلك في المنام في روض من رياض الجنة، فقال له: فرّج الله كربك كما فرّجت كربي.
عباد الله، ردّ الأمانات إلى أهلها وردّ المظالم لأصحابها من الأمور التي أمرنا الله بها، بعض الناس يأكلون حقوق الآخرين وبخاصة في الميراث، وبعض الآباء قد يعطي بعض الأولاد دون الآخرين ظلمًا وعدوانًا؛ وبحجة أن هذا الولد صغير، أو بحجة أن هذا الولد يطيعه بخلاف غيره، الأصل هنا ـ يا عباد الله ـ أن نتقي الله، وأن نعدل بين الأولاد والبنات في العطاء وتقسيم الأموال، كما قسم الله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]. إن منا من يأكل حقوق أخواته وحقوق أقربائه، ولا يخشى الله تعالى، فكيف سنهزم عدونا إذا لم نهزم الشيطان في نفوسنا؟! إذا أردنا النصر فلننتصر على أنفسنا أولاً، وسوف ينصرنا الله بعد ذلك على عدونا.
عباد الله، لقد كثرت في الآونة الأخيرة السرقات في مجتمعنا، اللصوص الذين يسطون على البيوت وسرقة مصاغ النساء والأموال، فئة ضالة من أبناء شعبنا تستغلّ الفَلَتَان الأمني، وتتسوّر بيوت الناس وتسرقها، وفئة أخرى تجمع الأموال باسم أسر الشهداء، وتنهب الأموال، فليتق الله هؤلاء المجرمون، والواجب علينا [أن] نوقف هؤلاء عند حدودهم، والضرب بيد من حديد على من يشدّ من أَزْرِهم.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ الصحابي الجليل أبا الدرداء وهو يقول بعد [أن] فتح المسلمون جزر البحر المتوسط، وفتحوا جزيرة رودوس، كان المسلمون في حال نشوة وفرح، إلا أن أبا الدرداء بعد النصر كان يبكي، فقالوا له: أتبكي ـ يا أبا الدرداء ـ واليوم يوم فرح؟! فقال: نعم، قالوا: فما يبكيك؟ قال: اسمعوا، أليس هؤلاء القوم الذين قهرناهم ونصرنا الله عليهم ألم يكونوا في قوة ومَنَعَة وطمأنينة؟! قالوا: هو كذلك، قال لهم أبو الدرداء: فلما عصوا الله هانوا على الله فأمكننا الله منهم ومن رقابهم، وأخشى أن يأتي اليوم الذي نعصي فيه الله فنهون على الله فيمكن الله الكفار من رقابنا. نعم يا أبا الدرداء، دار الفلك دورته، وتحرّكت الأرض حول نفسها مرات، وحول الشمس مرات، وعصينا الله، فهُنَّا على الله، فتمكّن أعداؤنا منا.
عباد الله، إياكم والمعاصي؛ فإنها مفاتح غضب الله ونقمته، ولا تغرّنكم الحياة الدنيا، ولا يغرّنكم بالله الغرور، الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوض، فكيف نغترّ بها ونطمئن إليها؟! أم كيف يطيب فيها عيش من لا يدري متى الموت يأتيه؟!
فيا واقفون والأيام والليالي بكم سائرة، إن فيما تشاهدون من العبر لموعظة زاجرة، فما للقلوب عن قبول المواعظ ناخرة؟! وما للنفوس معرضة عن التذكرة كأنها بها ساخرة؟! وما للهمم عن العمل الصالح فاترة؟! أغرّتكم الأماني والآمال الحاضرة؟! أما علمتم أن كل جزء من الزمان يذهب بمثله من الأعمار؟! أما تحقّقتم أن العمر رأس مال الإنسان وأن ربحه العمل؟! أما تبين لكم أن ما فات لا عوض عنه ولا بدل؟! فيا عجبًا لمن وُعِظ بالمواعظ الصادقة فلم يقبل؟!
فاستيقظوا ـ رحمكم الله ـ من هذه الغفلة، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وبادروا بالعمل؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، واجتنبوا المعاصي؛ فالفائز من كان لها مجانبًا، ولازموا التوبة إلى الله؛ فالسعيد من لم يزل إليه تائبًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، غدًا سيبدأ ـ إن شاء الله تعالى ـ العام الدراسي الجديد، والمطلوب منا جميعًا وبلا استثناء ـ طلاب ومدرسين وآباء ومسؤولين ـ أن نجدّ ونجتهد؛ فالأمم لا ترقى إلا بالعلم، وأسلافنا حثّوا على طلب العلم.
ولكن من المؤسف حقًّا أن شعبنا يكتوي بنار الاحتلال واستمرار بناء الجدار العنصري الذي يعيق العملية التربوية. ومع بداية العام الدراسي الجديد يجد المعلمون والطلاب أنفسهم مقيدين، وذلك لصعوبة التنقّل والوصول إلى مدارسهم وجامعاتهم، وتقييد حرية التنقّل، وإلزامهم بالحصول على تصاريح، وفي نفس الوقت هيهات أن تصدر التصاريح، وإذا صدرت لا يُعترَف بها من الاحتلال عند الحواجز العسكرية. ومن هنا نحمّل سلطات الاحتلال مسؤولية عدم تسهيل المسيرة التعليمية.
وجميل أن يتوافق بداية العام الدراسي مع ذكرى الإسراء والمعراج، ففي مثل هذا اليوم كانت جيوش المسلمين في هذه الأرض المباركة، تم لنا الفتح عندما كانت القيادة صالحة والأمة مستيقظة، فتم الفتح الأكبر، ورفع الأذان في هذه الرحاب الطاهرة، وقرئ القرآن في المساجد والمحاريب، وعلت كلمة التوحيد من جديد، ومنح الله تعالى أمتنا نصرًا وفتحًا مبينًا. فتعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نرى وإياكم واقع الأمة اليوم بعدما تخلّى قادتها عن منهج الإسلام، وابتغوا سبل الغواية والشيطان.
أيها المسلمون، المتتبع لأخبار عالمنا الإسلامي اليوم يرى أن دول الكفر ـ وعلى رأسها أمريكا ـ قد نجحت نجاحًا كبيرًا في تمزيق عالمنا الإسلامي، عن طريق تفتيت وتجزئة أكثر من دولة إسلامية، بغية إضعاف كيانها وتشتيت جمعها ونهب ثرواتها.
السودان سلة العالم العربي الغني بالثروات المعدنية، تم فصل الجنوب ذي الغالبية المسيحية عنه، وإعطاؤه الحكم الذاتي؛ ذريعة لإحلال السلام. وهناك في أندونسيا تم فصل إقليم إيتشه ذي الغالبية المسيحية أيضًا، وإعطاؤه الحكم الذاتي، تحت ذريعة حق تقرير المصير وحرية الشعوب. أما في جزر مورو في جنوب الفلبين ذات الأغلبية الإسلامية فإن الأمر يختلف اختلافًا كبيرًا بنظر الدول الاستعمارية، فهذا إرهاب ولا بد من محاربته. أما في العراق فحدّث ولا حرج، أمريكا تضع مُسَوّدة الدستور العراقي بما يخدم مصالحها ويعزّز تفتيت وحدة العراق. الدستور الجديد يتضمن حلولاً فِدْرَاليّة هي في حقيقة الأمر تجزئة العراق لدويلات، لا الحفاظ على وحدته، الأمر الذي يتباكى عليه زعماء العالم العربي والإسلامي. إن الفِدْرَاليّة تخفي وراءها بذور حرب أهلية مستقبلية بين الطوائف الأساسية في العراق، ويدفع الثمن المسلمون في العراق، فلم يعد هناك عراق واحد، ولم يعد هناك شعب واحد، الكل يريد أن يأكل العراق ويبتلعه.
أيها المسلمون، أمريكا تخطط للهيمنة على السعودية وتجزئتها، فعلى الرغم من العلاقات الحَمِيمة بين الدولتين إلا أن الحقد الأمريكي على الإسلام جعلها تنظر إلى السعودية كمركز للإشعاع والنور، وإليها وفيها يحج المسلمون، فلا بد من إيجاد أجواء مشابهة لما يحدث في العراق، فهل تحقق أمريكا أطماعها ومخططاتها العدوانية؟!
فإلى متى هذا الخنوع والاستسلام لمخططات أمريكا؟! إلى متى السكوت على ما يجري من مذابح في شتى أنحاء العالم وتحت ذريعة مسميات الإرهاب؟!
أيها المسلمون، الضجة الإعلامية التي رافقت إعلان انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ضجة فاقت بحجمها الانسحاب ذاته. وإذا كان من حق الفلسطينيين أن يتباكوا ويفرحوا لهذا الجلاء والانسحاب فإنه لا يجوز أن نفرط بالتفاؤل مما يجري على الساحة الفلسطينية، سيما في أعقاب تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية وتأكيده على اللاءات: لا لعودة اللاجئين أو النازحين, لا لإزالة مستوطنات الضفة الغربية ذات الأغلبية السكانية، لا لأية سيادة فلسطينية على القدس، ولا مجال للتفاوض عليها.
هذه اللاءات التي تحرج الجانب الفلسطيني يجب أن تكون سلاحًا بيد المفاوض الفلسطيني؛ ليبرهن للعالم العربي والإسلامي أن السلام بعيد المنال، وأنه لا يجوز بأي حال من الأحوال تسريع عملية التطبيع، فإسرائيل لا تزال تصادر الأرض الفلسطينية، ولا تزال تبني وتوسّع المستوطنات، ولا تزال تمارس التصفية الجسدية للفلسطينيين.
أيها المسلمون، الطريق واضح، بينه أمير المؤمنين عمر في كلمات يسيرة، وعمر إذا تكلم فحسبك بعمر، كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: (أكثروا من ذكر عمر؛ فإنكم إذا ذكرتم عمر ذكرتم العدل، وإذا ذكرتم العدل فقد ذكرتم الله عز وجل).
عباد الله، الأمة غافلة، وعمر يصف لنا الدواء ويقول: (لقد كنا أذلاّء فأعزنا الله بالإسلام، فإذا طلبنا العزة في غير الإسلام أذلنا الله).
(1/4288)
نعم الله على عباده
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
21/7/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم نعم الله على عباده. 2- وجوب شكر الله على نعمه بالقلب واللسان والجوارح. 3- الحث على التفكر في نعم الله تعالى وشكره عليها. 4- أعظم النِعَم نعمة الإسلام. 5- نعم الله وتوفيقه لعبده في أداء فرائض الإسلام ونوافل الطاعات. 6- من أعظم النعم بعد الإسلام نعمة الأمن في الأوطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، إن لله علينا نِعَمًا عظيمةً، نِعَمٌ عُظْمَى، نِعَمٌ متعدّدةُ، نِعَمٌ متوافِرةٌ، ولا توافيها حقّها إلا بكمال شكرها، وصدق الله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. وكل هذه النعم من الله بَذْل وإحسانٌ، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53].
والله الذي قد تأذَّنَ بهذه النعم، ومَنَّ بها علينا طلب منّا أن نشكره عليها، فقد أعطانا الكثير فضلاً وإحسانًا، وطلب منّا اليسير؛ أن نشكره على عموم نعمه، نشكره بقلوبنا، ونشكره بألسنتنا، ونشكره بجوارحنا، فشُكْرُنا له بالقلوب أن يكون في قلوبنا يقين جازم بأنّ الله المتفضِّل المُنعِم الذي سخَّرَ لنا ما في السموات والأرض جميعًا منه، فنوقن جميعًا أن هذه النعم فضل الله وإحسانه وجوده وكرمه. ونشكر بألسنتنا فنُثْنِي على الله بما هو أهله، ونشكره قائمين قاعدين مُضْطَجِعين راكبين ماشين، وليكن شكر الله على ألسنتنا ظاهرًا، في الحديث: ((إن الله يرضى عن العبد يأكل الأَكْلَةَ فيحمده عليها، ويشرب الشَّرْبَة فيحمده عليها)) [1]. فما قُوبِلت نِعَمُ الله بأفضل من الثناء على الله وتعظيمه وتمجيده، وفي الحديث: ((لا أحد أحبّ إليه الثناء من الله، من أجل ذلك أثنى على نفسه)) [2]. فله الحمد في الأولى والآخرة، لا نحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه. ونشكر هذه النعم بجوارحنا فنؤدّي الفرائض والواجبات، ونبتعد عن المحرمات، ونُصَيّر هذه النعم عونًا لنا على ما يرضي ربنا، ولا نجعل هذه النعم سببًا لأشَرِنَا وبَطَرِنَا وطُغياننا وإعراضنا عن الله، فالذي تفضَّل بهذه النعم قادر أن يسلبها ممن هي بيده إن لم يقُم لها بالحق الواجب؛ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، فإذا غَيَّرَ العبادُ نعمَ الله بأن استعملوها في المعاصي، وصارت سببًا للأَشَر والطغيان والبَطَر، يوشك أن يعاقبهم الله بزوال هذه النعمة. فعياذًا بالله من زوال نعمته، ومن تحوّل عافيته، ومن فَجَآت نِقْمته.
أخي المسلم، تأمّل نِعَمَ الله عليك على الحقيقة، لترى النعم العظمى والمِنَّةَ الكبرى، تأمّل حقًّا هذه النعمة وفكّر دائمًا في هذه النعمة، فإن التفكّر فيها يدعو إلى التذكّر، يدعو إلى القيام بالواجب، يدعو إلى محبّة الله، ويدعو إلى خوف الله، ويدعو إلى تعظيم الله، ويدعو إلى القيام بما أوجب الله.
أخي المسلم، أعظم النِعَم والمِنَّةِ نعمة الإسلام، فلا نعمة تساويها أو تُماثِلها، وقد ذَكَّرَ الله المسلمين هذه النعمة العظمى ليقابلوها بشكر الله، فهدايتك ـ أخي المسلم ـ للإسلام، وكون الله شرح صدرك، أن عرفت الحق فقبلته فعملت به فتلك نعمة كبرى، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22]. قال تعالى مذكِّرًا عباده هذه النعمة: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]. أجل، كانوا قبل الإسلام في ضلال بَيّن الضلالة؛ في عبادة منحرفة وأخلاق فاسدة ومعاملات ظلم وعدوان، يعبدون الأشجار والأحجار، يعبدون الخلائق من دون الله، كانوا في ضلال مبين، كانوا في انحراف في سلوكهم وفي قيمهم وأخلاقهم، كانت نار العداوة مُشْتَعِلَة بينهم، والصراع قائمًا بينهم، والعصبية الجاهلية والظلم والعدوان سائدًا عليهم، كانوا في ذُلٍّ وهوان إلى أن أشرقت نور الإسلام على جزيرة العرب بمبعث محمد ، فأنشأهم الله نشأة أخرى؛ بدَّلَ الضلال هدى، والفقر والفاقة غنى، والفرقة اجتماعًا والتئامًا، والذلّة عزًّا ورِفْعة، فتبدّلت الحالة السيئة بحالة طيبة مباركة، ولذا ذَكَّرَ الله المسلمين في آخر عهد النبي بهذه النعمة أيضًا في يوم موسم الحج فقال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ [البقرة:198]، وإن كنتم من قبل الإسلام لمن الضالين، إن كنتم قبل مبعث محمد لمن الضالين، واليوم هداكم الله لنسككم، واليوم أقمتم شعائر دينكم، واليوم تميزتم عن ماضيكم السيّئ بحاضرٍ مشرق.
أخي المسلم، نعمة الإسلام أكبر النعم، كم ضَلَّ عنها أقوام، وزال عنها أقوام، وأصبحوا كبهيمة الأنعام، بل البهيمة أهدى منهم سبيلا! وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]. فاحمد الله إن كنت مسلمًا، آمنت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا رسولاً، قبلت هذا الدين ورضيت به، وأطعت الله ورسوله، فقل: الحمد لله رب العالمين على هذه النعمة الكبرى.
أخي المسلم، ذَكَّرَ الله الصحابة أيضًا بقوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا [آل عمران:103].
أخي المسلم، نعمة الإسلام ـ بتوفيق الله ـ مآل صاحبها إلى الجنة وإن عُذَّبَ على ما خالف، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]. وأهل الجنة يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
أخي المسلم، يا من مَنَّ الله عليه بقبول فرائض الإسلام، فيسَّر الله له أداء الصلوات الخمس فأدّاها طيّبةً بها نفسُهُ، قارَّةً بها عينُهُ، فرِحًا مسرورًا بأدائها، فاحمد الله على هذه النعمة، وتذكّر قول الله: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:45، 46]، فالخاشعون الموقنون بلقاء الله يؤدون الصلوات الخمس بفرح وسرور، إذا دخل الواحد في الصلاة دخلها وقلبه مطمئن، وروحه في غاية الراحة والاطمئنان، يعلم عِظَمَ الموقف، ويشكر الله أن أعانه، وخلَّصه من وساوس الشيطان وتثبيطه، فأدّاها طاعة لله، ولذا يقول نبينا : ((حُبِّبَ إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعِلَت قُرَّةُ عيني في الصلاة)) [3]. كم من متثاقل عنها! كم من إنسان يسأم الصلاة ولا يريدها! يسمع نداء الله فلا يجيب، ويَمُرُّ بالمسجد فلا يتحرّك له ضمير؛ لأن في قلبه غفلة وإعراضًا عن الله، وأنت قد منَّ الله عليك فأحببت هذه الصلاة، ورغبت فيها، فاشكر الله على هذه النعمة.
أخي المسلم، المال نعمة من الله، والقيام في المال بما يُحب الله هو الخير كله، فمن رُزِق مالاً ووفّقه الله لصرفه في وجوه الخير، وأعانه على تسخيره فيما يرضي الله، فليعلم أنها نعمة من الله، إنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [الأنفال:28]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ [المنافقون:9، 10]. الشاكر لنعمة المال عندما يحل وقت الزكاة يحصي ماله ويخرج زكاته، ويستصغر تلك الزكاة في عظيم ذلك المال الذي وهبه الله له، فيؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، شاكرًا لله أن جعله يدًا تعطي ولم يجعله يدًا تأخذ، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103].
يُقْبِل رمضان فيستبشر به المسلم، ويفرح به، ويصومه طاعة لله، ويتضجّر منه المنافق، ويقلق منه، ويحب أن تنقضي أيامه؛ فهو في سجن في رمضان؛ خوفًا من المسلمين إن أظهر أكله وشربه وتمتّعه في نهار رمضان، فهو يسأم الشهر ويكرهه، أما المسلم فيشكر الله على أن بلّغه رمضان، ويشكر الله أن فرض عليه صيام رمضان.
يؤدي الحج ويشكر الله أن وفّقه لأدائه. إذن فأركان الإسلام يفرح بها، وأركان الإسلام يؤديها، ويشكر الله على ما فرض من الفرائض وشرع من الأحكام.
المسلم ينظر في نفسه، فإن وُفِّقَ لنوافل الصلاة ونوافل الصدقة ونوافل الصوم ونافلة الحج، حمد الله على هذه النعمة أن وفّقه لفعل الخير، وجعل الخير يسيرًا عليه، وإنه ليسير على من يسّره الله عليه.
كم تمضي أوقات أقوام في بَطَالات وجَهَالات، وسَفَه وروايات؟! وكم تمضي أوقات أقوام في ذكر وطاعة لله، وتقرب إلى الله بما يرضيه؟!
أيها المسلم، يا مَن مَنَّ الله عليه فكان لرَحِمِه واصلاً ومتفقّدًا ومحسنًا، فاحمد الله أن بوَّأك هذه المرتبة العُليا، أن جعلك واصلاً لرحمك، تصلهم وتحسن إليهم، وتتحمّل زلاّتهم وأخطاءهم وتقابلها بالإحسان، فتتخذ لك في الجنة درجات يعلو بها شأنك عند رب الأرض والسماوات. وكم من قاطع لرَحِمِه يرى رَحِمَهَ في فقر وفاقة وفي مسكنه وهوان، فلا تطيب نفسه أن يكسوهم أو يعينهم أو يفرج همومهم؟! وأنت قد مَلأ الله قلبك إيمانًا، وجعل فيك رقّة وعطفًا وإحسانًا، تصل الرحم وتحسن إليهم، وتكون فيهم مسؤولاً كبيرًا، يمدّونك بسؤال الله، ويسألون الله لك التوفيق والإعانة، فاحمد الله على هذه النعمة.
أخي المسلم، برّ الوالدين والإحسان إليهما أوجبه الله علينا، فالمسلم يشكر الله على هذه النعمة، ويحمد الله أن أوجب عليه برّ أبويه؛ لأنه يعلم أن البِرَّ رَدُّ بعض شيء من الجميل، فهو يبرّ بأبيه وأمه، وعندما يكبر الأبوان عند ذلك الولد البار المحسن، فيرى نفسه في نعيم في الدنيا، يرى نفسه في نعيم ولذّة؛ أنه يخدم أباه ويحسن إليه، ويتفقد طعامه وشرابه وفراشه وملبسه، وأنه يحسن إليه، ويتمنى ساعة أن يكون خادمًا لأبيه، رادًّا له شيئًا من معروفه. ينظر إلى الأم وقد كبر سنُّها، ورقّ عظمها، وقَلَّ سمعها وبصرها، فهي بأمس حاجة إلى من يرعاها، فيقول: الحمد لله الذي بلّغني برّهما، الحمد لله الذي جعلني أحسن إليهما، الحمد لله الذي قذف في قلبي الرقّة والرحمة بهما. ينظر إلى إخوانه وأخواته الصغار ولاسيما الأيتام، فيحسن إليهم ويرحمهم، ويحمد الله أن وُفِّق لهذا العمل الصالح، فإنّ شُكْر النعمةِ نعمةٌ من الله عليك أيها المسلم.
أخي المسلم، تُعامل الناس، فكم من مُعامِل للناس يضرّهم؟! وكم من مُعامِل لهم يفضحهم؟! وكم من مُعامِل لهم يغشّهم، ويسيء إليهم؟! وأنت تُعامل الناس بصدق، وتعاملهم بالوفاء، صادقًا في حديثك، وافيًا بعهدك، مؤدّيًا لأمانتك، السماحة تعلو عليك، والخلق الكريم يظهر منك، تيسّر على المعسرين فلا تشقّ عليهم، وتيسّر للموسرين فلا تتعبهم، فتعاملك طيّب، وأخلاقك حميدة، ورزق الله تَتْرَا عليك، ونعمه تترادف عليك، فقدّم لله شكرًا على هذه النعمة.
أخي المسلم، كم من أناس ابتُلوا بالدعاوى الكيدية والخصومات بلا حق، لا يهنأ عيشهم حتى يدعوا على هذا وعلى هذا، ولا يرتاحون في نهارهم وليلهم حتى يأتوا بهذا للمحكمة، ويشكوا هذا، ويخاصموا هذا، دعوى مبنية على كيد وظلم وعدوان، لكن يريدون بها إذلال إنسان أو أخذ شيء من ماله بغير حق؟!
كم من أناس لا يُبالون بالأيمان؛ يحلف بالله ولو كاذبًا، لا خَجَل ولا حياء؟! وأنت قد ملأ الله قلبك يقينًا، تُنصف من نفسك، وتؤدّي الحقوق التي عليك، وتحفظ أيمانك، فلا تكون فيها فاجرًا ولا كذّابًا.
كم من أناس خدعتهم الدنيا؛ فشهدوا على الناس ظلمًا وعدوانًا، وأدّوا شهادة زور هم فيها ظالمون وآثمون؟! وأنت تؤدي الشهادة بصدق ويقين، فاحمد الله واشكره على نعمته عليك بالصدق في أقوالك وأعمالك.
أخي المسلم، كم تشاهد من رجال مع نسائهم في قلق وتعب ومشاكل لا تنقضي؟! وأنت مع أهلك في راحة وطمأنينة وتفاهم وتعاون، تؤدي الواجب، وتؤدي امرأتك الواجب، فأنت في سعادة وهناء، فاشكر الله على هذه النعمة، وتأمّل حال من امتلأت بيوتهم شقاقً ونزاعًا، وكلمات بذيئة وسِبابًا... ساءت تربية الآباء وإهمالهم، وأنت قد منّ الله عليك بأولاد ربّيتهم على الخير والهدى، فهم لك مطيعون سامعون، والتعاون بينك وبينهم قائم، عرفت حقهم فعلّمتهم وثقّفتهم، فعرفوا حقوقك فأكرموك وأحسنوا إليك، فتلك نعمة فاشكر الله عليها، واحمد الله على هذه النعمة.
أخي المسلم، كم من أناس إذا جلسوا المجالس استُثْقِلوا في المجلس؟! كلماتهم بذيئة، أهل غيبة ونميمة، أهل كذب وبهتان، يملؤون المجلس بقيل وقال، ويكذبون ويفترون، وقد عافاك الله من هذه الأخلاق الرذيلة، فلست مغتابًا لمسلم، ولا ساعٍ بنميمة، ولا رامٍ أحدًا ببهتان، تذكر عيوب نفسك فتصلحها، وتسعى في إصلاح الآخرين من غير احتقار.
كم من أناس يسخرون بالناس، ويستهزئون بهم؟! يسخر من فقير لأجل فقره، ويسخر بمن ضعف عقله لضعف عقله، ويتمادى في طغيانه وبَطَره، وأنت تحمد الله على هذه النعمة؛ إن رأيت منكرًا قلت: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه به، وفضّلني على كثير ممن خلق تفضيلاً.
كم من أناس ابتلوا بأنواع الأمراض والأسقام في ليلهم ونهارهم؟! فكم يراجعون الأطباء، ويعودون إلى المستشفيات، وأنت في صحة في بدنك وعافية، فاعرف قدر هذه النعمة، واشكر الله عليها، واسأل الله أن يجعل ما أعطاك من عافية في بدنك قوة لك على القيام بما أوجب الله عليك. فاشكروا الله ـ عباد الله ـ على عموم نعمه، واسألوه المزيد من فضله وكرمه.
كم من أناس ابتلوا بخيانة الأمانة؛ إن ائتمنوا على أوقاف ضيّعوها، وأكلوا غَلَّتَها، وإن عُهِد إليهم بوصايا أكلوها، وأنت في نعمة قد منحك الله الأمانة على الأموال التي اؤتمنت عليها، تحترم دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، فاشكر الله على نعمة الأمانة وأداء الواجب، اشكر الله على هذه النعمة، واسأله المزيد من فضله وكرمه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2734) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4634)، ومسلم في التوبة (2760) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، بنحوه.
[3] أخرجه أحمد (12294)، والنسائي في عشرة النساء (3939)، وأبو يعلى (3482)، والضياء في المختارة (1737)، من حديث أنس رضي الله عنه، وجوّد إسناده العراقي، وقواه الذهبي في الميزان (2/177)، وحسنه الحافظ في التلخيص الحبير (3/116).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، الأمن في الأوطان نعمة من أَجَلّ النعَم بعد نعمة الإسلام، ذَكَّرَ الله بها عباده ليعرفوا قدرها وفضلها، قال تعالى مذكّرًا سكّان الحرم: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا [القصص:57]، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4].
إخوتي، أطعمنا الله وسقانا، وأسدى علينا نعمه، فأمّنَنَا في أوطاننا، وجعلنا نتنقل من مكان إلى مكان في نِعَمٍ وسلامة وعافية، فلنشكر على هذه النعمة. أغدق الله علينا النعم، فلنشكر الله على آلائه وفضله ونعمه العظيمة.
أنعم الله علينا فجعل لنا قيادة حكيمة، فيها رعاية لمصالح الأمة ورفق بهم وإحسان إليهم، وبذل الجهود في سبيل راحتهم وتوفير أسباب عيشهم، وتلك نعمة من الله. فكم من أُمم تشقى بقياداتها؟! بقيادة تظلمها وتسلب أموالها ولا تبالي بها، ونحن في هذا البلد المبارك مَنَّ الله علينا بقيادة فيها رحمة ورفق وعطف على هذه الرعية، فجزاهم الله عما قدموا خيرًا، وفي الحديث: ((خير أئمتكم الذين تصلون عليهم ويصلون عليكم، وتحبونهم ويحبونكم)) [1]. أي: تدعون لهم ويدعون لكم، وتبادل الحب فيما بينكم، بذلوا الذي عليهم ومستطاعهم وما بقدرتهم، فليقابل ذلك الأمة بشكر الله والثناء عليه، وأن يسألوا الله لهم التوفيق والسداد والعون على كل خير، ويبارك في أوقاتهم وأعمالهم، فإن الاعتراف بالجميل والشكر على الجميل من النعم العظيمة، وفي الحديث: ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) [2]. فنحن نشكر لولاتنا ما بذلوه من خير، وما سعوا فيه لهذا المجتمع من خير. ونسأل الله لهم المزيد والتوفيق، وأن يعينهم الله على كل خير، وأن يجعلهم رحمة على رعيتهم، وأن يحببهم لرعيتهم، ويحبّب رعيتهم إليهم، ويجمع القلوب على خير ونعمة، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا رحمكم الله...
[1] أخرجه مسلم في كتاب الإمارة (1855) عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه. بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/295)، والبخاري في الأدب المفرد (218)، وأبو داود في الأدب (4811)، والترمذي في البر (195 4 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3407)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1592). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(1/4289)