إنها فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
17/8/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار العدوان اليهودي في فلسطين. 2- كيف أقام اليهود دولتهم؟ 3- قضية فلسطين قضية جميع المسلمين. 4- أسباب هوان الأمة الإسلامية. 5- صبر أبناء فلسطين رغم شدة البلاء. 6- أهمية الجهاد في عزّ الأمة. 7- فلسطين قضية المسلمين الأولى. 8- من أمجاد فلسطين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ولا يزال الإرهاب الصهيوني جُرْح يتدفّق على أرض فلسطين، نعم، قد تأتي أحداث جديدة فيُنسي آخرُها أولَها، لكن ما يحصل هذه الأيام بالذات وفي فترة انشغال العالم بأحداث أخرى فإن مجازر وحشية تُمارس هذه الأيام على أرض فلسطين، لذا كان لا بد من التذكير بهذه القضية، وكلما تجدد الإرهاب اليهودي هناك كان لزامًا على المسلمين في كل مكان أن يعيدوا هم أيضًا طرح قضيتهم كلٌّ في مجاله واختصاصه وبقدر طاقته.
إنها فلسطين أيها الأحبة، نكبة النكبات في زمن التخاذلات، فلسطين التي يدمى جرحها كل يوم، فماذا فعلنا لها؟! وماذا قدمنا من تضحيات؟! وماذا فعلنا وحققنا بالتنازلات؟! حتى عواطفنا تجاه إخواننا هناك ما لبثت أن انكمشت كنار سعفةٍ شبّت ثم انطفأت، أكثر من خمسين سنة من تاريخ صراعنا مع اليهود مع نكبة فلسطين، أكثر من خمسين سنة وفلسطين ومقدساتها تحت نيران احتلال الصهاينة اليهود، أكثر من خمسين سنة وأمتنا من نكبة إلى نكسة ومن تشرذم إلى خلافات، أكثر من خمسين سنة وأمتنا الإسلامية تُنهش من أطرافها وأوساطها، ويستغيث بنا المسلمون ولا مجيب.
أيها المسلمون، كان اليهود شراذم وأقليات في بقاعٍ شتى من العالم، فعزموا على إعادة بناء أنفسهم بجدّية، فأنشؤوا حركة صهيونية تعمل وفق خطة مدروسة واضحة المعالم بوصاية بريطانية وبدعم من قادتهم، واجتمع هدف اليهود والنصارى الذين لم ينسوا الأحزاب وخيبر وبلاط الشهداء وحطين.
إن اليهود رفعوا منذ بدأت معركتهم رايةً واحدة هي راية التوراة، واندفعوا وراء غاية واحدة هي أرض الميعاد، فأسموا دولتهم باسم نبي هو يعقوب عليه السلام أو إسرائيل، وجعلوا دستور دولتهم التوراة، وخاضوا معاركهم خلف الأحبار والحاخامات، وجعلوا لدولتهم بكل توجهاتها شعارًا واحدًا هو نجمة داود، وقبلتهم هيكل سليمان الذي يريدون بناءه مكان المسجد الأقصى كما يزعمون، إنها أكثر من خمسين سنة على قيام دولة يهودية أثبتت كل الشواهد خلالها الفشل الذريع، والهزائم المنكرة، والتراجع المذهل للاتجاه العلماني بأثوابه المتعددة من اشتراكيةٍ وقومية وتقدمية أو بعثية أو رافضية، إنّ الذي هُزم وتراجع أمام اليهودية ليس هو الإسلام، بل مسمّيات أخرى بعيدة عنه مُشوِّهة له، والذي ألقى السلاح وطلب الاستسلام ليس هو الإسلام، بل العلمانية، الإسلام لم يُمَكّن حتى الآن من التصدي لتلك المعركة العقائدية مع اليهود.
أيها الإخوة المؤمنون، بعد كل ذلك هل نستفيد من التاريخ؟ هل نرجع إلى الماضي لنقوّم الحاضر؟ هل لليل فلسطين من آخر؟ وهل لفجرها من موعدٍ؟ إن اليهود بما يملكون من قوى سياسيةٍ أو عسكرية أو اقتصادية أو إعلامية هم أضعف بكثير مما يتصورهم عدد من الناس، لكننا لا نستطيع مواجهتهم والوهن كامنٌ في نفوسنا، والمهابة منزوعة من صدور أعدائنا، وإعلامُهم ونظامُهم ينسج الحقيقة من وجهة نظرهم وحدهم.
إننا لا نستطيع مواجهتهم إلا بالإسلام، وبالإسلام وحده ننتصر بإذن الله، وبالإسلام يتصحّح الخلل وتستمد أسباب النصر ومقوّمات الصمود، فليس الصراع مع اليهود صراعًا موسميًا، بل بدأ صراعنا معهم منذ نبوة محمدٍ ، وجاهر بها أسلافهم بعد ذلك من بني قريظة وقينقاع وبني النضير وعبد الله بن سبأ وميمون القدّاح.
إن قضية فلسطين قضية إسلامية بالدرجة الأولى، وإن الصراع سيستمر، وهو صراع بين الإسلام والتحالف الغربي الصهيوني، والجهاد الذي بدأه الأوائل سيستمر بإذن الله، ويجب أن يعلم المسلمون أن لا ثقة بوعود الغرب ودولة عاد هي راعية السلام المزعومة، وأنه من السذاجة وهزال الرؤية أن نستجدي الغرب ليساعدنا على اليهود أو يوقفهم عن ارتكاب المجازر في حق شعب يعتبرونه همجيًا وإرهابيًا، وإن نكبةً مثل فلسطين لا تسترد بالحلول السهلة أو بالمؤتمرات والخطب فقط أو بالجلوس مع يهود في مفاوضات سلامٍ لا تبحث إلا عن رضا يهود ومصالح يهود، وإن البحث عن حل لهذا الواقع المتردّي هو أول الوسائل للنصر.
أيها المسلمون، لقد هانت هذه الأمة حين ظهر فيها تفرّق الكلمة واختلاف الأغراض وتجاذب الأهواء، لقد برزت فيها الأحقاد، شُغل بعضهم ببعض، انقسموا إلى قوميات، وتفرقوا في دُوَيْلات، لهم في عالم السياسات مذاهب، ولهم في الاقتصاديات مشارب، استولت عليهم الفرقة، ووقعت عليهم الهزيمة، بل نهش بعضهم بعضًا، وسلب بعضهم حقوق بعض، حتى صِيح بهم من كل جانب، فانصرفوا عن قضاياهم الكبرى، واستغل الأعداء الأجواء، وفي هذه الأجواء المظلمة والأحوال القاتمة يزداد الصهاينة في مقدساتنا عُتُوًّا وفسادًا وتقتيلاً وتخريبًا، يريدون في زعمهم أن يبنوا هيكلهم المزعوم على أنقاض ثالث المسجدين، أو أن يُجهضوا انتفاضة الحجر لأطفال فلسطين ورجالها ونسائها، ألا ساء ما يزعمون، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والذلة والصغار والمسكنة لمن؟ غَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ?لْقِرَدَةَ وَ?لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ?لطَّـ?غُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:60].
لقد تبيّن لكلّ ذي لُبّ أن النزاع مع هؤلاء الصهاينة نزاع هوية ومصير وعقيدة ودين، وإن حقوق الأمة لن تُنال بمثل هذا الخَوَر، لقد أوضحت الانتفاضة كما أوضحت البوسنة والشيشان وغيرها من بلاد الله أن الجهاد في سبيل الله هو السبيل الأقوم والطريق الأمثل لأخذ الحق والاعتراف به، وأيقن المسلمون أن راية الدين إذا ارتفعت تصاغرت أمامها كل راية.
إن حقًّا على أهل الإسلام أن تربيهم التجارب والوقائع وتصقلهم الابتلاءات والمحن، وإنّ بلوى نكبة فلسطين وتكرارِ ذكرِها ينبغي أن يكون دافعًا لنا لا محبطًا، محرّكًا للجهود لا جالبًا لليأس من عدم النصر، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون.
ومن الابتلاء ما جَلَبَ عزًّا وخلّد ذكرًا وكتب أجرًا وحفظ حقًّا، كيف تحلو الحياة لمن يضيّع دياره؟! وإذا ضاع الحِمى فهل بعد ذلك من خسارة؟! ولتعلموا أنّ الكفاح في طريق مملوء بالعقبات الكؤود عند أصحاب الحق والكرامة والصرامة ألذّ وأجمل من القعود والتخلّف من أجل راحة ذليلة وحياة حقيرة لا تليق بهمم الرجال، وإن صاحب الحق لا بد له من المدافعة عن حقّه وتهيئة كل أسباب القوة لانتزاع حقّه من أيدي الغاصبين والانتصار لا يتحقق للضعفاء، فلا حلّ إلا بالجهاد ولا بد من الإعداد، وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
أيها المسلمون، إن الشدائد والنوازل التي أصيب بها المسلمون خلال أكثر من خمسين عامًا في فلسطين تستجيش مكنون القوى وكوامن الطاقات، وعندما تدلهمّ الخطوب والأحداث يتميز الغبش من الصفاء، والهلع من الصبر، والثقة من القنوط، وإن التساؤلات التي تفرض نفسها في حال فلسطين ونكبتها لتبين لنا كيف جبنت الهمم وضعفت العزائم وخارت القوى عن تقديم أبسط وسائل النصرة لشعب فلسطين الذي يُقصف صباح مساء على أيدي الصهاينة اليهود، والمسلمون لا يتكلمون، بل علّقوا آمالهم على سلام مُهْتَرِئ يُسمى زورًا وبهتانًا "سلام الشجعان"، أو على مبادرات تؤخر ولا تقدم، وتَعِدُ ولا تُنجز، فأي سلام هذا الذي يهدم البيوت ويزرع المستوطنات ويُشرّد من الديار ويُحاصر الشعوب ويقتل الآلاف وينتهك المقدسات؟! سلامٌ يُلغي الكرامة ويولّي مجرمي الحرب رؤساء ومفاوضين، إنها صورٌ مأساوية للبغي وإرهاب ما بعده إرهاب على شعب فلسطين، يراها العالم بكل فئاته فلا يحرك ساكنًا، حتى الحسّ المسلم تبلّد فما أصبح له أثر، إنهم الإرهابيون المتوحّشون كما يزعم شارون حين يقصِفهم وجنوده في منازلهم وفي طرقاتهم وعلى أسرّتِهم بدعوى مقاومة الإرهاب، وإنما هم أطفال لم يحركوا ساكنًا، والعالم صامت! طفلة ذات الأربعة أشهر يقصفها اليهود بقذيفة تشق صدرها بدعوى مقاومة الإرهاب في فلسطين، بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:9]؟! وهي بطفولتها البريئة في مهد جنازتها إنما تُرينا جُبننا وخَوَرَنا عن نصرة قضية فلسطين ونحن صامتون، لقد ماتت بالسلاح الصهيوني الذي لا زال حتى الآن يهدم البيوت ويقصف الآمنين ونحن عابثون لاهُون عن نصرتهم. إن الله سائلنا ـ ولا شك ـ عما قدّمناه من نصرة لهؤلاء الضعفاء الذين خذلهم القريب قبل البعيد، أين أبسط أدوار المناصرة التي نقدمها إلى فلسطين؟! إنه ليس من عذرٍ لأحد اليوم يرى مقدساته تنتهك ويرى أطفالاً أبرياء يقتلون في أسرهم ويهود متسلّطون، ثم لا يدعم إخوانه هناك ولا يتأثر لمصابهم، بل قد يتلهّى عنهم بأنواع من الملهيات، فأين أُخوّة الإسلام؟! بل أين نخوة عرب وعدنان؟! ألم تروا جنائز الشهداء وتسمعوا بكاء النساء؟!
وفِي المحيا سؤال حائر قلق أين الفداء وأين الحب في الدين
أين الرجولة والأحداث دامية أين الفتوح على أيدي الميامين
ألا نفوس إلى العلياء نافرة توّاقة لجنان الحور والعين
يا غيرتي أين أنتِ أين معذرتِي ما بال صوت المآسي ليس تشجيني
إن الناظر فيما أصاب المسلمين من ابتلاءٍ هذه الأيام يرى اختلافًا في مواقف الناس من صابر ثابت وجَزعٍ خائف ظهر في بعض مسالك أقوام تعلقٌ بغير الله واعتمادٌ على أسباب لا تغني عنهم من الله شيئًا, ومن هنا فحقيقٌ بالأمة أن تعي حالها وتنظر في واقعها لمستقبلها.
أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن هذه الأمة أمةُ جهادٍ ومجاهدة, والجهادُ فيها أرفعُ العبادات أجرًا، عن أبي هريرة قال: قيل للنبي : ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((لا تستطيعونه)) , قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا، وهو يقول: ((لا تستطيعونه)) ، وقال في الثالثة: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفترُ من صيامٍ ولا صلاةٍ حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)) متفق عليه.
أيها المسلمون، إن فريضة الجهاد لا تنتظر تكافؤ العَدَد والعُدّة الظاهرة بين المؤمنين وعددهم سيما اليهودُ الجبناء, فيكفي المؤمنين أن يُعدّوا ما استطاعوا من القوى وأن يتقوا الله ويثقوا بنصره ويثبتوا ويصبروا، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]، وإن الانتصار على النفس وشهواتها والخذلان وآفاته انتصارٌ على الشح والغيظ والذنب, والرجوع إلى الله والالتصاق بركنه الركين فيه النصر على الهزائم والنكبات التي طالت في الأمة, وإن الأعداء ما كانوا أعداء إلا لمخالفتهم أمر الله، فإذا اشترك الفريقان في المعصية والمخالفة فليس هناك مزية، فالمؤمن حين يعادي ويعارك ويجاهدُ فهو إنما يعادي لله ويعارك لله ويجاهدُ في سبيل الله.
أيها الإخوة المؤمنون، إن المأساة أليمة والخطب جسيمٌ، والذي يحدث هو مسؤولية على كل من رآه أو علم به, وإننا ـ والله ـ مسؤولون عن مناظر القتل التي يمارسها يهود على إخواننا في فلسطين, وكثير منا لا يحرك ساكنًا، بل لديهم الوقت لمتابعة مباراة كروية أو حفلات غنائية, والله إننا نخشى أن يصيبنا الله بعقوبة من عنده إن لم نقم بأدنى واجبات النصرة لهم.
أيها المسلمون، إن أسلحة المال والدعاء لها أعظم الأثر ـ بإذن الله ـ في دعم إخواننا المسلمين ودحر اليهودِ الغاصبين, وإنه ليس من عذر لأحدٍ منا اليوم يرى مقدساته تنتهك ويرى أطفالاً أبرياء يقتلون في حِجْر آبائهم ويهود متسلطون، ثم لا يدعم إخوانه هناك أو يتأثر لمصابهم.
فنسأل الله تعالى الفرج لهذه الأمة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد أصبحنا في زمن لا يدري المسلم أيّ الأحداث يتابع وأيّ المآسي يعطيها الأولوية، نعم هناك جراحات في هذه الأيام تفتّت كبد الحجر قبل الإنسان، ويجد المسلم مضطرًا أن يتابعها أولاً بأول، لكن لا ننسى ولا يجوز لنا أن ننسى مصيبتنا الأولى فلسطين، والتي من أجلها ذرفت عيون، ومن أجلها شد الرجال عزائم الأبطال، وأحيوا في نفوسهم الحماسة والنضال.
إنها فلسطين، أرض القدس أولى القبلتين وثالث المسجدين ومسرى نبينا.
إنها فلسطين، الأرض المباركة بنص كتاب الله، قال الله تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلًا مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وقال عز وجل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ?لْقُرَى ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـ?هِرَةً [سبأ:18]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس).
إنها فلسطين، أرض الأنبياء والمرسلين، فعلى أرضها عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وداود وسليمان وصالح وزكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة وأتم السلام.
إنها فلسطين التي تبسط عليها الملائكة أجنحتها، فعن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله يقول: ((يا طوبى للشام، يا طوبى للشام)) ، قالوا: يا رسول الله، وبم ذلك؟ قال: ((تلك الملائكة باسطة أجنحتها على الشام)) حديث صحيح.
إنها فلسطين، أرض المحشر والمنشر، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي قالت: يا نبي الله، أفتنا في بيت المقدس، قال: ((أرض المحشر والمنشر)).
إنها فلسطين، موئل الطائفة المنصورة الثابتة على الحق، فعن أبي أمامة عن النبي قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) رواه الإمام أحمد.
إنها فلسطين، مصرع الدجّال ومقتله، حيث يلقاه عيسى عليه السلام عند باب لُدّ فيذوب كما يذوب الملح في الماء، فيقول له: إن لي فيك ضربة لن تفوتني، فيضربه فيقتله. رواه مسلم.
إنها فلسطين، موطن الكثير من صحابة رسول الله ، فقد عاش على أرضها عبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأسامة بن زيد بن حارثة وواثلة بن الأسقع وفيروز الديلمي ودحية الكلبي وعبد الرحمن الأشعري وأوس بن الصامت ومسعود بن أوس وغيرهم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
إنها فلسطين، موطن الآلاف من أعلام الأمة وعلمائها الذي أضاؤوا في سمائها بدورًا، ولمعوا فيها نجومًا، كمالك بن دينار والأوزاعي وسفيان الثوري وابن شهاب الزهري والشافعي وابن قدامة المقدسي وغيرهم.
نعم، هذه هي فلسطين بعَبَقِها وتاريخها، بخيراتها وبركاتها وفضائلها، بشموخها وكبريائها، هذه هي فلسطين بجمالها الساحر وحسنها الفتّان:
أقول والقلب يشدو في خَمائلها هذا الجمال إلى الفردوس ينتسب
يا للجبال إذا ما زُيّنت وعلى سفوحها غَرّد الزيتون والعنب
يا للربَى والمروج الخضر مصبحة والورد من كل لون منظر عَجَب
هنا السموات بالأرض التقين وقد عمّ السرور جميع الكون والطرب
هذي فلسطين يا من ليس يعرفها كأن أحجارها القدسية الشهبُ
نعم، هذه فلسطين يا عباد الله، ما أحببناها لترابها ولا لجبالها، ولكن لبركاتها وخيراتها، ولما لها ولمسجدها الأقصى من مكانة في ديننا.
إنها فلسطين أيها الأحبة، شدّ الأبطال عزائمهم، وأسرجوا خيولهم، وطاروا يسابقون الريح.
إنها فلسطين، أراق الشهداء دماءهم، وبذلوا أرواحهم رخيصة لأجلها.
كم سجّل التاريخ من مواقف عظيمة لأبطال عظماء هبّوا دفاعًا عن فلسطين، وبذلوا كل غالٍ ونفيس. لقد سار إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على بعير يعتقب عليه هو وغلام له، حتى إذ اعترضته مخاضة نزل من بعيره فنزع خفّه وخاض في الماء، ثم لما وصل إلى بيت المقدس صلّى في محراب داود عليه السلام وترنّم بسورة الإسراء.
إنها فلسطين، امتنع الملك البطل نور الدين زنكي عن التبسّم، وقال: أستحي من الله أن أتبسّم وبيت المقدس في الأسر، فوقف هذا الملك الفذّ على تلّ وسجد لله، ومرّغ وجهه في التراب، ودعا ربه وقال: "اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودًا"، ثم لقي الصليبيين الذين استولوا على بيت المقدس لقيهم بثلاثين ألفًا وهم أزيد من مائة وخمسين ألفًا فكسرهم، وقتل منهم عشرة آلاف، وأسر عشرة آلاف.
إنها فلسطين، شَمَخَ صلاحُ الدين برأسه، وشَحَذَ سيفه وأعدّ عُدّته ليُخرج الصليبيين من أرض الأقصى، كان في بيت المقدس نحوًا من ستين ألف مقاتل صليبيّ، كلهم يرى الموت أهون عليه من تسليمها، فجهّز صلاح الدين جيشه الذي لا يزيد عن اثني عشر ألف مقاتل، وجابه به جيوش الفرنجة التي تجاوز عددها ثلاثة وستين ألف مقاتل، والتقى الفريقان على أرض حِطّين، وحصر المسلمون الصليبيين، وأحرقوا الحشائش الجافة من حولهم ومن تحتهم، فاجتمع عليهم حرّ الشمس وحرّ العطش وحرّ النار وحرّ السلاح، ثم أمر صلاح الدين بالحملة الصاعقة فمنح الله المسلمين أكتاف الفرنج، فقتلوا منهم ثلاثين ألفًا، وأسروا ثلاثين ألفًا، وبِيع الأسير الصليبي يومئذ بدرهم، بل باع مسلمٌ أسيرًا صليبيًا بنعلين، فقيل له: ما أردت بذلك؟ قال أردت أن يكتب التاريخ هوانهم وأن أحدهم بِيع بنعلين، وقد كتب التاريخ ذلك.
إنها فلسطين، جَرّد العملاق مُظفّر قُطْز سلاحه، ووقف على عَيْن جالُوت ليصدّ عن فلسطين ومصر طوفان التتار الهادر، لقد بعث له هولاكو وهو في الأشهر الأولى من ملكه رسالة يقول له فيها: "اتعظوا بغيركم، فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكا، أي أرض تؤويكم؟! وأي طريق تنجيكم؟! وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا من خلاص، ومن مهابتنا مناص، الحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تَنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع"، قرأ قُطْز هذه الرسالة العاصفة، ثم ألقى ببصره ناحية القدس، وفي رمضان من عام 658هـ اصطدم الجبلان في عَيْن جالُوت شمالي شرق فلسطين، وصاح قُطْز صيحته الشهيرة: "وا إسلاماه"، فانتفض الجند المسلمون، ومنح الله للمسلمين أكتاف الكافرين، وترجّل قُطْز عن فرسه، ومرّغ وجهه في التراب شكرًا لله.
إنها فلسطين، ضحّى السلطان عبد الحميد بعرشه وملكه، وصَكّ سمعَ هِرْتزِل بكلماته المدوّية: "لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدًا من فلسطين؛ لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بدمائهم، وسوف نغطّيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها".
إنها فلسطين، وقف الشيخ يوسف الجرّار شيخ الجبل رحمه الله أمام حملات الفرنسيين، وتمكّن وحده مع قلّة من جنده أن يدوّخ نابليون القائد الشهير الأسطوري الذي دوّخ العالم، واستطاع هذا الشيخ بمن معه أن يصدّ جيوشه عن عكّا ومن ثمّ عن فلسطين، وأن يبخّر أحلامه بتأسيس إمبراطورية تمتد من مصر والشام وصحاري الجزيرة إلى العراق وإيران والهند. وقد بلغ الغيظ بنابليون من هزيمته أمام الشيخ يوسف أن وقف بجوار سور عكّا، وقذف بخوذته إلى الأعلى وقال: "إن لم أدخل أنا فلتدخل خوذتي".
إنها فلسطين، قام الشيخ المجاهد عزّ الدين القسّام ليكون شوكة في حلوق أبناء القردة والخنازير، قام بإمكاناته المتواضعة وعُدده اليسيرة ليجابه مدافع اليهود ورشاشاتهم وقنابلهم، لقد باع بيته الوحيد في حَيْفا، وباع حُليّ زوجته وبعض أثاث بيته ليوفّر الرصاص والبنادق، وتمكّن القسّام من أن يقضّ مضاجع اليهود سبع سنوات كاملات إلى أن بذل روحه بعد معركة دامية.
نعم يا فلسطين، من أجلِكِ نهض هؤلاء.
فِدى لِعينيك رِبّيون ما وهنوا تُجدّدين بهم أيامَكِ الأُوَلا
خُضر الطيور هم العليا منازلُهم كلٌ يغرّد فِي قنديله جَذِلا
أيها المسلمون، واليوم انتفض أبناء الحجارة يحملون حصى أرضهم وترابها ليرموا بها وجوه الدخلاء الغاصبين، لقد نطقت حجارتهم حين أُخرست المدافع، ووقّعوا بدمائهم شهادة ميلاد جيل جديد لا يؤمن بالخوف ولا يعترف بالعجز ولا يرضى بالهوان، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولاً، وهو يوم قادم بإذن الله تعالى، نقول ذلك تحقيقًا لا تعليقًا.
اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين...
(1/4107)
المرأة تحرير أم تدمير (1)
الأسرة والمجتمع
المرأة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/12/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محاولات الأعداء المستمرة لهدم الدين. 2- وسائل الأعداء في إفساد الأمة. 3- لماذا الهجوم على المرأة؟ 4- منزلة المرأة في الإسلام. 5- حقيقة دعاوى تحرير المرأة. 6- تاريخ قضية تحرير المرأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن أعداء الإسلام منذ بزوغ شمسه وظهوره وانتشار ضيائه وجماله وسنائه وهيمنته على الأديان كلها ما فتئوا يكيدون للإسلام وأهله ويتربصون بهم الدوائر، كما قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]. وإن أعداء الإسلام سلكوا مسالك شتى لضرب الإسلام وعرقلة انتشاره وظهوره, ولكن ـ لعَمْرو الله ـ من يردّ السيل إذا هدر؟! أم ـ لعَمْرو الله ـ من يردّ على الله القدر؟! جرّب هؤلاء الأعداء أبوابًا كثيرة ومسالك خطيرة في تشويه الإسلام وتقويض حصونه من الداخل، لكن ليس العجيب أنهم يخططون لضرب الإسلام وشلّ حركته، ولكن العجب العجاب أن تنطلي دعواتهم ودعايتهم وكلامهم المعسول المسموم على السذّج والبسطاء من أبناء المسلمين، فيصبحون من أنصار هذه الدعوة، ومن الداعين إليها والمنافحين عنها والناشدين لأمرها، من حيث يشاؤون أو لا يشاؤون.
لقد تمكّن أعداء الإسلام من هزّ كيان هذه الأمة وزعزعة حصونها، وأن ينفذوا مخطّطًا مجرمًا لتدمير الأمة الإسلامية، وذلك من خلال بابين خطيرين، ألا وهما: باب العقيدة، وباب الأسرة، وإن شئت فقل: باب المرأة المسلمة.
أما الباب الأول: فقد استطاع الأعداء أن ينشئوا مذاهب منحرفة وعقائد باطلة، ويدسوها في أصل ديننا، حتى أفسدت عقائد الكثيرين من أبناء المسلمين، فافترقوا فرقًا، وصاروا شيعًا وأحزابًا، يكفر بعضهم بعضًا، ويضرب بعضهم رقاب بعض، وسلط هؤلاء الأعداء على نصوص الوحيين التأويلاتِ الباطلة حتى فسد الدين فسادًا, ولولا أن الله سبحانه تكفل بحفظه وأقام له حُرّاسًا ووكّلهم بحمايته من تأويل الجاهلين وانتحال المبطلين لجرى عليه ما جرى على الأديان السالفة, ولكن الله برحمته وعنايته بهذه الأمة يبعث لها عند دروس السُّنَّة وظهور البدعة من يجدّد دينها، ولا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته.
وأما الباب الثاني: فهو باب المرأة المسلمة. لم تعد جهة معينة هي التي تتحدث عن المرأة وتهتم بشؤونها، فأصحاب تيار الرذيلة والانحراف لهم نصيب في نسف الحياة الطيبة التي تعيشها المرأة المسلمة في ظل دينها وإسلامها، ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها أصبحت توجه المرأة، بل غدت المنظمات الدولية والمؤسسات الحقوقية تتسابق في توجيه المرأة بشكل عام والمرأة المسلمة بشكل خاص، وتقوم بتعريفها بمسؤولياتها وواجباتها، وتتباكى على حالها.
إن هناك حربًا ضروسًا لا هوادة فيها ضد المرأة، هذه الحرب موجهة ـ ومنذ زمن ليس بالقريب ـ لتحطيم هذا الحصن وهذا الكيان وهي المرأة، وإن لم نكن جميعًا بمستوى هذه الحرب فالخسارة من الذي يتحملها؟ أنا وأنت، وستنجرف في الهاوية أختي وأختُك وبنتي وبنتُك.
لقد علم أعداء الشريعة وخصوم الملة المركز الحساس الذي تحتله المرأة في هذا الدين، فهم يعلمون أن المرأة المسلمة هي أم المستقبل ومربية الليوث القادمة والحصن المنيع ضد تيارات الفساد والتدمير، بل يعلمون أنها نموذج الصبر والتضحية، وأنها قبس في البيوت مضيء وجوهرة تتلألأ، ويعلمون جيدًا تلك الحدود والضوابط التي وضعها الله جل جلاله في كل ما يتعلق بشؤون المرأة، من لباسها وخمارها وجلبابها وكلامها ومشيتها وطريقة عبادتها وكيفية دخولها وخروجها، كل هذا حفاظًا عليها من عبث ذئاب البشر بها، وأيضًا حفاظًا وحماية للمجتمع المسلم أن يتردى في مهاوي الرذيلة.
فبدأ هؤلاء المنتكسون منذ زمن بعيد والتي قد آتت أكلها في الآونة الأخيرة، بدؤوا في محاولة تغيير نظرة الناس والمجتمع بشكل عام والمرأة بشكل خاص؛ لأنها هي المعنية في هذه الضوابط التي جاء بها الإسلام، وبمعنى مختصر: تغيير دين الناس من الإسلام إلى ما يحاولون إقناع الناس به بما يسمونه الإسلام المتحضر أو الإسلام المَرِن الذي يقبل كل ما يأتي من الغرب، خصوصًا فيما يتعلق بشؤون المرأة، لكن حسب تقاليدهم وضوابطهم الشرعية ـ زعموا ـ، واستخدموا في سبيل تحقيق ذلك آلاف المقالات ومئات الندوات والمحاضرات بطرح ممجوج، وساعد هذا التيار ما يصنعونه هم بأيدهم عن طريق الإعلام من مسلسلات وأفلام تخدم هذا التيار وهذا التوجه.
فالمرأة والرجل بل المجتمع بأسره إذا نظر في الشاشة أو سمع في المذياع أو قرأ في مجلة أو جريدة فيما يتعلق بموضوع المرأة لا يرى ولا يسمع ولا يقرأ إلاّ تلك النداءات المتكررة من إخراج المرأة من بيتها، بحجة الدراسة والوظيفة، وما الدراسة أرادوا، ولا الوظيفة قصدوا، لكن وراء الأكمة ما وراءها.
لم تعرف البشريةُ دينًا ولا حضارةً عُنيت بالمرأة أجملَ عناية وأتمَّ رعايةٍ وأكملَ اهتمام كالإسلام. تحدَّث عن المرأة، وأكّد على مكانتها وعِظم منزلتها، جعلها مرفوعةَ الرأس، عاليةَ المكانة، مرموقةَ القدْر، لها في الإسلام الاعتبارُ الأسمى والمقامُ الأعلى، تتمتّع بشخصيةٍ محترمة وحقوقٍ مقرّرة وواجبات معتبرة. نظر إليها على أنها شقيقةُ الرجل، خُلِقا من أصل واحد، ليسعدَ كلٌّ بالآخر، ويأنس به في هذه الحياة، في محيط خيرٍ وصلاح وسعادة، قال : ((إنما النساء شقائق الرجال)).
المرأةُ في تعاليم الإسلام كالرجل في المطالبة بالتكاليف الشرعية، وفيما يترتّب عليها من جزاءات وعقوبات، وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124]. هي كالرجل في حمل الأمانة في مجال الشؤون كلها إلا ما اقتضت الضرورةُ البشرية والطبيعة الجِبليّة التفريقَ فيه، وهذا هو مقتضى مبدأ التكريم في الإسلام لبني الإنسان، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
لقد أشاد الإسلام بفضل المرأة، ورفع شأنَها، وعدَّها نعمةً عظيمةً وهِبةً كريمة، يجب مراعاتها وإكرامُها وإعزازها، يقول المولى جل وعلا: لِلَّهِ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـ?ثًا [الشورى:49، 50]، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((من كان له أنثى فلم يئدها ولم يُهنها ولم يؤثر ولده عليها أدخله الله الجنة)).
المرأةُ في ظل تعاليم الإسلام القويمة وتوجيهاتِه الحكيمة تعيش حياةً كريمة في مجتمعها المسلم، حياةً مِلؤها الحفاوةُ والتكريم من أوَّل يوم تقدُم فيه إلى هذه الحياة، ومُرورًا بكل حال من أحوال حياتها.
رعى حقَّها طفلةً، وحثَّ على الإحسان إليها، ففي صحيح مسلم من حديث أنس أن النبي قال: ((من عال جاريتين حتى تبلُغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين)) وضمّ أصابعه، وفي مسلم أيضًا أن النبي قال: ((من كان له ثلاث بنات وصبر عليهن وكساهن من جِدته كُنّ له حجابًا من النار)).
رعى الإسلام حقَّ المرأة أمًّا، فدعا إلى إكرامها إكرامًا خاصًّا، وحثَّ على العناية بها، وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [الإسراء:23]، بل جعل حقَّ الأمّ في البرّ آكد من حقِّ الوالد، جاء رجل إلى نبينا فقال: يا رسول الله، من أبرّ؟ قال: ((أمّك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أمّك)) ، قال: ثم من؟ قال: ((أبوك)) متفق عليه.
رعى الإسلامُ حقَّ المرأة زوجةً، وجعل لها حقوقًا عظيمة على زوجها، من المعاشرة بالمعروف والإحسان والرفق بها والإكرام، قال : ((ألا واستوصوا بالنساء خيرًا، فإنهن عوان عندكم)) متفق عليه، وفي حديث آخر أنه قال: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خياركم لنسائه)).
رعى الإسلامُ حقَّ المرأة أختًا وعمَّةً وخالةً، فعند الترمذي وأبي داود: ((ولا يكون لأحد ثلاثُ بنات أو أخوات فيُحسن إليهنّ إلا دخل الجنة)).
وفي حال كونِها أجنبيةً فقد حثَّ على عونها ومساعدتها ورعايتها، ففي الصحيحين: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو كالقائم الذي لا يفتُر، أو كالصائم الذي لا يفطِر)).
للمرأة في الإسلام حريةٌ تامة في مناحي الاقتصاد كالرجل سواءً بسواء، هي أهلٌ للتكسُّب بأشكاله المشروعة وطرقه المباحة، تتمتّع بحرية التصرف في أموالها وممتلكاتها، لا وصايةَ لأحدٍ عليها مهما كان وأينما كان، وَ?بْتَلُواْ ?لْيَتَـ?مَى? حَتَّى? إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ فَإِنْ ءانَسْتُمْ مّنْهُمْ رُشْدًا فَ?دْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْو?لَهُمْ [النساء:6].
بل إن الإسلامَ يفرض للمرأة من حيث هي ما يسمَّى بمبدأ الأمن الاقتصادي مما لم يسبق له مثيلٌ ولا يجاريه بديل، حينما كفل للمرأة النفقةَ أمًّا أو بنتًا أو أختًا أو زوجةً وحتى أجنبية؛ لتتفرّغ لرسالتها الأسمى وهي فارغةُ البال من هموم العيش ونصب الكدح والتكسُّب.
هذه بعضُ مظاهر التكريم للمرأة في الإسلام، وذلك غيْضٌ من فيض وقطرةٌ من بحر.
وعلى الرغم من أن الإسلام احترم المرأة وأعلى مكانتها وأعطاها من الحقوق ما يليق بخلقتها وبقدرتها، كيف لا والمشرع هو خالقها؟! أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]. لكن أعداء الإسلام من اليهود وأذنابهم والنصارى ومقلديهم ومحبيهم والعلمانيين الحاقدين لا يروق لهم وضعُ المرأة في الإسلام، فهم لمّا علموا وأيقنوا أنهم لن يستطيعوا ضرب الإسلام وتقويض حصونه من الداخل إلا بإخراج المرأة من بيتها بل إخراجها عن طبيعتها وأصل خلقتها ـ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِى ?لْحِلْيَةِ وَهُوَ فِى ?لْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18] ـ أرادوها أن تزاحم الرجل في كل ميادين الحياة ولا بد, فلا بد أن تزاحم الرجل في تجارته وفي عمله وفي صناعته وفي وظيفته، بل حتى في سيارته وتنقله.
ما كان لهؤلاء الحاقدين أن يدخلوا على الناس في بيوتهم ويخرجوا بناتهم ونساءهم, ولكنهم بمخططهم الماكر افتعلوا قضية أسموها "تحرير المرأة"؛ ليوحوا للمرأة أن لها قضيةً تحتاج إلى نقاش وتستدعي الانتصار لها أو الدفاع عن حقها المسلوب، ولذلك يكثرون الطنطنة في وسائل كثيرة ومختلفة على هذا الوتر, بأن المرأة في مجتمعاتنا تعاني ما تعاني، وأنها مظلومة، وشقٌّ معطل، ورئة مهملة، ولا تنال حقوقها كاملة، وأن الرجل قد استأثر دونها بكل شيء... وهكذا؛ ليشعروا الناس بوجود قضيةٍ للمرأة في مجتمعنا, هي عند التأمل لا وجود لها.
يقال لهؤلاء الناعقين: أي حريّة للمرأة تريدون؟! أتريدونها أن تكون ألعوبة في يد القاصي والداني، أم تريدونها أن تكون ورقةً مبذولةً تطؤها الأقدام وتمزقها الأيدي, بعد أن كانت جوهرةً مصونةً لا يكاد يرى أحد منها شيئًا من غير محارمها إلا بعقد صحيح؟! أيّ حرية في أن تكون المرأة مع الرجل جنبًا إلى جنب في كل شيء حتى في مصنعه وهندسته؟! عجبًا ثم عجبًا!
يقول سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "فلا يخفى على كل من له معرفةٌ ما عمت به البلوى في كثير من البلدان من تبرج الكثير من النساء وسفورهن وعدم تحجبهن من الرجال وإبداء الكثير من زينتهن التي حرم الله عليهن إبداءها، ولا شك أن ذلك من المنكرات العظيمة والمعاصي الظاهرة ومن أسباب حلول العقوبات ونزول النقمات؛ لما يترتب على التبرج والسفور من ظهور الفواحش وارتكاب الجرائم وقلة الحياء وعموم الفساد"، ثم يقول رحمه الله: "فاتقوا الله أيها المسلمون، وخذوا على أيدي سفهائكم، وامنعوا نساءكم مما حرم الله عليهن، وألزموهن التحجب والتستر، واحذروا غضب الله سبحانه وعظيم عقوبته، فقد صح عن النبي أنه قال: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشَكَ أن يعمهم الله بعقابه)) ".
ويقول رحمه الله رادًّا على دعاة الاختلاط ونزع الحجاب: "إن ثمرات الاختلاط مُرة, وعواقبه وخيمة, رغم مصادمته للنصوص الشرعية التي تأمر المرأة بالقرار في بيتها والقيام بالأعمال التي تخصها في بيتها ونحوه، ومن أراد أن يعرف عن كثب ما جناه الاختلاط من المفاسد التي لا تحصى فلينظر إلى تلك المجتمعات التي وقعت في هذا البلاء العظيم بإنصافٍ من نفسه وتجرد للحق عما عداه، فسيجد التحسر على انفلات المرأة من بيتها وتفكك الأسر" اهـ.
لقد طفت على سطح الماء فقاقيع المتغربين، واعتلت المنابر الإعلامية وجوهٌ مشبوهة وألسنةٌ مسعورة، تم اختيارها بدقةٍ وعناية، ثم دُفع بها إلى حلبة الإعلام، وأعطيت قلمًا حبره السم، ليؤدي دوره المرسوم سلفًا خدمةً للعديد من تيارات التدخل الدولي أو التبعية المحلية، وسعى سعيًا حثيثًا دائبًا لتقليص مساحة هيمنة الإسلام على الحياة وتخطيطه لها وتفريغه من مضمونه الرباني الشامل.
هكذا ينبغي علينا أن نفهم مصطلح "تحرير المرأة"، إنها حرب على الإسلام، لكن هذه المرّة من خلال بوابة المرأة.
إن المرأة تواجه تحديات كثيرة في هذا الواقع المرّ، وتواجه صراعات متعددة الأطراف، فأنت لا تدري هل تحميها من ذئاب الإعلام، أم تحافظ عليها من فساد الشارع والسوق، أم تحذرها من أدعياء التقدم ورافعي رايات التغريب، أم ماذا تقول لها في هذا الوقت العصيب؟!
إن هؤلاء المسعورين من العلمانيين والمستغربين ومن سار في فلكهم ممن يتباكون على وضع المرأة هم أعداء المرأة حقًا، إنهم يتسللون بأفكارهم التحررية ودعوتهم للانحلال من خلال قضايا شرعية يحاولون أن يجعلوها مجال نقاشٍ وأخذٍ ورد، فلم يعد خافيًا على أحد ما تشهده مجتمعات المسلمين اليوم من حملة محمومة من الذين يتبعون الشهوات على حجاب المرأة وحيائها وقرارها في بيتها، حيث ضاق عطنهم، وأخرجوا مكنونهم، ونفذوا كثيرًا من مخططاتهم في كثير من مجتمعات المسلمين؛ وذلك في غفلة وقلة إنكار من أهل العلم والصالحين، فأصبح الكثير من هذه المجتمعات تعج بالسفور والاختلاط والفساد المستطير مما أفسد الأعراض والأخلاق، وبقيت بقية من بلدان المسلمين لا زال فيها ـ والحمد لله ـ يقظة من أهل العلم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حالت بين دعاة السفور وبين كثير مما يرومون إليه. وهذه سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل والمدافعة بين المصلحين والمفسدين.
ومن كيد المفسدين في مثل المجتمعات المحافظة مع وجود أهل العلم والغيرة أن أولئك المفسدين لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة، ولكنهم يتسترون وراء الدين، ويُلبِسون باطلهم بالحق واتباع ما تشابه منه، وهذا شأن أهل الزيغ كما وصفهم الله عز وجل في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران:7]، وهم أول من يعلم أن فساد أي مجتمع إنما يبدأ بإفساد المرأة واختلاطها بالرجال، ولو تأملنا في التاريخ لوجدنا أن أول ما دخل الفساد على أية أمة فإنما هو من باب الفتنة بالنساء، وقد ثبت عن النبي قوله: ((ما تركت فتنة هي أضر على الرجال من النساء)) ، وهذه حقيقة لا يماري فيها أحد، وملل الكفر أول من يعرف هذه الحقيقة؛ حيث إنهم من باب الفتنة بالنساء دخلوا على كثير من مجتمعات المسلمين، وأفسدوها، وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم في ذلك المهزومون من بني جلدتنا ممن رضعوا من ألبان الغرب وأفكاره، ولكن لأنهم يعيشون في بيئة مسلمة ولا زال لأهل العلم والغيرة حضورهم فإنهم لا يتجرؤون على طرح مطالبهم التغريبية بشكل صريح؛ لعلمهم بطبيعة تديُّن الناس ورفضهم لطروحاتهم وخوفهم من الافتضاح بين الناس، ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع وإخراج مطالبهم في قوالب إسلامية، وما فتئوا يلبسون الحق بالباطل. نسأل الله تعالى أن يكفينا شرهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: بدأ مسلسل ما يسمى حركة تحرير المرأة قبل مائة عام، أي في عام ألف وثمانمائة وتسع وتسعين للميلاد، حين خرج كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين الذي دعا فيه المرأة إلى السفور ونبذ الحجاب واختلاطها بالرجال، ولم يكن في ذلك الوقت في مصر امرأة تختلط بالرجال سوى امرأة واحدة هي "ناظلي فاضل" حفيدة محمد علي باشا، وفي تركيا دعا "أحمد رضا" عام ألف وتسعمائة وثمانية للميلاد، أي: قبل تسعين سنة إلى إفساد المرأة حيث قال ما نصه: "ما دام الرجل التركي لا يقدر أن يمشي علنًا مع المرأة في تركيا وهي سافرة الوجه فلا أعد في تركيا دستورًا ولا حرية".
هكذا دعا هذا الأثيم إلى سفور المرأة قبل تسعين عامًا تقريبًا، ولكن انظروا ماذا يحدث الآن في تركيا حيث وصل الحال إلى إنشاء المراقص وبيوت البغاء وكل أنواع الشرور كما هو مشاهد ومعلوم في تلك البلاد، نسأل الله أن يحمي بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه.
إن كثيرًا من الكتابات التي نطالعها على صفحات الجرائد إنما هي نسخة مستلة من دعوة قاسم أمين، وهي طبق الأصل من كتاباته وأفكاره هو وأضرابه من دعاة السفور والاختلاط.
لقد تآمروا على المرأة بالوظيفة، وقالوا: يجب أن تعمل المرأة. إن عمل المرأة بالصورة التي ينادون بها له من المفاسد الشيء الكثير من إهمال الأسرة وتمزيق أركانها وتضييع النشء وإفساد الأولاد وكثرة حالات الطلاق وكثرة حالات العنوسة في المجتمع وتحديد النسل، إذ إن المرأة العاملة تضطر لإيقاف الإنجاب مراعاةً للوظيفة، والتضييق على الرجل في الحصول على الوظيفة، وهذا مشاهد ملموس، بل الواقع يشير إلى بداية ظهور البطالة في المجتمع في أوساط الرجال، والرجل مطالب بالعمل لكونه مطالب بالنفقة على المرأة. ومن ذلك كثرة السائقين والخادمات والمربيات. ومن ذلك ما تحدثه من أثر نفسي على الأطفال نتيجة تنشئتهم في دور الحضانة. ومنها أنه لا عائد مادي من عمل المرأة؛ إذ إنه سيصرف في تبعات ذلك من خادمة أو مربية أو سائق وسيارة وغيرها من المصاريف.
وبالجملة فمن أراد أن يعرف آثار عمل المرأة بالصورة التي ينادي بها العلمانيون فلينظر إلى المجتمعات التي سبقت إلى مثل هذا العمل، وما حل بها من فساد وانحراف يوجب على العقلاء السعي لكف هذا الشر عن المسلمين، ويتعين على الجميع بذل الجهود لحفظ المجتمع وصيانة الأمة من خلال السعي على الحفاظ على خصوصية تعليم المرأة وعملها.
إن الذين يتباكون على وضع المرأة يريدونها أن تكون كالمرأة الغربية، ويصرحون بأن هذا هو طريق خلاصها، هل خلاصها أن تكون غانيةً في سوق الملذات والشهوات يستمتع بها الرجل ويستبد من طلوع الشمس إلى غروبها ومن غروبها إلى طلوعها في دور الأزياء وقاعات السينما وشاشات التلفاز وصالات المسارح وشواطئ البحار والأنهار وبيوت اللهو والدعارة وأغلفة المجلات والصحف السيارة، بل حتى في ردهات مستشفياتهم وملاحاتهم الجوية؟! ونستحي أن نقول: في دور التعليم ومحاضن التربية، هل هذا هو سبيل الخلاص من القهر الذي ينشدون والعنف الذي يقولون!!
إنها البيوت الخربة والمسؤولية الضائعة حين ألقاها الرجل الغربي عن كاهله فوقعت نساؤهم حيث وقعت، إهمالٌ وتنصلٌ من مسؤولية الإنجاب والتربية، فأصبح ذكرهم وأنثاهم لنفسه لا لأمته، للذّاته لا لكرامته، فالفساد في مجتمعاتهم يستشري، والخراب إلى ديارهم يسري.
لماذا لم نسمع الغرب يتحدث عن المرأة المقهورة المعذّبة، المرأة المشرّدة، المرأة المغتصبة من إفرازات حروب أنشؤوها وكوارث أثاروها، من الظلم العالمي والفقر المتدني في شعوب تنتسب إلى الأمم المتحدة؟! ما حال أمهاتنا وأخواتنا وبناتنا في فلسطين وكشمير والبوسنة والشيشان وأفغانستان وإرتريا والصومال والعراق؟! إن وثائقهم لا تكاد تعير هذا اهتمامًا في مقابل احتفائها واحتضانها للشاذات والبغايا والمومسات والمصابين والمصابات بكل ألوان أمراض الجنس الفتاكة. إنهم لا يعرفون الرحم ولا التراحم، ولا يعرفون البر ولا الفطرة، أي خيانة أكبر من خيانة إهمال النشء وإهلاك النسل؟!
إنهم يعلمون ولكنهم قومٌ بهت، إنهم يعلمون أن السكينة والطمأنينة لا تكون إلاّ في بيوت مستقرة، في ظلال أسرة حانية بنساؤها ورجالها وأطفالها وصباياها، أما الهمل والضياع في الأزقة والأرصفة وزوايا الوجبات السريعة فلا تبني أمة ولا تجلب طمأنينة، بل إن حياة الطيور في أعشاشها والسباع في أكنّتها خير وأصلح من هذا الهمل الضائع.
إن الغرب وأبواقه لن يرضوا إلاّ أن يروا مجتمعاتنا الطاهرة الطيبة وقد انزلقت في وبائه ورجسه، بل إن هناك إصرارًا من الغرب ورجاله ومؤتمراته ولجانه ليصهر الشعوب في عاداته وتقاليده، احتكارٌ وقهرٌ ليجعل هذا السلوك الممقوت مقياس التقدم ورمز الحضارة.
أما نحن أهل الإسلام فنأرِز إلى إيماننا، ونطمئن إلى كتاب ربنا، فقد خاطبنا رجالَنا ونساءنا في التكاليف والمسؤولية: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:71، 72].
(1/4108)
المرأة تحرير أم تدمير (2)
الأسرة والمجتمع
المرأة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/12/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال المرأة في الجاهلية. 2- تردّي أوضاع المرأة في الغرب. 3- حقيقة دعاوي تحرير المرأة. 4- كلمة للمرأة المسلمة. 5- صور من حياة الصحابيات. 6- دور المرأة المسلمة في رد العدوان عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، استكمالاً لخطبة الأسبوع الماضي عن المرأة وما يُكاد لها فأكمل وأقول: لقد كانت المرأة في الجاهلية تعدّ من سقط المتاع، لا يقام لها وزن، وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
أما وضعها في المجتمعات الكافرة والمجتمعات التي تتسمّى اليوم بالإسلام وهي تستورد نظمها وتقاليدها من الغرب فإن وضعها أسوأ بكثير من وضعها في الجاهلية الأولى، فقد جُعِلت فيها المرأة سلعة رخيصة تُعرض عارية أو شبه عارية أمام الرجال في مواطن تجمعهم، على شكل خادمات في البيوت وموظفات في المكاتب وممرضات في المستشفيات ومضيفات في الطائرات والفنادق وممثلات في أفلام التلفزيون والسينما، وإذا لم يمكن ظهور صورتها في هذه الوسائل جاؤوا بصوتها في المذياع مذيعة أو مطربة، وإلى جانب إظهار صورتها المتحركة في وسائل الإعلام المرئية يظهرون صورتها الفوتوغرافية في الصحف والمجلات، بل وعلى أغلفة السلع التجارية، فيختارون أجمل فتاة يجدونها، ويضعون صورتها على هذه الصحف والمجلات السيّارة، أو على أغلفة السلع التجارية؛ ليتخذوا منها دعاية لترويج صحفهم وبضائعهم، وليغروا أهل الفساد الخلقي بفسادهم، وليفتنوا الأبرياء. لقد كانت على شاطئ السلامة وبرّ الأمان، بعيدة عن متناول الأيدي ومماسّة الرجال، فتآمروا عليها وقذفوها في بحار الاختلاط المغرقة، عرضة للأيدي الآثمة ومطمعًا للنفوس الأمّارة بالسوء، فحرّموا ما أحلّ الله، وأحلّوا ما حرّم الله.
لقد جاءت الحضارة الغربية ورفعت شعارات برّاقة كشعار تحرير المرأة ومساواتها بالرجل وعدم كبتها أو التحكم فيها، فعاشت شقاءً لا يدانيه شقاء، واصطلت بنار هذه الحرية الشوهاء، لقد كُتبت تقارير وإحصاءات مذهلة عما تعانيه المرأة في الغرب، إليكم طرفًا من ذلك:
- لقد شاعت الفاحشة شيوعًا لم يسبق له مثيل، فلم تعد مزاولة الفاحشة ـ أجارنا الله وإياكم ـ مقصورة على دُور البغاء، بل تجاوزت ذلك إلى الفنادق والمقاهي الراقصة والمنتزهات وعلى قارعة الطريق، ولم يعد من الغريب ولا الشاذ أن يقع الأب على ابنته، والأخ على أخته، وأصبح ذلك في الغرب شائعًا ومألوفًا.
- وأصبحت الخيانة الزوجية ظاهرة عامة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية امرأة واحدة من كل أربع نساء أمريكيات تخون زوجها.
- أما التفكير في الانتحار في ظل الرفاهية المزعومة والحرية وحقوق المرأة التي ينادون بها في الغرب فإن أربعًا وثلاثين بالمائة من النساء يفكرن في الانتحار.
- ومن الإحصاءات النسوية ـ إن صح التعبير ـ أن ثلثي حوادث الاعتداء في أمريكا بالضرب ضد النساء تصدر من أقاربهن، والباقي من غير الأقارب.
- ثمان وعشرون في المائة من حالات الاعتداء الجسمي على النساء تصدر من الزوج والصديق.
- وفي فرنسا تتعرض حوالي مليون امرأة للضرب، وأمام هذه الظاهرة التي تقول الشرطة: إنها تمثل حوالي 10 بالمائة من العائلات الفرنسية أعلنت الحكومة أنها ستبدأ حملة توعوية لمنع أعمال العنف. وهذه كأنها ظاهرة طبيعية. وقالت أمينة سر الدولة لحقوق المرأة: "إن الحيوانات تعامَل أحيانًا أحسن منهنّ، فلو أن رجلاً ضرب كلبًا في الشارع فسيتقدم شخص ما بالشكوى إلى جمعية الرفق بالحيوان، ولكن إذا ضرب رجلٌ زوجته في الشارع فلن يتحرك أحد". ونقلت صحيفة فرنسية عن الشرطة أن ستين في المائة من الدعوات الهاتفية التي تتلقاها شرطة الخدمة في باريس أثناء الليل هي نداءات استغاثة من نساء يسيء أزواجهنّ معاملتهنّ.
- ونشرت مجلة التايمز الأمريكية أن حوالي أربعة آلاف زوجة من حوالي ستة ملايين زوجة مضروبة تنتهي حياتهنّ نتيجة ذلك الضرب.
- وأشار خبر نشره مكتب التحقيقات الفيدرالية جاء فيه أن أربعين في المائة من حوادث قتل السيدات ارتكبها أزواجهنّ.
- ودلت الدراسات على أن في الولايات المتحدة نفسها أكثر من خمسةٍ وثلاثين مليون متزوج يقيم علاقات غير شرعية خارج عش الزوجية، أي: بنسبة تصل إلى سبعين في المائة من الرجال المتزوجين. وبعبارة أخرى فإن سبعين في المائة من الزوجات الأمريكيات مأسورات بقيد الخيانة، خيانة أزواجهنّ لهنّ.
- أما صورة أخرى فهي صور الاغتصاب التي تتعرض لها المرأة، ففي الولايات المتحدة تقول التقارير الخاصة بالاغتصاب: إن حادثة الاغتصاب تسجل كل ستِ دقائق، وإن جريمة الاغتصاب أكثر الجرائم تسجيلاً في محاضر الشرطة والمدن الأمريكية.
- ويقول المحللون: إن تسعين في المائة من حوادث الاغتصاب لا تصل إلى سجلات البوليس، وهذا يعني بحسبة بسيطة أن عشر حوادث للاغتصاب تتم كل ستِ دقائق أو جريمتين كل دقيقة تقريبًا.
- وأما في فرنسا فقد أذاع الراديو الفرنسي إحصائية ذكر فيها أن في فرنسا خمسة ملايين امرأة متزوجة على علاقة جنسية بغير أزواجهنّ.
- أربعون في المائة من النساء في إيطاليا هنّ ضحايا الاغتصاب الجنسي، وتتم العمليات في المنازل والشوارع وأماكن العمل بلا تمييز.
- أربعة عشر مليون امرأة في إيطاليا يخشون السير بغير رفقة في الشوارع المظلمة أو الأماكن المهجورة.
وبعد هذه النقولات نقول: إن الداعين إلى تحرير المرأة على الطريقة العلمانية اللادينية والداعيات إلى ذلك التوجه في الوطن الإسلامي إنما ينشدون محالاً من الأمر، فهم وهنّ في شقاء مستمر في سبيل الوصول إلى مركب يجتمع فيه الخير والشر في آن واحد، وكما قلت: فذلك من المحال.
إن الإسلام الذي جاء شاملاً وكاملاً من عند الله لا يمكن أن يكون ألعوبةً في أيدي هؤلاء العابثين المخربين دعاة وداعيات التحرير المزعوم، فالمرء مخير بين أمرين لا ثالث لهما: إما الإسلام كله، أو التبعية للجاهلية المعاصرة كلها، ولا خيار ثالث لهما، فليعِ هذا من أراد مناطحة الجبال.
إن الهجوم على المرأة المسلمة إنما هو هجوم على قيم الإسلام، ذلك أن الدعوة إلى تحرير المرأة إنما هو تسفيه لدينها الذي هو عصمة أمرها، وهو اختيارها ووجودها عبر أكثر من أربعمائة وألف من الأعوام، وهو الذي أخرجها من ذلّ وأسر الجاهلية إلى عزّ الإسلام، فالدعوة التحريرية دعوة في الواقع إلى إرجاعها إلى الذلّ والأَسر من جديد، ودعوة إلى تحويلها إلى دمية لمجرد المتعة على الطريقة التي يعرفها دعاة التحرير في هوليوود وغيرها حيث مسارح الرذيلة وملاهي الخنا.
إن المرأة التي تنطلي عليها هذه المؤامرة واحدة من اثنتين: إما جاهلةٌ لا علم لها بشيء على الإطلاق، لا بما يحاك ضدها ولا بأمور دينها، أو عالمة بما يدور حولها وبنتائج هذه الدعوة الخبيثة، فتكون في هذه الحالة جزءًا من المخطط الجهنّمي الذي يدبّر بليل ونهار، ليس للإيقاع بالمرأة فحسب، ولكن لتقويض الكيان الإسلامي من أساسه، ولن يتم ذلك لدعاة الهدم والتخريب بإذن الله ثم بيقظة المخلصين، فليتدبر كل منا أمره، فالخطب جسيم، والهجمة شرسة، والطريق طويل وشاق، والله المستعان.
لا بد أن يُعلم أنه كلما عظم الخطر عظمت المسؤولية، وكلما كثرت أسباب الفتنة وجبت قوة الملاحظة، وإننا في عصر عظم فيه الخطر وكثرت فيه أسباب الفتنة بما فتح علينا من زهرة الدنيا واتصالنا بالعالم الخارجي مباشرة أو بواسطة وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وخاصة ما يبث عبر قنوات البث المباشر والمقروءة، وبسبب ضعف كثير من الرجال وتهاونهم للقيام بمسؤولياتهم تجاه نسائهم، وترك الحبل لهنّ على الغارب، حتى إنك لترى المرأة الشابة تذهب من بيتها إلى أي مكان تريد دون أن تُسأل: إلى أين؟ وتتكلم بالهاتف الساعات الطوال دون أن يعلم ولي أمرها من تكلم، وترى بعض النساء يخرجن إلى الأسواق بلا رقيب، تطوف بها ليلاً ونهارًا صباحًا ومساءً، وما ذهابها إلى السوق من أجل شراء شيء تريده، وإنما من أجل التسلي والتسكع، ومن أجل تضييع الوقت، ومن أجل البحث عن الجديد من الأزياء أو المكياج، حتى تكون الزينة لها هدفًا لذاته.
إليك هذه الإحصائية المهولة لاستعمال أدوات الزينة لدى نساء الخليج: ففي عام 97م أنفقت نساء الخليج حوالي ثلاثة مليارات ريال على العطور فقط، وخمسة عشر مليون ريال على صبغات الشعر، وبلغت مبيعات أحمر الشفاه أكثر من ستمائة طن، فيما بلغت مبيعات طلاء الأظافر أكثر من خمسين طنًا. فكم هي الأرقام الآن؟!
إن من نتائج انحراف المرأة في مجتمعاتنا أن كثر الفسق، وانتشر الزنا، وابتعد الناس عن الزواج، وانهدم كيان الأسرة، وأهملت الواجبات الدينية، وانعدمت الغيرة، واضمحلّ الحياء، وتركت العناية بالأطفال، وأصبح الحرام أيسر حصولاً من الحلال، وكثرت الجرائم، وفسدت أخلاق الرجال خاصة الشباب المراهقين، وأصبحت المتاجرة بالمرأة كوسيلة دعاية أو ترفيه في مجالات التجارة وغيرها، وكثرت الأمراض التي لم تكن في السابق، قال : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلاّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) رواه ابن ماجه.
ومن أعظم العقوبات التي هي قطعًا أخطر من القنابل الذرية ومن أسلحة الدمار الشامل هي استحقاق نزول العقاب الإلهي، قال الله تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وقال : ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعذاب)).
إن من أعظم مقاصد هذا الدين إقامة مجتمع طاهر، الخلق سياجه، والعفة طابعه، والحشمة شعاره، والوقار دثاره، مجتمع لا تهاج فيه الشهوات، ولا تثار فيه عوامل الفتنة، تُضيّق فيه فرص الغواية، وتقطع فيه أسباب التهييج والإثارة. ولقد خُصَّت المؤمنات بتوجيهات في هذا ظاهرة ووصايا جليلة، فعفة المؤمنة نابعة من دينها، ظاهرة في سلوكها، ومن هنا كانت التربية تفرض الانضباط في اللباس سترة واحتشامًا ورفضًا للسيرة المتهتّكة والعبث الماجن.
وليعلم دعاة السفور من العلمانيين ومن وراءهم أن التقدم والتخلف له عوامله وأسبابه، وإقحام الستر والاحتشام والخلق والالتزام عاملاً من عوامل التخلف خدعة مكشوفة، لا تنطلي إلاّ على مغفل ساذج، في فكره دخن، أو في قلبه مرض. ودعاة السفور ليسوا قدوة كريمة في الدين والأخلاق، وليسوا أسوة في الترفع عن دروب الفتن ومواقع الريب، إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:55، 56].
إن كل امرئٍ عاقلٍ بل كل شهم فاضل لا يرضى إلاّ أن يكون عرضه محل الثناء والتمجيد، ويسعى ثم يسعى ليبقى عرضه حرمًا مصونًا لا يرتع فيه اللامزون، ولا يجوس حماه العابثون. إن كريم العرض ليبذل الغالي والنفيس للدفاع عن شرفه، وإن ذا المروءة الشهم يقدم ثروته ليسد أفواهًا تتطاول عليه بألسنتها أو تناله ببذيء ألفاظها. نعم، إنه ليصون العرض بالمال، فلا بارك الله بمال لا يصون عرضًا. بل لا يقف الحد عند هذا، فإن صاحب الغيرة ليخاطر بحياته ويبذل مهجته ويعرض نفسه لسهام المنايا عندما يرجم بشتيمة تلوث كرامته، يهون على الكرام أن تُصاب الأجسام لتسلم الأعراض، وقد بلغ ديننا في ذلك الغاية حين أعلن النبي فقال: ((من قتل دون أهله فهو شهيد)).
فيا أختي المسلمة، يا من رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً، إنهم يقولون لك: إن الرجل قد ظلمك حين فرض عليك ارتداء الحجاب، فقولي لهم: لم يكن الرجل هو الذي فرض الحجاب على المرأة فترفع قضيتها ضده لتتخلص من ظلمه، إنما الذي فرض الحجاب على المرأة هو ربها وخالقها الذي لا تملك إن كانت مؤمنة أن تجادل فيما أمر به أو يكون لها الخيرة في الأمر، ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا [الأحزاب:36].
ويقولون لك: إن أختك الأوربية قد حملت قضيتها وأخذت حقوقها، وقضايا المرأة واحدة في كل بلاد العالم. فقولي لهم: بادئ ذي بدء لا أخوّة بيني وبين الأوربية؛ لأن المسلمة لا تؤاخي المشركة، وأما عن الحقوق التي تزعمونها للمرأة الأوربية ففي الحقيقة لقد كانت هذه المرأة ضحية من ضحايا المجتمع الذي حررها فقذف بها إلى المصنع والمكتب، وقال لها: عليك أن تأكلي من عرق جبينك، في بيئة مليئة بالأخطار على أخلاقها، فتركها في حرية مشؤومة ليس لها ولا للمجتمع فيها نفع. وقولي أيضًا: يكفيني ما تنشره تلك الدول من إحصاءات وأرقام تخيف وتهدد البشرية بسبب تحرير موهوم.
انقلي ـ يا أختاه ـ للعالم كله نماذج رائعة ومواقف مدهشة للنساء في صدر الإسلام، وكيف صبرن كما صبر الرجال، ففاطمة بنت الخطاب تسلم قبل أخيها عمر، ولما عرف عمر بذلك ضربها، فتقول في وجهه حين رأت الدم يسيل منها: نعم يا ابن الخطاب، أسلمت، فافعل ما بدا لك، فيُصعق عمر من إجابتها، ويقول لها: جيئيني بالكتاب الذي تقرؤون منه، فتأتيه به، فلما قرأه قال: دلوني على محمد كي أسلم.
وأم شريك آمنت وعذبت وجُوّعت وعُطّشت وألقيت في الحرَّ، وهي في شبه إغماء من الجوع والعطش، ولما حاولوا ردها إلى الكفر قالت: اقتلوني، ولن أعود للكفر أبدًا. وبينما هي في حالة إغماء أحست بشيء رطب على فمها وهي مقيدة ومربوطة في الشمس، فنظرت فإذا دلو من السماء نازل لكي تشرب منه. الله سقاها كرامة لها. ولما عرف قومها الحقيقة عرفوا أنها على الحق وأنهم على الباطل، ففكّوا وثاقها وحبالها وقالوا لها: فلننطلق إلى رسول الله لنعلن إسلامنا.
وكذلك أم أيمن الحبشية امرأة هاجرت وحدها في شدة الحر والعطش، وكانت صائمة ولكن الله تعالى حين جاء وقت الغروب أنزل إليها دلوًا من السماء فشربت منه، وكانت لا تحمل ماءً معها. تقول أم أيمن وهي مربية الحبيب محمد ، تقول بعد أن شربت من هذا الدلو: كنت أصوم في اليوم الشديد الحر فلا أشعر بعطش أبدًا.
ولا ننسى نسيبة الأنصارية والتي كانت مع النبي تدافع عنه في أحد حين انهزم كثير من الرجال وابتعدوا عنه، حتى قال عنها : ((ما التفت يمينًا وشمالاً إلا وأنا أراها تقاتل عني)).
ويمشي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فتستوقفه المرأة فيقف لها وتقول له: يا عمر، كنت تدعى عُمَيرًا، ثم قيل لك: عمر، ثم قيل لك: أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب. وهو واقف يسمع لكلامها، فقيل له في ذلك فقال: والله، لو حبستني من أول النهار إلى آخره ما تحركت من مكاني، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟!.
الله أكبر! هذا كله دليل على صدق هؤلاء النساء، وعلى عظم مكانة المرأة في الإسلام، فالله لم يعط الفضل للرجال فقط، ولم يعط الشرف للرجال فقط، ولم يعط العزة والكرامة للرجال فقط، إنما أعطاها لكل من آمن وصدّق وأخلص في إيمانه وثبت على الحق ثبوت الجبال.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وهنا سؤال يطرح نفسه: ما المطلوب من المرأة المسلمة أن تفعله في هذا الوقت العصيب؟
المرأة المسلمة اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى أن تكون سلاحًا في وجه أعدائها، وذلك من خلال ما يلي:
أولاً: رفضها لكل الدعوات الكاذبة والخادعة التي ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، متمثلةً قول الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [سورة الكافرون].
ثانيًا: تقف سدًّا منيعًا إلى جانب الرجل المسلم في وجه ما يخطط للأمة الإسلامية من خلالها، فلا تكون عونًا لأعدائها وأعداء أمتها، بل يجب عليها أن تعي وتدرك ما يدور حولها من خطط لإبعادها عن دينها ورسالتها في هذه الحياة، وتهميش دورها في بناء مجتمعها الإسلامي، وإشغالها بتوافه الأمور، وإضاعة وقتها في تتبع ما تبثه الفضائيات وما تنشره المجلات الهابطة من عروض للأزياء وآخر الموديلات من مكياج وعطورات ومتابعة أخبار الفنانين والفنانات.
ثالثًا: تعود إلى إسلامها وتتمسك به بكل قوة، وتعيش تعاليمه كلها منهجًا وسلوكًا، وتطبقها على نفسها أولاً، ثم على من هم تحت رعايتها.
رابعًا: تعمل المرأة المسلمة على تثقيف نفسها والتسلح بالعلم الشرعي، وذلك من خلال حضورها لبعض الدروس الشرعية المتاحة في مجتمعها، وسماعها للأشرطة المأمونة المتوفرة، وكذلك تلاوتها للقرآن وتدبر آياته، خصوصًا آيات الأحكام، وتحفظ ما تيسر لها منه، والاطلاع على كتب التفسير والسيرة حتى يساعدها ذلك على أداء مهمتها في الدعوة لهذا الدين العظيم.
خامسًا: الحذر كل الحذر من أن تقع في شراك أدعياء تحرير المرأة، فإنهم يهدفون من وراء ذلك الطعم إلى اصطيادها وتحللها من دينها وقيمها وأخلاقها، وحينها تكون ذيلاً لهم وتابعة ذليلة لمناهجهم.
نسأل الله جل وتعالى أن يحفظ نساء المسلمين وبناتهم إنه سميع قريب مجيب...
(1/4109)
النحلة
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/1/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من عجائب صنع الله في النحلة. 2- مثل المؤمن كالنحلة. 3- أوجه الشبه بين المؤمن والنحلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:68، 69].
النحلة مخلوق عجيب من مخلوقات الله تعالى، هذه النحلة الصغيرة فيها من الأسرار ما يحير العقول والأفهام. لقد ألهم الله هذه النحلة وهداها وأرشدها إلى أن تتخذ من الجبال بيوتًا تأوي إليها ومن الشجر ومما يعرشون، وليس للنحلة بيت غير هذه الثلاثة البتة، ثم أذن لها تعالى إذنًا قدريًا تسخيريًا أن تأكل من كل الثمرات، وأن تسلك الطرق التي جعلها اللّه تعالى مذللة لها مسهّلة عليها حيث شاءت من هذا الفضاء العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة، ثم تُخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان ما بين أبيض وأصفر وأحمر وأسود وأشقر، وغير ذلك من الألوان الحسنة بحسب اختلاف أرضها ومراعيها، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة ، فسبحان من خلق فسوّى، وقدّر فهدى، وأخرج المرعى.
ومن عجيب شأنها أن لها أميرًا يسمى اليعسوب، لا يتم لها رواح ولا إياب ولا عمل ولا مرعى إلا به، فهي مؤتمرة لأمره سامعة له مطيعة، يدبرها كما يدبر الملك أمر رعيته، حتى إنها إذا آوت إلى بيوتها وقف على باب البيت فلا يدع واحدة تزاحم الأخرى ولا تتقدم عليها في العبور، بل تدخل بيوتها واحدة بعد واحدة بغير تزاحم ولا تصادم، كما يفعل الأمير إذا انتهى بعسكره إلى معبر ضيق لا يجوزونه إلا واحدًا واحدًا.
إن من تدبر أحوال هذه النحلة الصغيرة في اجتماع شملها وسياساتها وانتظام أمرها وتدبير ملكها وتفويض كل عمل إلى واحد منها يتعجب كل العجب، ويعلم أن هذا ليس في مقدورها ولا هو من ذاتها، فإن هذه أعمال محكمة متقنة في غاية الإحكام والإتقان، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
إن في أحوال النحل وأعماله من العبر والآيات ما يبهر العقول. النحل مأمور بالأكل من كل الثمرات، خلافًا لكثير من الحشرات التي تعيش على نوع معين من الغذاء، وتعجب أنها لا تأكل إلا الطيبات، زودها الله بشعيرات عصبية دقيقة يصل عددها إلى ثلاثين ألفًا تشكل حاسة الشم والسمع واللمس، وتعمل كالكشاف في ظلام الخلية، فسبحان من وهبها ذاك وبه زودها. للنحلة عيون كثيرة، مما جعل لها سعة أفق في النظر، فالنحلة ترى أقصى اليمين وأقصى الشمال والبعيد والقريب في وقت واحد، علمًا بأن عيونها لا تتحرك، فلا إله إلا الله. أما فم النحلة فمن أعاجيب خلق الله في خلقه، فهو شديد الحساسية لما هو حلو الطعم طبيعيًا، ولا يتحرج من المواد المرة، إذ يحولها إلى حلوة بإذن ربه الذي ألهمه، فسبحانه وبحمده لا شريك له. أما سمع النحل فدقيق جدًا، يتأثر بأصوات لا تستطيع أن تنقلها أذن الإنسان، فسبحان من زوده بها. وتحمل النحلة ضعفي وزنها، وتطير به في خفة وحيوية. هناك من النحل مرشدات، عندما تجد مصدرًا للغذاء تفرز عليه مادة ترشد إليه بقية النحل للرحيق، وعندما ينضب وينتهي الرحيق تفرز عليه المرشدات موادًا منفرة منه، حتى لا يضيع الوقت في البحث فيه، ثم تنتقل إلى مصدر آخر، فمن علّمها وأرشدها؟! إنه الله جل جلاله، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، فلا إله إلا هو.
تستطيع النحلة خارج الخلية الرجوع إلى خليتها والتعرف عليها من بين آلاف الخلايا، بلا عناء ولا تعب، ولو ابتعدت عنها آلاف الأميال، وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68]، تأمل قدرة الله على خلقه يوم جعل من النحل حرّاسًا للخلية يستطيعون أن يميزوا كل غريب ودخيل عليهم من النحل، فيطرحوه خارجًا أو يقتلوه، علمًا أن تعداد الخلية يصل إلى ثمانين ألف نحلة أو أكثر، فسبحان من ألهمه. صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون [النمل:88].
والنحل من ألطف الحيوان وأنقاه وأنظفه، ولذلك لا تلقي مخلفاتها في خليتها، بل تطير ثم تلقيها بعيدًا عنها، وتأبى النتن والروائح الكريهة، تأبى القذارة، ولذلك إذا رجعت إلى الخلية بالعشية وقف على باب الخلية بواب منها، ومعه أعوان كثر، وكل نحلة تريد الدخول يشمها البواب ويتفقدها، فإن وجد فيها رائحة منكرة أو رأى بها قَذَرًا منعها من الدخول.
في عالم النحل ملكة وعاملات، وفيه نظام وانضباط، وفيه تناغم واتساق، وكلها مظاهر من عظمة الخالق المبدع الذي جعل من أمة النحل مثالاً يحتذى به في التعاون والنظام. الكل يعمل حسب سنه ودوره، المهندسات والبناءات يشيِّدن بيوت النحل، والعاملات يقمن برحلات للكشف عن أماكن الرحيق، والكيميائيات يتأكدن من نضوج العسل وحفظه، والخادمات يحافظن على نظافة الشوارع والأماكن العامة في الخلية، والحارسات على باب الخلية يراقبن من دخل إليها ومن خرج، يطردن الدخلاء أو من أراد العبث بأمن الخلية. فمن علّم هؤلاء كل هذا؟! ومن أوحى لهنّ بهذه الأدوار؟! إنه رب العالمين الذي يقول: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [النحل:38].
وفي حياة النحل أسرار عجيبة اكتشف الإنسان في العصر الحديث بعضًا منها، وما زال هناك الكثير من تلك الأسرار التي أودعها الله في ذلك الكائن الحي الذي أوحى إليه.
هل تعلم ـ يا أخي الحبيب ـ بعد ذكر بعض هذه الأسرار العجيبة في عالم النحل أن النبي شبه المؤمن بالنحلة؟! قال : ((مثل المؤمن مثل النحلة، إن أكلت أكلت طيبًا، وإن وضعت وضعت طيبًا، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره)) ، إن هذا التشبيه من النبي للمؤمن بالنحلة من جوامع كلمه ، ((مثل المؤمن مثل النحلة، إن أكلت أكلت طيبًا، وإن وضعت وضعت طيبًا، وإن وقعت على عود نخر لم تكسره)).
من صفات النحلة أنها قليلة الأذى، منفعتها شاملة، وهي قنوعة وساعية بالليل، وتتنزه عن الأقذار، وأكلها طيب، ولا تأكل من أكل غيرها، وهي مطيعة لأميرها، وكذلك المؤمن قليل الأذى، منفعته شاملة له ولغيره، يستفيد من المؤمن كل من يعيش حوله حتى البهائم والجمادات، والمؤمن قنوع، وينزه عن الأقذار كالنحلة، ولا يأكل إلا من الحلال الطيب، ويتورّع المؤمن مما فيه شبهة، وهو مطيع لأميره بالمعروف، أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].
وإن للنحل آفات ينقطع بها العمل، مثل: الظّلمة والريح والدخان والماء والنار، وكذلك المؤمن له آفات تفقده من عمله: كظلمة الغفلة وريح الفتنة ودخان الحرام ونار الهوى.
المؤمن كالنحلة لا يأكل إلا طيبًا، شبهه النبي بالنحلة؛ لأن المؤمن أكله طيّب، لا يأكل من الحرام، المؤمن أكله من الحلال المحض، يتحرّى الحلال فلا يقع على حرام ولا شبهة، وإنما حلال خالص كما يقع النحل على الحلال الخالص، فيمص من رحيق الأزهار المتنوعة، وكذلك المؤمن يأخذ من العلم المفيد والمسائل النافعة بجميع أنواعها، ينوع مصادر العلم، ويتلقى عن أهل العلم الطيبين، فيتفاعل هذا العلم في نفسه وهذا الإيمان فينتجان العمل الصالح المتنوع الشافي لنفسه الذي يدرك به الدرجات العلى عند ربه، كما أن النحلة يتفاعل في بطونها هذا الرحيق الذي امتصته فتخرج به عسلاً مختلفًا ألوانه فيه شفاء للناس، وكذلك أعمال المؤمن فيه شفاء له ولغيره، وفيه منافع للناس. النحلة مؤونتها قليلة ونفعها كثير، والمؤمن كذلك مؤونته قليلة وهو قنوع ليس بثقيل ظلٍ ونفعه كثير.
وهذه النحلة كما قال النبي : ((إن وقعت على عود نخرٍ لم تكسره)) ، وكذلك المؤمن خفيف الظل ليس بثقيل، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، يمشون بتواضع وتأدب، لا مشية المتغطرس المتكبر الذي يظنّ أنه سيخرق الأرض أو سيبلغ الجبال طولاً.
قال علي : (كونوا في الناس كالنحلة في الطير، إنه ليس من الطير شيءٌ إلا وهو يستضعفها، ولو يعلم الطير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها، خالطوا الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم، فإن للمرء ما اكتسب، وهو يوم القيامة مع من أحب) رواه الدارمي. وهكذا المؤمن، قد يُحتقر، ويُنظر إليه بتواضع، ويُنظر إليه بعين الذلة، ولكنه يشتمل في أثوابه على نفس أسد هصور بشجاعته وجرأته وقوله بالحق وعمله به وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وهو كذلك فيه نفع عظيم، لكنه لا يظهر أعماله الصالحة، لا رياء عنده ولا تصنع ولا سمعة، بل عنده إخلاص، يحسبه الناس ضعيفًا وهو عند الله عظيم.
النحلة لا تأكل بمرادها وبشهوة منها بمقدار ما تأكل بأمر ربها لها، كما قال تعالى: كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [النحل:69]، فتأكل من الحلو والمر لا تتعداه إلى غيره من غير تخليط، ولذلك طاب عسلها لذةً وحلاوةً وشفاءً. وكذلك المؤمن، لا يأكل إلا طيبًا، ولو صبر على مر العيش فإن أكله حلال، فيكون بعيد الوقوع في الحرام والشبهات، لا تهوى نفسه هذا الحرام ولو كان له جمال في الظاهر، فإنه في الباطن مرٌ كالعلقم، فإن الحرام أمرّ من العلقم. وكذلك المؤمن، صلح باطنه وظاهره، أفعاله طيبة، وأخلاقه طيبة، وأعماله صالحة، ولا يمكن أن تكون الأعمال الصالحة إلا بعد طيب الغذاء، وبقدر حِلّ الغذاء تنمو أعماله وتزكو، كما أن النحلة يعذب عسلها ويحلو، فكذلك عمل المؤمن نابع من كسبه الحلال.
النحلة مطيعة لأميرها في كل شيء بنظام ودقة عجيبة، ولذلك كان من نتاج هذه الطاعة هذا الطعام الحلو اللذيذ النافع. والمؤمن في تعاونه مع المؤمنين وبانقياده بالمعروف والطاعة لأميره فإنه يثمر حسن النتاج، وهو يدافع عن عرين الإسلام ضد الأعداء كما تدافع النحلة عن عرينها وعن خليتها أشد المدافعة، وكذلك المؤمن يدافع عن عرين الدين، ويلسع كل من أراد أن يُقْدِم على هدم الإسلام بشبهة أو بقوة، فيدفعه المؤمن بقوة إيمانه وقوة جسده، ويستعمل أنواع القوى في دفع الأذى عن الدين وأهله. إن النحلة وهي تدافع عن خليتها تلسع من يحاول الاقتراب منه، وهي في لسعها تشعر بالألم، وقد تفقد حياتها في سبيل الحفاظ على عرينها، والمؤمن في هذه الحياة وهو يدافع عن دينه ضد خصوم الشريعة وأعداء الملة يشعر بالألم، وقد يفقد حياته في سبيل دينه، لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].
فيا أيها المؤمن، لا بد لك من الألم في هذه الحياة، ولا يمكن أن تستمر الحياة بدون ألم، والله بحكمته وعدله ركب الألم في الإنسان وهو العليم الخبير؛ ليسعى العباد في تحصيل منافعهم الدنيوية والأخروية، فالألم ليس مذمومًا دائمًا، فقد يكون هذا الألم خيرًا للعبد من عدمه، فالدعاء الحار المستجاب بإذن الله يأتي مع الألم، والتسبيح الصادق يصاحبه الألم، وحمل النفس على طاعة الله والصبر على أدوائها يكون معه ألم، والصبر عن ارتكاب المعاصي واجتنابها، والصبر على الأقدار أن لا يتسخطها، كل ذلك يكون مع الألم. وتأمّل الطالب حال التحصيل فحمله لأعباء الطلب يثمر عالمًا فذًّا؛ لأنه احترق في البداية فأشرق في النهاية، أما الطالب الذي عاش حياة الراحة والدعة ولم تنضجه الأزمات ولم تكوه الملمات فهذا الطالب يبقى كسولاً مترهلاً فاترًا، فكمال النهايات يكون بألم ومشقة في البدايات.
وأسمى من ذلك وأرفع حياة المؤمنين الأولين الذين عاشوا فجر الرسالة ومولد الملة، فإنهم أعظم إيمانًا وأبر قلوبًا وأصدق لهجة وأعمق علمًا؛ لأنهم عاشوا الألم والمعاناة: ألم الجوع والفقر والتشريد، وألم الأذى والطرد والإبعاد، وألم فراق المألوفات وهجر المرغوبات، وألم الجراح والقتل والتعذيب، كل ذلك في سبيل الله، فكانوا بحق الصفوة الصافية والفرقة الناجية، آيات في الطهر، وأعلامًا في النبل، ورموزًا في التضحية، قال الله تعالى: ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ ?لْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [التوبة:120]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ)) رواه الترمذي. فأخبر النبي أن الخائف المسرع في مرضاة الله هو المحصّل لجنة الله الغالية، خلافًا لغيره. وجاء رجل إلى الإمام أحمد رحمه الله فقال له: متى الراحة؟ قال: "عند أول قدم نضعها في الجنة".
كيف هُدمت قلاع الشرك؟! وكيف قُوّضت دولة الكفر في فجر الدعوة؟! كيف انتشر الإسلام وعمّت ربوعه على نواحٍ كثيرة من الأرض في فترة وجيزة من عمر التاريخ؟! كل ذلك وغيره لم يحصل إلا بشيء من التضحية والمعاناة والألم؛ لذلك كان الألم نعمة من نعم الله على العباد، وحافزًا لهم لابتغاء مرضاته، والعبد إن يعش مشبوب الفؤاد ملذوع النفس أرقُّ له وأصفى من أن يعيش بارد المشاعر فاتر الهمة خامل النفس، كما قال الله تعالى عن المنافقين: وَلَـ?كِن كَرِهَ ?للَّهُ ?نبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ?قْعُدُواْ مَعَ ?لْقَـ?عِدِينَ [التوبة:46].
إنك ـ يا عبد الله ـ مخيّر بين أن تسلك أسباب التوفيق أو أن تسلك أسباب الخذلان، وكلاهما من خلق الله، فأسباب التوفيق منه ومن فضله، وهو الخالق لهذه وهذه، كما خلق أجزاء الأرض، هذه قابلة للنبات، وهذه غير قابلة له، وخلق جل وتعالى الشجر، هذه تقبل الثمرة، وهذه لا تقبلها، وخلق النحلة قابلة لأن يَخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، وخلق الزنبور غير قابل لذلك، وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده، وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك بل لضده، وهو الحكيم العليم. فاختر ـ يا عبد الله ـ لنفسك ما تشاء.
نسأل الله تعالى أن نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: من أعظم نتاج النحل هذا العسل، ومن أعظم نتاج المؤمن العمل الصالح، فكن ـ يا عبد الله ـ كالنحلة، تلقُط خيرًا وتلقي شهدًا.
قال الله تعالى عن نتاج النحل: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ [النحل:69]، وعن أبي سعيد الخدري أن رجلاً جاء إلى رسول اللّه فقال: يا رسول الله، إن أخي استطلق بطنه، فقال: ((اسقه عسلاً)) ، فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: يا رسول اللّه، سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقًا! قال: ((اذهب فاسقه عسلاً)) ، فذهب فسقاه عسلاً، ثم جاء فقال: يا رسول اللّه، ما زاده إلا استطلاقًا! فقال رسول اللّه : ((صدق اللّه، وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلاً)) ، فذهب فسقاه عسلاً فبرئ. أخرجه البخاري ومسلم. وفي الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها أن رسول اللّه كان يعجبه الحلواء والعسل. وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللّه : ((الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كيّة بنار، وأنهى أمتي عن الكيّ)).
إن الشفاء الحاصل من العسل حُرِمه كثير من الناس، ولا ريب أن العسل شفاء كما أن القرآن شفاء، ولم يصِف الله في كتابه بالشفاء إلا القرآن والعسل، فهما الشفاءان، هذا شفاء القلوب من أمراض غيّها وضلالها وأدواء شبهاتها وشهواتها، وهذا شفاء للأبدان من كثير من أسقامها وأخلاطها وآفاتها.
والمحروم من حرمه الله، فهذا كتاب الله هو الشفاء النافع، وهو أعظم الشفاء، لكن ما أقلّ المستشفين به، بل لا يزيد الطبائع الرديئة إلا رداءة، ولا يزيد الظالمين إلا خسارًا. وفي المقابل كم عوفي به من مريض، وكم قام مقام كثير من الأدوية التي لا تبلغ قريبًا من مبلغه في الشفاء. ونحن نرى كثيرًا من الناس بل أكثرهم لا نصيب لهم من الشفاء بذلك أصلاً، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].
فكثير من الناس يُحرم خير منافع كثيرة تكون حوله وقريبة منه، والسبب أنه لا يهيّئ نفسه للاستفادة من هذا الخير. فكما أن العسل شفاء وقد نص الله على ذلك، لكن يَحرم نفسه من هذا الشفاء كثير من الناس، فكذلك كثير من المنافع تكون مبثوثة حول الإنسان ويَحرم نفسه خيرها ونفعها. وإلا فهذه الدروس والمحاضرات كم عدد المستفيدين منها؟! وهذه الدعوة تسير قافلتها فكم عدد الملتحقين بها؟! وهذه أبواب مساعدة الفقراء والأيتام وبذل الصدقات للمحتاجين كم نسبة المشاركين فيها؟! نسمع يوميًا بعشرات المنكرات حولنا فيما نرى ونسمع ونقرأ فأين هم المنكرون لها؟! أبواب الخير من تفقّد الجيران وصلة الأرحام والسؤال عن الأقارب والأصحاب كم من المسلمين يتفاعل معها؟! وهذه مآسي الأمة وجراحاتها تحتاج إلى بذل المسلمين من أجلها فكم عدد المتألمين لواقع أمتهم؟! وكم هم الذين نالوا أجر المساهمة في تضميد جرح من جراحاتها؟!
فيا عبد الله، لقد شبّهك النبيّ بالنحلة، فلا تحرم نفسك خير هذا التشبيه، وكن عنصرًا فعالاً تفيد وتستفيد.
(1/4110)
أين تكون السعادة؟ وأين يكون الشقاء؟
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/4/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الناس بين السعادة والشقاء. 2- طرائق البشر في البحث عن السعادة. 3- حقيقة السعادة. 4- من أحوال السعداء. 4- مهلكات السعادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: سؤال نبدأ به خطبتنا هذه الجمعة، وجوابه هو موضوعها: أين تكون السعادة؟ وأين يكون الشقاء؟
إن الحديث عن السعادة والشقاء سيظل باقيًا ما دام في الدنيا حياة وأحياء، وإن كل إنسان على هذه البسيطة ليبحث عن السعادة جاهدًا، ويودّ الوصول إليها والحصول عليها، ولو كلّفه ذلك كل ما يملك.
ألا وإن جمعًا من الواهمين يعرفون السعادة بأنها لا حقيقة لها، وأنها خيال يبتدعه الوهم، ويكذبه الواقع. والحق أن هؤلاء جاهلون أو مخادعون؛ لأنه لا يعقل ألبتة أن يخلقنا الله ثم يريد لنا أن نشقى جميعًا، كيف ذلك والله يقول لنبيه : طه مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ?لْقُرْءانَ لِتَشْقَى? [طه:1، 2]، ويقول جل وعلا: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123]؟!
السعادة هي جنة الأحلام التي ينشدها كل البشر، من المثقف المتعلم في قمة تفكيره وتجريده إلى العامي في قاع سذاجته وبساطته، ومن السلطان في قصره المشيد إلى الصعلوك في كوخه الصغير، ولا نحسب أحدًا منهم يبحث عمدًا عن الشقاء لنفسه أو يرضى بتعاستها.
إن فقدان السعادة من قلب المرء يعني بداهةً حلولَ القلق والاضطراب النفسي في شخصه، فتجتمع عليه السباع الأربعة التي تهد البدن وتوهنه، ألا وهي الهم والحزن والأرق والسهر.
ولا أشد من وقوع الهمّ في حياة العبد؛ إذ الهمّ جند من جنود الله عز وجل سلّطه على من يشاء من عباده ممن كان ضعيف الصلة بالله غارقًا في المعاصي والذنوب، وَلِلَّهِ جُنُودُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:7].
سئل علي بن أبي طالب : من أشد جند الله؟ قال: (الجبال، الجبال يقطعها الحديد، فالحديد أقوى، والنار تذيب الحديد، فالنار أقوى، والماء يطفئ النار، فالماء أقوى، والسحاب يحمل الماء، فالسحاب أقوى، والريح تعبث بالسحاب، فالريح أقوى، والإنسان يتكفأ الريح بيده وثوبه، فالإنسان أقوى، والنوم يغلب الإنسان، فالنوم أقوى، والهمّ يغلب النوم، فأقوى جند الله هو الهمّ، يسلّطه الله على من يشاء من عباده).
إذًا يا عباد الله، السعادة والطمأنينة عطاء من الله ورحمة، كما أن الهمّ والقلق والضيق غضب من الله ومحنة.
السعادة تسير مع الإنسان حيث استقلّت ركائبه، وتنزل إن نزل، وتُدفن في قبره معه.
أيها المسلمون، اختلفت مشارب الناس في فهم السعادة، فتوجّه كل بحسب مشربه، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا [البقرة:148].
فمن الناس من ظنّ أن السعادة في الملك كفرعون، وفعلاً مَلَك، ولكنه مَلَكَ بلا إيمان، وتَسَلّطَ بلا طاعة، فتشدّق في الجماهير: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، ونسي أن الذي ملّكه هو الله، والذي أعطاه مصر هو الله، والذي جمع له الناس هو الله، والذي أطعمه وسقاه هو الله، ومع ذلك يجحد هذا المبدأ ويقول: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، فكان جزاء هذا العتو والتكبّر والتمرّد على الله أنه لم يتحصّل على السعادة التي طلبها، بل كان نصيبه الشقاء والهلاك واللعنة بعينها، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى [النازعات:25]، ويقول الله عنه وعن مثله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46].
ومن الناس من ظنّ أن السعادة في جمع المال كقارون، فمنحه الله كنوزًا كالتلال، ما جمعها بجهده ولا بذكائه ولا بعرقه ولا بعبقريته، وظنّ أنه هو السعيد وحده، وكفر نعمة الله، وقد حذره ربه، وأنذره مولاه مغبّة تصرفاته، فأبى وأصرّ على تجريد المال من الشكر، والسعي في الأرض فسادًا، فكان الجزاء المرّ: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81].
ومن الناس من ظنّ أن السعادة في كثرة الولد كالوليد بن المغيرة، فآتاه الله عشرة من الأبناء، كان يحضر بهم المحافل، خمسة عن يمينه، وخمسة عن يساره، ونسي أن الله خلقه فردًا بلا ولد، ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ [المدثر:11-16]، فماذا فعل؟ وكيف تصرف؟ أخذ عطاء الله من الأبناء فجعلهم جنودًا يحاربون الله إلا من رحم ربك، فقال الله فيه: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:26-30].
ومن الناس من يظنّ بأن السعادة في الشهرة، فيقضي ساعاته في توجيه الناس إليه؛ ليصبح معبود الجماهير ـ كما يقال ـ وحديث الركبان وشاغل الدنيا، فيقتلعه ربك من جذوره ويمحق سعيه، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17].
ومن الناس من يظنّ أن السعادة في الفن، الفن المتهتّك الخليع الماجن، فيدغدغ الغرائز، ويلعب بالمشاعر، ويفتن القلوب، ويسكب الغرام في النفوس، فيحمّله الله ذنوب من أغواهم دون أن ينقص من ذنوبهم شيئًا، ويحجب الله السعادة عن كل من لم يعترف بألوهيته، ويدين بربوبيته، فيقول: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
ومن الناس من يرون السعادة في الوظيفة والسلطة، وتغمره السعادة عندما يفسح له في المجالس، ويُصغى إليه عندما يتحدث، لهذا يحيا وعليه يموت، ولم يعتبر بمن قبله ممن خُدِع بهذه السلطة، وإذا به يفقد وظيفته فتنقلب الدنيا عليه، وتكون سعادته تلك دَيْنًا عليه، يقضيه همًّا وغمًّا، تضطره تلك الوظيفة بعد فقدها إلى أن يُغلِق باب بيته عليه، ينشد نسيان ذلك الماضي التعيس.
ومن الناس من طلب السعادة في زوج وولد، فلما حصّلهم واستووا إذا بهم ألدّ أعدائه وأشد خصومه، ينغّصون عليه حياته، يتمنّون علانية ساعة موته لينقضّوا على ما بقي من تركته فيقتسمونها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14].
ومن الناس من ظنّ أن السعادة في الشهرة، فهو لاعبٌ ماهر، أو هو فنان قدير، أو هو شاعر رقيق، أو هو مغنٍ صفيق، أو هو كاتب ساخرٌ مرغوبٌ في القراءة له. وكل ذلك من أجل أن يُصدّر اسمه بقولهم: النجم الساطع والكوكب اللامع. ومسكين ذلك اللاعب وذلك المغني وذلك الممثل، ينظر أمامه وينظر خلفه وعن يمينه وعن شماله فإذا الآلاف من الناس يصفقون له ويشجعونه، وربما حملوه على الأعناق، وربما يُسِّرت له المعاملات، وربما التُقِطَت معه الصور، أي تغريرٍ له أعظم من هذا التغرير؟! هل سيتفطّن إلى أن بحثه عن الشهرة ربما كان سبب هلاكه؟! وهل سيتفطّن إلى أن هؤلاء الذين يصفّقون له ويطبّلون سينسونه يوم يُوارى في التراب؟!
ومن الناس من غدا يبحث عن السعادة في اللهو والعبث، فتراه تارةً في ملهى، وتارة في مقهى، وأخرى على شاطئ، وغيرها في سوق، وهكذا تمرّ عليه الأيام والشهور والسنين.
طلبوها من طرق منحرفة، فكانت هذه الطرق سببًا لدمارهم وهلاكهم. كل هؤلاء ـ عباد الله ـ كانت نظرتهم للسعادة قاصرة، لا تجاوز مواطئ أقدامهم.
السعادة ـ يا رعاكم الله ـ أمر لا يُقاس بالكمّ ولا يُشترى بالدنانير، لا يملك بشر أن يعطيها، كما أنه لا يملك أن ينتزعها ممن أوتيها.
السعادة دين يتبَعه عمل، ويصحبه حمل النفس على المكاره وجبلها على تحمل المشاق والمتاعب وتوطينها لملاقاة البلاء بالصبر والشدائد بالجلد، والسعيد من آثر الباقي على الفاني، إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ?لرَّحْمَـ?نُ وُدًّا [مريم:96].
السعادة هي الرضا بالله والقناعة بالمقسوم والثقة بالله واستمداد المعونة منه، من ذاق طعم الإيمان ذاق طعم السعادة، قال رسول الله : ((ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً)) رواه مسلم.
السعادة هي الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً، وإتباع هذا الرضا بركعات وسجدات وخضوع وتسليم لله.
السعادة والفلاح ـ عباد الله ـ في الإسلام الذي هو الاستسلام الكامل لله جل وعلا والخضوع له والخلوص له من الشرك والأنداد والخروج عن داعية الهوى إلى داعية الرحمن، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
السعادة وجدها نبي الله يونس بن مَتّى وهو في ظلمات ثلاث، في بطن الحوت، في ظلمة اليم، في ظلمة الليل، حين انقطعت به الحبال إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت بلسان ضارع حزين: لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، فوجد السعادة.
السعادة وجدها موسى عليه السلام وهو بين ركام الأمواج في البحر، وهو يستعذب العذاب في سبيل الواحد الأحد، كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62].
السعادة وجدها محمد وهو يُطوّق في الغار بسيوف الكفر، ويرى الموت رأي العين، ثم يلتفت إلى أبي بكر ويقول مطمئنًا: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
السعادة وجدها يوسف عليه السلام وهو يسجن سبع سنوات، فيسألونه عن تفسير الرؤى فيتركها، ثم يبدأ بالدعوة فيقول: يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، فيعلن الوحدانية فيجد السعادة.
السعادة وجدها أحمد بن حنبل في الزنزانة وهو يجلد جلدًا، لو جُلده الجمل لمات كما قال جلاّدوه، ومع ذلك يصرّ على مبدأ أهل السنة والجماعة فيجد السعادة.
السعادة وجدها شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يُكبّل بالحديد، ويُغلِق عليه السجان الباب، داخل غرفة ضيّقة مظلمة، فيقول ابن تيمية: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:13]، ثم يلتفت إلى الذين هم خارج السجن، فيرسل لهم رسالة، وينشد لهم نشيدًا، وينقل لهم نبأً وخبرًا من السجن فيقول: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أنّى سِرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة".
هذه هي السعادة، وهذه بعض أحوال السعداء، ولا يكون ذلك إلا في الإيمان والعمل الصالح الذي بُعث به الرسول ، فمن سكن القصر بلا إيمان كتب الله عليه: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، ومن جمع المال بلا إيمان ختم الله على قلبه: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، ومن جمع الدنيا وتقلد المنصب بلا إيمان جعل الله خاتمته: فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124].
قال أهل السير والتاريخ: لما استقر هارون الرشيد في الخلافة وتولاها بعد أبيه أنفق الكنوز والقناطير المقنطرة في عمارة قصر على نهر دجلة، يدخل النهر من شمال القصر ويخرج من جنوبه، وعمر الحدائق التي تطل وتتمايل على النهر، ثم رفع الستور، وجلس للناس، فدخل الناس يهنئونه بقصره وبحدائقه، وكان فيمن دخل أبو العتاهية، فوقف أمام هارون الرشيد وقال له:
عِش ما بدا لك سالمًا في ظلّ شاهقة القصور
فارتاحَ هارون لهذا الكلام وقال: زد، فقال:
يجرَى عليك بما أردتَ مع الغدوّ مع البكورِ
أي: يأتيك الخدم والجواري بالأطعمة والأشربة وكل ما أردت صباحًا ومساءً، قال: زد، فقال:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حَشْرَجَة الصدورِ
فهناك تعلَم موقنًا ما كنتَ إلاّ في غرور
قال: أعد أعد. فقال: فإذا النفوس تغرغرت، يعني: إذا حضرت سكرات الموت، وحان الأجل، وبلغت الروح التراقي، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:27]، والتُمِس الطبيب، وذلك الذي يحيد منه العبد.
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حَشْرَجَة الصدور
فهناك تعلم موقنًا ما كنت إلا في غرور
إذا أتتك سكرات الموت وأشرفت على الهلاك سوف تعلم أنك كنت تضحك على نفسك، وأنك كنت تعبث كما يعبث الصبيان. فبكى هارون حتى وقع على الأرض، ثم أمر بالستور فهُتِكت، والأبواب فأغلقت، ونزل في قصره القديم، فلم يمض عليه شهر واحد حتى أصبح في عداد الموتى.
أيها المسلمون، من أراد السعادة فليلتمسها في المسجد صلاةً وجلوسًا وتعلّقًا، من أراد السعادة فليلتمسها في المصحف قراءةً وتدبرًا وحفظًا، من أراد السعادة فليلتمسها في السنة اتباعًا وتطبيقًا ومنهجًا، من أراد السعادة فليلتمسها في الذكر، في التلاوة، في الهداية، في الاستقامة، في الالتزام، في اتباع محمد.
إن السعيد من سعد بطاعة الله، والشقي من شقي بمعصيته لله، قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود:104-108]
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن لفقدان السعادة أبوابًا ينبغي إحكام إغلاقها وكشف عوراتها، فمن ذلك ـ ونحن على أبواب العطلة الصيفية ـ ما يكثر من الحفلات الغنائية تحت مسمى السياحة، والغناء مزمار الشيطان ورقية الزنا الذي ينبت النفاق والقلق كما ينبت الماء الكلأ، يقول الله فيه: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [لقمان:6].
ومن مهلكات السعادة جعل البيت المسلم محلاًّ لمرَدَة الجن وبُعد الملائكة، وذلك بنشر الصور التي حرمها الشارع على جدرانه وفي فنائه، ورسول الله يقول: ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب أو صورة)) ، فما بال الكثيرين يغلقون أبوابهم في وجوه الملائكة، ويستدعون أسباب الشقاء والقلق، ثم هم ينشدون السعادة بعد ذلك؟!
وأيضًا من أبواب الشقاء الذنوب والمعاصي التي قال عنها المصطفى : ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) رواه الإمام أحمد، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله في مسنده: "وجد في خزائن بني أمية حنطة، الحبة بقدر نواة التمر، وهي في صُرّة مكتوب عليها: هذا كان ينبت في زمن العدل".
ومن أسباب القلق أيضًا وذبح السعادة التهاونُ بشأن الصلاة أو التقليل منها، ورسول الله يقول: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) ، وكان إذا حزبه أمر واشتد عليه لجأ إلى الصلاة.
وأيضًا فإن ترك الذكر والدعاء والاستغفار محل للشقاء والهم والحزن، ولذا كان لزامًا على من ينشد السعادة أن لا يغفل هذا الأمر المهم، بل عليه أن يمسك بزمامه ويعضّ عليه بالنواجذ، وليعلم أن بالذكر والدعاء والاستغفار سيجعل الله له من كل همّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب.
دخل الرسول المسجد ذات يوم فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: ((يا أبا أمامة، ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟!)) ، قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلمك كلامًا إذا قلتَه أذهبَ الله همّك وقضى عنك دينك؟!)) قال: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال)). قال أبو أمامة: ففعلت ذلك فأذهب الله همّي وقضى عني ديني. رواه أبو داود.
اللهم إنا نعوذ بك من الهمّ والحزن، ونعوذ بك من العجز والكسل، ونعوذ بك من الجبن والبخل، ونعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال...
(1/4111)
غزوة بدر
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
غزوات, فضائل الأزمنة والأمكنة
أحمد بن عبد العزيز الشاوي
بريدة
جامع المنتزه الشرقي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب كون غزوة بدر أعظم الغزوات الإسلامية. 2- كيف يكون تذكر هذه الموقعة الخالدة؟ 3- بعض الدروس المستفادة من هذه الغزوة: الرابطة الحقيقية بين المسلمين هي رابطة الدين والعقيدة، المسلم ينظر إلى الحياة على أنها ممر لا مقر، الشباب المسلم لا بد أن يكون لديه حماس للدين وغيرة على الحرمات، أوامر الله عز وجل ونواهيه لا مجال للتقدم عليها أو التأخر عنها. 4- فضل العشر الأواخر من رمضان والحث على الاجتهاد فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، فإنه تعالى قال: إِن تَتَّقُواْ ?للَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الأنفال:29].
أيها المسلمون، لئن كان رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن هداية للناس وفرقانًا بين الحق والباطل وفيصلاً بين الجاهلية ـ كل الجاهلية ـ وبين الإسلام، فإن رمضان هو الشهر الذي شهد يوم الفرقان، يوم بدر الذي كان إيذانًا بانتصار الحق بقوة مؤيّدة بنصر الله وهداه، وإعلانًا بأن الحق مهما كان له من الوضوح والنصاعة لا يأخذ مكانه على مسرح الحياة ما لم يكن له القوة التي تحميه، هذه القوة التي أرادها الله أن تكون بعيدة عن الرياء والبطر، عاملة في سبيله، طالبة مرضاته، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال:47].
جاءت معركة بدر في رمضان، ومن بعدها معارك إسلامية أخرى، لتؤكّد حقيقة مهمة وهي أن رمضان هو شهر البذل والتضحية والجدية والعمل المثمر، لا شهر التكاسل والتخاذل والنوم والبطالة. يوم بدر هو يوم الفرقان كما سماه الله: إِن كُنتُمْ ءامَنْتُم بِ?للَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى? عَبْدِنَا يَوْمَ ?لْفُرْقَانِ يَوْمَ ?لْتَقَى ?لْجَمْعَانِ وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [الأنفال:41]، سمي بذلك لأن الله فرق فيه بين الحق والباطل.
موقعة بدر هي أعظم غزوات الإسلام فضلاً وشرفًا للأسباب التالية:
أولاً: لأنها أول غزوة كان لها أثرها في إظهار قوة الإسلام، فكانت بدءَ الطريق ونقطة الانطلاق في انتشار الإسلام.
وثانيًا: لأنها رسمت الخط الفاصل بين الحق والباطل، فكانت الفرقان النفسي والمادي والمفاصلة التامة بين الإسلام والكفر، وفيها تجسدت هذه المعاني، فعاشها الصحابة واقعًا ماديًا وحقيقة نفسية، وفيها تهاوت قيم الجاهلية، فالتقى الابن مقاتلاً لأبيه وأخيه والأخ مواجهة لأخيه.
وثالثًا: لأن المحرك لها هو الإيمان بالله وحده، لا العصبية ولا القبيلة ولا الأحقاد والضغائن ولا الثأر، وفيها تجلت صور رائعة من الإيمان بالله وصفاء العقيدة وحب هذا الدين.
أيها المسلمون، في مثل هذه الأيام تمر علينا ذكرى تلك الحادثة العظيمة والواقعة الخالدة، ولسنا من أهل البدع الذين يكتفون من مثل هذه المناسبة بمجرد إقامة احتفالات ومهرجانات دون أخذ العبرة والعظة، ولكننا حين نتذكر مثل هذه المناسبة فإن الأمل يحدونا والشوق يستَحِثُّنا إلى تجديد ماضي عهودنا، لا سيما في هذا الزمن زمن الوهْن وحب الدنيا وكراهية الموت، يتذكّر المسلم ذلك ليذكر بحرارة وعظمة مواقفَ مشرقة وأعمالاً خالدة مدى التاريخ، ما كان حديثًا يفترى ولا أساطير تروى، ذلكم الحديث الذي روى من التاريخ أنباء أعظم ثُلَّة ظهرت في دنيا الإيمان والعقيدة، فإن من أجمل ذكريات الأمة هو نصر الله لنبيها وتأييده لدينها، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يفرحون بهذا النصر الجميل، ويرفعون أيديَهم إلى السماء كما فعل رسول الله ، ضارعين إلى المولى عز وجل أن ينصرهم على أعدائهم، قائلين في حرقة وألم مما يصيبهم من أعدائهم: اللهم إنا ننشدك عهدك ووعدك الذي وعدتنا.
أيها المسلمون، إننا مهما وقفنا من وقفات صادقة مع هذه المعركة الفاصلة فإننا لن نوفّيها بعض حقها، إذ هي معين لا ينضب ومعروف لا ينقطع، وحسبنا في هذا المقام أن نشير إلى بعض سماتها والدروس المستقاة منها، علَّ الله أن يوفقنا إلى سلوك مسلك رسول الله ومسلك صحابته من بعده.
الوقفة الأولى: وتمثلها المواقف التالية:
قال عبد الرحمن بن أبي بكر ـ بعدما أسلم ـ لأبي بكر رضي الله عنه: لو رأيتني وأنا أُعرِض عنك في بدر حتى لا أقتلك، فقال أبو بكر: أما إني لو رأيتك وقتئذ لقتلتك. ويقابل أبو عبيدة رضي الله عنه أباه في المعركة ويقتله. ويمر مصعب بن عمير بعد نهاية المعركة ورجل من الأنصار يأسِرُ أخاه أبا عزيز، فيقول مصعب: شدَّ وثاقه فإن أمّه ذات مال، فيقول أخوه: أهذه وصاتك بي؟! فيقول مصعب: هو ـ أي: الأنصاري ـ أخي دونك. ويقول عمر رضي الله عنه لما استشارهم رسول الله في شأن الأسرى: أرى أن تمكنني من فلان قريب لي، وتمكن عليًّا وحمزة من أخويهما فنضرب أعناقهم.
إنها صور تمثل التطبيق الواقعي لمبدأ الولاء والبراء، فالرابطة الحقيقة هي رابطة الدين والعقيدة، مواقف تؤكد أن المؤمن يجب أن ينحاز إلى الصف المسلم، متجردًا من كل عائق أو جاذب، ومرتبطًا في العروة الواحدة بالحبل الواحد، ومن ثم فلا نسب ولا صهر ولا أهل ولا قرابة ولا وطن ولا جنس ولا عصبة ولا قومية حين تقف هذه الوشائج دون ما أراد الله، وإنما هي العقيدة، من وقف تحت رايتها فهو من حزب الله، ومن استحوذ عليه الشيطان فوقف تحت راية الباطل فلن تربطه بأحد من حزب الله رابطة، ولن يكون للمسلمين اليوم أو غدًا عزٌّ إلا بالرجوع إلى هذه العقيدة عن حب وولاء لدين الله والمؤمنين به، وبراء من كل كافر ومشرك ومنافق ولو كان أقرب قريب، قال تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُم [المجادلة:22].
الوقفة الثانية: وتصورها الأحداث التالية:
سأل عوف بن الحارث رسول الله فقال: ما يضحك الربّ من عبده؟ قال : ((غمسه يده في العدو حاسرًا))، فنزع درعًا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل رضي الله عنه. وقاتل عُكاشَةُ بن محْصَن يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده، فأتى رسول الله فأعطاه جِذْلاً من حطب، فقال: ((قاتل بهذه يا عُكاشة)) ، فلما أخذه من رسول الله هزَّهُ فعاد سيفًا في يده طويل القامة، فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين، واستحقّ أن يكون عكاشة من الذين يدخلون الجنة بلا حساب، رضي الله عنه وأرضاه. ورُمي حارثة بن سُراقة بسهم وهو يشرب من الحوض، فأصاب نحره فمات، وثبت في الصحيحين عن أنس أن حارثة قتل يوم بدر، فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله، أخبرني عن حارثة، لئن كان أصاب خيرًا احتسبت وصبرت، وإن لم يصب الخير اجتهدت في الدعاء، فقال رسول الله : ((يا أم حارثة، إنها جنان في جنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)) رواه الترمذي.
وأخرج مسلم أن رسول الله قال لأصحابه يوم بدر: ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)) ، فقال عُميْر بن الحَمَام: يا رسول الله، أجنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم)) ، قال: بخ بخ، فقال رسول الله : ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن، ثم قال: إن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، وقال: فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلى أن يقتلني هؤلاء، فقذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل وهو يقول:
ركضًا إلى الله بغير زادِ إلا التُّقى وعَمَل المَعَاِد
والصبرُ في الله على الجهاد وكلُّ زادٍ عُرضَةُ النفادِ
غيرُ التُّقى والبرِّ والرشادِ
ثمة صور تبرز نظرة أولئك الأبطال إلى الحياة، وأنها ممر لا مقر، وأن كل نعيم في الدنيا زائل لا محالة، ولن يبقى ولن يدوم إلا نعيم الجنان، وفي هذه المواقف درس لكل مسلم وموعظة لكل مؤمن أن يعلم أن الدنيا زائلة وأن نعيمها منقطع، فيؤثر الباقي على الزائل والدائم على المنقطع، ويتزود من الأعمال الصالحات التي تثبت تطلعه إلى الآخرة وزهده في الدنيا.
تلك هي ـ يا مسلمون ـ حياة الأبرار الصادقين، علم نافع، يتبعه عمل صالح راشد، يورث الله تعالى به عبده جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
الوقفة الثالثة: ويجليها المواقف التالية:
قال سعد بن أبي وقاص: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يَعْرِضَنا رسول الله يوم بدر يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟! قال: إني أخاف أن يراني رسول الله فيسْتَصْغِرَني فيردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، قال: فعُرض على رسول الله فاستصغره فرده، فبكى فأجازه، فكان سعد يقول: فكنت أعقد حمائل سيفه من صغره، فقتل وهو ابن ست عشرة سنة.
وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: إني لواقف يوم بدر، فنظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عماه، أتعرف أبا جهل؟ فقلت: نعم، وما حاجتك إليه؟! قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال لي أيضا مثلها، فلم ألبث أن نظرت إلى أبي جهل وهو يجول في الناس، فقلت: ألا تريان، هذا صاحبكم الذي تسألاني عنه، فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه.
إنها صور التربية الجادة لشباب الإسلام في الرعيل الأول، وهكذا يجب أن يكون شبابنا، حماس للدين وغيرة على الحرمات واهتمام بمعالي الأمور، فأين أنتم ـ يا شباب الإسلام ـ من تلك الطموحات؟! ماذا قدمتم لأمتكم؟! وماذا عساكم أن تفعلوا بشبابكم وفراغكم؟! وما مدى صلتكم بتاريخ آبائكم وأجدادكم؟! أليس في هذه المواقف الخالدة لكم قدوة وأسوة بدلاً من الركض وراء الشهوات واتباع الملذات؟! ويا ليت شبابنا يعملون.
الوقفة الرابعة: ويمثلها موقف الحُباب بن المُنْذِر رضي الله عنه، فعندما نزل المسلمون على أدنى ماء من بدر قال الحُبابُ: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: ((بل هو الرأي والحرب والمكيدة)) ، فقال الحُباب: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم منزلة، ثم نعود ما وراءه والآبار، ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال : ((لقد أشرت بالرأي)).
فهذه الكلمة من الحباب هي الفقه كله، فهي تمثل منهج الإسلام وتحدّد مجال الرأي، فما كان أمرًا من الله فلا مجال للتقدم عليه أو التأخر عنه، إذ لا مجال للعقل والرأي في هذه الدائرة، وإنما الواجب إزاءها التنفيذ والالتزام. هذا هو الأساس العظيم الذي قام عليه بناء المسلم فيما مضى من الطاعة المطلقة والانقياد لما أمر الله به وأمر به رسول الله ، لا تردد ولا تلكُّؤ ولا مساومة ولا تسويف، ولكن إذا أمر الله بأمر فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36].
أيها المسلمون، هذه لمحات خاطفة، وإنما دروس بدر وعبرها لا تنتهي، دروس في الإيمان، ودروس في الأسباب، وتوجيهات في الطاعة والتخطيط، وتربية في أدب المكاسب والمغانم، في بدر تجلت صور الحب الحقيقي لله ورسوله والاستجابة لله وللرسول، واتضحت حقيقة الإيمان بالله، وبرزت صورة البطولة والتضحية.
لقد أراد الله سبحانه أن تكون هذه الموقعة فرقانًا بين الحق والباطل، وأراد الله سبحانه وتعالى أن يعرف المسلمون على مدى التاريخ عوامل النصر والهزيمة، وأنها منه عز وجل: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، ولكي يعلموا أن النصر ليس بالعدد وليس بالعدة، وإنما هو بمقدار اتصال القلوب بقوة الله التي لا تقف لها قوة العباد.
وإنه لجدير بالمسلمين أن يقفوا طويلاً أمام بدر وقيمها الحاسمة التي تقررها، ففي هذه الغزوة أراد الله أن يري المسلمين مدى الفرق بين ما أرادوه لأنفسهم، وما أراده الله تعالى لهم، فقد أرادوا التجارة والعير وأراد الله لقاء النفير، ليرى المسلمون مدى ما بين إرادتهم لأنفسهم وإرادة الله بهم ولهم من فرق كبير، ويعلموا أن الخير دائمًا فيما اختاره الله سبحانه: وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال:7].
وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: ففي ثنايا الأيام القادمة ستنسلخ العشرون الأُوَل من رمضان، وتدخل العشر الأواخر منه، وهي عشر يقل فيها العاملون، ويكثر فيها الغافلون، نعوذ بالله من ذلك.
يا عباد الله، أنتم مقبلون على عشر هي أعظم أيام شهركم فضلاً وأرفعها قدرًا وأكثرها أجرًا، تصفو الأوقات للذيذ المناجاة، وتسكب العبرات بكاءً على السيئات، فكم لربّ العزة من عتيق من النار، وكم من أسير للذنوب وصله الله بعد القطع، وكتب له السعادة من بعد طول شقاء، إنها الفرصة إذا أفلتت فلن تنفع بعدها الحسرات، والأعمار بيد الله، وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34].
في صحيح مسلم عن عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما أن النبي كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره، وقالت رضي الله عنها: كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله.
فلا ينبغي للمؤمن العاقل أن يفوت هذه الفرصة الثمينة على نفسه وأهله، فما هي إلا ليالٍ معدودة ربما يدرك الإنسان فيها نفحة من نفحات المولى، فتكون سعادة له في الدنيا والآخرة، وإنه لمن الحرمان العظيم والخسارة الكبيرة أن تجد من الناس من يغفل في هذه العشر، فرجال دَأبهمُ سهر في الاستراحات ومشاهدة للمحرمات وتسكع في الأسواق، ونساء شغلهن التردد على الأسواق لحاجة وغير حاجة والانشغال بالتوافه من الأمور.
فيا عباد الله، اغتنموا شريف الأوقات، فما الحياة إلا أنفاس معدودة وآجال محدودة، والأيام مطاياكم إلى هذه الآجال، فاعملوا وأبشروا، فالمجنون ـ والله ـ من انصرف وتشاغل بغير طاعة الله، والمحروم من حرم ليلة القدر، والمأسوف عليه من أدرك شهر رمضان فلم يُغفَر له، وإنما الأعمال بالخواتيم، فهل من مُشمِّر؟! وهل من مُسابِق للخيرات قبل أن تطوى صفحة هذا الشهر فيندم المُفرِّطون ولا ينفع الندم؟!
أيها المسلمون، وأذكّر إخواننا الراغبين في العمرة في هذا الشهر بأن يتّقوا الله في أنفسهم ومحارمهم، وأن لا يكونوا سببًا في افتتان غيرهم أو فتن أنفسهم. كم في جوار حرم الله من مآسٍ تدمي القلوب وتجرح الضمائر، تبرّج واختلاط ومعاكسات وخلوات محرمة، ونحن ـ يا عباد الله ـ مسؤولون عن أسرِنا وأهلينا، ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) متفق عليه.
(1/4112)
مستريح ومستراح منه
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
أحمد بن عبد العزيز الشاوي
بريدة
23/1/1421
جامع المنتزه الشرقي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموت حتم لازم لكل حي من المخلوقات. 2- المؤمن لا يخاف الموت ولا يجزع منه. 3- من المستريح بعد الموت؟ 4- ممّ يستريح المؤمن بعد الموت؟ 5- صور من فرح السلف الصالح بالموت. 6- من المستراح منه بعد موته؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أخرج البخاري ومسلم رحمهما الله عن أبي قتادة بن رِبْعِيٍّ الأنصاري رضي الله عنه أنه كان يحدث أن رسول الله مُرَّ عليه بجنازة فقال: ((مُستريح ومُستَراح منه)) ، قالوا: يا رسول الله، ما المستريح والمستراح منه؟ قال: ((العبد المؤمن يستريح من أذى الدنيا ونصَبها إلى رحمة الله عز وجل، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب)).
إنه حديث يصوّر أصناف الراحلين من هذه الدار إلى دار القرار، فهما صنفان: إما مستريح أو مستراح منه. فمن المستريح؟ وممّ يستريح؟ ولماذا يستريح؟ ومن المستَراح منه؟ أسئلة تتوارد على الخاطر. ويبقى السؤال الأهمّ: من أيّ الفريقين أنا وأنت؟
الموت حتم لازم، لا مناص منه لكل حيّ من المخلوقات، فكل مَنْ عليها فانٍ، ولو نجا أحد من الموت لنجا منه خيرة الله من خلقه محمد ، إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ?لْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ?لْخَـ?لِدُونَ [الأنبياء:34].
والمؤمن بالله يؤمن أن للموت وقتًا يأتي فيه، فلا يستطيع أحد أن يتجاوز الأجل الذي ضربه الله له، وقد قدر الله آجال العباد، وجرى بذلك القلم في اللوح المحفوظ، وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَـ?بًا مُّؤَجَّلا [آل عمران:145]، وأخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي ورضي الله عنها: اللهم أَمْتِعْني بزوجي رسول الله وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية، فقال النبي : ((قد سألتِ الله لآجالٍ مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيء قبل حَلِّه، ولن يؤخر الله شيئًا عن حَلِّه، ولو كنت سألتِ الله أن يعيذَك من عذاب في النار أو عذاب في القبر كان خيرًا أو أفضل)).
المؤمن أُمِّن على أجله، فإن الله قدر له ميقاتًا، فجعل له أيامًا معدودة وأنفاسًا محدودة، لا تملك قوة أن تنقص من هذا الميقات أو تزيد فيه، فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
المؤمن موقن أن الله قد فرغ من الآجال والأعمار، وكتب على كل نفس ما تصنع حتى تموت، ولهذا ألقى المؤمن عن كاهله همَّ التفكير في الموت والخوف على الحياة، فمنحه ذلك السكينة والطمأنينة والقوة في مواجهة الحياة وما فيها من طغيان وجبروت. هدد الحجاجُ سعيدَ بن جبير بالقتل، فقال له سعيد: لو علمتُ أن الموت والحياة بيدك ما عبدتُ إلهًا غيرك.
إن المؤمن لا يعيش في خوف من الموت ولا جزع من مرارة كأسه، فهو زائر لا بد من لقائه، وقادم لا ريب فيه، والخوف لا يَرُدُّه، والجَزَعُ لا يثنيه، قُلْ إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـ?قِيكُمْ [الجمعة8]، ويهوِّن الموت على المؤمن أنه سبيل الناس قبله من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، فلا عليه إذا اقتفى أثرهم وسار في دربهم. إن الموت عند التوبة خطبٌ قد عَظُمَ حتى هان، وخَشُنَ حتى لان، إنه بليّة عمّت، والبلايا إذا عمّت طابت.
أيها المسلمون، المستريح بعد الموت هو من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً. المستريح هو من تخلّص من حقوق العباد واستعدّ ليوم المعاد. المستريح هو من يرحل من هذه الدار وقد كان في دنياه من عُمّار بيت الله، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. المستريح من عباد الله هو من يرحل من هذه الدار بعد أن أسّس بيتًا قائمًا على التقوى، وخلّف وراءه صدقة جارية أو علمًا ينتفع به أو ولدًا صالحًا يدعو له. المستريح هو من دعا إلى الله وجاهد في سبيل الله وكان من خير الناس للناس، فعاش سعيدًا ومات حميدًا. المستريح هو من حفظ السمع والبصر والفؤاد عن كل ما يغضب رب العباد. المستريح بعد الموت هو من عاش يحمل هم الدين، ووقف في وجه الفساد والمفسدين حتى أتاه اليقين. المستريح هو من يحلّق في هذه الحياة بجناحين: جناح الخوف وجناح الرجاء والطمع في ثواب الله. المستريح هو من جعل الآخرة همه، وعاش في الدنيا كأنه غريب أو عابر سبيل، وأخذ من صحته لسقمه، ومن حياته لموته، واغتنم شبابه قبل هرمه، وصحته قبل سقمه، وفراغه قبل شغله وغناه قبل فقره.
المستريح هو ذلك الشاب الذي نشأ في طاعة الله، يتربى في بيت الله ويحفظ كتاب الله، ويودع الدنيا على هذه الحال. المستريح بعد الممات هي تلك المرأة الصالحة التي تمسكت بحجابها واعتزت بدينها وحافظت على عفافها وماتت على ذلك. المستريح ـ يا عباد الله ـ هو باختصار من يعمل بأوامر الله على نور من الله يرجو ثواب الله، ومَن يتقِي محارم الله على نور من الله ويخشى عقاب الله. فهل أنت ـ يا عبد الله ـ كذلك؟!
إن من كانت هذه حاله فهو ـ وربي ـ مستريح؛ لأن متاع الدنيا عنده أهون من أن يأسَى على فراقه بالموت، كيف والموت قَنْطَرَتُه إلى المتاع الباقي والنعيم السرمدي؟! كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
إن الله ـ وهو الكريم الجواد ـ لا يسلب عبده نعمة أنعم بها عليه إلا وهو يعطي نعمة أكبر منها، فلا يسلب هذه الحياة الضعيفة إلا ويعطي حياة أوسع وأبقى وأجمل وأفضل. قال يحيى بن معاذ: "لا يكره لقاء الموت إلا مريب، فهو الذي يقرب الحبيب من الحبيب". قيل لأعرابي اشتد فرحه: إنك ستموت، فقال: وإلى أين يذهب بي بعد الموت؟ قالوا: إلى الله، فقال: ويحكم، وكيف أخاف الذهاب إلى من لا أرى الخير إلا من عنده، وصدق الله: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
إن المؤمن بالموت مستريح؛ لأنه لا يرى في هذه الحياة إلا أنها زمن للابتلاء والفتن، ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، هي دارٌ حلالها حِساب وحرامها عذاب، إنها دار النصَب والوصب والشقاء والكِبَر. إنه مستريح لأنه يفارق دار الهموم والأحزان، فقر ومرض، موت عزيز، فراق حبيب، خوف وجوع، ما أضحكت إلا وأبكت، وما جمعت إلا وفرقت.
هي هي الدنيا تقول بملء فيها: حَذارِ حَذارِ من بطشي وفتكي
المؤمن بالموت مستريح، يفارق دنيا عرف حقيقتها المصطفى حين قال: ((ما لي وللدنيا؟! وما للدنيا ولي؟! والذي نفسي بيده، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظلّ تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها)) ، وقال: ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء)).
إنه بالموت مستريح لأنه سيقوم على روح وريحان ونعيم في الجنة ورب راضٍ غير غضبان، إنه سيقوم على دار أهلها يَصِحُّون فلا يبأسون، ويحيَوْن فلا يموتون، لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، على الأرائك متكئون، ولهم فيها ما يدعون، سلام قولاً من رب رحيم.
إن المؤمن مستريح حينما يفارق دار العناء إلى الراحة والصفاء. إن المؤمن يرى في الموت بابًا لدار الكرامة، وخلاصًا من شقاء الحياة الدنيا، ومصدرُ ذلك قوله في الحديث: ((تحفة المؤمن الموت)) ضعفه الألباني.
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: يكفى في طيب هذه الحياة مرافقة الرفيق الأعلى، ومفارقة الرفيق المؤذي المنكّد الذي تنغّص رؤيته ومشاهدته الحياة فضلاً عن مخالطته وعشرته، إلى الرفيق الأعلى مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، في جوار الرب الرحمن الرحيم.
ولو لم يكن في الموت من الخير إلا أنه باب الدخول إلى هذه الحياة وأنه جسر يعبر منه إليها لكفى به أن يتحقق للمؤمن.
جزى الله عنا الموت حينا فإنه أبر بنا من كل بر وألطف
يعجل تخليص النفوس من الأذى ويرقي إلى الدار التي هي أشرف
هذه النظرة إلى الموت والحياة واليقين في أن الموت راحة من نكد الدنيا وعنائها، هذه النظرة هي التي ولدت جيل البطولة وأهل الآخرة، هي التي جعلت قدوة الخلق يخير عند موته فيقول: ((بل الرفيق الأعلى))، ويقول لابنته: ((لا كرب على أبيك بعد الموت)) ، هي التي جعلت عبد الله بن حرام رضي الله عنه وقد طعن من خلفه وجعل الدم يفور من أمامه، فيأخذ الدم ويمسح به جسمه ويقول: (فزت ورب الكعبة)، هي التي جعلت بلالاً رضي الله عنه وقد جلست زوجه بجواره تبكي عند احتضاره وتقول: واحزناه، فيقول لها: (بل واطرباه، غدًا نلقى الأحبة محمدًا وصحبه)، هي التي حركت عمرو بن الجموح الصحابي الأعرج لكي يقاتل في أحد، حتى قتل ويقول: (لعلي أطأ بعرجتي هذه الجنة)، هي التي حركت عمير بن أبي وقاص الفتى ابن السادسة عشرة لكي يتطاول بأصابع قدميه، حتى لا يراه رسول الله فيستصغره فيرده عن الجهاد، هي التي حركت شباب الإسلام للجهاد وخَرَّجَت أسودًا سمعتم عنهم في أفغانستان، وتسمعون عنهم اليوم في الشيشان، هي التي أخرجت رجالاً قال عنهم سيف الله: (يحبّون الموت كما تحبون الحياة).
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الباب ما الدار
الدار جنة الخلد إن عملت بِما يرضي الإله وإن قصّرت فالنار
هما محلان ما للمرء غيرهما فاختر لنفسك أيّ الدار تختار
وأخيرًا قال ابن الإمام أحمد: متى الراحة يا أبي؟ قال: عند أول قدم تضعها على باب الجنة.
أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، أما المستراح منهم فهم أصناف شتى، وهم سبب كل بلاء وشرارة كل مصيبة.
هم المترفون الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ?لْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:116]، هم الظالمون لغيرهم ولأنفسهم، هم الحكام المعطِّلون لشرع الله المحاربون لدين الله المضادون لأولياء الله، هم العصاة الذين انقطعت بمعاصيهم الخيرات ونُزعت البركات وأجدبت الديار وتأخرت الأمطار، هم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا من دعاة تحرير المرأة ومن مروّجي الرذيلة ومحاربي الفضيلة، هم المجرمون الذين يعيثون في الأرض فسادًا قتلاً للآمنين وترويعًا للمؤمنين، هم تجار المخدرات ومروجو المسكرات والمفرقون للأسر والجماعات، هم الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، هم المضيعون لأنفسهم بالتجرؤ على حدود الله، والمضيعون لمن تحت أيديهم بتأمين وسائل الفساد والإفساد لهم وإهمال تربيتهم.
أولئك وأمثالهم تستريح منهم البلاد والعباد والشجر والدواب، فما نزل بلاء إلا بذنب، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وإن الطيور في أوكارها والدواب في جحورها لتلعن عصاة بني آدم وتقول: إنما أوتينا من قبلكم. قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
أيها المسلمون، كل سيمضي من هذه الدار، فميت يعد مستريحًا، وآخر مُستراح منه. كم من أناس شيدوا القصور فلم يسكنوها، واشتروا الملابس فلم يلبسوها، وتقلبوا في اللذات واللهو والغفلات فلم يبقَ منها إلا الحسرات. كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَـ?كِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَـ?هَا قَوْمًا ءاخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:25-29].
كل سيغادر هذه الدار، ففريق فارقها ولكن ذكراهم بقيت حية بما تركوا من آثار طيبة وسيرة نقية وأفعال مرضية، أولئك المستريحون، وفريق ترك الأثر بما كان عليه من ظلم وطغيان وعتوٍ في الأرض، حتى إذا جاء الموت استراح من شرورهم العباد والبلاد، وفرحت القلوب للخلاص منهم، وأصبح مصيرهم تلك الحفر الضيقة المظلمة، ليكونوا طعامًا للديدان وهوام الأرض، وفي ذلك درس بليغ يعين المظلوم على الصبر، فالله سبحانه يمهل ولا يهمل، ولا بد لكل ظالم نهاية.
أين من سادوا وشادوا وبنوا هلك الكل فلم تغن الفلل
أين أرباب الحجى أهل النُهى أين أهل الفضل والقوم الأُوَل
سيعيد الله كلاً منهم وسيجزي فاعلاً ما قد فعل
وأخيرًا يا عباد الله، انظر لنفسك ماذا أنت تختار؟ أتحب أن تستريح أم يُستراح منك؟ أتحب أن يقال: فلان فقيد، أم يقال: فلان موته عيد؟ أتحب أن يبكيك من يعرفك ومن لا يعرفك، أم تودُّ أن يستكثر حتى محبوك دمعة على فراقك؟
هذه أسئلة، والإجابة تملكها أنت، والموعد يوم الجنائز، والمقياس يوم تبلى السرائر، وما ربك بظلام للعبيد.
يا عباد الله، صلوا على خير خلق الله، اللهم صلّ وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليمًا كثيرًا...
(1/4113)
عيد الأضحى المبارك
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة إبراهيم وابنه الذبيح إسماعيل. 2- موقف إبراهيم المستسلم لأمر الله. 3- أحكام الله كلها رحمة وخير. 4- يوم العيد يوم بر وتسامح وتكافل وصلة أرحام. 5- التوبة وقبول الطاعة يجعل من هذا اليوم عيدًا.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر. الله أكبر ما رفع الحجيج أصواتهم بالتلبية مستجيبين لنداء الله عز وجل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. الله أكبر ما أتموا الطواف بالبيت العتيق خاشعين ضارعين راجين من الله المغفرة والرضوان. الله أكبر ما ذكروا قول الرسول : ((يوم عرفة من أيام الله عز وجل، ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا فيقول: انظروا إلى عبادي جاؤوني شعثًا غبرًا ضاحين، جاؤوا من كل فجّ عميق، يرجون رحمتي، ولم يروا عذابي، فلم يُر يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة)). الله أكبر ما أتموا مناسك الحج ذاكرين قول الله تعالى: ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32]. الله أكبر، وما من عظيم إلا واللهُ أعظم منه وأكبر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله، خير من حج البيت واعتمر، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة المسلمون، تذكرنا هذه الأيام المباركات بيوم عظيم في حياة سيدنا إبراهيم عليه السلام، بل في حياة البشر أجمعين.
موقف يعرضه الله تعالى للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم، جاء ذكره في سورة الصافات، قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ?لسَّعْىَ قَالَ ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى ?لاْخِرِينَ سَلَـ?مٌ عَلَى? إِبْر?هِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُؤْمِنِينَ [الصافات:102-110].
فبعد أن رزق سيدنا إبراهيم عليه السلام في كبره بغلام طالما تطلع إليه، وبعد أن تفتح صباه وأنس به وبلغ معه السعي ورافقه في الحياة، رأى إبراهيم في منامه أنه يذبحه، فيدرك أنها الإشارة من ربه بالتضحية، وهذا يكفي ليلبي ويستجيب دون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه: لماذا ـ يا رب ـ أذبح ابني الوحيد؟
ويأخذ إبراهيم الأمر، ويعرضه على ابنه كالذي يعرض المألوف من الأمر؛ لأن ابنه ينبغي أن يعرف لينال هو الآخر أجر الطاعة والاستسلام، ويتذوّق حلاوة التسليم، وتَلقّى إسماعيل الأمر في رضا، فشبَحُ الذبح لا يزعجه ولا يفقده أدبه ورشده، قَالَ ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ.
وبعد أن أكبّ إبراهيم ابنه على جبينه ليذبحه، ولم يكن باقيًا إلا أن يذبح إسماعيل ويسيل دمه وتزهق روحه اعتبرهما الله قد أدّيا وصدقا ، وَنَـ?دَيْنَـ?هُ أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ.
ومضت بذلك سنة الذبح في الأضحى ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان وجمال الطاعة والتسليم.
ونأخذ من ذلك الدرس الذي علمنا إياه الله تعالى في هذه القصة، هذا الدرس هو أن المسلم ملكٌ لله عز وجل، يسير حياته وفق تعاليمه، مسلِّمًا وجهه إليه، ولا يتردّد في تحقيق أمره، ولا يختار فيما يقدمه لربه هيئة ولا طريقة إلا كما يأمر هو سبحانه، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
هكذا يتعامل المسلم مع أحكام الله عز وجل، يطبقها دون تردّد أو خوف، يطبّقها على نفسه، ويدعو لتطبيقها في مجتمعه ولو بقلبه، وذلك أضعف الإيمان كما أخبر المعصوم ، ويعتقد بصلاحية الأحكام الإسلامية لكل زمان ومكان، وهذا من شروط الإسلام.
فأحكام الإسلام صالحة لكل زمان ومكان، ولا يستحي المسلم من أن يجهر بذلك، ولا يضيره أن يصف أعداء الإسلام حدود الإسلام بأنها تماثل همجية القرون الوسطى.
فغير المسلمين فقدوا عقولهم بدعوى حقوق الإنسان، يقتل الرجل منهم مائة فإذا ما حكم عليه بالإعدام تخرج المظاهرات وتصدر البيانات المندّدة بالحكم والتي تصفه بأنه يعالج جريمة بجريمة، فأين العقل إذًا؟!
لذلك فأحكام الإسلام وحدود الشريعة هي الوحيدة التي نعتقد بأنها كافية لردع المجرمين ولتوفير الأمان، وقبلها لنيل رضا الله عز وجل، وإن بدت في ظاهرها أنها قاسية على المجرم، فإنما تحملُ في قسوتها على المجرم الرحمة به وبالمجتمع. والأحكام الوضعية إن كان ظاهرها فيه الرحمة، فباطنها من قِبَله العذاب والشقاء للإنسانية جمعاء، ولنتأمل قول الله تعالى: وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ يأُولِي ?لألْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
فالمسلم يؤمن بربه سبحانه، وينقاد له سبحانه، لا يتردّد في تطبيق أوامره والكفّ عن نواهيه سبحانه طلبًا لرضاء الله عز وجل وللسّلامة في الدنيا وفي الآخرة.
عن أنس رضي الله عنه: قدم النبي المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((قد أبدلكم الله خيرًا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى)) [1].
[1] أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب: صلاة العيدين (1134)، والنسائي: كتاب العيدين، باب: أخبرنا علي بن حجر (1556)، وصححه الحاكم (1/294)، وهو في السلسلة الصحيحة (2021).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر، الحمد لله والله أكبر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وما من عظيم إلا واللهُ تعالى أعظم منه وأكبر.
أما بعد: إنه لمن أجمل الجميل أن تأتي الأعياد الإسلامية مصاحبة لجوّ روحي طاهر، فعيد الفطر يأتي بعد أداء الصيام وتزكية النفوس وتحقيق معاني التقوى في النفس، وعيد الأضحى يأتي في جوّ تلبية المسلمين لنداء الله عز وجل بأداء فريضة الحج، ومن هنا كان على المسلم أن يحيا في العيد هذا الجو الروحاني.
فالعيد في الإسلام فيه الفرح والزينة، ومع ذلك فيه الالتزام التام بآداب الإسلام وتعاليمه، إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
وفي هذا اليوم المبارك وفي اليومين التاليين على كل قادر أن يضحي؛ لأن المسلم يغفر له مع أول دفقة من دم الأضحية. وعلينا أن نبرّ آباءنا ونصِل أرحامنا، فنراسلهم وندعو لهم ونتصل بهم بالهاتف حيث يقول : ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبرّ والديه وليصل رحمه)).
وفي هذا اليوم المبارك على المتخاصمين أن ينهوا خصامهم حيث يقول : ((وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) [1].
وعلى كل من له صديقان متخاصمان أن يحاول ويعمل على أن يصلح بينهما لقوله : ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ إصلاح ذات البين)) [2]. أما إفساد ذات البين الذي يفعله البعض دون أن يشعر بنقل الكلام ولو كان حقًا فهو من أكبر الكبائر.
وفي هذا اليوم المبارك علينا أن نفرج الكروب ونسعد الأولاد والزوجة ونتزاور فيما بيننا ونتذكر الأخوة التي تجمعنا مع كل المسلمين في أمتنا، فنفرح للآمنين السعداء منهم، ونحزن وندعو للمظلومين والبائسين، ولا ينبغي أن يدفعنا واقع المسلمين المرير إلى اليأس، فكل ما نرى سينتهي بأمر الله، وسيتحول إلى عزِّ وتمكين، يقول تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأشْهَـ?دُ [غافر:51]، ويقول : ((تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)).
فهذا هو وعد الله ورسوله، فقط علينا أن نعمل لإنهاض أمتنا من سباتها، لا أن نسب أمتنا ليل نهار، ينبغي أن نعمل لعزتها ولو بدعوة، ولو بالكف عن السباب، فشعوبنا ضحية وليسوا جناة، وأزمتها أزمة إدارة فقط.
دخل رجل على أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه يوم عيد الفطر، فوجده يتناول خبزًا فيه خشونة، فقال: يا أمير المؤمنين، يوم عيد وخبز خشن! فقال عليّ: (اليوم عيد مَن قُبِلَ صيامه وقيامه، عيد من غفر ذنبه وشكر سعيه وقبل عمله، اليوم لنا عيد وغدًا لنا عيد، وكل يوم لا يعصى الله فيه فهو لنا عيد).
فعلينا أن نتقي الله تعالى كي تكون أيامنا كلها أعيادًا، علينا أن نبتعد عن الذنوب والمعاصي، فالمسلم يخسر بالمعاصي كل شيء: الرزق والعلم وتيسير الأمور عليه وعون الله له، يقول الشاعر:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
وحُطْها بطاعة رب العباد فربّ العباد سريع النقم
وإدمان الذنوب دائمًا يورث الذلّ، وإن من العصاة لمن يواقع المعصية من غير لذّة يجدها إلا لما يجد من الألم بمفارقتها، حتى إن أحد الشعراء قال:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانُها
وعلينا أن نغتنم فرصة حياتنا في عمل الصالحات قبل أن تمنعنا الحوادث من فعل الخيرات، يقول : ((بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنى مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفتّرًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشرّ غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)) [3].
ولنتذكر الموقف الذي صوره لنا عن يوم القيامة: ((ما منكم أحد إلى سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) [4].
وأخيرًا، ندعو الله تبارك وتعالى بأن يجعل هذا العيد عيدًا مباركًا، وأن يوفقنا فيه لما يحبه ويرضاه، وكل عام وأنتم بخير، كل عام وأنتم من الله أقرب وعلى طاعته أدوم.
وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] أخرجه البخاري: كتاب الأدب، باب: الهجرة (6077)، ومسلم: كتاب البر، باب: تحريم الهجر فوق ثلاث (2560).
[2] أخرجه أحمد (6/444)، وأبو داود: كتاب الأدب، باب: في إصلاح ذات البين (4919)، والترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب: حدثنا هناد (2509)، والترمذي، وابن حبان (5092)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2037)، وانظر: غاية المرام (414).
[3] أخرجه الترمذي: كتاب الزهد، باب: ما جاء في المبادرة بالعمل (2306)، والعقيلي في الضعفاء (1822)، والحاكم (4/321)، وهو في السلسلة الضعيفة (1666).
[4] أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب: من نوقش الحساب عُذب (6539)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب: الحث على الصدقة (1016).
(1/4114)
أثر الإيمان (2)
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, فضائل الإيمان
زياد بن محمد الصغير
فروتسوان
مسجد فروتسوان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقارنة بين حال الخنساء في الجاهلية وحالها في الإسلام. 2- عمر بن عبد العزيز وصورة لأثر الإيمان. 3- دعوة للتوبة والاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زلنا نتحدث عن السر العجيب الذي حول هذه الأمة من قبائل بداوة إلى أمة حضارة، وقلنا: إن مرد هذا هو الإيمان الذي صَبَّهُ محمد في نفوس أصحابه، فنقلهم من حال إلى حال، ومن وثنية إلى توحيد، ومن جاهلية إلى إسلام.
وحسبنا مثلاً على هذا التحول الهائل امرأةٌ عُرف أمرها في الجاهلية وعرف أمرها في الإسلام. إنها امرأة فقدت في جاهليتها أخاها لأبيها صخرًا، فملأت الآفاق عليه بكاء وعويلاً وشعرًا حزينًا، ترك الزمن لنا منه ديوانًا كان الأولَ من نوعه في شعر المراثي والدموع:
يذكرني طلوع الشمس صخرًا وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
هذه المرأة هي الخنساء، ولكنها بعد إسلامها نراها امرأة أخرى، نراها أمًا تُقدّم فلذات كبدها إلى الميدان، أي: إلى الموت، راضية مطمئنة، بل محرِّضة دافعة.
روى المؤرخون أنها شهدت حرب القادسية بين المسلمين والفرس تحت راية القائد سعد بن أبي وقاص، وكان معها بنوها الأربعة، فجلست إليهم في ليلة من الليالي الحاسمة تعظهم وتحثهم على القتال والثبات، وكان من قولها لهم: (أي بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية, والله تعالى يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فتيمّموا وطيسها, وجالدوا رئيسها؛ تظفروا بالغُنم في دار الخلد).
فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية وأنوف حمية، إذا فتر أحدهم ذكّره إخوته وصية الأم العجوز، فزأر كالليث، وانطلق كالسهم، وانقضّ كالصاعقة، ونزل لقضاء الله على أعداء الله، وظلوا كذلك حتى استشهدوا واحدًا بعد واحد.
وبلغ الأمَّ نعيُ الأربعة الأبطال في يوم واحد، فلم تلطم خدًا، ولم تشقّ جيبًا، ولكنها استقبلت النبأ بإيمان الصابرين وصبر المؤمنين وقالت: (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).
فما الذي غير خنساءَ النواحِ والبكاءِ إلى خنساءِ التضحيةِ والفداءِ؟! إنه صانع المعجزات، إنه الإيمان بالله عز وجل.
والإيمان بالله يغير الإنسان بالكلية، فيحمل المؤمن على أن يكظم الغيظ، ويعفو عمن ظلمه، ويحلم على من جهل عليه، ويحسن إلى من أساء إليه، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: (من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون).
وكلّم رجل يومًا عمر بن عبد العزيز، فأساء إليه حتى أغضبه، وهو أمير المؤمنين، فهمّ به عمر، ثم أمسك نفسه وقال للرجل: "أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غدًا؟! ـ أي: في الآخرة ـ، قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك".
هكذا يغير الإيمان العباد، وهكذا ينبغي أن نكون.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فقد رأينا نماذج لرجال شوامخ، غيّرهم إيمانهم إلى أحسن ما يكون عليه الرجال، ونحن ينبغي أن نتغير وأن نسارع بالرجوع إلى الله وبالتوبة إليه سبحانه، عندها سنجد الطريق مفتوحًا رحبًا تنادينا إليه الآية الكريمة: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لتَّوبِينَ وَيُحِبُّ ?لْمُتَطَهّرِينَ [البقرة:222].
ويلازم التوبَةَ استغفار دائم لله الغفور الرحيم، قال : ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا)) [1] ، ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)) [2] ، ويقول : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) [3].
ويوصي الرسول النفس بإنقاذها من الوقوع تحت وطأة الذنب، وفي نفس الوقت بإنقاذها من الإصرار عليه، يقول : ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)).
فالمهم في موقفنا من الخطايا أن لا ندعها تتراكم لتحاصرنا حصارًا قاسيًا ومميتًا، بل نعالجها أولاً فأولاً، يقول : ((وإذا أسأت فأحسن، وأحدث لكل ذنب توبة)) ، وإلا فيقول الرسول : ((إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها، وإن زاد زادت حتى يغلف فيها قلبه، فذلك هو الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه فقال: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )) [4] ، ف الله تعالى يختم على قلب العاصي المتمادي حتى يستمر في معصيته ما دام العبد يريد ذلك.
إذًا، فلا بد من توبة ونزوع واستغفار، ويأتي النزوع قبل الاستغفار؛ لأن التغيير الحقيقي هو جوهر التوبة والاستغفار، أما حركة اللسان بكلمات الاستغفار مهما تكن كثرتها دون عمل جاد لمحق الخطيئة والإقلاع عنها فعمل خبيث، رُوي عنه أنه قال: ((المستغفر من الذنب وهو يقيم عليه كالمستهزئ بربه)) ، ويبشرنا الرسول نحن العصاة فيقول: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)) [5].
فلعفو الله وسعة رحمته بنا نحن العصاة يعود المذنب بعد توبته من الذنوب كما ولدته أمه طاهرًا ناضرًا معافى، نسأل الله أن يقبل توبتنا ويغسل حوبتنا ويعصمنا من الزلل.
[1] أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب: الاستغفار (3818)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (455)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3078) وصحيح الترغيب (1618).
[2] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: في الاستغفار (1518)، وابن ماجه في كتاب الأدب، باب: الاستغفار (3819)، وصححه الحاكم (4/262)، وتعقبه الذهبي بقوله: "الحكم فيه جهالة"، وهو في السلسلة الضعيفة (705).
[3] أخرجه أحمد (5/153)، والترمذي: كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشرة الناس (1987)، والدارمي: كتاب الرقاق، باب: في حسن الخلق (2791)، وصححه الترمذي، وقواه ابن رجب بشواهده في جامع العلوم والحكم (1/156) الحديث الثامن عشر، وهو في صحيح سنن الترمذي (1618).
[4] أخرجه أحمد (2/297)، والترمذي: كتاب التفسير، باب: سورة المطففين (3334)، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب: ذكر الذنوب (4244)، وصححه الترمذي، والحاكم (1/5)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2654).
[5] أخرجه ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة (4250)، وحسن الحافظ إسناده في الفتح (13/471)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3427).
(1/4115)
الجرأة على محارم الله (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الكبائر والمعاصي
سلطان بن حمد العويد
الدمام
الأمير فيصل بن تركي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التقليد الأعمى للكافرين طريق للوقوع في المعاصي. 2- أمثلة لضلال الأمم بسبب التقليد الأعمى. 3- ما جاء في وعيد مقلدي أهل الباطل. 4- سريان التقليد الأعمى بين المسلمين. 5- بعض ما اعتاده الناس من بدع في شهر رجب. 6- فضل شهر شعبان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الإخوة المؤمنون، تحدثنا في الأسبوع الماضي عن كثرة المعاصي وشيوعها في مجتمعات المسلمين، وذكرنا أن من أعظم الأسباب التي توقع كثيرًا من المسلمين في هذه البلايا والرزايا مع الاستهانة بالحرام وعدم تفكيرهم فيما أعد الله عز وجل لهم، ذكرنا أن من أعظم الأسباب إنما هو غفلتهم عن اليوم الآخر وما يأتي بعده، وما أعدّ الله تبارك وتعالى من النار والعذاب للعصاة والمخالفين والمتمرّدين على عبوديتهم لله رب العالمين. ولو تأمل الناس في مصيرهم بعد الموت لما رأينا ـ والله ـ هذه الاستهانة الكبيرة بحدود الله ومحارمه.
عباد الله، وإن من الأسباب أيضًا التي يقع بسببها كثير من العصاة ـ يقعون فيما يغضب الرب جل جلاله ـ التقليد الأعمى، التقليد الأعمى سواء كان لأعداء الإسلام الكافرين من يهود ونصارى وملاحدة ووثنيين ومنافقين، أو كان التقليد للآباء والأجداد والقبيلة والعرف، أو كان التقليد لعامة المجتمع الذي يعيش فيه المقلد.
اعلموا أيها الإخوة، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن التقليد هو العقيدة الكبرى لجميع الكفرة، أوّلهم وآخرهم؛ قال الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ أي: على دين، إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا عَلَى? أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? ءاثَـ?رِهِم مُّقْتَدُونَ [الزخرف:23]، وقال تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ?تَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ ?لشَّيْطَـ?نُ يَدْعُوهُمْ إِلَى? عَذَابِ ?لسَّعِيرِ [لقمان:21].
ولما كان هذا هو شأن الكفرة والمخالفين لمنهج الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام بينه الله لنا أحسن بيان تحذيرًا لنا، وأرشدنا جل جلاله إلى ما فيه سعادتنا في الدنيا والآخرة، فأبدلنا قول الله تبارك وتعالى: ?تَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3].
نعم، إن التقليد هو الذي أعمى قوم نوح، أعماهم عن دعوة نوح عليه السلام، أعماهم عن قبول الحق، قال تعالى: فَقَالَ ?لْمَلَؤُا ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـ?ذَا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء ?للَّهُ لاَنزَلَ مَلَـ?ئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـ?ذَا فِى ءابَائِنَا ?لأوَّلِينَ [المؤمنون:24].
ولما بعث الله نبيه هودًا عليه السلام بعثه إلى قومه كانت الإجابة هي نفس الإجابة، كما هي إجابة قوم نوح، قالوا: أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ ?للَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا [الأعراف:70]، وكذلك قال قوم صالح عليه السلام، قابلوه بنفس القول، قالوا: ي?صَـ?لِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّا قَبْلَ هَـ?ذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِى شَكّ مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ [هود:62].
ما الفرق ـ أيها الإخوة ـ بين هذه العبارات وبين عبارات كثير من المسلمين الذين يعرفون حرمة ما يقعون فيه من الموبقات، ولكنهم يصعب عليهم أن يخالفوا ما ألفوه، وأن يخرجوا من قلوبهم ومن بيوتهم ما حرم الله؛ لأنهم وجدوا مجتمعهم على هذا؟!
هؤلاء أيضًا قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالوا لنبيهم مبينين سبب إصرارهم على عبادة الأصنام، ماذا قالوا؟ قالوا: وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:53]، كأن الحجة في عبادة الأصنام أن الآباء والأجداد عبدوها، وقالوا أيضًا: وَجَدْنَا ءابَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:74].
نعم، هذا هو شأن كل المتمردين على منهج الله تعالى، وكان آخر من قوبل بهذه المقالة التعيسة محمد ، فقد دعا قريشًا لترك ما عندهم من عبادات وثنية وعادات جاهلية، فقابلوه بنفس الإجابة، قال الله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ?تَّبِعُواْ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ [البقرة:170].
وقد بين رسولنا أن قضية التقليد قضية خطيرة وقاعدة كبرى عند كل المخالفين لرسالته، فقال : ((لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود)) رواه البخاري ومسلم. يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله عن العشرة الذين ذكرهم النبي ، قال: "والذي يظهر أنهم كانوا حينئذ رؤساء، ومن عداهم إنما هو تبع لهم".
وقد ذكر الله تبارك وتعالى أن الذين وقعوا في الفواحش، وقعوا في الموبقات، وقعوا في المنكرات، وقعوا فيما يخالف العقل قبل أن يخالف الشرع، إنما فعلوا هذا ثم استهانوا به لأنهم عهِدوا آباءهم عليه، قال الله تبارك وتعالى عنهم: وَإِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا وَ?للَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف:28]، أعوذ بالله من الافتراء على الله تعالى. وما قصة أبي طالب وموته على الكفر ـ عياذًا بالله ـ إلا أكبر شاهد على خطورة التقليد وخطورة تقديمه على ما أنزل الله على رسوله.
أيها الإخوة المؤمنون، إن المسلمين الذين رضوا بمبارزة الله بالمعاصي تقليدًا لغيرهم إنما هم يسيرون على خُطى أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، رضوا بذلك أو لم يرضوا، هذا الوصف لازم لهم، فكيف يعرض المسلم، كيف يعرض المسلم عن آيات الله ويقبل على تقليد البشر الضعفاء؟! قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِـ?تِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا [الكهف:57].
أين المقلدون لغيرهم في الوقوع في المحرمات والاستهانة بذلك، أين هم من قوله تبارك وتعالى: إِذْ تَبَرَّأَ ?لَّذِينَ ?تُّبِعُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ?لْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ?لأسْبَابُ [البقرة:166]؟! ثم ماذا؟ وَقَالَ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا كَذ?لِكَ يُرِيهِمُ ?للَّهُ أَعْمَـ?لَهُمْ حَسَر?تٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـ?رِجِينَ مِنَ ?لنَّارِ [البقرة:167]، الحسرات يوم القيامة لا تنفع، ولكنها في الدنيا تنفع، يعقبها ندم، يعقبها توبة، ثم يعقبها وقفة رجولية يقول الإنسان للشيطان: كفى تضليلاً، كفى تزيينًا، فيرجع إلى ما يحبه الله ويحبه رسوله.
أين المقلدون لغيرهم في الحرام عن قوله تبارك وتعالى: وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا ?لسَّبِيلا رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ ?لْعَذَابِ وَ?لْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:67، 68]؟! لماذا لا يلعن المسلم اليوم الكفرة الذين يريدون أن يدخلوه في جحر التقليد الذي لن يخرج منه إلا إذا يشاء الله تبارك وتعالى؟!
أيها الإخوة المؤمنون، كم يوجد في مجتمعات المسلمين من المخالفات في العقيدة، من شركيات ووثنيات كدعاء غير الله والنذر للأولياء والحلف بغير الله والذبح لغير الله وقصد السحرة والكهان والمشعوذين والتساهل الكبير في ذلك، سبب هذا إنما هو التقليد للآخرين. كثير من البلدان الإسلامية اليوم استبدلت شرع الله بالقوانين الوضعية، لماذا؟ تقليدًا للغرب ومجاراة لهم. كم يوجد في مجتمعات المسلمين اليوم من بدع في العقيدة وفي العبادات، بدع عظيمة بسبب تقليد الآباء والأجداد أو تقليد بعض المحسوبين على العلم.
أيها الإخوة في الله، مسألة التشبه بالكفار في المأكل والمشرب والملبس والكلام والعادات والتقاليد والأعياد الذي نهينا عنه في نصوص كثيرة، هل وقوع كثير من المسلمين فيه إلا بسبب التقليد الأعمى؟!
أخي المسلم، يا من يحرص على النجاة، لو تأملت في كثير من المعاصي التي نقع جميعًا ـ نحن وإياك ـ نقع فيها، لا شك أنني وإياك نجزم بأنها حرام، ليس عندنا شك في حرمتها. تأمل معي في هذه المعاصي والمحرمات، تأمل ثم تأمل، ستجد أنها بسبب التقليد، حتى صارت هذه المعاصي جزءًا من حياتنا يصعب علينا التخلي عنه، نعم، كثيرون يصعب عليه أن يتخلى عن مشاهدة التلفزيون، وهو يعلم أن ما يشاهده فيه حرام، هو يرى مسلسلاً أو فيلمًا فيه من العري ما فيه، ولكنه تعوّد على ذلك، كل يوم بعد صلاة العشاء لا بد من جلسة أمام التلفاز، صارت عادة له لا يستطيع التخلّص منها، لو تأملت ـ أخي المسلم ـ لوجدت أن التقليد هو سبب ذلك.
الكلام البذيء، السب واللعن، الكذب، الغش، التساهل في الصلاة، سماع الحرام، الانكباب على مشاهدة ما يعرض في أجهزة التلفاز من غناء وعري وفجور وإباحية، تبرج النساء وكثرة خروجهن لغير حاجة، إدمان النساء للخروج للأسواق، كل ذلك ـ والله ـ لو تأملنا فيه سنجد أنه بسبب التقليد، وربما سماه بعض المتفلسفين ضغط الواقع.
أخي المسلم، أما إنك قد سمعت من النصوص ما يدل على أن التقليد لا يغني عن صاحبه شيئًا، وأنه سبيل المفلسين وحجة الخاسرين يوم القيامة، فأفِق من نومك واستدرك ما فات؛ فإن الله جل جلاله يبدل السيئات حسنات إذا أخلِصت النيات وصحّت التوبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ?سْتَجِيبُواْ لِرَبّكُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ ?للَّهِ مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ?لْبَلَـ?غُ [الشورى:47، 48].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من المواعظ والبيان، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، في شهر رجب اعتاد بعض عوام المسلمين على فعل بعض الأشياء التي إنما هي ميراث أهل البدع، لم تثبت عن نبينا ولا عن أصحابه، ولا عن التابعين ولا تابعيهم بإحسان، إنما هي عصارة أهل البدع.
أقول: أيها الإخوة، إن من هذه العادات التي ألِفها بعض المسلمين ألفوها في بلدانهم، ونحمد الله عز وجل أن بلادنا لم تألف مثل هذه البدع، فهي طاهرة منها إلا نزرًا يسيرًا، إلا أن بعض وسائل الإعلام العربية وما يصاحب ذلك من إعطاء إجازات بسبب هذه البدع جعل كثيرًا من المسلمين ربما يخفى عليه أن هذه البدع معارضة لشرع الله وشرع رسوله الله ، كيف يكون ذلك؟ الاحتفال بالإسراء والمعراج الذين يزعمون أنه ليلة السابع والعشرين.
أولاً: لم يثبت أصلاً أن الإسراء والمعراج في شهر رجب، فضلاً عن كونه ثابتا في ليلة سابع وعشرين، ويرجح كثيرون أنه في شهر ربيع وليس في شهر رجب، وحتى لو صح أن الإسراء والمعراج حصل في شهر رجب، وحتى لو صح أنه في ليلة سبع وعشرين كيف يجيز هؤلاء لأنفسهم أن يقيموا هذه الاحتفالات وهذه البدع التي يصاحبها ما يصاحبها من غلو وإطراء يكرهه رسول الله ؟! كيف يجيز هؤلاء لأنفسهم شيئًا ما أذن الله عز وجل به؟! يقول الإمام مالك رحمه الله: "من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا خان الرسالة؛ لأن الله يقول: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]".
صلاة الرغائب، هذه البدعة القبيحة التي يزعمها بعضهم في شهر رجب، الذهاب إلى مكة بقصد شهر رجب، والذي يذهب إلى مكة في شهر رجب يرى ازدحام الناس عند الحرم وحرصهم على أداء العمرة من كل مكان، يسمونها العمرة الرجبية، هذا ـ والله ـ ليس له أصل، وقد نص جماعة من الحفاظ من جميع أئمة المذاهب الأربعة على أن شهر رجب لا يثبت فيه أي حديث، لا في الإسراء والمعراج، ولا في صلاة الرغائب، ولا في العمرة، ولا في الصيام، حتى إن عمر كان يضرب بالدرة بعصاه من كان يصوم في شهر رجب بقصد التعبد في رجب، وكان يجبرهم على الأكل والشرب حتى لا يسنّوا بدعة لم يأذن الله جل وعلا بها.
إذًا أيها الإخوة، ما يشاهده بعضنا في وسائل الإعلام من النفخ في مثل هذه القضية وتعظيمها والحديث عنها، كل هذا إنما هو من البدع ومن تزيين الشيطان، وبعض الذين يقيمون هذه الاحتفالات أصلاً لا يشهدون الصلاة، ولا يُعرفون بخير، إنما يستفزهم الشيطان عندما توجد مثل هذه البدع. فلنتق الله تبارك وتعالى، ولنحافظ على سنة نبينا.
الأمر الثاني: إن شهر شعبان شهر قادم علينا، وهو شهر كما ذكر النبي شهر بين رجب ورمضان، قال : ((ذاك شهر يغفل الناس عنه))؛ لأنه سئل : ما بالك تصومه أكثر من غيره؟! فقال: ((ذاك شهر يغفل الناس عنه))، فشهر الغفلة هو شهر شعبان، فيجب على المسلم أن يكثر فيه من الطاعة، لا في شهر رجب كما يزعم الجهلة، إنما شهر رجب هو من الأشهر الحرم فقط، وليس فيه ما جاء في شهر شعبان من كثرة الصيام وكثرة الطاعات. فلنبادر ـ أيها الإخوة ـ في شهر شعبان إلى كثرة الطاعة بالصيام والصدقة والصلاة وكل أمر يحبه الله تبارك وتعالى ويحبه رسوله ، حتى نحيي السنّة ونميت البدعة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعًا من أنصار السنة، إنه على كل شيء قدير.
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان...
(1/4116)
حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, البدع والمحدثات
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
27/3/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان برسول الله. 2- وجوب محبة النبي. 3- حقيقة محبة النبي. 4- حقوق النبي. 5- حب الصحابة للنبي. 6- مفهوم خاطئ للمحبة. 7- تحذير النبي من الغلو فيه. 8- الحث على الصلاة والسلام على النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الإيمانُ بأنَّ محمّدًا عبد الله ورسولُه أحَدُ ركنَيِ التّوحيد، فلا إسلامَ لعبدٍ حتى يحقِّقَ شهادةَ أن لا إله إلا الله وشهادةَ أنَّ محمدًا عبده ورسولُه، فيشهد حقَّ اليقين أنَّ محمّدَ بن عبد الله رسولُ الله إلى الخلق أجمعين، وأنَّ الله ختم به الرسالةَ، كما ختم بشريعتِه جميعَ الشرائع، فلا نبيَّ بعده، بل هو خاتمُ الأنبياء والمرسلينَ، مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ [الأحزاب:40].
جعَل الله رسالتَه عامّةً لجميع الخلقِ بعدَ مَبعثه إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها وهو خيرُ الوارثين، قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سبأ:28].
أخَذ الله الميثاقَ على الأنبياءِ قبلَه أنَّ من أدرك منهم محمّدًا آمن به واتَّبعه، وأخذوا المواثيقَ على أتباعِهم مَن أدرك منهم محمّدًا آمن به واتَّبعه، وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
بعَثَه الله بشريعةٍ كامِلة، فأكمل الله به الدّينَ، وأتمَّ به النّعمة، ووضع ببِعثتِه عن أمّته الآصارَ والأغلال، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].
جعل الله طاعتَه طاعةً لله، ومعصيتَه معصية لله، مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]. أمَرَنا أن نمتثِل أمرَه ونجتنبَ نهيَه: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]. جعل الله اتِّباعَه عنوانَ الهدى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54].
أيّها المسلم، إنَّ محبّةَ هذا النبيّ أصلٌ من أصول الإسلام، وكمال محبّتِه من كمالِ الإيمان.
أيّها المسلم، إنّ محبّةَ هذا النبيّ الكريم أمرٌ مستقرّ في نفوس أهل الإيمان. ادَّعى قومٌ محبّةَ الله فامتحنَهم الله بقوله: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فاتِّباعُه محبّةٌ لله، وطاعته طاعةٌ لله، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
اختارَه الله فجعله سيّدَ ولد آدم، فهو سيِّد الأنبياء والمرسلين، وله المقام المحمودُ يومَ القيامة الذي يغبطُه فيه الأوَّلون والآخرون، وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79].
أيّها المسلم، إنَّ محبّةَ هذا النبيّ الكريم ليس بمجرَّد دعوى تُدَّعَى، ولكنّها حقائق إن حقَّقها المسلم كان حقًّا ما يقول، فقد جعَل الله شرطَ الإيمان محبّةَ هذا النبيّ الكريم، يقول : ((لا يؤمِنُ أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من ولدِه ووالدِه والناسِ أجمعين)) [1]. وحلاوةُ الإيمان يجدها المسلم في قلبِه عندما يتَّبع هذا الرسولَ ويؤمن به وينقاد لشريعتِه، في الحديث الصحيح: ((ثلاثٌ مَن كنَّ فيه وجد بهنّ حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحبَّ المرءَ لا يحبّه إلا لله، وأن يكرَهَ أن يعودَ في الكفر بعد إذ أنقَذَه الله منه كما يكرَه أن يُقذَف في النار)) [2].
أيّها المسلم، لهذا النبيِّ الكريم على أمّته حقوقٌ عظيمة، فأعظم الحقِّ الإيمانُ به والتّصديق برسالته واعتقاد أنه خاتمُ أنبياء الله ورسُله، وأنَّ من حادَ عن شريعته فهو كافِرٌ خالِد مخلَّد في النار، ففي الحديث عنه : ((لا يسمع بي يهوديّ ولا نصرانيٌّ ثم لا يؤمِن بي إلا دخَل النار)) [3].
أيّها المسلم، ومن حقِّ هذا النبي الكريم عليك أن نسمَعَ له ونطيع، فنسمَع له أمرَه، ونجتنِب نهيَه، يقول : ((فما نهَيتكم عنه فاجتَنِبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) [4].
ومِن حقِّ هذا النبي الكريم علينا أن نحكِّم سنّتَه ونتحاكم إليها ونقبَلَ حكمَه علينا بطمأنينةِ نفسٍ ورِضا، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
ومِن حقِّه علينا أن لا نختارَ غيرَ سنّتِه، وإذا تعارَضَ أمران: قولُه وقولُ غيره فقوله الحكَم وقوله الحقُّ، يقول الله جلّ وعلا: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
ومِن حقِّه علينا أن يكون هوانا تبعًا لما جاء به وإن خَالَف أهواءَنا ومشتهياتِ نفوسنا، يقول : ((لا يؤمِن أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعًا لما جِئتُ به)) [5].
ومِن حقِّه علينا أن نحرصَ على الاقتداء به والتأسِّي بسنّته واتِّباع شريعته ما وجدنا لذلك سَبيلاً، يقول الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
أيّها المسلم، إنَّ أصحابَه الكرام نقَلوا لنا سنّتَه القوليّة والفعليّة، نقلوا لنا كلَّ أحواله وأخلاقِه وسيرتِه في كلِّ شؤون حياته، في حضره وإقامَتِه، في مَسجده وفي سفره، في كلِّ أحواله؛ لأنهم يرونَ أنَّ ذلك قدوتُهم وإمامهم، فنقلوه لمن بعدَهم ليتأسَّوا به ويسيروا على سنَّته، فهو يقول لنا: ((صلُّوا كما رأيتمُوني أصلِّي)) [6] ، فالمسلم إذًا يحرص على أن تكونَ صلاته مشابهةً لصلاة محمّد ما وجَد لذلك سَبيلاً، ما بلغته مِن سنّةٍ من سنَنِ صلاته إلاّ عمل بها تقرُّبًا إلى الله بذلك، ويقول لنا: ((خذوا عني مناسِكَكم)) [7] ، فيفعل في حجِّه اتّباعَ هذا النبيّ الكريم ما وجد لذلك سبيلاً حِرصًا على أن يتقرَّبَ إلى الله بالاقتداء بمحمد. إذا بلَغَته عنه أدعيةٌ خاصّة في أيّ شَأن حَرص على هذا الدعاءِ الخاصّ ليعمَل به ويدعو به؛ لأنه على يقينٍ أنه أعطِيَ جوامعَ الكلم وأنَّ ما يقوله هو خير وأفضل مما يقوله غيرُه صلوات الله وسلامه عليه.
ومِن حقِّه علينا أن ندافِعَ عن سنّته ونردَّ على كلِّ المغرضين والحاقدِين والحاسِدين وعلى كلِّ الجاهلين والمعرِضين عنها، فتعظيمُ سنَّتِه والذبُّ عنها جهادٌ في سبيل الله، ولقد كان أصحابُه الكرام على هذا المنهجِ القويم، إذا رأوا من عبدٍ شيئًا من مخالفة السنةِ وإن قلَّ صاحوا به وأنكروا عليه واشتَدَّ عضبُهم عليه؛ لتعظيمهم ذلك النبيّ وسنّته رضي الله عنهم وأرضاهم.
حدَّث عبد الله بنُ عمر بنِ الخطاب رضي الله عنه قائلاً: قال رسول الله : ((إذا استأذَنَت أحدَكم امرأتُه إلى المسجد فلا يمنَعها)) ، فقال ابنه بلال: والله لنمنعهنّ، قاله من باب الغيرةِ، قال الراوي: فسبَّه عبد الله بنُ عمر سبًّا ما سمعتُه سبَّه مثله قطّ، وقال: أقول: قال رسول الله وتقول: لأمنعهن؟! [8].
انظُروا، مع أنَّ هذا القائل قد يكون نظَر أو لحظ أمرًا من الأمور غَيرةً أو خوفًا أو رُؤية مِن بعض من خالفَ السنّةَ، لكنَّ ابن عمر لا يريد أن تقابَل هذه السنّةُ بالردِّ والمعارضة، بل السمعُ والطاعة لله ورسوله.
نبيُّنا رأى رَجلاً يأكل بشِماله فقال له: ((كُلْ بيمينِك)) ، قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعت)) ، قال الراوي: فما رفعَها إلى فيه قط [9]. عوقِبَ بأن شُلَّت يمينُه لما ردَّ هذه السنّةَ وتكبَّر عليها.
إنَّ المؤمن حقًّا إذا بلَغته سنّةٌ عن محمّد قوليّة أو فعليّة آمن بذلك وصدَّقَه واتَّبعه واقتدَى وحَرِص على تطبيقِ هذه السنّة؛ ليكونَ يومَ القيامة تحت لواء محمّد.
أيّها المسلم، إنَّ أصحابَه الكرام تمكّنَ حبُّه من قلوبهم، فعظَّموا شريعتَه، واستقاموا عليها، وظهَر أثرُ ذلك في أقوالهم وأعمالهِم وسلوكِهم رضي الله عنهم وأرضاهم، محبَّةٌ صادِقة، محبّة تامّة، محبّة مبنيّة عن قناعةٍ ورضا واطمئنان نفوس.
رَبيعةُ الأسلميّ قرَّبَ للنبيّ وضوءَه فقال: ((سَألني يا ربيعة))، قال: أسألك مرافقتَك في الجنّة، قال: ((أوَغيرَ ذلك؟)) قال: هو ذاك، قال: ((يا ربيعة، أعنِّي على نفسك بكثرةِ السجود)) [10]. فانظر إلى المحبة الصادقة؛ قال: أسألك مرافقتَك في الجنّة. هكذا حبُّهم لرسولِ الله.
جاء رجلٌ منَ الصحابة إلى النبيِّ فقال: يا رسولَ الله، إني كلَّما تذكَّرتُك لا تطمئنّ نفسي ولا تقرّ عيني حتى أخرجَ من بيتي وأنظرَ إليك، ولكنِّي فكَّرتُ بعد موتي وإِن دخلتُ الجنّةَ فأنت في أعلَى العليِّين، فكيف الوصولُ إليك؟! فأنزل الله: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] [11] ، قال أنس رضي الله عنه: قال رجل: يا رسولَ الله، المرءُ يحِبّ القومَ ولمّا يلحق بهم؟ قال: ((من أحبَّ قومًا فهو منهم)) [12] ، قال أنس: وإنّي لأحِبّ رسولَ الله وأبا بكرٍ وعمر، وأرجو الله أن أكونَ معهم [13].
أيّها المسلم، المحِبُّ لرسول الله مَن يعظِّم سنّتَه ويحمِي شريعته ويبتعِد عن كلِّ ما خالف هذه الشريعةَ على قدرِ استطاعته وطاقَتِه، يبتعد عن مخالفةِ هذه الشريعة، ويسأل الله العونَ والتوفيقَ على تطبيق سنّتِه.
أيّها المسلم، ليس المحِبّ لرسول الله من يغلو فيه، ولا مَن يرفعه فوقَ منزلته، ولا مَن يصرف له حقًّا من حقوقِ الله، فمحمّدٌ بعِثَ ليدلَّ العباد على عبادَةِ الله، وليعرِّفَ العباد بربِّهم ويدعوَهم إلى إخلاصِ الدين له وصرفِ كلّ العبادة لله ربِّ العالمين، بُعِث ليدعوَ الناس لعبادةِ الله، وليعرِّفَهم بربهم ويدلَّهم على ما يقَرِّبهم إلى الله زلفى، ما بعِثَ ليُعبَدَ من دون الله، ولا ليُعَظَّم من دون الله، ولا أن يُغلى فيه من دونِ الله، حاشا وكلاّ، وإنما بعِثَ لدعوة الخلقِ إلى الله.
إنَّ عدوَّ الله إبليسَ زيَّن لقوم الشركَ بالله تحت مِظلَّة محبّةِ النبي ، فصارت تلك المحبّةُ محبّةً شركيّة ضالّة، غلَوا فيه ، ورفعوه عن منزلته التي أنزَله الله إياها، واتَّخذوه معبودًا ومدعوًّا، يدعونه من دون الله، ويتسغِيثونَ به من دون الله، ويؤمِّلون كشفَ الحاجات والضرورات، وكلّ هذا من البدَعِ والضلال، والنبيّ بريءٌ من هؤلاء.
هو حثَّنا على طاعة ربِّنا، وحذَّرنا أن نغلوَ فيه، فيقول لنا : ((إيّاكم والغلوَّ؛ فإنما أهلك من كان قبلَكم الغلوُّ)) [14] ، ويقول لنا : ((لا تطروني كما أطرَت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله)) [15] ، أي: فالعِبادَة لا أستحِقُّها، وإنما العبادة لخالق العِبادِ جلّ وعلا. ودعا ربَّه أن لا يجعلَ قبرَه وَثنًا يُطاف به كما يُطافُ بقبورِ كثيرٍ من الأولياء، فقال: ((اللّهمّ لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتَدَّ غضَب الله على قومٍ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد)) [16] ، ويقول أيضًا وهو في كَربِ السّياق في آخر لحَظاتِ حياته، يكشف غطاءً على وجهِه، يكشفه ثم يغتمّ به ويقول: ((لعَن الله اليهودَ والنصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد)) ، يقول الراوي: ولولا ذلك لأبرزَ الصحابة قبرَه، غير أنهم خَشوا أن يُتَّخَذ مسجدًا [17] ، فدفنوه في حُجرته. وهو يقول لمّا قال له رجل: ما شاء الله وشئتَ، قال: ((أجعلتَني لله ندًا؟! بل ما شاء الله وحدَه)) [18]. قالت امرأةٌ في كلامٍ لها: وفينا محمّدٌ يعلَم ما في الغد، قال: ((لا، لا يعلَم ما في الغدِ إلا الله)) [19] ، والله تعالى أمرَه بقوله: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:21، 22]، ويقول الله له: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188].
فهو بُعِثَ ليعرِّفَ الناسَ بربهم، ويدلَّهم على عبادةِ ربهم، ويوضح لهم السبيلَ المستقيم والطريقَ الذي يوصلهم إلى الله، فأدّى الأمانة، وبلَّغ الرسالةَ، وجاهد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولَكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (15)، ومسلم في الإيمان (44) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (16، 21)، ومسلم في الإيمان (43) من حديث أنس رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (153) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الاعتصام (7288)، ومسلم في الحج وفي الفضائل (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (15)، والخطيب في تاريخه (4/369)، والبغوي في شرح السنة (104)، وصححه النووي في الأربعين، قال ابن رجب: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدًا"، ثم ذكر من أوجه ضعفه تفردَ نعيم بن حماد به وهو ضعيف والاختلافَ عليه فيه والانقطاعَ في سنده، وضعفه الألباني في ظلال الجنة (15).
[6] أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة (631) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
[7] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ : ((لتأخذوا مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
[8] أخرجه البخاري في كتاب الأذان (865)، ومسلم في الصلاة (442)، وليس عند البخاري القصة التي حصلت بين بلال وأبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[9] أخرجه مسلم في الأشربة (2021) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
[10] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (489) عن ربيعة رضي الله عنه.
[11] عزاه ابن كثير في التفسير (2/310-311) إلى ابن مردويه في تفسيره والحافظ أبي عبد الله المقدسي في صفة الجنة، ونقل عنه أنه قال: "لا أرى بإسناده بأسًا". وقد أخرج نحوه الطبري في تفسيره (8/534-535) مرسلاً عن سعيد بن جبير ومسروق وقتادة والسدي والربيع بن أنس، قال ابن كثير (2/310) عن مرسل الربيع: "هو من أحسنها سندًا".
[12] أخرجه البخاري في المناقب (6169، 6170)، ومسلم في البر والصلة (2641) عن ابن مسعود وعن أبي موسى رضي الله عنهما مفترقين، ولفظ حديث أبي موسى: قيل للنبي : الرجل يحبّ القوم ولما يلحق بهم؟! قال: ((المرء مع من أحب)). وليس هو من حديث أنس رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في المناقب (3688)، ومسلم في البر والصلة (2639) عن أنس بنحوه، وقد قاله أنس رضي الله عنه بعدما روى حديث أن رجلا سأل النبي عن الساعة، قال : ((وماذا أعددت لها؟)) قال: لا شيء، إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال : ((أنت مع من أحببت)) ، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي : ((أنت مع من أحببت)) ، قال أنس: فأنا أحبّ النبي وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.
[14] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك (3057)، وابن ماجه في المناسك (3029)، وابن الجارود في المنتقى (473)، والضياء في المختارة (10/30-31) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وصححه أيضًا ابن عبد البر في التمهيد (24/428)، والنووي في المجموع (8/171)، وابن تيمية في الاقتضاء (1/327)، وابن القيم في إعلام الموقعين (4/334)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1283).
[15] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[16] أخرجه مالك في الموطأ: كتاب النداء للصلاة (416) عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلا، ومن طريقه ابن سعد في الطبقات (2/240-241)، ووصله عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن عطاء عن أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعا، أخرجه البزار ومن طريقه ابن عبد البر في التمهيد (5/43)، ونقل عن البزار أنه قال: "إن مالكا لم يتابعه أحد على هذا الحديث إلا عمر بن محمد عن زيد بن أسلم، وليس بمحفوظ عن النبي من وجه من الوجوه إلا من هذا الوجه، لا إسناد له غيره، إلا أن عمر بن محمد أسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي ، وعمر بن محمد ثقة روى عنه الثوري وجماعة"، وقد ظنّ ابن عبد البر أن عمر هذا هو عمر بن محمد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فصحح الحديث بناء عليه، والظاهر أنه ليس كذلك بل هو عمر بن محمد بن صهبان كما جاء مصرحا به في بعض نسخ البزار، ولذا قال الهيثمي في المجمع (2/28) بعدما عزا هذا الحديث إلى البزار: "وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه". وللحديث شاهد مسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه أحمد (2/246)، والحميدي (1025)، وأبو يعلى (6681)، والمفضل الجندي في فضائل المدينة (51)، وصححه الألباني في تحذير الساجد (ص17). وشاهد آخر من حديث عمر رضي الله عنه، قال الدارقطني في العلل (2/220): "يرويه أصحاب الأعمش عنه عن المعرور عن عمر موقوفا، وأسنده عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن الأعمش عن المعرور عن عمر عن النبي ، ولم يتابع عليه، والمحفوظ هو الموقوف".
[17] أخرجه البخاري في الجنائز (1330)، ومسلم في كتاب المساجد (529) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[18] أخرجه أحمد (1/214)، وابن ماجه في الكفارات، باب: النهي أن يقال: ما شاء الله وشئت (2117) بدون القصة، والطبراني في الكبير (12/244-6-130) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (139، 1093).
[19] أخرجه البخاري في المغازي (4001) عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها نحوه وليس فيه: ((لا يعلم ما في غد إلا الله)) ، وهو عند ابن ماجه في النكاح (1897).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحِبّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عَبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدّين.
أمّا بَعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فمن حقِّه علينا أن نصلِّيَ ونسلِّمَ عليه، أن نقول: اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على آل إبراهيمَ إنك حميد مجيد.
فمن صلَّى عليه صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا، ومَن مرَّ به ذِكرُ النبيِّ فلم يصلِّ عليه تكبُّرًا وإعراضًا فإنّ ذلك متوعَّد بالوعيد الشديد، قال جبريل للنبيّ : رغِم أنف امرِئٍ ذكِرتَ عنده فلم يصلِّ عليك، فأبعَدَه الله، فقل: آمين، ((فقلتُ: آمين)) [1] ، يعني إذا مرَّ بك ذِكر النبيّ فصلِّ عليه، صلوات الله وسلامه عليه، فإنَّ الله بعثَه رحمةً بنا وإحسانًا إلينا، ونِلنا بمبعثِه كلَّ الخير صلوات الله وسلامه عليه، بِعثتُه سَبَبُ خيرنا ورَحمتنا وهِدايتنا وعِزِّنا وشَرفنا، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، وصدق الله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
امتنَّ الله بمبعَثِه على أهل الإسلام، وذكَّرهم هذه النعمة: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
المصلِّي عليه قرُب عندَ قبرِه أو كان في أقصَى الدنيا فكلُّه سواء، ففي الحديث: ((إنّ لله ملائكةً سيّاحين يبلِّغونني عن أمّتي السلام)) [2] ، وفيه: ((من سلَّم عليّ ردَّ الله عليَّ روحي حتى أردَّ عليه السلام)) [3] ، قال بعض التابعين لرجلٍ رآه يحرِص على الاقترابِ منَ القبر: يا هذا، ما أنتُم ومَن بالأندلُس إلا سواء، من صلّى على النبيِّ من قربٍ أو بُعد بلَّغ الله نبيَّه صلاةَ ذلك المصلّي، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين، وجزاه الله عن أمَّته خيرًا، فصلوات الله وسلامه عليه، وإنَّ صلاتنا عليه سؤالنا للهِ أن يثنيَ عليه في الملأ الأعلى، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعَلَيكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجَمَاعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى محمّد كما أمركم بذلِكَ ربّكم في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَبَارك عَلَى عَبدِك ورَسولِكَ محمّد، وَارضَ اللّهمّ عن خلَفائه الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (646)، وأبو يعلى (5922)، والطبراني في الأوسط (8131، 8994)، والبيهقي (4/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1888)، وابن حبان (907)، وهو في صحيح الأدب المفرد (502).
[2] أخرجه أحمد (1/387، 441، 452)، والنسائي في السهو (1282)، والدارمي في الرقاق (2774)، والبزار (1924، 1925)، وأبو يعلى (5213)، والطبراني في الكبير (10/219، 220) وغيرهم عن ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (914)، والحاكم (3576)، وابن القيم في جلاء الأفهام (120)، وهو في السلسلة الصحيحة (2853).
[3] أخرجه أحمد (2/527)، وأبو داود في المناسك (2041)، والبيهقي في الشعب (3/491) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: ((ما من أحد يسلّم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أردَّ عليه السلام)) ، وصححه النووي في المجموع (8/272)، وابن تيمية في الاقتضاء (2/173)، والسخاوي في المقاصد الحسنة (436)، وقال ابن حجر في الفتح (6/488): "رواته ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1795).
(1/4117)
دروس وعبر من حياة سعيد بن المسيب
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ, فقه
المسلمون في العالم, النكاح, تراجم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
5/4/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سعيد بن المسيب في المسجد. 2- دور العلماء في عمارة المساجد. 3- سعيد بن المسيب والعبادة. 4- أثر البعد عن الله في الانحلال والفساد الاجتماعي. 5- الفضيل بن عياض ومحاسبة النفس. 6- قصة امتناع سعيد بن المسيب عن تزويج ابنته لابن الخليفة وتزويجها لتلميذه الفقير. 7- سعيد بن المسيب في بيته. 8- تسلط الطغيان الأمريكي على العالم. 9- نظرة في أحوال المسلمين في العالم. 10- خطورة الأوضاع في فلسطين المحتلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
حديثنا اليوم مع علم من أعلام الأمة الذين تربوا على مائدة القرآن، ممن افترشوا المساجد واتخذوها بيوتًا، إنه التابعي العلم المحدث الفقيه الزاهد العابد سعيد بن المُسَيّب رضي الله عنه وأرضاه. أتعرفون ماذا كان يقول هذا الإمام يا عباد الله؟ كان يقول لتلاميذه: "لا تملؤوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكارٍ من قلوبكم؛ لكي لا تحبط أعمالكم الصالحة".
عباد الله، لنذهب وإياكم سريعًا إلى هذا الإمام الرباني، لنذهب إلى بيته، لا، إنه ليس في بيته، إنه الآن في مسجد رسول الله ، يجلس ويقرأ الحديث الشريف على تلامذته، هكذا كان أهل العلم، لا يعرفون سوى المساجد، وأهل المساجد هم أهل الله تعالى، فأين أهل العلم اليوم؟! لماذا لا يأتون إلى المساجد؟! لماذا لا نراهم في رحاب المسجد الأقصى المبارك؟!
المسجد الأقصى وطلاب العلم في المسجد الأقصى يرسلون رسالة إلى أهل العلم لمواصلة دروسهم في رحابه، لماذا لا تكون جلسات متواصلة بين الناس وبين العلماء في أرضنا المباركة؟! نحن اليوم في أمس الحاجة لإعمار المسجد الأقصى بالعلم والعلماء وطلبة العلم.
إذا أردنا حماية المسجد الأقصى فعلينا عمارته، نعمره بماذا؟! بالعلماء وطلاب العلم، بالعبادة وقراءة القرآن، نعمره بالمحاضرات والدروس الدينية والعلمية ومجالس الذكر، تلك هي مجالس الصالحين التي تبحث عنها الملائكة، إنها مجالس الذكر والعلم.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن طالب العلم كالغادي الرائح في سبيل الله عز وجل، وإذا جاء الموت طالبَ العلم وهو على هذا الحال مات وهو شهيد، ومن طلب العلم فقد بايع الله عز وجل.
وتذكروا أيضًا أن الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهَمَج أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بأولي العلم على أجلّ وأعظم مشهود عليه وهو توحيده تبارك وتعالى، فقال سبحانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وهذا يدلّ على شرفهم وعلى منزلتهم.
عباد الله، سعيد رضي الله عنه وأرضاه كان يسرد الصومَ سردًا، وما نودي للصّلاة منذ أربعين سنة إلا وهو مستعدّ في المسجد، وصلّى الفجر بوضوء العشاء خمسين سنَة.
لا أعرف ـ أيها المؤمنون ـ كيف أتحدث اليوم عن أحوالنا، الفساد عشّشَ في بيوتنا من كل ناحية، فساد اجتماعي غريب، لا أظن أن أمة الإسلام قد عرفته من قبل، الحياة الزوجية في مجتمعنا لا تقوم على أسس متينة، لا تقوم على الإسلام، ومن هنا فهي سريعة الانحدار، فجوة كبيرة بين الابن وأبيه، بين البنت وأمها، بين الإخوة والأخوات، بين أفراد العائلة بشكل عام، ولا أحد يقوم بالإصلاح أو بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي نهاية المطاف ولات ساعة مندم.
البنت الفلانية تفرّ من بيت أبيها مع عشيقها وحبيبها، والرجل الفلاني يخون الحياة الزوجية وهو لاه في المعاصي والآثام، شرب الخمر، ولعب القمار، وغياب طوال الليل عن البيت، والبنات يسهرن إلى قبيل الفجر على الفضائيات، إنهم لا يقومون الليل، ولا يصلون بالليل، ولا حتى الصلوات المفروضة، بينما تراهم يسرحون ويمرحون ويسهرون، وهم في غيّهم يعمهون، والنتيجة ماذا؟ فساد وانحلال وغش واحتيال، وكلنا نشكو الفساد الاجتماعي، الفساد الأسري، ولكن لا أحد يضع الحلول للخروج من هذه الفوضى.
عباد الله، إذا أردتم الحلّ فعودوا إلى الله، واصطلحوا مع الله، إنّ الله يقبل التوبة عن عباده، فإذا كنت ـ أيها المسلم ـ قد أخطأت فعد إلى الله، أصلح النية والعمل والله يقبل توبتك، كفاك لهوًا ولعبًا، ورحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟! ألست صاحبة كذا؟! ثم ذمها وخطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائدًا.
حاسبوا أنفسكم، فإن محاسبة النفس تحضّ على الأعمال الصالحة وتضعف الأعمال السيئة، وابكوا على أعمالكم السيئة حتى تقبل توبتكم قبل أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:56-58].
استمعوا ـ أيها المؤمنون ـ لهذا الحوار الذي دار بين الفُضَيل بين عِياض وبين أحد الرجال:
قال الفُضَيل: كم سنة أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك، توشك أن تصل، فقال الرجل: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ، فقال الفُضَيل: أتعرف تفسير الآية؟! قال: نعم عرفت، إني لله عبد، وإني إليه راجع، قال: من عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع عرف أنه موقوف، ومن عرف أنه موقوف عرف أنه مسؤول، ومن عرف أنه مسؤول، فليُعِدّ للسؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحيلة يرحمك الله؟ قال: يسير على من يسّره الله عليه، أن تحسن فيما يبقى، يغفر الله لك فيما مضى.
عباد الله، سعيد بن المُسَيّب طلب الخليفة عبد الملك بن مروان يد ابنته لابنه الوليد، وأرسل له رسولاً يبلغه بذلك، ووصل الرسول، وبدأ يكيل الثناء والإغراء، ويفتح أبواب الدنيا أمام عينه. أتعرفون ـ يا عباد الله ـ ماذا كان يقول سعيد؟! كان يردد قوله تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]. ما يكون عبد الملك؟! وما تكون الدنيا؟! كانت الدنيا في نظره لا تساوي شيئًا.
أيها المسلم،
لا تركننّ إلى القصور الفاخرة واذكر عظامك حين تمسي ناخِرة
وإذا رأيت زخارف الدنيا فقل يا رب إنّ العيشَ عيشُ الآخرة
ويرفع العَلَم الهُمَام رأسه الشريف ويقول لرسول الخليفة: بلّغ عبد الملك أني أرفض هذا الزواج رفضًا باتًّا، وقال عبارته المشهورة: لا أزوج ابنتي في دار الحكم خشية أن آتي معها يوم القيامة مسلسلين بسلاسل من حديد في نار جهنم.
أيها المسلم، ويرجع سعيد إلى بيته ويجد ابنته العفيفة الطاهرة جالسة وحدها، فقال لها: ماذا كنت تفعلين يا ابنتي؟! قالت: كنت أقرأ القرآن. هكذا كانت البيوت عامرة، كانت البركة فيها، وكلام الله يحميها، وأما اليوم فيوجد من المسلمين من لا يقرأ القرآن، وفيهم من لا يقرؤه إلا في شهر رمضان، وكأنهم لا يقرؤون قول الله تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]. البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن بيت خَرِب.
قالت ابنة سعيد: كنت أقرأ القرآن، قال سعيد: هل فهمتِ ما قرأتِ؟! قالت: نعم إلا آية واحدة، وما هي يا ابنتي؟ قالت: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، لقد عرفت حسنة الآخرة وهي الجنة، فما هي حسنة الدنيا يا أبتاه؟! قال لها: الزوجة الصالحة للزوج الصالح.
عباد الله، ويجلس سعيد في بيته المتواضع بعدما رفض عرض الخليفة، ويدخل عليه تلميذ له فقير، ضم ثوبه أربعين رقعة مختلفة الألوان، وكل رقعة منها تساوي اليوم وسامًا من الدرجة الأولى في القوات المسلحة، ويكفيه شرفًا وفخرًا أنه غني بتقوى الله، يكفيه عزًّا وكرامة أن لديه معرفة بالله تعالى.
النفس تَجزع أن تكون فقيرة والفقر خير من غنى يطغيها
وغنى النفوس هو الكفاف فإن أبت فجميع ما فِي الأرض لا يكفيها
ويسأل سعيدُ تلميذَه عن سبب غيابه عن درس العلم، فأخبره بأن زوجته قد توفيت، ويدخل سعيد على ابنته صاحبة الشرف والعفاف والحياء، ويقول لها: ما رأيك في ابن أبي وداعة؟ أترضين به أن يكون لك زوجًا؟! هذا هو الشرع، أن تُعطَى البنت حقها في اختيار زوجها، ومن هنا نقولها: لا يجوز إجبار وإكراه البنات على الزواج، هي صاحبة القرار، هي صاحبة الاختيار. فقالت بنت سعيد بلسان الأدب والحياء: ما رأيك أنت يا أبتاه؟ فقال: مؤمن تقي إن شاء الله، قالت: لقد اخترته على بركة الله.
أيها المؤمنون، ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)).
ويخرج سعيد إلى تلميذه ويسأله: ألك في الزواج حاجة؟ فقال له: ومن التي ترضى أن تتزوجني يا أستاذ؟! فقال له: إن أردت فسوف أزوّجك ابنتي، ابنته التي رفض أن يزوّجها لابن أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان.
عباد الله، هل يوجد اليومَ في مجتمعنا من يفعل ذلك؟!
وتمّ عقد الزواج وابن أبي وداعة يكاد لا يصدّق، الدنيا كلها تتطاير فرحًا أمام عينيه، وفي المساء يذهب سعيد بابنته إلى بيت تلميذه ويطرق الباب، ويظن التلميذ أن الشيخ قد تراجع في عقد الزواج، ويفتح الباب وسعيد من ورائه ابنته ويقول لها: ادخلي ـ يا ابنتي ـ بارك الله لكما في ليلتكما، ويغلق الباب وينصرف.
عباد الله، أتعرفون لماذا فعل سعيد ذلك؟! لأن السعادة في رأيه مملكة تكون في القلب، لا دخل لها بماديات الحياة، وصدق من قال:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
لم يكلفه مسكنًا باهظًا ولا أثاثًا فاخرًا، ومن هنا فإني أوجه إلى الآباء وأولياء الأمور أن يتّقوا الله في شبابنا، أن يتقوا الله عندما يزوجون بناتهم، فلا يكلّف الله نفسًا إلا وسعها.
انظروا إلى سعادة الأولادِ وتربيتهم، ولا تنظروا إلى مادية الحياة الفانية، فما عندكم ينفد وما عند الله باق.
انظروا إلى سعادة أبنائكم وكيف تكون حياتهم، هل هي قائمة على الإسلام؟! هل يطبق فيها منهج الله؟! هل بيوتهم خالية من أدوات الفساد والانحلال الخلقي؟!
أتدرون ـ يا عباد الله ـ عندما دخل ابن أبي وداعة على ابنة سعيد توقّف عن حضور دروسه بشكل استمراريّ، أتعرفون لماذا؟! لأنه وجد عندها علم سعيد، تعلّمت البنت علم أبيها.
عباد الله، هذه بيوت آمنت وأسلمت فأمنت من الخوف، بيوت قرأ أهلها القرآن، وفهموا مراده، وتدبروا معانيه، فعلموا أن الحق لله سبحانه وتعالى، قوم عرفوا الله فعرفهم الله تعالى، ووصلوا ما بينهم وبين الله فوصلهم الله، وتواضعوا لله فرفعهم الله، وعملوا وأخلصوا لله فكان الله معهم في كل شيء. لم يعرفوا الهزائم أمام أعدائهم، أتدرون لماذا يا عباد الله؟! لأن الله كان معهم، ومن كان الله معه فلن يهزم أبدًا.
سعيد هذا افترش المسجد ثلاثين سنة، لا تمر به ساعة إلا وهو مع الله والله معه، وصدق الله وهو يقول: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
عباد الله، جعلنا الله وإياكم ممن أسبل عليهم جلابيبَ الستر في الدنيا، واتّصل ذلك بالعفو عن جنايته في العقبى، إنه فعّال لما يريد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، كلما اتسعت دائرة عودة المسلمين إلى دينهم كدستور ونظام حياة وإقبال الناس على الدخول في الإسلام طواعية ورغبة وحبًّا في هذا الدين لعدالة شريعته وأحكامه وحدوده ازدادت الهجمة الشرسة من أعداء الإسلام ومن الطغاة المستبدين الممسكين بزمام الأمور والحكم في عالمنا الإسلامي، فالأنباء تتحدث عن إقبال أعداد كبيرة من الأمريكيين على الإسلام وبناء أكبر مسجد للمسلمين في إحدى الولايات الأمريكية بكلفة اثني عشر مليون دولار، إنما يعكس ذلك حالة الفراغ الذي يعيشه الشعب الأمريكي، وأنهم يجدون في الإسلام الملاذ والمنقذ لهم من حالات الانحراف والضياع والتفكك الاجتماعي.
وبالمقابل ينشط أعداء الإسلام بالقيام بحملات مغرضة ضد المسلمين عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا. أمريكا التي عجز جنودها عن انتزاع الإسلام والإيمان من صدور المؤمنين المعتقلين في سجون أمريكا، فقد عمد هؤلاء الجنود وبتوجيه من قادتهم على تدنيس القرآن الكريم، فحسبنا الله ونعم الوكيل على هؤلاء المجرمين الحاقدين، فكتاب الله كتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وصدق الله تعالى في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
فعلى الصعيد العسكري تقوم أمريكا بغزو محدود لجمهورية الصومال، بدعوة ملاحقة عناصر إرهابية على حد زعمها، بالرغم من تأكيد الصومال أنه لا يوجد على أرضها جماعات إرهابية. هذه القَرْصَنَة العسكرية بعينها تجري تحت سمع وبصر العالم دون أن يحتج أحد على هذه الانتهاكات لدولة هي عضو في المجتمع الدولي، لها دستورها وسيادتها وكيانها، وبنفس الوقت تستمر أمريكا في حملاتها العسكرية ضد تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان بالتعاون مع القوات الأفغانية والباكستانية، وأما في العراق فالمعارك تشتد يومًا بعد يوم والعمليات العسكرية تنزف شلالات الدماء والخسائر فادحة، والسؤال هنا: هل حققت سياسة الغزو الأمريكي أهدافها في كل من الصومال وأفغانستان والعراق؟!
أيها المؤمنون، ستدفع أمريكا الثمن غاليًا بأرواح جنودها الذين يتساقطون يوميًّا وبأعداد كبيرة، فهي تغوص في أدغال الصومال وجبال أفغانستان ورمال العراق.
وأما إعلاميًّا فإن سوريا تتعرض حاليًّا لحملات إعلامية مضادّة، وأنها وراء تدهور الأوضاع الأمنية في العراق، وتفكر أمريكا باتخاذ إجراءات ضد سوريا لا تقف عند المقاطعة الاقتصادية، وبمعني آخر فهي تعد العدّة لعملية عسكرية ضد سوريا.
وأما في لبنان فالمعارضة اللبنانية تجري اتصالات مع أمريكا وفرنسا لتجريد حزب الله من السلاح وإنهاء المقاومة عن طريق خلط الأوراق بالنسبة لمزارع شبعا.
وفي عالمنا العربي فحدّث ولا حرج، كَبْت للحريات، واعتقالات على قدم وساق لدعاة المسلمين، وملاحقة للجماعات الإسلامية تحت ذريعة محاربة الإرهاب.
وهنا في فلسطين فالأوضاع متوترة، إسرائيل تواصل سياسة التوسع الاستيطاني وبناء جدار الفصل العنصري وخنق مدينة القدس ومصادرة الأراضي، مستغلّة انشغال الفلسطينيين بإجراء الانتخابات، وكأن هذه الانتخابات هي نهاية المطاف.
لقد أكدنا أكثر من مرة أن الانتخابات في ظل استمرار الاحتلال هي تكريس له وإضفاء الشرعية عليه، فإسرائيل لا تتوانى عن مواصلة الاعتقالات والاغتيالات وتوسيع المستوطنات في ظل التهدئة؛ لتحقيق ما تصبو إليه من تكريس للأمر الواقع كما تريد.
أيها المسلمون، لم تعد قضية القدس المركزية تدرج على جدول المفاوضات لا من قريب ولا من بعيد، وتناسى الفلسطينيون حق العودة كحق مشروع، وإسرائيل تتنصّل من قضية إطلاق سراح الأسرى، وتطالب الفلسطينيين باعتقال قادة الحركات الإسلامية وتفكيك ما أسمته بالحركات المسلّحة؛ للنظر في قضية الأسرى.
وبالمقابل فان المستوطنين لا يزالون يهددون باقتحام المسجد الأقصى لإقامة طقوسهم الدينية وإيجاد موطئ قدم لهم.
والسؤال هنا: هل قامت السلطات الإسرائيلية باعتقال قادة الجماعات اليهودية الإرهابية المتطرفة والتي تدق ناقوس الخطر بين الحين والآخر؟! والذي يجري على أرض الواقع هو العكس، فإسرائيل تقيم الحواجز العسكرية على مداخل مدينة القدس والمسجد الأقصى، وتمنع المصلين من دخول المسجد الأقصى المبارك.
أيها المسلمون، هذه الأجواء المتوترة تنذر بخطر كبير، والواجب على أمتنا الإسلامية في كل مكان أن تعمل جاهدة لرفع الظلم عنا وعن مدينتنا وأرضنا المباركة ومسجدنا المقدس، فأعداء الأمة يستغلون حالة الضعف الذي أصاب أمتنا الإسلامية، ويريدون تحقيق أطماعهم التوسّعية على حساب حقنا في الحياة.
فمتى تدرك أمتنا أن مصيرها يجب أن يرتبط بالإسلام وتحكيم منهج الله، وأن التهافت على السلام الزائف فيه الضياع والضعف والخذلان؟!
(1/4118)
داء التدخين
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
5/4/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم الإسلام للضرر. 2- انتشار التدخين وشيوعه. 3- تحقّق أضرار التدخين. 4- ما يبرِّر به متعاطي الدخان. 5- إمكان الإقلاع عن التدخين. 6- ضرورة تضافر الجهود في مكافحة التدخين. 7- مكر شركات التبغ. 8- حرمة بيع الدخان والتوظّف في شركاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عبادَ الله، ربَّى الإسلامُ الأمّةَ علَى كلِّ خَير، وغرَس الأعمالَ الحميدةَ في أعماقِ قلوبهم. أبَاح لهم كلَّ نافعٍ، وحرَّم عَليهم كلَّ ضارٍّ، فكُلُّ أمرٍ تحقَّقَ ضرَره وغلَب شرُّه وبَلاؤه فدينُ الإسلام حمَى المجتمعَ منه، فحرَّمه عليهم حمايةً لهم. أَوجَب على المسلم المحافظةَ على نفسه، وحرَّم عليه التعدِّي عليها: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. حرَّم عليه الاعتِداءَ على أيِّ عضوٍ مِن أعضائه، فليسَت ملكًا له، بل هو مُؤتمَن عليها، وإنَّ التعدّيَ عَليها وإِزهاقَ نفسِه لمُتَوعَّدٌ بأعظمِ وعيد والعياذُ بالله.
أيّها المسلِم، وإذا ألقَينَا نَظرةً على هَذا الدّاءِ العُضالِ الذي ـ ولِلأسَف ـ انتشَر في أَوساطِ كثيرٍ مِن شبابِ الإسلام، بل وفي نَوعٍ مِن كبارِ السّنِّ، ألا وهو داءُ التّدخين.
أخي المسلم، أَتحدَّث معَك عن هذا الداءِ العضالِ والمرضِ الفتَّاك والبلاءِ الذي نزل بساحةِ الأمّة، وأصبح الكثيرُ يرَونَ هذا الأمرَ أمرًا مستحيلاً التخلُّص منه، بل هو من الأمور المتعذِّر عِلاجُها والتخلُّص من ذلك.
أخِي المسلم، حينَما أتحدَّث معك عن دَاءِ التّدخين وعن أضرارِه ومَساوئِه وآثارِه القبيحة على الفردِ والمجتمَع، بل على البيئةِ عمومًا، فذاك نتيجةٌ لما توفَّر وعُرِف حَقًّا ما فيه من الضّرَرِ والبلاء، مما لا يبقِي شكًّّا لدى كلِّ عاقلٍ أنَّ شريعةَ الإسلام تقِف من هذا الدّاء موقفَ التحريم والمنعِ والحَظرِ على المسلم أن يتعاطاه.
أيّها المسلم، إنَّ هذا الداءَ خبيثٌ بمَعنى الكلمة وبما تحمِله كلُّ هذهِ الكلِمة من مَعنى، والله يقول: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، ويصِف نبيَّه بقولِه: وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]. نَعم، إنّه خَبيثٌ بكلّ ما تحمِلُه الكلِمةُ من مَعنى؛ خبيثٌ في الرائحة، خبيث في الآثارِ على الإنسانِ عمومًا لو عادَ الإنسان إلى عَقلِه وفكّر وتأمَّل.
أخِي المسلم، إنّ المبتلَى بداءِ التّدخينِ هو يحكُم على نفسِه في باطنِ أمرِه أنّه في خَطرٍ وبلاء، وأنه واقعٌ في شرٍّ عظيم حينَما يَضَع هذه السّيجارةَ بين أصبعيه سَله: هل هذه طيّبةٌ؟ فسيجيبك: إنّه ليس بطيِّب إنّه خبيث، هل هذا فيه صحَّة لبدنِك وفيه إنقاذٌ لصحَّتك؟ سيجيبُك: إنه لا أثرَ له في الصّحَّة بل هو عدوٌّ للصِّحَّة ومؤثِّر عليها، تَسأله: ما السَّببُ في تعاطيه؟ يجيبك: تَسلية أحيانًا، تفريج همٍّ أحيانًا، مجاراة للجُلَساءِ والسُّمَّار ومشاركة لهم في هذا القبيح، تِلك حجَج أولئِك وتلك أسبابُ تعاطيهِم له، لا يمكن أحدًا يتعاطَى التدخينَ وهو يرَى فيه مصلحةً أو يرَى فيه محافظَةً على الصّحَّة أو يرى فيه دَفعًا لمكروهٍ، أبدًا، كلُّ متعاطٍ له فإنّه شاهِد على نفسِه بأنّه تعاطَى داءً خبيثًا وبلاءً عظيمًا.
أخِي المسلم، إنَّ عدوَّ الله إبلِيس قد يُثقِّل عليك الطّاعةَ، وتُسوِّف بالإقلاع منه، وترى أنَّ الإقلاعَ منه أمر مستحيلٌ كما يظنّه البعضُ، وذاك لِضعفِ إرادتك وقِلَّة حيلتِك وتسلُّط الهوَى والشّيطان عليك.
أخي المسلم، ليس الإقلاعُ عنه بأمرٍ مُستحيل، إنما يحتَاج منك إلى قوّةِ عزيمةٍ وإلى قرارٍ شجاعٍ وإلى ثباتٍ على الحقّ وإلى استِعانةٍ والتِجاء إلى الله وتَضَرُّعٍ بين يَديه أن يرفعَ عنك هذا البلاءَ ويُعافيَك من هذا الداءِ العضال، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
أخِي المسلِم، إذا نظَرتَ إليه وجَدتَه عَدوًّا للصّحّة وجالبًا لأمراضٍ خَطيرة؛ فسَرَطان الرّئَة والحنجُرة وأَزماتُ القلب وضِيق التنفّس وتصلُّب الشّريان وأرَقُ النّوم وعدَم الشّعور بالجوع، وكلُّها أمراضٌ فتّاكَة يشعُر بها المتعاطِي له، لَكن الهوَى غلَب على كثيرٍ من النّاس، فأنساهم الأضرارَ، واستمَرّوا عَليها واستمرؤوها.
أخِي المسلم، إنَّ هذا الداءَ العضالَ ممكِنٌ عِلاجه وحَثُّ الناس على البُعد عنه لو تضَافرت الجهودُ مِن كلِّ الجهاتِ وتعاوَنَ الجميع وبُذِلَت الأسبابُ التي تقِي المجتمعَ المسلمَ من هذا الدّاءِ العُضال، الخَسائِرُ الماليّة حدِّث ولا حرَج، وكم يُنفَق آلاف الملايين في توفيرِ هذا الداءِ للمُجتَمَع، وهذا بلاءٌ عمَّ جميعَ المجتمعاتِ، ويَقتَرِضُها ضَعيفُ الدَّخل مِن قسط كبير مِن دَخله بلا فائدةٍ ولا مَنفعةٍ، فهو ضرَرٌ محض وإنفاقٌ للمال في الباطل وتبذيرٌ، والله يقول: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27].
أخِي المسلِم، إنّه يُثقِّل عليك الطاعةَ فلا تألَفها، ولا سيّما الصِّيام، فيستَثقِل الصيامَ ويسأَم منه ويملّ منه، إنّه يثقِّل عَليك الطاعةَ، ويعرّفك جُلساءَ السوء، ويجعلُك تألَف كلَّ فاسِقٍ ورَذيل، وتبتعِد عن كلِّ تقيٍّ صالح.
أخِي المسلِم، إنَّ الجهودَ يجِب أن تتَضافَر في علاجِ هذا الدّاءِ الذي يشعُر الجميعُ بخطرِه وضرَرِه وفسادِه، لا بدَّ من تضَافرِ الجهودِ عمومًا مِنَ الأفرادِ ومِن المجتمع، فرَبُّ الأسرةِ مسؤول.
فيا أيّها المسلم، ويا أخي يا مَن بُلِيتَ بهذا الداءِ، حاوِل البعدَ عنه، واستَعِن باللهِ، ثمّ إيّاكَ وأن يكونَ تعاطيك له أمامَ أطفالِك ذكورًا وإناثًا، إيّاك أن تتعاطاه أمامَ الأولادِ الذّكور والإناث، فربما نشؤوا يألَفون هذا البلاءَ ويطمئِنّون إليه لما يرَوا من إدمانِك عَليه وآثاره في نفوسِهم، فتستَعذبُه نفوسهم وتَستَمريهِ، فلا يأنَفون منه ولا يكرهونه، فأبعِده عن أطفالك أخي المسلم، ولا تجمَع بين سوئِك والإساءةِ إلى أهل بيتِك.
أيّها المسلم، اتَّق الله في نفسِك، وحاوِل التخلّصَ مِنه، وخلِّص أولادَك قَدرَ استطاعتك منه، وابذُل كلَّ السبَب معَ الالتِجاء والاستعانةِ بالله في كلِّ ما أهمَّك.
أيّتها المرأةُ المسلمة، عليك أن تعالجِي هذا الداءَ مع زَوجِك عِلاجًا بحِكمةٍ؛ لتكرّهي إليه داءَه، وتكرِّهي إليه رائحتَه، وتخبرينه بما تَلقَينَ من هذه الرائحةِ المُنتِنَة، فعسَى وعسَى أن يُوافقَ ساعةَ إجابةٍ، فيتخلَّص الزّوج من هذا الداءِ على يدِك، فتكوني قد سبَّبتِ خيرًا وحصَّلت خيرًا.
أيّها المسلم، إنَّ الجهودَ يجِب أن تتضافرَ مِن الكلِّ في علاج هذا الداءِ الخطير، وَسائلُ إعلامنا هل لها نَشاطٌ في هذا: المرئيّة والمقروءَة والمسموعة؟! هل هناك نشراتٌ متواصِلةٌ وإعلانات مُتتابعة تصوِّر هذا الداءَ الخبيث وتنشُر أضرارَه ومفاسِده ومساوئَه؟! هل وزارة الصحَّة عمومًا نشيطةٌ في هذا، تكشِف الغطاءَ عن أضرارِه، وتجسِّد أخطارَه، وتدعو الأمّةَ إلى البُعد عنه؟! لا بدَّ لوسائل إعلامِنا مِن أن تأخذَ على عاتِقها مكافحةَ هذا الداء ببرامجَ نافِعةٍ يُستضاف فيها من الأطبّاءِ الصّادقين الذين يكشِفون الضّررَ ويبيّنون مفاسدَه ويَدعون الأمّةَ إلى تركِه والبعد عنه، لا بدَّ لِمدرّسي الجامعات ورِجال التربيةِ والتعليم مِن نشاطٍ متواصلٍ في توعيةِ نَشئِنا ودعوتهم إلى الخير وتحذِيرهم مِن هذا الداءِ العضال، لا بدَّ من تشجيعِ مَن ترَكَه، ولا بدَّ من إشعارِ المبتلَى به بما هو فيهِ مِن نقصٍ حتى نَتدارَك هذا البلاءَ.
أخِي المسلِم، عند الصّباحِ والمساء تحاوِل تَنظيفَ أسنانك، وفرشة الأسنان تستعمِلها صباحًا ومساءً، ولكن ـ يا أخي المسلم ـ تستعمِل فرشةَ الأسنان وأنت تسوِّد أسنانَك وفمَك وشفتَيك بهذا الدّاء، فيا ليتَك ترَكتَ الداءَ قبل هذه النّظافة، لو تركتَ الداءَ لضمِنّا لك سلامةَ أسنانك، لكنّك تنظِّفها من آثارِ الطّعام وأنت تلوِّثها بهذا الضّررِ العَظيم.
أخِي المسلم، الأمّةُ تُقيم الحجرَ الصحّيَّ عندما يحدث بلاءٌ وأمراض فتّاكة يخشَى من تعدِّي ضررِها، لكن للأسفِ الشّديدِ تعُجّ الأرض بالدّخان بهذا البلاءِ العظيم ولا علاجَ ولا مُكافحة. عَوادِم السّيّاراتِ يُقال عن آثارِها في البيئة وهل التّدخين إلاّ بلاء أعظم من ذلك؟! أنت في منزِلك تكافِح الحشراتِ وتكافِح الرّوائحَ المنتِنة وتسعى في النظافة، لكن للأسَفِ الشديد لا تكافِح هذا الدّخان الضارَّ الذي يتصَاعَد منك في غرفةِ نومِك، فتنام وهذه الرّوائحُ المنتِنَة تحيط بك من كلِّ جانبٍ.
أيّها المسلم، إنَّ الواجبَ تَوعيةُ المجتمع المسلمِ عمومًا عن آثارِ هذا التّدخين، ولا بدَّ من نَشاطٍ متواصِل ودعواتٍ صريحةٍ تكشِف عن هذا البلاء. إنَّ الأطباءَ غالبًا قد يخفُون أَضرارَه خضوعًا لشركاتِ التِّبغ الذين إذا سمِعوا صَوتًا ينادي ضِدَّه ربما دفَعوا رِشوةً لكثيرٍ من الأطبَّاء، فلا يكشِفون الغطاءَ عن هذا البلاءِ، ولا يوضِحون المصائبَ والمفاسِد المترتِّبَة على تعاطيه.
أخِي المسلم، قد ترَى طبيبًا يدخِّن، فليس هذا بحجّة، فهو يعلَم ضَررَه، لكن الهوَى والعادات السيّئَة تستحكِم على بعضِ الناسِ حتى لا يستطيعون أن يبتعدوا عن هذا البلاءِ.
وصيّتي لك ـ أخي المسلم ـ أن تتَّقيَ الله، وَيا مَن بُليتَ بهذا البلاء، حاوِلِ التخلّصَ منه، فليس بالمستحيل، حاوِل تدريجيًّا، وأقِلَّ منه يومًا بعد يوم ويومًا بعد يوم، حتى إذا استمرَرت على هذا ربما توفَّق بمشيئة الله إلى البعد عنه وتركِه، حاوِل تركَه أيّامًا، وقلِّل اليَومَ عمّا كنتَ تأخذه بالأمس، وغدًا عمّا كنت تأخذ اليوم، وهكذا تدريجيًّا، فلعلّ الله أن يَفتحَ على قلبك ويُوفِّقك.
أخي المسلم، إنّك تعلم أنك إذا كنتَ في مجتمعٍ وبين أناسٍ لهم عِندك قَدر وقيمةٌ لا تستطيع أن تدخِّن أمامَهم، بل تبتعِد عنهم احترامًا لهم وتقديرًا لمَكانتهِم، إذًا فأنت تشعُر أنّك تتعَاطَى ضَررًا، وأنّك على خَطأ في أحوالك.
فاتَّق الله أخي المسلم، وتدارَك نفسَك في هذه الدّنيا، فإنَّ هذا البلاءَ يثقِل عليك الطاعةَ، ويجعلُك متعلِّقًا به، فتثقل الطاعةُ عليك، وتكثُر وسائلُ الإجرام عليك، إن شركات التّبغِ لا يؤمَن أن يكوِّنوا مِن هذا البلاء ويجعَلوا في ضمنِ موادّه الموادَّ المخدِّرة التي تقضِي على كيانِ الإنسانِ وتغيِّر مزاجَه وتحوِّله من إنسانٍ إلى حَيوانٍ مَسعورٍ. إنّه بلاءٌ عظيم، وإنّه بلاء فتّاك بالمجتمع، لا بدَّ مِن تعاونٍ وارتباطٍ، لا بدَّ من تضافُر جهودٍ مِن جهات متعدِّدة، عسى أن يوفَّق المسلمون لمكافحتِه والتخلّص منه.
لا شكَّ أنَّ هذا مما يزيد البيئةَ تَلوّثًا، هذا التدخينُ في بيتِك أو في سوقِك، إنَّ الواجِبَ على المسلم أن يحترمَ إخوانَه المسلمين، والنبيُّ يقول فيمَن أكلَ ثومًا أو بَصلاً أو كُرّاثًا: ((إنَّ الملائكةَ تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم)) [1] ، هذا في الأشياءِ المباحةِ، فكيف بالداءِ الخبيثِ الضارّ؟! إنّك تؤذِي إخوانَك، لا سيّما إن ضمَّك مجلسٌ أو مَراكِب طويلة المسافَة، فاتَّق الله، ولا تؤذِ إخوانَك بهذا الضررِ العظيم، فإنّك تؤذيهِم واللهُ يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
أسأَلُ الله أن يعينَنَا على طاعتِهِ، وأن يَهديَ ضالَّ المسلمين، وأن يُعافيَ مَن ابتُليَ به، وأن يجنِّبَ من لم يُبتلَ بهذا الضَّرّر والبلاءِ، إنّه على كلِّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه منَ الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستَغفر الله العَظيم الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب، فاستَغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه مسلم في المساجد (564) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كمَا يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله يَقول: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]. فالبيعُ حلالٌ، لكن أيّ البيوعات؟ البيعُ النافع والمفيد للمجتَمع، أمّا الأمور المحرَّمةُ فإنَّ بيعَها حَرام، فالتدخين الذي ثبَتَ ضررُه وتحقَّق لكلِّ ذِي عقلٍ مفاسدُه وأضرارُه ليعلَم المسلم أنّه حَرام، وليعلَم المسلِم أنَّ بيعَه حَرام, وليعلَم المسلِم أنَّ الاتِّجار فيه حَرام، وأنَّ مَورِّدَه وبائعَه ومروِّجه كلّ أولئك آثمون، وأنَّ مكاسبَه مكاسِبُ خبيثة، مكاسِبُ سيّئة، مكاسب لا خيرَ فيها، مكاسِب ممحوقَةُ البركة، مكاسِب تعين صاحبَها على المعاصِي وتثقِّل عليه الإنفاقَ في الطاعة.
فليحذَر المسلم مِن أن يكونَ مورِّدًا له، ليحذر لأن يكونَ مروِّجًا له بائعًا له مشارِكًا مُعينًا موظّفًا في أيّ شركة تروّجه، فليَعلم المسلم أنَّ المشاركةَ فيه بِأيّ صفةٍ من الصِّفات كلُّ ذلك حَرام؛ لأنَّ الله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
فاحذَر أن تَكونَ مُعينًا عليه بأيّ وسيلةٍ كانت، احذَر أن تكونَ موظَّفًا أو مُعقِّبًا أو بائِعًا أو مسوِّقًا أو في أيّ عملٍ يتعلَّق بهذا الدّاء، بل ابتعِد عَنه طاعةً لله وخَوفًا من الله ورجاءً لثوابِ الله.
أسأَل الله أن يوفِّقَ المسلِمين للعملِ بشرعِه القويم، وأن يرزقَهم الاستقامةَ على طاعَتِه، إنّه على كلِّ شيء قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّدٍ ، وشرُّ الأمورِ محدثَاتها، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وعَلَيكم بجمَاعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجَمَاعة، ومَن شَذّ شذّ في النّار.
وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى عَبد الله ورسولِهِ محمَّد كما أمرَكم بذلِكَ ربّكم، قال تعَالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارِك عَلَى عبدِك ورسولِكَ محمَّد، وَارضَ اللَّهمّ عَن خلفائه الراشدين...
(1/4119)
خطر الرشوة على الفرد والمجتمع
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
2/5/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمانة المؤمن في عمله وإخلاصه فيه. 2- التحذير من استغلال الوظائف لأغراض شخصية. 3- لعن الراشي والمرتشي والرائش. 4- مفاسد الرشوة وأضرارها. 5- فضل الشفاعة الحسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن المؤمنَ حقًا يتَّقي الله فيما عُهد إليه من عمل، فيؤدِّي أمانةَ العمل محسنًا للأداء، مخلصًا لله، يرجو بذلك ثوابَ الله ويخاف عقابَه، يعلم حقًا أنَّ أمانة العمل أمانةٌ عظيمة ومسؤولية جسيمة، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، إِنَّا عَرَضْنَا ?لأمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]، ويعلم حقًا أن الخيانة في العمل خيانةٌ لله ورسوله، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
ثم المسلمُ عندما يؤدِّي أمانةَ العمل لا يرجو من الناس ثناءً، ولا يؤمِّل منهم عطاءً، ولا يرتقبُ منهم مديحًا، ولكنه يؤديه أمانة اؤتُمن عليها، فهو يؤدِّيه طاعةً لله، لا يؤمِّل ثناءَ من يثني، ولا يطمع في عطاء من يُعطي، ولا يجامل هذا، ويميل مع هذا، ولكن أمامه أمانة، أمانةٌ اللهُ سائله عنها. إذًا فهو يراقب اللهَ قبلَ كل شيء، ويتقي الله قبل كل شيء، عملٌ اؤتُمن على أدائه سيؤديه بصدقٍ وإخلاص، يحسن في العمل ويبتغي بذلك وجهَ الله، يؤدِّي هذا العمل لكلِّ أحد، بمعنى أنَّه لا يسرع في تنفيذ [حوائج] بعض الناس وتأخير حاجات بعض الناس، أمامَه من يراجعه، هم عنده سواء بالنسبة إلى أداء العمل، فهو يؤدِّي ما يؤدِّي عن طاعةٍ لله، لا تراه يجامل هذا فينجز أمرَه، ويؤخِّر هذا فيماطِل به، يجامل من يظنّ أنَّ في مجاملته تحقيقًا لمآربه ومقاصده المادية، ويماطلُ من يماطل لعلمه أنّه لا يؤثِّر في أمره شيئًا، ولا ينفعه أن أدَّى إليه عملَه. فالعمل يجامل بأدائه؛ فمن يرجو منه منفعةً أو يؤمّل في جانبه مصلحةً، أو يرجو طمعًا ماديًا فإنه يسرعُ بإنجاز العمل وأدائه على الوجه الأكمل، ومن ليس كذلك ماطل به وأخَّر أمرَه، وقابله بوجهٍ مكفهرٍّ ولسان بذيء واحتقار وعدم مبالاة.
أيها المسلم، إن المؤمنَ حقًا يترفَّع عن هذه الرذائل، ويسمو بنفسه عن هذه النقائص، ويتقي الله في أعماله كلِّها، إِنَّ خَيْرَ مَنِ ?سْتَجَرْتَ ?لْقَوِىُّ ?لأمِينُ [القصص:26]، القويُّ في الأداء، الأمين على ذلك، قويٌّ في التنفيذ، أمين في العمل، ليس بخائن ولا مرتشٍ ولا مخادع، ولكن مؤمن صادق، يؤدّي عمله على الوجه المرضي.
أيها المسلم، هذا خلق المؤمن، وتلك سيرةُ المؤمن الطيّب، يؤدّي عملَه طاعةً لله، يرجو بذلك ما عند الله من الثواب. النبي يقول: ((الخازن الأمين الذي يؤدّي ما أمِر به طيبةً بذلك نفسه أحدُ المتصدِّقَين)) [1] ، فجعل من يؤدِّي العملَ عن طيب نفس من غير خداع ولا انتقاص للواجب، جعله من جملة المتصدِّقين والمحسنين.
أيها المسلم، إن الإسلامَ أوجبَ على المسلم الصدقَ والأمانة في العمل، وحرَّم عليه المماطلةَ في ذلك، وجعل ذلك من كبائر الذنوب.
أيها المسلم، اؤتُمِنت على عملٍ فأدِّه وقتًا وأداء، واتق الله في ذلك، واحذر ـ أخي المسلم ـ أن تستغلّ وظيفتَك وتستغِلّ مكانَك بأن تجعلَ ذلك سببًا لجذب المال لك والثراء من خلال أداء العمل، فتحابي وتجامل لأجل أن تنال مطامعَ مادية في عملك، فذلك المكسب مكسبٌ خبيث، وأخذٌ للمال بغير حق، والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]، ويقول جل جلاله: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
أيها المسلم، ولأجل هذا حرَّم رسول الله الرشوةَ، لعن باذلَها، ولعن آخذَها، ولعن الواسطةَ بين الباذل والآخذ، تحذيرًا للمسلمين من شرّها، وإبعادًا لهم من ضررها، وحمايةً لدينهم، وحماية لأموالهم، وحماية للمجتمع عمومًا، ففي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((لعن الله الراشي والمرتشي)) [2] ، واللعن حقيقتُه الطردُ والإبعاد من رحمة الله، فجعل باذلَ الرشوة ملعونًا، وجعل آخذَها ملعونًا، ويُروى في بعض الألفاظ: ((ولعن الله الرائش)) [3] أي: من كان واسطةً بين الاثنين.
لماذا لُعِن أولئك واستحقوا لعنة الله؟ لأيِّ سبب؟ إنَّ سببه الرشوة. لأجل ماذا؟ لأنَّ الباذل لها في الغالب إنما يبذلها ليقلبَ بها الحقائق، ليجعلَ الحقّ باطلاً والباطل حقًا، إنما بذلها ليتوصَّل بها إلى أخذ مال بغير حق، إنما بذلها ليغيِّر بها فكرَ من يدفعها إليه، ويستميله إليه، ويغيّر فطرته، ويجرّه إلى الرذيلة. ما أرخصَ المالَ إلا ليأخذَ به أكثرَ منه، ما بذلَ الرشوةَ إلا لتكون سببًا لاستحواذه على حقوق الناس، وليتوسَّل بها إلى ظلم الناس، إن لم يظلمهم في أموالهم ظلمَهم بتأخّر حقوقهم وإرجاء حقوقهم؛ لأن هذا المرتشي إذا أخذَ المال تغيّر أمره، واستمالت الرشوةُ قلبَه، فجعل ينظر إلى من يعطيه، فأيّ يدٍ تعطيه مالَ معها، ومن لا يعطيه لا يقيم له وزنًا. والآخذ لها لُعن لأنها سببٌ لتعطيل مصالح الأمة وقلب الحقائق، فكان أولئك ملعونين. والواسطة بينهما ملعون، هو أعان على الإثم والعدوان.
أيها المسلم، إنَّ الرشوةَ داءٌ خطير ومرض عضال، وفساد يسري في مجتمعات المسلمين، فيحدث شرًا وبلاء. إنَّ الباذلَ لها أعان على الإثم والعدوان، وإن الآخذ لها ساهم في تنفيذ هذا العدوان وهذا الشر والبلاء.
إن المسلمَ يتقي الله في مكاسبه كلّها، ولا يظنّ مجردَ كثرة المال هي الغاية، فكم من مال كثير نزع الله البركةَ منه، فلا يوفَّق آخذُه إلى خير في دنياه ولا آخرته، مع ما يناله من العذاب يوم القيامة.
إن المسلمين سواءٌ أمام من وُكل العمل إليه، فليتق اللهَ في الأمة، وليتق الله في مصالحها العامة والخاصة، ليتّق الله فيها تقوىً تحميه عن هذه الرذيلة.
إن الباذلَ للرشوة يبذلها أحيانًا ليُتغاضى عنه فيما أخذه مما ينفِّذه من مشاريع الأمة، وفيما يقوم به من المهمّات، فيبذل الرشوةَ لعل الآخذَ يتغاضَى عنه، ويتجاهل أخطاءه ونقصَه، فيقدم عنه تقريرًا وافيًا كاملاً، والله يعلم أنه مبنيٌّ على الكذب والباطل.
فالآخذ والدافع كلاهما شرّ على الأمة، ولا سيما ـ والعياذ بالله ـ إن دفعها ليظلم بها العباد، ووافقه المرتشي ليظلم بها العباد، ويظلمون أمةَ الإسلام، وربما قُدِّم من ليس بثقة، وأخِّر من [هو ثقة]، وضاعت المصالح أمام الراشي وأمام المرتشي.
إنها سحتٌ وبلاء ونار على آخذها، إنها تأتي بصور شتى وألوان مختلفة، لكن حقيقتها يعلمها الله أنها دفع مال للظلم، وأخذ مال ليُعان على الظلم والفساد.
فليتق المسلم ربه، وليتذكَّر قولَ الله تعالى: لَوْلاَ يَنْهَـ?هُمُ ?لرَّبَّـ?نِيُّونَ وَ?لأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ?لإثْمَ وَأَكْلِهِمُ ?لسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:63]، والسحتُ كلُّ مالٍ أخِذ بغير حق، وكلّ مكسب بغير سبب شرعي فهو سحت، وهو من أخلاق اليهود: سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42].
فالمؤمن يتقي الله، ويرجو من الله البركةَ فيما أُعطي، ففيما بارك الله الخير للقلب والبدن جميعًا.
أيها المسلم، يقول نبينا : ((من استأمنَّاه منكم على عمل، فرزقناه عليه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) [4] ، والله يقول: وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:161].
إن ضعفَ الإيمان وحبَّ الثراء العاجل والاغترار بهذه الدنيا يحمل ضعفاءَ الإيمان ضعفاء النفوس إلى أن يعلِّقوا آمالاً بمن ينجزون له الأعمال، يعلِّقون آمالاً بهم، فهم لا يحملهم على أداء العمل إلا أن يرَوا ما يوضع في أيديهم، فإن أُعطُوا أنجَزوا، وإلا تماطلوا وتهاونوا وتكاسلوا، ووضعوا العراقيل أمام كلّ حقٍّ يجب أن يؤدّوه.
فليتق المسلم ربه، وليحاسب نفسه في هذه الدنيا قبل أن يلقى الله وقد تحمَّل الأوزار والآثام، وصار ذلك المال الذي أخذه حطبًا يتأجَّج عليه في نار جهنم، فليتَّق المسلم ربه، وليراقبه في كل تصرّفاته والله يقول: يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]، قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَ?للَّهُ عَلَى? كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ [آل عمران:29].
بالرشوة يُحكم على من ليس ثقة بأنّه ثقة، وبالرشوة يُحكم على الفاجر بأنه أتقى الناس، وبالرشوة تُظلم الأمة في مصالحها العامة والخاصة، ولا يرضى بذلك مسلم يخاف الله ويتقيه، وهو ينظر إلى آثارها وأضرارها ومساوئها.
فنسأل الله أن يوفّق الجميعَ لما يرضيه، وأن يعصمنا وإياكم من المكاسب الخبيثة، وأن يرزقنا وإياكم الصدقَ في الأقوال والأعمال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإجارة (2260)، ومسلم في الزكاة (1023) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه أبو داود في الأقضية (3580)، وكذا أحمد (2/164)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313) وابن الجارود (586)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
[3] أخرجه بهذا اللفظ أحمد (5/279)، وابن أبي شيبة (6/549، 587)، والطبراني في الكبير (1415)، وأبو يعلى (6715)، والطحاوي في شرح المشكل (5655) من حديث ثوبان رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب: "رواه الإمام أحمد والبزار والطبراني، وفيه أبو الخطاب لا يعرف"، وقال الهيثمي في المجمع (4/498-499): "وهو مجهول"، وذلك لأنه لم يرو عنه إلا ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1344).
[4] أخرجه أبو داود في الخراج (2943) من حديث بريدة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (2369)، والحاكم (1/563)، وأقره الذهبي، وقال الشوكاني في النيل (4/232): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (779).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، شرع الله لعباده الشفاعةَ، وأن يشفع المسلم لأخيه بجاهه إن أمكنه ذلك: مَّن يَشْفَعْ شَفَـ?عَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَـ?عَةً سَيّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء مُّقِيتًا [النساء:85]، وفي الحديث: كان رسول الله إذا جاءه صاحبُ حاجة قال: ((اشفعوا تؤجَروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)) [1].
فالمسلم عندما يشفعُ لأخيه ليفرِّج همَّه ويزيل غمَّه ويرفعَ كربته ويحققَ له ما يريده من الخير، عندما يتصوَّر حاجة أخيه، وقد يكون هذا الأخ عاجزًا عن أن يدافع عن نفسه، قاصرًا أيضًا بالبيان، قليلَ الحيلة، فهو يقف معه موقفَ الأخ من أخيه المسلم، يقضي حاجتَه، يفرِّج همّه وغمَّه، ويحقّق له أملَه، لماذا؟ لأنه أخوه المسلم في ذات الله، والله يقول: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، ومحمد يقول: ((لا يؤمن أحدُكم حتّى يحبَّ لأخيه ما يحبه لنفسه)) [2].
هكذا الإسلام، ولكن ضعفاء النفوس لا يمكن أن ينفَعوا أحدًا إلا بمصلحةٍ لهم، إن أُعطُوا ذلَّلوا الصعاب، وسعوا جهدهم، وتعاونوا مع فئة مجرمة لتحقيق مصلحةٍ وحقٍّ للمسلم، لكنها بمصلحة مادية تعود عليهم، ولولا هذه المادة ما يمكن أن يسعَوا في رفع مظلمة، ولا إبلاغ شفاعة، ولا قضاء حاجة، [فإنما] يسعون لمصالح أنفسهم الذاتية، ثم هم عصابةٌ مجرمة يتعاون البعض مع البعض، خيوطٌ لا تستطيع الوصولَ إليها؛ لأنها مبنية على خُبث وسوء طوية، فهم لا يتحرّكون لمصلحة أحد، وإنما يتحرَّكون في إطار المصالح المادية التي تعود عليهم، هؤلاء آثمون، وما أخَذوا من هذا المال فإنه سحتٌ ولو كان لتحقيق حقٍّ لمسلم، إذِ الواجب السعي في حاجة المسلمين لله، يقول في عداد الصدقة: ((يصبح على كلِّ سُلامى من الناس كلَّ يوم صدقة)) ، إلى أن قال: ((وتعين الرجل في دابته، فتحمله عليها، أو ترفع له عليها متاعَه صدقة)) [3].
إذًا فقضاءُ حاجات المسلم الذي قصُر بيانُه وقلَّ تصرفه وحيلته وعجز عن تحقيق مراده، شفاعتُك له ووقوفُك معه اجعلها قربةً تتقرب بها إلى الله، وفي الحديث: ((من فرَّج عن مسلمٍ كربة من كرب الدنيا فرَّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) [4] ، ولكن العصابة المجرمة لا ترضى الخير، وإنما تساوِم حتى على مصالح الناس، ولهذا مسروق رحمه الله شفع عند زياد في مظلمةٍ لمسلم، فأراد المظلوم أن يكافئه به، فقال: لا، سمعت ابن مسعود يقول: (من سعى في دفع مظلمةٍ عن أخيه فأهدى له هدية فأخذها فقد أتى بابًا من أبواب الربا) [5].
إذًا فقضاؤُك حاجةَ أخيك المسلم اجعلها عملاً صالحًا تتقرّب به إلى الله، لا تنتظر يعطيك أو لا يعطيك، انظُر إلى من ترجو الثوابَ منه، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ?للَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَـ?هُمُ ?للَّهُ شَرَّ ذَلِكَ ?لْيَومِ وَلَقَّـ?هُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [الإنسان:9-11].
أيها المسلم، فالسعيُ في قضاء حاجات المسلمين يكون عبادةً وطاعة لله، لا يرجو بها من المخلوق جزاءً، وإنما يرجو بها الثوابَ من ربّ العالمين، ويا عُظمَ ذلك الثواب لمن قصدَ وجهَ الله والدارَ الآخرة.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد ، كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1432)، ومسلم في البر (2627) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (2891، 2989)، ومسلم في الزكاة (1009) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر (2580) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وليس فيه: ((من كرب الدنيا)).
[5] روى نحو هذا سعيد بن منصور في السنن (741)، والبيهقي في الشعب (5504).
(1/4120)
فضل الصيام وبيان مفسداته
فقه
الصوم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
3/9/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصيام. 2- أخلاق الصائم وآدابه. 3- مبطلات الصيام وما يترتب عليها من أحكام. 4- مسائل تهمُّ المرأة. 5- الترغيب في تعجيل الفطور وتأخير السحور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
معشر الصائمين، أبشِروا بوعد الله الذي وعدكم والله لا يخلف الميعاد، أبشِروا بفضل الله وكرمه وجوده، أبشروا بهذا الفضل العظيم والعطاء الجزيل من رب العالمين، أبشروا فإن صيامَكم مضاعفةٌ أجورُه، وإنَّ لكم فرحةً يوم لقاء ربكم حين تجدون أعمالكم، حين تجدون ثوابَ صيامكم مدَّخرًا لكم أحوجَ ما تكونون إليه، لا يأخذ الغرماءُ منه شيئًا، أبشروا بهذا الفضل العظيم، واشكروا الله على مزيد فضله وإنعامه، في الصحيح عنه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((كلّ عمل ابن آدم يُضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوتَه وطعامه لأجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، والصوم جُنة، فإذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب، وإن أحد سابّه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)) [1].
أيها المسلم، الأعمال الصالحة التي يعملها العبدُ قوليةً أو فعلية تُضاعف له، الحسنة بعشر أمثالها، مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، أما السيئاتُ فكما قال الله: وَمَن جَاء بِ?لسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]. فالحسنة الواحدة تُضاعف إلى عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف على قدر ما قام في القلب من إخلاصٍ وانقياد لله وكمال يقينٍ وقيام بهذا العمل خيرَ قيام، لكنِ الصيامُ مستثنًى من هذه المضاعفة، فإن مضاعفةَ ثواب الصيام لا يعلمُها إلا من تفضَّل بها، ((قال الله: إلا الصيام)) فإنه يضاعَف أكثرَ من ذلك، فإنَّ الصومَ من الصبرِ، والله يقول: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
فصيامُنا ـ معشر المسلمين ـ يضاعفه الله أضعافًا كثيرة لا حصرَ لها، فضلاً منه ورحمة لمن صان الصيامَ من كلّ المفسدات والمنقِّصات.
ثمّ إنّ ربّنا جلّ وعلا قال: ((إلا الصيام فإنّه لي)) فأضافه الله إليه، وكلّ أعمالنا لله، لكن يختصّ الصيام بهذا الشرفِ العظيم، إذ هو سرٌّ بين العبد وبين ربّه، معاملةٌ بين العبد وبين ربّه، لا يطَّلع عليه إلا الله، قادرٌ على أن يأكل، قادرٌ [على] أن يشرب، قادر [على] أن يأتي امرأته، لكن تلك الشهوات يرفضها ويأباها محبةً لله وطاعةً لله، لكمال علمه أن الله يرضى منه ذلك.
((وأنا أجزي به)) ، والله يقول: وأنا أجزي به، أي: وأنا أجزي الصائمين بثواب صيامهم، فعملٌ تولى الله [جزاءَه] بنفسه، فما أعظمه من جزاء، وما أكبره من ثواب.
وبيَّن جل وعلا بقوله: ((يدع شهوتَه وطعامه لأجلي)). نعم، إن الصائمَ ترك الشهوةَ وترك الطعام، لا لشيء إلا طاعةً لله، ما تركها ليمرّن نفسَه على الصبر، ولا تركها خضوعًا لتوجيه طبيب، ولكن تركها طاعةً لربّ العالمين، تركها قربةً يتقرب بها إلى رب العالمين، فتركه الشهوات والطعام إنما هو طاعة لرب العالمين، فاستحقّ هذا الثواب الجزيل.
ثم أخبرنا أن للصائم فرحتين: فرحة في الدنيا عندما يستكمل صيامَ اليوم، يفرح أن الله وفّقه فصام هذا اليوم، ثمّ يفرح لتناول الطيّبات التي أحلّها الله، وهناك الفرحة الكبرى والفوز العظيم يومَ يقوم الناس لرب العالمين، يوم يُدعى الصائمون من أحد أبواب الجنة المخصَّص للصائمين يقال له: الريان، ينادى: أين الصائمون؟ فإذا دخلوا أُغلق ذلك الباب، فلم يدخل معهم غيرُهم، حينما يقال لهم: كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئًَا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، حينما يجدون ثواب الصيام وهم أحوج ما يكونون إليه، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30].
ثم يبيّن بقوله: ((الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يسخب، وإن أحد سابّه أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم، الصوم جنة)) ، جُنة يقي العبدَ من معاصي الله، فما تُرك الطعام والشراب لأجل ذاتِ الطعام والشراب، لكن ليكون التركُ وسيلةً للبعد عما حرم الله، ليصوم اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة والسخرية والاستهزاء بالناس واتهام الناس والقيل فيهم بغير حق، ولتصوم العينُ عن النظر إلى ما حرم الله النظر إليه، ولتصوم الأذنان عن الإصغاء إلى ما لا خير فيه، لتصوم كلُّ الجوارح عما حرّم الله، هذه الغايةُ من الصيام، فهو جنّة يقي الصائم عذاب الله، بترك ما حرم الله والإقدام على طاعة الله.
ثم إنّ الصائم ينبغي أن يتخلّق بالحلم والصفح والإعراض وتحمُّل الأذى في ذات الله، فلا يرفث، لا يقل أقوالاً بذيئة، ولا يسخب، لا يكن بذيئا، ولا يكن مؤذيًا ولا ضارًا بأحد، بل يكون متأدِّبًا بآداب الشرع، متخلقًا بالأخلاق الفاضلة، ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35]. فإذا أحدٌ سفه عليك أو جهل عليك بقول أو فعل فقل له: إني امرؤ صائم، إني امرؤ صائم، لا أخوض معك في جهلك، لا أخوض معك في سفهك، لا أكون سفيهًا مثلك، صومي يحبِسني، وصومي يمنعني، وصومي يدعوني إلى مكارم الأخلاق، وينأى بي عن الرذائل في القول والعمل.
وخلوف فم صائم رائحةُ فمه تصَّاعد لخلوِّ المعدة من الطعام والشراب، في مشامِّ الناس كريهة، ولكنها لما كانت ناتجة عن طاعة قال في الحديث: ((لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)).
معشر الصائمين، احفَظوا صيامكم عن كلّ ما يفسده، واحفظوه عن كل ما ينقّصه، حاولوا حفظَ صيامكم ليبقى ثوابُه لكم أحوجَ ما تكونون إليه.
أيها الصائم، إن هناك أمورًا تنافي الصيامَ أو تُنقِّصه، فقد أجمع المسلمون على أن من تعمَّد في رمضان جماعَ امرأته أو تعمَّد أكلَ الطعام أو الشراب، فإنَّ هذا مفسدٌ لصيامه بإجماع المسلمين.
فيا أخي المسلم، أعظَم مُفسد للصيام جماعُ المرأة في نهار رمضان، فهذا من كبائر الذنوب، ومن استحلّه بعد علمه فذاك ضالّ كافر والعياذ بالله، فإنَّ الله جعل الليلَ محلاً للطعام والشراب وإتيان النساء: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ?لصّيَامِ ?لرَّفَثُ إِلَى? نِسَائِكُمْ [البقرة:187]، هكذا شرعُ الله، فبعد الإمساك من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس حرامٌ على المسلم إتيانُ امرأته، ومن زلَّت قدمُه بذلك فليعلمْ أنَّه ارتكبَ كبيرةً من كبائر الذنوب، وأتى محظورًا وفعلاً محرَّما، فعليه التوبةُ إلى الله من ذنبه، وقضاء ذلك اليوم، ثم عليه الكفارة المغلّظة: عتقُ رقبة، فإن عجز عنها أو لم يجِدها صام لله شهرين كاملين متتابعين، وإن عجز لمرض أو كبر أطعمَ ستين مسكينًا، فقد جاء رجل للنبي فقال: يا رسول الله، هلكت وأهلكت، قال: ((ما لك؟)) ، قال: أتيت امرأتي في رمضان، قال: ((هل تجد رقبةً تعتِقها؟)) قال: لا، قال: ((هل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟)) قال: لا، قال: ((هل تجد طعامَ ستين مسكينًا؟)) قال: لا، فسكتَ النبي حتى أتِي بغدق فيه خمسةَ عشر صاعًا فقال: ((خذه فأطعمْ به أهلك)) ، قال: أعَلى أفقرَ منَّا؟ فوالله ما بينَ لابتي المدينة أهلُ بيتٍ أفقر من أهل بيتي، فضحك ثم قال: ((خذْه فأطعمه أهلَك)) [2] فصلواتُ الله وسلامُه عليه، ما أعظمَ حلمه وتوجيهه ونصحَه ورفقه، حتى بمن خالف وعصى صلواتُ الله وسلامه عليه.
فلهذا يجبُ على المسلم البعدُ عن هذه الأمور، وتقوى الله، وأن يكونَ المانعُ له خوفَ الله ومراقبة أمره، ولذلك ـ أيها المسلم ـ إخراج المادة المنويّة بالطريقة المرذولة وهي ما يسمَّى بالعادة السريّة، فإن من حاول وتعمَّد إخراجَ المني ولو من غير جماع فإنَّ ذلك مفسدٌ لصيامه؛ لأن الله يقول: ((يدع شهوته لأجلي)) ، وإخراج تلك المادة المنوية من تعاطي الشهوة، فإن من تعمَّد ذلك فسد صومه، ووجب عليه قضاء ذلك اليوم، وأصبح بذلك عاصيًا لله، فعليه التوبة مما اقترف من هذا الخطأ العظيم. وأما خروجُ المني بطريق الاحتلام في النوم أو تفكير مجرَّد فإنَّ هذا معفوٌّ عنه؛ لأنّ الاحتلامَ لا قدرة له عليه، خارجٌ عن اختياره، والنبي يقول: ((تجاوز الله لي عن أمتي الخطأ والنسيانَ وما استُكرهوا عليه)) [3].
أيها المسلم، وممَّا يُفسد الصيام أن يتعمَّد المسلم أكلَ الطعام أو شربَ الماء في نهار رمضان، وهذا لا شكّ أنه لا يقع من مسلمٍ يخاف الله ويرجوه، لا يقع من مسلم يخاف الله ويعرف لقاءه، فإنَّ من تعمَّد فطرَ يومٍ من رمضان لم يكفِه الدهر كلُّه ولو صامه، لعظيم الإثم والوزر، أعاذنا الله وإياكم. فمن تعمَّد [تناوُل] الطعام والشراب فسد صيامُه، فإن كان بعذرٍ عذره الله به كمريض حلَّ به مرضٌ لا يستطيع مواصلةَ اليوم، أو اضطرّ إلى علاج في ذلك اليوم ضرورةً فأفطر فإنه لا إثم عليه، لكنه يقضي هذا اليوم، وأما تعمّدٌ بلا سبب وأرجو أن يكون ذلك إن شاء الله معلومًا [عند] المسلم الذي يخاف الله ويرجو لقاءه، فتعمُّد الأكل والشرب مفسد للصيام، وأما وقوع الأكل أو الشرب من المسلم عن طريق النسيان فإن هذا لا يؤثِّر على صيامه، يقول نبينا : ((من أكل أو شرب ناسيًا فليتمَّ صومَه، فإنما أطعمه الله وسقاه)) [4] ، فجعله خارجًا عن إرادته، ونسبَ الطعامَ والشراب إلى الله، بمعنى أن الله هو الذي قدّر له ذلك، وأن الأمرَ لم يكن باختياره.
وممّا ينافي الصيامَ لو أُعطي الإنسان الإبَر المغذّية التي وضعُها يعوّض عن تناول الطعام والشراب، فإنَّ هذه الإبَر المغذّية التي تمدّ الجسمَ كما يأكل أو يشرب من طريق فمه، فهذه إذا اضطرَّ إليها فإنها تنافي الصيام، فيستعملها ويقضي يومًا مكانه، وأما الإبَر العلاجية فإنها لا تؤثّر على الصائم، سواء كان من طريق العضلات أو العروق، لكن إن أخّرها في الليل كان أفضل، وإن تعاطاها فلا تؤثّر عليه شيئًا، لأنّ الحال يدعو إليها، وكذلك ما يُستعمَل من الأنسُلين لأصحاب السكّر ونحوه، فهذا لا يؤثّر على صيامهم ولا ينافي صيامهم؛ لأن هذه ليست من باب ما يؤكل أو يشرب، وكذلك لو اضطرّ إلى ما يسمَّى بالبخاخ في الأنف أو الفم للمصابين بداء الربو وأمثالها، فإنّ هذه لا تؤثّر على الصائم، لأنّها لا تلحق بما يؤكل أو يُشرب.
ومما يُفسد الصيامَ أيضًا ـ أيها الإخوة ـ إخراجُ الدم من الجسد بطريق الحجامة أو سحب الدم إذا اضطرّ إلى ذلك لإسعاف مريض، فإن النبي قال: ((أفطر الحاجم والمحجوم)) [5] ، لأنَّ خروجَ هذا الدم يسبّب ضعفًا في الغالب للإنسان، ويعجز عن مواصلة الصيام مع خروج هذا الدم، ولهذا قيل: أفطر الحاجم والمحجوم، فمن سُحب منه دمٌ لإسعاف مريض أو نحو ذلك، فإنه يفطر ويقضي ذلك اليوم.
وأما التحليل العادي اليسير فإن هذا لا يؤثّر؛ لأنه لا يترك أثرًا على المسلم. ومن ذلكم ـ أيها الإخوة ـ الدمُ الخارج من غير اختيار الإنسان، كدمٍ خرج من أنفه من طريق الرعاف، أو من فمه أو ناسور أو نحو ذلك، أو جرحٌ جَرح نفسه بغير اختياره، أو شيء سقط عليه فجرحه فسال دمُه، أو سقط على موضع فانشقّ [فخرج] الدم، فإن هذا لا يؤثر؛ لأن هذا ليس باختياره، ولا سبب له في ذلك.
ومن ذلكم ـ أيها الإخوة ـ إخراج القيء من المعدة، وتعمّد إخراجه، ففي الحديث أنه قال: ((من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء)) [6] ، فمن حاول إخراجَ الطعام من جوفه بعد الصوم بأن عصر بطنه أو شمّ شيئًا أو غمز حلقه حتى خرج، فإنّ هذا منافٍ للصيام، فعليه قضاءُ ذلك اليوم، لكن إن كان مضطرًا فلا إثم عليه، وإن كان لغير ضرورة فهو آثم. وأما إذا خرج القيء من غير سبب، بل أمرٌ خارج عن إرادته، فإنّ هذا لا شيء عليه، بل لا يلزمه منعُ القيء إذا تهيّأ للخروج؛ لأن خروجَه يكون راحةً له، وهو لم يتعمّد ذلك ولم يقصده.
أيها المسلم، إن المسلمَ يحفظ صيامَه، ويصون صيامه عن كلّ مفسد، ويبتعد عن كل وسيلة يمكنها أن تخدَش صيامَه، لمَّا أخبرت أم المؤمنين عائشة أن النبي ربما قبَّل بعض نسائه وهو صائم قالت لهم: وأيّكم كان أملك لإربه؟! أو قالت: إن محمدًا أملك الناس لإربه [7] ، بمعنى أنه مسيطرٌ على شهوته، لا تغلبه شهوته ولا تقهره، فالمسلم يبتعد عن كلّ وسيلة يمكن أن تفسدَ صومَه، فإن صومَه أمانة في عنقه، فليتق الله في المحافظة عليه وصيانته من كل مفسد قوليًا أو فعليًا، من كلّ مفسد ومن كل منقّص، من كل مفسد من الأفعال أو منقّص للثواب من الأقوال، ليكون صومُه مصانًا حتى يكمل الثوابُ إن شاء الله.
أسأل الله لي ولكم صيامًا مقبولاً وعملاً صالحًا، أسأل الله أن يجعلنا من الصائمين المخلصين لله بصيامنا، إنه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الحشر:7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الصوم (1936)، ومسلم في الصيام (1111) من حديث أبي هريرة بنحوه.
[3] أخرجه ابن ماجه في الطلاق (2045) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ: ((إن الله وضع عن أمتي...)) ، قال البوصيري في الزوائد : "إسناده صحيح إن سلم من الانقطاع، والظاهر أنه منقطع بدليل زيادة عبيد بن نمير في الطريق الثاني، وليس ببعيد أن يكون السقط من جهة الوليد بن مسلم فإنه كان يدلس"، والطريق المتصل أخرجه الدارقطني (497)، وصححه ابن حبان (1498)، والحاكم (2/198)، ووافقه الذهبي، وحسنه النووي في أربعينه، وصححه الألباني في الإرواء (82).
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه أحمد (15857)، والترمذي في الصوم (774)، والطبراني في الكبير (4257) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ـ ويقال: ابن يسار ـ وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج".
[6] أخرجه أحمد (10463)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1676) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (923).
[7] أخرجه البخاري في الصوم (1927، 1928)، ومسلم في الصيام (1106) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنّ مما يُفسد الصيامَ خروجَ دم الحيض من المرأة، أو حصولَ النفاس بالولادة، فهذا أيضًا مما يفسد صيامَ المرأة المسلمة، فلو خرج دمُ الحيض منها ولو قبل الغروب بدقائق فإنَ هذا الصومَ يُعتبر فاسدا لخروج دم الحيض قبل غروب الشمس، وإذا غربت الشمس على المرأة ورأت الدمَ بعد غروب الشمس ولو بدقائق فإنَ صومها صحيح، لأنّ النهار قد ذهب بغروب الشمس، وما خرج بعد غروب الشمس فإنّه لا ينافي الصيام.
أيتها المرأة المسلمة، إنّ نبينا دخل على عائشة يومَ حجة الوداع وهي تبكي، فسألها فأخبرته أنها حاضت، فقال: ((إنّ هذا شيء كتبه الله على بنات آدم)) [1] ، فطمأنها بأنّ هذا أمرٌ قضاه الله على بنات آدم، ولله الحكمة فيما يقضي ويقدر. قال العلماء: إن الحيضَ دمُ جِبلّة وطبيعة، خلقه الله لحكمة غذاء الولد، ولهذا إذا حملت المرأة تحوّل هذا الدم غذاءً لذلك الجنين، وربّك حكيم عليم. فخروج دم الحيض إشارةٌ إلى صحة المرأة وسلامة بدنها وكمال صحتها، إذًا فما تَعمد إليه بعضُ النساء من تعاطي ما يمنع الدمَ شهرَ رمضان، تعلِّل المرأة بأنها تصوم، وتعلِّل بأنها تقرأ، كلّ هذه عللٌ لا [تبرِّر] تناولَ تلك العقاقير، فإنّ هذه العقاقير غالبًا تضرّ بالنساء، تتَّخذها المرأة أحيانًا من غير استشارة لطبيب، ومن غير رجوع لمختصّ يقدّر: هل هذه الحبوب تناسب المرأة؟ هل تناسب وضعَها أو لا تناسب؟ هل أثرُها على المرأة سليم أم أثرها سيئ؟ ثم إنها لو أفطرت بأمر الله فلا ينقص ثوابها شيئًا، ولا يمنع ذلك كمالَ عملها، فإن الله جل وعلا عليم بكل هذه الأمور.
أيتها المرأة المسلمة، تتساءل بعضُ النساء عن أمور، فمنها ما يحصل من إسقاط الأجنة أحيانًا في الشهر الأول أو الشهر الثاني، قد قرّر العلماء رحمهم الله أن إسقاط ما في البطن إن كان أقلَّ من ثمانين يومًا فإنه لا يسمَّى نفاسًا؛ لأنّ هذا دم فساد، وما زاد على الثمانين يومًا فهو وقت يمكن تخلّق الجنين فيه، فما كان بعد الشهر الثالث فإنه في الغالب متخلّق، فيكون ما سقط نفاسًا تمكث المرأة مدّة النفاس، إلا إذا انقطع الدم عنها.
أيتها المرأة المسلمة، إنّ المرأة بعد الولادة لا شك أنّ أكثر مدة النفاس أربعون يومًا، ولكن لو أن المرأة رأت الطهرَ الكاملَ قبل كمال الأربعين وجب عليها أن تغتسل وتصوم؛ لأنه إذا انقطع المانع وجب الصيام.
المرأة المسلمة لو انقطع الدمُ عنها قبل صلاة الفجر وجب عليها الإمساكُ ولو تأخَّر غسلها بعد طلوع الفجر، كذلك المسلم لو عليه جنابة فتسحَّر وتأخّر غسلُه إلى بعد طلوع الفجر، فإن ذلك لا شيء عليه، نبينا ربما جامع نساءه وأمسك ثم اغتسل بعد طلوع الفجر صلوات الله وسلامه عليه [2].
أيتها المرأة المسلمة، إن كثيرًا من النساء يتساءلن كثيرًا عما يحصل لهنّ من اضطرابٍ في دورتهن الشهرية، من تقدّم أو تأخرٍ أو زيادة أو نقصان، فلتعلم المرأة المسلمة أن الحيض مانع من الصيام، وأنّ المرأة تجلس المدّة التي هي سائرة عليها في الغالب، وغالب ذلك سبعة أيام أو ستة أيام، وما زاد على ذلك فإن كانت الزيادة لم تبلغ اليومَ الخامسَ عشر فإن ذلك يمكن أن يكون حيضًا، وأما إذا اضطربَ الأمر عليها في الأشهر البقية فإنها تلزم عادتها الأولى التي قبل هذا الاضطراب.
ولتتقي المرأة ربَّها في أمورها كلّها، وإذا انقطع الدم عنها دمُ الحيض في أثناء النهار وجب الاغتسال وصيام بقية هذا اليوم ثم قضاؤه؛ [عليها] صيامُه حيث إنها شاهدةٌ للشهر، و[عليها] قضاؤه حيث إنها لم تستكمل صيامَ اليوم كله.
كذلك بعضُ النساء ربّما سبق العادةَ [عندهنّ] شيءٌ من الصفرة أو الكدرة، فيقول العلماء: إنَّ ما تقدّم من صفرة أو كدرة قبل الحيض مرتبطًا به فإنه ملحق به، وما وقع أيضًا بعده ملحقٌ به، إلا إذا حصل الطهرُ، فما وقع بعد الطهر فلا يضرّ المرأةَ شيء من ذلك، فإنَّ أم عطيّة تقول: كنّا لا نعدّ الصفرةَ والكدرة بعد الطهر شيئًا [3] ، أي: في عهد النبي ، فهذه سنة رسول الله.
فعلى المرأة المسلمة التفقّه في دين الله وتعلّم ما ينفعها وسؤالها عما تجهله؛ لتكون عباداتها على وفق ما دلّ الكتاب والسنة عليه، فَ?سْأَلُواْ أَهْلَ ?لذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
أيها المسلمون، سنة نبيّكم دلَّت على استحباب السحور، ويقول لكم نبيكم : ((تسحَّروا فإن في السحور بركة)) [4] ، هذه البركةُ بركة في هذا السحور، ليتقوّى به المسلم على صيامه، وبركةٌ في هذا الوقت الذي ينزل فيه الربّ إلى سمائه الدنيا، فينادي: هل من سائل فيعطَى سؤله، هل من مستغفر فيُغفر له، هل من تائب فيتاب عليه، فيتقرّب إلى الله بدعائه ورجائه، ويؤدّي صلاة الفجر في وقتها جماعة.
كان نبيّكم يحبّ تأخيرَ السحور حتى قدّروا ما بين انقضائه من سحوره وإقامة الصلاة بمقدار خمسين آية [5].
وكان نبيكم يرغِّب في المبادرة بالفطر إذا تأكّد غروبُ الشمس، فيقول : ((إذا أقبلَ الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم)) [6] ، ويقول لكم : ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)) [7] ، ويقول عن ربّنا جل جلاله أنه قال: ((أحبُّ عبادي إليّ أعجلُهم فطرًا)) [8] ، وحثَّكم على السحور بقوله: ((السحور بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرعَ أحدُكم جرعةً من ماء، فإنَّ الله وملائكته يصلّون على المتسحّرين)) [9] ، فأحيِ هذه السنة ولو قليلا، ولا تقل سبق العَشاء قبل ذلك، تناولْ وجبةَ السحر ولو بكأس من ماء أو تناولِ شيءٍ ولو يسيرا إحياءً لهذه السنة، واقتداءً بسيد الأولين والآخرين، فكان يؤخّر السحور، ويبادر بالفطر على أيّ شيء كان، يقول أنس رضي الله عنه: كان رسول الله يفطر على رطبات، فإن لم يكن فتمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء [10] ، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، ورزقنا وإياكم الاقتداءَ به والتأسي به في كلّ الأحوال، والله يقول: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد ، حيث أمركم ربكم بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك وخيرتك من خلقك، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الحيض (294، 305)، ومسلم في الحج (1211) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] أخرج البخاري في الصوم (1932)، ومسلم في الصيام (1109) عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما زوجي النبي أنهما قالتا: إن كان رسول الله ليصبح جنبا من جماعٍ غيرِ احتلام في رمضان ثم يصوم.
[3] أخرجه البخاري في الحيض (326) بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1923)، ومسلم في الصيام (1095) من حديث أنس رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1921)، ومسلم في الصيام (1097) عن أنس عن زيد بن ثابت رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الصوم (1954)، ومسلم في الصيام (1100) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (7241، 8360)، والترمذي في الصوم (700) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (2062)، وابن حبان (3507)، ورمز له السيوطي بالصحة، إلا أن في إسناده قرة بن عبد الرحمن متكلَّم فيه، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (649).
[9] أخرجه أحمد (11086، 11396) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/150): "فيه أبو رفاعة، ولم أجد من وثقه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، هذا في إسناد الموضع الأول، أما الموضع الثاني ففي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مشهور بالضعف، وقد قوى الألباني الحديث بمجموع الطريقين وبشواهده، انظر: صحيح الترغيب (1070).
[10] أخرجه أحمد (12676)، وأبو داود في الصوم (2356)، والترمذي في الصوم (696)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، وروي أن رسول الله كان يفطر في الشتاء على تمرات، وفي الصيف على الماء"، وصححه الحاكم (1/597) على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الدراقطني (2/185): "إسناده صحيح"، ورمز له السيوطي بالحسن، وحسنه الألباني في الإرواء (922).
(1/4121)
فضل القرآن وتلاوته
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/9/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معجزات الرسل. 2- خلود معجزة النبي. 3- عظمة القرآن وفضائله. 4- الحث على تدبر القرآن الكريم. 5- حقيقة التلاوة. 6- فضل قراءة القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنَّ الله جل وعلا أيّد رسلَه بالمعجزات، بالآيات الدالة على صدقِ ما جاؤوا به، وأنّهم رسلُ الله حقًا، وتنوّعت تلك المعجزاتُ على حسب حال من بُعثت إليهم الرسل، والله حكيم عليم.
ومعجزاتُ الرسل انقضت بموتهم، وانتهت معجزاتُهم وبقي ذكرُها في كتاب الله العزيز، أمّا محمد خاتمُ الأنبياء والمرسلين سيد ولد آدم على الإطلاق، فقد جعل الله معجزتَه والآيةَ الدالة على صدقه هذا القرآنَ العظيم، يقول : ((ما بعث الله من نبيّ إلا آتاه من الآيات ما على مثله آمن البشر، وإنّ الذي أوتيته وحيٌ أوحاه الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرَهم تابعا)) [1] ، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أنزل الله هذا القرآن رحمةً ونذارة للعالمين، تَبَارَكَ ?لَّذِى نَزَّلَ ?لْفُرْقَانَ عَلَى? عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ?لَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]. اختار الله لنزوله أشرفَ الأزمنة وأفضل الشهور، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]. واختار الله لأوّل نزوله أشرفَ الليالي وأفضلها، ألا وهي ليلة القدر، إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ [القدر:1]، إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ [الدخان:3]. بعث الله به محمدًا للبشارة والدعوة للدين، وَأُوحِىَ إِلَىَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانُ لأنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ [الأنعام:19]. تحدّى الله الثقلين أن يأتوا بسورة أو آية مثله فعجزوا ولو اجتمعوا، قُل لَّئِنِ ?جْتَمَعَتِ ?لإِنسُ وَ?لْجِنُّ عَلَى? أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. ضمّن الله فيه من الوعيد ما يهزّ القلوب، وَكَذ?لِكَ أَنزَلْنَـ?هُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ ?لْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [طه:113]. عظَّم الله شأنَه، وأخبر عن عظيم أمره وأنه لو خوطبت به الجبال لتصدّعت من خشية الله: لَوْ أَنزَلْنَا هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ عَلَى? جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَـ?شِعًا مُّتَصَدّعًا مّنْ خَشْيَةِ ?للَّهِ [الحشر:21]. ضرب به الأمثال، وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ مِن كُلّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ قُرْءانًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الزمر:27، 28]. يسَّر الله حفظه وفهمَه لمن أراد ذلك بالإخلاص لله، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ?لْقُرْءانَ لِلذّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:22]. ضمّنه الله أحسنَ القصص وأكملها، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ?لْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [يوسف:3]. أمر الله نبيَّه أن يذكّر بهذا القرآن: فَذَكّرْ بِ?لْقُرْءانِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].
أيها المسلم، هذا كتاب الله، خاتم كتبِ الله كلّها، أنزله الله ليكونَ خاتمًا للكتب كلّها مهيمنا عليها، يُحِقّ الحقّ ويُبطل الباطل، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ مُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48].
هذا القرآنُ محفوظٌ بحفظ الله، حفظ الله لفظَه فلم تستطع أيدي العابثين أن تمتدّ إليه زيادةً أو نقصانًا أو تغييرًا أو تبديلاً رغم عداء الأعداء وكثرتهم على مرور القرون، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، فحفظ الله لفظَه، وحفظ معانيَه، وهيّأ له من يدافع عنه ويناضل عنه، ولا يزال كذلك حتى يأذن الله برفعه من المصاحف وصدور الرجال.
أيها المسلم، هذا كتاب الله، فيه خبر من قبلنا، وحكمُ ما بيننا، ونبأ ما بعدنا. هذا كتاب الله، ضمّنه الله أخلاقَ المؤمنين، وصفاتِ المنافقين، وأحوالَ الكافرين، صفات المؤمنين ليعملَ بها المسلم، وأخلاق المنافقين والكافرين ليبتعدَ عنها، فيعرف الشرَّ، فيكون على حذر وبعد منه.
أيها المسلم، هذا كتاب الله، ضمّنه الله أسبابَ السعادة في الدنيا والآخرة، بيَّن تعالى أن السعادة لمن اتَّبع هذا القرآنَ وحكّمه وتحاكم إليه، وأنّ من قبِل هذا القرآن وحكّمه وتحاكم إليه فهو السعيد في الدنيا والآخرة، هو قرير العين مطمئنّ النفس غيرُ ضالّ، بل هو في سعادة الدنيا والآخرة، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123]. وبيَّن عاقبةَ المعرضين عنه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ءايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126]. جعله الله سببًا للهداية، فهو يهدي لمكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]. فيه تبيانُ كلّ شيء وتفصيلُ كل شيء، وهو هدىً وبشرى للمسلمين، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى? لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89]. لا تناقضَ في أحكامه، ولا اضطرابَ في أخباره، فأحكامه متّفقة، وأخباره يصدّق بعضها بعضًا، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَـ?تِهِ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الأنعام:115]. هذا القرآنُ يتلوه المؤمنون فتجِل قلوبُهم وتخشع لربّ العالمين، ?للَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ?لْحَدِيثِ كِتَـ?بًا مُّتَشَـ?بِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ ذَلِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء [الزمر:23]. جعله الله نورًا يستضيء به المسلم ليخرج به من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى، قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16]. جعله الله عزًا لأهله ورفعةً لهم في الدنيا والآخرة، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَـ?بًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]. ومنَّ الله على العرب إذ جعله بلغتهم تشريفًا لهم، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف:44]، أي: شرفٌ لك يا محمد، وشرفٌ لقومك، وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:44].
أيها المسلم، اقرأ كتابَ الله، قراءةَ المتدبِّر المتأمّل المتعقّل، اقرأه بتدبّر وحضور قلب لتنال الخيرَ الكثير، فإن الله أمرنا بتدبّره: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29].
تدبّر عند القراءة، وقِف عند عجائب القرآن، ترى مبدأ خلق الإنسان ومن أيّ شيء كان، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى? عِندَ ?للَّهِ كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [آل عمران:59]، ترَ فيه خبرَ آدم، وخلقَ الله له بيده، ونفخَ الروح فيه، وإسجادَ الملائكة له، وإدخالَه الجنة، وتسلّط العدوّ إبليس عليه، وإهباطه إلى الأرض، ترَ فيه دعوةَ الرسل على اختلافهم، وما هي الكلمة التي اتفقوا عليها، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25]، ترَ الخصومة بين الرسل وأممهم، وانتصار الله لأوليائه، وإنزاله العقوبة لأعدائه.
ترى ـ أيها المسلم ـ في هذا القرآن الأوامرَ العجيبة والنواهي الكثيرة، أمرٌ بعبادة ربّ العالمين وإخلاص الدين له، أمرٌ ببرّ الوالدين، أوامر بالصلاة والزكاة والصوم والحج والصلة وحسن الجوار وأداء الأمانة وصدق الحديث، أمرٌ بالأخلاق الكريمة، ونهيٌ عما يضادّها من كلّ ضلال، دعوة الخلق لله، وتقوية صلتهم بالله، وبيان كمال علم الله وإحاطته بخلقه، وأن الله مُحصٍ علينا أقوالَنا وأعمالنا، وأنّ الله جامعُنا ليوم لا ريب فيه، ومحاسبنا على كلّ ما جرى، ترى طريقَ السعادة ومآل المتقين، وترى طريقَ الشقاوة ومآل المعرضين والمكذبين. اقرأ كتابَ الله قراءةَ المتدبّر المتعقّل، لتخرج بالنتيجة الطيبة، صلاحُ القلب، زكاةُ النفس، سموّ الأخلاق، التحلي بالفضائل والمكارم.
إن هذا القرآن خُلق نبيكم ، تقول عائشة رضي الله عنها وهي تُسأل: ما هو خلق النبي؟ قالت للسائل: ألم تقرأ القرآن؟! إن الله يقول: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] [2] ، فكان القرآن خلقه، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ينفِّذ أمره، يجتنب نهيَه، يقف عند حدوده، يتأدَّب بآدابه، صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
اقرأه بتدبّر وتعقّل لترى الخيرَ الكثير والسعادةَ في الدنيا والآخرة، اقرأه قراءةَ الراغب فيه، الموقن به، المصدِّق له، الذي يرجو بتلاوته ثوابَ الله وفضله.
إنَّ الله اختصّ رمضانَ فجعله زمنَ إنزال القرآن، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، أجل إنّه هدىً للناس، إن الهداية للحق إنما هي في القرآن الذي أنزله الله على عبده ورسوله محمّد، يهديك لكلّ خير، ويدعوك لكلّ فضيلة، ويأخذ بيدك لكلّ خير، وينأى بك عن كلّ سوء. تقرأ وأنت تقرأ آياتِ تحريم الربا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِين [البقرة:278]، فتقف: هل أنت معاملٌ بالربا أم أنت بعيد كلَّ البعد عنه؟ تقرأ أَن لَّعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف:44]، ولعنة الله الكاذبين، فتتأمل في نفسك، هل أنت منهم أم أنت بريء من ذلك؟ تقرأ أيضًا آياتِ الأحكام الشرعية، من الحلال والحرام، فإنَّك إذا تأمّلت وتدبَّرت كنتَ من التالين له حقّا، ?لَّذِينَ آتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ [البقرة:121].
وإنّ لرمضان خصوصيةً في تلاوة القرآن، فأكثِر ـ أخي الصائم ـ من قراءة القرآن، اتل القرآن، واجعل لك نصيبًا في هذا الشهر في تلاوة كتاب الله العزيز، اقرأه وتدبّر وتعقّل، فسترى الخيرَ الكثير والثوابَ العظيم في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (4981)، ومسلم في الإيمان (152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (746) بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
واعلموا أنَّ المقصودَ بتلاوة القرآن التلاوةُ التي تدعو إلى العمل به، وتنفيذ أحكامه، وتطبيق أوامره، والبعد عن نواهيه. فلا يكون تاليًا للقرآن إلا من عمل بما أمر به القرآن، وانتهى عمَّا نهى عنه القرآن، وتأدَّب بآداب القرآن، وتخلّق بأخلاق القرآن، فمن كان كذلك رُجي له الخير، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (تكفَّل الله لقارئ القرآن العامل به أن لا يضلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة) [1] ، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أيها المسلم، لقد جاء في السنة الترغيبُ في تلاوة القرآن، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي قال: ((من قرأ حرفًا من القرآن كان له بكلّ حرف حسنة، الحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) [2] ، وبين الفرق بين البيت الذي يُتلى فيه القرآن والبيت الهاجر لتلاوة القرآن، فقال: ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه كمثل الحي والميت)) [3] ، وأخبر أن القرآنَ يأتي شفيعًا لأصحابه فيقول : ((اقرؤوا القرآن فإنه يجيء يومَ القيامة شفيعًا [لأصحابه])) [4] ، وأخبر أن القرآنَ شافعٌ مشفَّع وماحِل مصدَّق، من جعله أمامَه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار.
يا صاحبَ القرآن أبشرْ فإنَّ هذا القرآنَ سيكون بين يديك يوم القيامة، يُحاجّ عنك في ذلك الموقف، يقول : ((يُؤتَى يوم القيامة بالقرآن وبأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا، تقدمهم سورة البقرة وآل عمران، يحاجَّان عن صاحبهما)) [5] ، و((يوم القيامة يقول القرآن: يا ربّ حلِّه، فيُلبَس تاجَ الوقار، فيقول: يا ربِّ زدْه، فيُحلَّى بحلية الكرامة، فيقول: ربِّ زِده، ربِّ ارضَ عنه، فيرضى الله عنه)) [6].
فاقرؤوا القرآن، واغتنموا قراءته في رمضان وغيره، ولكن ليكنْ لكم في رمضان نصيبٌ وافر من تلاوته، فعسى الله أن ينير به القلوب، ويشرح به الصدور، ويرزق الجميع العملَ به والقيامَ بحقه، إنه على كل شيء قدير.
وكان نبينا يعرض القرآنَ على جبريل في رمضان، فيدارس جبريل النبي ، يعرضه عليه كلَّ رمضان مرة، وفي آخر رمضان من حياة النبي عرض القرآنَ على جبريل مرتين [7] ، فصلوات الله وسلامه عليه وأبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذَّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/136)، وابن جرير في تفسيره (16/225) عن عكرمة عنه رضي الله عنهما.
[2] أخرجه الترمذي في فضائل القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن (2910)، وأبو نعيم في الحلية (6/263)، والبيهقي في الشعب (2/342)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1416).
[3] أخرجه البخاري في الدعوات (6407)، ومسلم في صلاة المسافرين (779) واللفظ له من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (804) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
[5] هو من تتمَّة الحديث السابق.
[6] أخرجه الترمذي في فضائل القرآن (2915)، والدارمي في فضائل القرآن (3311) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه من طريق أخرى موقوفا وقال: "وهذا أصح"، وصححه الحاكم (2029)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (1425).
[7] أخرجه البخاري في المناقب (3624)، ومسلم في فضائل الصحابة (2450) من حديث فاطمة رضي الله عنها.
(1/4122)
مع القرآن في شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, فضائل الأعمال
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نزول القرآن في رمضان. 2- الحث على الإكثار من تلاوة القرآن في رمضان. 3- صفات القرآن الكريم وفضائله. 4- تحيّر المشركين في عظمة القرآن الكريم. 5- الترغيب في تلاوة القرآن. 6- التحذير من هجر القرآن وبيان أنواع الهجر.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، إن شهر رمضان هو شهر القرآن، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، أنزل الله عز وجل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، وهو بيت لله حيال الكعبة، وكان هذا الإنزال جملة واحدة في ليلة القدر من رمضان، ثم أنزل الله عز وجل القرآن الكريم مُفرّقًا في ثلاث وعشرين سنة، يستمع الروح الأمين جبريل عليه السلام إلى الآيات من رب العزة سبحانه، ثم ينزل بها على قلب رسول الله.
وكانت بداية هذا النزول أيضًا في شهر رمضان في ليلة القدر لمّا نزل جبريل عليه السلام على رسول الله بالآيات الأولى من سورة العلق: ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ مِنْ عَلَقٍ ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ ?لَّذِى عَلَّمَ بِ?لْقَلَمِ عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]. قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ نَزَلَ بِهِ ?لرُّوحُ ?لأمِينُ عَلَى? قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ?لْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ [الشعراء:192-195].
ولأجل اختصاص شهر رمضان بالقرآن الكريم فقد كان النبي يخصه بالإكثار من تلاوة القرآن وتدارسه، فكان يختم القرآن في كل رمضان مرة أو مرتين، قراءة على جبريل عليه السلام سوى قراءته لنفسه ، وكان يأتيه جبريل عليه السلام في كل ليلة من ليالي رمضان، فيتدارسان القرآن كما ثبت في صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنها.
واقتدى الصحابة وسلف الأمة برسولنا الكريم ، فكانوا يختمون القرآن في رمضان مرات عديدة في الصلاة وخارج الصلاة، وكان الإمام مالك إذا دخل شهر رمضان يفر من إقراء الحديث ويتفرغ لقراءة القرآن من المصحف، وكان بعض السلف يقول عن شهر رمضان: "إنما هو لقراءة القرآن وإطعام الطعام".
أيها المسلمون، إن القرآن الكريم هو الكتاب المنير، وهو الذكر الحكيم، وهو الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وصفه الذي تكلم به وأنزله إلينا بأنه الكتاب المنير؛ لأنه ينير للإنسان طريقه، وينقذه من الظلمات، وينير للمسلم قلبه، فيمتلئ سعادة ورضًا وطمأنينة، وسماه الله تعالى الفرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل، قال تعالى: وَأَنزَلَ ?لتَّوْرَاةَ وَ?لإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ?لْفُرْقَانَ [آل عمران:3، 4].
قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، وقال تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
أيها المسلمون، إن هذا القرآن الكريم هو الهدى والشفاء والرحمة، فقد سماه ربنا سبحانه هدى وشفاءً ورحمة فقال تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء وَ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى [فصلت:44]، وقال سبحانه: وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ?لظَّـ?لِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82].
أيها المسلمون، إن القرآن الكريم هو الذي يحيي قلب المسلم إذا مات، وينبهه إذا غفل، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال : ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت)) رواه البخاري.
والقرآن الكريم هو الذي يملأ قلب المسلم رجاءً إذا أصابه يأس أو قنوط، وهو الذي يملأ قلبه حذرًا وخوفًا إذا أصابه أمن من مكر الله وعُجْب وغرور.
لقد وصف الوليد بن المغيرة ـ قبحه الله ـ وهو عدو لدود لرسول الله ، وصف هذا الكتاب لما سمعه فقال: ما هو بكلام الإنس، وما هو بكلام الجن، وإن فيه لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق. والفضل ما شهدت به الأعداء.
وقد تحدى الله عز وجل الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وبين سبحانه أنهم لم يفعلوا ولن يفعلوا، فقال سبحانه: وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى? عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ وَ?دْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَ?تَّقُواْ ?لنَّارَ ?لَّتِى وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَـ?فِرِينَ [البقرة:23، 24]، وقال سبحانه: قُل لَّئِنِ ?جْتَمَعَتِ ?لإِنسُ وَ?لْجِنُّ عَلَى? أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. لا يأتون بمثله في صدق أخباره، ولا في عدل شرائعه، ولا في جمال ألفاظه، ولا في جلال معانيه.
لقد رغَّب رسول الله في تلاوة كتاب الله أعظم ترغيب فقال: ((من سرّه أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف)) رواه البيهقي في الشعب عن ابن مسعود رضي الله عنه وحسنه الألباني صحيح الجامع (6289)، وعن ابن مسعود أيضًا قال : ((من قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ?لَمِ حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) رواه الترمذي وصححه، وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها عن النبي : ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران)) ، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((ما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد حذرنا الله تعالى من هجر القرآن، وبيّن سبحانه أن الرسول سيشكو إلى ربه يوم القيامة مِنْ هجر قومه القرآن، قال تعالى: وَقَالَ ?لرَّسُولُ ي?رَبّ إِنَّ قَوْمِى ?تَّخَذُواْ هَـ?ذَا ?لْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
وهجر القرآن أنواع، منها هجر تلاوته، وهجر العمل به، وهجر تدبره، وهجر التحاكم إليه، وهجر الاستشفاء به.
فعلينا أن نتلو القرآن وأن نتدبره، فإن الله تعالى بيّن أن الذي لا يتدبر القرآن على قلبه أقفال تحول دون وصول الهدى والنور، فقال سبحانه: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
وعلينا أن نعمل بأحكام القرآن، فإن الله تعالى ما أنزله إلا لتطاع أوامره وتجتنب نواهيه، وعلينا أن نجعل القرآن حكمًا على بيوتنا وعلى مجتمعاتنا، وعلينا أن نربي به أنفسنا وأولادنا، فإن القرآن شفاء للأبدان كما هو شفاء للأرواح والقلوب.
أيها المسلمون، علينا أن نتطلع إلى حفظ القرآن الكريم والعمل به، حتى نكون من أهل الله، فإن أهل القرآن هم أهل الله تعالى، عن أنس رضي الله عنه قال : ((إن لله تعالى أهلين من الناس، وأهل القرآن هم أهل الله تعالى وخاصته)) رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي وهو في صحيح الجامع (2165).
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
(1/4123)
اليهود في الكتاب والسنة
أديان وفرق ومذاهب
أديان
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة معرفة مكائد أعداء الدين. 2- عداء اليهود للمسلمين. 3- الداخلون في الإسلام من اليهود قليل. 4- طعنهم في ذات الله تعالى. 5- قتلهم الأنبياء. 6- من صفاتهم الذميمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: إن المسلم لا بد أن يكون على بصيرة بأعدائه؛ حتى يتقيَ شرهم وينجو من مكرهم وكيدهم كما قال القائل:
عرفت الشر لا للشرِّ لكن لتوقيه ومن لم يعرف الشر من الناس يقع فيه
وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ?لآيَـ?تِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55].
وقد بيّن لنا ربنا سبحانه في كتابه الكريم من هم أعداؤنا، وبين لنا أخلاقهم ووصفهم لنا بأبْيَن الصفات حتى نكون على بصيرة من الأمر، وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
واليهود ـ عليهم لعائن الله إلى يوم القيامة ـ هم ألد أعدائنا من البشر بشهادة الخلاق العليم الذي خلقهم وعلم ما انطوت عليه نفوسهم من الخبث، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، قال تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]، وذلك لأن عداوة اليهود للحق هي مع علمهم أنه حق وأنهم على باطل قال تعالى: ?لَّذِينَ آتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ ?لْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146].
يوضح ذلك ما رواه ابن إسحاق عن أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها أن أباها حيي وعمها أبا ياسر ابني أخطب ـ وكانا من زعماء اليهود بالمدينة وقت هجرة النبي ـ ذهبا إلى قباء أول ما قدم النبي المدينة في الغداة يتأملون صفته وهل هو النبي الخاتم الموعود به في كتبهم، فلم يرجعا إلا مع غروب الشمس كسلانين مخمومين يمشيان الهوينى على خلاف عادتهما، قالت أم المؤمنين: فسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حُيي: أهو هو؟! قال: نعم والله، قال: أتعرفه وتثبته؟! قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
ولأجل ذلك فأمة اليهود هي الأمة الغضبية التي غضب الله عليها وأمرنا سبحانه أن ندعو كل يوم سبع عشرة مرة أن يجنبنا سبحانه سبيلهم: غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ [الفاتحة:7]، قال : ((اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضُلاّل)) رواه الترمذي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، وهو في صحيح الجامع (8202).
ولهذا أيضًا قلَّ جدًا من يؤمن منهم رغم رؤية الدلائل البينات والمعجزات الواضحات، كما حدث في قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه الذي كان حبرًا من أحبار اليهود، فلما سمع بمقدم رسول الله المدينة ذهب إليه، فسأله أسئلة لا يعلمها إلا نبي، فلما سمع جوابه آمن من ساعته ثم قال للنبي : إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك، فأرسل رسول الله إلى اليهود، فجاؤوا واختبأ عبد الله بن سلام في البيت، فقال رسول الله : ((أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟)) قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا، وخيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فقال رسول الله : ((أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟)) فقالوا: أعاذه الله من ذلك، مرتين أو ثلاثًا، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه، فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت. رواه البخاري.
اليهود أعداء الله ورسله، فهم أفظع الناس تطاولاً على مقام رب العباد الجليل الجبار المنتقم من المجرمين لكنه ((ليس أحد أصبر على أذى سمعه من الله)). ولحلمه سبحانه وهو الحليم الصبور لا يبادرهم ببطشه، ولكنه سبحانه إذا أخذهم لم يفلتهم، إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12].
قال تعالى: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء [المائدة:64]، لما عيَّرهم الناس بالبخل نسبوه إلى الله، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وقال تعالى: لَّقَدْ سَمِعَ ?للَّهُ قَوْلَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ?لأنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [آل عمران:181].
واليهود هم قتلة الأنبياء، روى أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي، ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار). فهم الذين قتلوا زكريا ويحيى، وأرادوا قتل عيسى عليهم السلام، فرفعه الله ونجاه، وحاولوا قتل نبينا محمد مرات.
ومن صفاتهم الجبن، لاَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ [الحشر:14].
من صفاتهم الغدر بالعهود، قال عنهم سبحانه: أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، فعلى كل مؤمن مصدق بكتاب الله أن لا يثق بعهودهم ولا بأيمانهم المغلظة، قال تعالى: فَقَـ?تِلُواْ أَئِمَّةَ ?لْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَـ?نَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ [التوبة:12].
وسيرتهم مع نبينا أوضح برهان، فكم من مرة عاهدوه فيها وغدروا، هؤلاء يهود بني قريظة كان بينهم وبين المسلمين حلف، فلما جاء الأحزاب لغزو المدينة غدروا بالمسلمين وتحالفوا مع الأحزاب، فلما هزم الله الأحزاب تفرغ لهم رسول الله ووقف على حصونهم وقال: ((يا إخوان القردة وعبد الطاغوت، هل أخزاكم الله؟! لأنزلن بكم نقمته))، وحكم سعيد بن معاذ رضي الله عنه بحكم الله من فوق سبع سموات بأن تذبح رجالهم وتسبى نساؤهم وأطفالهم، فأعدم النبي وأصحابه بالسيف رجالهم وكانوا ثمانمائة أو تسعمائة. والقصة في مسند أحمد وصحيح البخاري.
اللهم عليك باليهود ومن أعانهم على المسلمين، اللهم انصرنا على القوم الكافرين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4124)
تربية الأبناء
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
29/5/1423
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النفس البشرية مفطورة على حب الذرية. 2- إهمال الوالدين تربية أولادهم في الصغر سبب فسادهم في الكبر. 3- النهي عن الدعاء على الأولاد. 4- تعويد الصغار على الخير من أسباب صلاحهم في الكبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، فَمِنْ عظيمِ فضلِ اللهِ وكبيرِ نعمهِ على خلْقهِ أَنَّهُ سبحانهُ كما قال: يَهَبُ لِمَن يَشَاء إِنَـ?ثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء ?لذُّكُورَ أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَـ?ثًا [الشورى:49، 50].
وَحُبُّ الذُّريَةِ مفْطورٌ في النَّفْسِ الإنْسانيةِ، وطلَبُها والسَّعْيُ إليْها ليسَ غريبًا على النَّفسِ الإنسانيةِ؛ لأنَّ المالَ والبنينَ زينةُ الحياةِ الدنيَا، كما قالَ اللهُ تعالى: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الكهف:46].
وإذا كانَ الإنسانُ يُحِبُّ أنْ يكونَ لهُ ذريةٌ فعبادُ اللهِ المؤمنونَ من طبيعتِهِم وصفاتِهِم أن يبْتَهِلوا إلى اللهِ أنْ يرزقَهُم أولادًا مؤمنينَ صالحينَ مهْديينَ إلى الإسلام، مُطيعينَ للهِ، يعملونَ الخيرَ، ويبتعدُونَ عنِ الشَّرِّ، تَقَرُّ بِهِمْ أعْيُنُهُم، وتُسَرُّ بِهِمْ نفوسُهُم، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وكثيرٌ من الآباءِ والأمَّهاتِ يرجونَ برَّ أولادِهِم بِهِمْ واحترامِهِمْ لَهُمْ، وهذا واجبٌ على الأولادِ لِوالِديهِمْ، إلاَّ أنَّ كثيرًا من الآباءِ والأمَّهاتِ يشْكونَ منْ تمرُّدِ وانْحرافِ أبنائِهِم وفسادِ أخْلاقِهِمْ.
ومهما كانتْ أسبابُ ذلك فإنَّ التَّبِعَةَ في الواقِعِ يَبُوءُ بها الآباءُ، فالطِّفلُ يولدُ على الفِطْرَةِ السَّليمَةِ والصَّفاءِ والنَّقاءِ، ولَكِنَّ المُجتَمَعَ هو الذي يُفْسِدُه، والبِيئةَ التي يعيشُ فيها هيَ الَّتِي تُلَوِّثُ فِطْرَتَهُ وتُفْسِدُ خُلُقَهُ ودينَهُ، ولا سِيَما أبَوَيهُ فَهُما سَببُ هلاكِهِ ودمارهِ، وسبَبُ فسادِهِ أو صلاحِهِ، وسبَبُ استقامَتِهِ أو اعْوِجاجِهِ، ففي الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللهِ قَالَ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) رواه البخاري.
ولِهذا جعلَ الإسلامُ من أعظمِ الواجباتِ على الآباءِ والأمَّهاتِ تِجاهَ أولادِهِمْ حسنَ تعَهُّدِهِم ورعايتِهِم، واعْتَبَرَ كلَّ مُفرِّطٍ في أداءِ هذا الواجِبِ ظالمًا لنفْسِهِ وولدِهِ ومُجْتَمَعِهِ وأُمَّتِهِ، فهلْ قُمْنا بواجِبِنا نحْو أبنائِنا؟!
علينا قَبْلَ أن نلومَ أبناءَنا ونشكُوَ منِ انحِرافِهِم وفسادِ أخلاقِهِم أن نَسألَ أنْفُسَنا: هل تعهَّدناهُمْ ورعيْناهُمْ منذ صِغَرِهِمْ كما عَلَّمَنَا الإسلامُ؟! هل غرسْنا ورسَّخْنا الإيمانَ والعقيدةَ الصحيحةَ في نفوسِهِمْ؟! هل عوَّدْناهُمُ الصَّلاةَ وهم صغارٌ كما أمرنا رَسُولُ اللَّهِ : ((مُرُوا أَوْلادَكُمْ بِالصَّلاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ)) رواه أبو داود؟! هل ربَّيْناهُمْ على حُبِّ اللهِ ورسولِهِ؟! هل حرصْنا على تحفيظِهِمْ كتابَ اللهِ؟! هل شجَّعْناهُمْ على قِراءةِ السُّنَّةِ النَّبويةِ؟! هل صحِبناهُم معنا إلى مجالسِ العلمِ والمحاضراتِ والنَّدواتِ التي تُعْقَدُ في المساجدِ وغيرِها؟! هل غرسْنا القِيَمَ الحميدَةَ والخِلالَ الكريمَةَ في نُفُوسِهِمْ وأدَّبْناهُمْ بِآدابِ الإسلامِ؟! هل خَصَّصْنا جُزْءًا من أوقاتِنا لأولادِنا وراقَبْنا تصرُّفاتِهِم في المنْزِلِ والشَّارعِ وتتبَّعْنا أحوالَهُمْ في المدارِسِ؟! هل نحنُ قُدوَةٌ صالِحةٌ لأبنائِنا؟! هل قمنا بتربية أبنائنا على الوجه الصحيح أم أننا تركناهم للشارع لكي يربِّيهِم على الأخلاق الدَّنِيئة والألفاظِ البذيئةِ المُنْحطَّةِ؟!
أسئِلةٌ كثيرةٌ كثيرةٌ.، يجبُ أن يطرَحَها كلُّ واحدٍ منَّا على نفسِهِ، ويجيبَ عليها بصِدْقٍ.
الحقيقةُ أننا أهْملْنا أبناءَنا إهْمالاً كبيرًا، لا أقولُ: أهملناهمْ في الطعامِ والشَّرابِ والكِسْوةِ والمسْكنِ، أو في متطلَّباتِهِمُ التَّكْميلية ووسائِلِ التَّرْفيهِ، فهذا أمْرٌ لا نُقَصِّرُ فيه جميعًا، ولكنَّنَا أهْمَلْناهُمْ في تقويمِ نُفُوسِهِم وتطْهيرِ أرْواحِهِم وتدْعِيمِ أخلاقِهِم، وفي تنْشِئَتِهِم على الدِّينِ والعِبادَةِ وضَرْبِ القُدْوةِ الصَّالِحَةِ لَهُمْ. لقد ربَّيْناهم تربيةً بعيدةً كلَّ البُعْدِ عن دينِ اللهِ، لا يعرفون من الدين إلا اسمَه، ولا من المصحف إلا رسمه فقط.
وإذا كُنْتُمْ في شكٍّ من ذلكَ فاسألوا أبناءَكُم عن دينِهِم وعن العباداتِ، اسْأَلُوهُمْ عن الصلاةِ، تجِدونهم لا يعرفون من الصلاة إلا حركاتٍ تؤدَّى ليس فيها خشوعٌ ولا طُمأنينةٌ، اسْأَلُوهُمْ عن القرآنِ وعن الأحاديث النبوية، اسْأَلُوهُمْ عن تاريخ الإسلام العظيم، اسْأَلُوهُمْ عن أسماء بعض أصحاب رسول الله وعن المجاهدين في سبيل اللهِ الذين بنَوْا لهذا الدِّينِ المجدَ والعزَّة، اسْأَلُوهُمْ عنِ العلماء العاملين المخلصين الذين أراد بهم الله إخراجَ الضَّالين من العبادِ من الضَّلال إلى الحقِّ المبين، ستجدون أنهم لا يستطيعون أن يجيبوكم على ما سألتموهم؛ لأننا لم نُرَبِّهِمْ على معرفةِ دينِ الله، ولا على حبِّ اللهِ، ولا على الولاءِ لدينِ اللهِ وحزبِهِ. أفلا يحقُّ لنا أن نقولَ: إننا أهْملْنا أبناءَنا إهْمالاً كبيرًا، وربَّيْناهم تربيةً بعيدةً كلَّ البُعْدِ عن دينِ اللهِ، ربَّيْناهم على حبِّ كلِّ شيْءٍ إلا دين الله؟! كيف نرجو خيْرَهُم وصلاحَهُمْ ونحن نراهم مقيمين على المعاصي فلا ننهاهم؟! وقد نكون أول من يفعل ذلك أمامهم، بل قد نشجعهم على ذلك، وهذا والله لهو الخطأ الفادح بكلِّ المقاييس.
رُوِيَ أن قاضيًا حَكَمَ على سارق بقطْعِ يدِهِ، فما أنْ لَفَظَ القاضي بالحُكْمِ حتى اهتَزَّتْ جَنَبَاتُ المَحْكَمَةِ بِصَوْتٍ يُجَلْجِلُ: اقْطَعُوا لِسانَ أُمِّي قَبْلَ أَنْ تقْطَعوا يَدِي، فلقد سَرَقْتُ في طفولتي بيضةً من جيراننا، فلم تؤنبني، وإنما هشتْ لي وبشَّتْ، مستحسنةً ما فعلتُ، إنني لولا لسانُ أمِّي الذي هَلَّلَ للجريمة في صغري لما كنتُ اليوم سارقًا تقطعُ يدُهُ. وهذا حالنا اليومَ مع أولادنا، نسكتُ عن خطيئاتهم الصغيرة، بل نضحك لهم ونشجعهم على الإساءاتِ.
وعاتبَ بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت، إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتُكَ شيخًا. لقد أهملنا رعايةَ أولادِنا في أول الطريق فساءت أخلاقُهُم في نهايته.
وماذا كنا ننتظر غيرَ هذا وقد أضعنا أمرَ الله فيهمْ، وغفلنا عن إصلاحهم والعنايةِ بهم ووقايتهم؟! قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]. ولا أظن أن أحدا منا لا يخاف على أولاده من النار مثلما نخاف على أنفسنا منها، إننا نخافُ أن يتأذَّوا ولو بشوكة، فهل نقبل أن يتلظى أبناؤنا في النار؟! إذً فاحموهم من النار.
إن مسؤوليتنا في تربيةِ أبنائِنا مسؤوليةٌ كاملةٌ، سنحاسب عليها أمام ربنا، فقد قيلَ: "إنَّ أولَ ما يتعلق بالرجل زوجته وأولاده، فيوقفونه بين يدي الله عز وجلَّ، فيقولون: يا رب، خذ لنا حقنا من هذا الرجل، فإنه لم يعلمنا أمور ديننا"، وقال ابن القيم رحمه الله: "إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولدِهِ يومَ القيامة قبل أن يَسْأَلَ الوَلَدَ عن والِدِهِ، فإنه كما أن للأب على ابنه حقا، فلِلابن على أبيه حق"، ثم يقول: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا".
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، كثير من الآباء والأمهات بمجرد أن يروا من أبنائهم عقوقا أو تمردًا يدعون عليهم بشتى المصائب، وما علموا أن دعاء الوالدين مستجابٌ، وربما وافق ساعة إجابةٍ، فتقع الدعوة موقعها، فيشقى الولدُ بعدها شقاءً عظيمًا.
ولهذا حذر رَسُولُ اللَّهِ من الدعاء على الأولاد فقَالَ: ((لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ)) رواه مسلم، وقَالَ : ((ثَلاثُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ لا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ)) رواه ابن ماجه.
أيها الآباء، أيتها الأمهات، ما دامت دعوتكم مستجابة فلِمَ تحرمون أولادكم فضلَ دعوةٍ صالحةٍ تكون سببًا إن شاء الله تعالى في هدايتهم واستقامتهم؟! فأنبياءُ اللهِ ورسُلُهُ لم يغفلوا عن الدعاء والالتجاء إلى الله أن يهب لهم الذرية الصالحة، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام قال: رَبِّ هَبْ لِى مِنَ ?لصَّـ?لِحِينِ [الصافات:100]، وقال: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم:40]، وهذا زكريا عليه السلام دعا وقال: رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ?لدُّعَاء [آل عمران:38]، وقال تعالى في صفات عباد الرحمن: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
فأَكْثِرُوا من الدُّعاء لأولادكم، واعلموا أن صلاحهم ينفعكم بعد موتكم، وخذوا بأسباب صلاح ذرياتكم بغرس محبة الله ومحبة رسوله في قلوبهم، وبملء أوقات فراغهم بالمفيد، وبتشويقهم إلى الذهاب للمسجد صغارًا وحملهم عليه كبارًا.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى أَكْرَمِ خَلْق اللهِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ انْتَصِرْ لِعِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في مَشَارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبِها...
(1/4125)
وبالوالدين إحسانًا
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عبد الله العلوي الشريفي
فاس
7/6/1423
الجامع المحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور عقوق الوالدين في واقعنا. 2- الأمر ببر الوالدين في القرآن الكريم والسنة النبوية. 3- كيف يكون بر الوالدين؟ 4- نماذج من بر السابقين بوالديهم. 5- بر الوالدين لا يختص بكونهما صالحين أو مسلمين. 6- عقوبة العاق لوالديه. 7- لا بد من إعانة الزوجين بعضهما على بر والديهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أَمَّا بَعْدُ: فيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، إنَّ قَصَصَ عقوق الأبناءِ التي أصبحْنا نسمعُها ونراها يَنْفَطِرُ لها الفؤادُ أَسى وتذوبُ النَّفسُ لها حسرةً، فكثيرٌ من الأبناءِ لا يتَّقونَ ربَّهُم في معاملةِ آبائِهِم وأمَّهاتِهِم، فيُسِيئُونَ إليهِم، ويُغْلِظون مَعَهُم، بلْ وَصَلَ الحَدُّ بكثيرٍ منهم إلى ازْدِرائِهِم واحتقارهِم وضربِهِم والعياذ بالله، حتى أصبح غايةُ ما يتمناهُ الأبوانِ من البِرِّ أنْ يأْمَنا شَرَّ أولادِهِمْ وبذاءَتَهُم وفُحْشَهم وسُوءَهُم.
وَهكذا لما قَسَتْ قُلوبُ الأبناءِ وتَمَرَّدَ الأولادُ على الآباءِ أصْبحنا نرى في شوارعنا منْ يسُبُّ أباهُ ويشْتُمُهُ بأَحَطِّ أنْواعِ السِّبابِ والشَّتْم، ومن حينٍ لآخرَ تأْتينا أمَّهاتٍ على الخصوص يشتكينَ من سوءِ معاملةِ أبنائهنَّ وبناتِهِنَّ، فهذهِ تشتكِي من صُراخِ أبنائِها في وجهِهَا ومُخاطبَتِهِم لها بأقْسَى العباراتِ، وتلكَ رَفَضَ أبناؤُها أنْ تعيشَ معهم، وأُخْرى طردتْها بنْتُها من منزلِها، وغيرُها ضرَبَها ابنُها أمامَ زوجَتِهِ، وهذِهِ قاطعها أبناؤُها تأديبًا لها.
هذهِ أحداثٌ ثابتةٌ وواقعةٌ، واللهِ ليستْ أساطيرَ تُرْوَى ولا حكاياتٍ تُتْلى، وعَشَرَاتٌ مِثْلُها في البُيُوتِ، فكلُّ بيْتٍ من بُيوتِ المسلمينَ اليومَ دخلتَهُ إلا وتسمعُ أحاديثَ عن أنواعٍ من العقوق، نعوذُ بالله من العقوق والعاقِّينَ.
إخوة الإيمان، هذا جزْءٌ من واقِعِنا، ولكنَّه ليس من دينِنَا، فنحْنُ أُمِرْنا بِبِرِّ الوالديْن، حتى إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قَرَنَ بَيْنَ عِبادَتِهِ وبَيْنَ الإِحْسانِ بالوَالديْن: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [الإسراء:23]، وَقَرَنَ سبحانهُ بين شكرِهِ وشُكْرِ الوالديْن: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ [لقمان:14].
وقد جعلَ اللهُ البرَّ بِالْوَالِدَيْنِ بابًا للفوْزِ برضاهُ سبحانهُ، ففي الحديثِ الصحيحِ أنَّ رسُولَ اللهِ قَالَ: ((رِضا الرَّبِّ فِي رِضا الوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا)) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع (3507).
وَبِرُّ الوالديْنِ من أحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ وأفضلِها بعدَ الصَّلاةِ، سُئِلَ النَّبِيُّ : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ: ((الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا)) ، قَالَ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ((ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ)) ، قَالَ: ثُمَّ أَيّ؟ قَالَ: ((الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) رواه البخاري.
فَبِرُّ الوالديْن مقدَّمٌ حتى على الجهادِ في سبيلِ اللهِ، مما يدُلُّ على عِظَمِ حَقِّ الوالديْن، ويُؤَكِّدُ هذا أنَّ رَجُلا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: ((أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ)) رواه البخاري.
والجهادُ في الوالديْنِ وبرُّهما يكونُ بِخِدْمَتِهِمَا والإِنْفاق عليْهِما وطاعتِهِما في المعْرُوفِ ومخاطبَتِهِما بأدَبٍ ولُطْفٍ وإِحْسانِ صُحْبتِهِما وتَطْييبِ خاطِرِهِما وقضَاءِ حوائِجِهِما، فقضاؤُها مقدَّم على قضاءِ حوائجِ الأبناءِ والزَّوْجةِ والإخْوانِ والأصْدِقاءِ، ولا تَرْفَعْ صوْتكَ عليْهِما، ولا تنْظُرْ إليْهِما بِغَضَبٍ واحْتِقَارٍ، ولا تَرْفَعْ يَدَكَ عليْهِما عنْدَ تكليمِهِمَا، ولا تُقَاطِعْ حَدِيثَهُما، وكُنْ صورةً كَريمةً للأَخلاقِ الفاضِلةِ، حتَّى تجلُبَ لهُما الدُّعاءَ الصَّالحَ حين يَرَوْنَ أفْعَالَكَ وأعْمالَكَ، ومِنْ بِرِّهِمَا بعْدَ موتِهِما زيارَةُ قبْرِهِما وقضاءُ ديونِهِما والدُّعَاءُ والاِسْتِغْفارُ لهُما.
جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ تُخْبِرُهُ بِمَوْتِ أُمِّهَا وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قَالَ: ((صُومِي عَنْهَا)) ، قَالَتْ: إِنَّهَا لَمْ تَحُجَّ قَطُّ أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: ((حُجِّي عَنْهَا)) رواه مسلم. وَجَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبُرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ، الصَّلاةُ عَلَيْهِمَا وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لا تُوصَلُ إِلا بِهِمَا وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا)) رواه أبو داود، والحديث ضعفه الألباني.
فما أَحْوَجَ الوَالِدَينِ إذا ماتا إلى دُعَاءٍ صَالِحٍ من ابنِهِما تُرْفَعُ بِهِ درجاتُهُما، ففي الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى لِي هَذَا؟! فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ)) الحديث في صحيح الجامع (1617).
إِخْوَةَ الإيمانِ، لقد ضَرَبَ السَّابِقونَ أَرْوَعَ الأمْثالِ في البِرِّ بآبائِهِم وأمَّهاتِهِم، فهذا ابنُ الحَنَفِيَّةِ كان يغْسِلُ رَأْسَ أُمِّهِ ويَمْشِطُها ويُقَبِّلُها ويَخْضِبُها، وبكَى إيَّاسُ بنُ معاويةَ حينَ ماتتْ أُمُّهُ، فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ: "كانَ لي بابانِ مفْتوحانِ إلى الجنَّةِ فأُغْلِقَ أَحَدُهُما"، وطلبَتْ أُمُّ مِسْعَرٍ ماءً في ليْلةٍ، فجاءَ بالماءِ فوَجدَها نائِمَةً، فَوَقَفَ بالماءِ عنْدَ رأْسِها حتى أَصْبَحَ، وسُئِلَ عُمَرُ بنُ ذَرٍّ عن بِرِّ وَلَدِهِ بِهِ فقالَ: "ما مشَى معِي نهارًا قطُّ إلا كان خلْفِي تأدُّبًا، ولا ليْلاً إلاَّ كان أمامِي خَشْيَةَ مَكْرُوهٍ يلْقاني، ولا رَقَى سَطْحًا وأنا تحْتهُ حتَّى لا يعلُونِي"، وكان عليُّ بنُ الحُسَيْنِ كثيرَ البِرِّ بأُمِّهِ، فقيلَ لهُ: إنَّكَ منْ أَبَرِّ النَّاسِ بِأُمِّكَ، ولَسْنا نَرَاكَ تأْكُلُ مَعها في صَحْفَة! فقالَ: "أخافُ أنْ تسْبِقَ يَدِي إلى ما سَبَقَتْ إليهِ عينُها، فأكونُ قد عققتُها"، وكان أَحَدُ السَّلَفِ يُقَبِّلُ كلَّ يَوْمٍ قَدَمَ أُمِّهِ، فَأَبْطَأَ يَوْمًا على أصْحابِهِ فَسَأَلُوهُ، فقالَ: كنتُ أتمرَّغُ في رياضِ الجنَّةِ تحْت قَدَمَيْ أُمِّي، فقدْ بَلَغَنِي أنَّ الجنَّةَ تحْتَ قدميْها.
هكذا بَرَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ آباءَهُم، وهذِهِ الصُّوَرُ المُشْرِقَةُ الطَّيِّبَةُ التي ذكرناها لا يخلُو منها عصْرٌ.
قد يقولُ بعضُ الأبناءِ اليوم: إنَّكَ تُحَدِّثُنا عن عهودٍ سلفتْ ومضتْ بما لَها وما عليْها، ونحنُ الآنَ في زمانٍ تُحْسِنُ فيه إلى والديْكَ ويُسِيئانِ إليْكَ، ترْحَمُهُما ويعذِّبانِكَ، تُكْرِمُهُما ويُهِينانِك، تُكَلِّمُهُما بكلامٍ لَيِّنٍ وقَوْلٍ طَيِّبٍ فَيَرُدَّانِ عليْكَ بالخبيثِ السَّيِّئ، تَصِلُهُما ويقْطَعانِك.
أقولُ: منِ ابْتُلِيَ بهذا النَّوْعِ من الوالديْنِ فعليْهِ بالصَّبْرِ، فأفْضلُ البِرِّ بِرُّ مِثْلِ هؤلاءِ، فبِصَبْرِكَ يرفعُ اللهُ دَرَجَتَكَ ويُعْظِمُ أجْرَكَ، وإنْ كانا يَجْحَدانِ بِرَّكَ فاللهُ سبحانهُ وتعالى لا يجحَدُهُ.
فَبِرُّ والديْكَ لا يختصُّ بكونِهما صالِحينِ طيِّبَيْنِ، ولا بكونِهما مُسْلمَيْن، بل تبرُّهُما وإنْ كانا كافريْنِ، فَعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي راغمة مشركة أفأصِلها؟ قال: ((نَعَمْ، فصِلِي أُمَّكِ)) رواه البخاري. بلْ عليكَ أن تبرَّهُما وتُحْسِنَ إليْهما حتى ولو أَمَراكَ بالكُفْرِ بالله وألْزَمَاكَ بالشِّرْكِ باللهِ، قال تعالى: وَإِن جَـ?هَدَاكَ عَلَى? أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَـ?حِبْهُمَا فِى ?لدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَ?تَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ لاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الإِيمَانِ، إنَّ عقوقَ الوالديْنِ جحودٌ للفضلِ ونُكْرانٌ للجميلِ ودليلٌ على الحُمْق والجهلِ وحقارةِ الشَّأْنِ.
عقوقُ الوالديْن من كبائرِ الذُّنُوبِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ)) رواه البخاري، وَعَدَّ رَسُولُ اللَّهِ من الثَلاثَةِ الذينَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: ((الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ)) والحديث في صحيح الجامع: (3063).
والعُقُوقُ دَيْنٌ ووفاءٌ، فإذا تَولَّيْتَ عن والدَيْكَ وأعْرَضْتَ عنْهُما سلَّط اللهُ عليكَ منْ ذُرِّيَتِكَ منْ لا يُراعِي فيكَ عهْدًا، ولا يحفظُ لكَ وُدًا، ولا يُقيمُ لك وَزْنًا، ولا يعرفُ فيكَ حَقَّ أُبُوَّةٍ ولا واجِبَ بُنُوَّةٍ، فكما تَدينُ تُدَانُ، والجَزاءُ منْ جِنْسِ العملِ.
ذُكِرَ أنَّ عاقًا كان يَجُرُّ أباهُ بِرجْلِهِ إلى الشَّارِعِ، فإذا بلغَ بهِ إلى البابِ قالَ الأبُ: حَسْبُكَ، ما كُنْتُ أَجُرُّ والدِي إلاَّ إلى هذا المكانِ، فيقولُ لهُ وَلَدُهُ: هذا جزاؤُكَ، والزَّائِدُ صدقةٌ مِنِّي عليْكَ.
وحَدَّثُوا أنَّ رَجُلاً منَ الأعْرابِ قالَ: خرجْتُ أَطْلُبُ أَعَقَّ النَّاسِ وأَبَرَّ النَّاسِ، فكنْتُ أَطُوفُ بالأَحياءِ حتى انْتَهَيْتُ إلى شَيْخٍ في عُنُقِهِ حَبْلٌ يَسْقِي بِدَلْوٍ لا تُطِيقُهُ الإِبِلُ في الهاجِرَةِ والحَرُّ شَديدٌ، وخَلْفَهُ شابٌّ في يَدِهِ سَوْطٌ يَضْرِبُهُ بِهِ، قدْ شَقَّ ظَهْرَهُ بذلِكَ الحَبْلِ، فقلتُ: أَمَا تَتَّقِي اللهَ في هذا الشَّيْخِ الضَّعِيفِ؟! أَمَا يَكْفِيهِ ما هُوَ فيهِ؟! قالَ: إنَّهُ معَ هذا أبِي، قلتُ: فلا جزاكَ اللهُ خَيْرًا، قالَ: اسْكُتْ، فهكذَا كانَ هوَ يصْنعُ بأبيهِ، وكذا يصنَعُ أبُوهُ بِجَدِّهِ، فقلت: هذا أعَقُّ النَّاسِ. نعوذُ باللهِ من العقوقِ ومنْ قسْوَةِ القَلْبِ.
كلمةٌ أخيرةٌ لكلِّ زَوْجٍ وزَوْجَةٍ: أعِينِي ـ أيتها الزَّوجةُ ـ زوجَكِ على بِرِّ والديْهِ، وأعِنْ ـ أيها الزَّوْجُ ـ زوْجَتَكَ على بِرِّ والِدَيْها، فهذا منَ العِشْرةِ بالمعروفِ، ولا يقفْ أحدُكُما في طريق الآخَرِ حَجَرَ عَثْرَةٍ في بِرِّ والِدَيْهِ.
نجدُ الزَّوْجةَ تحاسبُ زوْجها فيما اشتراهُ لوالديْهِ من بعضِ الأمورِ الضروريةِ، تُسِيءُ إليْهِما بقولٍ أو فعلٍ، تُديمُ الشَّكْوَى منْهما. الزَّوْجُ يمنعُ زوْجَتهُ من زيارةِ والديْها وصِلتِهِما، ولا يحتَرمُهُما، ولا يجْلِسُ معهما، إنَّ الزَّوْجَ إذا جعلَ زَوْجَتَهُ لئيمةً تَنْسَى معروفَ والديْها سيأْتِي يومٌ منَ الأَيام وتَنْسَى معروفَهُ، والزَّوْجَةُ التي تجعلُ زوْجها يمكُرُ بوالديْهِ سيأْتِي يومٌ من الأيامِ ويمْكُرُ بها. فكونا ـ جزاكما الله خيرًا ـ عوْنًا لبعْضِكُما على بِرِّ والدَيْكُما.
احذروا ثم احذروا ثم احذروا ـ أيها الإخوةُ ـ من العقوقِ، وعاهِدوا اللهَ من هذا المكانِ أنْ تبْذُلُوا وُسْعَكُمْ في بِرِّ وَالِديكُمْ، ومن كان بارًا بهما فلْيُحافِظْ على ذلك، وإذا كانا مَيِّتَيْنِ فَلْيَتَصَدَّق لَهُما ويَبُرَّهُما بدعوةٍ صالحةٍ.
هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا ـ رَحِمَكُمُ اللهُ ـ عَلَى أَكْرَمِ خَلْق اللهِ مُحَمَّدٍ بْنِ عَبْدِ اللهِ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ انْتَصِرْ لِعِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ المُسْتَضْعَفِينَ في مَشَارِقِ الأرْضِ ومَغَارِبِها...
(1/4126)
الطلاق في الإسلام
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
5/8/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية عقد النكاح وتعظيمه. 2- وجوب رعاية هذا العقد. 3- حث الزوجين على الصبر والتحمل. 4- مشكلة الطلاق في المجتمعات الإسلامية. 5- نظام الطلاق في الإسلام. 6- ضرورة التروي في أمر الطلاق. 7- التحذير من شياطين الجن والإنس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، عقدُ النكاح من العقود التي يجب احترامُها، ويجب الوفاءُ بما التُزم فيها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1].
وهذا العقدُ عظّم الله شأنَه، فوصفه بأنّه ميثاق، وأن هذا الميثاق غليظ: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـ?قًا غَلِيظًا [النساء:21].
وجاء في السنة تعظيمُ هذا العقد، وأنَّ الشروطَ المشروطة فيه يجبُ الوفاءُ بها، ففي الصحيح عنه أنه قال: ((إنَّ أحقَّ الشروط أن توفُّوا به ما استحللتم به الفروج)) [1] ، وفيه أيضًا عنه مبيِّنًا أنَّ هذا العقد يُستحَلّ بكلمة الله، يقول في حقِّ النساء: ((فإنّكم أخذتموهنَّ بأمانِ الله، واستحللتُم فروجهن بكلمة الله)) [2].
أيها المسلم، هذا عقدٌ له شأنُه، وله قيمته في الإسلام، عقدٌ ينبني عليه أمورٌ كثيرة، فله حقّ الاحترام والالتزام بما التُزم فيه بما يوافق شرع الله.
هذا العقدُ ليس أمرُه بالسهل، ولا يجوز حلُّه بأيسر الأمور، ولهذا أبغضُ الحلال عند الله الطلاق؛ لأن هذا الطلاق يهدِم هذا النكاح، ويسبِّب من المشاكل ما الله به عليم. إذًا فالطلاق أبغضُ الحلال إلى الله؛ لأنَّ الطلاقَ يهدم هذا النكاح، ويُسبِّب من المشاكل ما الله به عليم. إذًا فالطلاق أبغضُ الحلال إلى الله؛ لأن الطلاق يهدم هذا العقد، ويقضي على هذا العقد العظيم. ولأجل هذا كان الطلاق آخرَ الحلول في الشريعة، ولم يكن الطلاق الحلَّ لأول للمشاكل.
أيها المسلم، إنَّ الواجبَ على الرجل وعلى المرأة جميعًا تقوى الله، ورعايةُ هذا العقد، والاهتمام به، وهذا العقد سببُ استمراره ودوامه التعاملُ بالمعروف، قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فمتى قامَ الزوجُ بواجبه، وقامت المرأة بواجبها، فعند ذلك سعادةُ البيت والولد، وإنما يتعكّر صفوُ هذه الأمور عندما يعطِّل الرجل شيئًا من الواجب عليه، وعندما تضعف المرأة عن القيام بما يجب عليها، فإذا حصل من أحد الزوجين تقصيرٌ في الواجب وعدمُ قيام به، فذاك مشكلةٌ قد تسبِّب اللجوءَ إلى الطلاق.
أيها المسلم، والمطلوب من الرجل أن يكونَ ذا صبرٍ وذا تحمّل لكلّ الأمور، وأن لا يكونَ ذا عجلة في هذا الشأن، بل التروِّي والتأنّي في هذا الأمر هو المطلوب، ونبينا يقول لنا: ((استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوجَ ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، فاستوصوا بالنساء خيرًا)) [3] ، وقال: ((لا يفرُك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خلقًا رضيَ منها آخر)) [4] ، حثًّا للرجل على الصبر والتحمّل وعدم التعجّل في هذا الشأن، فإن المطلوبَ من الرجل أن يكون ذا صبر وحلمٍ وأناءة، والله يقول: فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، فعسى خلقٌ تكرهه لكن عواقبه حميدةٌ وأخلاق غير ذلك، فشيء كرهته عِوَضُه أشياء تحبُّها، ويجعل الله العاقبة الحميدة.
أيها المسلم، إن من علامة توفيق الله للعبد أن يكون ذا صبرٍ على المرأة وحلم وأناءة، فهو المطلوب منه التحمّل والصبر، وعدم الضجر، وعدم العجلة في هذه الأمور.
ثم كذلك المرأة مطلوبٌ منها أيضًا الصبرُ والتحمل، ومن لم يكن صابرًا ضاعت أمورُه كلها.
والله جل وعلا بحكمته أرشد الزوجين قبلَ الإقدام على الطلاق بأمور، فإذا خاف الزوج من امرأته نشوزًا أرشده الله إلى الموعظة: فَعِظُوهُنَّ ، والهجران: وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ ، والتأديب الذي يمكن أن يحصلَ حتى لا تكون الفرقة. وأمر ببعث حكمين بينهما ينظران في أمر اجتماعهما أو افتراقهما، كلّ ذلك حتى لا يُلجأ إلى الطلاق، حتى لا يُضطر إلى الطلاق ويلجأ إليه.
أيها المسلم، مشكلةُ الطلاق في المجتمع المسلم مشكلة عظيمة، تحتاج من المسلمين إلى السعي في حلِّها، مشكلةُ طلاق المرأة ومفارقة الرجل امرأتَه لأتفه الأسباب أحيانًا ولأمور لا تقوى لذلك، لكنها العجلة الزائدة، والطيش وعدم التروِّي فيما بعد الطلاق، فلو تأمَّل المسلم التأمّل الصحيح: ما نتائجُ هذا الطلاق على نفسه؟ ما نتائجه على الولد من بنين وبنات؟ ما هي آثاره؟ وكيف تداركُ ذلك؟ لأيقنَ أنّ هذه المشكلةَ لو تحمَّل الأمور لكان أيسرَ له من ذلك.
لا شكَّ أنَّ في النساء من لا تحسن المعاملة، أو من تقصِّر في الواجب أو نحو ذلك، ولكن ليس هذا بمجرَّده مبرّرًا لأن نتَّخذَ الطلاقَ حلاً لنا في مشاكلنا.
أيها المسلم، قد تواجه مشاكلَ مع امرأتك، مشاكلَ مع ولدك، مشاكلَ مع من تعاملُه، فاتق الله في نفسك، واعلم أن الطلاقَ من أبغض الحلال إلى الله، فما دام لك عن الطلاق معدلٌ فاعدل إليه، ولا تلجأ إليه إلا إذا تعذّرت الوسائل، وقلَّت الحيَل، واستعسرت الحياة، أما ما دُمت قادرًا على التحمل وإصلاح الوضع فإن الصبرَ نتائجه طيبة، صبرٌ قليل ترتاح به كثيرًا.
أيها المسلم، إن دينَ الإسلام لما شرع الطلاقَ لمصالح وحكمٍ اللهُ جل وعلا قدَّرها لم يشرعْ ذلك باختيار الرجل، ولم يجعلْ ذلك لتلاعب من يتلاعب واستخفاف من يستخفُّ به، ولكنه نظَّم أمرَ الطلاق نظامًا عادلاً، يناقض ذلك ما كان عليه أهلُ الجاهلية قبلَ الإسلام، فلقد كانوا قبلَ الإسلام يتلاعبون بأمر الطلاق، كان الرجلُ يطلِّق المرأةَ الطلقاتِ الكثيرة، وربما طلَّق ثمَّ راجع ثم طلَّق ثم راجع، وربما مضى مائة طلقة على المرأة، يتحكَّم فيها بهواه، فيطلِّقها فإذا قاربتْ انقضاءَ العدّة راجعها، وهكذا يستمرّ على ما يهوى ويريد، فجاء الإسلامُ فضيَّق ذلك، وجعلَ للطلاق عددًا محدودًا حرَّم على المسلم تجاوزَه، ?لطَّلَـ?قُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـ?نٍ [البقرة:229]، فإذا طلقها الثالثة حرمت عليه، فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّى? تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230].
وجاءت تعاليمُ الشريعة لترشدَ المسلمَ إلى الطلاق المشروع الذي إذا سلك فيه السنةَ ارتاح وانشرح صدرُه وسلمت له الأمور، فربُّنا جل وعلا أمر المسلم إذا أرادَ أن يطلِّق أن يطلقَ امرأتَه طلقةً واحدةً في طهرٍ لم يسبقه جماع: يأيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1]، ثم أمره إذا طلقها طلقة واحدة أن يبقيَها عنده في المنزل، فعسى أن تعودَ المياه إلى مجاريها، وعسى أن يزولَ ما في النفوس، وعسى أن تصلحَ الأحوال: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ [الطلاق:1]، وحرَّم رسول الله على المسلم أن يطلقَ امرأتَه وهي حائض؛ لأنه إذا طلقها قد لا يأتيها وربَّما زالت الأمور، وحرَّم عليه أن يطلقها في طهر وطئها فيه، كلّ هذا حفاظًا على هذا العهد العظيم، وتضييقًا لأمر الطلاق حتى لا يتسرّع الناس في أمرٍ ينبغي لهم التأني فيه.
كما جاء في السنة تحريمُ جمع الثلاث في لفظ واحد، لمَّا طلق رجل امرأتَه ثلاثًا غضب النبي عليه وقال: ((أيُلعَب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟!)) حتى قال رجل: ءأقتله يا رسول الله؟ [5].
أيها المسلم، فكّر في الأمر قبل أن تقدِم عليه، وتروَّ في الأمر قبل أن تقدِم عليه، واستخِر الله واستشِر، وقارِن بين الأمور، ووازِن بين الحاضرِ والمستقبل، فإنَّك إن سلكتَ هذا الطريق فإنك ـ بتوفيق الله ـ ستُوقى شرورًا كثيرة، لكن الاستعجال في هذا الأمر والتسرّع في هذا الأمر وعدم المبالاة بهذا الأمر [هو] المصيبة.
أيها المسلم، للأسف الشديد أنَّ بعضَ الرجال يسيؤون التعاملَ مع المرأة، ويُلحقون الضرر والأذى بها، ويسعَون في جعل الطلاق ضررًا يُلحقه بالمرأة، والطلاقُ يجب أن يكون بإحسان، اللهُ يقول: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـ?نٍ [البقرة:229].
ثم فكِّر أيها الرجل، فكِّر التفكيرَ الجيّد في الطلاق، هل ما تُقدم عليه منفعةٌ لك؟ هل هو مصلحة محضة أم هو مضرة؟ ما هي النتائج؟ وماذا سيُعقب هذا الطلاق؟ وأين مصير الأبناء والبنات؟ وهل أنت قادرٌ على القيام بالرعاية أم يَضيع الولدُ والبنت [بين] الزوج والزوجة؟ لو فكَّر الرجلُ التفكيرَ الصحيح قبل أن يقدمَ على ما يقدم عليه، وأصلح الأخطاءَ إن كان منه خطأ، وعالج وضعَ الزوجة وأخطاءَها إن كان منها خطأ، واستشار واستخار اللهَ، وفكَّر في الموضوع التفكيرَ الصحيح الدَّال على التعقّل والتروِّي لكان الأمر يسيرًا، لكن المصيبة أن يجعل الطلاقََ أولاً وقبل كل شيء، ثم بعدما يطلِّق يندم ويتأسَّف ويبحث: هل له مخرج من هذه المضائق أم لا؟ إنه ندَمٌ لا ينفعه أحيانًا، فالواجبُ التأملُ والتروّي والتعقل في الأمور، والموازنة بين الحاضر والمستقبل، ودراسة الوضع دراسةً طيبة، دراسة متعقلة متأنية.
ثم على المرأة المسلمة أن تتقي الله، وأن لا تكون سببًا في طلاقها، وأن تصلح من أوضاعها وأخطائها.
ثم على أولياء الرجل وأولياءِ المرأة جميعًا أن يكونوا متحمِّلين لمسؤوليتهم؛ لأنَّ شيوعَ الطلاق في المجتمع ليس علامةَ خير، لا شكَّ أن الله أباحه لحكمة ومصلحة عندما تدعو الحاجة إليه، لكن إذا عُدل عنه ببقاء النكاح كان أفضلَ وأولى، فلو تعاونَ أولياء الزوجين فيما بينهم وكلٌّ أدّى واجبَه نصيحةً وتوجيهًا وإصلاحًا للأخطاء والأوضاع، لكان المجتمع سعيدًا بهذا.
فليتق المسلمون ربَّهم في طلاقهم، وليحرِصوا على أن يتأدَّبوا بآداب إسلامهم ليكون الطلاق واقعًا موقعَة، ولا يكون طلاقًا يمليه طيشٌ وهواء وتسرّع وعدم تعقّل وطاعةٌ لامرأة وخضوعٌ لرأي سفيه، لا بد من تأمّل وتعقّل في هذا الأمر حتى يكون المسلم على بصيرة، والله جل وعلا حذّرنا من أن نتّخذ آياتِ الله هزوًا: وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَـ?تِ ?للَّهِ هُزُوًا وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَتَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ ?لْكِتَـ?بِ وَ?لْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمٌ [البقرة:231].
فواجبنا تقوى الله في أنفسنا، وواجبُنا رعايةُ الحقوق الزوجية، وواجبنا أن نتحلى بالصبر والأناءة في الأمور، فعسى أن نوفّق لسلوك الطريق المستقيم.
لا شك أن المرأة المطلقة تعاني من آلام الطلاق، والرجل المطلِّق يعاني من آلام العزوبة، والولد الذي بينهما سيكون ضحيةً أحيانًا لسوء تصرّف كلٍّ من الزوج والزوجة، فليتق المسلمون ربهم، ولتكنْ أمورُهم على وفق شرع ربهم، لتستقيم الأحوال، وتستقيم الأسرة، ويزول النزاع والشر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الشروط (2721)، ومسلم في النكاح (1418) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
[2] جزء من خطبة النبي يوم عرفة، أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في النكاح (5186)، ومسلم في الرضاع (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وأعله ابن كثير في تفسيره (1/278) بالانقطاع، وقال الحافظ في الفتح (9/362): "رجاله ثقات, لكنّ محمود بن لبيد ولد في عهد النّبيّ ولم يثبت له منه سماع, وإن ذكره بعضهم في الصّحابة فلأجل الرّؤية, وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدّة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسّماع. وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير ـ يعني ابن الأشج ـ عن أبيه اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه"، وصححه الألباني في غاية المرام (261).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن عدوَّ الله إبليس يستغلُّ غضبَ المسلم وطيشه، فيوقعه في المكروه، يزيِّن له الطلاقَ ليظنَّ أنَّ الطلاقَ هو الذي يخلِّص [من] المشاكل، وأن الطلاق هو الذي يُنهي النزاع، وأن الطلاق هو وهو...
لا يا أخي، الطلاق هدمٌ لهذا العقد، لا يُلجأ إليه إلا إذا تعذَّرت كلُّ وسيلة ممكنةٍ في التحام الزوجين وتعاونهما، ومتى أمكنك إبقاءُ هذا العقد وتحمل بعض الأمور فذاك خير لك.
أيها المسلم، إنَّ من يزيِّن لك طلاقَ امرأتك ويحسّنه لك اعلم أنه شيطانٌ ضدّك في أحوالك، وإلا فالمسلم يسعى في التوفيق والتأليف، لا في الفرقة والإبعاد.
أيها المسلم، جاء في الحديث عنه : ((إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ويبثُّ جنودَه في الخلق، فيأتيه آتٍ منهم فيقول: ماذا فعلت؟ قال: ما زلت بفلان حتى عقَّ أمَّه أو أباه، قال: ما فعلتَ شيئًا، يوشك أن يبرَّ أباه وأمه، ويأتيه الآخر ويقول: ما زلتُ بفلان حتى فرقتُ بينه وبين رحمه، قال: ما فعلت شيئًا، يوشك أن يعود إليهم، ويأتيه جندٌ آخر من جنده فيقول: ما فعلت؟ قال: ما زلتُ بفلان حتى طلق امرأته، قال: فيلتزمه ويقول: أنت وأنت وأنت)) [1] ، أعجبه فعلُه وتصرفه، هكذا شيطان الجن وشياطين الإنس الذين يعينون على هذه الأمور، ويسهِّلون هذه الأمور، والواجبُ على من سمع خلافًا أو شكا إليه شاكٍ من رجل أو امرأة أن يكونَ جوابه الحرصَ على التوفيق بين الزوجين، وجمعِ كلمتهما، وتحذيرهما من الطلاق ما لم تدعُ إليه حاجة قصوى، ومتى أمكن التحام الزوجين واستمرار حياتهما، وإزالة كل الأخطاء فذاك هو الأولى.
ثم أيها المسلم، طلِّق بالشروط الشرعية، فإنك إذا سلكتَ الأدب الشرعيَّ في طلاقك لم تندم، فإن الله جعله ثلاثًا، واحدة ثم الثانية ثم الثالثة، فلعل بعد الواحدة تندم المرأة وتتأسَّف من أخطائها، أو لعلك أنت المخطئ فتراجع نفسك، ثم الطلقة الثانية، ولعلك بعدها أن تتأمَّل، ثم يقال: لم يبقَ إلا واحدة، فإما أن تمسك بمعروف أو تُسرّح بإحسان، وإياك ـ يا أخي ـ وكثرةَ [الدعاوي] في هذا الأمر، وكثرة النزاع والخصام، إن المشاكلَ الزوجية لو تعاون الأهلون والزوجان فيما بين الجميع لأمكن علاجُ هذا من غير اضطرار وترافعٍ للمحاكم، لو تعاون الجميع في رأب الصدع والتوفيق والإصلاح لكان في ذلك خير كثير.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية لما يحبه ويرضاه، وأن يصلح شأن المسلمين عمومًا، ويجمع كلمتهم على الخير، ويعيذ الجميع من مكائد الشيطان.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في كتاب صفة القيامة (2813) من حديث جابر رضي الله عنهما بنحوه.
(1/4127)
الظلم ظلمات
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
12/8/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم الله تعالى الظلمَ على نفسه وبين عباده. 2- أعظم الظلم وأكبره. 3- ظلم النفس. 4- ظلم الغير. 5- خطورة الظلم وسوء عاقبته. 6- التحذير من ظلم الزوجة. 7- أنواع من الظلم. 8- التحذير من المماطلة في أداء الحقوق لمستحقيها. 9- دعوة المظلوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عبادَ الله، إن الله جل جلاله موصوفٌ بكل صفاتِ الكمال والجلال، منزَّهٌ عن صفات العيوب والنقائص، وَلِلَّهِ ?لْمَثَلُ ?لأعْلَى? وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [النحل:60]. فكل صفاته كمالٌ، وكل عيب أو نقص فالله منزَّه عنه ومبرَّأُ عنه، جلَّ ربًا وتقدَّس إلهً ومعبودًا.
فمن كمال عدله جل جلاله أنَّه حرَّم الظلم على نفسه، وجعل هذا الظلمَ محرمًا بين عباده، في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا)) [1] ، وقد جاءت نصوصُ القرآن لتنفي عن الله هذا النقصَ والعيب، قال تعالى: وَمَا ظَلَمْنَـ?هُمْ وَلَـ?كِن كَانُواْ هُمُ ?لظَّـ?لِمِينَ [الزخرف:76]، وقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46]، وقال: وَمَا ?للَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لّلْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:108]، وقال: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ ?لنَّاسَ شَيْئًا وَلَـ?كِنَّ ?لنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44].
أيها الإخوة، إن الظلمَ في كتاب وفي سنة رسوله دائرٌ بين أمور ثلاثة:
فأعظمُ الظلم وأكبره وأشدّه إثمًا ظلمُ المشرك، فإن العابدَ لغير الله الذي صرف أنواعَ العبادة كلها أو بعضها لغير الله قد أتى بأعظم الظلم وأكبر الظلم؛ إذ [العبودية] على الحقيقة إفرادُ الله بجميع أنواع العبادة، فالدعاءُ خالصٌ لله، والذبح خالص لله، والنذر خالص لله، والخوف الحقيقي من الله، والرجاء الحقيقي لله، وكل أنواع العبادة حقٌّ لربنا جل جلاله، لا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الله، وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ بَلِ ?للَّهَ فَ?عْبُدْ وَكُن مّنَ ?لشَّـ?كِرِينَ [الزمر:65، 66]، وقال لقمان لابنه في وصيته له كما أخبر الله في كتابه: ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، حقًا إنه ظلم، وإن هذا الظلمَ عظيم، إذ الظلمُ حقيقته وضعُ الشيء في غير موضعه، وأيّ ظلم أعظم من أن تصرف الحقَّ الواجبَ لله إلى مخلوق مثلك، إلى ميت وغائب لا يدري ولا يعلم شيئًا؟! وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ?للَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَـ?فِلُونَ [الأحقاف:5]، إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].
فالشرك أعظم ظلمٍ وأكبر الظلمِ وأشدُّه، ولهذا يحبط كلَّ الأعمال، ولا يمكن لأيِّ عملٍ أن يصلح مع الشرك، ولا يقبل الله من مشرك عملاً مطلقًا، بل كلّ أعماله مهما عظمت فإن الله يقول لها كوني هباءً منثورًا، وَقَدِمْنَا إِلَى? مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23].
ونوعٌ من الظلم، ظلمُ العبد نفسَه، بتضييع بعض أوامر الله، وارتكاب بعض نواهي الله، فإنَّ هذا ظلمٌ منك لنفسك أيها المسلم، ظلمُك لنفسك أن تعصيَ الله، أن تعطِّل بعضَ فرائض الإسلام، أن ترتكب بعضَ ما حرَّم الله عليك، فتكون بذلك ظالمًا لنفسك؛ لأن الواجبَ عليك طاعةُ الله، وتزكية نفسك بالعمل الصالح، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:9، 10]، فظلمُك لنفسك بترك واجبٍ أو فعل محرم ظلمتَ نفسك وأسأت إليها، وفي الحديث: (([كلُّ الناس] يغدو، فبائعٌ نفسَه فمعتقها أو موبقها)) [2].
وإذا سلم المسلم من ظلم الشرك ومن ظلم العباد ومن ظلم نفسه كان من الآمنين يوم القيامة، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. فكن ـ يا عبد الله ـ حريصًا على تزكية نفسك، بعيدًا عن أن تظلمَها بمعاصي الله، أنقذْها من عذاب الله، وخلِّصها من سخط الله ما دمت في هذه الدنيا وباب التوبة مفتوح لك.
ومن أنواع الظلم ظلمُ العباد بعضِهم لبعض، في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، فإن ظلم العباد ظلمات يوم القيامة، ظلمُك أخاك المسلم بظلمه في عرضه، أو ظلمه في دمه، أو ظلمِه في ماله، فذاك من أنواع الظلم، فحاول التخلصَ منها ما دمت في هذه الدنيا. وقد حذرنا نبينا من أن يظلم بعضنا بعضًا، أو يؤذيَ بعضنا بعضًا، يقول : ((اتقوا الظلمَ؛ فإن الظلمَ ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشُحَّ؛ فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءَهم واستحلّوا محارمهم)) [3] ، وقال أيضًا: ((الظلم ظلماتٌ يوم القيامة)) [4]. أسعدُ الخلق في هذه الدنيا من لقي الله وقد خلصَ من ظلم العباد، من لقي الله ولم تتعلَّق به مظلمةٌ للعباد، لا في دمٍ ولا في مال ولا في عرض، فتسلم حسناتُه، وينتفع بها في يومٍ لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها المسلم، اعلم أن الظلمَ في هذه الدنيا لن يضيع، وسوف يكون الحسابُ من حسناتك يومَ القيامة، إنْ لم تخلِّص نفسَك من ظلم العباد في الدنيا فتكون المقاصّة من أعمالك الصالحة، فإن انقضت أعمالك قبل استيفاء المظالم منك حملْت خطايا وسيئات الآخرين، فما أعظمَ الخسارة في ذلك اليوم العظيم، يقول محذرًا المسلم من الظلم: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يكذبه ولا يخذله)) [5] ، ويقول مرشدًا المسلم إلى أن يتخلَّص من ظلمِ العباد في الدنيا، يقول : ((من كانت له عند أخيه مظلمةٌ من عرض أو غيره فليتحللْ منه اليومَ قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن يكن له حسنات أُخذ من حسناته، فإن لم يفِ ما عليه أُخذ من سيئات صاحبه وحُمِّله)) [6] ، ويقول أيضًا يومًا لأصحابه: ((أتدرون من المفلس فيكم؟!)) قالوا: المفلس فينا من لا دينار له ولا متاع، لأننا نسمي مفلسًا لقلة ماله، فقال : ((ولكنَّ المفلس من يأتي يوم القيامة بأعمال صالحة، من صلاة وزكاة وصيام، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وضربَ هذا، وأكل مالَ هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن انقضت حسناته قبل أن يوفّي ما عليه أُخذ من خطاياهم فحمِّل عليه ثم دخل النار)) [7]. هذا هو الإفلاس الحقيقي، أن يكون لك أعمال صالحة، صليتَ وصُمتَ وزكيتَ وحججت وبررت بالوالدين وقمت بالواجب، لكنك ظلمتَ عبادَ الله في أموالهم، أكلتَ أموالهم ظلمًا وعدوانًا، تسلطتَ عليهم بلسانك فجرَّحتهم وقذفتهم، وقلت فيهم ما الله يعلم أنهم برآء منه، سفكتَ دمًا حرامًا، أعنتَ على ظلم مسلمٍ بقول أو عمل، سعيتَ بكل وسيلة في إلحاق الظلم والأذى بالمسلم، حُلت بينه وبين حقوقِه، قلت فيه ما ليس فيه، فاعلم أنه سيمكَّن من حسناتك يومَ القيامة، وكلّ فرد منا في ذلك اليوم بحاجة إلى مثقال ذرة من خير، ليرجح بها ميزانه، فَمَن ثَقُلَتْ مَو?زِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَو?زِينُهُ فأُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:102، 103].
أيها المسلم، وإن أنواعَ الظلم جاء في القرآن والسنة شيءٌ منها، تحذيرًا للمسلم وإرشادًا له في البعد عن مظالم العباد، ولمَّا بيَّن الله جل وعلا في كتابه أن المرأة لا يجوز استرجاع شيء من مهرها الذي دفعه الزوج إليها إلا أن يكون هناك سببٌ يمنعهما القيامَ بحقوق الله فأعقب ذلك بقوله: إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ?للَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ?للَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ?فْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [البقرة:229]، فوصف الزوجَ الذي يضارّ المرأةَ باسترجاع مهرها، إذا لم يحصل بينهما توفيق، ولم يكن من المرأة أيّ ضرر، وإنما الأمر راجعٌ للزوج أنَّ استرجاعَه ما دفع للمرأة ظلمٌ منه لها؛ لأنه أخذَه بغير حق؛ إذ هي استحقَّت كلَّ ما دفع إليها، لدخوله عليها واستحلاله فرجَها، فإن أراد أن يعودَ في ذلك بلا سبب كائن منها كان ظالمًا، وما أخذه حرامٌ في حقه. ولما حرم الربا وصفه بالظلم فقال: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، فجعل الربا ظلما؛ لأنه أخذُ مالٍ بغير حق؛ إذ المرابي إن لم ينفع فلا يجوز له أن يضرَّ، ولا يحمِّل الإنسانَ ما لا يستحق، فسمَّى الله ذلك ظلمًا. وقد وصف الله جل وعلا أكلَ مال اليتيم بالظلم فقال: إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]. وأخبر تعالى أنَّ أكلَ أموال الناس وقتلَ الإنسان نفسَه نوعٌ من الظلم فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـ?رَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْو?نًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]. ووصف السارقَ بأنه ظالم؛ لأنه أخذ مالاً بغير حق قال: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـ?لاً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ?للَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:28، 29]، فجعل سارق المال ظالمًا؛ لأنه أخذ مالاً بغير حق، فهو ظالم بذلك. ووصف الحاكمَ بغير شرعه بأنَّه من الظالمين فقال: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ ?للَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [المائدة:45]؛ لأن أحكامَ غير شريعة الله كلّها ظلمٌ وجور، وإعطاء الحق لغير مستحقّه، فهي خالية من العدل، بعيدةٌ عن العدل؛ إذ العدلُ شرعُه الذي بعث به نبيَّه محمدًا.
أيها المسلم، ومن أنواع الظلم مماطلةُ من عليه الحقِّ للغير، فلا يُعطي ما عليه من الحقوق، يقول : ((مطلُ الغنيّ ظلمٌ يحلُّ عرضَه وعقوبته)) [8] ، أي: من عليه حقّ للآخرين، فأخر الوفاء مع القدرة على ذلك، فإنه ظالم لذلك المسلم، حابسٌ مالَه بغير حق، أما المعذور الذي لا شيء عنده فالله يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، فظلمُك من له حقٌّ عليك، وتأخيرك الوفاءَ بلا سبب، هذا ظلمٌ منك للمسلم؛ إذ أخَّرتَ الوفاء وأنت قادر على ذلك.
ومِن أنواع الظلم أيضًا ظلمُ الشريك لشريكه، وعدمُ الاعتراف بالحقوق، وفي الحديث: ((يقول الله: أنا ثالث الشريكين ما لم يخُن أحدُهما صاحبَه، فإن خانه رفعتُ يدي، وجاء الشيطان)) [9].
ومن أنواع الظلم اقتطاعُ مال مسلم بغير حق، يقول : ((من اقتطع شبرًا من الأرض طُوِّقه يومَ القيامة من سبع أرضين)) [10].
ومن أنواع الظلم تفضيلُ بعض الأولاد على بعضٍ لأجل الهوى وطاعةِ من ليس في طاعتِه خير، يقول النبي وقد طُلب منه أن يشهدَ على تفضيل بعض الأولاد على بعض: ((اتقوا الله واعدِلوا بين أولادكم)) [11] ، وقال: ((أشهِدْ على هذا غيري)) [12] ، وقال: ((إني لا أشهَد على جَور)) [13] ، فجعل تفضيلَ بعض الأولاد على بعضٍ جورًا، وامتنع عن الشهادة عليه.
ومن أنواع الظلم السخريةُ بالمسلمين، واحتقارُهم وازدراؤهم بالقول والفعل، يقول الله جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لأَلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات:11]، فسمَّى الساخرين والعائبين والمنتقصين لإخوانهم سماهم ظلمة؛ لأنَّ هذا ظلمٌ منك لأخيك، إذ الواجب إكرامُه والكفّ عن إلحاق الأذى به، وحمدُ الله على ما أنت فيه من نعمة، وسؤال الله العافية للجميع.
أيها المسلم، ومن أنواع الظلم شهادة الزور، فشاهدُ الزور ظالمٌ لنفسه، حمَّلها الأوزارَ والآثام، وظلمَ أيضًا من شهدَ له، فقد أعانه على الإثم والعدوان، وظلم من شهِد عليه، فقد سعى في اقتطاع ماله وحقه بلا مبرِّر، وهذا أيضًا من أنواع الظلم.
فليتق المسلم ربه في ظلمه لعباد الله، وليحذر عواقب الظلم ونتائجَه السيئة، وليتدبَّر في حياته، فلا خير في حياة كلّها ظلمٌ للعباد، تخلَّص من حقوق العباد، وأبرئ الذمة منها ما استطعتَ لذلك سبيلاً، انظُر في أمرك، وتفكَّر في واقعك.
ويا من له مع الناس معاملةٌ ارتباطٌ تجاري، خلِّص نفسك اليوم، قبل أن تلقى الله بتبعة العباد، ينساها الناس ويغفلون عنها، والله محصيها عليك يوم القيامة، أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، لا تغرّنّك قوتُك ولا قدرتك ولا مهارتك في الأمور، ولكن راقبِ الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، راقبِ الله في كلّ أحوالك، واعلم أنّ قدرتَك على ظلم العباد بأيّ الطرق كانت لا تغني عنك شيئًا، فالحزم كل الحزم أن تخلِّص ذمّتك من ظلم العباد، هذا هو الحزم والعقل والإدراك، وأما التحايل على ظلم الناس وبذلُ كلّ الوسائل واستعمال الذكاء والخداع، فذاك لا يغني عند الله شيئًا، فإياك أن تظلم الناس في أموالهم، إياك أن تنتهك أعراضَهم، إياك أن ترميَهم بما هم برآء منه، إياك أن تسعى في سفك دمائهم، إياك أن تشهدَ عليهم بباطل وتقول عليهم ما ليس فيهم، فإن هذا إيذاءٌ للمؤمنين، وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة، باب: فضل الوضوء (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في البر، باب: تحريم الظلم (2578) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه البخاري في المظالم، باب: الظلم ظلمات يوم القيامة (2447)، ومسلم في البر، باب: تحريم الظلم (2579) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه مسلم في البر، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه ((ولا يكذبه)) ، وهي الترمذي في البر (1927).
[6] أخرجه البخاري في المظالم (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[7] أخرجه مسلم في البر والصلة (2581) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[8] هذا النص مركَّب من حديثين: الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات (2287)، ومسلم في المساقاة (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والثاني قوله : ((ليُّ الواجد يحِلّ عرضه وعقوبته)) علقه البخاري في الاستقراض، باب: لصاحب الحق مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية (3628)، والنسائي في البيوع (4689، 4690)، وابن ماجه في الأحكام (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5089)، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434).
[9] أخرجه أبو داود في البيوع، باب: في الشركة (3383)، والدارقطني (3/35)، والبيهقي (6/78) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فإذا خانه خرجت من بينهما)) ، وليس فيه ((وجاء الشيطان)) ، وهي زيادة عند رزين. والحديث صححه الحاكم (2322)، وأعله الدارقطني بالإرسال، وضعفه الألباني في الإرواء (1468).
[10] أخرجه البخاري في المظالم، باب: إثم من ظلم شيئا من الأرض (2452)، ومسلم في المساقاة، باب: تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها (1610) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه بنحوه.
[11] أخرجه البخاري في الهبة، باب: الإشهاد في الهبة (2587)، ومسلم في الهبات، باب: كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[12] هذا أحد ألفاظ مسلم.
[13] هذا اللفظ أخرجه البخاري في الشهادات (2650)، وهو أيضا عند مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن من ظلم الناس ظلمَ رجال الأعمال لمن تحت أيديهم من العمال، ظلمهم لهم بتأخير حقوقهم تارة، والممطالة بها، وأن يجعلوها آخرَ ما عليهم، فلا يبالون بحقوق المساكين، يظلمونهم فيؤخرون الحقوق، حتى يمضيَ عليها أشهرٌ عديدة، وهم بعضُهم أغنياء، لكنها أموال تستغلُّ في مصالحهم، وأولئك الفقراءُ الضعفاء لا قوتَ لهم ولا قدرةَ لهم، فيظلمهم أولئك [الظلمة] بتأخير حقوقِهم تارة، أو يتعدَّى الظلمُ بأن يقتطِعوا شيئًا منها، ويضعوه حِيلاً يتوسَّلون بها لاقتطاع شيء من حقوق هؤلاء المساكين، أو يحاولون كلَّ فترة أن يرغموهم على تغيير العقود السابقة التي جاؤوا لأجلها، فيُرغمونهم ولا حيلةَ لهم إلا أن يوافقوا، فيكونون بذلك خائنين لأمانتهم، والله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، وفي الحديث: ((يقول الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة)) ذكر منهم: ((رجل استأجر [أجيرا]، فاستوفى منه ولم يعطِه [أجرَه])) [1].
فيا أخي، هذا العاملُ المسكين الذي ترك وطنَه وأهلَه، وجاء طالبًا للرزق والمعيشة، [فأحسِن] واعرفْ له حاجته وضعفه، فما دمتَ استوفيت العمل كاملاً تامًا، فإياك أن تظلمَه بعد ذلك، أعطِه حقّه، ولا تستغلَّ ضعفه وعدمَ قدرته لتقتطع حقَّه أو بعضَ حقه، أو تؤخرَ حقَّه الواجبَ له، أو تحاولَ بكلّ وسيلة أن ترغمَه على عقدٍ مستقبَل يكون محرِجًا في أموره، فيوافق على مضض، لكن لا حيلةَ له ولا قدرة له على أن يقول.
فاتق الله أنت في نفسك يا رجل الأعمال، وأعط الناسَ حقوقَهم، وأعط العاملَ حقَّه قبل أن يجفَّ عرقه، واعلموا أن إعطاءَ الناس حقوقَهم من علاماتِ الإيمان، وفي الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة رجلٌ منهم قال: ((اللهم كان لي أجراء، فأعطيتهم حقَّهم إلا واحدًا، ذهبَ وترك الذي له، فثمَّرته له، فلما جاء، قال: أعطني حقي، قال: ما ترى من إبل وبقر وغنم وزرع ورقيق كلّه لك، قال: أتستهزئ بي؟! قلت: لا، فأخذه كلَّه ولم يدع منه شيئًا، اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرجْ عنا)) ، فانفرجت الصخرة بعد ما توسَّل الآخران بأعمالهما [2] ، فصار أداءُ الحقوق سببًا لتفريج الكروب والتخلّص من المضائق. كم يسأل بعضهم ويقول: عندي عمّال ذهبوا وتركوا حقوقَهم، ماذا أعمل بها؟ يسأل بعدما فرَّط وضيَّع وأهمل، حتى إذا علم الخطأ الذي وقع فيه أراد التخلّص، وبإمكانه في الوقت أن يعطيَ الناس حقوقَهم، وأن يراقبَ الله في كلّ الأمور فالله مطَّلع وشاهد عليك وعلى أعمالك، ومن راقبَ الله في أحواله، فجعل الله نصبَ عينيه في أحواله، أدَّى الأمانة، وأدَّى الحقوق، وعاش سعيدًا طيبَ النفس، ومن فرّط في حقوق الناس ندمَ يوم لا ينفع الندم، إذا نزلت منيتُه واقترب رحيلُه من الدنيا تمثلت له مظالم العباد، وتمنَّى أن يردَّ إلى الدنيا ليخلِّص نفسَه من هذه المظالم. فدونَك في حياتك مهملة، فخلِّص نفسَك [فيها]، وأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقّه، حتى تلقى الله وأنت سالم من التبعات، أسأل الله للجميع التوفيق والسداد والعونَ على كلّ خير، إنه على كل شيء قدير.
أيها المسلم، إن دعوةَ المظلوم دعوةٌ نافذة، ودعوة مستجابة، ودعوة تصيب الظالم مهما كان، دعوةٌ صاعدة إلى السماء، تفتح لها أبواب السماء، تصعدُ إلى ذي العزة والجلال، فربَّ مصيبة تحلّ بك في نفسك أو ولدك أو مالك، تنسى المظالمَ ثم تفجؤُك المصائب، وعندَ ذلك تعلم حقيقةَ الأمر.
النبي أوصى معاذَ بن جبل عاملَه باليمن عند تقدير أنصبَة بهيمة الأنعام، قال له: ((اتق دعوةَ المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) [3] ، وفي الحديث: ((ثلاثٌ لا تردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، وتفتَّح لها أبواب السماء، ويقول الربّ: وعزّتي، لأنصرنَّك ولو بعد حين)) [4].
كم جنى الظلمُ على أهله، فمحق بركةَ الأعمار والأموالِ والأولاد، ودمَّر البيوت، وقضى على كلّ علم، فالواجب على المسلم تقوى الله، والتخلّص من دعوات المظلوم، يدعو عليك والله يسمع دعاءَه في كلّ آن وحين، أنت في غفلة في دنياك، لاهٍ في لهوك ولعبك، والمظلوم الذي [آذيته] بظلمك وأكلت مالَه بظلمك يدعو عليك دعواتٍ يسمعها السميع البصير القادر على كل شيء، يسمعها من إذا قال للشيء: كن فيكون، في الحديث: ((إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلتْه)) ، ثم تلا قوله تعالى: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] [5] ، ونبينا يقول لبعض أصحابه وقد رفعوا له خصومة قال: ((إني لأقضي بينكم، ولعل بعضَكم أن يكونَ ألحنَ بحجته من الآخر، فمن قضيتُ له بحقِّ أخيه المسلم فإنما هي قطعة من النار، فليأخذْها أو يدعها)) [6].
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية، وأن يعصمَنا من مظالم العباد، ويخلِّصنا منها بفضله ورحمته، إنه على كل شيء قدير.
واعملوا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسلك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الإجارة، باب: إثم من منع أجر الأجير (2270) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] قصة النفر الثلاثة الذين حبسوا في الغار ثم فرج الله عنهم أخرجها البخاري في البيوع (2215)، ومسلم في كتاب الذكر (2743) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء (1496)، ومسلم في الإيمان، باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[4] أخرجه أحمد (2/445)، والترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه ابن خزيمة (1901)، وابن حبان (7387)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1358).
[5] أخرجه البخاري في التفسير، باب: قوله: وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى... (4686)، ومسلم في البر، باب: تحريم الظلم (2583) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في المظالم، باب: إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه (2458)، ومسلم في الأقضية، باب: الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (1713) من حديث أم سلمة رضي الله عنها بنحوه.
(1/4128)
الأهبة لاستقبال شهر الأوبة
فقه
الصوم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
26/8/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صوم رمضان من أركان الإسلام. 2- تفسير آيات الصيام التي في سورة البقرة. 3- فضائل شهر رمضان وخصائصه. 4- استقبال رمضان. 5- شروط وجوب الصوم. 6- صيام أصحاب الأعذار. 7- ثبوت دخول شهر رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عبادَ الله، يقول ربنا جل جلاله وهو أصدق القائلين، يقول في كتابه العزيز مخاطبًا عبادَه المؤمنين المصدِّقين السامعين المطيعين المستجيبين لله ولرسوله، يقول لهم جل وعلا مخاطبًا لهم بأسمى صفاتهم وأكملها وأعلاها ألا وهو الإيمان: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ?لَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:183-185].
أيها المسلمون، صيامُ شهر رمضان أحدُ أركان الإسلام الخمسة التي بُني عليها الإسلام، فقد بُني الإسلام على خمسة أركان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحجِّ بيت الله الحرام، وبذا أخبرنا نبينا محمد [1].
فهو أحدُ أركان الإسلام، لا يكمل إسلامُ عبدٍ ولا يستقيم إسلامُه إلا بصيام شهر رمضان إن كان ممن يجب عليه الصيام.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ فُرض عليكم الصيام، أعني صيامَ رمضان، الذي هو الركن الرابع من أركان الإسلام، كُتب عليكم، وفُرض عليكم، وأُوجب عليكم، ولستم بدْعًا من الناس، فالصومُ عبادة تُعُّبدتم بها كما تعُبّد بها من قبلكم من الأمم، كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ، حكمةُ هذا الصيام، حكمة فرض صيام هذا الشهر: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، هذه هي الحكمة والغاية من فرض الصيام، بل هي الغاية من كلِّ العبادات، لكن مظاهرها في الصوم أقوى، وإلا فكل عبادة إنما شُرعت لك لتتقي الله بأدائها، وتتقرَّب إلى الله بذلك، لكن ظاهرة التقوى في الصيام أقوى [منها في] كل العبادات.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، فلعل أن يحصل لكم بالصيام تقوى الله، ولعلَّ التقوى أن يتحقّق لكم بصيامكم لرمضان، بأي شيء يكون ذلك؟ إن حقيقةَ الصيام امتناعُ المسلم في نهار رمضان عن الطعام عن الماء عن مواقعة النساء، وغير ذلك من مفسدات الصيام، يمتنع عنها طاعةً لله، يمتنع عنها قربةً يتقرب بها إلى الله، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، ففي ذلك كفٌّ لنفسه، لشهوات نفسه لأجل الله وفي سبيل الله، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. الصائم في كفّه عن هذه المشتهيات يكفُّ عنها مع قدرته عليها، ومع تمكنه منها، ومع كونه خاليًا في مكان لا يعلمه إلا الله، لكن هذا الأمر تركه طاعةً لله، علم أن ربَّه يرضى منه ذلك، فوافق رضا الله، وعلم أن ربَّه يطَّلع عليه ويعلم سرَّه وعلانيته، فقوي في قلبه اليقين بمراقبة الله واطلاع الله عليه في كلّ أحواله، فصار ممن قال الله فيهم: ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ [البقرة:3]، وكما قال الله: إِنَّ ?لَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِ?لْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12].
إن الصومَ يحقِّق للمسلم التقوى، فهو إذا شعر بألم الظمأ والجوع مع قدرته على ذلك عرف عظيمَ نعم الله عليه، فازدادَ لله شكرًا وثناءً وتمجيدًا وتعظيمًا،، فلله الفضل والمنة، وعرف عظيمَ النعم، وتذكر قوله تعالى: وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]، وتذكر وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]. إنه يعرِّفهُ بعد ذا حاجةَ المحتاجين وعوزَ المعوزين، فتطيب النفس بالإنفاق في الخير، فيتقرّب إلى الله بالنفقات والصدقات، فيقوى التقوى في قلبه.
أيها المسلم، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، في الصوم تهذيبٌ للنفس، وتزكية لها، وتطهير لها من الأخلاق والأخلاط والرديئة. في الصوم ترويضٌ للنفس وإعدادها للمستقبل، فما بين رمضان إلى رمضان مكفراتٌ لما بينهن ما اجتنبت الكبائر، فرمضان يأتي فيهذِّب النفوس، ويزكيها ويطهرها وينقيها، ويعدّها للخير، ويهيئها لسبيل الرشاد، ويمضي رمضان والمسلم في ذكرياته رمضان، وفي قلبه حبٌّ لرمضان، وما يزال كذلك يرتقب رمضانَ آخر، فهو من عبادة إلى ترقُّب عبادة، ومن طاعة إلى حبِّ طاعة أخرى.
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، وما أعظم هذه الكلمة، أنه يحصل بالصيام التقوى، فتكثر الحسنات، وتعظم الأجور.
أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ ، فالصوم ليس كلَّ السنة، ولا نصفَها ولا ثلثها ولا ربعها ولا سدسها، ولكنه شهر واحدٌ من اثني عشر شهرًا، تسع وعشرون يومًا أو ثلاثون يوما، أيامًا معدودة، يبتدئ أوَّله وما هو [إلا] قليل حتى يمضي كلّه، فهي أيام معدودة، فحري بالمسلم اغتنامُها، حريّ بالمسلم أن يعرفَ لهذه الأيام قدرَها ومكانتها، إذ هذا الشهر أفضلُ شهور العام لما أودع الله فيه من الخصائص والفضائل، وخصَّ هذه الأمة بمزيدِ خير وفضل، فله الفضل والمنة.
أيها المسلم، وإن ربنا جل وعلا جعل شريعةَ الإسلام شريعةَ اليسر، رفعَ عنها الأغلال والآصارَ التي كانت على من قبلنا، يقول تعالى: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ?لأغْلَـ?لَ ?لَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، ويقول: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فأباح الله للمريض إذا كان هذا المرض يُتعبه أثناءَ الصيام، وكان لا يستطيع الصيام مع وجود هذا المرض، فيفطر ويقضي أيامًا أخر، وكذلك المسافر يفطر في سفره ويقضي أيامًا أُخر، والله يحبّ أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته.
وكانوا في أوَّل الإسلام مخيَّرين بين أن يصوموا وبين أن يُطعموا، ولكن ربنا رحمنا، فافترض علينا الصيام، وَعَلَى ?لَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ إلى أن قال: وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ ، ثم قال: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.
أيها المسلم، إن لهذا الشهر العظيم فضائلَ عديدة ومزايا وخصائص، فاغتنم ذلك أيها المسلم، فأولاً أن تستبشر بمقدم رمضان، وأن تفرح بمقدم رمضان، وأن ترى نعمةً عظيمة من الله أن مدّ في أجلك، وأنسأ في عمرك، حتى أدركتَ هذا الشهرَ المبارك، فكم من متمنٍّ له ما أدركه، وكم من متطلِّعٍ له حيل بينه وبينه، فإن أدركتَ رمضان فقل: "الحمد لله الذي بلّغني رمضان، وجعلني ممن يصومه وينافس في الأعمال الصالحة"، فلقد كان سلفُكم الصالح يستبشرون بهذا الشهر ويفرحون به، كانوا يقولون: "اللهم سلِّمني لرمضان، اللهم سلِّم لي رمضان، اللهم تسلَّم مني رمضان متقبَّلاً"، كانوا يسألون الله أن يبلّغهم صيامَه، فإذَا صاموه أكثَروا من السؤال والإلحاح أن يتقبَّل الله منهم صيامَهم.
أيها المسلم، من فضائل هذا الشهر أنَّ صيامَه مع النية والاحتساب يكفِّر ما مضى من الذنوب، ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) [2] ، وإن قيامَه أيضًا ليمحو ما مضى من الذنوب، كان النبي يرغِّب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه)) [3].
أيها المسلم، إن نبيَّنا أخبرَ عن خصائص هذا الشهر فقال: ((أُعطيت أمتي في رمضان خمسَ خصال، لم تعطها أمة قبلهم: خلوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك، وتستغفرُ لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزيِّن الله جنَّته كلَّ يوم فيقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتصفَّد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون في غيره، ويُغفر لهم في آخر ليلة)) قيل: أليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوفَّى أجرَه إذا قضى عمله)) [4].
أيها الإخوة، كان نبينا يبشر أصحابه بمقدم رمضان، ويهنئهم بذلك، في حديث عبادة أنه قال يومًا وحضر رمضان: ((أتاكم رمضان، شهرُ بركة ورحمة، يغشاكم الله فيه، فيُنزل الرحمة، ويحطّ الخطيئة، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، فيباهي بكم ملائكتَه، فأرُوا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقيَّ فيه من حرم رحمةَ الله)) [5].
أيها المسلم، صُن الصومَ عن كلِّ المفسدات، يقول : ((من صام رمضان وعرف حدوده وتحفَّظ مما ينبغي أن يُتحفَّظ منه كفَّر ما كان قبله)) [6].
تفتَح فيه أبواب الجنان، وتغلَق فيه أبواب النار، وتُهيَّأ لكلّ مسلم أسبابُ الخير، فاحرص على ذلك أخي المسلم، يُروى عن سلمان رضي الله عنه أن النبي خطبهم في آخر يوم من شعبان فقال: ((يا أيها الناس، قد أظلَّكم شهرٌ مبارك عظيم، شهرٌ جعل الله صيامَه فريضة، وقيامَ ليله تطوعًا، من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدَّى فيه فريضة، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهرُ الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يُزاد في رزق المؤمن فيه، من فطَّر فيه صائمًا كان مغفرةً لذنوبه وعتقَ رقبته من النار، وكان له من الأجر مثلُ أجره، من غير أن ينقص ذلك من أجره شيء، وهو شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتقٌ من النار، من خفَّف فيه عن مملوكه غفر الله له وأعتقه من النار، واستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى لكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما الخصلتان اللتان لا غنى لكم عنهما فتسألون الله الجنة وتستعيذون به من النار، ومن سقى فيه صائما سقاه الله من حوضي شربةً لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة)) [7].
أيها المسلم، استقبِل هذا الشهر بالنية الصادقة والعزيمة الصالحة على الجد والاجتهاد، والتقرب إلى الله بما يرضيه، يقول يومًا وقد أظلهم شهر رمضان قال فيه: ((إن الله يكتب أجره ونوافله قبل أن يدخلَه، ويكتب إصرَه وشقاءَه قبل أن يدخله، ذلك أن المؤمنَ يُعدّ فيه القوتَ من النفقة للعبادة، ويعدّ المنافق تتبُّع غفلات المؤمنين، وتتبّع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر)) [8].
اصدق الله في نيتك، واستقبله بعزيمة وجدّ، واحرص فيه على فعل الخير، وليكن صيامًا محفوظًا من كل المفسدات، مصانًا عن كل المنقصات، متقربًا بذلك إلى ربّك، فهو شهر تكفَّر فيه السيئات، شهرٌ تجاب فيه الدعوات، وتقال فيه العثرات، شهرٌ يسعدُ فيه المؤمن بطاعة ربّه، فرغِم أنفُ امرئ أدرك رمضان ومضى وما غُفر له، فاحذر ـ أخي ـ من تلك الحالات السيئة، واعرف لمواسم العبادة شأنَها وفضلها، ولا تسوِّها [مع] سائر الأيام، جدَّ واجتهد، وتُب إلى الله مما مضى وكان، فعسى الله أن يقبلَ في هذا الشهر توبتك، وعسى الله أن يمنَّ عليك بالقبول، وعسى أن تكون من الصائمين حقًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي أخرجه البخاري في الإيمان، باب: بني الإسلام على خمس (8)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان أركان الإسلام ودعائمه العظام (16).
[2] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (759) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (2/292)، والبزار (1/458- كشف الأستار)، ومحمد بن نصر في قيام رمضان (ص112)، والبيهقي في الشعب (3602)، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعًا إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140) : "رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1/294): "ضعيف جدًا".
[5] عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني من حديث عبادة رضي الله عنه وقال: "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته"، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (592).
[6] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص98)، ومن طريقه أحمد (3/55)، وأبو يعلى (1058) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه ابن حبان (3433)، لكن فيه عبد الله بن قرط لم يرو عنه غير يحيى بن أيوب، أورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقال الحسيني في الإكمال : "مجهول"، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص395).
[7] رواه الحارث في مسنده (318 ـ بغية الباحث)، وابن خزيمة (3/191-1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، وابن عدي في الكامل (5/293)، قال أبو حاتم : "هذا حديث منكر".
[8] أخرجه أحمد (2/374)، وابن خزيمة (3/188)، والطبراني في الأوسط (9/21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة، ولم أجد من ترجمه"، وفي إسناده أيضًا عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302): "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260) : "لا يتابع عليه"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (590).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن صيام رمضان أداءً [يجب] على المسلم البالغ العاقل القادر عليه المقيم، فالمسلم البالغ والمسلم العاقل، والمسلم القادر على الصيام، والمسلم المقيم هذا يخاطبُ بالصيام، فيصوم رمضانَ في وقته أداءً، هكذا دلّت شريعة الله، ولكن الله يسَّر وهوَّن على الناس، فالمريض مثلاً، هذا المرض لا يخلو إما أن يكون مرضًا يسيرًا لا يؤثّر على الصيام، فهذا يصوم لأن وجودَ هذا المرض وعدمه سواء، لكن لو كان المرض يُضعفه، وقد يتحمَّل الصيام مع المشقة، فالأولى له أن يفطِر لقبول رخصة الله، أو أرشده الطبيب إلى ذلك فإنه يفطر لأن هذا قبولٌ لرخصة الله جل جلاله، والله يحبّ منَّا أن نأتي رخصَه كما يكره منا أن نفعل معصيته. وأما المرض الذي لو صام معه لكان ضررًا عليه متيقَّنًا فهذا إن كان هذا المرض مما يُرجى زواله بتوفيق من الله فيما أنزل الله من العادة فإنه يجب أن يفطرَ والله يقول: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، ثم يقضي أيامًا أخر مكانه، أما إن كان هذا المرض من الأمراض المستمرَّة التي الغالب عدمُ ارتفاعها إلا أن يشاء الله، فالأمراض الخطيرة التي يقرر الأطباء أن الصوم لا يمكن مع وجود تلك الأمراض، فالأمراض المتعدّدة المتنوعة ـ عافى الله الجميع من كل سوء ـ المصابون بأيّ أمراض من الأمراض التي يقرّر الطبّ أن هذا لا يمكن الصوم معه، فهؤلاء يفطرون ويطعمون عن كل يوم مسكينًا، خمسة أربعين كيلو من الأرز أو الحب عن الشهر كله.
المسافر إن كان الصوم وعدمه سواءً في سفره فله أن يصوم وله أن يفطر، فالنبي صام في سفره، والنبي أفطر في سفره، كل ذلك وقع من النبي [1] ، والصحابة سافروا فأفطر البعض، وصام البعض، فلم ينكر هذا على هذا [2]. فالصوم في السفر جائز، والفطر جائز، وإن قبول رخصة الله إذا لم يكن في القضاء مشقة فقبول رخصة الله أولى.
أيها المسلم، الشخص إذا أصابه الهرم وأصبح لا يحسن ولا يعي ما يقول ولا يدرك ما يقول، فقَدَ الذاكرةَ فلا يعرف شيئًا، هذا لا قضاءَ ولا إطعام عليه، لأنه في هذه الحالة غير مكلف، لكن من أعجَزه عن الصيام كبرُ سنّه، ولو مع وجود عقله، لكن كِبر السن أثقل الصيام عليه، فهذا يُطعمُ عنه عن كل يوم كيلو ونصف من الأرز أو الحب، فيقوم هذا الإطعام مقامَ الصيام، ولله الفضل والمنة على كل حال.
أيها المسلمون، إن صيامَ رمضان في شريعة الإسلام لإثباته طريقان، إما أن نكمل شعبان ثلاثين يومًا إذا لم يثبت رؤية الهلال مساء التاسع والعشرين من شعبان، فنكمِّل شعبان ثلاثين، وإمّا أن نرى الهلال مساءَ تسع وعشرين فإنا نصوم، والنبي يقول لنا: ((صوموا لرؤيته، وأفطرا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدَّة ثلاثين)) [3] ، فالصوم والفطر في شريعتنا معلَّق بالرؤية البصرية، أو ما يعين على ذلك من وسائل، لكنها تدور حول الرؤية البصرية، فإن هذا هو شريعة الإسلام، وما سوى ذلك من الحساب الفلكي، فإن المسلمين مجمعون على أنه لا اعتبار له، وإنما الاعتبار بالرؤية البصرية التي يقول فيها : ((صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)).
وكان المسلمون في عهد رسول الله يتطلعون الهلال، ويتراءَون الهلال، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: تراءى الناسُ الهلال في عهد النبي ، فرأيته فصام النبي وأمر بصيامه [4]. فتطلُّع رؤية الهلال سنةُ المسلمين، لكي يكونوا على بصيرة في صيامهم وفطرهم.
أسأل الله أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يرزقنا وإياكم عملاً صالحًا يقربنا إليه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي، هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار.
واعلموا أن صلاة التراويح سنةٌ مؤكدة، وأن المسلم إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة، فحافظوا ـ رحمكم الله ـ عليها، والزموها ولا يشغلكم عنها لهوٌ ولعب، واغتنموا هذه الليالي المباركة بما يقرّب إلى الله زلفى.
وصلوا على نبيكم محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري في المغازي (4279)، ومسلم في الصيام (1113).
[2] كما في قول أنس رضي الله عنه عند البخاري في الصوم (1947)، ومسلم في الصيام (1118).
[3] أخرجه البخاري في الصوم (1909)، ومسلم في الصيام (1081) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه الدرامي في الصوم، باب: الشهادة على رؤية هلال رمضان (1691)، وأبو داود في الصيام، باب: في شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان (2322)، والدارقطني في الصيام (2/156)، وصححه ابن حزم في المحلى (4/164)، والحاكم (1541)، والألباني في الإرواء (908).
(1/4129)
حقوق المسلم الستة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
9/10/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص الإسلام على اجتماع الكلمة ووحدة الصف. 2- إفشاء السلام. 3- إجابة الدعوة. 4- إسداء النصيحة. 5- تشميت العاطس. 6- عيادة المريض. 7- اتباع الجنازة. 8- خلق النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيَا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ من خصائصِ هذه الشريعةِ دعوةَ المجتمعِ المسلمِ إلى اجتمَاع الكلِمة ووحدَة الصّفّ وتآلُف القلوب، وقد وضعَتِ الشريعة الإسلاميّة أسبابًا متى أخَذ المسلمون بها اجتمعت كلمتُهم والتقَت قلوبُهم على الخيرِ والهدى وسادَت بينَهم المحبّة والمودّة والتعاون، في صحيح مسلِم عن أبي هريرَة رضيَ الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((حقُّ المسلمِ على المسلمِ ستٌّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإن دعاك فأجِبه، وإن استنصَحَك فانصَح له، وإن عطسَ فحمِد اللهَ فشمِّته، وإن مرِض فعُده، وإن ماتَ فاتبَع جنازتَه)) [1].
هذه الحقوقُ الستّة حقُّ المسلم على المسلم، حقٌ لك على أخِيك، وحقٌّ لأخيك علَيك، ومطلوبٌ من كلّ مسلمٍ القيامُ بهذه الحقوقِ ما استطاع لذلك سبيلاً، ولا يَنتظِر أن يبدأ غيرُه بها، بل يفعلُها سواءً قابَل أخوه ذلك بمثلِها أو لم يقابِله، فليسَتِ الغايةُ تبادُل المنافِع، ولكنّها حقوقٌ شرعيّة مطلوبٌ من كلّ مسلمٍ أن يتحلّى بها وأن يقومَ بها.
فأوّل ذلك: ((إذا لقيته فسلِّم عليه)) ، السّلام اسمٌ من أسماءِ الربِّ جلّ وعلا، وقد جعلَ الله السلامَ تحيَّتَنا فيما بيننا في هذه الدّنيا، ورغّبنا في ذلك قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى? تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى? أَهْلِهَا [النور:27]، وقال جلّ وعلا: وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، وقال: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلّمُواْ عَلَى? أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مّنْ عِندِ ?للَّهِ مُبَـ?رَكَةً طَيّبَةً [النور:61]، فالسّلامُ تحيّةُ المسلمين فيما بينهم، يحيّي بعضُهم بعضًا بالسلام: "السلام عليكم ورحمة الله"، وإن كملها "وبركاته" فقال: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، فيجيبُه أخوه المسلم بمثل ما قال، تذهب الوحشة، يحصُل الأُنس والتقارب والمحبّة والتواضعُ بين المسلمين. ونبيّنا بيّنَ لنا أنَّ إفشاءَ السلام سببٌ للمحبة التي هي بعد الإيمان بالله سببٌ لدخول الجنة، يقول : ((لا تدخلوا الجنّةَ حتّى تؤمِنوا، ولا تؤمِنوا حتّى تحابّوا، ألا أدلّكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحابَبتم؟! أفشوا السلامَ بينكم)) [2] ، فإفشاؤُنا للسلام كونُ كلٍّ منّا يسلِّم على أخيه ويبدؤه بالتّحيّة، والآخر يعيد له مثل ما قال، فعند ذلك يتحقَّق الخيرُ بتوفيقٍ من الله.
أيّها المسلم، إنَّ هذا السلامَ سببٌ لسلامةِ القلوب وتآلفِها واجتماعِ الكلمة، ولِذا أُرشِدنا لأن يكونَ السلام عامًّا فيما بيننا، فيسلّم صغيرُنا على كبيرِنا، ويسلّم ماشينا على قاعدنا، ويسلّم راكبُنا على ماشينا، ويسلّم القليل منّا على الكثير. متى ما شاعَ هذا السلامُ في مجتمعِنا وأكثَرنا منه وسلَّمنا على إخوانِنا المسلمِين مَن عرفنا ومَن لم نعرفْ، ولَم يكن سلامُنا خاصًّا بمعارِفنا ولكنّه عامّ لإخوانِنا جميعًا، متى عملنا ذلك فإنَّ المحبّة والمودّةَ تسود بينَنا، ولذا قال الله: وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [النساء:86]، فلا بدّ من أمرين: إمّا أن تجيبَه بأحسنَ منها، فتكون فاضِلاً عليه بكثرةِ ما قلتَ، أو تردَّ عليه مثلَ ما قال، ولذا قال الله: لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى? تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ عَلَى? أَهْلِهَا [النور:27]، فإنَّك إذا سلَّمت على أهل بيتٍ تريدُ الدخولَ عليهم، فسلَّمتَ عليهم مستأذنًا فإنَّ سلامَك أنسٌ لهم، فإمّا أن يأذَنوا ولا يأذنوا. فالسّلام هو تحيّة المسلمين، هو خطابهم فيما بينهم في هذه الدنيا، وتحيِّيهم به ملائكةُ الرحمن في الجنة، وَالمَلَـ?ئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد:23، 24]، والنبيّ يقول: ((لا يحلّ لمسلمٍ أن يهجرَ أخاه فوقَ ثلاث؛ يلتقيان فيُعرِض هذا ويُعرض هذا، وخيرُهما الذي يبدَأ بالسلام)) [3] ، فخير النّاس من يبدَأ بالسّلام.
أخي المسلِم، قد يَكون في نفسِك حرجٌ أو شيء على بعض إخوانِك المسلمين، وقد يُوسوس الشيطان لك شيئًا من القطيعةِ والبعدِ عن أخيك المسلم، ولكن إذا بدأتَه بالسلام فسلامُك عليه يزيل ما علق في النفوس، ويُذهب ما عسى أن يكونَ باقيًا من شيء من المخالفات، فإنّ السلامَ يزيل الوحشَة، ويحلّ محلَّها الأنسَ والانشراح، فأفش السلامَ، وابدأ بِه من يكون لك محبًّا ومن عسى أن يكونَ لك كارِهًا، فإذا بدأتَه بالسلام فإنَّ السلامَ مفتاحٌ للخير ومزيلٌ للشرّ بتوفيقٍ من الله.
وثاني حقوق المسلمين على المسلمين: إجابةُ دعوةِ الداعي، فإذا دعاك أخوك فأجِب دعوتَه ما لم يترتَّب على الحضور مخالفات شرعيّةٌ لا تستطِيع تغييرَها ولا التخفيفَ منها، ومَتى قدرت على الحضورِ لتخفيفٍ شرٍّ وتقليله فذاك خيرٌ، فإنَّ المسلمَ يسعى جهدَه في تقليل الشرّ ما وجَد لذلك سبيلاً، فإجابةُ دعوةِ أخيك ممّا يؤلِّف القلوبَ ويجمَع الكلمةَ ويدخِل السرورَ على أخيك، ولا سيّما ولائم الزواج، ولهذا يقول : ((ومَن لم يُجبِ الدعوةَ فقد عصى أبا القاسم)) [4] ، ولهذا في الحديث: ((ومن دعاكم فأجيبوه)) [5] ، فإجابةُ الدعوة فيها تآلفٌ ومحبّة، والاعتذار إن تعذَّرتِ الإجابةُ أولى من الإعراض والتّجاهل والتّناسي.
ومن حقِّ المسلمِ عليك أيضًا إذا استنصحَك واستشارَك وطلبَ منك النصيحةَ في أمرٍ ما عرض له فإنَّ من يُسأل النصحَ مؤتمَن، فالمستنصَح مؤتمَن على النّصيحة، وانصح لأخيك بِما تحبّه لنفسِك، فإنّ مِن كمالِ الإيمان أن تحبَّ لأخيك ما تحبُّه لنفسِك، هذا أرَاد منك نصحًا وإشارة في أمرٍ ما من الأمور فإيّاك أن تشير علَيه بما لا ترى فيه المصلحة وأن تنصحَه بما لا ترى فيه المصلحة، فذاك غشٌّ منك لأخيك، ابذل جهدَك، واستعِن بالله، وأعطِه ما تراه مناسِبًا، وإن عجزت عن ذلك فالاعتذار أولى. فهو استنصَحَك وطلب منك النصيحةَ والمشورَة على هذا الأمرِ الذي نزَل به، [فابحَث له عن] النّصيحة، وقل له ما تعتقدُه وما تحبّه لنفسك، فإنّ نصيحتَك له للخير عنوانُ الإيمان، وقد جعل رسول الله النصيحةَ قرينةً لأركان الإسلام، قال جرير بن عبد الله: بايعتُ رسولَ الله على إقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزّكاة والنصح لكلّ مسلم [6]. فإذا استنصَحَك في أمرٍ فأشِر عليه بما تَراه صوَابًا وبِما تعتقِده خيرًا وبِما تحبّ لنفسك، فالمسلم أخو المسِلم؛ لا يظلمه، ولا يكذبه، لا يخذله، لا يحقِره، بل يحبّ له ما يحبّ لنفسه، ويكرَه له ما يكرَه لنفسِه، هذا هو الإيمان الصادق.
ومن حقِّ أخيك عليك إذا عطِس وحمِد الله فقال: "الحمد لله" فشمّته بقولك له: "يرحمك الله". عطاسُه دليلٌ على صحّته، ولكنّ هذا العطاسَ قد يصحبه أمورٌ تضرّ به، فإذا نجّاه الله منها وحمِد الله على هذه النعمة فقل له: "يرحمك الله"، ادعُ له بالرّحمة، ويجيبك: "يهديكم الله". وهكذا المسلمون يعين بعضُهم بعضًا على الخير، ويمدّ بعضهم بعضًا بالدعاء الصالح.
ومن حقِّ المسلم عليك عيادتُه إذا مرِض، فإنَّ في عيادةِ المريضِ فوائِد أولاً: تَسلية لأخيك، تضميد لجراحه، مواساة له في مصابه، إشعارُه بأنَّ إخوانَه يتألّمون بألمه ويحزنون لِحزنِه ويفرحُون لفَرَحه. هذا المريضُ الذي تعودُه أنت تحسِن إليه في أمور، فربَّما ذكَّرتَه التوبةَ إلى الله والندَمَ على ما مضى وختمَ العمر بخيرٍ والأعمال الصالحة، وربّما ذكّرته حقوقًا عليه كان جاهِلاً بها تريد منه أن يسدِّدها وأن يوصيَ بها، وربّما استعان بك في وصيّة تكتبها له وإشهادك على ذلك، وربّما استعان بك في قضاء أيٍّ حاجةٍ من حاجاته، فأنتَ في زيارتِك له تؤنسُه بهذه الزّيارة، وتعينُه على حوائِجه، وفي نفس الوَقت تتذكّر ضعفَ ابن آدم، وأنَّ هذا الإنسانَ الذي كنتَ تعرِفه قويًّا شديدَ البطشِ في هذا المرض أصبَح ضعيفًا هزيلاً لا يقدر على شيء، وتتذكّر قولَ الله: وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفًا [النساء:28]. فأنت في عيادتِك المريض في مصلحةٍ للمريض، ثمّ في تذكّرٍ في نفسك واعتبار ومعرفة قدر نعمةِ الله عليك بالعافِية وما أصابَ هذا المريضَ من هذا المرض، وأنَّ هذا المرضَ الذي أقعدَه وأضعف بدنَه وقوَّتَه دليلٌ على عظمَة الربّ جلّ وعلا وقدرتِه على كلّ شيء وأنّه المتصرّف في خلقِه بما يشاء، وتَعرف قدرَ نعمةِ الله عليك فتحمَد الله على العافيَة والنّعمة، وفي نفسِ الوقتِ تحسِن لأخيك المسلم ولأهله وذويه، فيعرِفون منك المحبَّة والمودَّة، وتقوى الصّلة بين المسلمين.
وفي اتّباعك للجنازة مواساةٌ لمُصاب أولادِه وأقرِبائه، مواساة لهم في مصابهم، وتضميد لجراحهم، وشعور بما ألمّ بهم، وأنَّ ذلك الألم ليس خاصًّا بهم. ثمّ فيه أيضًا تذكّر نفسِك وأنّك اليومّ تشيِّع جنازة، وغدًا يشيِّعك غيرُك، فتعلَم ضعفَ قوّة الدّنيا وحقارتها، وأنَّ العبدَ يستعدّ دائمًا للقَاء الله، ويتهيَّأ لهذا المصرَع العظيم، ويسأل اللهَ الثباتَ وحسن الختام. ففي اتّباع الجنائزِ عظاتٌ وعبر، وأنت ترى القبرَ، وترى أخاك الذي طالما رأيتَه قويًّا شديدًا، ها هو الآن ينزل في هذه الحفرَة، وها هو التّراب يُهيله عليه أقربُ النّاس وأحبّهم إليه، يدَعونه في هذا اللحد، قد فارق الأهلَ والأحباب، وخلا بعمَله الذي قدّمه، إن صالحًا فهو يزداد أنسًا وسرورا، وإن سيّئًا فهو يتألَّم به، ((يتبَع الميتَ ثلاث: أهله وماله وعمله، فيرجِع الأهل والمالُ ويبقى العمل)) [7]. ففي اتّباع الجنائز عظةٌ وعبرة وتذكيرٌ لنا وعِظة لقلوبنا، وكفى بالموت واعظًا.
فتِلك حقوقٌ للمسلم على المسلم، كلّ منّا يقوم بها من غير انتظارٍ أن يكون غيرُه قد قام بها معه، لكنّها حقوقٌ يراها عليك، نؤدّيها طاعةً لله واتّباعًا لسنّة محمّد.
أسأل اللهَ أن يعينَنا وإيّاكم على كلّ خير، وأن يوفّقنا وإيّاكم للأخذ بأسبابِ السّعادة في الدنيا والآخرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه مسلم في السلام (2162)، وهو في البخاري في الجنائز (1240) بلفظ آخر.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (54) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6077)، ومسلم في البر (2560) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في النكاح (5177)، ومسلم في النكاح (1432) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فقد عصى الله ورسوله)).
[5] جزء من حديث أخرجه أحمد (2/68، 95، 127)، والطيالسي (1895)، وأبو داود في الزكاة وفي الأدب (1672، 5109)، والطبراني في الأوسط (4031)، والبيهقي في الكبرى (4/199) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (3375، 3409)، والحاكم (1502) على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، قال الألباني في السلسلة الصحيحة (254): "وهو كما قالا".
[6] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).
[7] أخرجه البخاري في الرقاق (6514)، ومسلم في الزهد (2960) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أخلاقُ الإسلام متى قام بها المسلمون ازدَاد الإيمانُ في قلوبِهم وقوِي في نفوسهم، وإنّما يُصاب المسلمون عندما يتخلَّون عن أخلاق دينِهم وعندَما تضعف أخلاقُ إسلامِهم في نفوسهم، فالإسلامُ أقوال وأعمالٌ، فلا بدّ من عملٍ بأخلاق الإسلام والتزام بها؛ لأنَّ أخلاقَ الإسلام هي التي تقوّي الإيمانَ في القلب. ومحمّد كان القرآن خلقًا له، يقول الله في حقّه: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فكان أكملَ الناس خلقًا، وكان أحسنَ الناس أدبًا، يطبِّق أوامرَ القرآن، ويجتنب نواهي القرآن، ويتأدّب بآدابِ القرآن، ويتخلَّق بأخلاق القرآن، لمَّا سئِلت عائشة عن خلق النبي قالت للسّائل: ألا تقرأ القرآن؟! قال: نعم، قالت: ألم تسمعِ الله يقول: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ ؟! [1] ، فكان القرآن خلقَه ، فهو من أعظمِ الناس إفشاءً للسلام، وأسرعِهم إجابةً للداعي، وأنصحِ الخلق للخلق، وكان يشمِّت العاطسَ، وكان يعود المرضى، وكان يتبع الجنَازة، وكان على خلقٍ كامِل. فالمسلمون مَتى تمسّكوا بأخلاق دينهم وشاعَت بينَهم أخلاقُ إسلامهم عمَلاً وتطبيقًا دلّ على وجودِ الخَير فيهم، نسأل الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، إنّه وليّ ذلك والقادِر عليه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد امتثالاً لأمر ربّكم القائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، ويقول : ((من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله بها عليه عشرًا)).
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على سيّدنا سيّد الأولين والآخرين وإمام المتقين، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الرّاشدين...
[1] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (746) بمعناه.
(1/4130)
ظاهرة الرشوة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
16/10/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب المال غريزة في النفوس. 2- الفرق بين محبة الكافر وبين محبة المؤمن للمال. 3- داء الرشوة. 4- تحريم الرشوة. 5- صور الرشوة. 6- هدايا العمال. 7- فضل الشفاعة الحسنة. 8- صحابة النبي مضرب المثل في الأمانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، حبُّ المال غريزةٌ في النفس، جُبلت النفوسُ على حبِّ المال، حكمةٌ عظيمة من ربنا جل وعلا، وَتُحِبُّونَ ?لْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وَإِنَّهُ لِحُبّ ?لْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8].
وأخبر تعالى أنَّ بالمال قوامَ حياة الناس: وَلاَ تُؤْتُواْ ?لسُّفَهَاء أَمْو?لَكُمُ ?لَّتِى جَعَلَ ?للَّهُ لَكُمْ قِيَـ?مًا [النساء:5].
لكن تلك المحبة تختلف من إنسان إلى آخر، فغيرُ المؤمن محبتُه للمال محبةٌ خارجة عن المعقول، محبةٌ تحمله عل طلبِ المال بأيّ طريقٍ كان، لا يبالي أتى المالُ من حلال أو من حرام، المهمّ الحصولُ عليه، وأما طرقُ الاكتساب والتحقّق منها فلا يبالي بذلك، حبُّ المال أعمى قلبَه، وأصمَّ أذنيه عن سماع الحق، فهو ساعٍ في طلب المال بأيّ طريق، لا يقدِّر قدرَه، وإنما يريد الوصولَ إليه، أما كونها حلالاً أو حرامًا أو مشتبهًا فتلك أمورٌ لا يبالي بها، ولا يهتمّ بها، ولا يقيم لها وزنًا، وذاك بلاء عظيم.
أما المؤمن، فهو بخلافِ ذلك، هو محبٌّ للمال، حريصٌ على اكتساب المال، لكنه يقِف عند ما حُدَّ له، وينتهي إذا نُهي، ويفكّر في المكاسب: ما هذا المكسب؟ أحلالٌ فيقدم عليه أم حرام فيبتعد عنه؟ هو يحبّ المال، لكن لا تحمله محبتُه للمال أن يكتسبَه بالطرق غير المشروعة، بل يقف ويفكِّر في هذا المال الذي سيصل إليه: ما طريق الوصول؟ أمن حلال أباحه الله، أم من حرام حرمه الله؟ فإن يكن حلالاً فإنه يظفر به، وإن يكن حرامًا ابتعدَ كلَّ البعد عنه، وحمى نفسَه من الحرام، يعلم يقينًا أنَّ الله سائله عن هذا المال: من أين أتى؟ وأين ذهب؟ ويعلم أيضًا أنه سيرحل من الدنيا بأعماله، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا، وأنه سيخلِّف هذا المالَ بعده إلى من يحسن استعمالَه، فترتفع به درجاتُه عند الله، فيكون ذلك الوارثُ خيرًا منه حيث استعمل المالَ فيما شرع الله، أم يستعمله مَن بعده فيما حرم الله عليه، فينضاف إلى وزر فعله أوزارُ من تسبّب في آثامهم والعياذ بالله.
إذًا فعلى المؤمن تقوَى الله في نفسه والتبصرُ في عواقب الأمور، وليعلمْ أن البركةَ في الطيّب النافع، وقد أمر الله المرسلين بالأكل من الطيبات فقال: ي?أَيُّهَا ?لرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ?لطَّيّبَـ?تِ [المؤمنون:51]، وأمر المؤمنين بقوله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـ?كُمْ [البقرة:172]، والطيّب ما أبيح وحلّ استعماله، والخبيثُ ما حرِّم وحرم تناولُه.
أيها المسلم، إنَّ مِن أكل الخبيث ومن المكاسب الخبيثة المحرمة أخذَ الرشوة، فالرشوة داءٌ عضال، ومرضٌ فتَّاك في مجتمع المسلمين، وبلاءٌ عظيم، ذلكم لسهولتها ويُسرها، وطريقُ اكتسابها يسيرٌ على بعض الناس، ولكن هذا المال المأخوذ بالرشوة مالٌ خبيث، سحتٌ محرّم على آخذه.
أيها المسلم، إن داءَ الرشوة داءٌ عضال، مرضٌ فتاك في مجتمع المسلمين، لا ينجو منه إلا من ملأ الله قلبه إيمانًا، وعرف عواقبَ الأمور، وتبصَّر في الواقع التبصّرَ الصحيح. فإن المالَ يغري ويحمل على كلّ سوء إلا من رزقه الله إيمانًا يردعه ويحجزه عن هذا الحرام.
داءُ الرشوة داءٌ عضال، أمرٌ محرَّم شرعًا بكتاب ربنا وبسنة نبينا وبإجماع المسلمين، الله يقول في كتابه العزيز: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]، فالرشوة أخذُ مال بالباطل، وأخذ مالٍ بلا سبب، وأخذ مالٍ بلا موجب، وإنما هو ظلمٌ وعدوان وإساءةٌ ودناءة وسوءُ فعل، وهو سحتٌ كما قال الله في حق اليهود: سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، فسَّر الصحابة السحت بأنه الرشوة، كما فسّره عبد الله بن مسعود رضي الله عنه [1] ، وأن قوله: أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ أن اليهود من أخلاقهم تعاطي الرشوة والسعي فيها، فالرشوة سحتٌ، والسحتُ خبيث، و((كلّ جلد نبت من سحت فالنار أولى به)) [2].
أيها المسلم، هذه الرشوةُ مالٌ أتاك بغير حق، مالٌ اكتسبته ظلمًا وعدوانًا، وتعدٍّ ومجاوزةٌ للحد، فهو ظلمٌ منك لمن أخذتَ منه، وبأيّ حق أخذتَ هذا المال؟ أخذتَه ظلمًا وعدوانًا، ذلكم أنَّ الرشوةَ يدفعها أحيانًا إنسانٌ ليُحكم له على خلاف الحقّ والعياذ بالله، وقد يدفعها ليُعطَى ما لا يستحقّ أن يعطَى إياه، يدفعها لمن يريدُ منه أن يعطيَه ما لا يستحقّه وما لا حقَّ له فيه وليس من أهل ذلك، يدفعُها لكي لا يؤخَذ الحقُّ منه أو يخفَّف عنه ما عليه من حق، يدفعُها أحيانًا ليقدَّم على من هو خيرٌ منه، ويقدَّم على من هو أفضل منه. هذه أسباب دفعِ الرشوةِ لمن يدفعها، والآخذ لها ـ والعياذ بالله ـ يظلمُ الناسَ ويبخسهم حقوقَهم، ويتوانَى في تنفيذِ الحقوق، ويماطل بالحقوقِ والقيام بالواجب.
فيا أيها المسلم، تفكّر في نفسك، واعلم أنَّ ما أخذتَه فإنَّ ذلك ظلمٌ وإساءةٌ منك إلى نفسك وإلى إخوانك المسلمين، بالرشوة هُضمت الحقوق، بالرشوة أُخِّرت الحقوق، وبالرشوة أخِّر ذوو الفضل، وبالرشوة عمّ الفسادُ إلا من عصم الله من الناس، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا [الأعراف:56].
أيها المسلم، إن سنةَ نبينا دلّت على تحريم هذا البلاء في أحاديثَ رواها ثلاثة من الصحابة، فيذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم)) [3] ، ويقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: لعن رسول الله الراشي والمرتشي [4] ، ويقول عبد الله بن عمر: لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش [5] ، وهو الواسطة بينهما، كلُّ أولئك لعنهم محمد ، واللعنُ حقيقتُه الطردُ والإبعاد من رحمة الله.
أيها المسلم، فاتق الله في نفسك، اتق الله في العمل الذي أنت مسؤولٌ عنه يومَ القيامة، فإياك أن تجعلَ مسؤوليتَك وسيلةً لاقتناص أموال الناس بغير حقّ، تمنع الناسَ حقوقَهم إلى أن تساومَهم على حقوقهم بجزء منها وإلا فلا يأخذوا شيئًا، تمنع الناسَ حقوقَهم إلى أن تساومَهم على شيء منها وإلا وضعتَ العراقيلَ في طريقهم وماطلتَ بهم وأتعبتَهم حتى يخضعوا ويدفعوا وإن كانوا ساخطين عليك تبغضك وتلعنك قلوبُهم، ولكن لا محيصَ لهم عن واقعهم.
أيها المرتشي، اتق الله، فإنَّك تقدِّم من ليس كفئًا للمكان لأجل رشوةٍ تنالها.
أيها المسؤول أيضًا، تفكّر في نفسك، فقد تتوانى في تنفيذِ الحقوق، وحملِ من عليه الحق على أداء الحقّ لأجل أمرٍ أخذتَه، لرشوة أخذتَها، فلا تبالي بمصالح الناس، إن أتاك من تظنّ أنه ينفعك بجاهه وماله قمتَ بالواجب خيرَ قيام، ونفَّذتَ المسؤولية، وأدَّيت الحقوقَ كاملة، ولكن إن أتاك من لا ترجو جاهَه ولا ترجو مالَه تناسيتَه وأعرضتَ عنه، وما كأنه ذو حق يستحقّ حقَّه، لماذا؟ لأن ضميرَك قد فسَد، قلبك قد ضعُف إيمانُه، فأنتَ لا تؤدّي الأمانةَ العملية، لا تؤدّيها إلا طمعًا ورجاء، وإلا فأنت ألأمُ وأقلُّهم دينًا ومروءة.
أيها المسلم، إياك أن تستغلَّ مسؤوليتَك في اقتناص ذلك المال، فوالله إنه مالٌ ممحوق البركة، وإنه مالٌ سيعود عليك بالضرر إن عاجلاً أو آجلاً، ومالٌ سيُفسد مالك الطيّب، ويفسد قلبَك، ويجعلك مريضَ النفس، لا تؤدِّي أمانَة، ولا تنفِّذ حقًا، ولا تقوم بواجب، فراقب اللهَ قبل كلّ شيء، وخَفِ الله قبلَ أن تخاف الخلق، راقب اللهَ قبل أن تراقبَ الناس، إنّ هذا الداءَ لا يمنع الإنسانَ منه إلا إيمانٌ صادق استقرَّ في قلب العبد، علم أن أمانةَ المسؤولية تنفيذُ الواجبات، والقيامُ بحق الأمانة خيرَ قيامٍ أُعطِي أو لم يعط.
أيها المسلم، الرشوةُ تأخذ صورًا شتى وألوانًا متعددة، فبعضهم قد يصرِّح بطلبِها، وإن لم يصرِّح بطلبها حاولَ بكل وسيلةٍ أن يلمِّح ويشير لذلك الإنسانِ بطلبها بأيِّ صورةٍ كانت، إما هدية يعطاها، أو مراعاة في أسعار قيم سلعة [يروّجها]، أو تسهيل مهمّته أو تذليل الصعاب له في أيّ قضيةٍ ما، المهمّ أنه يساوم على تنفيذ الحقوق لمصلحة نفسه التي يرجوها، والمؤمن حقًا يخاف اللهَ ويتقيه ويراقبه في كل أحواله.
أيها المسلم، إنَّ نبيَّنا يقول لنا: ((من استعملناه على عمل، فرزقناه عليه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) [6] ، ويقول مخاطبًا لعُمّاله: ((هدايا العمّال غلول)) [7] ، يحذّرهم من أن يقبَلوا الهدايا من الناس؛ لأنهم لم يُهدوا إليهم إكرامًا لذواتهم، ولا محبةً لهم، لكن لأجل مناصبهم ومواقعهم، أهدَوا إليهم ليستميلوا قلوبَهم، ويخدعوا نفوسَهم، ويذلُّوهم ويحطِّموا شخصيَّتَهم الإيمانيَة القويَّة، ولهذا النبي بعث رجلاً من أصحابه مزكِّيًا، فجاءهم وقال لهم: هذا لكم، وهذا أهدِي إليَّ، فخطب النبي أصحابَه قائلاً: ((ما بالي أستعملُ الرجلَ منكم على العمَل، فيأتيني ويقول: هذا لكم، وهذا أهدي إليَّ؟! ألا قعد في بيت أبيه وأمِّه لينظرَ أتأتيه هديتُه أم لا؟!)) [8] ، وقال أيضًا: ((من استعملناه على عمل فكتمَنا منه مخيَطًا فما دونه جاء به يوم القيامة)) ، فقام رجل أسود من أصحابه فقال: يا رسول الله، اقبَل مني عملَك، قال: ((ماذا؟)) قال: سمعتُك تقول كذا وكذا، قال: ((وأنا أقول: من كتمنا مخيَطًا فما دون جاء به يحمله يوم القيامة)) [9].
أيها المسلم، ما أخذتَه اليوم في الدنيا فإنَّك لا توفَّق فيه لخير، ولا تُعان فيه على طاعة، بل يكون سببًا لقسوة قلبك، وفساد دينك، ومحق بركتك، [وإفشال الأمر] في رزقك، فاحذَر ذلك أخي المسلم، وتوقَّ الحرامَ ما استطعتَ لذلك سبيلاً، أدِّ واجبَ الأمانة، أدِّ واجب المسؤولية في كلّ أحوالك لتكونَ سعيدًا يومَ لقاء الله، لتخرجَ من هذه الدنيا وأنت مطمئنٌّ على مكاسبك وأنَّها مكاسبُ طيبة، احذر المالَ الخبيث، ولا يهمّك كثرة المال، وإنما يهمّك حلُّه من حرمته.
فيا أيها المسؤول، اتق اللهَ وراقب الله، وعامل الناسَ جميعًا بالعدل، واتق الله فيما وُلّيتَ عليه، فإنَّ اللهَ سائل كلَّ راع عما استرعاه.
أسأل الله أن يرزقَنا وإياكم القناعةَ بالحلال، وأن يحفظَنا من الحرام، وأن يعينَنا على أنفسنا، ويعيذَنا من شر أنفسنا والشيطان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـ?رَةً عَن تَرَاضٍ مّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/147)، والطبري في تفسيره (6/239)، والطبراني في الكبير (9/226)، وعزاه أيضا في الدر المنثور (3/80) للفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر.
[2] أخرجه ابن جرير (10/323) عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر مرفوعا، قال الحافظ في الفتح (4/454): "رجاله ثقات ولكنه مرسل". وله شاهد من حديث جابر أن النبي قال لكعب بن عجرة: ((أعاذك الله من إمارة السفهاء...)) في حديث طويل أخرجه عبد الرزاق (20719)، وأحمد (3/321)، والبزار (1609)، وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422)، ووافقه الذهبي، وهو عند الترمذي: كتاب الجمعة، باب: ما ذكر في فضل الصلاة (614) من مسند كعب، وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (5567)، وصححهما الألباني في صحيح الترغيب (867، 1728، 1729).
[3] أخرجه أحمد (2/387) واللفظ له، والترمذي في الأحكام (1336)، والحاكم (7067)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (585)، وابن حبان (5076)، وهو في صحيح الترغيب (2212).
[4] أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية (3580)، والترمذي في الأحكام (1337)، وابن ماجه في الأحكام (2313)، وابن الجارود (586)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5077)، والحاكم (4/102-103)، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في الفتح (5/221)، والألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3753).
[5] قال العجلوني في كشف الخفاء (2/186): "رواه أحمد بن منيع عن ابن عمر وسنده حسن". وورد من حديث ثوبان رضي الله عنه بمثله، أخرجه أحمد (5/279) وابن أبي شيبة (6/549، 587)، والطبراني في الكبير (1415)، وأبو يعلى (6715)، والطحاوي في شرح المشكل (5655)، قال المنذري في الترغيب: "فيه أبو الخطاب لا يعرف"، وقال الهيثمي في المجمع (4/498-499): "وهو مجهول"، وذلك لأنه لم يرو عنه إلا ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1344).
[6] أخرجه أبو داود في الخراج (2943) من حديث بريدة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (2369)، والحاكم (1/563)، وأقره الذهبي، وقال الشوكاني في النيل (4/232): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (779).
[7] أخرجه أحمد (5/424)، والبزار (3723) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، وقال البزار: "هذا الحديث رواه إسماعيل بن عياش واختصره وأخطأ فيه، وإنما هو عن الزهرى عن عروة عن أبي حميد أن النبي بعث رجلا على الصدقة.."، وضعفه ابن كثير في تفسيره (1/423)، والحافظ في الفتح (5/221، 13/164)، والهيثمي في المجمع (4/200، 5/249)، وذكر له الألباني شواهد في الإرواء (2622).
[8] أخرجه البخاري في الأيمان (6636)، ومسلم في الإمارة (1832) من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه بنحوه.
[9] أخرجه مسلم في الإمارة (1833) بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، روى أبو داود رحمه الله في سننه عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من شفع لأخيه شفاعةً فأهدى له هديةً فقبلَها فقد أتى بابًا من أبواب الربا)) [1].
انظر يا أخي، إذا شفعت لأخيك شفاعةً وأعطاك هديةً إكرامًا لك ولشفاعتك فلا تأخذْها، لماذا؟ لأنَّ ما فعلتَه أمرٌ [أنت] مطالبٌ به شرعًا، اللهُ جل وعلا أمرَ المؤمنَ أن يسعى في مصلحة أخيه المؤمن، ورغّب في الشفاعة الحسنة: مَّن يَشْفَعْ شَفَـ?عَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مّنْهَا [النساء:85]، وأما أن تتَّخذ شفاعتَك وجاهَك وسيلةً إلى أخذ المال، فهذا المال الذي تأخذه مكسبٌ سيئ، قال بعض أئمة المالكية رحمهم الله: "من كان له جاهٌ عند مسؤول، فاتَّخذ جاهَه وسيلةً إلى أخذ المال [عن طريق] قضاء مصالح بعض الناس، فإن ذلك رشوةٌ ملعون فاعلُها"؛ لأن المسلمَ بجاهه ينفع إخوانَه المسلمين، ويسعى في نفعهم، وإذا لم تنفعهم فإياك أن تضرَّهم، لأنَّك إذا أخذتَ مكسبًا على تلك الشفاعة، فأنت بهذا خائنٌ لأمانتك، وأنت بهذا معطِّل ما يدعو إليه إسلامُك من سعيٍ في مصالح الأمة وعدم الاتجار بهذه الأمور.
فالمسلم إذا وفَّقه الله لنفع إخوانه المسلمين فليبذُل جهدَه بما يستطيع، وأما أن يساومَ على هذه المنافع، ويجعل جاهَه وسيلة إلى أخذ أموال الناس، أو يتغاضوا في أمور، فإنَّ ذلك حرامٌ عليك، ومالٌ أخذته بغير حقه، فتُب إلى الله منه، وتخلّص منه، وإياك أن تخدعَك الدنيا، فتهلكَك وتفسدَ دينك.
أيها المؤمن، إن الإيمانَ الصادقَ يمنع صاحبَه عن أكل الحرام، يحول بينه وبين المكاسب الخبيثة، هذا الإيمان الصادق، ومن ادعى الإيمانَ وهو لا يبالي بمكاسبه ولا يتقي الله فيها دلَّ على كذبه في دعوى صدق الإيمان.
أيها المسلم، إن أصحابَ محمد الذين تربَّوا على يده وعلى توجيهاته العظيمة كانوا أصلحَ الناس، وأحسنَهم تعاملاً، وأبعدَهم عن الحرام بكل صوره.
بعث محمدٌ عبدَ الله بن رواحة إلى يهودِ خيبر ليخرِص لهم، فيُعطي النبيّ ما له ويعطيهم ما لهم، فكأنهم قالوا له: زدتَ علينا يا ابن رواحة، قال: ما أخذتُ لنفسي فخذوه أنتم، وما دفعتُه لكم فادفعوه إليّ، إني لم آتِ إلا لأنصفكم، فلمَّا رأوا ذلك منه أهدَوا له هدايا لأجل أن يتواضَع في الخرص، وهو واحدٌ ليس معه إنسان آخر، فقال: ما جئتُكم لأنتقص أموالَكم، ولكن جئتُ لأعدل بيني وبينكم، فقالوا: بهذا قامت السمواتُ والأرض [2].
أولئك القومُ الذين صدقوا اللهََ في إيمانهم، وصدقوا اللهَ في مسؤولياتهم، فحمَوا دينَهم، فصاروا أسعدَ الناس وأفضلَهم. قال بعضُ السلف: "والله، ما سبقَهم أبو بكر بكثرةِ صلاةٍ ولا صيام، ولكن بإيمانٍ صحيح وقرَ في قلبه"، ذلك الإيمان الصادق الذي تظهرُ آثارُه عند الامتحان وطغيان الدنيا وشهواتها، فالمؤمن الصادق الإيمانِ يحجزه إيمانُه عن سرقةٍ وعن ربًا وعن رشوة وعن استغلالِ منصبٍ فيما يعود على ثروته المالية، يمنعه إيمانُه ويحجزه عن الحرام، ويقيه شرَّ نفسه وطغيانَ شهواته. أسأل الله لي ولكم السداد في القول والعمل.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أبو داود في البيوع (3541)، وأحمد (5/261)، والروياني (1228)، والطبراني في الكبير (8/238)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3025).
[2] قصة بعث النبي ابنَ رواحة رضي الله عنه إلى يهود خيبر للخرص ومحاولتهم إغراءَه بالرشوة أخرجها مالك في الموطأ (1213)، ومن طريقه البيهقي في السنن (4/122) عن سليمان بن يسار مرسلا، وأخرجها ابن حبان (5199)، والبيهقي (6/114) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجها عبد الرزاق (4/122)، والطبراني في الكبير ـ كما في المجمع (4/122) ـ عن الزهري مرسلا، وأخرجها الطبراني في الكبير ـ كما في المجمع (4/121-122) ـ عن عروة مرسلا. وقد جاءت من طرق أخرى كثيرة ليس فيها ذكر الرشوة، فأخرجها أحمد (3/296، 367)، وأبو داود في البيوع (3414) عن جابر رضي الله عنهما، وأخرجها أبو داود في البيوع (3410)، وابن ماجه في الزكاة (1820) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجها أحمد (6/163)، وأبو داود في الزكاة وفي البيوع (1606، 3413)، وابن خزيمة (2315) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجها البزار ـ كما في المجمع (4/121) ـ، والبيهقي (6/715) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجها مالك (1412) عن ابن المسيب مرسلا.
(1/4131)
الحث على صلاة الجماعة
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
23/10/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصلاة وأهميتها. 2- فضل صلاة الجماعة. 3- الأمر بالصلاة في الجماعة. 4- عناية السلف الصالح بصلاة الجماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، عظَّم الله شأنَ الصلواتِ الخمس، فجعلها ثانيَ أركان الإسلام، بل هي عمودُ الدين، وأمر بالمحافظة عليها: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? [البقرة:238]، ومدح المحافظين عليها: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّـ?تٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:34، 35]، وأوجبَ على المسلم أن يؤديَها في الأوقات التي حدَّدها ربّ العالمين: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?بًا مَّوْقُوتًا [النساء:103]، أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وأمر المسلمين أن يؤدُّوها جماعةً في المساجد، فجعل المساجدَ محلاً لأداء تلكم الصلوات الخمس، وأخبر تعالى أن [المحافظة] على أدائها في المساجد دليلٌ على ما في القلب من إيمان: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، وأثنى على الذين يعْتنون بالمسجد ويؤدون الفرائضَ فيه: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لأبْصَـ?رُ لِيَجْزِيَهُمُ ?للَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38].
أيها المسلم، وأداؤُها في الجماعة اقتداء بسيد الأولين والآخرين، لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى ?لتَّقْوَى? مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ [التوبة:108]، ألا وهو مسجده وإن كان قباء كذلك، فأولى من قباء مسجدُ محمد.
أيها المسلم، إن إقامةَ الصلاة في الجماعة إظهارٌ لهذه الشعيرة العظيمة، أعني فريضة الصلاة، فأداؤها في المساجد تعظيمٌ لهذه الشعيرة، ذ?لِكَ وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
فُرِض الأذان ليعلم الناسَ بوقت الصلاة، ويدعوهم إلى الاجتماع لأدائها، استشارَ النبي أصحابَه: بأي وسيلةٍ يُعلم الناسَ بدخول وقت الصلاة وإتيانهم إلى المسجد؟ فأشار بعضهم بنار توقد، وقالوا: تلك النار شعار المجوس، وأشاروا بناقوس النصارى، فلم يقبل ذلك، فرأى عبد الله بن زيد في المنام رجلاً معه ناقوس يضرب به فقال: أتبيعني هذا؟ قال: وما تريد منه؟ قال: أُعلم الناس بالصلاة، قال: ألا أدلّك على خيرٍ من ذلك؟ تقول: الله أكبر، الله أكبر... فذكر الأذان، فأخبر به النبي ، فقال: ((رؤيا حق، وألقِ على بلال فإنّه أندى منك صوتًا)) [1].
أيها المسلم، هديُ نبيك أداءُ الصلوات الخمس في المسجد، هديُ أصحابه الكرام والتابعين وتابعيهم بإحسان وكلّ من اقتدى بالرعيل الأول، فإنَّه يرى أن أداءَ الصلاة جماعة في المسجد أمر مطلوب وعمل صالح، دلّ عليه كتابُ الله وسنة محمد ، ألا تسمع الله يقول: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ وَآتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَ?رْكَعُواْ مَعَ ?لرَّاكِعِينَ [البقرة:43]؟! فأضاف الركوعَ إلى جماعة المسلمين، أي: صلوا مع المصلين، والله أمر بها نبيَّه في حال اشتداد الخوف ومصافَّة الأعداء: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ?لصَّلَو?ةَ الآية [النساء:102].
أيها المسلم، إن المسلمين مُجمِعون على فضل صلاة الجماعة، وأن أداءَها في المسجد خيرٌ وفضل كبير، يرى بعضهم وجوبَها، ويرى أن الأحاديثَ الصحيحة دالةٌ على وجوب أدائها في المسجد، كما في أحاديث تدلّ على وعيد من تخلَّف عن صلاة الجماعة.
أيها المسلم، إن أداءَ الصلوات جماعةً في المسجد فيه خيرٌ ومصالحُ لك في آجل أمرك وعاجله، ففي اجتماع الجماعة في المسجد تآلفُ القلوب، اجتماع الكلمة، تعلّمُ الجاهل، تذكيرُ الغافل، سلامةٌ من الوساوس، وفي تعاهدِ المسجد كلَّ يوم وليلة خمسَ مراتٍ أعمالٌ صالحة، حسناتٌ تُكتب لك، سيئاتٌ تحَطّ عنك، صلاةُ الملائكة واستغفارُهم لك، حصولُ الأجر العظيم، رضا الله، ثمّ طاعة محمد.
أخي المسلم، إن تخلّفَك عن أداء الصلاة جماعة ربّما سبَّب لك تأخيرَها عن وقتها، وربّما سبَّب لك استخفافًا بها وتهاونًا بها وقلّة الإحسان في أدائها، ففي المسجد الخيرُ الكثير والعمل الصالح، ملائكة الرحمن يتعاقبون فينا الليلَ والنهار، ويجتمعون في صلاةِ الفجر، ثم يصعدون إلى ربّهم فيسألهم وهو أعلم: كيف أتيتُم عبادي؟ يقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون [2].
أخي المسلم، فكن حريصًا على الخير جُهدَك، واغتنم حياتَك، فإنك في هذه الدنيا دار العمل، وسترى ثوابَ ذلك العمل يوم قدومك على الله.
أخي المسلم، استمع إلى نبيك وهو يحثّك على أداء الصلوات في المسجد جماعة، فعسى ذاك أن يؤثّرَ في نفسك، وعساه أن يقوّيَ قلبك ويُعظم الرغبةَ في نفسك، فتتجاوز كلَّ العقبات، وتتخطَّى كلَّ المعوّقات، وتنهضَ إلى المسجد برغبة ونفس تحبّ الخيرَ وتسعى إليه.
يقول أبو هريرة رضي الله عنه الصحابي الجليل، أكثرُ الصحابة حفظًا لسنة محمد ، رضي الله عنه وأرضاه يقول: قال رسول الله : ((صلاةُ الرجل في المسجد تضاعَف على صلاته في بيته وسوقه خمسًا وعشرين ضعفًا، ذلك أنه إذا توضَّأ فأحسنَ الوضوءَ، لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها حسنة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلَّى لم تزَل الملائكةُ تصلِّي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صلِّ عليه، اللهم اغفِر له، الله ارحَمه، ولا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاةَ ما لم يؤذ أو يحدث)) [3].
فيا أخي، وأنت تسمَع هذه السنةَ الصحيحة عن المعصوم هل يحقّ لك تجاهلُها؟! هل ترضى لنفسك بأن تتجاهلَها، وتغفل عنها، وتفوِّت نفسَك الخير الكثير؟!
إذا خرجتَ قاصدًا المسجد قدمٌ ترفعها حسنة، قدمٌ تضعها سيئة تُحَطّ عنك، أتيتَ المسجد فصليتَ على النبيّ ودخلت وصليتَ تحية المسجد، تحفّك ملائكةُ الرحمن، تصلّي عليك، تدعو لك بالمغفرة والرحمة، وما أعظم ذلك الثواب، تقفُ إذا أتى الإمام، تؤمّن وراءَ الإمام، ((إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنَّه من وافق تأمينه تأمينَ الملائكة غفر الله له)) [4]. تجيبُ الإمام عندما يقول: سمع الله لمن حمده، ربَّنا لك الحمد، تسلِّم على إخوانك، ويسلمون عليك، ورُبَّ عمل صالحٍ فعلته سوى ذلك.
يا أخي، كونُ قلبك معلَّقًا بالمسجد هذا ثواب عظيم، وأحدُ السبعة الذين يظلّهم الله تحت ظله يوم القيامة رجلٌ معلَّق قلبُه بالمساجد، يحنُّ إليها، ويشتاق إليها، ويتطلّع كلَّ آنٍ متى وقتُ الصلاة، فالقلبُ يقظ، والنفس حريصةٌ على الخير ومطمئنة إليه.
أخي المسلم، اسمع ثوابًا عظيمًا أيضًا، يقول نبيك : ((من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له نزلاً في الجنة كلَّما غدا أو راح)) [5] ، فما أعظمَ هذا الثواب، ومن يرضى أن يضيِّعه؟! واسمع أيضًا قوله : ((بشِّر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التامِّ يوم القيامة)) [6] ، واسمع بشرًى أخرى في السنن يقول : ((من حافظ على الصلاة أربعين يومًا في جماعة كتب الله له براءتين: براءةً من النفاق وبراءة من النار)) [7].
فيا أخي، هذه البشرى السارةُ من نبيك ، أنك إذا استمررت أربعين يومًا تدرك تكبيرة الإحرام محافظًا على الجماعة يكتب الله لك بذلك براءتين: براءة من النفاق وبراءة من النار، وعدٌ لك بالفوز بجنات ربّ العالمين.
أيها المسلم، إن سلفنا الصالحَ يعتنون بالمسجد، ويهتمّون بأداء الصلاة فيه، يقول عبد الله بن مسعود الصحابي الجليل، أحدُ المهاجرين والسابقين الأولين، يقول رضي الله عنه: (من سرَّه أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلواتِ الخمس حيث ينادَى بهن، فإنَّ الله شرع لنبيكم سننَ الهدى، وإنّهنّ من سنن الهدى، ولو أنّكم صليتم في بيوتكم كما يصلّي المتخلف في بيته لتركتُم سنةَ نبيكم، ولو تركتُم سنةَ نبيكم لضللتم)، ثم وصف أصحابَ محمد وحرصَهم على الخير فقال: (ولقد كان يُؤتى بالرجل يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف) [8] ، ولقد كان يُؤتى بالرجل يُهادى يعني يعضده رجلان حتى يُقام في الصفّ، حرصًا على هذا الفضل، واغتنامًا لهذا الثواب العظيم.
أخي المسلم، تقول عائشة أمُّ المؤمنين رضي الله عنهما: (من سمع النداء فلم يجب لم يرِد خيرًا، ولم يُرَد به خير) [9].
فلا يليق بك ـ أيها المسلم ـ أن تسمعَ نداءَ الله كلَّ وقت وأنتَ غافل في بيتك، لا شيء يعوقك، لا مرض، لا تعب، راحةٌ ونعمة، وبإمكانك الوصولُ إلى المسجد، لو أردتَ حاجةً قليلة لحرَّكت السيارةَ ولو كيلوات، وهذا المسجدُ تسمع النداءَ ومع هذا تُصِمّ أذنيك، ويغفل قلبُك، ولا تهتمّ بهذه الفريضة، ولا تعتني بها، ولا تقيم لها وزنًا، وربّما تتابعت الأوقات وأنت ما ركعتَ فيها لله ركعة، فيا لها من خسارة عظيمة، يا لها من خسارة، ويا لها من نقصٍ على الإنسان في دينه.
فاتق الله ربَّك أيها المسلم، والزَم أداءَ الصلوات في المسجد، لتكون من المفلحين، لتكونَ من المحافظين عليها، داوم على ذلك، واغتنم فرص الحياة، فإن من حافظ عليها في نشاطه جعلَ الله محبَّتها في قلبه، فيتحرَّك لها ولو كان كبيرًا، ((ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)) [10] ، لو يعلمون ثوابَها ثوابَ الجماعة لأتوا لها ولو حبوًا؛ لأنَّ مَن عظُم الثواب عنده قوِي الطلبُ وعظُمت الرغبة.
فلنتق الله في أنفسنا، ولنحافظ على هذه الصلواتِ، ولنعتنِ بها حقَّ العناية، عسى اللهَ أن يجعلَنا وإياكم من المقبولين، وعسى الله أن يمنَّ علينا وعليكم بالاستقامة والثبات على الحق، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/43)، وأبو داود في الصلاة (499)، والترمذي في الصلاة (189)، وابن ماجه في الأذان (706) عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه البخاري كما في الدراية (1/111)، وابن الجارود (158)، وابن خزيمة (363، 371)، وابن حبان (1679)، والنووي في شرح مسلم (4/77)، وهو في صحيح أبي داود (469).
[2] كما ثبت ذلك من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري في المواقيت (555)، ومسلم في المساجد (632).
[3] أخرجه البخاري في البيوع (2119)، ومسلم في المساجد (649) بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الأذان (780)، ومسلم في الصلاة (410) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في الأذان (662)، ومسلم في المساجد (669) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلام (561)، والترمذي في كتاب الصلاة، باب: ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة (223) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه مرفوع هو صحيح مسند وموقوف إلى أصحاب النبي ولم يُسند إلى النبي "، وهو في صحيح أبي داود (525). وجاء من حديث سهل بن سعد وأنس وأبي سعيد وزيد بن حارثة وعائشة وابن عباس وابن عمر وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري وأبي أمامة رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (2/30-31).
[7] أخرجه الترمذي في الصلاة (241) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال: "وقد روي هذا الحديث عن أنس موقوفا، ولا أعلم أحدا رفعه إلا ما روى سلم بن قتيبة عن طعمة بن عمرو عن حبيب بن أبي ثابت عن أنس، وإنما يروى هذا الحديث عن حبيب بن أبي حبيب البجلي عن أنس بن مالك قوله، حدثنا بذلك هناد حدثنا وكيع عن خالد بن طهمان عن حبيب بن أبي حبيب البجلي عن أنس نحوه ولم يرفعه"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (2652).
[8] أخرجه مسلم في المساجد (654).
[9] أخرجه عبد الرزاق (1/498)، وابن أبي شيبة (1/303)، والبيهقي (3/57).
[10] أي: صلاة الفجر وصلاة العشاء، أخرجه البخاري في الأذان (657)، ومسلم في المساجد (651) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
أيها المسلم، إن نبيَّنا كان يعظِّم أداءَ الصلاة في المسجد ويهتمّ بذلك، ويبحث عن أصحابِه من غابَ ومن حضر، فيقول: ((لقد هممتُ أن آمرَ بالصلاة فتُقام، ثم آمرَ رجلاً فيؤمّ الناسَ، ثمَّ انطلق إلى أقوام لا يشهدون الصلاةَ، فأحرّق عليهم بيوتَهم)) [1] ، وقال أيضًا: ((ولولا ما فيها من النساء والذريّة لحرقتُها عليهم)) [2] ، فهم يصلّون لكنّهم لا يشهدون الجماعةَ، لا يحضرون المسجدَ، فهمَّ أن يعاقبَهم؛ لأنهم تركوا واجبًا وارتكبوا معصية، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (كان الرجلُ إذا تخلّف عن العشاء والفجر أسأنا به الظنَّ أن يكون نافق) [3].
فيا أخي، هل ترضى لنفسك أن تدخلَ منزلك، ويمضيَ العصر والمغرب والعشاء والفجر، وما خرجتَ لتؤدّيَ لله الفريضة، ولو دُعِيت إلى قيل وقال وإلى ترَّهات ومجالسَ الله أعلم بحقائقها، لكنت أسرعَ الناس ذهابًا لأيّ مكان، ولكن المسجد تكرهُه، وتبغضُ المسجد، وتنفر منه، ولا ترتاح نفسُك فيه، لماذا؟ لضعف الإيمان، لقلة الإيمان، لو كان في القلب إيمانٌ قويّ لعظمتِ الرغبةُ في المسجد، وألفتَ المسجدَ وأحببتَه، فاتق اللهَ في نفسك، وأمرْ أهلَك، مُر أولادَك ومن لك عليهم الكلمةُ أن يخرجوا لأن يؤدُّوا هذه الفريضة في المساجد، تعظيمًا لهذه الشعيرة، طاعة لله ورسوله، وأمرًا بمعروف ونهيًا عن منكر، فإنَّ كلاً مسؤولٌ عمَّا استرعاه الله إياه، وإذا اعتادَ المسلم هذه الصلواتِ الخمس اقتدى به أهلُ بيته ومن معه ومن يتبعه، اقتدَوا به في هذه السنة، وأحيَوها وعظَّموها، فكن ـ يا أخي ـ معظِّمًا لها، مطيعًا لربك.
أسأل الله أن يقبَل مني ومنك صالح العمل، وأن يمنّ علينا بالثبات على الحق والاستقامة عليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نبيُّنا محمد في آخر حياته، وقد اشتدَّ به المرض، لما نشط في بعض الأيام خرج إلى الصحابة يُهادى بين علي والعباس رضي الله عنهما، حتى جلس فصار الصديق عن يمينه، فكان يصلي بالناس، ويقتدي الصديق برسول الله، ويقتدي الناسُ بالصديق، فانظروا إليه كيف يحنُّ إلى هذه الصلوات، كيف يحنّ إلى هذه الجماعة، مع أنه قد نهكه المرض، لكن حبّ الصلاة في المسجد هو خلقه الدؤوب ، فاقتدُوا به تفلحُوا، وتأسَّوا به لتكونوا من أهل الخير والصلاح، جعلني الله وإياكم من المحافظين على المسجد، المعتنين بهذه الصلوات، المعظِّمين لها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وارض الله عن صحابته الكرام...
[1] أخرجه البخاري في الأذان (644)، ومسلم في المساجد (651) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] هذه الرواية عند الطيالسي (2324)، وأحمد (2/367) من طريق أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (2/42): "أبو معشر ضعيف".
[3] أخرجه ابن أبي شيبة (1/292)، والبيهقي في الشعب (3/56) بنحوه، وصححه ابن خزيمة (1485)، وابن حبان (2099)، والحاكم (764).
(1/4132)
مفهوم الأمانة في الإسلام
الإيمان
خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
30/10/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رعاية الأمانة من أخلاق المؤمن. 2- دين الله تعالى أمانة. 3- أمانة التوحيد والعبادة. 4- أمانة الطهارة والصلاة. 5- أمانة الزكاة. 6- أمانة الصيام والحج. 7- أمانة الوالدين والأرحام. 8- أمانة التعامل مع الناس. 9- أمانة الأموال. 10- أمانة الزوجة والأولاد. 11- أمانة الشهادة والتحقيقات. 12- أمانة الوظيفة. 13- عظم الأمانة وأصناف الناس تجاهها. 14- أمانة الكلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنَّ ربَّنا جلّ جلاله ذكر في كتابه العزيز أخلاقَ المؤمنين، ذكر صفاتِ المؤمنين، ذكرها مادحًا لهم على فعلها، مُثنيًا عليهم، مبيِّنًا الثوابَ الذي أعدَّه لهم في تخلِّقهم بهذه الأخلاق الكريمة، وهي دعوةٌ إلى المسلمين جميعًا لأن يتخلقوا بتلكم الأخلاق، فإن المؤمنَ يقرأ كتابَ الله، ويرى صفاتِ أهلِ الإسلام، فيعمل بها دينًا يدين اللهَ به.
فمن تلكم الأخلاق الكريمة رعايةُ الأمانة، فقد ذكر الله في موضعين من كتابه هذه القضيةَ فقال في سورة "قد أفلح المؤمنون" لما عدَّ صفاتِهم قال في أثنائها: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ [المؤمنون:8]، ثم قال: أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:10، 11]، وقال في سورة المعارج: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـ?د?تِهِم قَائِمُونَ [المعارج:32، 33]، إلى أن قال: أُوْلَئِكَ فِى جَنَّـ?تٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:35].
أيها المسلم، إن الأمانةَ في كتاب الله وفي سنة محمد شاملة لما بينك وبين ربك، ولما بينك وبين نفسك، ولما بينك وبين عباد الله عمومًا.
أيها المسلم، وأعظم أمانةٍ اؤتمنتَ عليها دينُ الله وشرعُه الذي لأجله خلقك، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى? شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـ?ذَا غَـ?فِلِينَ [الأعراف:172]، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ?عْبُدُونِى هَـ?ذَا صِر?طٌ مُّسْتَقِيمٌ [يس:60، 61].
فأنتَ مؤتمنٌ على توحيد الله بإخلاصك لله، وأن يكون إيمانُك إيمانًا قوليًا وعمليًا، ليس كإيمان المنافقين، آمنتْ ألسنتهم وكفرت قلوبُهم، لكن المؤمن صادقُ الإيمان، فإيمانه ظاهر وباطن، وقد ذكر الله عن المنافقين خلافَ ذلك: وَإِذَا لَقُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى? شَيَـ?طِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءونَ [البقرة:14].
أيها المسلم، أنتَ مُؤتمنٌ على عبادة الله التي افترضَها وأوجبَها عليك، فأنتَ مؤتمَن عليها كلِّها لتؤدِّيها على الوجه المطلوب؛ لأن الله جلَّ وعلا لا يقبل عملَ عامل إلا إذا كان ذلك العمل خالصًا لوجهه الكريم، وكان ذلك العمل مطابقًا لكتابِ الله وسنة محمدٍ ، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
فالصلوات الخمس التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام أنتَ مؤتمنٌ عليها، مؤتمنٌ على أدائها، مؤتمنٌ على وقتها وأن تؤدّيَها في الوقت الذي أراد الله، مؤتمنٌ على أدائها كاملةً الأركان والواجبات، لتكون صلاةً متقبَّلة بتوفيق من الله، ونبينا يقول: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) [1]. كما أنك مؤتمنٌ على وضوئك، ليكون هذا الوضوء وضوءً كاملاً، أسبغتَ الوضوء، وأتممته على الوجه الشرعي، رأى النبي بعضَ أصحابه يتوضؤون وأعقابهم تلوح لم يصبها الماء فنادى بأعلى صوته: ((ويل للأعقاب من النار)) [2] ، ورأى رجلاً من أصحابه وفي [قدمه] لمعة لم يُصبها الماء فقال: ((ارجع فأحسن وضوءك)) [3] ، وما ائتمن الله عبدًا على شيء ما ائتمنه على غسل الجنابة. فأنت مؤتمَن على هذه الصلواتِ، فمن حفِظها وحافظ عليها كانت له نورًا ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا نجاةً ولا برهانًا يوم القيامة.
زكاةُ أموالك الله مؤتمنُك عليها، كان محمد يبعث عمالَه لخرص الحبوب والثمار وزكاة المواشي من الإبل والبقر والغنم، وما كان يسألهم عن زكاة النقدين، بل تلك أمانةٌ بين العبد وبين ربه، والله سيحاسبه عليها، إن أداها الأداء الكامل، وإلا فالحساب غدًا. فأنت مؤتمَن على زكاة مالك، هل أحصيت زكاة مالك؟ هل دقَّقت الحساب؟ هل أوصلتَها إلى مستحقّيها؟ هل كنتَ معتنيًا أم كنتَ مفرّطًا ومهملاً؟
صومُك لرمضان سرٌّ بينك وبين الله، ولمَّا كان كذلك عظُم ثوابُه وجزاؤه، فهو أمانة بين العبد وبين ربه، لا يعلمه إلا الله، لذا جزاؤه جزاءٌ لا يعلم قدره إلا الله؛ لأنه من الصبر، والصبر ليس له جزاء إلا الجنة، إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
حجُّك لبيت الله الحرام [أنت] مؤتمَن على أركان الحج وواجباته، وهل سلم حجك من النواقص أم لا؟ وكل ذلك أمانةٌ بينك وبين ربك.
أنت مؤتمَن على الأبوين ولا سيما عند كبرهما وضعف قوَّتهما وهزالهما واحتياجهما إلى من يرعاهما، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]. فأنت مؤتمَن على أبويك، وأيّ أمانة أعظم من هذه الأمانة، أن ترعاهما وتخدمهما وتقوم بحقهما عند ضعف قوّتهما وعجزهما، فقد وجب حقّهما عليك، فأدِّه أمانةً وديانة.
أولادُك من بنين وبنات هم أمانةٌ في عنقك من حيث التربية والتوجيه، ومن حيث رعايةُ الأخلاق والسلوك، ومن حيث التأكّد من حياتهما وما هي تصرفاتهما على الوجه المرضي، فأنت مؤتمَن عليهما، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. مؤتمَنٌ عليهم في العدل فيما بينهم، وعدم تفضيل بعضهم [على] بعض. مؤتمَن على البنات باختيار الأزواج الأكفاء، وعدم الامتناع عن [تزويج] من هو كفء لها، والقيام بذلك خيرَ قيام.
أنت مؤتَمن ـ أيها المسلم ـ على رحمك من حيث الصلة، والقيام بالواجب، ورعاية حقّ الرحم، وسدّ حاجته، وجبر نقصه، فذاك أمانة؛ لأن الله يقول: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ [النساء:1].
أيها المسلم، تعامُلك مع عباد الله أمانةٌ في عنقك، فالله سائلك عن ذلك، إن كنتَ من أهل البيع وأرباب التجارة فالله سائلُك ومؤتمنك على تجارتك، الله قد ائتمنك على هذا، وسيسألك عن هذه الأمانة يوم لقاه. [أنت] مؤتمَن في تجارتك، هل كانت تلك التجارة تجارةً مباحةً شرعًا، أمورًا أباحها الشرع، أم تجارتك تجارةُ محرماتٍ قد حاربها الشرع؟ هل أنت تتَّجر بالأموال الطيبة والأموال المباحة، أم تجارتك في مخدرات ومسكرات، تروِّجها وتدعو إليها، وتنشرها بين أفراد المجتمع، وتتستَّر على المجرمين وتكون عونًا لهم على إجرامهم فتكون خائنًا لأمانتك؟ أنت مؤتمن، هل السلع التي تقدّمها للمشترين سلعٌ لا يزال وقتُ الانتفاع بها كالمواد الغذائية، أم أنها قد انتهى فصلها، وانتهى العمل بها، وأصبح لا خير فيها، فأنت مؤتمن إن قدمت للناس أمرًا يُخالف فإنك خائن لأمانتك، ولذا النبي يقول: ((من غشنا فليس منا)) [4] ، ويقول في البيِّعين: ((فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقَت بركة بيعهما)) [5]. فأنت ـ أيها التاجر ـ مؤتمَن، ما هذه السلع التي قدَّمتها؟ هل كنت صادقًا في حقيقتها، أم كنت خادعًا ومفتريًا عليهم، ومخبرًا لهم بخلاف الواقع؟
أنت مؤتمَن على المال الذي بينك وبين شركائك، فيد الله مع الشريكين ما لم يخن أحدُهما صاحبَه، فإن خان أحدهما صاحبَه رفَع الله يدَه عنهما وجاء الشيطان.
أنت مؤتمَن على ما استأجرت من عقار، هل أنت أدَّيتَ الحقّ؟ بمعنى راعيتَ تلك الأمانة، فخرجت مما استأجرته والدار أو المتجَر سليم من كل عيب، أم استغللت وجودَك فيه، فأسأت للمالك، وأفسدتَ من غير رعاية للأمانة.
أنت مؤتمَن على ما اؤتمِنت عليه من أموالِ وصايا وأوقاف، هل قمتَ بالحق الواجب فيها، وأعطيتَ كلّ ذي حقّ حقه، أم كنت غاشًا وكاذبًا ومخبرًا بخلاف الواقع؟
أنت مؤتَمن على التركة التي عُهد إليك توزيعُها، فهل أدَّيتَ الحقّ فيها، وأعطيتَ كلّ ذي حقّ حقّه، أم كتمتَ وأخفيتَ وخنت الأمانة؟
أيها المسلم، زوجتُك أمانةٌ في عنقك، من حيث القيامُ بحقّها نفقةً وكسوة ورعاية، والقيام بحقها والتعامل معها بالمعروف على حدّ قوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [النساء:19].
الشهادةُ التي تؤدِّيها أنت مؤتمَن عليها، هل كنتَ صادقًا فيما شهدتَ به أم كنت كاذبًا؟ ولذا قال الله: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـ?د?تِهِم قَائِمُونَ [المعارج:33]، والقيام بها أن تكون الشهادةُ إخبارًا عن الواقع حقًا، لا زيادةَ ولا نقصان فيها، فإنك إذا أخبرت على خلاف الواقع كنتَ شاهدَ زور، متحملاً الإثم والعدوان، فاتق الله في شهادتك، واشهد بالحق وإلا فأمسك، إِلاَّ مَن شَهِدَ بِ?لْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].
أيها المسلم، إنّها أمانةٌ في كل شؤون الحياة، إن [المتولّين] التحقيقات في الأشياء هم مؤتمنون على ما يقدّمونه من تحقيق، فإن كانت تلك التحقيقات سليمة، سلكوا فيها المسلك الشرعي، فقد أدَّوا الأمانة، وإن خانوا فيما يقدِّمونه من أوراق، وكذبوا ودلّسوا وحاولوا الخداع، فالله سائلهم عن ذلك، ويكون ذلك خيانة في أماناتهم.
الموظفُ في وظيفتِه مؤتمنٌ على وظيفته، أداءً ووقتًا، مؤتَمَن على ذلك غايةَ الائتمان، فإن اتقى الله في عمله وأدَّاه على الوجه المطلوب وأنجز حاجات الناس كان ممن أدَّى الأمانة، وإن خان وخادع وتهاون بالعمل وجامل الناس وراعى هذا وأضرّ بهذا ونفع هذا على غير وجه شرعي إنما يمليه الهوى والعياذ بالله، فتلك خيانة للأمانة.
فالمهمُّ أن الأمانةَ أمرٌ عظيم شامل لأمر الدنيا والآخرة، فالمسلم يرعى هذه الأمانة حقَّ رعايتها، فإن المؤمنين حقًا هم الصادقون في أماناتهم، المتقون لله في أماناتهم، المراقبون لله في تصرّفاتهم، فهم المؤمنون حقًا.
إن هذا هو الواجب على المؤمن، ليكون الإيمان إيمانًا صادقًا فلا يكفي قولٌ بلا اعتقاد، ولا اعتقاد بلا عمل، بل لا بدّ من اعتقادٍ وقول وعمل، ليكون المؤمن صادقًا في أحواله كلها.
أسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن أدَّى الأمانةَ على وجهها، وأعاذنا الله وإياكم من الخيانة بكلِّ صورها، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأذان (631) عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الوضوء (163)، ومسلم في الطهارة (241) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الطهارة (243) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (101، 102) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في البيوع (2079، 2082، 2110، 2114)، ومسلم في البيوع (1532) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
إن ربَّنا جلّ وعلا عرض الأمانةَ على أكبَر مخلوقاته على السموات السبع مع سعتها العظيمة وعلى الأرضين السبع وعلى الجبال، وكلّ تلك المخلوقات أبت عن حمل الأمانة إشفاقًا وخوفًا من الله لا معصيةً لأمره، فحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً، إِنَّا عَرَضْنَا ?لأمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]، فلجهله وظلمه حمل الأمانة، ولكن يوفِّق الله لها من شاء، ثم ذكر تعالى انقسام الناس حولها فقال: لّيُعَذّبَ ?للَّهُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تِ وَ?لْمُشْرِكِينَ وَ?لْمُشْرِكَـ?تِ وَيَتُوبَ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:73].
فالمشركون أماناتهم خانوها ظاهرًا وباطنًا، والمنافقون خانوها باطنًا وأدَّوها ظاهرًا، وأهل الإيمان حافظوا عليها ظاهرًا وباطنًا، وهم المؤمنون حقًا.
أيها المسلم، الأمانةُ معناها واسعٌ، فكما أنها في الأفعال فإن المقالَ له أمانة، فأمانة الكلمة أمانةٌ حقيقية، فعلى رجالِ الصحافة والإعلام أن يكونوا ذوي أمانةٍ فيما يكتبون ويخطّون، ذوي أمانة في كلماتهم التي يكتبونها وأقوالهم التي يقولونها، ليتقوا الله فيما يقولون، وليقولوا الحقَّ والصدقَ، ويحذروا الباطلَ والمجازفةَ في الأمور كلّها، عليهم أن يكونوا أمناءَ في أقوالهم، وفيما يكتبون وفيما يخطون؛ لأن الله سائل كلاً عما استرعاه، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
على المسلم أن يبتعدَ عن الخيانة بكلّ صورِها، والخيانةُ من أخلاق المنافقين، والمنافقُ إذا اؤتمن خان، والمسلم إذا اؤتمن أدّى الأمانة، ولا إيمان لمن لا أمانة له، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
فيا أيها المسؤول في أيّ عمل وُكل إليك، اتق الله فيما اؤتمنت عليه، واعلم أن الله سائلك عما استرعاك عليه، والله سائلك فأعِدَّ للسؤال جوابًا، استعِدَّ لهذا السؤال، وأدِّ الأمانة على الوجه المطلوب، ولتلقَ الله وأنتَ مؤدٍّ للأمانة، بعيدًا عن ظلم العباد في أحوالهم كلّها، لتكون من المفلحين حقًا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد ، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/4133)
الإيمان الصادق
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال, فضائل الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
7/11/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الإيمان. 2- الأعمال الصالحة بين المؤمن والمنافق. 3- صلاة المؤمن وصلاة المنافق. 4- زكاة المؤمن وزكاة المنافق. 5- أثر الأعمال الصالحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن الإيمان بالله ورسوله لا بد فيه من اعتقاد القلب، ولا بد فيه من عمل الجوارح، وما ذكر الله الإيمانَ في القرآن إلا ذكره مقرونًا بالعمل: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ [العصر:1-3].
فالعمل الصالح مقرون بالإيمان، إذ الاعتقاد وحده لا يكفي، بل لا بد من عمل يدل على صحَّة هذا الاعتقاد وحقيقة هذا الاعتقاد.
المؤمن يعمل الأعمالَ الصالحةَ منطلقًا من الاعتقاد في قلبه أنَّ الله أوجبَ عليه تلك الواجباتِ، وافترضَ عليه تلك الفرائض، فهو يؤدِّيها عن اعتقاد جازم، عن يقين لا شكَّ فيه، يؤدِّيها رجاءً لرحمة الله، وخوفًا من عقوبته، أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء ?لَّيْلِ سَـ?جِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ ?لآخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ [الزمر:9].
غيرُ المؤمن وهو المنافق قد يؤدِّي الأعمالَ الصالحة ظاهرًا، ولكن يؤدِّيها وقلبُه خلوٌ من اعتقادها والإيمان بوجودها، إنما الأداء لها ظاهرًا مجاملةً للناس، وإذا خلا وحدَه لم يؤدِّ لله فرضًا، ولم يقُم لله بحقّ، ذلك لخلوِّ قلبه من الاعتقاد، ولذا لا ترى للطاعة في نفسه أثرًا، فهو لا يذوق حلاوة الطاعة، ولا يلتذُّ بها، ولا نشرح بها صدرُه، إنّما هي عادةٌ من العادات، أمرٌ يؤدِّيه مجاملةً للناس فقط، وإلا فإنَّه يقوم في الصلاة بجسده، وقلبُه بعيد عن الخير والهدى، فلا تؤثِّر فيه الأعمال الصالحة، بخلاف المؤمن فإنَّ الأعمالَ الصالحة تزيد في إيمانه، وتقوِّي يقينه، ويظهر آثارها عليه في سلوكه وأقواله وكلِّ تصرفاتِه.
أيها المسلمون، ولذا بيَّن الله لنا حالَ المنافقين يوم القيامة، وأنَّ تصرفاتِهم وأعمالَهم في الدنيا تخونهم أحوجَ ما يكونون إليها: يَوْمَ يَقُولُ ?لْمُنَـ?فِقُونَ وَ?لْمُنَـ?فِقَـ?تُ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ ?نظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ?رْجِعُواْ وَرَاءكُمْ فَ?لْتَمِسُواْ نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ?لرَّحْمَةُ وَظَـ?هِرُهُ مِن قِبَلِهِ ?لْعَذَابُ يُنَـ?دُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى? وَلَـ?كِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَ?رْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ?لأَمَانِىُّ حَتَّى? جَاء أَمْرُ ?للَّهِ وَغَرَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [الحديد:13، 14].
أيها المسلم، فتأمَّل الصلاةَ والزكاةَ مثلاً، المؤمنُ حينما يؤدِّي الصلاة يؤدِّيها معتقدًا فرضيتَها ووجوبَها عليه، وأنَّها أحدُ أركان دينه، بل هي عمودُ إسلامه، فهو يؤدِّيها من هذا المنطلَق، أنَّ الله افترضَها عليه، جعلَها أحدَ أركان الإسلام، جعلها الركنَ الثاني من أركان الإسلام، جعلها عمودَ الدين فهو يؤدِّيها كما يعتقدها، ولذا تجده في أدائها مطمئنًا فيها محبًّا لها راغبًا فيها، ينبعث لأدائها بنشاطٍ ورغبة، وحبٍّ لها وفرح بها، متى ما سمع منادي الله: حي على الصلاة، حي على الفلاح، قال: سمعًا وطاعة لربِّنا، فبادرَ بالوضوء وإتيان المسجد رغبةً في الخير، وحبًّا لهذه الصلاة، فهو يجدُ فيها راحةَ قلبه، ويجد فيها انشراحَ صدره، ويجد فيها طمأنينةَ نفسه، ويجد فيها قرَّة عينه، فهو لا يسأمُها ولا يملّها ولا يستثقلُها، بل أشرفُ اللحظاتِ وأسعدُ الأوقات أن يكون في صلاته مناجيًا لربّه، فتلك اللحظاتُ أسعدُ لحظاته وأكملها وأغلاها عنده، مقتديًا بنبيه القائل: ((حُبِّب إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعلت قرّة عيني بالصلاة)) [1] ، وقوله: ((أرِحنا يا بلال بالصلاة)) [2] ، فيجد في الصلاة لذَّةً وطمأنينة وراحة وانبساطًا، هكذا المؤمن.
أمَّا غير المؤمن فلا، الصلاة ثقيلةٌ عليه، الصلاة شاقّة عليه، الصلاة مُتعِبة له، الصلاة لا يحبّها، لا يألفُها، لا يطمئنّ إليها، لكن إن رأى المسلمين يصلّون صلّى معهم بجسده وقلبُهُ غائبٌ عنها، هو غيرُ مؤمِن بها، غيرُ معتقد لفرضيتِها، بل يسخَر بها وبأهلها والعياذ بالله، وهذا لِما قام بقلبِه مِن داءِ النفاق، قال تعالى: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـ?تُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِ?للَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ?لصَّلَو?ةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى? وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـ?رِهُونَ [التوبة:54]، وقال عنهم: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، هكذا حالُهم فلمَّا فُقد الإيمان من القلب صارت الصلاةُ أشقَّ شيء عليهم، وصارت لحظاتُها أكرَهَ لحظةٍ عليهم في الدنيا، لأنهم لم يعتقدوها ولم يؤمنوا بها، فاستثقلوها وسئموها وملّوا منها.
أما المؤمن فبخلاف ذلك، الصلاةُ محبَّبةٌ لنفسه، فرضُها ونفلها، يؤدِّي الفرائض، ويتقرَّب إلى الله بعد ذلك بأداء النوافل، ويعلم أن الصلاةَ صلةٌ تربطه بربّه، وتجعله على صلةٍ دائمة بربه، فهو في صلاةٍ يناجي ربَّه، ويقف بين يدَيه، فيسأَله ويستغيث به ويستَعين به، ويشكو إلى الله بثَّه وحزنَه.
أيها المسلم، إذًا فالكَسل في الفرائض والتهَاون بها وعدم الرغبة فيها إنما هي من أخلاق المنافقين، فكن ـ أخي المسلم ـ على خلاف تلك الصّفة، كن محبًّا للصلاة، كن معظّمًا لها، كن حريصًا عليها، كن مطمئنًا فيها، لتكن الصلاةُ من أحبِّ الأعمال إليك، يقول الله جل وعلا: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:46]. فالموقنون بلقاء الله، الموقنون بالموقف بين يدي الله، الموقنون بأن إلى الله مردّهم ومصيرهم، الصلاةُ محببةٌ لنفوسهم، الصلاة معظَّمَة عندهم، الصلاةُ لها وقعٌ في نفوسهم، يحبّونها ويألفونها ويرتاحون فيها، هكذا الإيمان الصادق.
المؤمن يؤدِّي زكاةَ ماله طيبةً بها نفسه، شاكرًا الله على فضله وامتنانه وإحسانه، راجيًا من الله أن يخلف عليه ما أنفق، كلَّما ذكر نعمَ الله وقارن بين الزكاة وعظيمِ النعم علم أنَّ الزكاةَ جزءٌ يسير من كثير مما تفضّل الله به عليه، فهو يؤدِّي زكاتَه طيبةً بها نفسُه، فرحًا مستبشرًا بها، شاكرًا الله على نعمته وإفضاله.
أما غيرُ المؤمن فلا، هو لا يزكِّي، لكن لو طُلبَت الزكاة منه، لكن لو أُلجئ إلى إخراج الزكاة أخرجَها ونفسُه كارهة لها، نفسُه كارهةٌ لإخراج الزكاة، يقول: هذه ضريبة، وهذا مالٌ أُخذ مني بغير حق، كما قال الله: ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء وَ?للَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مّنْهُ وَفَضْلاً وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]، إذًا فهو لا يخرجها عن رغبة فيها، ولا عن إيمان بوجوبها، ولذا قال الله: وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـ?رِهُونَ ، فإنفاقُهم عن كراهيةٍ وعن عدمِ قناعة، ولذا قال الله: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَـ?تُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِ?للَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ ?لصَّلَو?ةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى? وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَـ?رِهُونَ [التوبة:54]، فصلاتُهم عن كسل وعدم رغبة، وزكاتُهم عن كراهية لها وتسخُّطٍ منها، هكذا حال المنافق.
أما المؤمنُ فبخلاف ذلك، [هو] فرِح بالصلاة، فرِح بالزكاة، فرِحٌ بكل واجب يؤدّيه، فرحٌ بكلِّ فريضة يؤدّيها، هكذا الإيمان الذي استقرّ في القلب، يزداد قوةً بقوة الأعمال الصالحة وكثرتِها.
أسأل الله أن يوفّقني وإياكم لصالح العمل، وأن يشرَح صدورَنا لقبول الحقّ والعمل به، وأن يثبّتنا وإياكم على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (3/128)، والنسائي في عشرة النساء، باب: حب النساء (3939)، وأبو يعلى (3482) من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/174)، والمقدسي في المختارة (4/367)، وجوّد إسناده العراقي، وقواه الذهبي في الميزان (2/177)، وحسنه الحافظ في التلخيص الحبير (3/116)، وصححه في الفتح (3/15).
[2] أخرجه أحمد (5/364)، وأبو داود في الأدب، باب: في صلاة العتمة (4986) عن رجل من الأنصار، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4172).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن للأعمال الصالحة أثرًا في زكاة قلبِ العبدِ ونفسه، فالأعمالُ الصالحة تزكيِّ قلبَه وتهذِّب أخلاقَه وتكسبُه الخيرَ والأعمالَ الصالحة، ولذا قال الله: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
والصلوات الخمس كفارةٌ لما بينها من صغائر الذنوب، ومَثَل الصلواتِ الخمس كمثَل نهر جارٍ بباب أحدِنا يغتسلُ منه كلَّ يوم خمسَ مرات، وما فائدة ذلك؟ لا يبقى من درنه شيء.
فكلّ الأعمال الصالحة التي يعملُها المؤمن عن إخلاصٍ لله فيها ومحبّة لها وقوَّة يقين بذلك، هذا يزيدُه إيمانًا وتقوى، إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلَو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ أُوْلئِكَ هُمُ ?لْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال:2-4].
فالإيمان الحق هو الذي يدعو إلى الأعمالِ الصالحة، ويحثّ على الأعمال الصالحة، فكلّما قويَ الإيمان في القلب انبعَثت الجوارحُ للعمل، ولذا يقول : ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلَحت صلَح لها الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها الجسد كله، ألا وهي القلب)) [1].
فنسأل الله أن يصلحَ قلوبَنا وأعمالَنا، وأن يرزقَنا اليقينَ الصادق والإيمانَ الحق، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد، كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(1/4134)
التناصح بين المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/11/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النصيحة للمؤمنين من مقتضيات ولايتهم. 2- النصيحة خلق الأنبياء. 3- النصيحة الصادقة والنصيحة الكاذبة. 4- نصح النفس. 5- نصح الوالدين والأولاد والأقارب. 6- نصح الجيران. 7- نصح عامة المسلمين. 8- التحذير من الاشتغال بعيوب الآخرين. 9- الناصح مؤتمن. 10- التحذير من الشماتة والتعيير. 11- التحذير من الإشاعات الكاذبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إن اللهَ جلّ وعلا ذكر من أخلاق المؤمنين أنَّ بعضَهم وليٌّ لبعض: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]. هذه الولاية من المؤمنين بعضهم لبعض ولايةٌ يمليها عليهم إيمانُهم الصادق الذي يقول الله فيه: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. إيمانٌ صادق حمله على أن يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه، ويكرَه لأخيه ما يكرَه لنفسه، وفي الصحيح عنه قال: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) [1].
أيّها المسلم، ولايةُ المؤمن للمؤمن تقتضي حبَّ الخير له، وكراهيةَ الشرّ له، يتألّم بألمه، ويفرح بفرحه، إن رأى خيرًا سرّه ذلك، وإن رأى غيرَ الخير ساءه ذلك، لذا ترَى المؤمنَ دائمًا ناصحًا لإخوانه المسلمين نصيحةً بإخلاص وصدقٍ وحبِّ الخير وكراهيةِ الشر. إن النصيحةَ للمسلمين من الأخلاق الحميدة والأعمال الطيبة، في الصحيح عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم [2].
النصيحةُ هي الدعوةُ إلى الخير والتحذير من الشرّ، والنصيحة خُلُق أنبياء الله ورسله، قال تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال مخاطبًا قومه: وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:62]، وهود عليه السلام يقول لقومه: وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68]، وصالح عليه السلام يقول لقومه: وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ?لنَّـ?صِحِينَ [الأعراف:79]، وشعيب عليه السلام يقول: وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ ءاسَى? عَلَى? قَوْمٍ كَـ?فِرِينَ [الأعراف:93].
فأنبياءُ الله ورسله أنصحُ الخلق للخلق، ومِن دعوتهم إلى الله تحذيرُهم قومَهم عن مخالفة شرع الله.
أيها المسلم، فكن ناصحًا لإخوانك المسلمين، كن ناصحًا لهم، داعيًا إلى الخير، محذِّرًا من الشّرّ؛ لتكون النصيحةُ خلقَك، فتكون من المؤمنين حقًا. نصيحةٌ صادقة من قلبٍ خالص، يحبّ الخيرَ لإخوانه المسلمين، ويكره الشرَّ لهم.
ليس الناصح من يبحَث عن عيوب الناس ويتحدَّث بها ويفرَح بها ويُعلنها ويردّدها ليشيعها، ويُعلمَها مَن لا يعلمها، ليست تلك النصيحة، تلك نشرُ العيب وحبّ إشاعة الفاحشة، والمؤمن بعيدٌ عن هذا كله، إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19]. لكن الناصح حقًا إذا رأى الخطأ سعى في إصلاحه، إذا رأى العيبَ سعى في دفع ذلك العَيب ومنعه، إذا رأى أمرًا يخالف الشرعَ سعى في الإصلاح والتوجيهِ والدعوة إلى الخير.
أيها المسلم، كن ناصحًا لإخوانك المسلمين، نصيحةً صادقة تبدأ بنفسك أولاً، فتنصحها وتحملها على الخير، وتروِّضها على العمل الصالح، ليُقبلَ منك توجيهُك ويُصغى إلى نصحِك، قال تعالى عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى? مَا أَنْهَـ?كُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ [هود:88]، أَتَأْمُرُونَ ?لنَّاسَ بِ?لْبِرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ ?لْكِتَـ?بَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة:44]. فانصح نفسَك أولاً، واحمِلها على الخير، ودلَّها على الخير، فأنت مسؤول عن زكاتِها، ومسؤولٌ عن وقوعها في البلاء، ((كل الناس يغدو، فبائع نفسَه؛ فمعتقُها أو موبقها)) [3].
فإذا بدأتَ بنفسك فنصحتَها وأبعدتَها عن الشرِّ فابدَأ بإخوانك المسلمين، ابدَأ بأبويك أمِّك وأبيك، فمن كان مقصِّرًا فانصَحه لله، وكن حريصًا على هدايته وصلاحه واستقامتِه، فذاك أعظمُ البرّ وأكملُه، أن تهديَ له نصيحةً توجّهه إلى الخير، وتحمله على الخير، وتهديه إليه، واسمَع الله يبيّن لنا موقفَ إبراهيم من أبيه: وَ?ذْكُرْ فِى ?لْكِتَـ?بِ إِبْر?هِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا نَّبِيًّا إِذْ قَالَ لأبِيهِ ي?أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئًا ي?أَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَ?تَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ي?أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ?لشَّيْطَـ?نَ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلرَّحْمَـ?نِ عَصِيًّا ي?أَبَتِ إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ ?لرَّحْمَـ?نِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَـ?نِ وَلِيًّا [مريم:41-45]. هكذا الناصحُ حقّا، نصحَ أباه ووجَّهه وحثّه على الخير، ولكن الهداية بيد الله، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك.
انصح أمَّك إن رأيتَ مخالفةً للشرع، ولكن نصيحتك للأبوين تكون برفق ولين، حرصًا على الهداية، وحرصًا على الحمل على الخير، فهما أحقُّ الناس بنصيحتك وتوجيهك، كما هما أحقُّ الناس بطاعتك لهما وخدمتك لهما وقيامك بحقهما.
أيها المسلم، انصَح الأبناءَ والبنات نصيحةً لله، دعوةً إلى الخير وتحذيرًا من الشر، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]، وكلّكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، الرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته. إذًا فنصيحة الأبناء والبناتِ بتوجيههم للخير، وحثّهم على الخير، تنصح الأبناء بالدعوة إلى الله، أمرِهم بالصلاة وحثهم عليها، أمرِهم بالمعروف ونهيِهم عن المنكر، الأخذِ على أيديهم حتّى يعلموا الخير، ((مروا أبناءَكم بالصلاة وهم أبناءُ سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع)) [4]. مُرهم بالخير في صغرهم ليعتادوه ويُحبّوه، وحذِّرهم من الشرّ في صغرِهم ليتركوه ويبتعِدوا عنه، وتكرههُ نفوسُهم، ويتصوّروا الخطأ والصواب.
أيّها المسلم، انصَح أقاربَك إخوانَك أخواتِك، أعمامَك وعماتك، أخوالك وخالاتِك، وأقاربك ورحمَك، انصَحهم لله إن رأيتَ مخالفةً للشرع، فالنصيحة أعظمُ صلة تصل بها الرحِم، أن توصِل إليهم نصحَك وتوجيهك، وتحثّهم على الخير، وتنأى بهم عن مخالفة الشرع.
أيها المسلم، انصَح جيرانَك، فحقُّهم عليك إكرامُك لهم، وإنَّ من أعظم الإكرام إيصالَ النصيحة لهم لتدعوَهم إلى الخير، إن رأيتَ تكاسلاً عن الصلاة نصحتَهم لأدائها جماعة، وإن رأيتَ مخالفةً للشرع في الأقوال والأعمال، فلا يكن همّك التحدث عن مساوئهم، ولكن ليكن الهمّ النصيحة والتوجيه، والدعوة إلى الخير، والتحذير من الشرّ وأسبابه ووسائله.
أيّها المسلم، لتكن النصيحة عامةً للمسلمين لكلّ من تعرف منهم ومن اطّلعتَ على من خالف الشرعَ منهم، تنصحُ البائعَ الذي يتولّى البيعَ، إن رأيتَ غِشًا وعدمَ وضوح تنصحه وتحذّره من الغش، وتبيّن عواقبَه. إن رأيتَ من يتعامل بالربا ويتساهل فيه أو من قد حصلَت عنده شبهةٌ من شبَه من لا إيمان عنده، استحلّوا بها الربا المحرّم، وارتكبوا بها هذا الإثم العظيم، فانصَحهم لله وحذّرهم من هذه المعاملات الخبيثة التي هي محقٌ للبركة في الدنيا والآخرة، يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276]. إن رأيت من يتعاطى الميسرَ ويلعب القمارَ ويتعاطى هذه المِهنة الخسيسة الرذيلة فانصَحه لله نصيحةً تحذّره من عواقب السوء. إن رأيتَ من يتساهل في محارم الله ويستخفّ بحرمات الله فنصيحتُك له نصيحة تحذّره من الشرّ وتأمره بالخير وتدعوه إليه. تنصح من ظلم الناسَ في دمائهم وأموالهم وأعراضهم نصيحةً لله، تأمره باحترام الدماء والأموال والأعراض، وتحذّره من الاستمرار على هذا الطريق السيّئ. تنصح المظلوم بأن تأمرَه بالصبر، وأن لا يجاوزَ الحدّ فيما يقول. هكذا المسلم يسعى بالنصيحة بين المسلمين. تنصح من تخالطه وتصاحبه، تنصَح من يعمَل معك أو تعمَل معه نصيحةً لله تأمره بالخير، لا تحقرنَّ النصيحةَ ولو لمن هو أعلى منك، فالحقّ إذا وضح واستبان لك فانصَح لله، وقدّم النصيحة لله، وليعلم الله من قلبك أنَّ مرادَك بهذه النصيحة الخير والصلاح، لا تُريد العلوَّ والترافع على الخلق، ولكن تريد إصلاحَهم وهدايتَهم ودعوتهم إلى الخير.
أيها المسلم، إنَّ اشتغالك بالنصيحة وتسديدِ الأخطاء وإصلاحِها هذا هو المطلوب، وأمّا أن تشتغلَ بعيوب الناس وأن تتحدّثَ بها في كلّ مجلس وأن تنشرَها وتفرَح بها وتُبدي وتعيد فيها فذاك خلُق من لا خير فيه.
إنّ المسلم لا يفرَح بالشرّ في المسلمين، إذا سمع الشرّ ساءه ذلك، فهو لا يحبّ نشرَه ولا إِشاعتَه، بل يحبذ الستر على المسلمين ما وَجد لذلك سبيلاً، بالنصيحة والدعوة إلى الخير، في الأثر: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتّبعوا عوراتِهم، فمن تتبَّع عوراتِهم تتبّع الله عورتَه، ومن تتبَّع الله عورتَه أخزاه في جوف بيته)) [5]. هكذا عاقبة من يكون همّه التحدّث عن مساوئ المسلمين والبحث عن عيوبهم ونشرها وإذاعتها. المؤمن ليس كذلك، المؤمن ناصحٌ وموجّه وداعٍ وهادٍ إلى الخير، هكذا خلقُه الكريم، دعوةٌ إلى الخير وتحذيرٌ من الشرّ، ما عامله أحدٌ إلا نصَحه، ولا صحِبه أحدٌ إلا نصَحه، ولا يرى عيبًا إلا سعَى في الإصلاح، نصيحة فيما بينه وبين من ينصَحه، لأنّ الهدفَ إرضاء الله قبل كل شيء، ثم إنقاذ هذا المسلم من الخطأ والفساد، ليس الهدف أن أظهِر قوّتي عليه، ولا أن أظهِر اطلاعي على عوراتِه، ولا أن أُظهر له علمي بأخطائه، إنّما المهمّ أن أنصحَه لله، أسلكُ في ذلك الرفقَ في الأمور كلّها، ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل:125]، أرفقُ به في نصحي له، وأوجّهه التوجيهَ السليم، وأدعوه إلى الخير، وأبيّن له النتائج، وأحذّره من الشرّ والسوء، وأبيّن فائدةَ ذلك، بحكمةٍ وبصيرة وسرٍّ فيما بيني وبينه، لا يشمّ مني حقدًا ولا بُغضًا، ولا فرحًا بزلة ولا طمعًا في الاطلاع على عورة، وإنّما يشعر منّي محبةً ونصحًا ورفقًا وحرصًا على الخير والهداية، هكذا فليكن المسلمون فيما بينهم، تناصحٌ فيما بينهم، يقصدون بذلك وجهَ الله، المسلم ناصحٌ للأمة، ينصح للمسلمين، في بيته، في سوقه، في مسجده، فيما يكتب وفيما ينشر وفيما يقول، كلّ ذلك يسلك فيه مسلكَ الحكمة بقصد هداية الخلق وإصلاحِكم والحرص على اجتماعِ كلمتهم وتآلف قلوبهم، لا يسعى بينهم بالنميمة فيفسِدهم، ولا يغتابُهم فيتحمّل آثامهم، ولا يرميهم بالبهتان والعظائم، بل هو بريء من هذا كلّه، هدفه الخيرُ وغايته إصلاحُ الناس.
نسأل الله لنا ولكم الثبات على الحقّ، والاستقامة على الهدى، إنّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).
[3] أخرجه مسلم في الطهارة (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء (247).
[5] أخرجه أحمد (4/421)، وأبو داود في الأدب (4880)، وأبو يعلى (7423)، والبيهقي (10/247) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه بنحوه، وأورده الألباني في صحيح السنن (4083).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، إنَّ النبيّ يقول: ((دع الناس يرزق الله بعضَهم من بعض، وإذا استنصَحَك أخوك فانصَح له)) [1].
فالناصح مؤتمنٌ، إذا طُلب منك النصيحةُ فأنت مؤتمنٌ على النصيحة، فانصَح أخاك بما تحبّ لنفسك، أنزِل نفسَك منزلتَه فانصَحه لله بما تحبُّ لنفسك فأحبَّه لأخيك المسلم، انصَحه لله إذا طلب منك النصيحةَ واستشارَك في الأمر فأعطه جهدَك الذي تدين اللهَ به، فإن وافق الحقَّ فالحمد لله، وإلا فقد برئت ذمتك.
أيها المسلم، إنَّ البعض من الناس قد يُظهر الشماتةَ مظهرَ النصيحة، ويظهر التعييرَ والعيبَ مظهرَ النصيحة، فهو يأتي لهذا المخطئ، فيبيّن له عيوبَه وأخطاءه، لا على أنّه ينصحه لكن ليريد نشرَ فضيحتِه وخزيَه بين الناس، وفي الأثر: ((لا تُظهر الشماتةَ بأخيك، فيعافيَه الله ويبتليك)) [2] ، وفيه أيضًا: ((من عيَّر مسلمًا بذنبٍ لم يمُت حتى يفعلَ ذلك الذنب)) [3].
فليتّق المسلم ربَّه، وليكن هدفه الخيرَ والإصلاح والتوجيهَ والنصيحة للمسلمين وحبّ الخير لهم، انصح شبابَ المسلمين، وحذّرهم من الاغترار بالدعايات المضلِّلة، والأفكار الهدامة، والإشاعات الكاذبة التي لا يُقصَد بها خير، حذِّرهم إن سمعتَهم يتحدَّثون بإشاعات كاذبةٍ بإرجافات وبكلام ينقلونَه عمَّن لا علمَ عنده وعمَّن لا صدقَ عندَه، كم نسمَع من أخبارٍ وإشاعات مبنيّة على الكذب والباطل، تؤخَذ من مصادرَ غيرِ موثوقة، يغترّ الناس بها ويظنّون صدقَها وتحريَها للصدق، والله يعلم أنّ كثيرًا من [هؤلاء] لا صدقَ عندهم ولا أمانة فيما ينقلون، ولكنّهم يحرّفون الكلمَ عن مواضعه، يشيعون الشرَّ ويرجفون بالناس، ويرمون الأبرياءَ بما هم برآءُ منه، فيظنّه الجاهل حقًا.
تثبّت من كلِّ خبرٍ تسمعه، وتأكَّد من كلّ قول تسمعه، فما كلّ قول قيل صحيح، وما كلّ قول قيل له مصدر، فكم من أقوالٍ وإشاعات وإرجافات بناها أهلُها على الغلوّ، بل بنوها على الأكاذيب والأباطيل، وحرصًا منهم على تصدّع بنيان المجتمع المسلم بما يروّجونه من إشاعات كاذبة وأخبارٍ مختلَقة لا صحَّة لها ولا حقيقةَ لها، فلنكن على حذرٍ من أولئك، لنكون من الصادقين، وإذا نُسِب لك عن أخيك شيء من المخالفات فتأكَّد من الأمر قبلَ أن تُقدم عليه، وتحَرَّ الأمرَ حتى لا تقَع في إشكال، فالله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه بتمامه البيهقي في الكبرى (5/347) من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنهما، وأخرج الجزء الأول منه مسلم في البيوع (1522) من طريق أبي الزبير عن جابر أيضا.
[2] يروى مرفوعا، أخرجه الترمذي في الزهد (2506)، والطبراني في الكبير (22/53) والأوسط (3739)، وأبو نعيم في الحلية (5/186)، والقضاعي في مسند الشهاب (917)، والبيهقي في الشعب (6777)، والخطيب في تاريخه (9/95) من طريق مكحول عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحكم عليه ابن الجوزي والقزويني بالوضع، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1470) بتدليس مكحول.
[3] يروى مرفوعا، أخرجه الترمذي في الزهد (2505)، وابن عدي في الكامل (6/172)، والبيهقي في الشعب (6778)، والخطيب في تاريخه (2/340) من طريق خالد بن معدان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل، وروي عن خالد بن معدان أنه أدرك سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومات معاذ بن جبل في خلافة عمر بن الخطاب، وخالد بن معدان روى عن غير واحد من أصحاب معاذ عن معاذ غير حديث "، وحكم عليه أبو زرعة بالنكارة كما في سؤالات البرذعي (ص284-286)، وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، والصاغاني في الموضوعات (ص6)، وحكم عليه الألباني أيضا في السلسلة الضعيفة (178) بالوضع؛ لأن في إسناده محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني متَّهم بالكذب. ويروى عن الحسن البصري رحمه الله، أخرجه عبد الله في زوائد الزهد (ص281) بإسناد ضعيف.
(1/4135)
فضل التفكر في نعم الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
21/11/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على التفكر في نعم الله تعالى وشكره عليها. 2- دوام النعم وزيادتها بالشكر. 3- عظم نعم الله تعالى. 4- حقيقة الشكر. 5- النعمة العظمى نعمة الهداية. 6- نعمة الإيمان. 7- نعمة الخلق السوي. 8- نعمة العقل. 9- نعمة السمع والبصر والنطق. 10- نعمة المأكل والمشرب والمسكن والملبس والمرأة والولد. 11- المنعم عليهم حقيقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
يقول الله جل جلاله: أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـ?هِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20].
أيّها المسلم، تذكَّر عظيمَ نِعم الله عليك، وفكِّر في آلاء الله عليك، عسى أن يكون ذلك التفكّر سببًا لشكر نعمة الله عليك، عسى أن يكونَ سببًا لإيقاظك من غفلتك وسِنتك.
إنَّ الكثيرَ من الناس لا يعرف لنعم الله قدرها، ولا يعرف لها حقّها، نعمُ الله تترادف عليه وتتوالى عليه، وكأنَّها أمورٌ معتادة لا يقدِّر لها قدرها ولا يعرف لها حقَّها، وهذا من الجهل العظيم.
وربّنا جلّ وعلا يذكّرنا دائمًا بنعمه علينا، ويعرّفنا بفضله علينا، يدعونا لأن نقابلَ هذه النّعم بشكره تعالى عليها، وثنائنا عليه، فلا أحدَ أحبّ [إليه الثناء من الله]، من أجل ذلك أثنى على نفسِه، فالحمد لله على نعمِه الظاهرة والباطنة.
أيّها المسلم، وإذا تدبَّرت كتابَ الله رأيتَ ذلك واضحًا جليًا، يقول الله جلّ وعلا مذكِّرًا عبادَه بنعمته عليهم حيث أوجدَهم من العدَم وربَّاهم بنعمه: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى? تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]، فتفكَّر ـ أخي ـ في هذه الآية: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ ، لا أحد، اللهُ الذي ابتدأ خلقَك، وأنشأك من العدَم، وربّاك بنعمِه، هَلْ مِنْ خَـ?لِقٍ غَيْرُ ?للَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ ، لا خالق غيره، ولا رازق سواه.
ويقول جلّ وعلا آمرًا بشكره: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، اشكروا لي نعمي، اشكروا لي فضلي وإحساني، اشكروا لي خيري الذي عمَّكم، تتقلّبون فيه آناءَ الليل وأطرافَ النهار.
ثمّ اعلم ـ أخي المسلم ـ أنَّ نعمَ الله تزدَاد بشكرِها، وتبقى بشكرِها الشكرَ الحقيقي، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى? لِقَوْمِهِ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ [إبراهيم:6].
فيا أخي المسلم، كن دائمًا متذكِّرًا لنعم الله، متفكِّرًا فيها، لتعلمَ قدرَها وفضلَها، ومهما عرفتَ فلن تستطيعَ أن تُحصيَ تلك النعمَ، ولن تستطيع أن تعُدَّها، فهي نعمٌ فاقتِ العدَّ، فاقتِ الحصر، وأعجزت على العادّ العدَّ، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
كلُّ نعمة فيك فمن الله، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]، ولقد ذمَّ الله من عرف نعمَه فكفرها: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ?للَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [النحل:83].
فاعرف نعمةَ الله، واعترف بِها وأنّها من الله فضلاً وإحسانًا، يَـ?بَنِى إِسْر?ءيلَ ?ذْكُرُواْ نِعْمَتِى ?لَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [البقرة:47]، كلُّ ذلك دعوةٌ للخلق إلى معرفةِ نعم الله، وتصوُّرِها على الحقيقة، حتى يؤدِّيَ العبد شكرَها.
وإنَّ شكرَ النعم مطلوب من المسلم بقلبِه وبلسانه بجوارحِه، فيشكرُ الله بقلبِه، ففي قلبِه تعظيمٌ لله، وثناء على الله، ويقينٌ جازم بأنَّ هذه النعمَ من الله فضلاً وكرمًا، فيزداد حبًّا لله وخوفًا من الله ورجاءً لما عند الله، فقلبُه موقن بهذه النعم، عارفٌ لها على الحقيقة، ولسانُه دائمًا يثني على الله، ويحمَد الله على كلّ الأحوال، يحمَد الله على نعمِه، كلَّما تذكَّرها قال: الحمد لله ربّ العالمين، يحمَد الله بلسانه دائمًا وأبدًا، ويشكر الله بجوارحِه، فتلك النعمُ تُسخَّر في طاعة الله، ويستعَان بها علَى ما يُرضي الله، ويتقرَّب إلى الله بطاعتِه شكرًا لله وطاعةً على تفضّلِه وإنعامه. فإذا سخَّر العبد نعمَ الله في طاعته واستعان بها على ما يرضي اللهَ كان من الشاكرين، وإن استعمَلها في غير طاعَة الله كانَ من الكافرين بها.
أيّها المسلم، لله عليك نعمٌ عظيمة، أعظمُ نعمةٍ من الله عليك هدايتُك للإسلام، أن عرَّفك بهذا الدين، وشرَحَ صدرَك لقبول الحقّ، هداك إلى معرفة هذا الدين والانتساب إليه، فتلك النعمة الكبرى والمنةُ العظمى. فاحمد الله أن كنتَ مسلمًا، عرفتَ ربَّك ودينك ونبيّك، عرفتَ لأيِّ شيءٍ خُلقتَ، عرفتَ أنك خُلقتَ لعبادة الله، بُعثَ فيك نبيٌّ كريم يدعوك إلى الله ويعرِّفُك بربّك على الحقيقة، فاحمدِ الله على هذه النعمة، فكم ضلَّ عنها الكثير من الناس، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الزمر:22]، فمن شرح الله صدرَه فقبل الحقَّ وأحبَّ الحقَّ فليحمَد الله على هذه النعمة، كم أضلَّ الله عنها أقوامًا، وحال بينهم وبينَها مع عقولٍ وأسماع وأبصار، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179]، نعم إنهم الغافلون، وإنهم أضلّ من الأنعام، بل الأنعام أهدى منهم سبيلاً، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، فمن حُرم نعمة الإسلام، فإنَّ البهائم خيرٌ وأهدَى سبيلاً منه، من حُرم نعمةَ الإسلام فقد حُرمَ الخيرَ كلّه، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـ?مَكُمْ بَلِ ?للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـ?نِ إِنُ كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [الحجرات:17]، وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لإيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لرشِدُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَنِعْمَةً وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7، 8].
فنعمةُ الهداية للإسلام أعظمُ النّعم، كم حِيل بين أقوامٍ وبين الإسلام، فلم يصِل الإسلام إلى قلوبهم، لم ينفذ إلى نفوسِهم عقوبةً من الله، وَإِذَا قَرَأْتَ ?لْقُرءانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?لآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى? قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى ?لْقُرْءانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى? أَدْبَـ?رِهِمْ نُفُورًا [الإسراء:45، 46]، هكذا المارقون من الإسلام، لا يُصغون للقرآن ولا يستَمعون إليه، ولا يحبّونه ولا تصِل مواعظه إلى قلوبهم، حيل بينهم وبين ذلك، وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَ?عْمَلْ إِنَّنَا عَـ?مِلُونَ [فصلت:5].
فيا من هداه الله للإسلام، اعرف قدرَ هذه النعمة، وازدَد لله شكرًا وثناءً عليها، أن هداك فجعلك من المسلمين، جعلك من أمة محمّد ، جعلك ممَّن يُرجى له دخولُ الجنَّة بفضل الله وبرحمته، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ونعمةٌ أخرى نعمةُ الإيمان الذي هو أوسعُ من دائرة الإسلام، بأن يوفِّقك الله لالتزام الواجباتِ وأداءِ الفرائض والبُعد عن المحرَّمات، يحبِّب الله لك الصلاة، ويحبِّب لك الزكاة والصومَ والحجّ، ويحبِّب لك واجباتِ الإسلام من بِرٍّ وصلة وإحسانٍ وبذل معروفٍ، يحبِّب الله لك الإيمانَ وأخلاقَ المؤمنين، فتكون محبًا لها معظِّمًا لها، ويحول الله بينك وبين ما حرَّم عليك، فتكرَه المعاصيَ والسيِّئات، وتبتعِد عنها خوفًا مِن الله ورجاءً لرحمته، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. فإذا كرَّه الله لك الكفرَ والفسوقَ والعصيان وجعلك من الراشدين فاعلم أنّها نعمةٌ من الله، فحافِظ عليها، واسأل الله الثباتَ على الحقّ، وقل دائمًا: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران:8]، ولهذا نبيُّكم كان يُكثر أن يقول: ((اللهم مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك)) ، تسأله عائشة فيقول: ((إن قلوبَ العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف شاء، وإذا أراد أن يقلِب قلبَ عبدٍ قلبَه)) [1] ، فعياذًا بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الاستقامة، نسأل الله الثبات على الإسلام والاستقامةَ على الهدى إلى أن نلقاه، غيرَ مبدِّلين ولا مغيّرين فضلاً منه، إنه على كل شيء قدير.
ثم أخي المسلم، تفكِّر في سائرِ نعم الله عليك، خَلَقك ربّك في أحسنِ تقويم، كرَّمك بهذا الخَلق الحسن، لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، كرَّمك الله بهذا الخلق الحسن، فاحمد الله على هذه النعمة، فكمال الخَلق وكونُ الخَلق سويًا نعمةٌ من الله عليك، فاشكر الله على هذا الخَلق الحسن، فَتَبَارَكَ ?للَّهُ أَحْسَنُ ?لْخَـ?لِقِينَ [المؤمنون:14].
ثمّ أخي المسلم، فكِّر في نعم الله عليك، وهَبَك الله العقلَ تميِّز به بين الحسَن والقبيح، وبين الخير والشرّ، وبين النافع والضار، عقلٌ ميَّزك الله به عن سائر الحيوان، عقلٌ كلّما كمُل قرَّبك إلى الله وأبعدَك عن كلّ سوء وحفظك الله به من المكاره، عقلٌ هو زينتُك أيّها الإنسان، متى ما استقام هذا العقلُ وصَفَا أرشدَك بتوفيق الله إلى الخير، وهداك إلى الخير، فتأمَّل نعمةَ العقل؛ إدراكِ الأمور على حقائقها، وتصوُّرِ الأشياءِ على حقائقها، في الأخذِ والعطاء وكلّ التصرفات، احمَد الله عليه حمدًا يليق بجلاله.
وانظر إلى من سُلِبوا هذه النعمةَ كيف حالهم، ألم يضجر منهم أهلوهم؟ ألم يُوضَعوا في المصحَّات؟ ألم يبقَوا أجسامًا خاويةً لا خيرَ فيها؟ سُلِبوا نعمةَ العقل فلا تصرُّفَ ولا حركة، سُلِبوا نعمةَ العقل فالتصرفاتُ خاطئة، والأقوال خاطئة، وكلّ الأفعال خاطئة، لأنَّ نعمة العقل سُلِبوها، فهم في حالة يُرثَى لها، يلعبُ بهم الصبيان، لو خرَجوا في الطرقات لكانوا موضعَ ازدراءٍ من الناس، ونظرِ احتقارٍ من الناس، لملّهم حتى أهلوهم، فاحمَد اللهَ أن زيّنَك بهذا العقل، فاحذَر ـ أخي ـ أن تتعاطَى ما يُضعِف تصوّرَه ويقلِّل انتظامَه. احمَد الله على نعمة العقل الذي ميّزك الله به، ولهذا حُرّمت المسكرات والمخدرات حفاظًا على نعمة العقل، ليبقى العقلُ للعبد نورًا يستنير به، وهدًى يهتدي به، فالحمد لله على هذه النعمة.
ثم أخي، فكّر في نعمةِ السمع، تسمع به الأشياءَ، تسمع به الخطابَ، وتفهَم ما خوطِبتَ به، ثم تردّ الجوابَ، وتأخذ وتعطي، وتعامِل الناس، وتفكّر حالَ من فقَد سمعَه، ينادَى وكأنّه ينادى من مكانٍ بعيد، ويفهَم القليل ويغيب عنه الكثير، فاحمَد الله على سمعِك الذي تسمَع به، والذي هو كاملٌ في أموره.
ثمَّ انظر إلى نعمةِ البصر، وما ترى بهذه العينين، وما تنظر بهما، وتستعين بهما على أمورك العامّة والخاصة، أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَـ?هُ ?لنَّجْدَينِ [البلد:8-10].
ثم انظر أيضًا في نعمةِ اللسان، هذا اللسان الذي تنطِق به، وتُعبّر به عمّا في ضميرك، فهو دليلٌ على ما في عقلك، ومخبِرٌ عن حالك وتصوّراتِك، فاحمَد الله وتذكَّر حالَ من لا يُحسنون الكلام، ولا يجيدونه، يخاطِبون بالإشارة فيُفهَم منهم شيءٌ ويفوت أشياء، وأنت تتكلّم وتنطِق، فاحمَد الله على هذه النعمة.
إنَّ نعمةَ السمع ونعمةَ البصر ونعمة العقل ونعمة النّطق نعمٌ عظيمة من الله عليك، فاحمد الله على كلّ حال، في الحديث: ((يصبح على كلِّ سلامى من أحدكم صدقة، فبكلِّ تسبيحة صدقة، وبكلّ تحميدة صدقة، وبكلّ تكبيرة صدقة، وبكلّ تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى)) [2] ، أي: أنّه لا بدّ أن تشكرَ الله بالتسبيح والتكبير والتحميد والتهليل على استقامة أعضائك وسلامتها وانتظامها، وركعتان تركعهما من الضّحى تكون شكرًا لله على النعم التي مُتِّعتَ بها، فاحمَد الله عليها. ولذا قال الله: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
هذه نعمٌ من الله عليك، أضِف إليها ما وهبَ الله لك من نعمةِ المسكَن والمأكَل والمشرَب والمرأة والوَلد إلى غير ذلك، فالنّعم عظيمة، فما جاء بعدَ عافية الدين والبدن مزيدُ خيرٍ ومزيد فضل، لكن على المسلم أن يعظِّم ربَّه، وأن يتفكَّر في نعم الله عليه؛ ليزداد شكرًا لها، فإنَّ الله جلّ وعلا يحبّ منّا أن نُثنيَ عليه، فهو أهل الثناء والمجد، في الحديث: ((إن الله يرضى على العبد يأكل الأكلةَ فيحمده عليها، ويشرب الشّربةَ فيحمده عليها)) [3] ، فكلّ النعم قليلها وكثيرها مِن الله، فضلٌ عليك وإحسان، فاعرف لربّك فضلَه، واعرف له إحسانَه، وقابِل ذلك بطاعته وإخلاص الدين له، وتعظيم أوامره بالامتثال، وتعظيم نواهيه بالاجتناب، وكن شاكرًا لله قائمًا وقاعدًا، وفي كلّ أحوالك.
أرجو الله أن يجعلَنا وإيّاكم من الشاكرين الذاكرين، العارفين لنعم الله، المثنين بها عليه، وأن يزيدَنا من فضله وكرمه، وأن يسبغَ علينا نعمَه، وأن لا ينزعها منّا بذنب من ذنوبنا.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحوّل عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، ومن سائر سخطك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وفوق ما أثنى عليك عبادُك، لك الحمد ولك الشكر ولك الثناء الحسن، أبدًا دائمًا يا ربّنا، فارضَ عنا، واجعل ما وهبتَه لنا من النعم عونًا لنا على ما يرضيك، إنّك على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/250)، وابن أبي شيبة (6/25، 168)، وابن راهويه في مسنده (1402)، وابن أبي عاصم في السنة (224، 233)، وأبو يعلى (4669) من طريق علي بن زيد عن أم محمد عن عائشة، وأخرجه أيضا أحمد (6/91)، والنسائي في الكبرى (7737)، والهروي في الأربعين (26) من طريق الحسن عن عائشة، وللحديث طرق أخرى عنها رضي الله عنها لا تخلو من ضعف، لكن أصله ثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة، ولذا صححه الألباني في ظلال الجنة (224).
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (720) من حديث أبي ذر رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2734) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، إن أعظمَ النعم نعمةُ الإسلام، ولهذا أمرنا أن نقرأ فاتحةَ الكتاب في كلّ ركعة من ركعات صلاتنا، فيها: ?هْدِنَا ?لصّرَاطَ ?لْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ?لَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ?لْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ?لضَّالّينَ [الفاتحة:6، 7].
فالمنعَم عليهم هم الذين كمُلت نعم الله عليهم، هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، أولئك الذين أنعمَ الله عليهم بنعمة الإيمان، بنعمةِ الهدى، فعرفوا لهذه النعم حقَّها، أطاعوا الله وأطاعوا الرسول، فنالوا الخير الكثير، وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذ?لِكَ ?لْفَضْلُ مِنَ ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70].
رجلٌ من أصحابِ النبيّ أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله، إنّي كلّما ذكرتُك وأنا في منزلي لا تقرّ عيني حتّى أراك، ولكن ـ يا رسول الله ـ فكرتُ في المآل وأنَّك بعد موتك ستكون في أعلى علّيّين في أعلى منازل الجنة، وأنَّى أراك؟ أقلقَ نفسي وأتعبَني أنّي بعد مفارقتِك لن أراك لعلوّ منزلتك عند ربك، فأنزل الله: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ذ?لِكَ ?لْفَضْلُ مِنَ ?للَّه [1].
فالله جلّ وعلا أخبر أن أتباعَ الرسول هم على طريقته، وهم سيرونَه في دار كرامة الله وإن علت المنازل، لكن لا بدّ لهم من رؤية نبيّهم الذي طالما أطاعوه، واتّبعوا شريعتَه، وامتثلوا أمرَه، واجتنبوا نهيَه، فسيرِدون حوضَه يومَ القيامة، وسيرونَه في دار كرامة ربّهم، نسأل الله أن يجمعَنا وإياكم مع نبيّنا والصالحين من عباده، إنّه على كل شيء قدير.
وتفكّروا في نعم الله المترادفة عليكم، وخيرُ نعمِ الله المترادفة عليكم وخيره الذي عمَّكم أمنٌ واستقرار وارتباط وهدوء ورغدٌ من العيش، فاشكروا الله على نعمته، وقابلوها بالقيام بحقّ الله، نسأل الله أن يعينَكم على شكرِه، قال النبي لمعاذ: ((يا معاذ، إنّي أحبك، فلا تدعنَّ دبرَ كلِّ صلاة أن تقول: اللهم أعنِّي على شكرك وعلى ذكرك وعلى حسن عبادتك)) [2].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيّد الأولين والآخرين وإمام المتقين وقائد الغُرّ المحجّلين محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك سيّدنا محمد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الراشدين...
[1] عزاه ابن كثير في التفسير (2/310-311) إلى ابن مردويه في تفسيره، والحافظ أبي عبد الله المقدسي في صفة الجنة عن عائشة رضي الله عنها، ونقل عنه أنه قال: "لا أرى بإسناده بأسًا". وقد أخرج نحوه الطبري في تفسيره (8/534-535) مرسلاً عن سعيد بن جبير ومسروق وقتادة والسدي والربيع بن أنس، قال ابن كثير (2/310) عن مرسل الربيع: "هو من أحسنها سندًا".
[2] أخرجه أحمد (5/247)، وأبو داود في الصلاة، باب: في الاستغفار (1522)، والنسائي في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء (1303) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1/407)، وقال النووي في الخلاصة كما في نصب الراية (2/235): "إسناده صحيح"، وصححه الحافظ في الفتح (11/133)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1347).
(1/4136)
وظائف ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
28/11/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل عشر ذي الحجة. 2- استحباب الإكثار من ذكر الله تعالى فيها. 3- فضل صيام عشر ذي الحجة. 4- فضل الأضحية. 5- من أحكام الأضحية. 6- وقت الأضحية وشروطها. 7- صفة الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنَّ من رحمة الله لعباده أن جعلَ لهم مواسمَ للطاعات يتنافسُ المسلمون فيها بصالح الأعمال، فضلا من الله ورحمة، والله ذو الفضلِ العظيم.
أيّها المسلم، من هذه الأيام أيامُ عشر ذي الحجّة، فهي أيامٌ معظّمة في شرع الله، لها خصوصيّة في مزيد الطاعة والإحسان، وقد نوَّه الله بها في كتابه العزيز قال تعالى: وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، والمراد بها عشرُ ذي الحجة، وقال تعالى: وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ [الحج:28]، والمراد بالأيام المعلومات هي عشرُ ذي الحجّة.
ودلَّت سنّة رسول الله على فضلِها وأنَّه يُشرع التنافس فيها في صالحِ العمل، يقول : ((ما من أيّام العملُ الصالح فيهنَّ أحبّ إلى الله من هذِه العشر)) ، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسِه وماله فلم يرجِع من ذلك بشيء)) [1] ، وقال : ((ما من أيّامٍ العملُ فيها أعظم عند الله سبحانه ولا أحبّ إليه من العمل في هذه الأيام ـ يعني عشر ذي الحجة ـ ، فأكثِروا فيهنّ من التهليل والتكبير والتحميد)) [2].
قال البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبّران ويكبّر الناس بتكبيرهما" [3] ، بمعنى أنّهما يحيِيَان هذه السنّة، فيذكرون الله جلّ وعلا، يقومان رضي الله عنهما بذكر الله، فيقتدي النّاس بهما، فيذكرُ الجميع ربَّ العالمين. وكان عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه بمنًى يكبِّر عقِب الصلوات، ويكبّر في فسطاطه وعلى فراشِه وفي مجلسِه، ماشيًا وقاعدًا، وهكذا كانوا يُحيون هذه السنّة ويعظّمونها، فيذكرون الله جلَّ وعلا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلم، في هذه الأيّام المباركةِ يُشرَع لك التزوّد من صالح العمل؛ التوبة إلى الله ممَّا سلف وكان من سيِّئات الأقوال والأعمال.
أيّها المسلم، إنَّ هذه الأيامَ العشر اجتمعت فيها أنواعٌ من العبادة؛ الصلاة والصوم والصدقة والحجّ، فاجتمعت أنواع هذه الطاعة؛ الصلاة والصدقة والصوم والحج، فأكثِر من فعلِ الطاعَة، وبادِر إلى الفرائِض، وأكثِر من النوافِل، في حديث ثوبان: ((عليك بكثرةِ السّجود، فإنَّك لا تسجُد لله سجدة إلا حطّ الله بها عنك خطيئة، ورفع لك بِها درجة)) [4].
ويُسنّ صيامُ هذه التّسع لمن قدر على ذلك، ففي مسند الإمام أحمد رحمه الله أنَّ النبيّ كان يصوم تسعَ ذي الحجة ويومَ عاشوراء وثلاثةَ أيام من كلّ شهر [5].
وأفضلها وآكدُها صومُ يوم عرفة لمن لم يكن حاجًا، يقول في صيام يوم عرفة: ((أحتسبُ على الله أن يكفّر سنةً قبله وسنة بعده)) [6].
فعظِّموا هذه الأيامَ، فإنّها أيّامٌ عظيمة عندَ الله، شُرِع لكم فيها أنواعٌ من الطاعة، فتزوَّدوا من صالِح العمل.
أيّها المسلم، شُرع لنا أيضًا في يوم النَّحر أن نتقرَّب إلى اللهِ بذبحِ الأضاحي عبادةً لله، وقربةً نتقرَّب بها إلى الله، والله جل وعلا قد حثّنا على ذلك، قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163]، وقال جلّ وعلا: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2]، وكان نبيّكم كثيرَ الصلاةِ كثيرَ النحر، وقد حثَّ على الأضاحي ورغَّب فيها بقولِه وفعلِه، فمِن قوله ما ثبت عنه أنّه قال: ((ما عمل ابنُ آدم يومَ النحر أحبّ إلى الله من إراقة دمٍ، وإنّه يأتي يومَ القيامة بقرونِها وأظلافها وأشعارها، وإنَّ الدّم ليقع من الله بمكانٍ قبلَ أن يقَع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا)) [7] ، وقال لمّا سُئل: ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنّةُ أبيكم إبراهيم)) ، قالوا: ما لنا منها؟ قال: ((بكلِّ شعرةٍ حسنة)) ، قالوا: الصوف؟ قال: ((وبكلِّ شعرةٍ من الصوف حسَنة)) [8] ، ونبيّكم حافَظ عليها مدَّةَ بقائِه في المدينة، فما أخَلّ بها سنَةً من السنين كلَّ مدةِ بقائِه في المدينة، منذ هاجَر إلى أن توُفّي ، وكان يُعلِن هذه السّنّة ويظهرها للملأ، قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله إذا صلَّى يومَ النّحر أُتي بكبشَين أقرنَين أملحَين، فرأيتُه واضِعًا قدمَه على صفاحِهما، يسمِّي ويكبِّر، فيذبحهما بيدِه صلواتُ اللهِ وسلامه عليه [9] ، ممَّا يدلّ على عظيمِ هذه السّنّة.
أيّها المسلم، ليسَ الهدفُ منها اللّحم، ولكنَّها قربةٌ تتقرّب بها إلى الله، قال الله جلّ وعلا: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37]، إذًا فذبحُها أفضلُ من الصدقة بثمنِها.
والمسلم يضحِّي عن نفسِه وعن أهلِ بيتِه، أحيائِهم وأمواتِهم، فإنَّ نبيَّنا كانَ يضَحِّي بكبشَين؛ أحدُ الكبشين عن محمّد وآل محمد، والثاني عمَّن لم يضَحِّ مِن أمّة محمّد صلوات الله وسلامه عليه [10]. فضحِّ عن نفسك، وضحِّ عن أهل بيتك، قليلٍ وكثير.
وسنّة محمّد دلَّت على أنَّ الشاةَ الواحدة تغني الرجلَ وأهلَ بيته، قال أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه لمّا سُئل عن الأضاحي في عهد رسول الله قال: كان الرّجل منّا يضحّي بشاةٍ واحدة عنه وعن أهل بيته، حتى تباهى الناس فكانوا كما ترى [11]. بمعنى أنَّ الرجلَ إذا ذبح أضحيةً واحدة عنه وعن أهل بيتِه الأحياءِ منهم والأموات وأشركهم جميعًا في ثوابها نالهم ذلك الثوابُ بفضل الله، فليس الهدف التعدّد، إنّما الهدفُ التقرّب إلى الله.
أيّها المسلم، وأمّا الوصايا التي أوصى بِها الأمواتُ فينفّذها المسلم كما كانت لا يزيد ولا ينقص، لا يُدخل فيها من ليس منها، ولا يخرج منها من هو فيها، وإذا عجز ريع الأوقاف عن الأضحية في عام فأخِّرها ولو عامًا آتيًا، وإذا كان الرجلُ قد أوصَى بعدّة أضاحي وعجز في ثلثه عن القيام بها كلّها فلا بأسَ أن تجعلَها في شاةٍ واحدة وتشرّك الجميع، إذا كان الموصي واحدًا أوصى بعدةِ أضاحي فلم يكن غلّة ذلك الوقف تغطّي الجميعَ.
أيّها المسلم، إنَّ نبيّنا جعل للأضاحي وقتَ ابتداء، فابتداءُ ذبحها من بعد نهاية صلاةِ عيد النحر، يقول : ((من صلَّى صلاتَنا ونسك نسكنا فقد أصاب السنّة، ومن ذبَح قبل الصلاةِ فليُعِد مكانَها أخرى)) [12].
وبيَّن السِّنَّ المعتبَر في الأضاحي، وأنَّها الثني أو الجذع مِن الضأن، وفي الإبل خمس سنين، وفي البَقر سنتان، وفي المَعز سنة، وفي الجذع من الضأن ستة أشهر، فلا يجزئ الأضاحي إلا مِن بهيمة الأنعام؛ من الإبل والبقر والغنم.
ولا بدَّ من سلامتها من العيوب التي تمنَع الإجزاء؛ لأن المقصدَ التقربُ إلى الله بالطيِّب، قال تعالى: وَلاَ تَيَمَّمُواْ ?لْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلا أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [البقرة:267]، فنهى أن يُضحَّى بالعوراء البيّن عورها، وهي التي انخسفت عينُها أو برزت فلا تبصِر بها ولو كانت قائمة، ونهى أن يضحَّى بالمريضة البيّن مرضُها، والتي ظهر أثر المرض عليها في مشيِها في أكلِها في شربِها، ونهى بأن يضحَّى بالعرجَاء البيّن ضلعُها، ونهى أن يضحَّى بالعجفاء الهزيلة التي لا تُنْقِي.
وجاء أيضًا النهيُ عن أعضَب القرن والأذن؛ ما كان القطع في الأذن أو القرن أكثر من النصف، وكُره نقصٌ فيها، قال علي رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نستشرِف العينَ والأذن [13] ، فكلّ ذلك مكروهٌ التضحيةُ به، أمَّا العيوب الأربعة من العرَج والعوَر والمرَض والهُزال فتلك لا تجزئ مطلقًا، وما كان أشدَّ منها كذلك.
أيّها المسلم، تقرَّب إلى الله بها، وتولَّ ذبحَها إن كنت تقدر على ذلك اقتداءً بنبيّك ، واحضُر ذبحَها فإنّها من شعائِر الدين، وعظموها ـ رحمكم الله ـ كما أمركم بذلك ربّكم، واذبَحوا أضاحيكم في بلادِكم، ولا تكِلوها إلى مَن لا تعلَمون أمانته ونزاهتَه مِن أولئك الذين يطلبون إخراجَها والتبرّع بها ليتولَّوا ذبحَها في غيرِ بلادِكم، وكثيرٌ منهم ليسُوا على مستَوى المسؤولية في ذلك، فتولّوا بأنفسِكم الإشرافَ على هذه السّنّة، الإشرافَ على هذه العبادة ومباشرتَها، فإنَّها طاعةٌ لله وقربة تتقرّبون بها إلى الله.
يُروى في الحديث وإن كانَ فيه مقال أنَّ النبيّ قال لفاطمة: ((قُومي إلى أضحيتِك فاشهديها، فإنّه يُغفَر لك بأوَّل قطرةٍ من دمها)) [14].
لا شكَّ أنَّها طاعةٌ لله، وقربة يتقرّب بها العبادُ إلى الله، يُحيون سنّة نبيّهم وسنّة أبيهم إبراهيم، يتقرّبون بذلك إلى الله، ليس الهدفُ اللحم، ولكن الهدف العبادة لله، ليرغِموا أعداءَ الإسلام الذين يتقرَّبون إلى قبور الأموات، ويذبَحون لهم وينذرون لهم، والمسلمُ يتقرَّب بذبحِه إلى الله طاعةً لله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
ليس الهدفُ غلاء الثمَن مطلقًا، إنّما الهدفُ السلامة من العيوب، وخيرُ الأمور أوساطُها، ولا يلزَم التقصِّي في أغلى الثمَن وفي نحوِ ذلك، فإنَّ الهدفَ الطاعةُ، والمهمّ السلامة من العيوب، وخلوّها من العيوب التي تمنَع الإجزاءَ أو التي تنقص الثوابَ، فاتقوا الله يا عباد الله، وتقرَّبوا إلى الله بما يُرضيه.
أسأل اللهَ لي ولكم التوفيق والسداد لما يحبّه ويرضى، إنّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الجمعة (969) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/75)، والبيهقي في الشعب (3750) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، قال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وله شاهد من حديث ابن عباس عند الطبراني في الكبير (3/110)، جوّد إسناده المنذري في الترغيب (2/24)، وقال الهيثمي في المجمع (4/17): "رجاله رجال الصحيح". وأورد الألباني الحديث في ضعيف الترغيب والترهيب (733، 735).
[3] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق. وقد وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين. كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
[4] أخرجه مسلم في الصلاة (488).
[5] أخرجه أحمد (5/271، 6/248، 423)، وأبو داود في الصوم (2437)، والنسائي في الصيام (2372)، والبيهقي في الكبرى (4/284) عن بعض أزواج النبي ، وقد اختلف في إسناده، وصححه الألباني صحيح أبي داود (2129).
[6] أخرجه مسلم في الصيام (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
[7] أخرجه الترمذي في الأضاحي (1493)، وابن ماجه في الأضاحي (3126) من حديث عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (4/222)، وتعقبه الذهبي والمنذري، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (526).
[8] أخرجه أحمد (4/368)، وعبد بن حميد (259)، وابن ماجه في الأضاحي (3127)، والطبراني في الكبير (5/197)، والبيهقي في الكبرى (9/261) من طريق عائذ الله عن أبي داود عن زيد بن أرقم رضي الله عنه، وصححه الحاكم (3467) لكن في السند أبو داود قال البوصيري في الزوائد (3/223): "اسمه نفيع بن الحارث وهو متروك"، وقال البخاري ـ كما في سنن البيهقي ـ: "عائذ الله المجاشعي عن أبي داود روى عنه سلام بن مسكين لا يصح حديثه"، وانظر تخريجه في السلسلة الضعيفة (527).
[9] أخرجه البخاري في الأضاحي (5554، 5558، 5564، 5565)، ومسلم في الأضاحي (1966) بمعناه.
[10] أخرج أبو داود في الضحايا، باب: في الشاة يضحى بها عن جماعة (2810)، والترمذي في الأضاحي، باب: العقيقة بشاة (1521)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: أضاحي رسول الله صلى الله عليه وسلم (3121) عن جابر رضي الله عنهما قال: شهدت مع رسول الله الأضحى بالمصلى، فلما قضى خطبته نزل من منبره وأتي بكبش فذبحه رسول الله بيده وقال: ((بسم الله والله أكبر، هذا عني وعمن لم يضحِّ من أمتي)) ، قال الترمذي: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، والعمل على هذا عند أهل العلم"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2436).
[11] أخرجه مالك في الضحايا (1050)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله (3147)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1216).
[12] أخرجه البخاري في الجمعة (955، 983)، ومسلم في الأضاحي (1961) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ولفظه: ((من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك، ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم)).
[13] أخرجه أحمد (1/95، 105، 108، 125، 128، 132، 149، 152)، وأبو داود في الضحايا (2804)، والترمذي في الأضاحي (1498)، والنسائي في الضحايا (4372، 4373، 4376)، وابن ماجه في الأضاحي (3143)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2914)، وابن حبان (5920)، والحاكم (1720)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2544).
[14] أخرجه الحاكم (4/222) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه وصححه، وتعقبه الذهبي، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (528).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
حجاجَ بيتِ الله الحرام، أتَيتم لهذا البلدِ الكريم مِن أقطار الدنيا، وتجشَّمتم المشاقّ، وفارقتُهم البلد والولدَ والوالد والأهل والمَال، وأنفقتم في سبيلِ ذلك ما استطَعتم، استجابةً لأمر الله حيث يقول: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97]، وإجابةً لنداءِ الخليل حيث قال الله عنه: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28]، ويقينًا ببشرى محمّد : ((من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسق خرجَ من ذنوبه كيوم ولدته أمّه)) [1].
فاحرِصوا على الإخلاصِ لله في القول والعمل، وأن يكونَ العمل موافقًا لشرع الله، فإنَّ الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصًا لوجهه، يَبتغي به عامله وجهَ الله والدّار الآخرة، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
يا أخي الحاجّ، اعلَم أن نبيّنا جعل للبيتِ مواقيتَ أربعة، أمَر كلَّ حاجّ أو معتمرٍ أن ينوي الحجَّ أو العمرة من هذه المواقيت الأربعةِ التي جعلها الله حمىً للحرم، كما جعل الحرم حمىً لمكة، وجعل مكة حمىً لبيته العتيق. ونبيّنا وقّت هذه المواقيت، وأمر المسلمين أن يُهلّوا بالنسك منها، فقال: ((يهلّ أهلُ المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام ومصر من الجُحفة، وأهل اليمن من يَلملَم، وأهلُ نجد من قرن، هنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ ممّن أراد الحجّ والعمرة، ومن كان دونَ ذلك فمهلّه منذ أنشأ، حتّى أهل مكّة يحرمون من مكّة)) [2].
أخي الحاجّ المسلم، إذا أتيتَ عند واحدٍ من هذه المواقيت فانوِ النسكَ الذي تريد، وأنتَ مخيَّر بين أنساكٍ ثلاثة، بين أن تقول: "لبّيك اللهمّ حجًّا"، فهذا حجّ مفرد، وبين أن تقول: "لبّيك اللهمّ حجًّا وعمرة"، فهذا قِرانٌ بين نُسكين، وبين أن تقول: "لبّيك اللهمّ عمرة متمتعًا بها إلى الحج"، فهذا يسمَّى تمتّعًا. وهذه النّسك بإجماع المسلمين أنَّ كلَّ واحدٍ منها مجزئ، ولكنَّ المحقّقين قالوا: إنَّ أفضلَها لمن ساق الهديَ أن يقرِن، ومن لم يسُق الهديَ أن يتمتَّع، وإن أفرد فلا شيءَ عليه، الكلّ جائزٌ ومؤدٍّ للواجِب.
فإذا قلتَ: "لبّيك اللهمَّ حجًا"، وأتيتَ بيتَ الله الحرام، فإن شِئت فطُف بالبيت واسعَ بين الصفا والمروة، ولكن يبقى عليك إحرامُك إلى يومِ النحر، فتذَهب إلى عرفة ومزدلفة، فإذا رميتَ جمرةَ العقبة وحلقتَ أو قصَّرت من رأسك حللتَ من إحرامِك، ويبقى عليك طوافُ الإفاضة والسعي، هذا إن لم تسعَ مع طوافِ القدوم، وإن سعيتَ مع طوافٍ قبلَ الحجّ سَقَط عنك السعي، لكن طواف الإفاضة لا بدَّ منه.
والقارنُ بين الحجّ والعمرة القائل: "لبّيك اللهمّ حجًا وعمرة" هو كالمفرد، له أن يسعَى مع طوافِه للقدوم، وله أن يؤخِّر السعيَ إلى أن يَسعى مع طواف الإفاضة يوم النحر.
أمَّا المتمتّع فإنَّ عليه طوافًا وسعيًا لعمرتِه لأنَّه يتحلَّل بعد ذلك، وعليه طوافٌ وسعي آخر لحجِّه، هكذا سنّة محمد.
أخي الحاجّ المسلم، فإذا دخَل اليومُ الثامن من ذي الحجة، إن كنت متمتّعًا فأحرِم للحج، وإن كنتَ قارنًا أو مُفردًا باقيًا على إحرامك فاذهب مع الحجّاج جميعًا إلى منى، ويصلّي بها المسلمون الظهر والعصرَ والمغرب والعشاء والفجر، كلّ صلاةٍ في وقتِها، يصلّون الظهرَ في وقتِها ركعتين، والعصرَ في وقتِها ركعتين، والمغربَ ثلاثًا في وقتها، والعشاء في وقتِها ركعتين، والفجرَ بلا شكّ غير مقصورة ركعتين؛ لأنَّه لا جمعَ إلا في عرفَة ومزدلفة.
ثمّ [يتوجّه] الحجّاج يومَ التاسع بعدَ طلوع الشمس إلى عرفة، يقِفون في ذلك الموقِف العظيم وفي هذا اليوم العظيم طاعةً لله، واقتداءً بنبيّهم ، يكثِرون من ذكر الله والثناء عليه، ودعائه ورجائه، والتضرع بين يديه، فما رُئي الشيطان في موضعٍ هو أصغَر ولا أحقَر ولا أغيَظ منه ما رُئي يومَ عرفة.
ثم بعدَ غروب الشمس ينصرِف الحاجّ إلى مزدلفة، فيصلّون بها المغرب والعشاءَ إذا وصَلوا إليها جمعًا وقصرًا، كما يصلّون الظهرَ والعصر بعرفَة جمعًا وقصرًا في وقتِ الظهر، ويبيتون بِها، وللعجزة من النساء والضعفاء الانصرافُ من بعدِ نصفِ الليل، والأقوياءُ يبقَون حتى يصلُّوا بها الفجرَ، فيذكرون الله ويثنون عليه.
وقبلَ طلوع الشمس يفيضون إلى منى، فيرمي المسلم جمرةَ العقبة بسبع حصيات، ثمّ يحلق أو يقصِّر من رأسه، ثمّ قد حلَّ له كل شيء حرم عليه بالإحرام من الطيب ولبس المخيط وتقليم الأظافر وقصّ الشّعر وغير ذلك، ما عدا النساء فلا يحصل له إلا بعدَما يكمل نسكَه، ثمّ يطوف بالبيت ويسعَى بين الصفا والمروة وقد حلَّ من كلِّ نسكِه.
يبيت الحاجّ بمنًى ليلةَ الحادي عشر والثاني عشر، يرمُون الجمارَ بعد زوال الشمس، ويمتدُّ الرميُ إلى طلوع الفجر من اليوم الثاني، ومن تعجَّل في يومين خرج من منًى قبل غروب الشمس، ومن تأخَّر باتَ بها ورمَى بعد زوال الشمس.
فاتّقوا الله في نسكِكم، وأدُّوه كما أمَركم بذلك ربّكم، والزَموا السكينةَ والوقارَ في كلّ أحوالِكم، واعلموا أنَّ لهذا البيت حرمتَه وأمنه، قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا ءامِنًا [العنكبوت:67]، وقد توعَّد الله من همَّ بسوءٍ في الحرم أن يعاقبَه بمجرَّد نيّته وإن لم يفعل: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
فالزَموا السكينةَ في أحوالِكم كلّها، وتدرّعوا بالصبر والحلم والأناءة، وكونوا أعوانًا على الخير والتقوى، جمَع الله القلوبَ على طاعتِه، وتقبَّل من الحجّاج حجَّهم وردّهم سالمين آمنين، إنّه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الحج (955، 983)، ومسلم في الحج (1961) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الحج (1524)، ومسلم في الحج (1181) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه.
(1/4137)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
20/12/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من فوائد صلة الرحم. 2- بيان الأرحام. 3- من صور الصلة. 4- أهمية الرحم وفضل صلتها. 5- حقيقة الصلة. 6- أعظم الصلة. 7- الحث على تجنب الخلافات. 8- ذم القطيعة والتحذير منها. 9- الأسباب المعينة على الصلة. 10- من أسباب القطيعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، صلة الرحم خلُقٌ من الأخلاق الكريمة التي رغَّب الله فيها في كتابه العزيز وفي سنّة محمد. صلةُ الرحم خلقٌ يحبه الله، كما أنَّ قطيعة الرحم عمَل يبغضه الله ويمقت فاعلَه.
أيّها المسلم، صلة الرحمِ عمل صالح، سببٌ لبركة العمُر وسعَة الرزق وانشراح الصدرِ وطيبِ النفس ومحبَّةٍ في قلوب الخلق ورضا الله قبل كلِّ شيء، وقطيعةُ الرحم سببٌ لمحق بركة العمُر والرزق وحدوثِ البغضاء في قلوبِ الخلق.
أيّها المسلم، رحِمُك من تربِطك بهِ صلةٌ من جهة أمّك أو أبيك، كلّ أولئك رحمٌ لك، وأقربُ منهم أولادُك وبناتك ونسلك، ثم إخوتك وأخواتك، أعمامُك وبني عمّك، ثمّ عمّاتك، أخوالك وخالاتك، ومن ينتسب إليهم من بني عمّ وبني أخوال وخالة، كلّ أولئك رحمُك الذين يجب عليك صلتُهم ويحرُم عليك قطيعتهم.
أيّها المسلم، إنَّ صلةَ الرحم تكون إمّا بالإمداد بالمال لفقيرهم، إعانةِ محتاجِهم، دفع الضررِ عنهم، العفوِ عن زلاّتهم وهفواتهم، تحمّل أخطائِهم، زِيارتِهم، تقييمهم، هكذا واصلُ الرحم.
أيّها المسلم، إنَّ صلةَ الرحم خلقٌ عظيم لا يقوَى عليه إلا مَن وُفّق للصواب، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:35]. فما كلٌّ مِن الناس يصبِر على ذا، ولا يتحمّل هذا، لكن مَن وفّقه وأخلص لله عملَه ومرادَه فإنَّ تلك الأمورَ تكون يسيرةً عليه بتوفيق من الله وعون.
أيّها المسلم، إنَّ الله يقول في كتابه: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ [النساء:1]، فأمر بتقواه، وأمَر بتقوى الرّحم بصلتِها وعدَم القطيعة، وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ.
وقال جل جلاله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?للَّهَ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ?لْقُرْبَى? [البقرة:83]، ومدح الواصلين بقوله: وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21].
أيّها المسلم، إنَّ سنّة محمّد دلّت على فضل صلة الرحمِ وبيان ما يترتّب على هذه الصلة من الفوائد العظيمة، فأوّلاً يقول : ((مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم ضيفَه، ومَن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليصِل رحمَه، ومَن كان يؤمن بالله واليَوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت)) [1].
ولمَّا ابتَدأ الوحيُ بمحمّد في أوَّل الوحي خشِي ممَّا رَأى، فأتَى لخَدِيجة فحدَّثَها بما رَأى، فقالت: كلا، واللهِ ما يخزيك الله أبدًا؛ إنّك لتصِل الرّحِم، وتقري الضَّيف، وتكسِب المعدومَ، وتعين على نوائبِ الحق [2].
أيها المسلم، إنَّ صلةَ الرحم أفضلُ الصدقات وأعظمها، أعتقَت أمّ المؤمنين ميمونة جاريةً لها فأخبرتِ النّبيّ ، فقال: ((فعلتِ ذلك؟)) قالت: نعم، قال: ((لو أنَّك أعطيتِها أخوالَك كان أعظمَ لأجرك)) [3] ، مع أنَّ العتقَ فيه فضلٌ عظيم، ومَن أعتق مملوكًا له أعتق الله من كلِّ جزءٍ منه جزءًا من النار.
ويقول : ((لمَّا خلق الله الخلقَ قامتِ الرحم فقال: مه، قالت: هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعة، قال: ألا ترضَين أن أصلَ من وصلك وأقطعَ من قطعك؟! قالت: نعم، قال: فذلك لك)) [4].
وأخبر أنَّ صلةَ الرحم من أسباب دخول الجنة، سأله أعرابي فقال: يا رسول الله، دُلَّني على عمل يدخلني الجنة، قال: ((تعبدُ اللهَ ولا تشرِك به شيئًا، وتُقيم الصلاةَ، وتُؤتي الزّكاة، وتَصِل الرحم)) [5].
وأخبر بقوله: ((إنَّ أبرّ البِرّ صلةُ الرجلِ لأهلِ وُدِّ أبيه)) [6] ، ولا سيّما الرحم منهم.
وأخبر أنّ صلة الرحم سببٌ لبركة العمر وسعة الرزق، فيقول : ((من أحبَّ أن يُنسَأ له في أثره ويبارَك له في رزقه فليصِل ذا رحمه)) [7].
أيّها المسلم، وليسَت صلة الرّحم بتبادُل المنافع، إنْ وصلك رحمُك وصلتَه، وإن نأى عنك وابتعَد نأيتَ عنه، ليس الصلة على هذه الصّفة، فتلك مكافأةُ البعض للبعض، ولكن أمر صلة الرّحم فوقَ هذا كلّه، يقول : ((ليسَ الواصل بالمكافئ، إنَّما الواصلُ الذي إذا قطعَت رحمُه وصلها)) [8].
ونبيّنا بيّن لنا أيضًا في سنته أنَّ واصل الرّحم قد يتعرّض لأمورٍ من رحمِه، معاكِسًا لفعله، هو يُبدي الصلةَ وهم يبدون القطيعَة، وهو يحلم وهم يجهلون، وهو يقرّبُهم وهم يُبعِدونه، وهو يتودَّد إليهم وهم يُبغِضونه، ومع هذا كلّه أمرَه بملازمة الصّلة، وبيّن له ما يترتَّب على هذا من الثّواب، قال له رجل: يا رسول الله، إنَّ لي رحمًا أصِلهم ويقطعونني، وأحسِن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عليهم ويجهَلون علي، قال: ((إنْ كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تُسِفّهم الملَّ ـ أي: الرماد الحار ـ ، ولا يزال معَك من الله عليهم ظهير ما دُمتَ على ذلك)) [9].
أيّها المسلم، صِل الرحمَ بما تستطيع، وأعظمُ الصلة دعوةُ مَن خالفَ الحقَّ إلى الحقّ، وهدايتُه للطريق المستقيم، وإبعادُه عن الظلْم، فإذا وصلتَ الرحمَ فنأيتَ به عن ظلم العباد، وأخذتَ بيده لما فيه خيرُ دينه وإصلاحُ دينه ودنياه، كنتَ من الواصلين حقًا.
أخي المسلم، إن لم تقدِر بمالك فصِل رحمَك بزيارتِهم، وصِلهم بالدّعاء لهم، وصِلهم بكفِّ الضرر عنهم، وإمساكِ اللسان عن التحدّث بعيوبهم وزلاّتهم، وعدم مقابلتهم بما يسوؤهم.
أيّها المسلم، قد يحدُث بينك وبين رحمِك نزاعٌ أو اختلاف، فإيّاك أن توسّع هوّةَ الخلاف، وإنّما تسعى في تضييقِها، وإنّما تسعَى في تلافي كلّ النقص، وإنّما تسعى في الترفّع عن خصومةٍ بينك وبين رحمِك تزيدُ القلوبَ بغضًا وعداوة، ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُرشِد القضاةَ إلى أن لا يفصِلوا بين الرَّحم في الخصومة، وإنّما يسعَون في الإصلاح بينهم [10] ، خوفًا من أن يؤدِّيَ فصلُ الخصوم إلى ازدِياد النزاع والبُعد بين الرّحم بعضِه عن بعض.
أيّها المسلم، احذَر من قطيعة الرحم، فقطيعتُها عنوانُ قسوة القلب وضعف الإيمان، يقول الله جل وعلا: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23]. هذه عقوبةُ القاطعِ لرحمه، عقوبته يوم لقاء ربّه، تلك العقوبة العظيمة، يقول الله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ ، فسمّى القطيعة فسادًا في الأرض، وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ ، وعيدٌ على القاطعين شديد.
ويقول الله: وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
وفي الحديث: ((ثلاثةٌ لا يكلّمهم الله يومَ القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليم: مدمِن خمرٍ، وقاطعُ الرحِم، والمصدِّق بالسّحر)) [11] ، وعيدٌ على قاطع الرحم.
فيا أخي المسلم، حاوِل الصلةَ بقدر إمكانِك، وإن لم تقدِر عليها فحاوِل أن لا تُؤذي ولا تُلحق الضررَ بالرّحم، ولا تَحمَّل الخطايا والأوزار.
صِلِ الرحمَ يعينك الله على ذلك، وإن ضعفتَ على الصّلة فاحذَر القطيعةَ، واحذَر البغضاء، واحذَر أن تسَّبَّب فيما يجلب القطيعةَ بينك وبين رحمِك، تجنَّب أسبابَ ذلك، وكُن حذِرًا وحريصًا على جمعِ الكلمة ولمّ الشعث ووحدة الصَّفّ بينك وبين رحمِك، فإنَّ ذلك سببٌ لحصول الخير في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6138) واللفظ له، ومسلم في الإيمان (47) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في بدء الوحي (4)، ومسلم في الإيمان (160) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في الهبة (2592)، ومسلم في الزكاة (999) من حديث ميمونة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في التوحيد (7502)، ومسلم في البر (2554) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1396)، ومسلم في الإيمان (13) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في البر (2552) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[7] أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر (2557) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أيضا البخاري في الأدب (5985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الأدب (5991) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[9] أخرجه مسلم في البر (2558) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] أخرجه عبد الرزاق في المصنف (8/303)، وابن أبي شيبة (4/534) بلفظ: (ردوا الخصوم حتى يصطلحوا)، وضعفه ابن حزم في المحلى (8/164).
[11] أخرجه أحمد (4/399)، وأبو يعلى (7248)، والطبراني ـ كما في مجمع الزوائد (5/74) ـ من حديث أبي موسى رضي الله عنه بلفظ: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة...)) ، وصححه ابن حبان (6137)، والحاكم (7234)، وأقره الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع: "رجال أحمد وأبي يعلى ثقات"، ولهذا الجزء شواهد كثيرة، ولذا قواه الألباني في صحيح الترغيب (2362، 2539). وفي الحديث زيادة لا تثبت، انظر: السلسلة الضعيفة (1463).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عبادَ الله، [من أسباب] صلة الرحم أمور، فمنها الإيمانُ بالله وتصديقُ وعده وتنفيذ أوامره، فالمؤمن بالله حقًا يصِل رحمَه طاعة لله وقربةً يتقرّب بها إلى الله، يصِل رحمَه رجاءَ رضا الله عنه، يصِل رحمَه طمعًا فيما وعَدَ الله الواصلين من الثواب العظيم.
أيّها المسلم، إنَّ لقطيعة الرّحم أسبابًا، فمنها الحَسَد والعياذ بالله، فقد يحسد الإنسان ذا رحمِه، ذلك الحسَد المذموم الذي يتمنَّى زوال تلك النعمة عنه، لماذا؟ لأنَّه يريد أن ينفردَ بالجاه والمكانَة، وينفردَ بالسّؤدد عن سواه، فلا يرضَى لرحمٍ له أن يصلَ إلى خيرٍ، ولا أن يبلغَ خيرا.
فالحسَد ـ والعياذ بالله ـ يحمِله على قطيعةِ رحمه، وقد بيَّن الله لنا قضيةَ ابنَي آدم وما جرى بينهما فيقول : ((لا تُقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأوّل كفلٌ من دمها؛ لأنه أول من سنَّ القتل)) [1] ، قتَل أخاه حسَدًا والعياذ بالله، فنال ما نال.
ومِن أسباب قطيعة الرحم الأنانيةُ ومحبّة الذات، فبعض الناس أنانيٌّ في نفسه، لا يحبّ الخيرَ لأحد، ولا يرضَى بخير لأيّ إنسان، همُّه نفسُه فقط، وما عدا نفسه فلا يرى لأحدٍ قدرًا ولا مكانَة، ولهذا ـ والعياذ بالله ـ لو رأى أحدَ رحمِه نال خيرًا لكان أشدَّ عليه من كلّ شيء، فهو يحسد، وهو يبغِض، وهو يتمنّى كلَّ شرّ لرحمه، وهو يودّ لنفسه كلَّ شيء وأن لا يكون في الميدان له منافِس مهمَا بلغ حالُ ذلك الإنسان.
هذه أسباب ذلك، ومِن الأسباب أيضًا السعيُ بالنميمة بينَ الأرحام على قصدِ الإفساد بينهم، فينقل كلامَ هذا في هذا، وكلامَ هذا لهذا، لأجل الإفساد وضرب بعضِهم ببعض، فهو يفرَح على أن ينقلَ كلامًا؛ قال فيك قريبُك كذا، وقال فيك ابنُ عمّك كذا، وتحدَّث عنك ابنُ عمّك بكذا، حتّى يفسِد بينَ الأرحام، ويحدِث القطيعةَ بينهم، ويجعلهم خصماءَ متباغضين. فالنمام ـ والعياذ بالله ـ مفسِد يسعى بالإفساد بين الناس، فليكن المسلمُ على حذرٍ من أولئك، فمَا قصدوا بك خيرًا، وما أرادوا لك خيرًا، واجعل صلةَ الرحم فوقَ هذا كلّه، واستعِن بالله على المهمّات، ومَن كانت ثقتُه بالله لن يضرَّه أيّ مخلوق، في الحديث: ((واعلم أنَّ الأمةَ لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيءٍ قد كتبَه الله عليك)) [2] ، فلتكن ثقتك بربّك، واعتمادُك على ربّك، واتكالك على ربّك، وأيّ خطأ صدَر إليك من رحمِك فاحتسِبه ثوابًا عند الله، واعفُ عن زلاتِهم، وتحمّل أخطاءَهم، فلعلَّ الله أن يثيبك على ذلك، ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
المتواصلون يبارك الله في أعدادِهم، ويبارك الله في مكاسِبهم، ويبارك الله في أحوالهِم كلّها، وأهلُ القطيعة ـ والعياذ بالله ـ يُنزل الله الفشلَ في كلّ أحوالهم، في عددِهم، في رزقِهم، في كلّ أحوالهم ينزل الفشل بينهم، ويمحق الله بركةَ الأعمال والأموال، ويكونون ـ والعياذ بالله ـ متفرّقين، يتسلَّط عليهم كلّ أحد. أما المتواصِلون فهم يدٌ واحدة، متعاونون على البِر والتقوى، متواصلون فيما بينهم، متناصحون فيما بينهم، الأخطاءُ لا تظهر للآخرين، تُدَّارك الأخطاء، وتُصلَح الأخطاء، ويَنصح البعضُ البعض، ويتحابّون في الله، ذلك خلُق الإسلام الذي يدعو إليه، إلى التواصل والمحبّة والتعاون على كلّ خير.
أسأل الله أن يعيننا وإياكم على كلّ خير، وأن يعيذنا وإياكم من نزغات الشيطان.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3336)، ومسلم في القصاص (1677) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (4/409-410) (2669)، والترمذي في صفة القيامة (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (3/623)، قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
(1/4138)
خذوا حذركم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التوبة, القتال والجهاد, المسلمون في العالم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
27/12/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق الإنس والجن. 2- ضرب الآجال. 3- الإحصاء والمحاسبة. 4- الحث على التوبة. 5- التذكير بالموت والقبر. 6- التحذير من الاغترار بالحياة الدنيا. 7- التحذير من مكائد الأعداء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
أيّها المسلمون، ربُّنا جلّ وعلا خلقنا لعبادته وحدَه لا شريك له، ما خلقَنا ليستكثِر بنا من قِلّ، ولا ليستعزَّ بنا من ذِلّ، ولا ليستغني بِنا من فاقة، ولكن خلقنا لحكمةٍ عظيمة هي عبادتُه وحدَه لا شريك له، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
خلقَنا وما تركنا همَلاً، فحِكمتُه تأبى ذلك، أَيَحْسَبُ ?لإِنسَـ?نُ أَن يُتْرَكَ سُدًى [القيامة:36] لا، بل خلقَنا وأمرَنا ونهانا على أيدي رسلِه الذين بعثَهم مبشِّرين ومنذِرين ليقِيموا حجَّته على العبَاد، رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ [النساء:165]، ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَـ?كَ شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى ?للَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا [الأحزاب:45، 46].
جعَل الخلقَ خلائفَ في الأرض، يخلفُ بعضُهم بَعضًا ابتِلاءً وامتحانًا، ثُمَّ جَعَلْنَـ?كُمْ خَلَـ?ئِفَ فِى ?لأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس:14].
جعلَ للعبادِ آجالاً معلومَة، فما ضمِن لأحدٍ البقاءَ في هذه الدّنيا، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ?لْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ?لْخَـ?لِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِ?لشَّرّ وَ?لْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34، 35]، وأخبرَهم أن بقاءَهم على الأرض مقدَّر بزمن: وَلَكُمْ فِى ?لأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَـ?عٌ إِلَى? حِينٍ [البقرة:36]، فإذا انقضَت أيّام العبدِ التي قدَّرها الله فإنّه يحين أجلُه، فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:11].
أيّها المسلم، خُلِقتَ لعبادةِ الله، فاعلَم أنّك محاسَبٌ عن أقوالك وأفعالِك، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وقال: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَـ?فِظِينَ كِرَامًا كَـ?تِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، فأعمالُنا وأقوالنا محصاةٌ علينا، وإن نسِيناها فالله محصيها وعالِمُها، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ?للَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6]، أعمالُنا تعرَض على ربِّنا كلَّ يوم خميس واثنين، وأعمالنا ربُّنا محيط بها وعالمٌ بها، وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61]، في الحديث يقول النبي : ((إنَّ اللهَ لا ينام، ولا ينبغي له أن ينَام، يخفِض القِسط ويرفعُه، يُرفَع إليه عمَل الليل قبل عمَل النهار، وعملُ النّهار قبلَ عمل الليل، حجابُه النّور، لو كشَفه لأحرقَت سُبُحَات وجهِه ما انتهى إليه بصرُه من خلقه)) [1].
أيّها المسلم، هذه الأقوالُ والأعمال التي قُلناها وعمِلناها سنُوقَف عليها في ذلك اليوم العظيم، وسنطَّلع على كلِّ أعمالنا، وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14].
أيّها المسلم، فالأقوال والأعمال محصَاة، والله مطَّلع على الكلّ، ورحمتُه وسِعت كلَّ شيء، وبابُ التّوبة مفتوحٌ إلى أن تطلع الشمس من مغربِها، وربّك يبسُط يدَه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسُط يدَه بالنار ليتوب مسيء الليل، يَمْحُو ?للَّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ ?لْكِتَـ?بِ [الرعد:39].
أيّها المسلم، ستقِف على كلِّ أعمالِك، وستعرِف حقًا كمالَ عدلِ الله، وأنَّ الله لم يظلِمك مثقال ذرّة، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَظْلِمُ ?لنَّاسَ شَيْئًا وَلَـ?كِنَّ ?لنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:34]. وإن جحدتَ وأنكرتَ أنطقَ الله جوارحَك لتشهدَ عليك بكلّ أعمالك، وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء ?للَّهِ إِلَى ?لنَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى? إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَـ?رُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا ?للَّهُ ?لَّذِى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَـ?كِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ?للَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ?لَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ?لُخَـ?سِرِينَ [فصلت:19-23].
أيّها المسلم، سنُسأَل عن أعمارنا فيم أفنيناها؟ أفي طاعةٍ أو معصية؟ سنُسأل عن الشباب فيم أبليناه؟ سنسأَل عن المال مِن أين أتى؟ وأينَ ذهب؟ سنُسأَل عن العِلم الذي علِمناه: ماذا عمِلنا فيه؟ لن تزال قدمُ واحدٍ منّا يوم القيامة حتى يكونَ هذا السؤال، عمرك فيم أفنيتَه؟ شبابَك فيمَ أبليتَه؟ مالك مِن أين اكتسبته؟ مالك فيم أنفقتَه؟ علمك ماذا عملت فيه؟ سيكون هذا السؤال غدًا من العليم الخبير.
((ما [منكم] مِن أحدٍ إلا سيكلِّمه ربّه ليس بينه وبينَه ترجمان، ينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما عمل، وينظر عن يساره فلا يرى إلا ما عمِل، وينظر تلقاءَ وجهه فلا يرى إلا النّار، فاتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة)) [2].
أيّها المسلم، هل فكَّرنا في هذا الحساب؟ وهل تدبَّرنا هذه الأمور؟ هل وقَفنا مع أنفسِنا وقفةً لنأخُذ عِبرةً من انقضاء الأيّام وتصرُّم الأحوال؟
إنَّ كلَّ عام مضى فإنّه يقرِّبنا إلى الآخرة مرحلةً، ويباعدنا عن الدنيا مَرحلة، إلى أن يقضيَ الله قضاءَه، فعلى العبدِ أن يقفَ مع نفسِه وقفات، يحاسِب نفسَه، يفكِّر في الأعمال التي مضَت، فعَسى توبة نصوح يمحُو بها ما سلف ممَّا مضى، يفكِّر في مظالمِه لعباد الله في دمائهم وأموالِهم وأعراضهم، يتخلَّص من حقوقِهم، يتخلَّص من مظالمِهم، يردّ المظالمَ لأهلها، ويحاسِب نفسَه قبلَ أن يحاسبَ عَن كلّ قليلٍ وكثير. حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبلَ أن توزَنوا. إنَّما يخِفّ الحساب غدًا على الذين وقفوا عندَ همومِهم ومرادِهم، فما كان لله مضوا فيه، وما كان لغيرِه أمسَكوا، وإنّما يثقُل الحسابُ على الذين جازَفوا الأمورَ، فوجَدوا الله قد أحصَى عليهم مثاقلَ الذرّ.
أيّها المسلم، سيتبعُك بعدَ موتِك أشياء ثلاثة، يتبعُك الأهلون والمال والعمل، فيرجِع المال ويرجع الولد، ويبقى العمَل قرينًا لك في لحدِك، فإن يكن صالحًا ازدَدت به أُنسًا وانشِراحًا، وإن يكُن سيّئًا وازددتَ به سوءًا وهمًّا وغمًّا.
فيا أخي المسلم، البِدار البدار فيما خالفتَ فيه شرعَ الله، وفيما ظلمتَ به عبادَ الله، تخلَّص اليومَ قبل أن لا ينفعَك الدينار والدرهم، تخلَّص ما دُمتَ في هذه الدّنيا، وحاسِب نفسَك فوالله إنّها لبأمَسِّ الحاجة إلى مَن يحاسِبها، إلى من يَعود على نفسه، ما هي أعماله؟ ماذا جنى؟ ماذا عمِل؟ فعسى توبةٌ نصوح تهدم بها سيّئات الأقوال والأعمال، وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًَا ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه:82].
أيّها المسلم، كم خدعَتنا الدّنيا بزخارِفها، وكم أغرتنا بملهِياتِها، فشغَلتنا عن طاعةِ ربّنا، وصرفَتنا عمّا لأجلِه خُلقنا، نلهو بزخارِفها وغُرورها، ونتناسى الموقفَ بين يدَي الله، نظلِم العبَاد ولا نُبالي، نجحَد الحقوقَ ولا نُبالي، نرتكِب المخالفَات ولا نبالي، اللّسانُ يخطئ، واليَد تُخطئ، والبصر والسمع وكلّ هذه الجوارح صادّةٌ عن سبيل الله، قال جل وعلا: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]. شغلتنا زخارفُها، فخدعتنا عن الخير، وألهتنا عن التفكّر فيما أمامنا، أَلْهَـ?كُمُ ?لتَّكَّاثُرُ حَتَّى? زُرْتُمُ ?لْمَقَابِرَ [التكاثر:1، 2].
أيّها المسلم، فاتّق الله في نفسك، وفكّر في الأعوام عامٍ يمضي وعام يأتي، فتُب إلى الله ممَّا مضى، واعقِد العزم الصادق في المستقبل، واعلم أنَّ الله جلَّ وعلا أمهَلك لتعتبِر وتتَّعظ، ((أعذَر الله لعبدٍ بلّغه الستين)) [3] ، أي: ما جعل له من عذرٍ وقد بلغ من السنّ مبلغًا يعتبِر وينزجر فيه.
فلنتّقِ اللهَ في أنفسِنا، ولنحاسِب أنفسَنا، فـ ((كلّ الناسِ يغدو، فبائعٌ نفسَه، فمعتقُها أو موبِقها)) [4] ، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى? [الليل:4]، فساعٍ [لإنقاذ] نفسه من عذاب الله، وساع لإيباق نفسه في عذاب الله، وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وحاسبوا أنفسَكم فعسى تلك المحاسبة تعود عليكم بتوبةٍ نصوح واستقامة على الخير وتفكّر في المآل، فمن تفكّر في مآله وتدبّر عواقبَ الأمور رُجي له بتوفيقِ الله أن يستقِيم على الخير.
أسأل الله لي ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، وأن يمنحَنا التوفيقَ في أقوالنا وأعمالِنا، إنّه وليّ ذلك والقادِر عليه.
اللهمّ اجعل خيرَ أعمارنا أواخرها، وخيرَ أعمالنا خواتيمها، وخيرَ أيّامنا يومَ لقاك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (179) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التوحيد (7512)، ومسلم في الزكاة (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ((أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجلَه حتى بلَّغه ستين سنة)).
[4] أخرجه مسلم في الطهارة (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في كتاب ربّنا عظةٌ لنا، وتطهيرٌ لنفوسنا، وتزكية لأعمالِنا، في كتابِ ربّنا المنهجُ الصحيح الذي يجِب على المسلم أن يسير عليه في حياتِه، فتدبُّرُ القرآن فيه الهدى والنور والخير والصّلاح في الحاضر والمستقبل.
أيّها المسلم، لنتدبَّر آيةً من كتاب الله، قد ذكر الله في كتابه العزيز قصّة آدم مع عدوّ الله إبليس في سورة الأعراف، [وأخبرنا] عن وساوس عدوّ الله إبليس، إن الله جل وعلا أسكن أبانا آدم الجنة وأباح له كلَّ شيء فيها غير شجرةٍ واحدة عيَّنها الله لآدم ونهاه عن قربانِها، فعدوّ الله إبليس، جاء لآدم وحوّاء وقال: مَا نَهَـ?كُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ?لْخَـ?لِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنّي لَكُمَا لَمِنَ ?لنَّـ?صِحِينَ فَدَلَّـ?هُمَا بِغُرُورٍ [الأعراف:20-22].
تدبَّر ـ يا أخي ـ معي هذه الآية، عدوّ الله إبليس يقول لآدم وزوجته: مَا نَهَـ?كُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـ?ذِهِ ?لشَّجَرَةِ إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ ?لْخَـ?لِدِينَ ، فإن خالفتما وأكلتما كنتُما من الخالدين في الجنّة.
ثانيًا: أقسم لهما أنّه ناصحٌ لهما.
ثالثًا: دلاّهما بغرور.
هكذا الشّيطان فعلُه بآدم وزوجته، إلى أن أحبطهما الله إلى الأرض، ولله الحكمة البالغة في ذلك.
أيّها المسلم، إنَّنا في زمنٍ يجب أن نكونَ على حذَرٍ من مكائِد أعدائِنا، وأن لا نثِق بكلِّ دعايةٍ مضلِّلة، وأن لا نطمئنَّ لكلّ مقالة مضلِّلة، وإن تظاهَر أهلُها بالحقّ أحيانًا، فورَاء ذلك ما وراءَه، فأعداءُ الله لا يبالون بِنا، في أيّ أودية الهلاك وقعنا، يحاوِلون إبعادَنا عن دينِنا، وإغواءَنا بالشهوات والملذّات، فإن لم يجِدوا هذا مؤثِّرًا أتَونا أحيانًا من طريق التديُّن، ولبِسوا لباسَ التديّن والخير، والله يعلم إنّهم لمفسدون، والله يعلم إنهم لكاذبون، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
فِرعون يقول لقومِه عن موسى عليه السلام: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26]، ففِرعون يحذِّر قومَه من موسى، يقول: إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ ، كلُّ مفسدٍ ومغرضٍ يزعُم أنّه مصلِح، وأنَّ غيرَه على الفساد. كم نسمَع أحيانًا من بعضِ الفتاوى والمقالات التي ظاهرُها حقّ، ولكن ما أريد بها حقّ، ولماذا أخفِيت في زمانٍ مضى وجيء بها في هذا الزمن؟ ولماذا تُجُوهلت في سنين انطوَت ثمّ جيء بها في هذا الزّمن؟ ولماذا ينشط أولئك وقد يكون وراءَهم من وراءَهم ممّن يلبّسون الحقائق، ويتّخِذون أمرًا من الأمور ليقدَحوا به جاهلاً، ويغرِّروا به ضعيفَ البصيرة والإيمان؟
فلنكن ـ إخوتي ـ على حذَر من أولئك، ولتكن ثقتُنا بدينِنا ثم بأمّتنا وقيادتنا الثقةَ السليمة المبنيّة على الأصول الشرعية، ولنحذر من خداعة الأعداء ومكائدهم التي يروِّجونها دائمًا وأبدًا لقصد إيقاع أبنائنا في أمورٍ هم [في] غنىً عنها، لكن الأعداء يستعملون الحرب النفسيّةً ضدَّ الأمّة المسلمة بكلِّ ما أوتوا من إمكان. وليكن لأهل العلم والخير والتوفيق والفقه في دين الله نشاطٌ في تبصير الأمّة وتوعيَتها من كلّ مكائد الأعداء، حتى لا يوقِعوا شبابَ الأمّة في أمورٍ تخالف شرعَ الله.
العدوُّ يريد المكرَ بالأمّة بكلّ سبيل أُوتي، إمّا من طريق الشرّ أو طريق الخَير، وما يقصد الخير ولكن يريد الباطلَ على أيّ حال، إنّهم يحسدون هذه الأمّة على الدّين والأمن والاستقرار والخَير، فيريدون تبديدَ هذه الأمور بكلِّ وسيلة تمكِنهم، ولو توسَّلوا إلى ذلك بأشياء وبأمور قد تكون حقًّا في ظاهرها، لكن الأعداء لا يريدون بها خيرًا، ولا يهدفون من ورائها [إلى] خير، فليحذر المسلم أن يكونَ مطيّةً لعدوّه من غير تبصّر ولا تفكّر ولا رويّة. [فليحذر] المسلم مكائدَ الأعداء، فإنَّ أعداءَ الأمّة يلبسون كلَّ يوم لبوسًا خاصًّا، ويأتون بأنواع من الضلالات والغوايات، وربّما حسَّنوها بأمورٍ خيْريّة، وهم لا يريدون الخيرَ ولا يقصدونه، وإنّما يقصِدون ضربَ الأمّة في الصميم، فليكن شبابُنا على وعيٍ وفِكر من كلّ ما يُنشر ويُقال حتّى نسلم من مكائد الأعداء.
حَفظ الله الجميع من كلِّ سوء، وأحاطنا وإياكم بعنايتِه، وحفظنا من مكائدِ أعدائنا، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرَ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوِك وكرمك وجودِك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، وانصُر عبادَك الموحّدين، واجعل اللهمَّ هذا البلدَ آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، اللهمَّ وفِّقهم لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، اللهمَّ وفق إمامَنا لما يُرضيك، اللهمَّ انصر به دينَك وأعلِ به كلمتَك، اللهمَّ أرِه الحقَّ حقًا وارزقه اتِّباعه، وأرِه الباطل باطلاً وارزقه اجتنابَه، اللهمَّ بارك له في عمره وعمله، وألبسه ثوبَ الصحّة والسلامة والعافية.
اللهمَّ وفِّق وليَّ عهده لما يرضيك، سدِّده في أقواله وأعماله، ووفِّق النائبَ الثاني واجعلهم جميعًا أعوانًا على البرّ والتقوى، إنّك على كل شيء قدير.
رَبَّنَا ?غْفِرْ لَنَا وَلإِخْو?نِنَا ?لَّذِينَ سَبَقُونَا بِ?لإَيمَـ?نِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23].
رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ [البقرة:201].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله العظيمَ الجليل يذكرْكم، واشكروه على عموم نعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
(1/4139)
ما تحتاجه الأمّة لكشف الغمّة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/1/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من سنن الله تعالى: الدنيا دوَل، الصراع بين الحق والباطل، ابتلاء المؤمنين بالأعداء، ظهور الإسلام، قانون التغيير، فتح باب التوبة. 2- الذنوب سبب تسلّط العدوّ. 3- حاجة الأمة إلى الرجال المخلصين. 4- حاجة الأمة إلى العلماء الربانيين. 5- حاجة الأمة إلى الدعاة الصادقين. 6- حاجة الأمة إلى رجال التربية والتعليم. 7- حاجة الأمة إلى الجنود المخلصين المدافعين عن بلاد الإسلام. 8- حاجة الأمة إلى إعلاميين صادقين. 9- فضل شهر الله المحرم. 10- فضل صيام عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ لله في هذا الكون سننًا لا تتبدّل ولا تتغيَّر، سُنَّةَ ?للَّهِ فِى ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
فمِن سننه جلّ وعلا أن جعل هذه الدنيا دُوَلاً، يومٌ لك ويومٌ عليك، وهذه الدنيا تُضحِك وتُبكي، تضحِك أقوامًا وتبكي آخرين، فُتبكي من أضحكته، وتضحِك من أبكَته، ولا ينجو من خداعها وغرورها إلا المؤمنون حقًا الثابتون على إيمانِهم، لا تزيدهم السّرّاء إلا شكرًا لله، ولا الضرّاءُ إلا صبرًا ورضاءً بقضاء الله، وَتِلْكَ ?لأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ [آل عمران:140]، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً [النحل:97].
ومِن سننِه جلّ وعلا أنَّ الحقّ والباطلَ في هذه الدنيا في صراعٍ دائم مستمِرّ، ليستبينَ مَن هو صادقُ الإيمان قويّ اليقين، مِمّن يعبُد اللهَ على حرف، فإن أصابه خيرٌ اطمئنَّ به، وإن أصابته فتنةٌ انقلبَ على وجهِه.
مِن سننِه تعالى أن ابتلى عبادَه المؤمنين، ابتلاهم بأعدائِهم ليظهرَ مَن كان صادقًا ثابتًا على الحقّ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى? نَعْلَمَ ?لْمُجَـ?هِدِينَ مِنكُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـ?رَكُمْ [محمد:31]، وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـ?كِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، وقال: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [آل عمران:179].
مِن سننِه تعالى أنّ هذا الدينَ الإسلاميّ دينٌ سيظلّ إلى أن يرِث الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، فهو خاتمة الأديانِ كلِّها، فسيظلّ إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها، وهو خير الوارثين، وعنه قال: ((ولا تزال طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذلهم ولا مَن خالفهم حتى يأتيَ أمر الله)) [1]. فأيّ قوةٍ مهما عظُمت على وجه الأرض لن تستطيعَ زحزحةَ هذا الدّين ولا القضاءَ عليه، قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، وقال جلّ جلاله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]. كم تعرَّضت الأمّة لحملاتٍ من أعدائها على اختلاف القرون، ولكن لا يزال هذا الدينُ ظاهرًا قويًّا، مَن تمسَّك به ودعا إليه ورفع رايتَه فالعزُّ والتوفيق من الله له، قال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51]، وقال: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173]، ولكن على المؤمنِ أن يأخذَ بأسباب النّصر والتمكين، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَآتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:40، 41]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقال: فَلَوْ صَدَقُواْ ?للَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [محمد:21].
مِن سننِه تعالى أنّه إذا أنعمَ على قومٍ نعمةً فإنّه تعالى لا يزيلها عنهم حتى يكونوا هم السبَب في ذلك، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرًا نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى? قَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].
ومِن سننِه تعالى أنّه عرض التوبةَ على العباد، ودعاهم لأن يتوبوا إليه وينِيبوا إليه، ووعدَهم: إن تابوا إليه تاب عليهم، ومحا خطاياهم، وغفرَ زلاتِهم، وبدَّلهم بالسيّئات إحسانًا: إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:70].
أمّة الإسلام، إنّ عدوَّنا عندما يتسلَّط على أرضِنا أو على ديننا ونعمتِنا إنّما ذاك بسببٍ من قبل أنفسِنا، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، أَوَ لَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فمِن أنفسنا أُصِبنا، فعَودًا إلى دينِنا وتمسُّكًا بإسلامنا والتجاءً إلى ربِّنا وخضوعًا ودعاءً لله، فإنّه تعالى يجيب دعوةَ الداعي إذا دعاه، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
أيّها المسلمون، إنَّ الأمَّة الإسلاميّة في أمسِّ الحاجة إلى الرّجال المخلصين الصادقين الذين آمنوا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًا رسولاً، إلى رجالٍ مخلصين لله، مخلصين لشرعِه، ثم مخلصين لقضايا أمَّتِهم، الإخلاصَ الذي يؤثِّر العملَ، الإخلاصَ الصادق الذي يرى المسلم فيه ضرورةَ الدفاع عن دينِه، ثمَّ الدفاع عن أُمّة الإسلام، الإخلاص لله، ثمَّ الإخلاص لوطنِ الأمّة أن يُصاب بأيِّ مُصيبة فهو يَرى إخلاصًا لله قَبل كلِّ شيء، ثمَّ إخلاصًا لهذه الأمّة أن تُؤتي الأمّة من قِبَله بأيّ وسيلة، فما منَّا إلا على ثغر من ثغورِ الإسلام، اللهَ اللهَ أن يُؤتَى الإسلامُ مِن قِبَله.
كلُّ مسلمٍ فبَلدُ الإسلام أمانةٌ في عنُقه، يستشعر فضلَ بلدِ الإسلام وحمايته والدفاع عنه بكلِّ ما أوتي من سبيل، قولٍ أو فعلٍ، لأنَّ ذلك واجبٌ عليه، فبلادُ الإسلام أمانةٌ في أعناق الأمّة، لا يفرِّط في ذلك أو يضعُف إلا من ضعُف إيمانه.
أيّها المسلمون، حيالَ الفتَن والمصائب الأمّة بأمسّ الحاجة إلى علماء ذوي فضلٍ وإيمان و[قوّة] ورؤية بصيرة للأحداث، يبصِّرون الأمّة، ويُجلّون عنها الغمّة، يكشِفون عنهم آثارَ الفتنة والضلال، ويبصِّرونهم بالحقّ ليخلُصوا من الفتَن بعلمٍ وبصيرة، فهم يضيؤون البصائر للأمّة أمامَ الفتَن المضطرِبة حتى تكون الأمّة على بصيرة. فذوو العلم والفضل الذين منحهم الله علمًا نافعًا وبصيرة ناقدة يتصوّرون بها الأشياء حقَّ تصوّرِها، ويجلُونَ عن الأمّة كلَّ ما التبس عليهم بنور العلم والهدى ليكونَ الناس على بصيرة من أمرهم.
هُم بأمسّ الحاجة إلى دعاةٍ صادقين، دعاة مخلصين، دعاةٍ يبصّرون الناسَ بكتاب الله وبسنّة محمّد ، يعرضون تعاليمَ الإسلام كما أراد الله، بعيدًا عن الإفراط والتفريط، وإنّما دعاةٌ على عِلمٍ وبصيرة، يضَعون الأمورَ موضعَها، ويعالِجون القضايا على ضوءِ الكتاب والسنّة، من غيرِ خروجٍ عن المنهَج القويم، بَل منهجُهم منهج واضحٌ يتّبعون فيه كتابَ الله وسنَّةَ محمّد ، قُلْ هَـ?ذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى? ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ ?للَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [يوسف:108]. دعاةٌ صادقون مخلِصون، دعاة ناصحون وهداة إلى الخير، يهدون النّاس ويبصّرونهم ويحاوِلون إزالةَ الشبَه التي ربّما علقت بأذهان بعضِ الناس من غيرِ تصوّرٍ لها صحيح.
الأمّة بحاجةٍ إلى أهلِ تربيةٍ وتعليم، لكي يثقِّفوا أبناءَ الأمّة، ويبصّروهم ويرشِدوهم إلى الطريق المستقيم، فأبناءُ الأمّة من ذكورٍ وإناثٍ أمانةٌ في أعناق المعلّمين والمعلّمات، اؤتُمنوا على تربيتِهم وتوجيهِهم، فحريٌّ بهم أن يوجِّهوا الأمّة التوجيهَ السليم، وأن يأخُذوا بأيديهم للخير، وأن يرسُموا لهم الطريقَ السوِيّ الذي يسيرون عليه، ليسلَموا من تأثيرات بعض الإعلام الجائِر، وبعض الآراءِ المضلِّلة، وبعضِ الأفكار البعيدة عن الخيرِ والهدى.
الأمّة أيضًا بحاجةٍ ماسّة إلى جنديٍّ مسلم مخلِص في أعمالِه، يرى أنَّ الدفاع عن بلد الإسلام دين وشرفٌ وعزّ وكرامة، وأنَّ النيةَ الصادقة إذا صحِبت عملَه صارَ من المجاهدين في سبيل الله، جنديّ مسلمٌ إن كان في ميدانِ القتال رأيت الإخلاصَ والتفاني، وإن كان في الثغور رأيتَ الجدّ والصدقَ والعزيمة، ينتسِب إلى بلدِ الإسلام وقوّة المسلمين، ينتسِب إلى بلد الإسلام وتحتَ مظلّةِ القيادةِ المسلمة، فهو ينبري بالدفاع لله جلّ وعلا قبلَ كلّ شيء، يرجو ثوابَ الله، ويطمَع فيما وعَد الله به المجاهدِين، لا يثنيه عن إخلاصِه رأيٌ شاقّ، ولا فكرٌ صادّ، ولكن الإيمان والصدق والإخلاص يدعوه إلى الجهادِ والتفاني وبذلِ الجهد في كلّ ما يؤمِّن الأمةَ داخلاً وخارجًا.
هكذا الجنديّ المسلم مطيعٌ للأوامِر التي يُوجَّه لها من قيادةِ الأمّة المسلمة، ليكونَ جنديًّا مسلِمًا صادِقًا في أعمالِه كلّها، فعينان لا تمسّهما النار: عين باتت تسهَر في سبيل الله، فالساهر في سبيل الله والمجاهد في ثغور الإسلام له فضلٌ عظيم وشرَف كبير، فهو مؤمِن، يؤمِن بالله ورسولِه، مؤمنٌ أخلص لله، ثم أخلصَ لأمّته، مؤمنٌ يرى أنّه في أرضِ الإسلام وتحتَ قيادةٍ مسلِمة، فهو يبذُل كلَّ جهدِه إذا احتِيج إليه، مخلِصًا لله لا يبَالي ولا يُصغِي لأيّ آراءٍ بعيدَة عن الحقّ والاتِّزان.
الأمّة المسلِمة بحاجةٍ إلى رجالٍ في كلِّ ميادين الحيَاة، يخدمون أمّتَهم، ويرفَعون مستوى أمَّتِهم.
فالأمّة إنّما تسعد بأبنائِها المخلِصين الصادِقين الذين أخلَصوا لله قبل كلّ شيء، أخلصوا لدينهم ثمّ لأمّتهم المسلِمة، يعدّون كلَّ عمل في الأمّة عملاً صالحًا، فيصدقون في أعمالهم، ويصدُقون في ولايَتهم، ويجدُّون ويجتَهدون.
الأمّة بحاجةٍ إلى إعلاميّين صادقين، إلى رجالِ إعلام صادقين في توجّهاتِهم وفي أفكارِهم، يعالجون قضايا الأمّة ويكافحون عنها، يقِفون أمام الإعلام الجائر، فيزيّفون الباطلَ، ويدمغونه بالحق، ويخرجون صورةَ الأمّة المسلمة على الوفق الشرعيّ، رجالُ إعلامٍ صادقون في توجّههم وفي فكرِهم وسلوكهم، لا يدَعون الإعلامَ الجائر أن يمسَّ الأمّة بسوء، بل هم مكافحون بأقلامهم بأفكارِهم، يكافحون عن الأمّة، ويحمون حماها، ويجاهدون في سبيل ذلك حتى تفهَم الأمة، ويكونَ لديها وعيٌ سليم. نحن في زمنٍ تكالبت فيه وسائلُ الإعلام، وتنوّعت توّجهاتها، وكثرت كثرةً عظيمة، فأصبَح البعض في حَيرة ممّا يسمَع ويشاهِد، فلا بدّ للأمّة من رجال إعلامٍ صادقين، لا يدَعون ذلك الإعلامَ الجائر أن يبُثّ سمومَه ويخترقَ صفوفَ الأمّة بأكاذيبِه ودعاياتِه المضلِّلة، بل هُم سدٌّ منيع أمامَ كلّ هذه القوّة الشّرِّيرة، بالأقلام الصادِقة، بالكلمات النافعة، بالفكر النيّر الذي يُنقذون به الأمّة من كلّ ما لبِّس عليها، ويزيلون عنها كلَّ الغشاوة التي أحدثتها تلك الوسائلُ الجائرة.
إذًا فالأمّة بحاجةٍ إلى تكاتُفٍ من جميع أفرادِها، وفي جميع ميادينِها، لأنّ هذا هو المطلوب من الأمّة المسلمة، إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصبحه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، شهرُ الله المحرّم أحدُ الأشهر الحرُم الذي قال الله فيه: إِنَّ عِدَّةَ ?لشُّهُورِ عِندَ ?للَّهِ ?ثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَـ?بِ ?للَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ?لسَّم?و?ت وَ?لأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36]، وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرَّم ورجب، هذه أشهرُ الله الأشهر الحرُم.
شهر المحرَّم يقول فيه : ((أفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل، وأفضلُ الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرّم)) [1].
وأفضل هذا الشهرِ اليومُ التاسع والعاشر، فهما أفضلُ صيام هذا الشهر، ونبيّنا صام اليومَ العاشر من المحرّم، وفي آخر حياته قال: ((لئن عشتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسعَ)) [2] ، وقال أبو قتادة رضي الله عنه: سئل النبي عن صيام يوم عاشوراء فقال: ((أحتسِبُ على الله أن يكفِّر السنةَ الماضية)) [3] ، وقال عبد الله بن عباس: صام النبي يوم عاشوراء [4] ، وقال أيضًا: ما رأيتُ النبيَّ يصوم يومًا يتحرَّى فضلَه على الأيّام إلا هذا اليوم، يعني يوم العاشر [5]. ذلك أنَّه قدم المدينةَ واليهود يصومون هذا اليومَ، فسألهم فقالوا: يومٌ أنجى الله فيه موسى وقومَه وأغرق فيه فرعونَ وقومه، فنحن نصومُه شكرًا لله، فقال : ((نحن أحقُّ وأولى بموسى منكم)) [6]. وحقًّا إنَّ محمّدًا أولى بموسى من أهلِ الكتاب الذين كذَّبوا رسالتَه، إِنَّ أَوْلَى ?لنَّاسِ بِإِبْر?هِيمَ لَلَّذِينَ ?تَّبَعُوهُ وَهَـ?ذَا ?لنَّبِىُّ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?للَّهُ وَلِىُّ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]، فصامه وأمر الناس بصيامه. فهو سنّة مؤكّدة وليس بواجبٍ، لكنه سنّة يرجو المسلم بصيامِه ثوابَ الله.
وصيام هذا الشّهر يوم الأربعاء فهو يوم التاسع المرافق لتقويم أمّ القرى، ويوم الخميس يوم العاشر، فمن أحبَّ أن يصوم يومَ الأربعاء والخميس فعل، ومن أحبَّ أن يصومَ يومَ الخميس ويوم الجمعة فعل، لكن التاسِع مع العاشر أولى مع القُدرة، فتحرَّوا صيامَ هذين اليومين، ففيهما أجرٌ عظيم، يكفِّر الله بهما ذنوبَ عامٍ مضى عليكم، فاحتسِبوا هذا الموسِمَ، وصوموه شكرًا لله، إنَّنا في عباداتِنا مقتدون بنبينا ، نرجو بصيامِه ما وُعِدنا عليه من هذا الثوابِ العظيم.
أسأل اللهَ أن يوفّق الجميعَ لما يرضيه، وأن يجعلَ عامَنا عامَ خيرٍ وبركة وعزٍّ للإسلام والمسلمين، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الصيام (1163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه تقديم وتأخير.
[2] أخرجه مسلم في الصيام (1134) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1162) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (2006)، ومسلم في الصيام (1132) بنحوه.
[6] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.
(1/4140)
عذاب القبر ونعيمه
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
11/1/1424
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنواع الدُّوْر. 2- القبر روضة أو حفرة. 3- عذاب القبر ونعيمه حق. 4- من أسباب عذاب القبر. 5- الاتعاظ بالقبر. 6- فتنة القبر. 7- رحلة الروح. 8- دعوة للتوبة والرجوع إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، جعل الله الدورَ للعباد ثلاثة: دار العمَل وهي هذه الدّنيا، ودار البرزَخ، والدّار الآخِرة.
فدارُ الدنيا دارُ عمَل، يتنافس فيها المتنافسون، ويستبِق فيها المتسابقون، وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? [البقرة:197]، وَقَدّمُواْ لأنفُسِكُمْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلَـ?قُوهُ [البقرة:123]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:29]، وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]. فهي دارُ عمل، يعمَل فيها العِباد، ويتنافس فيها المتَنافسون، والسعيدُ من سَبقَت له من الله السعادَة، فاستغَلّ عمرَه فيما يُرضِي الله عنه.
ودارُ الآخرة هي دار الجزاء على الأعمَال، لِيَجْزِىَ ?لَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى ?لَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِ?لْحُسْنَى [النجم:31].
ودارُ البرزخ، وهي بين الدنيا والآخرة، ألا وهو هذا القبر الذي يسكنُه العبد بعدَ مفارقتِه الدّنيا، ويبقى فيه إلى أن يأذنَ الله بقيَام العباد لربّ العالمين، وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَإِذَا هُم مّنَ ?لأجْدَاثِ إِلَى? رَبّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُواْ ي?وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ ?لرَّحْمـ?نُ وَصَدَقَ ?لْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً و?حِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:51-53]، يَوْمَ تَشَقَّقُ ?لأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ [الذاريات:44].
أيّها المسلم، فالقبر إمّا روضةٌ من رياض الجنة، وإمّا حفرة من حفَر النار. القبرُ نتيجةٌ لعملك في الدنيا، فمحسنٌ يكون القبرُ عليه سَعةً وسرورًا، ومسيء يكون القبر عليه ضيقًا وحزنًا وسوءًا.
أيّها المسلم، عذابُ القبر أو نعيم القبر كلُّه حقّ دلّ عليه كتابُ الله وسنّة محمّد وأجمع على ذلك سلف الأمّة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، قال الله تعالى: ?لنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ?لسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ?لْعَذَابِ [غافر:46]، فأرواحُهم تُعرّض على النّار غدوًّا وعشيًّا، ذلك أنّ روحَ العبد تكون بعد الموت ومفارقةِ الجسَد في مقرِّها، إمّا في أعلى عليِّين، أو أسفلِ سافلين، ولها اتّصال قويٌّ بالبَدَن، تُعذَّب الروح أو تنعَّم، ويتَّصل بالبدن عذابُها أو نعيمها، ونبيّنا أمرنا أن نستعيذَ بالله من عذابِ القبر في صلواتِنا، فقال: ((إذا صلّى أحدُكم فليستعِذ بالله من أربع يقول: اللهمَّ إنّي أعوذ بك من عذاب جهنّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المَسيح الدجَّال)) [1] ، فأمرنا أن نستعيذ بالله من عذاب القبر في صلواتِنا قبل أن نسلّمَ، نستعيذ بالله من عذاب القبر، ذلك أنَّ عذابَ القبر حقّ لا شكَّ فيه. دخلت يهوديّة على أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت: أعِيذك بالله من عذاب القبر، فسألت عائشة النبيّ عن ذلك فقال: ((إنَّ عذابَ القبر حقّ)) [2] ، وقال: ((إنّه أوحِيَ إليَّ أنّكم تُفتَنون في قبورِكم مثل أو قريبًا من فتنة المسيح الدجَّال)) [3].
أيّها المسلم، عذابُ القبر لا شكّ فيه، عذابٌ على قدرِ أخطاء ابنِ آدم، فمقلٌّ ومستكثِر ومعافىً من الكلّ بفضل الله ورحمتِه. وقد أخبرنا نبيّنا عن أنواعٍ من عذاب القبر، ففي حديث ابن عبّاس أنّه مرّ على قبرين فقال: ((إنّهما ليعذّبان، وما يعذَّبان في كبير، أمّا أحدهما فكان لا يستنزه من البول، وأمّا الآخر فكان يمشي بالنميمة)) ، فأخذ جريدةً رطبة فشقَّها نصفَين، فغرَز على كلّ قبرٍ واحدة، وقال: ((لعلّه يُخفَّف عنهما ما لم ييبَسا)) [4] ، ومرَّ بقبر رجلٍ من مواليه قُتِل في سبيل الله، فأثنَوا عليه فقال: ((كلا، إنَّ الشملةَ التي غلَّها لتشتعِل عليه الآن في قبرِه نارًا)) [5].
أيّها المسلمون، عذابُ القبر ونعيمه حقّ، والمسلم إذا تذكّر ذلك الأمرَ دعاه إلى العمل الصالح والجدّ والاجتهاد في الإخلاص لله، ومعاملة الله بالصّدق فيما بينَه وبينَه، عسى ذلك سببًا لنجاته وفوزه من ذلك العذاب العظيم.
شيّع أميرُ المؤمنين عثمانُ بن عفان رضي الله عنه ميتًا، فلما وَقَف على قبره بكى، قيل: ما يبكيك يا أميرَ المؤمنين؟ قال: ((إنَّ القبرَ أوّلُ منازل الآخرة، فإمّا روضةٌ من رياض الجنّة، أو حفرة من حفَر النّار، من نجا منه فما بعدَه أيسرُ منه)) أخبر أن النبيّ قال ذلك [6].
فعلى العبدِ المسلم أن يتذكَّر تلك الأحوالَ، يتذكَّر تلك الساعةَ التي يرحل من بيتِه بين أهله وولده وأصحابِه، ينتقل من الدنيا إلى هذا القبر الذي هو على قدرِ طوله وعرضِه، يبقى فيه طويلاً إلى قيامِ العباد لربِّ العالمين، فليتفكَّر المسلم في مآله، وليستعدَّ لذلك الهولِ العظيم، ويؤدّي ما أوجب الله عليه، ويتقرَّب إلى الله بصالح العمل، عسى أن ينجوَ من هول هذا القبر، عسى أن ينجوَ من عذابِه وكرباتِه، عسى أن يكون قبره روضةً من رياض جناتِ الله، عسى أن يكونَ فيه متنعِّمًا بالأعمال الصالحة، متلذِّذًا بما قدّم من خيرٍ، نسأل الله لنا ولكم التوفيقَ والهداية والعونَ على كلّ خير.
إنَّ في القبر فتنةً عظيمة، يُسأل الرجل عن ربّه وعن دينه وعن نبيّه، فالمؤمن الصادق الإيمان قوي الإيمان يقول: الله ربّي، والإسلام ديني، ومحمّد نبيّي، يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [إبراهيم:27].
شُرِع لنا زيارةُ القبور للاتّعاظ والاعتبار، ((زورا القبور فإنّها تذكِّر الموت)) [7] ، وقال: ((كنتُ نهيتُكم عن زيارةِ القبور فزوروها؛ فإنّها تذكِّركم الآخرة)) [8] ، فهي عِبرةٌ لمن اعتَبَر، وعِظة لمن اتّعظ، كفى بالموتِ واعظًا، وكفى بالقبر واعظًا، فنسأل الله لنا ولكم الثباتَ والاستقامة على الهدى، وأن لا يزيغَ قلوبَنا بعد إذ هدانا.
روى الإمام أحمَد رحِمه الله عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله في جنازة رجلٍ من الأنصار، فانتهَينا إلى القبر ولمَّا يُلحَد، فجلس النبيّ ، وجلسنا حولّه كأنَّ على رؤوسِنا الطير، وبيده عودٌ ينكت به الأرض، ثم رفع رأسَه وقال لهم: ((استعيذوا بالله من عذاب القبر، استعيذوا بالله من عذابِ القبر، استعيذوا بالله من عذابِ القبر)) ، ثم قال لهم : ((إنَّ العبدَ المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة نزل إليه ملائكةٌ بيض الوجوه، كأنَّ وجوهَهم الشّمس، معهم كفَن من كفنات الجنّة، وحنوط من حنوط الجنّة، فيجلسون إليه مدَّ البَصَر، ثمّ يجيء ملكُ الموت فيجلس عند رأسه، فيقول: اخرُجي أيّتها النّفس الطّيّبة إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرةُ من فِي السِّقاء، فإذا خرجَت أخذَها فلا يدعها في يدِه حتى يأخذوها فيضعوها في ذلك الكفنِ وذلك الحنوط، فيخرج منه كأطيبِ ريحِ مسكٍ وُجد على وجهِ الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرّون بملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه النفسُ الطيّبة؟ فيقولون: روحُ فلان بن فلان، بأطيَب أسمائِه التي كان يسمَّى بها في الدنيا، فيستفتِحون له فيُفتَح له، فيشيّعه من كلِّ سماءٍ مقرَّبوها إلى السّماء التي تليها، حتى ينتَهوا إلى السّماء السابعة، فيقول الله: اكتُبوا كتابَ عبدي في عليِّين، وأعيدُوه إلى الأرض، فإنّي منها خلقتُهم، وفيها أعيدُهم، ومنها أخرجُهم تارةً أخرى، قال: فترَدّ روحه إلى جسدِه، فيأتيه ملكان فيُجلِسانه، فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربّيَ الله، فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: دينيَ الإسلام، فيقولان له: ما عِلمُك بهذا الرجل؟ قال: هو رسولُ الله، قال: وكيف عملُك؟ قال: قرأتُ كتابَ الله وصدَّقت، فينادي منادٍ من السماء أن صدقَ عبدي، فأفرِشوه من الجنّة، وألبِسوه من الجنّة، وافتحوا له بابًا من الجنّة، فيأتيه من رَوحها وريحها، ويُفسَح له في قبره مدَّ بصره، فيأتيه رجلٌ حسنُ الوجهِ حسنُ الثياب طيّب الريح، فيقول: أبشِر بالذي يسرُّك، هذا يومك الذي كنتَ توعَد، فيقول: من أنتَ؟ فوجهُك الوجه الذي يأتِي بالخَير، فيقول: أنا عملُك الصالح، فيقول: ربِّ أقِم الساعة، ربِّ أقِم الساعة، حتّى أرَدَّ إلى أهلي ومالي. قال: وأمّا الكافر ـ أو قال: الفاجر ـ إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبالٍ من الآخرة نزل إليه ملائكةٌ سودُ الوجوه، معهم المُسوح، فيجلِسون مدَّ بصرِه، فيأتي ملك الموت ويجلس عند رأسه، ويقول: اخرُجي أيّتها النفس الخبيثة إلى سخطٍ من الله وغضب، قال: فتتفرَّق في جسدِه، فينتزِعها كما ينتزع السَّفُّود من الصوفِ المبلول، فإذا أخذَها لم يدَعها بيدِه حتى يضعَها في تلك المسوح، فيخرج منها كأنتنِ ريحٍ وجدَت على وجهِ الأرض، فيصعَدون بها فتغلق دونَها أبوابُ السماء، ثم تلا: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْو?بُ ?لسَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ [الأعراف:40] ، ثم ينادي منادٍ: اكتبوا كتابَ عبدي في سجِّين في الأرض السلفى، وأعيدوه إلى الأرض، فمنها خلقتُهم، وفيها أعيدُهم، ومنها أخرجُهم تارةً أخرى، فتُطرَح روحه طرحًا ثم تلا: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء [الحج:31] ، فيأتيه الملكان فيجلِسانه، ويقول: من ربّك؟ فيقول: ها ها لا أدري، ما دينك؟ فيقول: ها ها لا أدري، ما علمُك بهذا الرجل؟ فيقول: ها ها لا أدري، فينادي منادٍ أن كذَب عبدي، فأفرِشوه من النّار، وافتَحوا له بابًا من النّار، فيأتيه من حرّها وسمومها، ويضيَّق عليه قبرُه حتى تختلف فيه أضلاعُه)) [9].
فيا أيّها المسلمون، كلُّ هذه الأمور سيقف عليها كلُّ واحدٍ منّا، وسيشاهدُها حقيقَة، فعلى المسلم تقوى الله، وتذكُّر تلك المصارع، وتذكّر ذلك المصرعِ العظيم، والتفكّر فيه طويلاً، والتّخلّص من أسبابِ عذابِ الله، عسى أن نوفَّق لصالح العمل، وعسى أن ننجوَ من هول ذلك الموقف العظيم.
أسأل الله أن يثبّتنا على الإسلام، وأن لا يزيغَ قلوبَنا بعد إذ هدانا، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في المساجد (588) من حديث أبي هريرة رضي االله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1372)، ومسلم في الكسوف (903).
[3] أخرجه البخاري في العلم (86)، ومسلم في الكسوف (905) من حديث أسماء رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في الوضوء (216)، ومسلم في الطهارة (292).
[5] أخرجه البخاري في المغازي (4234)، ومسلم في الإيمان (115) من حديث أبي هريرة رضي االله عنه بنحوه.
[6] أخرجه الترمذي في الزهد (2308)، وابن ماجه في الزهد (4267)، وليس فيه أنه إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (7942)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (3550).
[7] أخرجه مسلم في الجنائز (976) من حديث أبي هريرة رضي االله عنه.
[8] أخرجه أحمد (5/350، 355، 356، 361)، وأبو داود في الجنائز (3235)، والترمذي في الجنائز (1054)، والنسائي في الضحايا (4430) من حديث بريدة رضي الله عنه، وأصله في مسلم في الجنائز (977) من غير ذكر حكمة الترخيص.
[9] أخرجه الطيالسي (753)، وأحمد (4/287)، وأبو داود في السنة (4753)، والحاكم في المستدرك (1/37-38) بنحوه، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، وسكت عنه الذهبي، وأخرجه ابن منده في الإيمان (1064)، وقال: "هذا إسناد متصل مشهور"، والبيهقي في إثبات عذاب القبر (21-44)، وفي شعب الإيمان (395) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وقد جمع الألباني روايات الحديث وصححه في أحكام الجنائز (59).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، حافظوا على طاعةِ ربّكم، استقيموا على إسلامِكم، كونوا واثقين بإيمانِكم، ليكن الإيمان صادقًا، وليكن العمل صالِحًا، فالإيمان الخالِص لله عن صدقٍ ويقين هو الذي ينفَع صاحبَه، فأخلِصوا لله أعمالَكم، وحافِظوا على طاعة ربّكم، وأدّوا فرائضَ الله، واجتنِبوا محارمَه لعلّكم تفلحون، فلا ينجي العبدَ من تلك الأهوال إلا أعمالُه الصالحة التي أخلصَها لله، وصدق مع الله فيها.
اتقِ يا أخِي محارمَ الله، اتَّق ظلمَ العباد، اتَّق أكلَ أموالِهم بالباطل، اتقِ محارمَ الله، وحافِظ على طاعةِ ربّك، واستقِم عليها، عسى أن تكونَ من الفائزين، وتذكَّر الموتَ وما بعدَه، فهو خيرُ واعظ لقلبِك يا أيّها المؤمن، يعظك لكي تستقيمَ على طاعة ربّك، وتسعى في خلاصك ونجاتك، يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
في قبرِك تفارِق الأهلَ والمال والولدَ، وتبقَى في هذا القبرِ وحيدًا، فإن تَكن الأعمال صالحةً ازددتَ بها أُنسًا وسرورًا، وفرِحت بها واستبشرتَ بها، وتمنّيتَ المزيدَ لو تُمكَّن من ذلك، وإن يكن العمل سيّئًا انضاف إلى حزنِك وضيق مكانِك ما الله به عليم، فلِلَّه كم في هذه القبور من أهوال، كم من منعَّمٍ فيها سعيدٍ مطمئنّ، وكم من شقيٍّ فيها معذَّب، كم من سعيدٍ فيها بأعماله الصالحة التي تجري عليه بعدَ موته، وكم من متألّم من أوزارٍ تحمّلها، ومظالمَ للعباد تحمَّلها، وأموالٍ حرام أكلَها، ومحرَّمات انتهَكَها، فهو اليومَ يعاني من آلامِ تلك المخالفَات، فلنتَّقِ اللهَ في أنفسِنا، ولنتدبَّر واقعَنا، عسى الله أن يفتَح على قلوبِنا، ويبصِّرَنا في أنفسِنا، ويجعلَنا ممَّن يسارع إلى فعل الخيرات، إنّه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/4141)
اتباع الهوى
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, الفتن
حسام الدين خليل فرج
الدوحة
جامع صلاح الدين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا جعل الله متبع الهوى بمنزلة عابد الوثن؟ 2- أثر اتباع الهوى على الأمة الإسلامية. 3- لماذا حذرنا الله من اتباع الهوى؟ 4- أساليب ترويض الهوى: الخوف من الله، مجاهدة النفس، التفكر في العواقب، قِصر الأمل، ذكر الموت، معرفة قدر الآخرة وقدر الدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أخي الحبيب، حديثي إليك عن أخطر أوثان العصر، بل وكل عصر، إلا أنه في عصرنا ظهر في أمتنا ظهورًا لم يسبق له مثيل، فأعلامه مرفوعة، وشاراته منشورة، وعلاماته بارزة، وعُبّاده وفرة، وكهانه كثرة، إنه الهوى، وما أدراك ما الهوى، كم فيه من هائمين، وكم عليه من عاكفين.
قال تعالى: أَرَءيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43]، وقال: أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
أرأيت؟! فإن حاله عجيب، يستحق العجب والتعجب، إنه لا يهوى شيئًا إلا ركبه، ولا يتمنى شيئا إلا فعله، فلا يحرم ما حرم الله سبحانه، ولا يحلّ ما أحلّ، بل واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه سبحانه وغضبه، فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته رضي ربه سبحانه أم سخط، إن أحبّ أحب لهواه، وإن أبغض أبغض لهواه، وإن أعطى أعطى لهواه، وإن منع منع لهواه، فهواه آثر عنده وأحبُّ إليه من رضا مولاه؛ ولذا جعل الله متبع هواه في مخالفته بمنزلة عابد وثن، وسمى ذلك الهوى المتَّبع إلهًا.
والناظر بعين البصيرة إلى واقع المسلمين يرى أن هذا الداء قد استشرى في واقعهم، يتعذبون به، ويتلوعون بمراراته، ويكتوون بحرارته، ولا نزال في كل وقت نجني من ثماره المرة ونتائجه الخبيثة.
ففي محراب الهوى أضاع كثير من المسلمين ـ ولا سيما الشباب ـ الصلوات، وارتكبوا المنكرات، واتبعوا الشهوات، واقترفوا العظائم؛ خمور ومخدرات، تفحيط ومغامرات، سهر في الليل على الحرام، ودوران في سواقي الدنيا بالنهار، رقص ومجون ومعازف، وكرة وخلاعة، ذهول عن مصائب الأمة.
وَقِرَت آذانُهم فلم تعد تسمع صرخات المسلمين في فلسطين وفي الشيشان وفي أفغانستان الجريحة وفي كشمير وفي إندونيسيا في الفلبين وفي بورما، وغيرها كثير. سَكِرت قلوبهم بالهوى حتى غدت كالأكواز المُجَخِّيَة، لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرًا إلا ما أُشْرِب من هواها.
تهتز تحت أقدامهم المدرجات في ملاعب الكرة، فيرقص اليهود والنصارى طربًا على تلك الأمة التي تخادَع وتُلهى عن قضاياها، أو تراهم وقد هاموا في سماع أغنية ساقطة، أو ترى نساء ممن أسقطن الحجاب يهمهنّ من نظر إليهن، مَن أعجب بهنّ، وتنزلق وهي لا تدري أو تدري، قال فيهم : ((ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم.
هؤلاء لم يترك الهوى عيونهم ترى أبعَد من أنوفهم، وإلا لما كان هذا حالهم والأمة الإسلامية تئن من الآلام وتنزف من الجراح، قال النبي : ((ألا إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب لصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله)) رواه أبو داود وصححه الألباني (3843).
رأينا هذه الأهواء كيف تتجارى بأصحابها، فأملهم بعيد، وتسويفهم طويل، لا يعرفون للتوبة بابًا وللعودة طريقًا، ساهون غافلون، مشغولون بالدنيا وزخارفها، يبيع أحدهم دينه بعَرَض حقير منها، يهيَّأ له وكأنه سيعيش أبد الدهر، غفلوا عن الله وذكره وعبادته، وعن الموت وسكرته، وعن القبر وظلمته، وعن الحساب وشدته.
ساروا وراء ما تهوى النفوس وتشتهي من غير تحكيم العقل أو رجوع إلى شرع أو تقدير لعاقبة، فالمتبع لهواه يرى المعصية بعين الحُسن كما يرى اللّصّ لذة أخذ المال من المسروق، ولا يرى بعين فِكره القَطع.
وهذا الذي خشيه النبي علينا، عن أبي برزة عن النبي قال: ((إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى)) رواه أحمد.
فتذكر ـ أخي بارك الله فيك ـ عندما تتجرأ على معصيته سبحانه على علم, وعندما تغلب الشهوة على الإرادة، ويطغي الهوى على التقوى، أَفَرَأَيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ?للَّهُ عَلَى? عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى? سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى? بَصَرِهِ غِشَـ?وَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ?للَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ.
إنه يُخشىَ والله على من اتبع هواه أن يُسلب الإيمان وهو لا يشعر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) قال النووي:" رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح".
قال ابن رجب: "هذا الحديث كقوله سبحانه وتعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]".
وتحت اتباع الهوى كل مكروه وسوء، كما قال تعالى: إِنَّ ?لنَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِ?لسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى إِنَّ رَبّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ [يوسف:53]، وهي تأمر صاحبها بما تهوى.
قال ابن عباس: (ما ذَكر الله هوى في القرآن إلا ذمّه، قال الله تعالى: وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ?لْكَلْبِ [الأعراف:176]، وقال تعالى: وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ [القصص:50])، قال أبو عثمان النيسابوري: "من أَمَّر السُّنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله تعالى يقول في كلامه القديم: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ [النور:54]".
وقال : ((ثلاث مهلكات)) ، فذكر منهن: ((هوى متبع)) أخرجه البزار والطبراني في الأوسط وهو في السلسلة الصحيحة (1802).
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في خطبته: (أفلح منكم من حُفِظَ من الهوى) رواه البيهقي، وقال الشعبي: "إنما سمي الهوى لأنه يهوي بصاحبه".
ولذا فإن اتباع الهوى هو الذي جرَّع أمتنا غُصصَ الهوان، ونتساءل: كيف رضيت الأمة بالدَّنية في دينها؟!
سؤال يتردد في كل مكان وفي كل حين، نقرؤه في العيون الحائرة والقلوب الملهوفة، في العبرات، في الآهات، في الدماء والجراح، وفيما نراه منقوشا على صفحات الوجوه. والجواب: إنه اتباع الهوى وحبّ الدنيا.
لكي تهزم عقيدة فإنك تحتاج إلى عقيدة، ما هي عقيدتنا نحن؟! الأَثَرة الفردية، اتباع الشهوات، طلب الملذات، الحياة الرغيدة، كلها أهواء. يقول بعضهم عند مناصحته على معصية: أنا حرّ في تصرفاتي، نقول: لست حرًا في معصية الله، بل إذا عصيت ربك فقد خرجتَ من عبودية الله إلى عبودية الشيطان والهوى.
حتى إذا خاض الفتى لجج الهوى جاءت أمور لا تطاق كِبار
كم أوقع الهوَى في رذائل، وكم فوّت من فضائل، وكم نكس من رأس، وكم ألزم من عار، بل كم زحزح عن الملّة وأخرج عن حياض الدين.
وهذا جميل بن معمر مجنون بثينة يقول لمن أمره بالجهاد:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة قلت: وأي جهاد غيرهن أريد
فلكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد
حذرنا الله سبحانه من اتباع الهوى لأن اتباع الهوى مانع من اتباع الهدى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ [القصص:50]، ولأن اتباع الهوى يفسد العالم: وَلَوِ ?تَّبَعَ ?لْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَـ?هُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ [المؤمنون:71]، ولأن اتباع الهوى سبب كفر من سبقنا من الأمم، فهو سبب كفر اليهود: وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى ?لْكِتَـ?بَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِ?لرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَأَيَّدْنَـ?هُ بِرُوحِ ?لْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم ?سْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]، وهو سبب كفر النصارى: قُلْ يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ?لْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:77]، وهو أيضا سبب كفر المشركين: وَكَذَّبُواْ وَ?تَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ [القمر:3]، ولأن متبع الهوى يضلّ عن سبيل الله، قال عز وجل: وَلاَ تَتَّبِعِ ?لْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ إِنَّ ?لَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ?لْحِسَابِ [ص:26]، ولأن متبع الهوى يُزيَّنُ له سوء عمله: أَفَمَن كَانَ عَلَى? بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ وَ?تَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ [محمد:14]، لأن متبع الهوى ظالم: بَلِ ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَاءهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ ?للَّهُ وَمَا لَهُمْ مّن نَّـ?صِرِينَ [الروم:29]، ولأن متبع الهوى قلبُه قاسٍ أسود، قال رسول الله : ((وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) رواه مسلم وأحمد، ولأن متبع هواه مَثَلُه في الذلة والهوان كمثل الكلب: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـ?هُ بِهَا وَلَـ?كِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى ?لأرْضِ وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ ?لْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذ?لِكَ مَثَلُ ?لْقَوْمِ ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ بِثَايَـ?تِنَا فَ?قْصُصِ ?لْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [لأعراف:176]، ولأن اتباع الهوى يمنع الفهم النافع: وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى? إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ مَاذَا قَالَ ءانِفًا أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ طَبَعَ ?للَّهُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ وَ?تَّبَعُواْ أَهْوَاءهُمْ [محمد:16]، ولأن المتبع هواه عاجز، عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن" وضعف إسناده الألباني. قال الترمذي وغيره من العلماء: معنى ((دان نفسه)) أي: حاسبها.
وفي أساليب ترويض الهوى يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر (ص56): "وفي قوة قهر الهوى لذة تزيد على كل لذة، ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً لأنه قُهِر، بخلاف من غلَب الهوى فإنه يكون قويَّ القلب عزيزًا لأنه قهر هواه".
ذكر ابن كثير وغيره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشًا لحرب الروم، وكان من ضمن هذا الجيش شاب من الصحابة هو عبد الله بن حُذافة رضي الله عنه، وطال القتال بين المسلمين والروم، وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين وجرأتهم على الموت، فأمر أن يُحضَر إليه أسير من المسلمين، فجاؤوا بعبد الله بن حذافة يجرّونه، الأغلال في يديه، والقيود في قدميه، فأوقفوه أمام الملك، فتحدث قيصر معه فأُعجِب بذكائه وفطنته، فقال له: تنصَّرْ وأطلِقك من الأسر، فقال عبد الله: لا، فقال قيصر: تنصّرْ وأعطِك نصف ملكي، فقال: لا، فقال: تنصر وأعطك نصف ملكي وأشركك في الحكم معي، فقال عبد الله: والله لو أعطيتني ملكك وملك آبائك وملك العرب والعجم على أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت، فغضب قيصر وقال: إذًا أقتلك، قال: اقتلني، فأمر قيصر به فسُحِب وعُلِّق على خشبة، وجاء قيصر وأمر الرماة أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه، وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية وهو يأبى وينتظر الموت، فلما رأى قيصر إصراره أمر أن يمضوا به إلى الحبس.
ثم أُوقف عبد الله بن حذافة أمام قِدر، وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثّقًا بالقيود، حتى ألقوه في هذا الزيت وغاب جسده في الزيت ومات، وطفت عظامه تتقلّب فوق الزيت، وعبد الله ينظر إلى العظام، فالتفت قيصر إلى عبد الله وعرض عليه النصرانية فأبى، فاشتد غضب قيصر وأمر بطرحه في القِدر، فلما جروه إلى القدر وشعر بحرارة النار بكى ودمعت عيناه، ففرح قيصر وقال: تتنصر وأعطِك وأمنحك، قال: لا، قال: إذًا لماذا بكيت؟! فقال عبد الله: أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القِدر فتموت، ولقد ودِدت والله أن لي مائة نفس كلّها تموت في سبيل الله مثل هذه الموتة، فقال له قيصر: قبِّل رأسي وأخَلِّي عنك، فقال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين عندك؟ قال: نعم، فقبَّل رأسه ثم أطلقه مع الأسرى.
عجبًا! لله دره، أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات؟! وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إن من المسلمين اليوم من يتنازل عن دينه لأجل دراهم معدودات أو تتبّع الشهوات أو الولوغ في الملذّات، ثم يختَم له بالسوء والعياذ بالله من ذلك.
ومن أساليب ترويض الهوى خوف الله تعالى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:40، 41]، قال إبراهيم بن أدهم: "الهوى يُردي، وخوف الله يشفي، واعلم أنَّ ما يزيل عن قلبك هواك أن تخاف من تعلَم أنه يراك" رواه البيهقي في شعب الإيمان (876).
إذا ما خلوتَ بريبةٍ في ظلمةٍ والنفسُ داعيةُ إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلامَ يراني
ومن أساليب ترويض الهوى مجاهدة النفس، فإن النفس البشرية كالطفل تمامًا، إن أدبتها وهذبتها صلحت واستقامت، وإن أهملتها وتركتها خابت وخسرت.
والنفس كالطفل إن تهملْه شبّ على حبّ الرضاع وإن تَفْطِمْه ينفطم
قال سهل بن عبد الله: "هواك داؤك، فإن خالفته فدواؤك"، وقال وهب: "إذا شككت في أمرين ولم تدرِ خَيْرَهما فانظرْ أبعدهما من هواك فأتِهِ".
وجهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفار فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري رحمه الله تعالى: يا أبا سعيد، أي الجهاد أفضل؟ قال: "جهادك هواك"، قال ابن القيم: وسمعت شيخنا يقول: "جهاد النفس".
والهوى أصل جهاد الكفار والمنافقين، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً، حتى يخرج إليهم من جاهد نفسه في الله. وقال عبد الله بن عمر لمن سأله عن الجهاد: (ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزُها).
فأين أنت من قوله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]؟! وأين أنت من قوله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]؟! وأين أنت من قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6]؟! وأين أنت من قوله تعالى: إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، وأين أنت من قوله تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـ?فِظُونَ إِلاَّ عَلَى? أَزْو?جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ?بْتَغَى? وَرَاء ذ?لِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْعَادُونَ [المؤمنون:5-7]؟! وأين أنت من قوله : ((فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) رواه مسلم؟! أين أنت من قوله : ((ما تركت بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء)) متفق عليه؟! وأين أنت من قوله : ((العينان تزنيان وزناهما النظر)) متفق عليه؟!
ومن أساليب ترويض الهوى التفكّر في العواقب، قال ابن الجوزي في فصل البعد عن أسباب الفتنة (126): "من نازعته نفسه إلى لذة محرمة فشغله نظره إليها عن تأمّل عواقبها وعقابها وسمع هتاف العقل يناديه: ويحك لا تفعل فلم يلتفت إلى ما قيل له كان مثله في سوء اختياره كالمثل المضروب أن الكلب قال للأسد: يا سيد السباع، غيّر اسمي فإنه قبيح، فقال له: أنت خائن لا يصلح لك غير هذا الاسم، قال: فجربني، فأعطاه شِقَّة لحم، وقال: احفظ لي هذه إلى غد وأنا أغيّر اسمك، فجاع وجعل ينظر إلى اللحم ويصبر، فلما غلبته نفسه قال: وأيّ شيء باسمي؟ وما كلب إلا اسم حسَن، فأكل. وهكذا الخسيس الهمة القنوع بأقلّ المنازل المختار عاجل الهوى على آجل الفضائل".
والله ما صعد يوسف عليه السلام ولا سعد إلا في مثل ذلك المقام، فبالله عليكم ـ يا إخواني ـ تأملوا حاله لو كان وافق هواه من كان يكون؟! ومن تأمل ذل إخوة يوسف يوم قالوا: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا [يوسف:88] عرف شؤم الزلل.
ومن أساليب ترويض الهوى قصر الأمل، قال الله تعالى: ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ ?لأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3]، وقال علي رضي الله عنه: (إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة)، وكان الحسن يقول: "ابن آدم، السكين تُشحذ والتنور تُسجّر والكبش يُعتلف"، يريد: لعلك في غفلتك كهذا الكبش الذي يُعتلف وقد حان وقت ذبحه وسلخه وهو لا يشعر، فالسكين تشحَذ، والتنور تسجر، والكبش يعتلف.
العاقل من جعل ساعة موته نصب عينيه، فكان كالأسير لها، كما روي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح يقول لامرأته: "إذا متّ اليوم ففلان يغسّلني، وفلان يحملني"، وقال معروف لرجل: صلِّ بنا الظهر، فقال: إن صليت بكم الظهر لم أصلِّ بكم العصر؟! فقال: وكأنك تؤمّل أن تعيش إلى العصر، نعوذ بالله من طول الأمل.
ومن أساليب ترويض الهوى ذكر الموت، فالموت لا يفرّق بين كبير وصغير، ولا غني وفقير، ولا عبد وأمير. هارون الرشيد ذاك الذي ملك الأرض وملأها جنودًا، ذاك الذي كان يرفع رأسه فيقول للسّحابة: أمطري في الهند أو في الصين أو حيث شئت، فوالله ما تمطرين في أرض إلا وهي تحت ملكي، هارون الرشيد خرج يومًا في رحلة صيدٍ فمرّ برجل يقال له: بُهلول، فقال هارون: عظني يا بُهلول، قال: يا أمير المؤمنين، أين آباؤك وأجدادك؟! قال هارون: ماتوا، قال: فأين قصورهم؟! قال: تلك قصورهم، قال: وأين قبورهم؟! قال: هذه قبورهم، فقال بُهلول: تلك قصورهم وهذه قبورهم، فما نفعتهم قصورهم في قبورهم؟! فلما مات هارون أُخذ هذا الخليفة الذي ملك الدنيا وأودع حفرة ضيقة، لم يصاحبْه فيها وزراؤه، ولم يساكنْه ندماؤه، لم يدفنوا معه طعامًا، ولم يفرشوا له فراشًا، ما أغنى عنه ملكه وماله.
باتوا على قلل الأجبال تَحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز من معاقلهم فأودعوا حفرًا يا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا: أين الأسرَّة والتيجان والحُلل؟
أين الوجوه التي كانت منعمة من دونها تضرب الأستار والكلل؟
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم: تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طال ما أكلوا دهرًا وما شربوا فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكِلُوا
وطالما كنزوا الأموال وادَّخروا فخلفوها على الأعداء وارتَحلوا
وطالَما شيّدوا دورًا لتحصنهم ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
ومن أساليب ترويض الهوى معرفة قدر الآخرة وقدر الدنيا، روى عمار بن ياسر رضي الله عنه أن رسول الله مر بشاة ميتة قد ألقاها أهلها فقال: ((والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على أهلها)). وكان بعضهم يقول في صفة الدنيا: "أولها عَناء، وآخرها فناء، حلالها حساب، وحرامها عقاب". فلْيُتَّعَظْ ولْيصبِر عن المشتَهى، فالأيام قلائل.
يا نفس ما هي إلا صبر أيام كأنّ مدتها أضغاث أحلام
الدنيا فخ والناس كالعصافير، والعصفور يريد الحبّة وينسى الفخّ.
هذا وإن الدنيا لو صفَت للعبد من أوّل عمره إلى آخره لكانت كسحابة صيف تتقشّع عن قليل، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَـ?هُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى? عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
ومن فسح لنفسه في اتباع الهوى ضُيِّقَ عليها في قبره ويوم معاده، ومن ضيق عليها بمخالفة الهوى وُسِّعَ عليها في قبره ومعاده، وقد أشار الله تعالى إلى هذا في قوله تعالى: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]، فلما كان في الصبر الذي هو حبس النفس عن الهوى خشونة وتضييق جازاهم على ذلك نعومة الحرير وسعة الجنة. ولو تفكرت النفوس فيما بين يديها وتذكرت حسابها فيما لها وما عليها لهان عليها مخالفة هواها.
فيا عبد الله، احذر النار، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((ناركم هذه التي يوقد ابن آدم جزء واحد من سبعين جزءًا من حر جهنم)) ، وروى ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، يجرونها)) رواه مسلم، وفي الحديث: ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جدله مسيرة ثلاث)) ، وروى الزُّهري عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الحميم ليصبّ على رؤوسهم، فينفذ الحميم حتى يخلص إلى جوفه، فيلهب ما في جوفه حتى يمرق من قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان)) ، وقال أبو موسى: "أهل النار يبكون الدموع حتى تنقطع، ثم يبكون الدماء حتى لو أرسلت فيها السفن لجرت".
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4142)
التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الناس تائب وظالم. 2- وجوب التوبة. 3- متى تغلق أبواب التوبة. 4- التوبة النصوح وشروط التوبة. 5- عوائق التوبة. 6- علامات التوبة المقبولة. 7- هديه في التوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: قال الله تعالى: وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات:11]. قسَّم الله تعالى خلقه إلى تائب وظالم، فمن لم يكن من التائبين فهو من الظالمين.
وقد دعا الله تعالى جميع خلقه إلى التوبة، فدعا إليها المؤمنين الصادقين فقال: وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، ودعا إليها المسرفين على أنفسهم فقال: قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53]، ودعا إليها المنافقين والكافرين قال : ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) رواه الإمام أحمد والترمذي وحسنه الألباني.
باب التوبة مفتوح على مصراعيه، لا يغلق إلا عند حشرجة الموت وعند طلوع الشمس من مغربها، قال تعالى: وَلَيْسَتِ ?لتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لسَّيّئَـ?تِ حَتَّى? إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ?لاْنَ وَلاَ ?لَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18]، فسوّى سبحانه بين الذين يتوبون عند الموت وبين الذين يموتون بغير توبة، وقال : ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح.
قال الحسن البصري: "يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان: سكرة الموت، وحسرة الفوت" أي: فوت التوبة.
وقال تعالى: يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ ءايَـ?تِ رَبّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـ?نِهَا خَيْرًا [الأنعام:158]، والمراد ببعض الآيات طلوع الشمس من مغربها كما جاء في حديث رواه مسلم.
أمرنا الله تعالى بالتوبة النصوح فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ [التحريم:8].
والتوبة النصوح هي الخالصة من كل غش ونقص، وهي التوبة التي استوفت شروط قبولها، وشروط قبول التوبة ستة: الندم على ما فات، الإقلاع عن الذنب، العزم على عدم العودة إليه، أن تقع في زمن قبولها أي: قبل الغرغرة وقبل طلوع الشمس من مغربها، أن تكون خالصة لله تعالى، أن يرد الحقوق إلى أصحابها إذا كان المعصية مظالم للعباد.
توبة العبد إلى الله محفوفة بتوبتين من الله عز وجل: توبة قبلها وهي التوفيق إلى التوبة، وتوبة بعدها وهي قبول التوبة، قال تعالى: ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [التوبة:118].
من مداخل الشيطان العظيمة أنه يخوِّف العبد من التوبة ويقول له: كيف تتوب وأنت ربما تذنب مرة أخرى؟! أجِّل التوبة إلى أن تجرب نفسك وتتأكد من كونك لن تعود. قال رجل للحسن البصري: أما يستحي أحدنا يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب؟! فقال: "ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تملوا من الاستغفار".
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : ((ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتّنا توابًا نسيا إذا ذُكّر ذَكَرَ)) رواه الطبراني وهو في صحيح الجامع (5735).
تأخير التوبة ذنب تجب التوبة منه، والذي يؤخر التوبة مثله كمثل شاب قوي أمام بابه شجرة ضعيفة تؤذيه في دخوله وخروجه وهو يسوف قطعها يقول: غدًا وبعد غد، وكلما مر يوم رسخت جذور الشجرة وقويت ووهن عظمه وضعف، حتى إذا انسدّ عليه الطريق حاول قلعها فلم يستطع.
للتوبة المقبولة علامات، منها أن يكون حاله بعد التوبة خيرًا من حاله قبلها من جهة إقباله على الطاعة واجتنابه للمعصية، ومنها انكسار القلب وشدة الندم، قال بعض السلف: "رب معصية أورثت ذلاً وانكسارًا خير من طاعة أورثت عزًا واستكبارًا".
أيها المسلمون، لقد كان النبي وهو الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة، وكان أصحابه يعدون له في المجلس الواحد يقول: ((رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور)) مائة مرة.
نسأل الله تعالى أن يتوب علينا وأن يغفر لنا ويرحمنا، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الأعراف:23].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4143)
إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا
الإيمان
الجن والشياطين
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من مكايد الشيطان. 2- حرص الشيطان على إضلال بني آدم. 3- قصة آدم مع إبليس. 4- مداخل الشيطان إلى قلب الإنسان. 5- العلاج من مكايد الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فقد حذرنا ربنا سبحانه في كتابه الكريم من الشيطان الرجيم، وبين لنا سبحانه أن الشيطان عدو مبين أي: واضح العداوة، وأمرنا باتخاذه عدوًا، قال تعالى: إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [فاطر:6]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُو?تِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ يُزَكّى مَن يَشَاء وَ?للَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]، وقال تعالى: إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يوسف:5]، وقال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّـ?لِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50].
وعداوة الشيطان للإنسان قديمة منذ خلق آدم عليه السلام، فقد حسد عدو الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وتكبر وقال: أنا ناريٌّ وهذا طيني، قال تعالى: إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـ?ئِكَةِ إِنّى خَـ?لِقٌ بَشَرًا مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـ?جِدِينَ فَسَجَدَ ?لْمَلَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ ?سْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ?لْكَـ?فِرِينَ قَالَ ي?إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ?لْعَـ?لِينَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَ?خْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إِلَى? يَوْمِ ?لدّينِ [ص:71-78].
وقد أقسم الشيطان بعزة الله أن يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلِصين المخلَصين، فإنه لا سلطان له عليهم، قال تعالى: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ?لْمُخْلَصِينَ [ص:82-83]. قُرِئ بفتح اللام وكسرها. وقال تعالى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِر?طَكَ ?لْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـ?نِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـ?كِرِينَ [الأعراف:16-71].
وقد أزل الشيطان أبانا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، وحلف لهما بالله كاذبًا أنهما إن عصيا الله وأكلا من الشجرة أن يكون لهما المُلك والخلد، فصدقاه ظنًا منهما أنه لا يحلف أحد بالله كاذبًا، فأخرجهما من الجنة، ولذا قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
أي: أخرجنا العدو من الجنة وسبانا في الأرض.
قال تعالى: يَـ?بَنِى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ ?لْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا [الأعراف:27].
وللشيطان إلى قلب الإنسان مداخل، فالقلب مثل الحصن، والشيطان حريص على اقتحام هذا الحصن ودخوله واتخاذه مسكنًا له، وكلما امتلأ القلب بمعصية الله والتعلق بالدنيا كان طمع الشيطان فيه أكثر وكان طرده عنه أصعب.
ومثل العلماء لذلك بكلب جائع وبين يديك لحم، فهو يهجم عليه ولا يندفع إلا بمجاهدة شديدة، وغالبًا لا يفلح في تخليص اللحم منه، أما إذا جاء الكلب الجائع ولم يجد بين يديك شيئًا فإنه يندفع بمجرد أن تقول له: اخسأ، فالقلب الخالي من قوت الشيطان ينزجر عنه بمجرد ذكر الله تعالى.
الشيطان له مداخل يحاول الدخول منها إلى قلب الإنسان، والواجب على المسلم أن يسد عليه هذه المداخل ومنها:
1- البخل والخوف من الفقر، قال تعالى: ?لشَّيْطَـ?نُ يَعِدُكُمُ ?لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِ?لْفَحْشَاء [البقرة:268]، والفحشاء هنا هي البخل، فيأتي الشيطان للإنسان من هذا الباب، فيبخل بالواجبات كالزكاة، ويمتنع من صلة الرحم، ويحرص على جمع المال من الحرام فيهلك.
2- الغضب فإنه من الشيطان، والشيطان من نار، والماء يطفئ النار، فلذا أمرنا النبي أن نتوضأ، فالشيطان يدخل من باب الغضب فيفرق بين المرء وزوجه، ويوقع البغضاء والظلم والعدوان بسببه، قال : ((إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)).
3- النظر إلى ما حرم الله، فالنظرة سهم مسموم من سهام إبليس، ينفذ إلى قلب الإنسان فيهلكه ويطفئ نور الإيمان ويحرم صاحبه من حلاوة الإيمان.
4- العجلة وترك التثبت في الأمور، قال : ((العجلة من الشيطان، والتأني من الله تعالى)) رواه الترمذي وحسنه الألباني في السلسلة (1795). فالاستعجال في طلب الرزق وفي جميع أمور الدنيا يدخل منه الشيطان ويوقع العبد فيما حرم الله.
5- الغفلة عن ذكر الله وعن التعوذ من شر الشيطان؛ لأن الشيطان يرانا من حيث لا نراه، إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، ومتى غفل العبد وسوس الشيطان، ولهذا سماه الله الوسواس الخناس، إذا غفل العبد وسوس، وإذا ذكر العبد ربه خنس الشيطان.
وقد أمرنا بالتعوذ عند دخول الخلاء من الخبث والخبائث، أي: من ذكور الشياطين وإناثهم، وعندما يأتي الرجل أهله يقول: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا؛ لأن الشياطين تحضر أماكن الخلاء وانكشاف العورات.
ويخبرنا تعالى بقوله: إِنَّ كَيْدَ ?لشَّيْطَـ?نِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، فإذا تحرز العبد بذكر الله تعالى وتحصن به فلن يضره كيد الشيطان.
قال لعمر: ((إن الشيطان يفرق منك يا عمر)) رواه أحمد والترمذي عن بريدة وهو في صحيح الجامع (1650)، وقال : ((لا تسبوا الشيطان، وتعوذوا بالله من شره)) رواه الديلمي وصححه وهو في صحيح الجامع (7318).
قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ?تَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ ?لشَّيْطَـ?نِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ [الأعراف:201]. فالعلاج في ترك الانكباب على الشهوات واتباع الهوى، والتحصن بذكر الله وتعلق القلب بالله سبحانه.
نسأل الله تعالى أن يعيذنا من شر الشيطان ومكايده.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4144)
تقوى الله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى تقوى الله. 2- أهمية التقوى. 3- فضل تقوى الله. 4- التقوى سبيل العز ومحبة الله تعالى والعلم النافع والفرج.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: تقوى الله هي وصيته سبحانه للأولين والآخرين، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، وذلك لأن تقوى الله هي الكلمة الجامعة لكل خير أمرنا به، هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وسخطه وغضبه وقاية، وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى? وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًَا ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه:81، 82]، هذه الوقاية هي العمل الصالح وفعل الأوامر وترك النواهي.
تقوى الله هي خير زاد يتزود به الإنسان في رحلته إلى الدار الآخرة، ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـ?قِيهِ [الانشقاق:6]، وقال سبحانه: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ [البقرة:197].
عرفها عليٌ رضي الله عنه فقال: (هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل والرضا بالقليل).
هي الثمرة المقصودة من جميع العبادات، كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37]، يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
ولذلك لا يقبل الله شيئًا من العمل من غير أهلها قال سبحانه: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، وفي صيغة الحصر هذه وعيد شديد، فمن لم يكن من المتقين فنصيبه من العمل الصالح الجوع والعطش والتعب والنصب، ثم يكون عمله مردودًا عليه؛ لأن الله تعالى إنما أمرنا بهذه العبادات لتورثنا التقوى، فمتى لم تورث التقوى فصاحبها على خطر عظيم، فاتقوا الله عباد الله.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى رجل يقول له: "أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين".
قال الشاعر:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو عليل
تقوى الله هي خير لباس يتجمل به الإنسان للقاء الله عز وجل، قال سبحانه: يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ ذ?لِكَ مِنْ آيَـ?تِ ?للَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:26].
إذا المرء لم يلبس لباسًا من التقى تقلب عريانًا ولو كان كاسيا
وخير لباس المرء طاعة ربه ولا خير فيمن كان لله عاصيا
تقوى الله هي سبيل المسلمين إلى العزة والكرامة، ولا عزة لهم في غيرها، ولا يخفى عليكم ما صار إليه المسلمون من ذل وهوان؛ لم يتقوا ربهم، فهانوا على عدوهم، وصاروا كالأيتام على موائد اللئام، ولا سبيل لهم إلى استعادة مجدهم وعزتهم إلا بتقوى الله، عن طارق بن شهاب قال: لما قدم عمر الشام عرضت لهم مخاضة، فنزل عن بعيره وخلع موقيه فأمسكهما بيده، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنعًا عظيمًا عن أهل الأرض، صنعت كذا وكذا. وفي بعض الروايات أن عمر كان يلبس ثوبًا مرقعًا وكان يتناوب مع غلامه الركوب، فلما وصل إلى القدس كانت النوبة لغلامه، فدخلها ماشيًا وغلامه راكب، قال عمر: (أوَّه لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة، إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما ابتغيتم العز في غيره يذلكم الله).
لما قدم الإمام الشافعي إلى مصر قال له محمد بن عبد الحكيم: إذا أردت أن تسكن هذا البلد فليكن لك قوت سنة ومجلس من السلطان تتعزّز به، فقال له: يا أبا عبد الله، من لم تعزه التقوى فلا عزّ له، ولقد ولدت بغزة ورُبيت بالحجاز، وما عندنا قوت ليلة وما بتنا جياعًا قط.
التقوى هي السبيل إلى معيّة الله تبارك وتعالى ومحبته، فمن أراد أن يكون الله تعالى معه فعليه بتقوى الله، وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:36]، إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّ?لَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128].
ومعية الله قسمان: معية عامة وهي معية العلم والإحاطة، قال تعالى: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى? ثَلَـ?ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى? مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ [المجادلة:7]، ومعية خاصة وهي معية النصر والتأييد، فإن الله مع المتقين ينصرهم على عدوهم ويؤيدهم بمدد منه ويحفظهم سبحانه من شياطين الإنس والجن ويوفقهم في جميع أمورهم ويسددهم في أقوالهم وأفعالهم، ومن كان الله معه لم يضره من كان عليه.
قال قتادة: "من يتق الله يكن الله معه، ومن يكن الله معه فمعه الفئة التي لا تغلب والحارس الذي لا ينام والهادي الذي لا يضل"، هذه المعية الخاصة هي المذكورة في قوله لأبي بكر وهما في الغار: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)) لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
ولما خرج موسى عليه السلام ببني إسرائيل خرج فرعون بجنوده على أثرهم حتى بلغ موسى ومن معه البحر، وجاء فرعون بجنوده وتراءى الجمعان، فَلَمَّا تَرَاءا ?لْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء61، 62].
هكذا تكون ثقة المتقين بربهم في أوقات الشدائد، إنه سبحانه معهم ولن يضيعهم؛ ذلك لأن المتقين هم أولياء الله الذين وعدهم بالبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فِي ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [يونس:62-64].
ومن أراد العلم النافع فعليه بتقوى الله، قال تعالى: وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَيُعَلّمُكُمُ ?للَّهُ [البقرة:282]، كتب أحد الصالحين إلى أخ له يقول: "إذا أوتيت علمًا فلا تطفئ نور العلم بظلمة المعصية، فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم في نور علمهم"، ولما دخل الإمام الشافعي على الإمام مالك قال له: "إني أرى الله عز وجل قد قذف في قلبك نور العلم، فلا تطفئه بظلمة المعصية".
قال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إني لأحسب الرجل ينسى الباب من العلم بالذنب يصيبه).
أيها المسلمون، تقوى الله هي المخرج من كل كرب والنجاة من كل شدة، قال : ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) ، وقال تعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق2، 3]، وعد صادق ممن لا يخلف الميعاد.
الناس الآن يسعون للتأمين على مستقبلهم وأولادهم لدى الشركات التي قامت على الميسر والمقامرة والغش والمخادعة وأكل أموال الناس بالباطل، ويدَعون الأمانَ الحقيقي على المستقبل والأولاد ألا وهو تقوى الله، قال سبحانه: وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا [النساء:9].
قيل لعمر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه: ماذا تركت لأولادك؟ قال: تقوى الله، قيل: كيف؟! قال: إن كانوا صالحين فإن الله يتولى الصالحين.
تقوى الله هي السبيل إلى السعادة التامة في الدنيا والآخرة، قال أبو الدرداء رضي الله عنه:
يريد المرء أن يؤتى مُناه ويأبى الله إلا ما أرادا
يقول المرء فائدتِي ومالِي وتقوى الله أفضل ما استفادا
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتقين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4145)
حسن الخاتمة والتحذير من سوئها
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بشارة وتخويف. 2- أقسام الناس في الخاتمة. 3- علامات حسن الخاتمة. 4- وقائع عن سوء الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: عن أبي هريرة وسهل بن سعد رضي الله عنهما أن النبي قال: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها)) رواه البخاري ومسلم.
في هذا الحديث الشريف بشارة وتخويف، بشارة لمن تاب وأصلح عمله قبل الموت بأنه إذا ختم له بعمل أهل الجنة كان من أهلها، وتخويف للمؤمن الطائع من أن يزل ويعمل بعمل أهل النار خشية أن يحضره أجله وهو على هذه الحالة فيدخلها والعياذ بالله.
وللناس في خاتمتهم على أقسام:
1- أشرفها من كان في حياته مؤمنًا صالحًا فلما قرب أجله ازداد اجتهادًا في العبادة، فمات على أكمل أحواله، وعلى رأس هؤلاء رسول الله ، فإنه لما قرب أجله اعتكف في رمضان عشرين يومًا، وكان قبل ذلك يعتكف في كل عام عشرة أيام، وختم القرآن على جبريل مرتين في رمضان، وكان يختمه عليه قبل ذلك مرة، وحج حجة الوداع ، وكان يقول : ((ما أرى ذلك إلا لاقتراب أجلي)).
2- من كان في حياته كافرًا أو فاسقًا فلما قرب أجله أسلم وتاب واستقام وحسن عمله، فمات على ذلك، كالرجل الذي قتل مائة نفس ثم تاب، وذهب إلى قرية فيها صالحون ليعبد الله معهم، فمات في الطريق، فقبضته ملائكة الرحمة، والحديث في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه.
3- من كان في حياته كافرًا أو فاسقًا فازداد قبل حلول أجله فسقًا وكفرًا، فمات على أسوأ أحواله.
4- من كان في حياته مؤمنًا ثم كفر أو صالحًا ثم فسق والعياذ بالله تعالى، فمات على ذلك، فهذا أعظمهم حسرة وندامة، وهذه التي خافها الصالحون. قال سفيان الثوري رحمه الله: "الذنوب أهون عليّ من هذه ـ وأشار إلى تبنة كانت في يده ـ وإنما أخاف من سوء الخاتمة، قال تعالى: وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:217]".
ولكن في الحديث بشارة بإذن الله لمن عمل بعمل أهل الجنة مخلصًا إذا بدا للناس وإذا خلا بنفسه؛ لأن النبي بين أن الذين يختم لهم بالسوء وكانوا يعملون عمل أهل الجنة إنما كانوا يعملون به فيما يبدو للناس، عن عمرو بن الحَمِق رضي الله عنه قال : ((إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله)) قيل: كيف يستعمله؟ قال: ((يفتح له عملاً صالحًا بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله)) رواه أحمد والحاكم وابن حبان وصححه الألباني في صحيح الجامع (301)، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي : ((إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرًا قيض له قبل موته بعام ملكًا فيوفقه ويسدده حتى يقال: مات بخير ما كان يعمل، وإذا أراد الله بعبد سوءًا قيّص له قبل موته بعام شيطانًا فأضله وفتنه حتى يقال: مات بشر ما كان يعمل)) رواه عبد بن حميد في مسنده.
لحسن الخاتمة علامات، كل واحدة منها كافية بإذن الله في الاستبشار بحسن الخاتمة من غير جزم بذلك:
1- النطق بالشهادة عند الموت لقوله : ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) رواه الحاكم.
2- أن يرشح جبينه بالعرق لقوله : ((موت المؤمن بعرق الجبين)) رواه أحمد والترمذي عن بريدة رضي الله عنه.
3- أن يموت يوم الجمعة أو ليلتها وهو مسلم لقوله : ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)).
4- أن يموت شهيدًا في سبيل الله أو وهو مرابط في سبيل الله أو يموت بإحدى الميتات التي صاحبها في درجة الشهيد، وهي المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والحريق والموت بذات الجنب والمرأة يقتلها ولدها أي: تموت وهي حامل أو بسبب الوضع.
5- أن يختم له بعمل صالح كصيام يوم أو صدقة أو ذكر، عن جابر رضي الله عنه قال : ((من مات على شيء بعثه الله عليه)) رواه أحمد والحاكم وهو في صحيح الجامع (6419). وقد أخبر النبي أن المحرم الذي مات على إحرامه يبعث يوم القيامة ملبيًا، وأن الشهيد يبعث يوم القيامة ولون جرحه لون الدم وريحه ريح المسك، وأن آكل الربا يقوم كالمصروع، والمتكبر يحشر في صورة الذر يطؤه الناس بأقدامهم.
وقد حكى الإمام ابن القيم والحافظ الذهبي رحمهما الله حكايات كثيرة عن أقوام عجزوا عن قول: "لا إله إلا الله" عند موتهم، واستبدلوها بما كانوا متعلقين به في الدنيا من حرام أو مباح.
فرجل كان يلعب الشطرنج قيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: شاه رخ، ومات. ورجل كان يشرب الخمر، قال: اشرب واسقني، ثم مات. ورجل كان منهمكًا في التجارة جعل يقول: هذه رخيصة وهذا مشتري جيد، ثم مات. ومن الصالحين من مات وهو ساجد أو وهو يتلو القرآن أو يذكر الله تعالى.
وذلك لأن الشيطان يحشد للإنسان كل همته وقوته لإضلاله في هذه اللحظة، والإنسان يكون في أضعف أحواله، قال تعالى: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27].
وأما العلامة التي يعلم بها الميت نفسُه حسن خاتمته فهي أن تبشره ملائكة الرحمة برضوان الله تعالى، فيفرح ويستبشر، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصل:30].
وهذه العلامة هي التي في صحيح مسلم عن شريح بن هانئ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه))، قال شريح: فأتيت عائشة رضي الله عنها فقلت: يا أم المؤمنين، سمعت أبا هريرة يذكر عن سول الله حديثًا إن كان كذلك فقد هلكنا، فقالت رضي الله عنها: ليس منا أحد إلا وهو يكره الموت، قد قاله رسول الله ، وليس بالذي تذهب إليه، ولكن إذا شخص البصر وحشرج الصدر واقشعرّ الجلد وتشنّجت الأصابع فعند ذلك من أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. رواه مسلم (2685). قال النووي رحمه الله: "وهي الحال التي لا تقبل فيها التوبة".
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك يا كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4146)
دروس وعبر من تاريخ المسجد الأقصى وبني إسرائيل
أديان وفرق ومذاهب, سيرة وتاريخ
أديان, معارك وأحداث
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إفساد اليهود في الأرض. 2- علاقة بني إسرائيل بالأرض بالمقدسة. 3- بيان الإفسادين المذكورين في سورة الإسراء. 4- قتال المسلمين لليهود. 5- تاريخ المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: قال تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ فِى ?لْكِتَـ?بِ لَتُفْسِدُنَّ فِى ?لأرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا فَإِذَا جَآء وَعْدُ أُولَـ?هُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَـ?لَ ?لدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ?لْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَـ?كُم بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَـ?كُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ?لْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَـ?فِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء:4-8].
أخبر الله تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه كتب على بني إسرائيل وأوحى إليهم في التوراة أنهم يفسدون في الأرض أي: في أرض الشام وفلسطين مرتين بالمعاصي والذنب والظلم والبغي الكبير، وتوعدهم الله تعالى بأنه سيرسل عيلهم في كل مرة يفسدون فيها في الأرض المقدسة من يسومهم سوء العذاب جزاءً وفاقًا.
وقد وقع من اليهود الإفساد في الأرض مرات، وفي كل مرة يعقب إفسادهم إهلاك الله تعالى لهم على يد عبادٍ أولي بأس شديد.
فقد أفسدوا بقتل زكريا عليه السلام، فأرسل الله عليهم جالوت وجنوده وكانوا كفارًا، فقتلوا منهم وسبوا أولادهم وخربوا بيت المقدس، ثم إن بني إسرائيل تابوا وأصلحوا وعادت لهم السيادة على بيت المقدس.
ثم إنهم نسوا ما جرى عليهم فعادوا إلى الكفر والظلم، فسلط الله عليهم ملوك الفرس والروم، فاحتلوا بلادهم وأذاقوهم العذاب وخربوا بيت المقدس، وظل بيت المقدس في يد نصارى الروم قبل بعثة النبيّ بثلاثمائة سنة، حتى استنقذه منهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وعلاقة بني إسرائيل بالأرض وبيت المقدس تبدأ عندما هاجر خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام إلى الشام واستقر فيها إلى أن توفاه الله تعالى فيها هو وابنه إسحاق عليهما السلام، وكان فيها يعقوب (إسرائيل) عليه السلام، وهو الذي بنى المسجد الأقصى إلى أن خرج مع أبنائه الأسباط إلى مصر لما صار ابنه يوسف عليه السلام على خزائنها، وظلت فيها ذريتهم حتى أمرهم موسى عليه السلام بالخروج من مصر إلى بيت المقدس لقتال العمالقة الجبارين الذين آل إليهم ملك الأرض المقدسة.
لقد اختلف المفسرون في تعيين الإفسادين اللّذين عناهما الله تعالى في الآيات الكريمة، وقال بعضهم إن الإفساد الثاني لم يقع بعد، وإنما سيكون في آخر الزمان، وسيهلكهم الله تعالى كما أهلكهم في الإفساد الأول؛ لأن الله تعالى قال: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْر?ءيلَ ?سْكُنُواْ ?لأرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ ?لآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا [الإسراء:104] أي: إذا جاء موعد الإفساد الآخر والإهلاك الأخير جمع الله بني إسرائيل من أقطار الأرض واستقروا بالأرض المقدسة ليلقوا هلاكهم فيها، ولما عاد بنو إسرائيل للإفساد زمن نبينا محمد فكفروا به أهلكهم الله على يده.
وعلى كل حال فإن الله تعالى توعدهم بالإهلاك كلما أفسدوا فقال سبحانه: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا [الإسراء:8]، أي: إن عدتم إلى الإفساد عدنا إلى الإهلاك. وقال سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ?لْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ?لْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأعراف:167].
وقد أخبر النبي أنه في آخر الزمان ستقاتل أمته اليهود، المسلمون شرقي نهر الأردن، وهم غربيّه، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله، إلا شجر الغرقد، فإنه من شجر اليهود، ولأجل هذا فهم يكثرون من زراعته. والحديث رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
هذا وقد ظل المسجد الأقصى بيد المسلمين منذ الفتح العمري حتى استولى عليه الصليبيون وقتلوا من المسلمين ستين ألفًا، ودخلوا المسجد، واستولوا على الأموال، ونصبوا الصليب على المسجد، ودقوا فيه النواقيس، وأشركوا فيه بالله تعالى، حتى استنقذه الله من أيديهم على يد القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وكان ملكًا صالحًا صوامًا قوامًا، وكان قلبه يتفطر على المسجد الأقصى، ولم يفتأ يحرض المؤمنين على القتال ويعد العدة حتى انتصر المسلمون بفضل الله في موقعة حطين سنة 583هـ، وكان يومًا مشهودا، طهر فيه المسجد الأقصى، وارتفع منه الأذان والتوحيد، وقتل من الصليبيين عشرات الآلاف، وأسر عشرات الآلاف، حتى رخص ثمن الأسرى، وصار الفلاح من المسلمين يربط بخيمته عشرة من الأسرى وبيع النعل بالأسير، إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7].
ثم تخاذل المسلمون وحرصوا على الملك، وتقاتل أولاد صلاح الدين على الملك من بعده، حتى وصل الأمر إلى أن تنازل الملك الكامل ابن أخ صلاح الدين عن بيت المقدس للصليبيين مقابل أن يتنازلوا هم عن بلاد الشام الأخرى، وكان ذلك سنة 626هـ، وعاد المسجد الأقصى إلى الصليبيين حتى قاتلهم الملك الصالح أيوب ابن أخ الملك الكامل سنة 642هـ، واستنقذه من أيديهم بعد 16 عامًا، وظل في يد المسلمين من ذلك التاريخ حتى سقط في يد اليهود سنة 1387هـ، وله إلى الآن أربعة وثلاثون عامًا أسيرًا في أيديهم، ولكن نصر الله آت لا محالة.
وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55].
ولكن هذا الوعد بالاستخلاف والتمكين مشروط بأن يمكن المسلمون لدين الله في قلوبهم، وأن يمكنوا لدين الله في بيوتهم ومجتمعاتهم.
نسأل الله تعالى أن يمكن لدينه في الأرض وأن يفتح له قلوب الناس. اللهم آمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4147)
ولذكر الله أكبر
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الدعاء والذكر, القرآن والتفسير
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
12/4/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التغرّب عن حياة السّعادة. 2- داء الغفلةِ والنسيان. 3- نصوص في الحثّ عن الذكر. 4- ذكر النبي لربه عز وجل. 5- فضل الذكر والذاكرين. 6- المعرضون عن ذكر الله. 7- الأذكار البدعيّة. 8- أفضل الذكر القرآن الكريم. 9- استنكار جريمة تدنيس القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، اتّقوه تقوى من خاف ربَّه ووَجل، وبادر حياته بصالح العمَل قبل أن تبتَدِره فجأة الأجل، فلا تُغني عنه حينَها المعاذيرُ والحيَل.
أيّها المسلمون، في غمرةِ الحياةِ الماديّة واللّهاث وراءَ المُتَع الحسّيّة وما أسفَرَت عنه من شيُوع أحوال القلَقِ والاكتئاب والأوصاب والملَل والاضطراب، وفي خِضَمّ ما مُنِيت به الأمّة من أحداثٍ ومتغيِّرات شغَلت الناس بالمتابعاتِ والتحليلات، انبَثَق عن ذلك كلِّه التغرُّب عن الحياةِ الهانئة المطمئنّة، علاوةً على ما قذفت به الحضارةُ المزعومة والمدنيّة الزائفة من سمومٍ أضرَم نارَها قنوات وشبكاتٌ تحلِق الدين، فثُبتَ لا تسمَعُ لسلطانِ الروح إلاّ نبأةً لا تكاد تُبين، ولا ترَى لها إلا قبسًا خافِتًا لا يطفِئ شبمًا جِدُّ مكين، وهل كان بِدعًا بعد ذلك أن صوَّحت القلوبُ بعد الإشراق وأجدَبت بعد النداوة والإيراق، فانطمس نورها، وبهَت وهَجها، وانقطع عن الذكر المشِعِّ لهَجُها؟! نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [الحسر:19].
ولا غَروَ أن يُضافَ لكلِّ أسًى مقعِد هذا الداء الدويُّ، داء الغفلةِ والنسيان الذي أسَّن ينابيعَ الروح الصّافية، وخلخل أطنابَها الراسية، إلى رُكام مآسينَا الضارية، مما تحتاج معه الألسِنة إلى ما يرطِّبها والأفئدةُ إلى ما يطَمئِنها، ولعلَّه ـ يا رعاكم الله ـ سرَى إلى لطيف علمكم وشريفِ فَهمكم ما إليه قصَد ويمَّم محِبُّكم.
معاشرَ المسلمين، وايم الله إنّه لن تصلحَ القلوب ولن تستنيرَ الدروب وتَنجابَ الحُلَك والكروب ونَبرأَ ممّا مسَّنا من قسوةٍ ولغوب إلاّ بدوامِ ذكرِ وتعظيمِ وتمجيدِ وتسبيحِ علاّم الغيوب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا [الأحزاب:41]، وَاذْكُرُوا اللَّّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41].
والآياتُ الحاثّة على الذكر الدالّةُ على فضائله ومنافعِه وفوائده في الدنيا والآخرة غيرُ خافيةٍ على أولي النهى والألباب، وكذلك الأحاديث الشريفةُ عن النبيِّ الأواب عليه الصلاة والسلام، يقول فيما صحَّ عنه: ((مَثَل الذي يذكر ربَّه والذي لا يذكُره مثَل الحيِّ والميت)) [1].
الله أكبر، ذِكر الله هو الروحُ والحياة، ونسيانُه هو الفناء والممات، عن عبد الله بن بسرٍ رضي الله عنه أنّ رجلاً قال: يا رسولَ الله، إنَّ شرائع الإسلام قد كثُرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبَّث به، قال: ((لا يزالُ لسان رطبًا من ذكرِ الله)). لا إله إلا الله. أخرجه الترمذيّ والحاكم بسندٍ صحيح [2].
ومِن شدَّة أنسِه ولهَجِه بالله عز وجل كان يذكر ربَّه في كلِّ طرفة عين وخَفقَة قلب وعلى جميع أحواله وفي كلِّ أحيانه، بفؤادٍ واجِف ودمعٍ واكِف، أليس هو القائلَ بأبي هو وأمّي : ((ألا أنبِّئكم بخيرِ أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والورق وخيرٍ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقهم ويضربوا أعناقهم؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((ذكر الله)). لا إله إلا الله. خرّجه أحمد والترمذيّ والحاكم بسند صحيح [3]. فيا لله، لقد فاقَت منزلةُ الذِّكر منزلةَ الجهادِ في سبيل الله.
إخوةَ الإيمان، ذِكر الله دومًا بمبانيهِ ومراميه وتدبُّر ألفاظه ومعانيه حادِي الأرواح إلى بلادِ الأفراح، وهو العِزّ الذي لا يُنال بسلطانٍ ولا مال، والتوفيقُ المبلِّغ ذُرَى الكمال والأنس والجلال.
وكُفَّ عن العَورَى لسانك وليكن دوامًا بذكرِ الله يا صاحِبي نَدي
ومُدَّ إليه كفّ فقرك ضارعًا بقلبٍ منيب وادعُ تُعطَ وتَسعدِ
وقد طرّز الإمام ابن القيم رحمه الله فضلَ الذكر وحالَ الذاكرين بقوله: "وهي منزلةُ القوم التي متى فارَقها صارت الأجساد لها قبورًا، وعمارةُ ديارهم التي إذا تعطَّلت عنها صارت بُورًا، به يستدفِعون الآفات ويستكشِفون الكرُبات، إذا أظلَّهم البلاء فإليه ملجؤُهم، وإذا نزَلَت بهم النوازلُ فإليه مفزَعُهم، فهو رياضُ جنّتهم التي فيها يتقلَّبون، وهو جِلاء القلوب وصِقالُها ودواؤُها إذا غشِيَها اعتلالها" [4].
إخوةَ العقيدة، وفي البِشَر عن خيرِ البَشَر يقول الله عزّ وجلّ في الحديثِ القدسيّ: ((أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معَه حين يذكرني، فإن ذكَرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكَرني في ملإ ذَكَرته في مَلإ خيرٍ منهم)). لا إله إلا الله. أخرجه الشيخان [5]. وأكرِم بعبدٍ يكون ربُّ العالمين في ثنائِه وذكره. فلا إلهَ إلا الله، والله أكبر، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
أيّها الفضلاء الذاكرون، المحافظةُ على الأذكار غِراس دارِ الأبرار، وهل يفرِّط في غراسِ الجنّة إلاّ مفلِس في عداد الأغرار؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ [المنافقون:9].
نعم، حينَما يتَّصل الذكرُ بالقلب ويستقرّ في السّوَيداء ويمتزِج بالتوبة والإنابةِ والاستغفار في كلّ الآناء يُضحِي مَددًا لطُهرَةِ النّفسِ وهَنائها، وشُؤبوبًا دَفّاقا لزَكاءِ الرّوح وصفائها، ومِسبَارًا لنورِها ونقائها. فلا يُعْوِزُكَ ساعتَئذٍ أن تدرِكَ نورَ البصيرة يتألَّق على فِعال الذاكر في أيِّ سبيلٍ وأي اتِّجاه، مداركه بعبَقِ الذكر قد شفَّت، والملائِكُ الكرام به قد حَفَّت، قد تُوِّج بإشراقٍ مِن نور الله فكُسِيَ جمالاً، وقلبُه أُفعِم بحبِّ الله فسقِيَ جلالاً وطمأنينةً تنخُرُ اللّفظَ والمبنى إلى سمُوِّ المعنى وزكاءِ المغنى، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ [الرعد:28]. لا إله إلا الله. تطمئِنّ إن أصابَتها السّراء والضراء، وتسكن ولا تجزَع إن مسَّتها محنةُ الفِتنة والابتلاء، وإن خبَت فيها جذوةُ التّزكية والتصفية ركَنت إلى حِمى الذِّكر والتذكُّر، تستروِحُ السّكينةَ، وتَستَندِي الطّمَأنينةَ، فيقودُها ذلك إلى وَعدٍ ريَّانٍ لا يخلَف: طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:29]، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
وأكثِرْ ذكرَهُ في الأرض دأبًا لِتُذْكَرَ في السماء إذا ذَكَرْتَا
ونادِ إذا سَجدتَ له اعتِرافًا بِما ناداه ذو النّون بن متَّي
لا إله إلا أنت سبحانك إنّا كنا من الظالمين، يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه: (ما مِن شيءٍ أنجَى مِن عذاب الله من ذكرِ الله) [6] ، كيف والدّعاءُ المنبَجِسُ مِن يَنبوع الثناء على الله وتعظيمه وتمجيدِه ما هو إلاّ تقريرٌ لحقيقة الخضوع والانعطاف وصِدقِ الطاعة والازدِلاف لمن يعلَم السّرَّ وما هو خافٍ.
وليتَ شعري أيّها الخِيَرة، ما فِئةٌ مُرتكسة منتَكِسة بِفِيِّها عفرُ البَرَى، هتَكت بجنوحِها عن منهَج الاعتدال حجابَ الحقّ هتكًا، وفتكت جَهلاً كُبّارًا برَواءِ الدّين فتكًا، وسفَكت في رابِعة النهار مُهجَةَ المسلمين سَفكًا، وأُخرَى صَريعةُ الفَضائيّات، مُدمِنة العبَِّ مِن الشّبَكات والتِّقانات، في عفَنٍ فنيِّ وعبَث مَرذولٍ أَخلاقيٍّ، فأنَّى تخالِط هؤلاء وأولئك حلاوةُ الذّكر؟! وأنَّى تنتَفِع بعظيم فوائِدِه ونُبلِ فرائدِه وجَليل مقاصِدِه؟!
أيّها المؤمنون، هَل مَقَلت أبصارُكم أبهى وأكمَل وأطهَر وأنبَل من سِيرةِ المسلِم الذاكرِ القانِتِ؟! القرآنُ العظيمُ أَنيسُهُ، وذِكر الله تعالى جليسُه، قد رقَّ طبعُه، ولانَت عريكتُه، ونَعِم المؤمنون باستقامَتِه وهُداه، وسلِم المسلمون مِن شرِّه وأذاه. هنيئًا لمن كان ذلك مَيسَمَه هنيئًا، ويا بشرَى لمن أوتِيَ لسانًا رطبًا مَريئًا، ليِّنًا بالذكر، مُفعَمًا بالشّكر، هشًّا بالثناء على الله، سَحًّا برجاء الله، رطبًا بالتسبيحِ والاستغفار، طَفِقًا بالتفكُّر والاعتبار.
ألا إنّه بمثلِ هؤلاء يستَنزَل النّصر، ويَحلّ الظَّفر، وتنجو الأمّة مِن هزائمها وانتكاسَاتها، وتسلَم الشعوب من وَهدَتها وارتكاساتها، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
أورَدَ الإمام الذهبيّ رحمه الله في السّيَر أنَّ قتيبةَ بن مسلم سأل في إحدَى معاركه عن الإمامِ العابد محمّد بن واسع، وقد حمِيَ الوطيس، فقيل: هو في مصلاَّه رافعًا سبّابتَه يذكُر اللهَ عزّ وجلّ، فقال: والله لأصبعُ محمّد بن واسع أحبّ إليّ من ألفِ شابٍّ طرِير وألفِ سيفٍ شهير [7]. الله أكبر، تأمَّلوا ـ رحمكم الله ـ أثَرَ الذكر والذاكرين في انتشالِ الأمة من مآزِقها وانتصاراتها على أعدائها.
معاشرَ المؤمنين، ذلكم شذًى من شأنِ الذّكر وأسرارِه، وتلكم شذرَةٌ من فضائله وآثاره، إن جرَى على لسانِ المؤمن وقلبِه كان جنّتَه من دنياه وغايةَ أُنسه بربِّه ومنتهاه، ويا بُشراه بذلك يا بُشراه.
ومِن عجبٍ ـ يا عباد الله ـ أن ترَى في المسلِمين فئامًا نُهْبَةً لمقاريضِ الغفلة، قد ضربَ عليهم النسيان بظلمتِه وخَدَرِهِ، وألقت عليهم الغفلةُ بكَلكَلها وسُجُفها والضّيعةُ بأقفالها وحُجُبها، فاستعجَم منهم اللسان، وأظلم الجنَان، سادِرين في حُلَك الغواية والعماية، ترى منهم من يقضِي سحابةَ يومِه وليله في الهذَرِ واللّغو والغيبةِ والنميمة والولوغ في أعراضِ المسلمين، ولا يدور له ذكرُ الرحمن على بالٍ، وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف:36].
ومِنهم من يقضي الساعاتِ في اللّهو والباطل، ويعجز عن ذكرِ كلماتٍ على اللسان خفيفات، وفي الميزانِ ثقيلات، وإلى الرحمنِ حَبِيباتٌ، يحصدُ بهنّ وافِرَ الحسنات: سبحان الله وبحمده سبحانَ الله العظيم. أقوامٌ أفئِدتُهم لم تذُق لذّةَ المناجاة والخشوع، ومحاجِرُهم تكلّست عن ذرفِ الدّموع، بعضُهم في اللّغوِ والسّهو سَحْبَانُ وائِل، وعند الأذكارِ والدّعاء أَعيى من باقِل، فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:22].
ويلٌ ثمّ ويل للذين جفَّت قلوبهم عن مناجاةِ الله ونصَّت، وعن ذكرِ الله ناءت وتفصَّت، قلوبٌ ربداءُ قاسِية، وألسِنَة صَدِئة عاصية، يقول : ((لا تكثِروا الكلامَ بغير ذِكر الله، فإنَّ كثرةَ الكلام بغيرِ ذِكر الله قسوةٌ للقلب، وإنّ أبعدَ الناس من الله القلبُ القاسي)) أخرجه الترمذي [8].
فهل بعد ذلك ـ يا عبادَ الله ـ من مبدِّدٍ لعَبَراته ومردِّدٍ لحسراته وأنّاته وزفراته على تفريطِه في جَنب الله ولذيذ مناجاته؟! يقول العلاّمة ابن القيم رحمه الله: "إنَّ الغافل بينَه وبين الله وَحشة لا تزول إلاّ بذكر الله" [9]. لا إله إلا الله.
أمّةَ الذّكر الحكيم، وثمَّةَ ملحظٌ مهم لا نعدُوه في هذا التذكير، ألا هوَ ما استحدَثَه أقوامٌ مِن أذكارٍ وأوراد مبتَدَعة صَرَفتهم عن المأثورِ الصّحيح عن النبيّ سيّدِ الخلق وحُجّة الله على عباده، وقد أتَوا بها في حمًّى مِنَ الضّجيج وألوانٍ مِن العجيج وصِفات نابيةٍ كلَّ النبوِّ عنِ الوَقار، فضلاً عن مخالَفَتها للكتابِ والسنّةِ وصحيحِ الآثار، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ويُستحَبّ لمن ذكر الله عزّ وجلّ خفضُ الصوتِ بالذكر؛ لقولِه تعالى: وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ [الأعراف:205]. أما ما يفعلُه بعضهم ـ والكلامُ لشيخ الإسلام ـ في ذكرِهِم المبتَدَع من الزعيقِ والصّياح والتمايل فليس من هديِ النبوّة في شيء" انتهى كلامه رحمه الله.
ألا فَلترْفُوا ـ أيّها المسلمون ـ خروقَ الغفلة والنسيان وهجرِ تلاوة القرآن، ولتتواصَوا بذِكر الواحد الديان والشّوقِ إلى مناجاتِه في كلّ مكانٍ وآن؛ تفلِحوا وتسعَدوا وتُوَفّقوا وتنصَروا.
جَعلني الله وإيّاكم من الذّاكرين الشاكرين، وأنقذَنا جميعًا من رَقداتِ الغافلين، وهدانا صراطَه المستقيم، وأجارنا بمنِّه وكرمه من العذابِ الأليم، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه كان للأوّابين غفورًا.
[1] أخرجه البخاري في الدعوات (6407) واللفظ له، ومسلم في صلاة المسافرين (779) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3375)، مستدرك الحاكم (1822)، وأخرجه أيضا أحمد (4/188، 190)، وابن ماجه في الأدب (3793)، والطبراني في الأوسط (1441، 2268)، وأبو نعيم في الحلية (9/51)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (814)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2687).
[3] مسند أحمد (5/195)، سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3377)، مستدرك الحاكم (1/496) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الأدب (3790)، قال الهيثمي في المجمع (10/73): "رواه أحمد وإسناده حسن"، وحسنه الألباني في تعليقه على الكلم الطيب (1).
[4] مدارج السالكين (2/423) بتصرف يسير.
[5] صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ (7405)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] رواه مالك في النداء للصلاة (490)، والترمذي في الدعوات (3377)، وابن ماجه في الأدب (3790)، وفي إسناده انقطاع. وروي مرفوعا.
[7] سير أعلام النبلاء (6/121).
[8] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2411) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا البيهقي في الشعب (4/245)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وخرجه الألباني في السلسلة الضعيفة (920).
[9] الوابل الصيب (ص63).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الواحِد الديّان، خصّنا بخيرِ الذكرِ القرآنِ.
أنت الذي يا ربِّ قُلْتَ حروفَه ووصَفتَه بالوعظ والتّبيان
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تغمُر الجوارحَ وتملأ الميزان، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبد الله ورسوله، وأفضلُ من ذَكر ربَّه سِيّان اللّسان والجنان، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه السبّاقين إلى أعالي الجنان، ومن اقتفى أثرهم بالتّقَى والإحسان، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيّها المؤمنون، وألِظُّوا بالذكر قبل ريب المنون.
أيّها الإخوة الأحبّة في الله، أفضَل الذّكرِ ثوابًا وعائدةً وأكثره هدًى ونورًا وفائدة كلامُ ربِّ البرية، قال سبحانه مُعْلِيًا قدرَه وبرهانه: وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ [الأنبياء:50]، إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ [يس:60]، كيف وقد أنار القرآنُ ظلمات الدنيا بنورِه الوهّاج، وأيقظ القلوبَ العليلةَ للهدَى وأهاج؟! إنَّ له لحلاوةً، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّ أسفله لمغدِق، وإنّ أعلاه لمورِق، وإنّه ليعلو ولا يعلَى عليه.
وخيرُ جليسٍ لا يمَلّ حديثه وتردادُه يزداد فيه تَجمّلاً
يناشِد فِي إرضائه لحبيبِه وأجدِرْ به سُؤلاً إليه موصِّلا
أمّة القرآن والفرقان، هذا هو القرآنُ الكريم عظمَةً وجمالاً ومكانةً وجلالا ومنزلة وكمالاً، ومع ذلك كلِّه ومع ما هو متقرِّرٌ عند أهلِ الملّةِ المحمدية والشرائع السماويّة مِن وجوبِ تعظيم القرآنِ وتبجيله وتقديسِه وتكريمه فإنّ مما نكَأَ الجِراح وأقضّ السُّهاد والمراح وأثار صيحةَ مُلتاع وصَرخةَ أسيفٍ مُرتاع تشُقّ أَجوازَ الفَضاء وتَربَدُّ لها سائرُ الأجواء في مُغرَورِقِ الأسى الألهَب مندِّدةً مُستَنكِرة مشنِّعَةً مستفظِعة ذلك الفعلَ الأثيم الباغي الذي امتَدّ إلى تدنيس أقدَسِ مقدَّساتِنا وأشرَفِ مشرَّفاتنا قرآنِنا مناطِ عزِّنا وفخرنا، واستطالَ على القرآنِ الكريم كتابِ ربّنا ودستور حياتنا في عنجهيّة وصَلَف بلَغَا مَداهما إن كان للضّغنِ المكين مدى، ممّا أجَّج مشاعِرَ المسلمين وأثارَ كوامِنَهم وألهب حفيظتَهم في كلِّ أرجاءِ المعمورةِ، حُرقةً وأسًى على أقدَسِ مقدّساتهم ونِبراس حياتهم وسِرّ وجودهم.
إنّنا من هذا الثّرَى الأفيح والحرَم الأطهر باسم أكثرِ من مِليار مسلم يَدينون بهذا القرآن العظيم ـ وقد بلَغ الحِزام الطّبيَين وعِيلَ صبرُ الإِغضاء ولم يَبقَ في قوسِه منزَع ـ نطالب في حالَةِ ثبوتِ ذلك بسرعةِ التّحقيق العادِل مع الجُناةِ الأثَمَة في هذه الجريمةِ النّكراء وإِنزال أشدِّ العقوبات الرّادِعة لهم حَسمًا لداءِ المعاودةِ والتّكرار لهذا الجرمِ الكُبَّار والصّنيع الشنيع الغَدَّار، احتِرامًا لمشاعر المسلمين في العالم، وصَونًا للقِيَم الأخلاقيّة والحضاريّة في المجتمعات، وتحقيقًا لمعاني العَدلِ والحقّ والسلام في جميعِ أقطار المعمورة. كما نطالِب بسُرعة الاعتذارِ للمسلمين في كلّ مَكان من أجلِ حَلّ عُقَد الغضَب المتصاعدة وإِطفاء مَوجات الغلَيان المتنامية وردمِ الهوّةِ التي تحدِثها مثل هذه المخازِي المفجِعة والاستفزازات المفزِعَة، مما تُحمَد عواقبه، والتي تضرِم مع شديدِ الأسَف فتيلَ الفجوَة والكراهيّة بين الشعوب، وتفتَح أبوابَ العنفِ على مَصاريعها، في حلَقاتٍ منَ الصّراعات تتوارَثها الأجيالُ جيلاً بعد جيل، ولا تولِّد إلا الصّدام بين الحضارات، مما سيظلُّ محفورًا في ذاكرةِ التاريخ ويُسطَّر بمدادٍ قاتمةٍ لهؤلاء القوم. وقد برِئ وأعذَر مَن أبانَ وحذّر، وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
أكبادُنا احترقت بأنَّات الجوى ودِماؤنا نهرُ الدموع القاني
فعِياذًا بالله عياذًا، ولِياذًا به لياذًا، اللّهمّ إنّا نعذِر إليك، اللّهمّ إنّا نبرأ إليك ممّا صنع هؤلاء بكتابِك، ونسألك بهذا البَيان براءةَ الذمة وتحقيقَ النّصح للأمة، أنت حسبُنا ونعم الوكيل، أنت حسبنا ونِعم الوكيل، أنت حسبنا ونِعم الوكيل، ولا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
إنَّ دولةَ القرآن شِرعةً ومتنَزَّلاً ديارَ الحرمين الشريفَين ليُحمَد لها موقفُها الأغرّ الرياديّ إزاءَ هذا الحادِثِ الجلَل، وما ذاك بِدعًا في نسيجها الرباني، زادها الله خيرًا وثباتًا وتوفيقًا. ولا يُنسَى الموقِفُ المشرّف الذي انبرَت له مأجورةً مشكورةَ جميعُ المؤسّسات والهيئات الإسلاميّة العالمية، فللَّهِ درُّها وبورِكَت مواقفها.
إنَّ هذا الاستنكارَ القاصِف والتنديدَ العاصِف لا لاستِنفارِ الحميّة وتهييج الغضَب وتأجيج العاطِفَة فحَسب، بل لزمِّها وترشيدها وتأصيلها بالتّأصيلات الشرعيّة والضوابط والآداب المرعية، ولعلَّ هذه الأوخازَ والإبَر تكون حافزًا لاستجلاءِ مزيدٍ من العِبَر والانطلاق إلى آفاقِ العمَل الإيجابيّ الجادّ البناء وميادين الإصلاح والإعمار والنّماء، وإلاّ فالله حافظ دينَه وناصِر كتابه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. ولن يزيدَ هذا العملُ القرآنَ إلا رفعة، والمسلمين إلا تمسّكًا به ومنعة، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
ألا فاتقوا الله عبادَ الله، اتَّقوه في أنفسِكم وفي قرآنِكم، فاتلُوه حقَّ تلاوته، وامتثِلوا أحكامَه، وغاروا عليه، ونافِحوا عنه، وانتصِروا له لعلّكم ترحمون.
هذا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وهادي البشرية أفضلِ الذاكرين وسيِّد الشاكرين، كما أمركم بذلك ربّكم ربُّ العالمين، فقال تعالى في أصدقِ قيله ومحكَم تنزيله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على الهادي البشير والسراجِ المنير نبيِّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيِّبين الطّاهرين...
(1/4148)
دروس وعبر من قصة أصحاب الغار
سيرة وتاريخ
القصص
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث أصحاب الغار. 2- التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة. 3- بر الوالدين. 4- العفة عن الزنا. 5- أداء الحقوق إلى أهلها. 6- من فوائد الحديث.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن ثلاثة آواهم المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم.
فقال رجل منهم: اللهم إنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يومًا فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج منه.
فقال الآخر: اللهم إنه كانت لي ابنة عم، كانت أحب الناس إلي، فأردتها على نفسها فامتنعت، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرتُ عليها قالت: اتق الله ولا تفضَّنَّ الخاتم إلا بحقه، فانصرفت عنها وهي أحبّ الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج.
وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء وأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أد إليّ أجري، فقلت: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئًا، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، فخرجوا يمشون)).
في هذه القصة العظيمة أنه قد اشتدّ الكرب بهؤلاء الثلاثة، فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمال صالحة عملوها، ألا وهي بر الوالدين والتعفف من الزنا وأداء الحقوق إلى أهلها.
فلنتأمل معًا بعض ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيه من الترغيب في هذه الأعمال الصالحة الثلاثة، وفي الترهيب مما يقابلها، ألا وهو العقوق والزنا وأكل أموال الناس بالباطل.
1- بر الوالدين هو قرين التوحيد في كتاب الله تعالى، قال تعالى: لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?للَّهَ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]، وقال: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [النساء:36]، وقال: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]، وقال سبحانه: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
فأمر الله سبحانه في هذه الآيات بالإحسان إلى الوالدين، وذلك يشمل الإحسان بالقول والفعل وبالمال وبالجاه، وأكد على ذلك عند الكبر، وحذر من التأفف والنهر، وأمر بالقول الكريم وبالذل لهما وبرحمتهما وبالدعاء لهما، وقال تعالى: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ [لقمان:14]، وذلك لأنه كما قال : ((لم يشكر الله من لم يشكر الناس)) حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي.
ومما جاء في فضل البر وعظيم ثوابه ما رواه مسلم عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن خير التابعين رجل يقال له: أويس، وله والدة هو بها برّ، لو أقسم على الله لأبره، وكان به بياض، فمروه فليستغفر لكم)).
وروى أحمد والحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان)) ، فقال رسول الله : ((كذلكم البر، كذلكم البر)) ، وكان أبر الناس بأمه.
2- العفة عن الزنا: الزنا فاحشة عظيمة، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، وقوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ نهي عن الزنا وعن الوسائل التي تؤدّي إليه من نظر محرّم وحديث محرّم ومسّ واختلاط؛ لأنها خطوات الشيطان.
نظرة فابتسام فسلام فكلام فموعد فلقاء
((ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) ، وقد رأى النبي رجالاً ونساءً عراة في تنّور، فقال: ((من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني)) ، ولبشاعة الزنا جعل الله تعالى له حدًا شنيعًا ألا وهو جلد الزانية والزاني مائة جلدة والتغريب عن البلد سنة، وأما المحصن فحده الرجم بالحجارة حتى الموت.
وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله)).
3- أداء الحقوق إلى أهلها، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
ومن استأجر أجيرًا فلم يؤد إليه أجره كان الله تعالى خصمه يوم القيامة، وأكل أموال الناس بالباطل سواء بغشّ أو رشوة أو تطفيف مكيال أو خيانة أمانة أو مماطلة في سداد دين أو غير ذلك كله من الظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، فمن كانت له عند أخيه مظلمة من مال أو عرض فليتحلله منها اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إلا الحسنات والسيئات، ولئلا يكون من المفلسين يوم القيامة الذين تفنى حسناتهم ويؤخذ من سيئات من لهم حقوق عليهم، فتطرح عليهم فيطرحون في النار عياذًا بالله.
وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم:
1- هدي النبي في تعليم أصحابه حيث كان يقص عليهم من قصص السابقين ما فيه العبرة لما في القصص من أسلوب حكيم في الوعظ والإرشاد، قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ?لْقَصَصِ [يوسف:3].
2- من تعرف إلى الله في الرخاء عرفه الله في الشدة، فهؤلاء الثلاثة عملوا هذه الأعمال الصالحة في وقت سعة ورخاء، فلما صاروا في كرب وشدة نجاهم الله.
3- أثر الإخلاص في تفريج الكربات وقبول الأعمال، حيث إن كل واحد من هؤلاء قال: اللهم إن كنت عملت هذا ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
4- مشروعية التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح.
5- أهمية الدعاء فهو سلاح المؤمن.
اللهم آت نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4149)
فضائل ذكر الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الإكثار من ذكر الله تعالى والتحذير من الغفلة. 2- أنواع الذكر. 3- فوائد الذكر وفضائله.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: لقد أمرنا الله تعالى في كتابه العزيز بالإكثار من ذكره فقال عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41، 42]، وجعل الفلاح في ذكره كثيرًا فقال: وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، وأعد للذاكرين المغفرة والأجر العظيم فقال: وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيرًا وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
وأخبر تعالى أنه يذكر من يذكره فقال: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وفي الحديث القدسي: ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه)) وكفى بذلك شرفًا.
وكما أمرنا سبحانه بذكره وحضنا عليه فقد حذرنا سبحانه من الغفلة عن ذكره فقال: وَلاَ تَكُنْ مّنَ ?لْغَـ?فِلِينَ [الأعراف:205]، وقال: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:19]، وقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [المنافقون].
والذكر في الكتاب والسنة نوعان:
1- امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه؛ لأن من ذكر قلبُه اللهَ تعالى تذكر أمره ففعله، وتذكر نهيه فاجتنبه، أما الساهي والغافل فهو المضيع للأوامر الواقع في المعاصي والرذائل.
2- ذكر أسماء الله وصفاته والثناء عليه سبحانه بها، وذلك بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة والاستغفار والصلاة على النبي وتلاوة القرآن والمواظبة على الأذكار المؤقتة أو التي لها أسباب كأذكار الصباح والمساء وأدبار الصلوات والنوم إلى آخر ما جاء في الكتاب والسنة.
ولهذا النوع من الذكر الذي هو تسبيح الله وذكر أسمائه وصفاته والثناء عليه وحمده وتمجيده سبحانه وتعالى فوائد وفضائل مبثوثة في الكتاب والسنة، تعود على العبد في الدنيا والآخرة، ومعرفة الإنسان لهذه الفضائل المترتبة على التسبيح والتحميد والتمجيد لا بد وأن ترفعه إلى الإكثار من ذكر الله تعالى بلسانه وقلبه ليكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
من أعظم فوائد الذكر أنه يكون حرزًا للإنسان من أذى الشيطان له في دينه ودنياه، وصح في الحديث أن النبي قال: ((أمر الله يحيى بن زكريا أن يأمر بني إسرائيل بخمس كلمات)) منها ذكر الله، ((قال يحيى عليه السلام: وآمركم بذكر الله كثيرًا، ومثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعًا في أثره، فأتى على حصن حصين فأحرز نفسه فيه)). وإن العبد أحرص ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله تعالى، وفي الحديث الآخر أن النبي رأى رؤيا وقصها على أمته، وفي هذه الرؤيا أنه رأى رجلاً قد احتوشته الشياطين، فجاءه ذكر الله عز وجل فطرد الشيطان عنه، وقال ابن عباس: (الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله تعالى خنس).
وذلك أن الشياطين تسعى لإهلاك بني آدم وغوايتهم وإيذائهم في دينهم ودنياهم، والإنسان في نفسه أضعف من الشياطين؛ لأن الله تعالى أخبرنا عن قدرتهم العجيبة على التشكل في صور كثيرة، وأنهم يروننا من حيث لا نراهم، وأنهم في استطاعة أحدهم أن يحمل العرش الضخم من اليمن إلى الشام في لمح البصر.
فلو وُكل الإنسان إلى نفسه فإنه لا يستطيع أن يتصدى لهذه الشياطين، أما لو كان الإنسان ذاكرًا لله تعالى وعلى صلة به فإن الله يمده بمدد من عنده، فلا يستطيع شيطان أن يقربه لأنه يصير من عباد الله المخلصين الذين قال عنهم ربهم مخاطبًا إبليس اللعين: إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـ?نٌ إِلاَّ مَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْغَاوِينَ [الحجر:42]، والله عز وجل هو خالق البشر وخالق الجن وهو العليم بأحوالهم، ولقد بلغ من قوة إيمان الصحابة رضوان الله عليهم وحسن صلتهم بربهم أن كان الشيطان يفر من الطريق الذي يمشي فيه عمر ويسلك فجًا آخر.
ومن فوائد الذكر العظيمة أنه يبعد الإنسان عن النفاق، ويكون الذكر الكثير علامة على أنه ليس منافقًا؛ لأن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنهم يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، فلم يقل: إنهم لا يذكرون الله أصلاً، بل ذكر أنهم يذكرون الله تعالى، لكن لا يكثرون من ذكره، ولهذا ختم الله تعالى سورة المنافقين بتحذير المؤمنين من أن تلهيهم أموالهم وأولادهم عن ذكر الله؛ لأن هذه صفة المنافقين، وجاء في الخبر: (من أكثر ذكر الله عز وجل برئ من النفاق)، وقد سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج: أمنافقون هم؟ قال: (لا، المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً). فهؤلاء الخوارج رغم فساد عقيدتهم وأعمالهم نجوا من النفاق لكونهم يذكرون الله كثيرًا.
ومن فوائد الذكر أنه يبثّ في قلب صاحبه الطمأنينة والسعادة كما قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، فالذاكر لله يحيا في سعادة وطمأنينة، ولا يؤثر فيه ما يلاقي في سبيل دعوته من محن وابتلاءات، بل يزيده ذلك سعادة وطمأنينة؛ لأنه على صلة بالله تعالى، ويوقن أن ذلك يرفع درجته ويزيده منه قربًا.
بينما المعرض عن ذكر ربه فإنه يعيش في ضنك وحيرة وأرق كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124]، وهذا يشمل المعرض عن ذكر الله بجيمع أنواعه، فيشمل المعرض عن امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ويشمل المعرض عن تسبيح الله وتحميده وتمجيده، وهم في الضنك والعمى مراتب متفاوتة بحسب إعراضهم عن ذكر الله، وقال بعض الذاكرين لله تعالى: "مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها: محبة الله تعالى وذكره".
من فوائد الذكر أنه يوقظ القلب من نومه ويحييه بعد موته وينبه الجوارح من غفلتها ويدفع الإنسان إلى العمل الصالح؛ لأن المسلم كالتاجر، فإذا نام وغفل فاته الربح وأتت البضائع فاشتراها غيره، وباء هو بالخسران وبارت تجارته، أما إذا كان مستيقظًا منتبهًا دائمًا فإنه سيكون حريصًا مبادرًا مسابقًا لشراء ما يعود عليه بالربح ومحافظًا على بضاعته من كل عدو يبغي إتلافها وإنقاصها، فالذكر هو الذي يجعل الإنسان على هذه الحال من اليقظة والانتباه.
ولذا قال النبي في حديث أبي موسى رضي الله عنه عند البخاري: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))، وفي رواية الإمام مسلم لهذا الحديث: ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت)). فالقلب الذاكر كالحي في بيوت الأحياء، وقلب الغافل كالميت في بيوت الأموات وهي القبور، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (لكل شيء جلاء، وإن جلاء القلوب ذكر الله).
ومن فوائد الذكر أنه ينجي من عذاب الله عز وجل كما قال : ((ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل)).
ومن فوائد الذكر أنه أيسر العبادات؛ لأن حركة اللسان أخف الحركات وأسهلها، ومع ذلك رتب الله عز وجل عليه هذا الفضل العظيم، وقد سأل رجلٌ رسول الله فقال: إن أبواب الخير كثيرة ولا أستطيع القيام بكلها، فأخبرني بشيء أتشبث به، فقال : ((لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله تعالى)) ، ولما اشتكى الفقراء إلى النبي من أن الأغنياء يجاهدون بأموالهم ويزكون ويتصدقون وهم لا يستطيعون ذلك أرشدهم النبي بما لو فعلوه لنالوا مثل ثواب المنفقين المجاهدين بمالهم، ألا وهو ذكر الله وتسبيحه وتحميده وتكبيره.
والتسبيح والتحميد غراس الجنة، وهو خفيف على اللسان لكنه ثقيل في الميزان حبيب إلى الرحمن جل وعلا، وقال : ((سبق المفردون الذين استهتروا بذكر الله عز وجل)) أي: أولعوا به وأكثروا منه.
ومن فوائد الذكر أنه سبب في إجابة الدعاء، لذا كانت الأدعية النبوية عامتها مبدوءة بذكر الله تعالى والثناء عليه قبل الطلب منه سبحانه أو بعده.
الذكر يقوي على الطاعة وعلى ما يشقّ على الإنسان من عمل الدين أو الدنيا، فقد أمر فاطمة وعليًا رضي الله عنهما بالتسبيح والتحميد والتكبير لما طلبا خادمًا يساعدها في عمل البيت.
والذكر يشغل عن الغيبة والنميمة؛ لأن اللسان إذا لم تشغله بالحق انشغل بالباطل ولا بد.
كان يذكر الله على كل أحيانه، وقال موسى واصفًا حاله وحال أخيه هارون: كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33، 34].
اللهم اجعلنا من الذاكرين والشاكرين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4150)
فضائل شهر رمضان وكيفية إثبات دخوله
فقه
الصوم
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استقبال رمضان والتحذير من إضاعته. 2- تمنّي الصالحين بلوغ رمضان والفرح بقدومه. 3- الدعوة إلى التوبة والرجوع إلى الله. 4- من فضائل رمضان. 5- كيف يثبت الشهر وحكم العمل بالحساب الفلكي.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، إنها أيام قلائل ويدخل علينا شهر كريم مبارك، جعله الله تعالى موسمًا عظيمًا من مواسم الطاعات، من وفقه الله تعالى فيه لطاعته فقد فاز، ومن خذل فيه فقد هلك، شهر قال الله تعالى فيه: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185].
عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : ((أتاني جبريل فقال: يا محمد ، من أدرك أحد والديه فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: يا محمد ، من أدرك شهر رمضان فمات فلم يغفر له فأدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين، قال: ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)) رواه ابن حبان والطبراني وهو في صحيح الجامع (75).
فما ظنكم بدعوة دعاها الروح الأمين وأمَّن عليها سيد المرسلين ؟!
أيها المسلمون، لقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، وما ذلك إلا لما علموه من الفضائل العظيمة لهذا الشهر المبارك.
كان النبي يبشر أصحابه بدخول شهر رمضان، فيقول لهم كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((أتاكم شهر رمضان شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغلُّ فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرم)) رواه أحمد والنسائي وهو في صحيح الجامع (55).
أيها المسلمون، كم أذنبنا وقصَّرنا في رجب وشعبان، فعلينا أن نستدرك ما فات ونعوضه بالإحسان في شهر رمضان، ولله در القائل:
يا ذا الذي ما كفاه الذنب في رجب حتَّى عصى ربه فِي شهر شعبان
لقد أظلك شهر الصوم بعدهما فلا تصيِّره أيضًا شهر عصيان
واتل القرآن وسبّح فيه مجتهدًا فإنه شهر تسبيح وقرآن
كم كنت تعرف ممن صام فِي سلف من بين أهل وجيران وإخوان
أفناهم الموت واستبقاك بعدهم حيا فما أقرب القاصي من الداني
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح الجامع (759).
بيّن في هذا الحديث عددًا من فضائل رمضان، ففيه تقيَّد الشياطين بالسلاسل، فلا يتوصّلون إلى ما كانوا يتصولون إليه من الشر في غير رمضان، غير أن هذا لا يمنع من وقوع معاصٍ في شهر رمضان بسبب النفوس الآدمية الأمّارة بالسوء، وتغلق أبواب النار السبعة علامة على انسداد أبواب الشر على الناس في هذا الشهر، وتفتح أبواب الجنة الثمانية علامة على انفتاح أبواب الخير وتيسير الطاعات في هذا الشهر، وينادي ملكٌ كريم مكلّف بذلك: يا باغي الخير أقبل أي: تعال يا من تريد الخير، ويا باغي الشر أقصر أي: ابتعد وأمسك عن الشر يا من تريد الشر، ويعتق الله تعالى كل ليلة عددًا من خلقه فيحرم عليهم دخول النار ويكتب لهم الجنة، نسأل الله تعالى أن يعتقنا من النار.
شهر رمضان سبب لتكفير السيئات ومغفرة الذنوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) رواه مسلم، وعنه أيضًا رضي الله عنه قال : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) رواه البخاري.
((إيمانًا)) أي: بفرضية الصوم وسنيّة القيام، ((واحتسابًا)) أي: طلبًا للأجر والثواب من الله سبحانه. فهذه ثلاثة أسباب كل واحد منها كافٍ بإذن الله في حصول المغفرة لما سبق من الذنوب، فكيف باجتماعها؟! وكلها بفضل الله في هذا الشهر الكريم المبارك.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي قال: ((الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب، منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب، منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيُشفعان)) رواه أحمد وهو في صحيح الجامع (3882).
وقال الله تعالى: كُلُواْ وَ?شْرَبُواْ هَنِيئًَا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِى ?لأَيَّامِ ?لْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، قال كثير من السلف: "هذه الآية نزلت في الصائمين يقال لهم ذلك يوم القيامة".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((كل عمل ابن آدم له يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به؛ يدع شهوته وطعامه من أجلي، والصيام جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابّه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)) رواه البخاري ومسلم.
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن للجنة بابًا يقال له: الريان، يقال يوم القيامة: أين الصائمون؟ فإذا دخل آخرهم أغلق ذلك الباب)) ، وفي لفظ: ((لا يدخله إلا الصائمون)) رواه البخاري ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد بيّن لنا النبي أنه ليس ثمة وسيلة لإثبات دخول شهر رمضان سوى رؤية هلال رمضان أو إكمال شعبان ثلاثين يومًا إذا لم نر هلال رمضان، جاء ذلك في حديث رواه عن النبي تسعة من أصحابه بألفاظ متقاربة هم عبد الله بن عُمَر وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة وجابر وعائشة وطلق بن علي وأبو بكرة والبراء بن عازب رضي الله عنهم أن النبي قال: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وقال : ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) رواه البخاري ومسلم.
وعلى هذا فإنه إذا رأى مسلم واحد عدلٌ هلال رمضان وجب على المسلمين الصيام، وإذا لم ير الهلال أحد من المسلمين العدول فإنه يجب إكمال عدة شعبان ثلاثين يومًا حتى لو كان الهلال موجودًا ولم نره، لأن الشرع علق الصيام برؤية الهلال لا بوجوده، ولهذا فقد أجمع الصحابة والتابعون والأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وجميع الفقهاء في القرون الثلاثة المفضلة على أنه لا يُعمل بالحساب الفلكي في إثبات دخول شهر رمضان أو غيره، ولا في نفي شهادة الشهود الذين رأوا الهلال، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية عمن يعمل بالحساب الفلكي في إثبات دخول شهر رمضان إنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين مخالف للعقل. مجموع الفتاوى (25/132).
والواجب على المسلم عند حدوث الاختلاف أن يرجع إلى سنة النبي وخلفائه الراشدين، فإذا رجعنا إلى السنة وجدناها تأمر بالعمل بالرؤية الشرعية، وتنهى عن العمل بالحساب الفلكي في الأهلة.
نسأل الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الحق، ونسأله سبحانه أن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا فيه على الصيام والقيام، اللهم آمين.
(1/4151)
هلموا لنجدة إخواننا في فلسطين
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اعتداء أعداء الله على إخواننا في فلسطين. 2- آيات وأحاديث في فضل الشام وبيت المقدس. 3- دعوة إلى نصرة إخواننا في فلسطين. 4- فضائل الجهاد في الكتاب والسنة. 5- تمني الجهاد والجهاد بالمال.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) أي: لا يترك نصره على عدوه، ((ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره يوم القيامة)) ، وروى أبو داود وابن ماجه بسند حسن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي قال: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم)) وهو في صحيح الجامع (6172).
ولا يخفى علينا جميعًا ما يتعرض له إخواننا في فلسطين على يد أرذل خلق الله أحفاد القردة والخنازير، وما اجترأ أعداء الله على إخواننا في فلسطين إلا لما رأوا من تخاذل المسلمين حكامًا ومحكومين عن نجدة إخوانهم، فإلى الله المشتكى.
لقد دنس اليهود الأنجاس الأرض التي وصفها الله عز وجل في كتابه الكريم بالتقديس والبركة، ألا وهي أرض الشام، ولا سيما فلسطين وبيت المقدس، قال تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وقال سبحانه: وَنَجَّيْنَـ?هُ وَلُوطًا إِلَى ?لأرْضِ ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:71]، وقال سبحانه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ?لْقُرَى ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـ?هِرَةً [سبأ:18]، وقال سبحانه: يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21].
روى أحمد والترمذي والحاكم عن زيد بن الثابت رضي الله عنه أن النبي قال: ((طوبى للشام؛ لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليه)) وهو في صحيح الجامع (3920).
وقد أخبر النبي عن استمرار الخير في الشام إلى يوم القيامة فقال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى تقوم الساعة وهم ظاهرون على الناس، وهم بالشام)) رواه البخاري ومسلم عن معاوية والمغيرة وجابر وثوبان وغيرهم رضي الله عنهم، وفي لفظ: ((هم ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
إن للمسجد الأقصى عند المسلمين منزلة عظيمة، فهو أولى القبلتين وثالث المسجدين ومسرى رسول الله الذي جمع الله تعالى فيه النبيين، فصلى بهم رسول الله فيه، هو أول مسجد بني بعد المسجد الحرام، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال للنبي : أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: ((المسجد الحرام))، قلت: ثم أي؟ قال: ((المسجد الأقصى)) ، قلت: كم بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)).
والمراد بهذا يعقوب عليه السلام، بنى المسجد الأقصى بعد بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام للمسجد الحرام بأربعين سنة، ثم جدد عمارته وبناءه سليمان عليه السلام. روى النسائي في سننه الكبرى بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله ((أن سليمان بن داود لما بنى مسجد بيت المقدس سأل الله خلالاً ثلاثًا: سأل الله حكمًا يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه)) ، وقد رجا النبي أن يكون قد أوتي دعوته الثالثة كما أوتي الأُولَيين.
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: ((الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة)) رواه ابن خزيمة في صحيحه والبزار والطبراني وضعفه الألباني في الإرواء (1/268).
ورحمة الله على صلاح الدين الأيوبي الذي كان عنده من أمر القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، وذلك لما استولى عليه النصارى فصار كالوالدة الثكلى يجول بنفسه من طلب إلى طلب، يحث الناس على الجهاد وينادي: يا للإسلام، وعيناه تذرفان بالدموع.
أيها الإخوة الكرام، إن الإنسان لا يحزن على إخواننا الشهداء ـ نحسبهم كذلك ـ بقدر ما يحزن على تقاعسنا عن نصرتهم ودعمهم بما يستطيعه كل منا، ولقد ضرب لنا إخواننا في فلسطين أروع الأمثلة في التضحية والفداء والشجاعة والإقدام، فلا نامت أعين الجبناء، إنهم عُزّل ليس معهم بعد تأييد الله لهم إلا الحجارة والعصي، يحاربون بها الطائرات والصواريخ، وينتشي كل يهودي جبان رعديد عندما يظفر وهو برشاشه بامرأة عجوز أو طفل أعزل، فيخرج فيه أثر حقده، ويزهو بالنصر العظيم على هذه العجوز أو هذا الطفل.
إن فضائل الجهاد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله لتجعل كل مسلم يغبط إخوانه الذين حازوا هذا الشرف ويقول في نفسه: ي?لَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء:73].
قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ فَ?سْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ ?لَّذِى بَايَعْتُمْ بِهِ وَذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:111]، وقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الصف:10-12]، وقال تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِ?لَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171]، وقال تعالى: فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?لَّذِينَ يَشْرُونَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا بِ?لآخِرَةِ وَمَن يُقَـ?تِلْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:74]، وقال تعالى: وَ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ ?لْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].
وأما فضائل الجهاد في سنة النبي فمنها:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله : ((مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)) ، قالوا: ثم من؟ قال: ((مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره)) رواه البخاري ومسلم.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: دُلني على عملٍ يعدل الجهاد؟ قال: ((لا أجده)) ، قال: ((تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟)) قال: ومن يستطيع ذلك؟! قال أبو هريرة: إن فرس المجاهد ليستنُّ ـ أي: يمرح ـ في طوله فيكتب له حسنات. رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((مثل المجاهد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يجاهد في سبيله ـ كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة)) رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود في البيوع (3445)، وصححه الألباني بطرقه في الصحيحة (11).
أيها الإخوة الكرام، لئن فاتنا الجهاد بالنفس فلا يفوتنا تمنيه، فإنه ((من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)) رواه مسلم، ((ومن سأل الله الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) رواه مسلم.
ولا يفوتنا الجهاد بالمال وأن نخلف الغزاة في أهلهم بخير، قال رسول الله : ((من أظل رأس غازٍ أظله الله يوم القيامة، ومن جهز غازيًا في سبيل الله فله مثل أجره حتى يموت أو يرجع، ومن بنى لله مسجدًا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتًا في الجنة)) رواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم، وقال للذي وقف ناقة مخطومة في سبيل الله عز وجل: ((لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة، كلها مخطومة)) رواه مسلم.
ظل بظل، وبيت ببيت، وناقة بسبعمائة ناقة، والجزاء من جنس العمل.
وقال : ((عليكم بالجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فإنه باب يذهب الله به الهم والغم)).
هموم الدنيا وغمّها كثير، ويظنّ الناس أن الذي خرج يكثر همُّه وغمّه، فطرد الله عنه الهمّ والغم، كيف لا والرسول يقول: ((ومن قاتل فواق ناقة وجبت له الجنة)) ؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4152)
ولينصرن الله من ينصره
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شروط النصر. 2- بطولات من أرض الشيشان. 3- الفرح بارتفاع رايات الجهاد. 4- صور من تضحيات الصحابة الكرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: قال الله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وقال تعالى: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وقال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
في هذه الآيات الكريمة وعدٌ من الله سبحانه وتعالى بالنصر، ولكنه وعد مشروط بشرط الإيمان الكامل وبشرط أن ننصر الله تعالى أولاً بنصر دينه وكتابه وسنة نبيه ، وفي قوله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ أكد سبحانه الوعد بالقسم المقدّر وباللام والنون ثم بقوله: إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ فهو القوي ومن حاربه الضعيف، وهو العزيز ومن حاربه الذليل.
قبل يومين أو ثلاثة من تاريخ كتابة هذه الكلمات أعلن المجاهدون الشيشان أن خمسة منهم تمكنوا بنصر الله تعالى من قتل وجرح أكثر من ألف وخمسمائة جندي روسي بينهم ضباط برتب كبيرة في ساعة واحدة، وفجروا عددًا من المباني فانهارت على من فيها من أعداء الله وارتفعت ألسنة اللهب إلى عنان السماء.
ولا زالت طائرات الإسعاف تنقل أكوام الجثث إلى موسكو، وقوات للانقاذ تبحث عن أحياء تحت الأنقاض، واجتماعات طارئة في موسكو لرئيسهم وحكومته يتبادلون فيها الاتهامات بالخيانة والإهمال، الله أكبر، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ.
إن ما يحدث على أرض الشيشان ينبغي أن يقوّي لدى المسلمين الأمل في التمكين لدين الله تعالى في الأرض، وأن يقوي لديهم الثقة في وعد الله، فهو حقّ ولكن هل نصرنا الله حتى ننتظر النصر من الله؟! إن الجزاء من جنس العمل.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم ـ أي: بخلوا ـ وتبايعوا بالعينة ـ وهي نوع من التحايل على الربا ـ وتبعوا أذناب البقر ـ كناية عن الانشغال بالدنيا ـ وتركوا الجهاد في سبيل الله سلَّط الله عليهم ذلاً، لا يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم)) رواه أحمد والطبراني وهو في صحيح الجامع (688).
فعلى المسلم أن يفرح بارتفاع رايات الجهاد في سبيل الله عالية خفاقة، فهي السبيل إلى عز المسلمين ومجدهم وكرامتهم.
أيها المسلمون، لقد قام هذا الدين على أكتاف الصحابة رضي الله عنهم الذين قدموا لنا أروع الأمثلة في البطولة والشجاعة والتضحية في سبيل الله، وهذه قبورهم رضي الله عنهم في مشارق الأرض ومغاربها شاهد على أنهم خرجوا حاملين راية هذا الدين ليخرجوا به الناس من الظمات إلى النور، ولنذكر نماذج من بطولتهم وتضحيتهم في سبيل نصرة دين الله، فلهذا نصرهم الله سبحانه:
1- زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة رضي الله عنهم يوم مؤتة:
في غزوة مؤتة أو سرية مؤتة كان عدد المسلمين ثلاثة آلاف، ونزلوا بمعان بلدة بالشام، وخرج لهم هرقل على رأس جيش ضخم من مائتي ألف مقاتل، مائة ألف من الروم، ومائة ألف من عرب الشام من النصارى، وكان النبي قد أمَّر على الجيش زيد بن حارثة، وقال: ((إن قتل زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة)).
لما علم المسلمون بعدد الروم قالوا: نكتب إلى رسول الله نخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا، وإما أن يأمرنا بأمره، فخطب فيهم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وقال: يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم له تطلبون الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، إنما نقاتلهم بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور وإما شهادة، فتشجع المسلمون، وبدأ القتال، فقتل زيد ثم جعفر الذي نزل عن فرسه فقاتل حتى قتل وهو ينشد:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبةً وباردًا شرابُها
والروم روم قد دنا عذابها كافرةً بعيدة أنسابها
ثم قاتل حتى قتل رضي الله عنه، فنعاهم رسول الله لأصحابه بالمدينة في نفس اللحظة، قال : ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ عبد الله بن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ ، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم)). وسيف الله الذي فتح الله عليه هو خالد بن الوليد رضي الله عنه.
وقال رسول الله : ((رأيت جعفر بن أبي طالب ملكًا يطير في الجنة ذا جناحين، يطير بها حيث يشاء)) رواه الطبراني عن ابن عباس والدارقطني عن البراء وصححه الألباني في صحيح الجامع (1555).
2- البراء بن مالك رضي الله عنه يوم اليمامة:
ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (1/196): في حرب اليمامة بين أصحاب النبي ومسيلمة الكذاب، أغلق بنو حنيفة أنصار مسيلمة الكذاب عليهم باب حديقة حصينة تعرف بحديقة الموت، والمسلمون يحاصرون الحديقة، والمرتدّون في الحديقة أربعون ألفًا، يرمون بالسهام والنيران على المسلمين الذين يحاصرونهم، والمسلمون لا يدرون ما يصنعون، فقال لهم البراء بن مالك رضي الله عنه: اجعلوني على ترس وارفعوني على أسنّة رماحكم وألقوني في الحديقة حتى أفتح لكم الباب، ففعلوا فاقتحم عليهم وشدّ عليهم، وقاتل حتى خلص إلى باب الحديقة، ففتحه بعد أن جرح بضعة وثمانين جرحًا، فداواه خالد بن الوليد رضي الله عنه شهرًا، ودخل المسلمون الحديقة، وقتلوا مسيلمة الكذاب، ونصرهم الله على المرتدين.
3- عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه يوم اليرموك:
وذكر الذهبي أيضا في السير (1/324): كان عدد المسلمين أربعة وعشرين ألفًا، وعدد الروم عشرين ومائة ألف، أقبلوا على المسلمين أمامهم الأساقفة والبطارقة والقسيسون، يحملون الصلبان وهم يجهرون بصلواتهم فيرددها الجيش من ورائهم، ولهم هزيم كهزيم الرعد، فلما رآهم المسلمون هالهم كثرتهم، فخطب فيهم أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم فقال: (عباد الله، انصروا الله ينصركم ويثبّت أقدامكم).
وطلب خالد بن الوليد من عكرمة بن أبي جهل والقعقاع بن عمرو أن يكونا أول من يبدأ القتال، فدعوا الروم إلى المبارزة، فأخرج لهم الروم بطلين من أبطالهم، فنازلهما عكرمة والقعقاع، ثم نادى عكرمة: من يبايعني على الموت؟ فبايعه أربعمائة فارس، منهم عمه الحارث بن هشام رضي الله عنهم، فاستبسلوا وقاتلوا قتالاً شديدًا حتى أتي خالد بعكرمة وبه بضع وسبعون طعنة ورمية وضربة، فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقطر الماء في حلقه، فلم يلبث أن قضى نحبه شهيدًا رضي الله عنه.
والنماذج كثيرة لا يمكن أن تحصى أو تستقصى للذين نصروا الله فنصرهم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من جنده المخلصين ومن حزبه المفلحين الغالبين، وأن ينصرنا على عدونا وينصر بنا الدّين، إنه سبحانه جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4153)
تعظيم القرآن الكريم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
12/4/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هداية القرآن الكريم للبشرية. 2- القرآن الكريم المعجزة الخالدة. 3- فضائل القرآن الكريم. 4- الجيل الأول والقرآن الكريم. 5- عظمة القرآن الكريم. 6- سبيل تعظيم القرآن الكريم. 7- وجوب الدفاع عن القرآن الكريم. 8- استنكار جريمة تدنيس القرآن الكريم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
كانتِ البشريّةُ تعِيش في ظلامٍ دامِس ولَيل بهيمٍ، لعِبت بعقولِها انحرافاتٌ وخُرافات، حتى أكرَم الله هذه البَشريّةَ وأنزل علَيها القرآن؛ ليخرِجَها من الظلمات إلى النّور ومِن الخضوعِ للأوثان والأصنامِ إلى خضوعٍ كامِل للواحِد الديّان.
أنزل الله القرآنَ معجزةً خالِدة، وتحدَّى به الثّقلَين، فأذعَن لفصاحَتِه بلَغاؤُهم، وانقاد لحُكمِه حُكَمَاؤهم، وانبَهَر بأسرَارِه علماؤهم، وانقطَعَت حُجَج معارِضيه، وظهَر عَجزُهم، كيف لا وهو كلام الحكيمِ الخبير الذي لا يطاوِله كلام ولا يجاريه أسلوب؟! قولُ إيجازٍ وآياتُ إعجاز.
يسَّر ذكرَه للذاكرين، وسهَّل حِفظَه للدّارسين، فهو للقلوبِ ربيعُها وللأبصارِ ضياؤها، جعَله الله نورًا، وإلى النّور يهدِي، حقًّا وإلى الحقِّ يرشِد، وصِراطًا مستقيمًا ينتهي بسالِكيه إلى جنّةِ الخلد، لا تملُّه القُلوبُ، لا تتعَب من تلاوته، لاَ يخلَق معَ كثرةِ التّرداد.
القرآن دليلُ دربِ المسلمين، دُستور حياةِ المؤمِنين، هو كلِّيّةُ الشريعة، عَمود الملّةِ، ينبوع الحكمة، آيَة الرِّسالة، نور الأبصار والبصائر، لا طَريقَ إلى الله سواه، ولاَ نجاةَ بغَيره، وإذا كانَ كذلك لزِم مَن رامَ الهدَى والنّورَ والسعادة في الدّارين أَن يتَّخِذه سَميرَه وأنيسَه، وأن يجعلَه جليسَه على مرِّ الأيّام واللّيالي، نَظرًا وعمَلاً، لا اقتصارًا على أَحدِهما، فيوشِك أن يَفوزَ بالبُغيةِ، وأن يَظفرَ بالطّلبَة، ويجِد نفسَه معَ السّابقين وفي الرَّعيل الأوّل.
الجيلُ الأوّل في صدرِ الإسلام ساروا على نهج القرآن، فأصبَحوا خيرَ أمّةٍ أخرِجَت للناس، لم يكُن القرآن عندَهم محفوظًا في السّطور، بل كان مَكنونًا في الصّدور ومحفوظًا في الأخلاقِ والأعمال، يَسير أحدُهم في الأرضِ وهو يحمِل أخلاقَ القرآن وآدابَه ومبادِئَه.
شَهِد الأعداء بعظمةِ القرآنِ وسموِّ معانيه، فقد أتَى الوليد بنُ المغيرةِ مرةً إلى الرسولِ يقول: يا محمّد، اقرَأ عليّ القرآنَ، فيقرَأ عليه الصلاة والسلام: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، ولم يكَد يَفرغ الرسولُ مِن تلاوتها حتّى يطالِب الخَصمُ الألَدّ بإعادَتها لجلالةِ لفظِها وقدسيّه معانيها، مأخوذًا برَصانَة بنيانها، مجذوبًا بقوّةِ تأثيرها، ولم يَلبَث أن يسجِّل اعتِرافَه بعظمةِ القرآن قائلاً: والله، إنَّ لَه لحلاوةً، وإنّ عَليه لطَلاوَة، وإنّ أسفَلَه لمورِقٌ، وإنَّ أعلاَه لمثمِر، وما يقول هذا بشر [1].
يخبِر الربُّ تبارك وتعالى عن عَظمةِ القرآنِ وجَلاله، وأنّه لو خوطِب به صُمُّ الجبال لتصدَّعت من خَشيةِ الله: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21].
في إِحدَى غزَوات النّبيِّ قام رَجلٌ من المهاجرِين ورَجلٌ مِنَ الأنصارِ بالحراسةِ ليلاً، فاضطَجَع المهاجريّ وقام الأنصاريّ يصلِّي، فجاءَ رجلٌ من العدوّ، فلمّا رأَى الأنصاريَّ رماه بسهمٍ فأصابَه، فنزعَه الأنصاريّ، حتى رماه بثلاثةِ أَسهُم، ثم ركَع وسجَد، فانتبَه صاحبُه، وهرَب الرجل، ولما رأَى المهاجريّ ما بالأنصاريّ من الدّم قال: سبحان الله! ألاَ نبَّهتَني أوّلَ ما رمَى؟! قال: كنتُ في سورةٍ أقرَؤها، فلم أحِبّ أن أقطَعَها [2].
إنّ الكلامَ يعظُم بعِظَم قائله، فكيف إذا كانَ المتكلِّم هو الله جبّار السماوات والأرضِ؟! ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ [الحج:32].
وعنوانُ الشعائر الإلهيّة هو القرآنُ العظيم الذي لا يأتيهِ الباطلُ من بين يدَيه ولا مِن خلفه. هو عظيمٌ عندَ الله، وهو في اللوحِ المحفوظ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:4]. قال ابن كثير في معنى الآية: "بيَّن شرَفَه في الملأ الأعلَى ليشرِّفَه ويُعظِّمَه ويطيعَه أهلُ الأرضِ" [3].
وإنَّ تعظيمَ كلامِ الله تعظيمٌ لله، قال النوويّ رحمه الله: "أجمع المسلِمون على وجوبِ تعظيمِ القرآنِ العزيزِ على الإطلاقِ وتنزِيهِه وصِيانتِه" [4] ، قال القاضي عياض رحمه الله: "من استخفَّ بالقرآن أو بالمصحَف أو بِشيءٍ منه فهو كافِرٌ بإجماعِ المسلِمين" [5].
يعظم كتابُ اللهِ بحُسنِ التلاوة وتصديقِ الأخبارِ وامتثال الأوامِر واجتِنابِ النّواهي وبما شرَعَ الله لكم أن تعَظِّموه به.
إنَّ تعظيمَ كلام الله لَيس بتَزيينِه وتفخِيمِ طِباعته وكاتبتِه، وليسَ بتعليقِه على جُدرانِ البيوت، وليس بقراءتِه على الأمواتِ، بل بإقامةِ حروفِه وحدودِه وتعظيمِ شأنِه والسَّير على منهاجِه، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29].
ومِن تعظيم كتابِ الله أن لاَ يقرَأَه الإنسانُ وهو جنُب، وأن لا يمَسَّ المصحفَ إلاّ على طَهارة؛ لأنَّ النبيَّ كتَب إلى عمرو بنِ حزم أن لا يمسَّ القرآنَ إلاّ طاهِر [6].
ومِن تعظيم القرآن أنّه لا يجوزُ الكلامُ فيه بِغير عِلم، يقول الإمام النوويّ رحمه الله: "ويحرُم تفسيرُه بغيرِ علمٍ والكلامُ في معانيه لمن لَيس من أهلِها، والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ، والإجماعُ منعقِد عليه، أمّا تفسيره للعلماء فجائِزٌ حسَن، والإجماع منعقِد عليه" [7].
مِن تعظيمه تركُ تفسير القرآنِ بالظنِّ، أخرَج أحمد والترمذيّ وحسَّنه عن سَعيد بن جبير عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنه عن النّبيِّ قال: ((اتَّقوا الحدِيثَ عنّي إلاّ ما علِمتم، فمن كذَب عليَّ متعمِّدًا فليتَبوَّأ مقعدَه من النار، ومَن قال في القرآنِ برأيِه فليتبوَّأ مقعدَه من النار)) [8].
من تعظيمه إحضارُ القارئِ قلبَه في القراءة والتفكّرُ فيها، روَى البخاريّ عن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه أنه قال: سَمعت رسول الله يقول: ((يخرُج فيكم قومٌ تحقِرون صلاتَكم مَع صلاتهم، وصِيامَكم معَ صِيامهم، وعمَلَكم مع عَملِهم، يقرؤونَ القرآنَ لا يجاوز حَناجِرَهم، يمرُقون من الدّين كما يمرُق السّهمُ من الرميّة)) [9].
من تعظيمِ القرآن تنظيفُ الفم لأجلِ القراءة بالسِّواك والمضمَضة، روى البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((لولاَ أن أشقَّ على أمّتي ـ أو على الناس ـ لأمَرتهم بالسّواك مع كلِّ صلاة)) [10] ، وظاهِرُ هذا أنّه كان يفعَل هذا للصّلاة وقِراءةِ القرآن.
مِن تعظيمه كراهيةُ قَطع القراءةِ لكلام الناس، فلا يَنبغي أن يؤثِرَ كلام الناس على قراءةِ القرآن، روَى البخاريّ عَن نافع قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا قرَأ القرآنَ لم يتكلَّم حتّى يفرغَ منه [11].
ومِن تعظيمه تلقِّي القرآن من العدولِ العلماء بما أخَذوا وبما يؤدُّونَه، روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله قالَ لأبيّ: ((إنَّ اللهَ أمرني أن أقرَأ عليك القرآنَ)) ، قال: الله سماّني لك؟! قال: ((الله سمّاك لي)) ، قال: فجعل أبيّ يبكِي [12].
ومِن تعظيمه تركُ المماراةِ في القرآنِ، روَى البخاريّ عن جندب بن عبد الله عنِ النبيِّ قال: ((اقرؤوا القرآنَ ما ائتلَفَت قلوبكم، فإذا اختلفتُم فقوموا عنه)) [13] ، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: هَجَّرت إلى رسول الله يومًا قال: فسمع أصواتَ رجلَين اختلَفا في آيةٍ، فخرج عَلينا رسول الله يُعرَف في وجهه الغضبُ فقال: ((إنما هلَك من كان قبلَكم باختِلافِهم في الكِتاب)) [14].
ومِن تعظيمِه عدمُ السّفر بالقرآنِ إلى أرضِ العدوّ، روى البخاريّ ومسلِم عن عبد الله بن عمر قالَ: نهى رسول الله أن يُسافرَ بالقرآنِ إلى أرضِ العدوّ [15] ، وروى مسلم عَن أيّوب عن نافعٍ عن ابنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا تُسافروا بالقرآن؛ فإني لا آمَن أن يَنالَه العدوّ)) ، قال أيّوب: فقد نالَه العدوّ وخاصموكُم به [16]. قال النوويّ: "النهيُ عن المسَافرةِ بالمصحَفِ مخافةَ أن يَنالَه العدوّ فينتهِكوا حرمتَه، فإذا أُمنَت العِلّة فلا كراهةَ ولا مَنعَ منه" [17].
ومِن تعظيمه تركُ استِئكالِ الأموالِ بالقرآن، روَى الترمذيّ وقال: "حديث حسَن" عن عمران بن حصينٍ أنّه مرَّ على قاصٍّ يقرأ ثم سَأل، فاسترجَع ثم قال: سمعتُ رسولَ الله : ((من قَرأ القرآنَ فليَسألِ الله به، فإنّه سيجيءُ أقوامٌ يقرؤونَ القرآنَ يسأَلون به النّاس)) [18] ، وروى البخاريّ ومسلم عن عليٍّ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((يأتي في آخرِ الزّمان قومٌ حُدَثاء الأَسنان سُفَهاءُ الأحلام، يقولون من خيرِ قول البريّة، يمرُقون من الإسلام كما يمرق السّهمُ من الرّميّة، لا يجاوز إيمانُهم حنَاجِرَهم، فأينَما لقِيتموهُم فاقتلوهم، فإنَّ قتلَهم أجرٌ لمَن قتلَهم يومَ القيامة)) [19].
والمعنى: سيظهَر في زمَنِكم قومٌ يكثِرون من العبادةِ، ولكن رياءً وسمعَة، وهم بَعيدون عن الدّين كالسَّهم إذا نفَذ من مرمَاه بسرعةٍ، فينظر الرامي في النَّصل والقدح والرّيش، فلا يرى فيها أثرًا للإصابة، قومٌ أصابَتهم فِتنةٌ فعَموا وصمّوا.
قِراءةُ القرآنِ رياءً لا أَجرَ فيها، فقِراءةُ القرآن لا تكون إلا للإيمانِ والعمل به لله تَعالى، قالَ الله تعالى: إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ مِن الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البيهقي في دلائل النبوة وفي الشعب (1/156) عن عكرمة مرسلا، ووصله بعضهم.
[2] علقه البخاري في كتاب الوضوء، باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، ووصله أحمد (3/343، 359)، وأبو داود في الطهارة (198)، والدارقطني (1/223)، والبيهقي في الكبرى (1/140) عن جابر رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (36)، وابن حبان (1096)، الحاكم (557)، وهو في صحيح سنن أبي داود (182).
[3] تفسير القرآن العظيم (4/123).
[4] التبيان في آداب حملة القرآن (ص151).
[5] انظر: التبيان في آداب حملة القرآن (ص151-152).
[6] هذا الكتاب تلقاه العلماء بالقبول والعمل، رواه الدارمي في الطلاق (2266)، والدارقطني (1/122، 2/285)، والبيهقي في الكبرى (1/87، 309، 4/89) وفي الشعب (2/380)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (571، 572) من طريق الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، وصححه ابن حبان (6559)، والحاكم (1446)، وصححه الألباني لشواهده في الإرواء (122).
[7] التبيان في آداب حملة القرآن (ص154).
[8] مسند أحمد (1/233، 269)، سنن الترمذي: كتاب التفسير (2951)، وأخرجه أيضا النسائي في الكبرى (5/30، 31)، وأبو يعلى (2338)، والبيهقي في الشعب (2/423)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1783).
[9] صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن (5058)، وأخرجه أيضا مسلم في الزكاة (1064).
[10] صحيح البخاري: كتاب الصلاة (887)، وأخرجه أيضا مسلم في الطهارة (252).
[11] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4527).
[12] صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (799)، وأخرجه أيضا البخاري في التفسير (4960).
[13] صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن (5060)، وأخرجه أيضا مسلم في العلم (2667).
[14] صحيح مسلم: كتب العلم (2666).
[15] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2990)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1869).
[16] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1869).
[17] شرح صحيح مسلم (13/13).
[18] سنن الترمذي: كتاب فضائل القرآن (2917)، وأخرجه أيضا سعيد بن منصور (1/187)، وابن أبي شيبة (6/124)، والبزار (3553)، والروياني (81)، والطبراني في الكبير (18/166)، والبيهقي في الشعب (2/533، 534)، وهو في السلسلة الصحيحة (257).
[19] صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن (5057)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1066).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلامٌ على عِباده الذين اصطفى، أحمده سبحانَه وأشكره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له له الأسماء الحسنى والصّفات العلا، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه ومن اقتفى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
ومِن تعظيمِ القرآن المحافظةُ على الكُتبِ العامّة والكتب المدرسيّة والصّحُف التي تشتمِل على آياتٍ من القرآنِ الكريمِ في غِلافها أو داخِلها، لكنَّ بعضَ المسلمين حينما يقرؤون تلك الكتُب والصّحفَ يُلقيها، فتجمَع مع القمائم وتوطَأ بالأقدام، بل قد يستَعمِلها بعضهم سُفرةً لطعامه ثم يرمِي بها في النفايات مع النّجاسات والقاذورات، ولا شكَّ أن هذا امتهانٌ لكتابِ الله العظيم وكلامِه المبين.
ومِن تعظيم كلام الله أن يُرفَعَ فلا يوضَع في الأرض، لا سيما في الأرض التي ليسَت محتَرَمة، فإنَّ وضعَه في أرضٍ ليست محترمَةً يدلّ على عَدمِ مُبالاة الواضِع به، وإذا كان الإنسانُ يقرَأ في مصحَفٍ وهو في المسجِد أو في بيته ثم أراد السّجودَ ووضَعه بين يديه فإنَّ هذا لا بأسَ به ولا إِهانةَ فيه للقرآن.
ومِن تعظيمِ القرآن أن لا تمدَّ إليه رجلَيك، وأن لا تولّيَه ظهرَك.
ومِن حقِّ القرآن علَينا نحن المسلمين المنافحةُ عَنه وعدَم السكوتِ على من يتهَجَّم على القرآن أو يستهزِئ به، ولقد آلم المسلِمين جميعًا خبرُ وقوعِ تدنيسٍ لآياتِ المصحَف الشّريف، وهذا عمَل مشين وسلوكٌ دنيء وإساءةٌ لجميع المسلمين وامتهانٌ لكِتاب الله عز وجل، إنّه يلهِب مشاعرَ الغضَب والاستياء لدَى المسلمين، وفيه مخالفةٌ للقِيَم الأخلاقيّة وإِيقادٌ لنزَعات التطرّف وتأجيجٌ لبُؤر الصِّراع.
والواجبُ التحقيقُ في هذه السلوكيّاتِ المشينَة، وإنزالُ العقوباتِ الرادِعة بكلّ مَن ارتَكب هذه الجريمةَ النّكراء، مع الاعتذارِ العامِّ لجميعِ المسلِمين في كلّ أصقاع الأرض، فهذا العملُ مِن أشدِّ الموبقات جُرمًا.
يقول عمَر رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: سمعتُ هشامَ بن حكيم بن حِزام يقرأ سورةَ الفرقان في حياةِ رسولِ الله ، فاستَمعتُ لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروفٍ كثيرة لم يقرِئنِيها رسول الله، فكدتُ أساوِره في الصلاةِ، فتصبَّرت حتى سلَّم، فلَببتُه بردائِه فقلت: من أقرأَك هذه السورةَ التي سمعتُك تَقرَأ؟! قال: أقرَأنِيها رسولُ الله ، فقلتُ: كذَبتَ فإنَّ رسول الله قد أَقرَأنيها على غيرِ ما قَرأتَ، فانطلقتُ به أقودُه إلى رسول الله فقلتُ: إنّي سمِعتُ هذا يقرَأ بسورةِ الفرقانِ على حروفٍ لم تقرِئنيها! فقال رسول الله : ((أَرسِله، اقرَأ يا هشام)) ، فقرأ عليه القراءةَ التي سمعتُه يقرأ، فقال رسول الله : ((كذَلك أنزِلَت)) ، ثم قال: ((اقرَأ يا عمَر)) ، فقرأتُ القراءةَ التي أقرَأني، فقال رسول الله : ((كذلك أُنزِلت، إنَّ هَذا القرآنَ أُنزِل على سبعةِ أحرُف، فاقرَؤوا ما تيسَّر منه)) [1].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاءِ الأربعة الرّاشدين...
[1] صحيح البخاري: كتاب فضائل القرآن (4992)، وأخرجه أيضا مسلم في صلاة المسافرين (818).
(1/4154)
الخيانة
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق
حسام الدين خليل فرج
الدوحة
جامع صلاح الدين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذم الخيانة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة. 2- المصائب التي جرتها الخيانة على الأمة الإسلامية. 3- المفهوم الحقيقي للأمانة في الإسلام. 4- أنواع الخيانة: خيانة العقيدة، خيانة الشريعة، استغلال المنصب للمنفعة، إسناد العمل إلى غير أهله، استغلال النعم في المعاصي، عدم حفظ الجوارح عن المعصية، عدم حفظ حقوق المجالس، خيانة العالم لعلمه، خيانة الودائع. 5- موقف المسلم من الخيانة والخونة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن أمتنا الإسلامية تمرُّ في هذا الزمان بمحَنٍ عظيمة ونوازلَ شديدة ونكَبات متلاحقة، ساهم فيها بشدة تعرّض الأمة لخيانات متعددة، تارة من أعدائها، وتارات ـ وهو أنكى ـ من أبنائها.
يُخادعني العدو فلا أبالي وأبكي حين يخدعني الصديق
نعم، كل الخيانة قاسية ومريرة مريرة مريرة، لكن الأقسى أن يخونك من تتوقع منه العون.
وحتى لا نسير على درب الخونة الدَّنِس ولا نتبع خطاهم الملوثة، ولكي يتقي اللهَ مسلمٌ أن يخون عهد الله وأمانته كانت هذه الخطبة.
قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
الخيانة أمر مذموم في شريعة الله، تنكرها الفطرة، وتمجها الطبيعة السوية، ولا تقبلها حتى الحيوانات العجماوات. الخيانة كلمة تجمع كل معاني السوء الممكن أن تلحق بإنسان، فهي نقض لكل ميثاق أو عقد بين إنسان وخالقه أو إنسان وإنسان أو بين الفرد والجماعة.
قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لخَـ?ئِنِينَ [الأنفال:58]، وقال سبحانه: وَأَنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ ?لْخَـ?ئِنِينَ [يوسف:52]، وقرن الله جل وعلا بين الخيانة والكفر في قوله جلّ وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38].
والخيانة من سمات النفاق، فالخائن بالضرورة منافق، وإلا فكيف سيُخفي خيانته إلا بالنفاق؟! قال النبي : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) متفق عليه.
وأشد الناس فضيحة يوم القيامة هم الخائنون للحديث: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يقال: هذه غَدْرَة فلان)) متفق عليه، هذا الخائنَ وإن اندسّ بين الناسَ وإن عرف كيف يرتّب أموره بحيث لا يُفتضح أمام عباد الله فأين يذهب يوم القيامة؟!
وكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من الخيانة كما روى أبو داود أنه كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)) رواه أبو داود (1547) والنسائي (5468).
الخيانة مذمومة حتى مع الكفار، حتى مع الخونة، ولهذا قال النبي : ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) ، وفي القرآن: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَ?نبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى? سَوَاء إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لخَـ?ئِنِينَ [الأنفال:58]، وجاء عثمان بن عفان بعبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى النبي ، وكان النبي قد أهدر دمه، فجاء به حتى أوقفه على النبي فقال: يا رسول الله، بايِع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثًا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: ((أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففتُ يدي عن بيعته فيقتله؟!)) فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك، قال: ((إنه لا ينبغي لنبيّ أن تكون له خائنة الأعين)) والحديث صحيح رواه أبو داود وغيره.
فالمصطفى عليه الصلاة والسلام لم يرضَ أن يتَّخذ الخيانة وسيلة حتى في حقِّ كافر محارب لله ورسوله، فما مدى جرم أولئك الذين لا تكون خيانتهم إلا في مسلمين؟! كيف بالذين لا تكون خيانتهم إلا في حق مؤمنين موحدين، لا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة؟!
وبالخيانة أسقطت دولة الخلافة الإسلامية، وكانت رمزًا تجمع شتات المسلمين، فتمزقت أوطان المسلمين إلى بلدان وأقاليم، وأقام أعداؤنا في كلّ موطن وإقليم سلطانًا مواليًا لنفوذهم، ينفذ سياستهم بالترغيب والترهيب والحماية، ثم عمدوا إلى مناهج التعليم والتربية فصبغوها بصبغتهم في الإلحاد والكفر، وأنشؤوا بذلك أجيالاً من أبناء المسلمين، يعادون دينهم، ويتنكرون لتاريخهم وأمتهم، ثم عمدوا إلى الدين والحق فحاصروه في نفوس أتباعه، وضيقوا الخناق عليه في كل مكان، واضطروا أهله إلى النجاة بأنفسهم أو تحمّل صنوف العذاب والبلاء.
وبالخيانة تم غزونا فكريًا، فلم يستطع الغرب أبدًا أن يغزونا فكريًا ولا أن يهزم أرواحنا حتى حين هزم جيوشنا، لكن تكفّل بالمهمة الخونة من أبناء جلدتنا، وصدق الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ [البقرة:204].
بسلاح الغدر والخيانة ذلك السلاح الذي تجرعت الأمة وتتجرع بسببه المرارات، وعن طريقه فقدت الأمة أعظم قادتها وخلفائها ممن أعجَزَ أعداءَها على مر التاريخ، فالرسول سَمَّته يهود، وعمر قتله أبو لؤلؤة المجوسي, وعثمان قتلته يد الغدر, وعلي وغيرهم ممن أغاظ أعداء الله أذاقهم صنوف العذاب والهوان في ساحات النزال وفي بئر معونة قُتِلَ سبعون من خيار الصحابة، لأجل هذا جاء التحذير من الخيانة، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
وضد الخيانة الأمانة، وهي أداء ما ائتمن عليه الإنسان من الحقوق، وهي من أنبل الخصال وأشرف الفضائل، وكفاها شرفًا أن الله تعالى مدح المتحلّين بها فقال: وَ?لَّذِينَ هُمْ لأَِمَـ?نَـ?تِهِمْ وَعَهْدِهِمْ ر?عُونَ [المؤمنون:32].
لذلك جاءت الآيات والأخبار حاثّة على التحلي بالأمانة والتحذير من الخيانة، قال أنس رضي الله عنه: ما خطبنا رسول الله إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) رواه أحمد (3/154).
وبعض الناس يقصرون فَهمَ الأمانة في أضيق معانيها، وهو حفظ الودائع، وحقيقتها في دين الله أضخم وأجل.
إنها الأمانة التي أشفقت من حملها السموات والأرض، إِنَّا عَرَضْنَا ?لأمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]، وبديهي أن الأمانة هنا ليست حفظ المال فقط، فذلك ما لا يفيده نص الآية الكريمة، وإنما نستشعر أن المراد بالأمانة هنا هو التزام الواجبات وأداؤها خير أداء كما شرعها الله سبحانه وتعالى للناس.
لقد أصاب مفهوم الأمانة ما أصاب غيره من المفاهيم من حيث سوء الفهم، فانحصر مفهوم الأمانة عند كثير من الناس في حدود ضيقة، فأكثر الناس اليوم لا يعرف عن الأمانة إلا أنها أداء الودائع التي استُودع إياها من قبل الناس، وهذا المفهوم هو جزء من مفهوم الأمانة الحقيقية، فالأمانة التزام الإنسان بالقيام بحق الله وعبادته على الوجه الذي شرعه الله مخلصًا له الدين.
إن الأمانة ـ إخوة الإيمان ـ فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فأبان أنها تُثقل كاهل الوجود كله، إِنَّا عَرَضْنَا ?لأمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً. هذه الأمانة التي عرضت على الأرض والسماوات فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولاً، حمِّلتها على ظهرك ووضعتها أمانة في عنقك، لكي تُرهَن بها بين يدي الله ربك.
قال عبد الله بن مسعود قال: (القتل في سبيل الله يُكفّر الذنوب كلها إلا الأمانة، يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتِل في سبيل الله فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! قال: فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق به إلى الهاوية، وتمثل له أمانته كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على مَنْكِبيه، حتى إذا نظر ظن أنه خارج زلَّت عن مَنْكِبيه، فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة ـ وأشياء عدَّدها ـ، وأشد ذلك الودائع)، قال راوي الحديث: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى ما قال ابن مسعود؟! قال البراء: صدق، أما سمعت الله يقول: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]؟! رواه البيهقي مرة موقوفًا على ابن مسعود وأخرى مرفوعًا وحسنه الألباني.
جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم أخبر النبي أن الأمانة والرحم تقومان على جنبتي الصراط، فقال: ((وترسل الأمانة والرحم، فتقومان جَنْبتي الصراط يمينًا وشمالاً، ـ قال: ـ وفي حافَّتي الصراط كلاليب مُعلقة مأمورة بأخذ من أُمرت به، فمَخْدوش ناجٍ، ومَكْدوس في النار)) ، والذي نفس أبي هريرة بيده، إن قعر جهنم لسبعون خريفًا.
تقف الأمانة على الصراط، فتُكَبْكِب في نار جهنم كلَّ من خانها، وأما الرحم فإنها تُزِلّ قدم من قطعها وظلمها.
فيا من في أعناقكم أمانات، وكلنا كذلك، وكل بحسبه، أدِّ الأمانة، وإياك من الخيانة قبل أن تزل قدم بعد ثبوتها في موطن تكون الزلة تحتها قعر جهنم.
إن الخيانة ـ يا سادة ـ ظاهرة موجودة على كل الميادين، تقلّ في ميدان وتكثر في آخر، فمن خيانة الله ورسوله إلى خيانة المؤمنين، هذا يخون شريكه، وهذا يخون والده، وتلك تخون زوجها، وذلك يخون زوجته، وذاك يخون إخوته، وذاك يخون بلده، وذاك يخون وظيفته، وذاك يخون إدارته، وذاك يخون عِلمه، ومن يسرق مال شريكه خائن، ومن ينظر إلى نساء المسلمين مشتهيًا أعراضهم فهو خائن، لذلك قال الله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ [النور:30]، وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ [النور:31]. نعم، الخيانة قبيحة في كل شيء، وبعضها شر من بعض، وليس من خانك في فِلْس كمن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائم.
ولذلك من المهم أن نعرج على بعض أنواعها:
1- خيانة العقيدة: وعقيدتنا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعدم تحقيق لا إله إلا الله في النفس وفي الغير وأنت مسلم خيانة لله، تعطيل فرائض الله أو تعدي حدوده أو انتهاك محارمه وأنت مسلم خيانة لله.
أن يكون المسلم مطية لأعداء الله في تنفيذ مخططاتهم وما فيها من دمار للبلاد والعباد أو دليلاً لهم على عوراتها خيانة، قال تعالى: ضَرَبَ ?للَّهُ مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ ?مْرَأَتَ نُوحٍ وَ?مْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَـ?لِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ ?للَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ?دْخُلاَ ?لنَّارَ مَعَ ?لداخِلِينَ [التحريم:10]. والخيانة هنا هي خيانة الدين لا الفاحشة، قال ابن كثير: إن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء. قال ابن عباس: (كانت خيانتهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تطلع على سرّ نوح، فإذا آمن مع نوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به، وأما امرأة لوط فكانت إذا أضاف لوط أحدًا أخبرت به أهل المدينة ممن يعمل السوء). وصلة الزوجية لم تنفع ولو كانت مع نبيّ، قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِى ?لصُّورِ فَلاَ أَنسَـ?بَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ [المؤمنون:101].
2- موالاة أعداء الله خيانة: تروي كتب السيرة أن حاطب بن أبي بلتعة عندما تجهز النبي لفتح مكة أرسل رسالة لقريش مع امرأة يُعِلمهم بسير النبي ، وجاء الوحي إلى رسول الله يخبره بالخبر، فنادى رسول الله : ((يا علي)) ، قال: لبيك يا رسول الله، ((يا زبير)) ، قال: لبيك يا رسول الله، ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه)) ، وذهبا كالسهمين مسرعين، ووجدا تلك المرأة تُنيخ راحلتها، فاقترب الزبير وقال: أي أختاه معك رسالة فأخرجيها، قالت: ما معي شيء، قال عليّ: يا امرأة، إنّ الذي أرسلنا ما كذب قطّ، وهو صادق فيما يقول، أخرجي الرسالة، قالت: ما معي شيء، قال: والذي نفسي بيده، إما أن تخرجيها، وإما أن أجردك من ثيابك حتى أراها، صاحت بكل صوتها وهي مشركة: لا، إياك أن تجرّدني، فأنا عربية حرة لا أتجرّد من ثيابي.
يا الله، إن في شوارعنا من يتجرد من ثيابه، لقد تجردوا وتزينوا وتسفهوا، وللخنا باعوا واشتروا، ثم يقولون: هم عرب.
قال: سنجردك من ثيابك، قالت: لا بل أخرج الرسالة، قال: أخرجيها، قالت: أديرا وجهيكما، وكشفت وأخرجت الرسالة وسلّمتها، وعاد الشابان إلى الجيش، هنالك فتح الرسول الرسالة وقرأها عليّ: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، إن النبي قد جاءكم بجيش لا قبل لكم به فخذوا حذركم.
عقدت محكمة ميدانية، جيء بحاطب، ((يا حاطب ما هذا؟)) بكى حاطب وأشهَد الله أنه لم يفعل ذلك خيانة، إنما له أهل ضعاف، أراد أن لا تقتلهم قريش إذا سمعوا أن الجيش قد جاء، فأرسل الرسالة ليحافظ على أهله، فقال عمر: يا رسول الله، هذا رجل كذاب، دعني أضرب عنقه، قال : ((إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم؟!)) وفي رواية: ((فقد وجبت لكم الجنة)) متفق عليه.
وينادي حاطب وهو ينظر إلى المسلمين: والله ما خنت الله ورسوله، والله ما نويت ذلك ولا خطر لي ذلك. نحن الآن من أجل أرصدةٍ في بنوك اليهود من أجل جاهٍ نطلبه من الكافرين نخون أمة المسلمين بأجمعها. وأنزل الله تعالى براءة لحاطب فقال له: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ?لْحَقّ إلى آخر الآية [الممتحنة:1].
يا حاطب، إن عدوك هو عدوي، وإن عدوي هو عدوك، أنت مؤمن يا حاطب.
من هنا عاد حاطب إلى صفوف المؤمنين، وصار الصف بلا خيانة.
3- خيانة الشريعة: فلا تُطَبّق، بل تعزل عن حياة المسلمين، وهذه الخيانة عمّت وطمّت، أين الشريعة في الدساتير العلمانية؟! أين الشريعة في الاقتصاد الربوي؟! أين الشريعة في الإعلام التحلُّلِي؟! أين الشريعة في السلم والحرب والتعليم والقضاء؟! وما شريعة القرآن إلا عهود ومواثيق بين الله وعباده، وقد دعانا رب العزة إلى الوفاء فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]، وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَـ?قَهُ ?لَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ?لصُّدُورِ [المائدة:7].
4- ومن الخيانة خيانة الأعراض، ومن الخيانة في الأعراض النظرة الحرام، قال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]، قال ابن عباس: (هذا الرجل يدخل على أهل بيت وفيهم امرأة حسناء، فإذا غفلوا نظر إليها، وإذا فطنوا غضَّ بصره)، فكيف بالزنا؟! وقد حرم الله الزنا ونهى عن مقاربته ومخالطة أسبابه فقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
5- خيانة الكسب: والمسلم الحق يحرص على الحلال في مطعمه ومشربه، فلا غش ولا خداع ولا كذب، جاء في حديث أن رسول الله مر على صُبْرَة طعام أي: كُومة، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟!)) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟! من غش فليس مني)) رواه مسلم.
6- ومن معاني الخيانة أيضًا أن يستغلّ الرجل منصبه الذي عُيِّن فيه لجرّ منفعة إلى شخصه أو قرابته، فإن التشبّع من المال العام جريمة، قال رسول الله : ((من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أبو داود.
ذكر صاحب الحلية أن عمر بعث إليه أميره في الشام زيتًا في قرب ليبيعه ويجعل المال في بيت مال المسلمين، فجعل عمر يفرغه للناس في آنيتهم، وكان كلما فرغت قِرْبة من قِرَب الزيت قلبها ثم عصرها وألقاها بجانبه، وكان بجواره ابن صغير له فكان الصغير كلما ألقى أبوه قربة من القِرب أخذها ثم قلبها فوق رأسه حتى يقطر منها قطرة أو قطرتان، ففعل ذلك بأربع قرب أو خمس فالتفت إليه عمر فجأة، فإذا شعر الصغير حسنٌ ووجهه حسن فقال: ادّهنت؟ قال: نعم، قال: من أين؟ قال: مما يبقى في هذه القرب، فقال عمر: إني أرى رأسك قد شبع من زيت المسلمين من غير عوَض، لا والله لا يحاسبني الله على ذلك. ثم جره بيده إلى الحلاق وحلق رأسه، خوفًا من قطرة وقطرتين.
7- ومن الخيانة أن يُسنَد عمل إلى غير أهلِه، قال النبي : ((من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) رواه الحاكم (4/92-93) وصححه، وفي إسناده حسين بن قيس ضعّفه المنذري في الترغيب (3268) وضعَّفه الألباني.
فلا يُسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تُملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات، حتى الصحبة لا ينظر إليها، انظروا كيف راعى النبي ذلك، فحين قال أبو ذر: يا رسول الله، ألا تستعملني؟! قال: فضرب يده على مَنْكِبي ثم قال: ((يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدَّى الذي عليه فيها)) رواه مسلم (1825).
8- ومن معاني الخيانة أن يستغل الإنسان ما حباه الله من مواهب خصه بها أو أموال وأولاد رُزقها في معاصيه بدلاً من تسخيرها في قرباته واستخدامها في مرضاته، ولذا عقَّب سبحانه نهيه عن الخيانة بقوله: وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28]، ولذا كان من الخيانة تضييع الزوجة والأولاد، فلا يؤدبهم ولا يأمرهم بالمعروف ولا ينهاهم عن المنكر، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أين الأمانة ممن ينصب في بيته أجهزة الاستقبال الفضائي التي تفسد الشيوخ فضلاً عن الشباب، والتي تبث من البرامج ما يغضب الله عز وجل، ويسعى جاهدًا لنقض عرى الإسلام عروة عروة، وغرس تقاليد الكفار وعاداتهم ومحاربة الفضائل الشرعية؟! أين هذا من أمانة الأولاد؟! فليتقِ الله من هذا شأنه، ولْينظر إلى حديث رسول الله فيما روى البخاري ومسلم من حديث مَعْقِل بن يَسار أن النبي قال: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت هو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، وأي غش ـ أيها المسلمون ـ أكبر من نصب الدش في المنزل وجعله متاحًا للقاصرين من الأطفال والنساء والمراهقين؟!
يا حسرة على العرب، اليهود يُعدّون أبناءهم للحرب، والعرب يُرَقِّصُون أبناءهم، فبينما يعلن اليهود عن فتح مكاتب في عدد من البلدان استنفارًا لشبابهم لينقلوهم في جسور جوية إلى فلسطين لتدريبهم على القتال إضافة إلى تدريبهم جميع اليهود المحتلين لفلسطين، وهذا لا شك على أنهم يستعدون لحرب شاملة في المنطقة، يَرُدُّ العرب بترقيص بناتهم وأبنائهم في المسارح والمراقص بقيادة المغنين والمغنيات، ونقل ذلك بدون حياء ولا خجل في فضائياتهم الداخلية والخارجية مباشرة أو تسجيلاً.
9- ومن الخيانة أيضًا عدم حفظ العبد جوارحه وحواسه عن معصية الله تعالى، وجوارحنا ـ أيها المسلمون ـ أمانة، فلسانك ـ أخي المسلم أختي المسلمة ـ أمانة، إن حفظته من الكذب والغيبة والنميمة والسخرية بالناس والتجسس عليهم والقذف والفحش واستعملتَه في ذكر الله وتلاوة القرآن وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إن فعلت ذلك فقد أديت أمانة لسانك وجنّبتَ نفسك عذاب الله في الدنيا والآخرة. وعيناك أمانة عندك، فإن جنبتهما النظر إلى ما حرم الله واستعملتهما فيما يعود عليك بالنفع فزت دنيا وأخرى. وأذناك أمانة لديك، فجنبهما الاستماع إلى ما يغضب الله من سماع اللهو والغناء والغيبة والنميمة، واستعملهما في الاستماع إلى الموعظة الحسنة وذكر الله وتلاوة كتابه، إذا فعلت ذلك ـ أخي المسلم ـ فقد أديت أمانة أذنيك. ورجلاك أمانة، فلا تمشِ بهما إلى أماكن اللهو والفسق والفجور وأماكن الظلم والزور والاعتداء والمنكر، وسِرْ بهما إلى صلاة الجماعة في المسجد وصلة الرحم والإصلاح بين الناس وإلى الجهاد في سبيل الله. ويداك أمانة، فلا تمدَّهما إلى ما يغضب الله، واعمل بهما أعمالاً تعود عليك بالنفع في الدنيا والآخرة. والبطن أمانة فلا تدخل فيه ما حرم الله من المال. والفرج أمانة فقد مدح الله الحافظين لفروجهم، وأخبر أنهم مفلحون ومن أهل جنة الفردوس، فقال تعالى من سورة المؤمنين: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ [الممنون:5-7] أي: المعتدون. والمال أمانة، فاحذر أن تبذره وأن تصرفه فيما حرم الله، وأنفقه على المساكين، وأخرج منه الزكاة. وهكذا ـ أيها المسلمون ـ ما وهبنا الله إياه من جوارح وعقل كلها أمانات، ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن علمه: فيم فعل فيه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه: فيم أبلاه؟)) أخرجه الترمذي وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
10- ومن معاني الخيانة أن لا تحفظ حقوق المجالس التي تحضرها، فتدع لسانك يفشي أسرارها وينشر أخبارها، فكم من حبال تقطعت ومصالح تعطلت لاستهانة بعض الناس بأمانة المجلس، قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله: ((إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة)).
حتى العلاقات الزوجية في نظر الإسلام مجالسها تصان، فما يحوي البيت من شؤون العشرة بين الرجل وامرأته يجب أن يطوى في أستار مسبلة، لا يطلع عليها أحد مهما قرب، روى أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله والرجال والنساء قعود عنده، فقال: ((لعل رجلاً يقول ما فعل بأهله، ولعل امرأة تخبر بما فعلت مع زوجها)) ، فأرم القوم أي: سكتوا وَجِلِيْن، فقلت: إي والله يا رسول الله، إنهم ليفعلون، وإنهن ليفعلن، قال: ((فلا تفعلوا، فإنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانة فغشيها والناس ينظرون)) رواه أحمد (6/456-457) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (4/294): "وفيه شهر بن حوشب، وحديثه حسن، وفيه ضعف" وله شواهد يتقوى بها، انظر: إرواء الغليل (2011).
11- ومن الخيانة خيانة العالم لعلمه، فالعلم أمانة في عنق العلماء، إن بيَّنوه للناس وصانوه من التحريف والتلاعب كانوا أوفياء لأقدس أمانة، وإن لم يفعلوا كانوا مرتكبين لأبشع صور الخيانة، وَإِذْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَ?شْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ [آل عمران:187].
12- ومن معاني الخيانة خيانة الودائع التي وصى الله بها من فوق سبع سماوات: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ويدخل في ذلك أداء الديون، فالمماطلة بها خيانة.
انظروا إلى رسول الله كيف استخلف ابن عمه علي بن أبي طالب ليُسَلم إلى المشركين الودائع التي حفظوها عنده، مع أنهم آذوه واضطروه إلى ترك أرضه.
والخيانة متى ظهرت في قوم فقد أذنت عليهم بالخراب، فلا يأمن أحد أحدًا، ويحذر كلُ أحد من الآخر، فلا يأمن صديق صديقه، ولا زوج زوجه، ولا أب ولده، وتترحل الثقة والمودة الصادقة فيما بين الناس، وقد جاء في الآثار: "لا تقوم الساعة حتى لا يأمن المرء جليسه".
وينقطع المعروف فيما بين الناس مخافة الغدر والخيانة، ومن قصص العرب أن رجلاً كانت عنده فرس معروفه بأصالتها، سمع به رجل فأراد أن يسرقها منه، واحتال لذلك بأن أظهر نفسه بمظهر المنقطع في الطريق عند مرور صاحب الفرس، فلما رآه نزل إليه وسقاه ثم حمله وأركبه فرسه، فلما تمكن منه أناخ بها جانبا وقال له: الفرس فرسي وقد نجحت خطتي وحيلتي، فقال له صاحب الفرس: لي طلب عندك، قال: وما هو؟ قال: إذا سألك أحد: كيف حصلت على الفرس؟ فلا تقل له: احتلت بحيلة كذا وكذا، ولكن قل: صاحب الفرس أهداها لي، فقال الرجل: لماذا؟! فقال صاحب الفرس: حتى لا ينقطع المعروف بين الناس، فإذا مرّ قوم برجل منقطع حقيقة يقولون: لا تساعِدوه لأن فلانًا قد ساعد فلانًا فغدر به. فنزل الرجل عن الفرس وسلمها لصاحبها واعتذر إليه ومضى.
وأما موقف المسلم من الخيانة فأن تُربى القلوب على مخافة الله وخشيته، مر عمر يتفقد رعيته ليلاً وإذا به يسمع امرأة تقول لابنة لها: اخلطي الماء باللبن، فقالت البنت: لقد نهانا عمر عن ذلك، فقالت أمها: وما يدري عمر؟! قالت البنت: إن كان عمر غائبًا فإن ربه حاضر. تقع هذه الكلمة في قلبه، فيجمع وُلدَه ويعزم على أحدهم أن يتزوج هذه الفتاة، فيتزوجها ولده عاصم، فيكون من ولده عمر بن عبد العزيز الذي ملأ الدنيا عدلاً.
أما موقف المسلم الخونة فهو جهادهم، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ جَـ?هِدِ ?لْكُفَّـ?رَ وَ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?غْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمَصِيرُ [التوبة:73]، وقد قدَّمت أن الخائن منافق. ويدخل في ذلك دخولاً أوليًا عدم ممالأة الخونة أو الدفاع عنهم، وَلاَ تَكُنْ لّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا [النساء:105].
ومن لوازم النصر عليهم إصلاح نفوسنا، ففي سورة الإسراء بعد أن ذكر الله سبحانه قصة الإفسادَين لبني إسرائيل عقَّب سبحانه قائلاً: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، ويتساءل المفسرون عن العلاقة بين الإفسادين والقرآن هنا، ويجيب بعضهم: إنه لكي تنتصر الأمة الإسلامية على اليهود لا بد أن تعود إلى القرآن، تقرؤه وتتعلمه وتفهمه وتتدبره وتعمل بما فيه وتتخذه منهاجًا يحكم حياتها، فيفتح القرآن كنوزه لهذه الأمة، فتُهدَى للتي هي أقوم، وتكون جديرة بنصر الله.
فعلينا ـ أيها المؤمنون ـ أولاً: العودة للقرآن الكريم، بأن نحافظ على الورد اليومي للقرآن الكريم، ونحضَّ أزواجنا وأولادنا على ذلك، ونحرص على تحفيظ الأولاد القرآن الكريم، فيخرج جيل قرآني رباني جديد، ونحرص على إحياء مجالس القرآن الكريم في المساجد وتعليمه للناس، والعمل المستمر من أجل أن يُحكَّم فينا هذا القرآن.
وثانيًا: مجاهدة النفس وحملها على الاستقامة، فمعادلة النصر في القرآن هي: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، ففي هذه الآية معركتان: المعركة الثانية: يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ ، هي معركة يدبرها الله ويديرها ويخرج نتائجها، ونتيجتها النصر والتمكين. أما المعركة الأولى: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ فميدانها النفس البشرية، والذي يدير هذه المعركة هو الفرد نفسه، ويخرج نتائجها بنفسه، والنتيجة هي الاستقامة. فلا نصر ولا تمكين إلا بعد الاستقامة، فعلينا أن نجاهد أنفسَنا ونحملها على الاستقامة ونبعدها عن مواطن المعصية التي تؤخر نصر الله.
ثالثًا: إحياء نفسية المقاومة والجهاد، فينبغي على الأمة لتقوم بواجب النُّصرة أن تكسر تلك القيود النفسية والمادية التي كُبلت بها، وتحطم تلك الأغلال التي تمسك بخناقها وتجعلها أسيرة الذل والهوان السرمدي وتحول بينها وبين سبيل الخلاص، وهذا هو الجهاد، تلك الكلمة التي تنخلع عند سماعها قلوب الأعداء، حينئذ فقط تلوح بوارق النصر، وتهب نسمات الجنة، ويغدو الخروج من تيه الذل والاستعباد رمية حجر، ونعرف معنى الحياة العزيزة التي حُرمنا منها منذ عقود طويلة، حتى غدت حلمًا بعيد المنال وضربا من ضروب المحُال، وندرك ثاراتنا الجاثمة على قلوبنا جثوم الجبال الرواسي، قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ ?للَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ [التوبة:14، 15].
وأما غير ذلك فصيحات تتبخّر، وصرخات تتبعثر، لم تكن بالأُولى، ولن تكون الأخيرة، وما هي إلا همهماتُ محموم ونفثات مصدور، سرعان ما يعودُ سيرتَه الأولى، فلا كان ولا صار.
رابعا: المقاطعة، ففي هذا الجانب علينا أن نقاطع كل السلع الأجنبية عامة، والسلع اليهودية والأمريكية خاصة، فكل دولار يكسبونه من سلعة يبيعونها لنا يذهب جزء منه لشراء السلاح الذي يُقتل به شعب فلسطين، فيجب نشر ذلك بين الناس، وتفعيل هذا السلاح والرضا بالبدائل المحليّة، فلا يرتفع سعر الدولار على حساب دمائنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4155)
سبيل المجرمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
حسام الدين خليل فرج
الدوحة
جامع صلاح الدين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحديد القرآن لسبيل المجرمين وبيانه لها. 2- أعمال المجرمين: معاداة الأنبياء، الإضلال، الجرائم، الاستهزاء، الترف، الظلم، الإعراض. 3- جزاء المجرمين وأتباعهم. 4- جهاد المجرمين بالمال والكلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وَكَذَلِكَ نفَصّلُ ?لآيَـ?تِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، معنى الآية: بيّنا لكم الحجج وأوضحنا لكم البراهين؛ لتظهر لكم سبيل المجرمين ظهورًا لا خفاء فيه.
إن الإسلام لا يُعنى فقط ببيان الحق وإظهاره حتى تستبين سبيل المؤمنين الصالحين فحسب، إنما يُعنى كذلك ببيان الباطل وكشفه حتى تستبين سبيل الضالين المجرمين، وذلك لأن الله يعلم أن استبانة سبيل المجرمين ضرورية لاستبانة سبيل المؤمنين، وذلك لأن من لم يعرف إلا سبيل الخير فقد يأتيه سبيل الشر فلا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه، وإما أن لا ينكره كما أنكره الذي عرفه، ولذا قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لم يعرف الشر من الخير يقع فيه
وقال حذيفة: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه. رواه البخاري. ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما تُنقض عُرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية)، وفي الحكمة: الضد يظهر حسنه الضد، وبضدها تتميز الأشياء.
ولهذا عُني القرآن بتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم، بحيث لا يختلط السبيلان، ولا يتشابه العنوانان، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين، بحيث أصبح إظهار عَوار المبطلين وإجرام المجرمين وألاعيب المزيفين هدفًا في حد ذاته لدين الله تعالى، وصدق الله عز وجل: وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ?لْمُجْرِمِينَ.
وتشتد حاجة المسلم اليوم إلى معرفة سبيل المجرمين على التفصيل، ولا سيما وهو اليوم يعيش معركة يقف فيها أمامه أكابر مجرمي العالم، ينفذون أوامر أسيادهم من اليهود، فينشرون فكرًا قذرًا وأدبًا مريضًا يقود إلى سبيلهم، يحاولون به هدم الدين وتخريب الأخلاق وتدمير الأجيال، حتى يخرجوا أجيالاً مدمرة مهدمة لا تعرف ربها ولا ترضى بدينها.
ولكن للأسف بدلا من الحذر من سبيلهم كما حذرنا القرآن أصبحنا ننبهر ونفخر بسلوك سبيل المجرمين، حتى يتساءل كل عاقل: كيف تسير فِئام غفيرة من الأمة المسلمة في سبيل أولئك المجرمين طواعية؟! كيف تنقاد إلى جزارها راضية؟! كيف تقتدي بعدوها في سلوكها وأخلاقها ومعايير فهمها وتفكيرها؟! كيف ترغب عن تعاليم الإسلام وما جاء به سيد الأنام محمد وتركن إلى تقليد الكفرة الفجرة من المجرمين؟!
وسبيل المجرمين مهما زخرفت وإن ادعى أصحابها أنها حضارة فهي لا تخرج عن مادية دنيّة كافرة بالله، عارية عن القيم والأخلاق، حضارة انتحار واختطاف وإجهاض وشذوذ وإدمان، قال سبحانه: يُعْرَفُ ?لْمُجْرِمُونَ بِسِيمَـ?هُمْ فَيُؤْخَذُ بِ?لنَّوَاصِى وَ?لأَقْدَامِ [الرحمن:41]، فأخبر المولى تبارك وتعالى أن هناك علاماتٍ وسماتٍ وأوصافًا بل وأعمالاً يعرف من خلالها المجرم من غيره، هناك أعمال وتصرفات إذا صدرت من الشخص أدخلته في دائرة المجرمين.
فإليكم ـ أيها الإخوة ـ بعض أعمال المجرمين، بحيث لو رأينا من يتصف بها فلا نتردد ونقول بأن فلانا مجرم، فالتفريق بينهما واجب، وقد فرق الله بينهما بقوله: أَفَنَجْعَلُ ?لْمُسْلِمِينَ كَ?لْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35، 36]:
1- معاداة الأنبياء والمرسلين:
محاربة ما جاء به الأنبياء والمرسلين، ومن ثم المعاداة لأتباع الرسل الذين يَدعون إلى ما دعا إليه الأنبياء والرسل، قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مّنَ ?لْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31].
فهؤلاء المجرمون تضايقهم شريعة الله، وتزعجهم تعاليم الدين، لا يريدون أن يطبق عليهم أحكام الله، ولا يريدون الامتثال لما أمر به الدين، فلا سبيل لهم إلا التمرد على الأنبياء والرسل ومن بعدهم، ومعاداة الدعاة إلى دين الأنبياء، فإذا رأينا من يعادي من يدعو إلى دين الله فلْنعلم بأنه مجرم، إذا رأينا من يحارب دين الله فلا نتردد بأن نَصِفَه أنه مجرم، وهذا ليس حكمنا، وليس كلامنا، بل هو حكم الله عز وجل في كل من يعادي شريعة الله أو يرفض شيئا منها.
ينكرون بشدة وعنف أن يتدخّل الدين في الاقتصاد، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد، ويقولون: ما للدين والمعاملات الربوية؟! وما للدين والسياسة والحكم؟! بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخّلت في الاقتصاد تفسده.
والتولي والإعراض عن تحكيم شرع الله من مسالك المنافقين والظالمين، وَإِذَا دُعُواْ إِلَى ?للَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ ?لْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ?رْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ ?للَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [النور:48-50]؛ ولذا كان من صفات المؤمنين: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينًا [الأحزاب:36].
قال ابن تيمية في رسالة العبودية: "إن الإنسان على مفترق طريقين لا ثالث لهما: فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية، ليصبح لا محالة في عبودية لغير الله، وكل عبودية لغير الله كبرت أو صغرت هي في نهايتها عبادة للشيطان".
واليوم يقف العالم الكافر بقضّهِ وقضيضه لحرب الإسلام والحيلولة دون انتشاره في العالم، بل والعمل لطمس معالم المسلم الذاتية، وجره إلى تقليد الأنماط الغربية في جميع النواحي الحياتية، العقدية والفكرية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، يقول جل وعلا في كتابه المبين: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109]. إنهم يودون ذلك، ويسعون إلى تحصيله وتحقيقه بكل ما يستطيعون، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [البقرة:217].
يقول أحدهم: متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا حينئذ أن نرى العربي يتدرج في طريق الحضارة الغربية بعيدًا عن محمدٍ وكتابه. هذا مكرهم، وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، وصدق الله العظيم: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَـ?بِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا [الأنعام:123]، يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "أي: الرؤساء الذين قد كبر جرمهم واشتد طغيانهم لِيَمْكُرُواْ فِيهَا بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان ومحاربة الرسل وأتباعهم، وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم؛ لأنهم يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين".
2- ومن أعمال المجرمين إضلال الأتباع، وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ ?لْمُجْرِمُونَ [الشعراء:99]، يقولون: حتى ننتصر في الحرب ضد الإرهاب لا بد أن تبدأ حملة لتغيير القلوب والعقول في العالم الإسلامي.
3- ومن أعمال المجرمين جرائمهم في العالم الإسلامي، ففي كل يوم فاجعة جديدة تحدث للمسلمين دون غيرهم، وكأنه كتب على المسلمين وحدهم أن يُساموا سوء العذاب، وتتحالف عليهم قوى الشر والإفساد.
أما اليهود فقد اختاروا زعيمًا لهم من أكابر مجرميهم ليكون رمزًا لكيان الإرهاب وسفك الدماء وقتل الأبرياء وإزهاق الأرواح، اختاروا شارون السفاح والجزار معًا، مجرم الحرب ومرتكب المذابح الشهيرة على مرِّ تاريخه الأسود.
وها هي ما جنت أيديهم في فلسطين: آلاف الشهداء، وأضعاف ذلك من الجرحى، وآلاف المعتقلين الأسرى، وحصار شامل لكل المدن والقرى، والمخيمات الفلسطينية، ومجازر متعمدة يرتكبها العدو الصهيوني ضد أبناء الشعب الفلسطيني.
وأما النصارى فمن شاهد ما فعلوه في أفغانستان ـ دع عنك العراق والبوسنة وكوسوفا والشيشان ـ علم أنه لم يبقَ شيء من الفظائع لم يرتكب أو عمل إجرامي لم يُفعل مع شعب أعزل يُضرب بأسلحة محرمة دوليًا كالقنابل النَيْترُونية والعنقودية وقذائف اليورانيوم المنضَّب، قلوب تبرأت منها الآدمية وتنكرت لها الإنسانية، أشد قسوة من الصخر وأكثر تحجرًا من الجلامد.
وأما الهندوس في الهند فآلاف المسلمين تم قتلهم حرقًا بالنار في بيوتهم بأيدي المجرمين الهندوس، على مسمع ومرأى من العالم أجمع، لقد قام غوغاء هندوس بمحاصرة المسلمين داخل منازلهم وإحراقهم أحياء، تم حرق معظم الضحايا من المسلمين وهم أحياء، تحت الشعارات التي رفعها بعض الهندوس تقول: "تعلموا منا كيف نحرق المسلمين وهم أحياء كحَلٍّ وحيد ضدهم". والمعروف أن وزير الداخلية في الحكومة الهندوسية المتطرفة الحالية هو الذي أشرف عليها، وقاد جحافل الهندوس المجرمين الذين قاموا بهدم المسجد البابري.
4- ومن أعمال المجرمين الاستهزاء بالمؤمنين، قال جل وتعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا ?نقَلَبُواْ إِلَى? أَهْلِهِمْ ?نقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَؤُلاَء لَضَالُّونَ [المطففين:29-32]، وهكذا المجرمون يفتعلون الضحك على أهل الإيمان والسخرية منهم.
يعبد الهندوس الفئران، وبنَوا معبدًا بني خصّيصًا لعبادة الفئران، والتي باعتقادهم تحمل أرواح الهندوس الصالحين الذين ماتوا منذ قديم الأزمان، في معبد الفئران أقصى ما يتمناه أي فأر في حياته، وقد تخصص رهبان ونسّاك للقيام والسهر على راحة الفئران، وتوزيع نذور وقرابين المؤمنين على الفئران المقدسة، وأسعد السَّعد لعباد الفئران هو أن يتمكن أحدهم من رؤية الفأر الأبيض، فهو عنوان الخير والسعد الذي سيصيبه. لم يتهم الغرب الهندوسَ بالتخلف كما يَتهمُ المسلمين.
5- ومن أعمال المجرمين الترف والظلم، قال تعالى: وَ?تَّبَعَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ [هود:116]، كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ [المرسلات:46]. صفتان أساسيتان: ترف وظلم.
أما الترف فما ذكره الله تعالى إلا ذمه: وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَـ?فِرُونَ [سبأ:34]، ولذا قال رسول الله : ((إياك والتنعم؛ فإن عباد الله ليسوا بالمتنعِّمين)).
أما الظلم ففي شريعة المجرمين يصبح المظلوم ظالمًا والمعتدَى عليه معتديًا، ألم ترَ كيف يريد مشعوِذو أمريكا وحلفاؤها الغربيون والعرب أن ينتزعوا حتى الحجر من يد طفلٍ قتل المجرمون اليهود أمه وأباه وأشقاءه وشقيقاته؟! يريدون لدبّابة "ميركافا" الصهيونية أن تَهرس أجساد النساء والشيوخ والأطفال وهم يبتسمون لها ويرحّبون بها.
6- ومن صفات المجرمين ترك الصلاة، منع الزكاة، الإمعان في المعاصي، أخبر جل وعلا عن المجرمين أنهم يقال لهم: مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ?لْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ?لُخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ ?لدّينِ حَتَّى? أَتَـ?نَا ?لْيَقِينُ [المدثر:42-47].
7- والإعراض عن الدين الله إجرام، وذلك بأن لا يتعلمه الإنسان ولا يعمل به؛ والدليل قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايَـ?تِ رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ ?لْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ [السجدة:22]، وقال تعالى على لسان نبيه هود: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52].
إن الإعراض عن دين الله تعالى والبعد عن منهج الله ووحيه وإن مخالفة أوامر الله تعالى لا بد أن يكون له آثار في حياة الإنسان، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? [طه:124].
أما جزاء المجرمين وأتباعهم فإنه لا فلاح ولا توفيق لهم في الدنيا، قال الله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:17]، أما في الآخرة فَيَودُّ هذا المجرم أن يتخلص من عذاب الله، لكن أنّى له الخلاص؟! يود لو كان بإمكانه أن يفتدي نفسه بأن يقدم أولاده وعشيرته وذويه في مقابل خلاص نفسه، لكن أنّى له ذلك؟! وهذه نهاية من يعادي شريعة الله، هذه نهاية من يحارب دين الله، هذه نهاية كل مجرم يعادي دعاة دين الله، قال الله تعالى: يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى ?لأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? [المعارج:11-15].
ذلك المجرم الذي كان يحارب دين الله، ويرفع رأسه على شريعة الله، ويشمخ برأسه على عباد الله الصالحين، ذلك الرأس سوف يُنكس يوم القيامة. اسمع إلى قول الحق في ذلك: وَلَوْ تَرَى? إِذِ ?لْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَ?رْجِعْنَا نَعْمَلْ صَـ?لِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12].
أما عن حشر المجرمين فلا تسل، فإن الله تعالى يقول: وَنَحْشُرُ ?لْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقًا [طه:102] أي: زرق العيون من شدة ما هم فيه من الأهوال.
فيا بؤس نهاية كل مجرم، ويا تعاسة خاتمة المجرمين، حقًا لا بشرى يومئذً للمجرمين، فأين يكون مستقرهم النهائي؟! وأين يحطون رحالهم؟! إنه في جهنم والعياذُ بالله منها، قال الله تعالى: وَنَسُوقُ ?لْمُجْرِمِينَ إِلَى? جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:86]، وقال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى? [طه:74]، وقال الله تعالى: إِنَّ ?لْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَـ?لِدُونَ [الزخرف:74]، إِنَّ ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا وَ?سْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْو?بُ ?لسَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ حَتَّى? يَلِجَ ?لْجَمَلُ فِى سَمّ ?لْخِيَاطِ وَكَذ?لِكَ نَجْزِى ?لْمُجْرِمِينَ [الأعراف:40]، وَوُضِعَ ?لْكِتَـ?بُ فَتَرَى ?لْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ي?وَيْلَتَنَا مَا لِهَـ?ذَا ?لْكِتَـ?بِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وَنَسُوقُ ?لْمُجْرِمِينَ إِلَى? جَهَنَّمَ وِرْدًا أي: عطاشى.
وقد قرر الرسول القائد أن الجهاد باللسان كالجهاد بالنفس والمال، فقال لحسان بن ثابت وكان من شعراء الإسلام: ((يا حسان، اهجُ المشركين، فإن جبريل معك)) رواه البخاري ومسلم وأحمد.
يا منصفون، ألا كلمة؟! يا علماء، ألا كلمة؟! يا دعاة، ألا كلمة؟! إنها مأساة أن نتعامى عن حقيقة ما يدور حولنا من أحداث، أن نكون كالنعام التي تدخل رأسها في التراب حتى لا يراها من يريد صيدها أو افتراسها، أن نكون كالشاة التي ترى أختها تذبح وتعلَّق وتسلخ وهي تتفرج عليها وكأن الدور لن يأتيها، فإلى متى هذا السُّبات الذي فاق سُبات أهل الكهف؟! وأما آن لنا أن نستيقظ من هذه الحالة المزرية التي نحن فيها؟!
قُلْ سِيرُواْ فِى ?لأرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لْمُجْرِمِينَ [النمل:69]، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى? قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِ?لْبَيّنَاتِ فَ?نتَقَمْنَا مِنَ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ أَكَـ?بِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:123].
كم هو جميل لو خضع الأكابر لدين الله، كم هو جميل لو تبنى الأكابر هم بأنفسهم دعوة الخير والإصلاح فانتفعوا ونفعوا، يُبقي الله لهم سلطانهم وملكهم، هذا في الدنيا، وأما الآخرة فلهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وأي غبن وأي غباوة من الأكابر أن يُهلكوا أنفسهم بأيديهم، يعارضون دين الله، ويتعرضون لأتباع دين الله، فتكون الخسارتين عليهم، في الدنيا بزوال سلطانهم وذهاب دولتهم، وأما في الآخرة فلعذاب الآخرة أشد وأبقى، وصدق الله العظيم: وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ.
قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلّ نَبِىّ عَدُوًّا مّنَ ?لْمُجْرِمِينَ [الفرقان:31]، ليتميز الصادق بصدقه وصبره على دينه، وليتخلف من ليس كذلك ممن ليس له قدم راسخ في الإِيمان.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4156)
انتهاك الحرمات والمقدسات
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
محمد أحمد حسين
القدس
12/4/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإنكار الشديد على حادثة تدنيس القرآن الكريم. 2- من يستعرض تاريخ الأمة مع أعدائها يجد على مدار التاريخ مثل هذه المواقف المشينة. 3- الوصية بكتاب الله. 4- من جرائم دعارة الحرية والإنسانية. 5- من جرائم اليهود في الأرض المباركة. 6- المخططات الإجرامية للنيل من المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في المقدس وأكناف بيت المقدس، أيّ مقدٍّس من مقدّسات المسلمين لم يدنس؟! وأية حرمة من حرماتهم لم تنتهك؟! في الوقت الذي تسفك فيه دماؤهم بالتعلل وبغير سبب لإرواء ظمأ الحاقدين عليهم وعلى دينهم والساعين لإطفاء جذور هذا الدين ونوره المبين بأفواههم.
إ ن ما تتناقله وسائل الإعلام في الآونة الأخيرة وما نشرته هذه الوسائل على ألسنة شهود عيان، خرجوا من معتقلات المحتلين في العراق وفي سجن غوانتانامو، من قيام المحققين والجنود الأمريكان بتدنيس المصحف الشريف. إن هذه الجريمة النكراء بحق كتاب الله العزيز منكر وعار، توضع على جبين من يزعمون رعاية حقوق الإنسان وينادون ـ زورا وبهتانا ـ بتحقيق العدالة بين شعوب العالم.
إن هذه الأفعال المشينة التي ترفضها كل شريعة إلهية وتمجّها الأعراف الإنسانية تسجّل على أصحابها المستوى الهابط الذي وصلت إليه أخلاقهم، وتشير إلى مدى الحقد على هذه الأمة وعلى كتابها الكريم وقرآنها العظيم الذي يرى فيه أعداء أمتكم عنوانا لعزتكم ودستورا ينهض بهذه الأمة إن هي أقبلت عليه وعملت وفق تعاليمه وطبقت أحكامه.
أيها المسلمون، إن من يقترفون هذه الأعمال النكراء وبحق كتاب كريم أنزله الله على رسول البشرية جمعاء إنما يكشفون عن الوجه الحقيقي لحضارتهم وتربيتهم التي تقوم على استعباد الشعوب والسيطرة على مقدراتهم والمس بمقدساتهم، إمعانا في العداوة التي تبدو من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، وهي استمرار للمعركة بين الحق والباطل، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن من يستعرض تاريخ هذه الأمة مع أعدائها يجد على مدار التاريخ مثل هذه المواقف المشينة، فقد جرب الفرنجة أثناء غزوهم لبلاد المسلمين المسّ بحجاج بيت الله الحرام، والمس بالمسجد النبوي الشريف، بالوصول إلى ضريح المصطفى ، ولكن العناية الإلهية ثم النخوة الإسلامية حالت دون ذلك، ووقع أرناط الصليبي أسيرا بيد المسلمين ليقتل بسيف الناصر صلاح الدين.
هذا البطل والقائد المسلم الذي أعاد للمسلمين عزتهم، وللمقدسات حرمتها ورونقها، وعفا عن الغزاة وقبل منهم مغادرة بلاد المسلمين، ولم يعاقبهم بمثل ما اقترفوا من مجازر وسفك دماء المسلمين.
وقد جاء موقفه هذا من سماحة هذا الدين، ومن أحكام هذا القرآن العظيم الذي نالته يد العدوان بالتدنيس في غزوات المغول الذين فعلوا مثل أفعال أسلافهم التتار وأكملوا القتل في رقاب الشعوب الإسلامية في العراق وفي أفغانستان، وتركوا للعابثين الحبل على الغارب يعيثون فسادا بالحضارة التي تمثلها المتاحف والجامعات ودور الكتب.
وبعد كل هذه الممارسات المشينة تذر وسائل أعلامهم الرماد في العيون، بأنهم جاؤوا لإنقاذ الشعوب من حكامهم المتجبرين، ولكي يعالجوها بأنظمة العدالة والحرية التي تمثلها عدالتهم المزعومة وشعاراتهم الخادعة.
وليت أمتنا عادت إلى هذا الكتاب العظيم والدستور الحكيم لتقرأ فيه: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9]، ويقرؤون قول الله تعالى ويطبقونه في واقعهم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، وصدق الله العظيم: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: ((إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، لم يكتف مغول هذا العصر بما اقترفوه من جرائم الحرب بحقّ الشعوب الإسلامية في العراق وأفغانستان، فكم من بيت لا بل مدينة أو قرية دمّرت على رؤوس سكانها، وكم من حفل فرح حولوه إلى مأتم دون مراعاة لقدسية الحياة وحرمة الأحياء، ما دام العدوان ضد شعوب لا تدين دينهم ولا تسير في ركب مخططاتهم وخدمة أهدافهم.
وتسفك كل هذه الدماء البريئة وتنتهك الحرمات والمحرمات جميعها تحت حجج واهية، بزعم تحرير الشعوب من سطوة حكامها وجلب الحريات لهم ليعيشوا في ظلال العولمة ورحاب الديمقراطية الزاحفة بأساطيلها وجيوشها وآلات دمارها وشركاتها الناهبة لثروات الشعوب، خاصة ثروة الطاقة المتمثلة بالذهب الأسود.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد جاءت جريمة انتهاك حرمة المصحف الشريف بعد كل الانتهاكات لكرامة الإنسان وحرمة دمه في الأقطار العربية والإسلامية التي خصصت مباشرة للاحتلال والاستعمار الجديد أو أخضعت بواسطة أعوان الاستعمار من الحكام الذين لا همّ لهم إلا البقاء في السلطة والحكم ولو كلف ذلك دمار شعوبهم، كما هي الحال في أوزبكستان التي يواجه المسلمون فيها القتل على أيدي حاكمها وأعوانه من الظالمين، وكما هي الحال في الشيشان التي تشنّ عليها الحرب من أبنائها الموالين للاتحاد الروسي وبمعونة جيشه.
أيها المسلمون، أيتها البشرية المنكوبة، ويقتل أبناء المسلمين في كثير من بقاع الأرض، ويزج بهم في السجون، ويلاحقون بأدنى شبهة، وتقول قوانين الهجرة والدخول إلى كثير من أقطار العالم بزعم حماية العالم من خطر الإرهاب الذي يلصق في الغالب بأبناء المسلمين، أو يطلق رديفا لدين الإسلام لتشويه حقيقة هذا الدين وإخفاء معاني الرحمة والسماحة والعدالة والكرامة التي ضمنها هذا الدين للمسلمين وغير المسلمين، فالله يقول: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، ويقول: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].
فكم هي النفوس التي أزهقت وقتلت ولا ذنب لها إلا إفساد المفسدين وفسادهم، وكم هي النفوس التي انتهكت كراماتها في السجون وخارج السجون، وما جرائم سجن أبو غريب وانتهاك حرمة الإنسان فيها ببعيد عن سمع وبصر العالم المتمدين اليوم.
عالم الأمم المتحدة إعلان حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية التي ترعى حقوق المدنيِّين في السلم وفي الحرب، إنه العجب العجاب الذي ينحدر سريعا بالبشرية إلى شريعة الغاب، فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ [إبراهيم:47].
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، وهنا في الأرض المباركة في أرض الرباط والصبر والمصابرة حيث الاستمرار في اغتصاب الأرض ومصادرتها من أجل تسمين وتوسيع المستعمرات الإسرائيلية وإطباق الطوق حول مدينة القدس لتهويدها في إجراءات احتلالية تقود إلى تنفيذ مخططات الاحتلال بالضم وفرض الأمر الواقع على المدينة ومكانها.
وفي هذا السياق تأتي المخططات الإجرامية للنيل من المسجد الأقصى والمس بقدسيّته من قبل عصابات المتطرفين والمستوطنين اليهود الذين أصبحوا يصرّحون على الملأ بأنهم يستهدفون المسجد الأقصى، ويدعون إلى مهاجمته واقتحامه لإقامة طقوسهم الدينية وإعادة بناء الهيكل المزعوم على أنقاضه.
ورغم كل هذه الأخطار التي تهدد بها هذه المنظمات المتطرفة تطلق السلطات الإسرائيلية سراح من اعتقلته منهم بحجة عدم كفاية الأدلة، في الوقت الذي يحذر فيه المسؤولون الأمنيون من احتمال قيام أفراد أو جماعات بالاعتداء على المسجد الأقصى عن بعد، بتوجيه بعض القذائف الصاروخية للمس بالمسجد الأقصى.
إن مثل هذا العدوان على المسجد الأقصى ـ لا سمح الله ـ يحمل في طياته خطر حريق لا يمسّ المسجد وأهله فحسب، بل سيحرق مشعليه وينشر شرره إلى خارج المنطقة؛ لأنه المساس بالمقدسات والعقائد الدينية ورموز التوحيد في هذه الأرض.
(1/4157)
استقبال رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل رمضان. 2- بعض دروس الصيام. 3- سلوكيات خاطئة في رمضان. 4- المداومة على الطاعات بعد رمضان. 5- حسن خلق الصائم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، تستقبل الأمة ضيفًا كريمًا وموسمًا عظيمًا، جعله الله ميدانًا يتنافس فيه المتنافسون، ومضمارًا يتسابق فيه الصالحون، ومجالاً لتهذيب النفوس وتزكية القلوب، شهر رمضان شهر الصيام والقيام، وشهر القرآن والجود، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
رمضان شهر كريم، تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، وتسلسل فيه مردةُ الشياطين، وتضاعف الحسنات، وتغفر السيئات، ويعتق العباد من النيران، من صامه إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه.
عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تبارك وتعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة ٌعند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولَخَلوفُ فِيهِ أطيب عند الله من ريح المسك)) متفق عليه.
في الصيام ـ عباد الله ـ تحقيقٌ للتقوى، وتربية على حسن الاستجابة لأوامر الله، وتعويد على الصبر والمجاهدة. وفي الصيام ـ عباد الله ـ حث على الرحمة ودعوة ٌإلى المواساة، وقد قيل ليوسف عليه السلام: أتجوع وأنت على خزائن الأرض؟! فقال: إني أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. كيف لا ـ عباد الله ـ وشهر رمضان شهر الجود والعطاء والصدقة؟!
الصوم ـ عباد الله ـ فريضة من فرائض الإسلام، وحصنٌ حصينٌ من الشهوات وجُنّةٌ من النار، سلك الناس معه مسالك شتى وطرقًا متفرقةً، لا تجتمع أبدًا، فمن الناس من ينظر إلى رمضان على أنه حرمانٌ من اللذات والشهوات، يصوم عن الطعام والشراب على مضضٍ، وربما لا يتورع عن غيبةٍ ولا يتنزه عن نميمةٍ، وجهُه مُحمَر، وصدره ضيق، قد سَئِمَ ذكرَ رمضان، فهو أثقل الشهور عليه، يكابد فيه العناء من الجوع والمشقة من العطش، لا يَرى في رمضان إلا ِوثاقًا مشدودًا أمام رغباته وشهواته.
ومن الناس ـ عباد الله ـ من ينظر إلى رمضانَ على أنه موسمٌ للبطون، ومضمارٌ تتنافس فيه الموائدُ الزاخرة بصنوف الأطعمة وألوان الأشربة، فتراهم قبل دخول هلال رمضان يفزعون إلى الأسواق من كل فج عميق، يكيلون من الأطعمة ويتزودون من الكماليات، وكأن رمضانَ حفلةُ زفاف أو وليمة ُنجاح تُبسط فيها الموائدُ العريضة، وتنشر الأطعمة المتنوعة، ثم ترمى في النفايات، ناهيك عن جلب المأكولات من الأطعمة ومحلات الوجبات السريعة.
ومن الناس ـ عباد الله ـ من جعل رمضان فرصة سانحة للَّهو والسمر والسهر، ثم انطراح في الفراش كالموتى إلى الغروب، لا بصيام يتلذذون، ولا بقيام يعبدون، ليلهم ضياع، ونهارهم خسران، بين مجالس الغيبة والنميمة، وبين قنوات البث المباشر بخيماته الماجنة وفوازيره الضائعة، فسبحان الله! ماذا يستفيد هؤلاء من شهر الطاعة والمغفرة؟!
انظروا ـ عباد الله ـ إلى الشباب الضائعين التائهين الذين يعيشون في رمضان سبهللاً في الشوارع، يتصيدون عثرات الناس، ويتتبعون عوراتهم، ويؤذونهم في الطرق والممرات والمساجد، يعاكسون ويشاكسون، وفئام من الناس لا يعرفون الله إلا في رمضان، فكم ممن يدّعي الإسلام ويجاور مساجدَ الله لم يُرَ فيها مصلّيًا إلا في رمضان، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان، وإن تعجب فعجب حال هؤلاء الذين فرقوا بين رب الشهور وهو واحد، وحكموا على أنفسهم بالنفاق، وأشهدوا الناس على سوء صنيعهم، إذا جاء رمضان رأيتَهم ركعًا سُجدًا خاشعين ضارعين، قد صفدت شياطينهم وطابت نفوسهم، فإذا انسلخ رمضان ولوا على أدبارهم نفورًا، ونكصوا على أعقابهم، وعادوا لما نُهوا عنه من المعاصي والآثام، حتى إن السنة لتمضي ولم يُرَ أحدُهم في المساجد مع المصلين، يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142].
وخير الناس ـ عباد الله ـ من ينتظرون رمضان بفارغ الصبر، وتزداد فرحتهم بدخوله، فيشمرون عن ساعد الجد، ويجتهدون في الطاعة بشتى أنواعها، من صيام وقيام وتلاوة وتسبيح واستغفار وذكر وتصدق وإحسان.
وهكذا كان حال السلف، يستقبلون رمضان بالبكاء من خشية الله سبحانه وتعالى، يرجون رحمته ويخافون عذابه، ويسألون الله قبوله منهم والعفو عنهم فيه والتجاوز عن سيئاتهم.
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بحق رمضان كما أمر المولى عز وجل، واحذروا نهيه وسخطه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أنه يجب على المسلم أن يبتغي بصيامه وجه الله تعالى، قال تعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5]، وقال : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أن شهر رمضان شهر الحب والوئام والرحمة والمغفرة، فكونوا فيه من أسرع الناس إلى الخير وأقربهم إلى الطاعة، من أوسع الناس صدورًا وأرحمهم قلوبًا وألينهم نفوسًا وأنداهم ألسنًا وأبعدهم عن المخاصمة والمشاتمة والسباب، اغفروا الزلة، واكظموا الغيظ، وتجاوزوا عن المخطئين، فتلك أسمى معاني الصيام التي يجب أن يتربى الناس عليها، وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين...
(1/4158)
على فراش الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
حسام الدين خليل فرج
الدوحة
جامع صلاح الدين
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تمني من نزل به الموت العودة للحياة. 2- الموت ما منه مفر ومهرب. 3- المرء بين حسن الخاتمة وسوئها. 4- أسباب حسن الخاتمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عنوان هذه الخطبة: على فراش الموت، رحلة قصيرة وسياحة عجيبة، أنتقل فيها إلى مَضْجَع سوف يضجعه كل منا، إنه مضجَع ليس ككل مضجَع، إنه المضجَع الذي لا قيام بعده إلا إلى الحساب، والفراش الذي لا فراش بعده، إنه فراش الموت، وما أدراك ما فراش الموت، أحداث وعبر وعظات وقصص وسكرات وكربات، حيث المصرع الذي سوف يُصرعه كل إنسان، هناك على هذا الفراش يؤمن الكافر ويوقن الفاجر ويصدِّق الكاذب وتزول الأوهام وتتبدد الأحلام، ولكن بعد فوات الأوان.
قال تعالى: حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
"على فراش الموت" رحلة نقدمها إلى من ضيعَ الصلاة واتبعَ الشهوات، إلى من نافق وزنا وظلم وبغى، إلى من طغى وآثر الحياة الدنيا، إلى المغتابينَ والنمامينَ والحاسدين وأكلة الربا، إلى من ألهاهم التكاثرَ فنسوا بعثرةَ المقابر وتحصيلَ ما في السرائر، إلى من أضنى عينيه بمشاهدةِ المسلسلات واستقبالِ القاذورات، إلى من طربت أُذنُه باستماعِ الأغنيات، إلى من شغلته أمواله المحرمة والشركات، إلى من أعمى الهوى بصرَه وأصم سمعه فكانَ حيًا وهو في عدادِ الأموات، إلى من أرشى وارتشى وسَكِر وتعاطى مخدرات الراشين، إلى المُسْبِل والمنَّان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، إلى الكاسيات العاريات، إلى العصاةِ جميعًا، بل وإلى الطائعين جميعًا، دونكم هذه الرحلة مع الموت وعلى فراش الموت، هناك على فراش الموت ليت شعري كيف سيكون حالنا؟!
كأنني بين تلك الأهل منطرحا على الفراش وأيديهم تُقلّبني
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولَم أر من طبيبٍ اليوم ينفعني
واشتد نزعى وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
واستخرج الروح منِّي فِي تغرغرها وصار في الحلق مُرًّا حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدّوا فِي شِرَا كفني
ونفتتح هذه الرحلة بسماع مقالة يصيح بها صاحب هذا الفراش، حكاها القرآن الكريم لنا. إنه يقول: رَبّ ?رْجِعُونِ ، فقط يوم واحد، والله ساعة واحدة يا ربّ فقط، لحظة واحدة يا رب، تعرف لِمَ يا عبد الله؟! تظنه ليأكل أو ليشرب أو ليجامع أو ليسكن القصر؟! كلا بل: رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ، رب أرجعني أصلّي حتى الموت، والله لا أرفع رأسي عن السجود، لن تضيع علي صلاة الفجر بعد اليوم، والله لا آكل حراما، ولا أنظر حرامًا، ولا أسمع حراما، لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ، فيرد الله عليه ويقول: كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
هناك على فراش الموت واعظٌ لا ينطق، واعظ صامت يأخذ الغنيَ والفقير،والصحيح والسقيمَ والشريفَ والوضيع والمقرََّ والجاحدَ والزاهدَ والعابد والصغيرَ والكبيرَ، الذكرَ والأنثى، كلُ نفسٍ ستذوقهُ شاءت أم أبت. قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
الموت كأس وكل الناس شاربه فليت شعري بعد الموت ما الدار
صاحب هذا الفراش نزل به أمر ما أعظمه، وخطب ما أخطره، إنه الموتُ، وما الموت؟! أمرٌ كُبَّار وكأسٌ يُدار، يخرجُ بصاحبه إلى الجنةِ أو إلى النار. قُلْ يَتَوَفَّـ?كُم مَّلَكُ ?لْمَوْتِ ?لَّذِى وُكّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى? رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]. ما زالَ لأهلِ اللذاتِ مكدّرًا، ولأصحابِ العقولِ مُغيّرًا ومحيّرًا، ولأرباب القلوبِ عن الرغبةِ فيما سوى اللهِ زاجرًا.
كيف لا وهو حق لا ريب فيه ويقين لا شك فيه؟! وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ [ق:19]، فمن يجادل في الموت وسكراته؟! ومن يقدر على تأخير موته وتأجيل ساعته؟! فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
مرض أبو بَكرة رضي الله عنه واشتد مرضه، فعرض عليه أبناؤه أن يأتوه بطبيب فأبى، فلما نزل به الموت صرخ بأبنائه وقال: أين طبيبكم ليرّدها إن كان صادقًا؟! فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـ?كِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ?لْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّـ?تُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ فَسَلَـ?مٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ?لْمُكَذّبِينَ ?لضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ حَقُّ ?لْيَقِينِ فَسَبّحْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لْعَظِيمِ [الواقعة:83-96].
صاحب هذا الفراش وراءه قبرٌ وحساب وسؤالٌ وجواب، ومن بعدهِ يومٌ تدهشُ فيه الألبابُ. صاحب هذا الفراش نزل به أعظم تحدٍّ تحدّى الله به الناس أجمعين، الملوك والأمراء والحُجّاب والوزراء والشرفاء والوضعاء والأغنياء والفقراء، كلهم عجزوا أن يثبتوا أمام هذا التحدي الإلهي: قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [آل عمران:168]. أين الجنود؟! أين المُلك؟! أين الجاه؟! أين الأكاسرة؟! أين القياصرة؟! أين الزعماء؟!
هو الْموت ما منه ملاذ ولا مهرب مذ حُطَّ ذا عن نعشه ذا يركب
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ?لتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26، 27]، إذا بلغت الروح التَّرْقُوَة وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ من يرقيه؟! من يبذل له الرقية؟! من يبذل له الطب والعلاج؟!
إن الموت حتم لازم، لا مناص منه، لكل حي من المخلوقات، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى? وَجْهُ رَبّكَ ذُو ?لْجَلْـ?لِ وَ?لإكْرَامِ [الرحمن:26، 27]، قُلْ إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَـ?قِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى? عَالِمِ ?لْغَيْبِ وَ?لشَّهَـ?دَةِ فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجمعة:8]، وقال تعالى: أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78].
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أسباب السماء بسُلَّم
على هذا الفراش يقف الإنسان عند آخر أعتاب هذه الدنيا, فينظر إلى الأصحاب والأحباب, ينظرُ إلى الأبناء والبنات, وإلى الإخوان والأخوات, وإلى الأصحاب والأحباب والإخوان والخلان, فكأن الحياة طيف من الخيال, وكأنها ضرب من الأحلام، وصدق الله تعالى: كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ ?لْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].
ولو نجا أحد من الموت لنجا منه خيرة خلق الله محمد ، إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ [الزمر:30]، وقد واسى الله رسوله بأن الموت سنته في خلقه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ?لْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ?لْخَـ?لِدُونَ [الأنبياء:34].
صاحب هذا الفراش نزلت به أعظم كربة وأشد غمة وأقسى ألم، ولا إله إلا الله، فقد نزل به الموت بسكرته. إن للموت ألمًا لا يعلمه إلا الذي يعالجه ويذوقه، قالت عائشة رضي الله عنها: كان بين يدي النبي رَكْوَة أو عُلبة فيها ماء, فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)).
فالميت ينقطع صوته, وتضعف قوته عن الصياح لشدة الألم والكرب على القلب, فإن الموت قد هَدَّ كل جزء من أجزاء البدن وأضعف كل جوارحه، أما العقل فقد غَشيِتْه وسوسة، وأما اللسان فقد أبكمه، وأما الأطراف فقد أضعفها، فإن بقيت له قوة سُمع له عند نزع الروح وجذبها خوار وغرغرة، وقد تغير لونه, وأزبد, ولكل عضو من أعضائه سكرة بعد سكرة وكربة بعد كربة, حتى تبلغ الحلقوم, فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، قال تعالى: كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ?لتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ ?لْفِرَاقُ [القيامة:26-28].
لما حضرت عمرو بن العاص الوفاة قال له ابنه: يا أبتاه، إنك كنت تقول: ليتني ألقى رجلاً عاقلاً لبيبًا عند نزول الموت يصف لي ما يجد، وأنت ذلك الرجل، فصف لي، فقال: يا بني، والله لكأن على كتفي جبل رَضْوَى، وكأن غصن شوك يُجذب من قدمي إلى هامَتي، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنا بينهما.
عبادَ الله، وعلى هذا الفراش ينقسمُ الناسُ إلى قسمين إلى فريقين: شقي وسعيد. تحيط بأحدهم الحسرة والندامة إن كان من الخاسرين، أو الفرح والسرور إن كان من المتقين.
فريقُ السعداء حالُهم ما حالُهم؟ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32]. يا لها من خواتم طيبة، ملائكةٌ بيضُ الوجوه، يتقدمُهم ملكُ الموت، يخاطبُ تلك الأرواح الطيبة: أيتها النفسُ الطيبةُ، اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان، وربٍ راضٍ غيرِ غضبان، فتخرجُ تسيل كما تسيلُ القطرةُ من فم السقاء، وتفتحُ لها أبوابُ السماء، وتحملُ الجنازةُ على الأكتاف وهي تصيح وتقول: قدموني قدموني، تُسألُ فتجيبُ وتثبتُ، ويفرشُ لها من الجنة، ويفتحُ لها بابٌ إلى الجنة، قد استراحت من تعبِ هذه الدار، وإلى راحةٍ أبديةٍ في دار القرار.
وفريقٌ آخر في تلك الساعة يشقى، وَلَوْ تَرَى إِذِ ?لظَّـ?لِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ?لْمَوْتِ وَ?لْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـ?تِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، حسِبَ أن الحياة عبثٌ ولهوٌ ولعب، وإذا به يرى عاقبة اللهو واللعب. نزلت عليه ملائكةٌ سودُ الوجوه، يتقدمهم ملكُ الموت ـ نعوذ بالله من ختام السوء وساعة السوء ـ يقول: أيتها النفسُ الخبيثةُ، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب، فتنتزَعُ نزعًا بعد أن تُفرقَ في الجسد، ثم ترفعُ فلا تُفتحُ لها أبوبُ السماء، تحملُ الجنازةُ على الأكتافِ وهي تصيح: يا ويلها، أين تذهبون بها؟! ثم تُسألُ فلا تجيب، ويفرشُ لها من النار، ويفتحُ لها بابٌ إلى النار، فنعوذ بالله من النار ومن سوءِ الختامِ وغضبِ الجبار.
على هذا الفراش يكون التثبيت أو الخذلان، قال تعالى: يُثَبّتُ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ بِ?لْقَوْلِ ?لثَّابِتِ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ وَيُضِلُّ ?للَّهُ ?لظَّـ?لِمِينَ وَيَفْعَلُ ?للَّهُ مَا يَشَاء [إبراهيم:27]. قال الإمام البغوي: "القول الثابت كلمة التوحيد، وهي قول: لا إله إلا الله، فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا يعني قبل الموت، وَفِى ?لآخِرَةِ يعني في القبر". هذا قول أكثر أهل التفسير.
قال علماؤنا: إذا حضر الإنسانَ الموتُ كان الشيطان حريصًا على الإنسان أشدَّ الحرص، حتى لا يفلت منه، ففي صحيح مسلم عن جابر أن النبي قال: ((إن الشيطان يحضر أحدكم عند كلّ شيء من شأنه)) ، وقد استدلّ على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية بقول نبينا في الصحيح ((إنما الأعمال بالخواتيم)) وقوله: ((إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) متفق عليه.
وقد ذكر علماؤنا أن الشيطان يأتي الإنسان في تلك اللحظات الحرجة في صورة أبيه أو أمه أو غيرهم ممن هو شفيق ناصح له، ويدعوه إلى اتباع اليهودية أو النصرانية أو غيرها من الأديان الباطلة، فهناك يزيغ قلب من حقت عليه الضلالة.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حضرت وفاة أبي أحمد، وبيدي الخرقة لأشدّ لحييه، فكان يغرق ثم يفيق ويقول بيده: لا بعدُ لا بعد، فعَلَ هذا مرارًا، فقلت له: يا أبت، أي شيء ما يبدو منك؟! فقال: إن الشيطان قائم بحذائي عاضّ على أنامله يقول: يا أحمد، فُتَّني، وأنا أقول: لا بعدُ، حتى أموت.
قال القرطبي: وقد سمعت شيخنا الإمام أبا العباس أحمد بن عمر القرطبي بثغر الإسكندرية يقول: حضرْتُ أخا شيخنا أبي جعفر أحمد بن محمد بن محمد القرطبي بقرطبة وقد احتضر، فقيل له: قل: لا إله إلا الله، فكان يقول: لا لا، فلما أفاق ذكرنا له ذلك، فقال: أتاني شيطانان عن يميني وعن شمالي، يقول أحدهما: مت يهوديًا فإنه خير الأديان، والآخر يقول: مت نصرانيًا فإنه خير الأديان، فكنت أقول لهما: لا لا إليّ تقولان هذا؟!
فما لك ليس يعمل فيك وعظُُ ولا زجر كأنك من جمادِِ
ستندم إن رحلت بغير زاد وتشقى إذ يناديك الٍمنادي
فلا تأمن لذي الدنيا صلاحًا فإن صلاحها عيْن الفساد
ولا تفرح بمال تقتنيه فإنك فيه معكوس المراد
وتب مِما جنيت وأنت حيٌّ وكن متنبهًا قبل الرقاد
أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زاد وأنت بغير زاد
فلْننظر إلى اختلاف أحوال الناس عند هذا الفراش، فمنهم السعيد القريب، ومنهم الشقي البعيد، ولْننظر أولاً إلى أحوال السعداء عند فراش موت.
على فراش موت النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول للسنة الحادية عشرة للهجرة، كان المرض قد اشتد برسول الله ، وسرت أنباء مرضه بين أصحابه، وبلغ منهم القلق مبلغه، وكان رسول الله قد أوصى أن يكون أبو بكر إمامًا لهم حين أعجزه المرض عن الحضور إلى الصلاة.
وفي فجر ذلك اليوم وأبو بكر يصلي بالمسلمين لم يفاجئهم وهم يصلون إلا رسول الله وهو يكشف ستر حجرة عائشة، ونظر إليهم وهم في صفوف الصلاة، فتبسم مما رآه منهم، وَهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله ، فأشار إليهم رسول الله وأومأ إلى أبي بكر ليكمل الصلاة، فجلس عن جانبه وصلى عن يساره، وعاد رسول الله إلى حجرته، وفرح الناس بذلك أشد الفرح، وظن الناس أن رسول الله قد أفاق من وجعه، واستبشروا بذلك خيرًا.
وجاء الضحى واشتدّ الكرب برسول الله ، وبلغ منه مبلغه.، فقالت فاطمة: واكرباه، فرد عليها رسول الله قائلاً: ((لا كرب على أبيك بعد اليوم)). وأوصى رسول الله وصيته للمسلمين وهو على فراش موته: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) رواه أحمد، وكرر ذلك مرارًا.
وجعل رسول الله يُدخل يديه في رَكْوَة فيها ماء، فيمسح بالماء وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت سكرات)) رواه البخاري. ثم شخص بصر رسول الله ، وتحركت شفتاه قائلاً: ((مع الذين أنعمت عيهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم الرفيق الأعلى)) ، وفاضت روح خير خلق الله، فاضت أطهر روحُ خلِقت إلى ربها، فاضت روح من أرسله الله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم تسليما.
ولما طعن عمر جاء عبد الله بن عباس فقال: يا أمير المؤمنين, أسلمتَ حين كفر الناس, وجاهدتَ مع رسول الله حين خذله الناس, وقُتلت شهيدًا ولم يختلف عليك اثنان, وتوفي رسول الله وهو عنك راضٍ، فقال له: أعِد مقالتك، فأعاد عليه, فقال: المغرور من غرَّرْتُموه, والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس أو غربت لافتديت به من هول المطْلع.
وقال عبد الله بن عمر: كان رأس عمر على فخذي في مرضه الذي مات فيه، فقال: ضع رأسي على الأرض، فقلت: ما عليك كان على الأرض أو كان على فخذي؟! فقال: لا أُمَّ لك, ضعْه على الأرض، فقال عبد الله: فوضعته على الأرض، فقال: ويلي وويل أمي إن لم يرحمْني ربي عز وجل.
ولما احتضر علي تقول زوجته أسماءُ بنتُ عميسٍ رضي اللهُ عنها: إنا لعند علي رضي اللهُ عنه وأرضاه بعدما ضربَه ابن مُلجِم عليه من الله ما يستحق، إذ بعليٍ يشهقُ شهقةً فيغمى عليه، ثم يفيقُ ثانيةً وهو يقول: مرحبًا مرحبًا، الحمدُ لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنةَ، الحمد لله الذي أذهبَ عنا الحزن، لمثلِ هذا فليعملِ العاملون ولْيتنافسِ المتنافسون.
كأنك لم توتر من الدهر مرة إذا أنت أدركت الذي أنت طالبه
معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، الصحابي الجليل معاذ بن جبل حين حضرته الوفاة وجاءت ساعة الاحتضار نادى ربه قائلا: يا رب، إنني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني ما كنت أحب الدنيا لجري الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالرُّكَب عند حِلَق العلم، ثم فاضت روحه بعد أن قال: لا إله إلا الله.
بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، حينما أتى بلالاً الموتُ قالت زوجته: واحزناه، فكشف الغطاء عن وجهه وهو في سكرات الموت وقال: لا تقولي: واحزناه, وقولي: وافرحاه، ثم قال: غدا نلقى الأحبّة محمدًا وصحبه.
كان عامر بن عبد الله بن الزبير على فراش الموت يجود بأنفاسه وأهله حوله يبكون، فبينما هو يصارع الموت سمع المؤذن ينادي لصلاة المغرب ونفسه تحشرج في حلقه وقد اشتدّ نزعه وعَظُم كربه، فلما سمع النداء قال لمن حوله: خذوا بيدي، قالوا: إلى أين؟! قال: إلى المسجد، قالوا: وأنت على هذه الحال؟! قال: سبحان الله! أسمع منادي الصلاة ولا أجيبه؟! خذوا بيدي، فحملوه بين رجُلين، فصلى ركعة مع الإمام ثمّ مات في سجوده، نعم مات وهو ساجد.
ولذا كان ابن عمر إذا قرأ قول الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ [سبأ:54] بكى وأبكى ودعا للأموات وقال: اللهم لا تَحُل بيني وبين ما أشتهي، قالوا: وما تشتهي؟! قال: أن أقول: لا إله إلا الله.
أما عن أحوال المقصرين عند الموت فقد ذكر القرطبي أن أحد المحتضرين لما نزل به الموت واشتد عليه الكرب اجتمع حوله أبناؤه يودِّعونه ويقولون: قل: لا إله إلا الله، فأخذ يشهق ويصيح، فأعادوها عليه فصاح بهم وقال: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا، والبستان الفلاني ازرعوا فيه كذا، والدُّكان الفلاني اقبضوا منه كذا، ثمّ لم يزل يردّد ذلك حتى مات. نعم، مات وترك بستانه ودكانه يتمتّع بهما ورثته وتدوم عليه حسرته.
وذكر ابن القيم أن أحد تجار العقار ذُكّر بلا إله إلاّ الله عند احتضاره فجعل يردّد: هذه القطعة رخيصة، وهذا مشترٍ جيّد، وهذا كذا وهذا كذا، حتى خرجت روحه وهو على هذا الحال، ثم دفن تحت الثرى بعدما مشى عليه متكبّرًا قد جمع الأموال وكثر العيال فما نفعوه في قبره ولا ساكنوه.
قال ابن القيم: واحتضر رجل ممن كان يجالس شرّاب الخمور، فلما حضره نزعُ روحه أقبل عليه رجل ممن حوله وقال: يا فلان يا فلان، قل: لا إله إلا الله، فتغير وجهه وتلبّد لونه وثقل لسانه فردّد عليه صاحبه: يا فلان، قل: لا إله إلا الله، فالتفت إليه وصاح: لا، اشرَب أنت ثم اسقني، اشرب أنت ثم اسقني، وما زال يردّدها حتى فاضت روحه إلى باريها. نعوذ بالله من سوء الخاتمة، وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَـ?عِهِم مّن قَبْلُ.
إذا كانت هذه هي النهاية التي سوف ينتهي إليها كل منا فلا بد أن نتساءل عن الأسباب التي تقي من سوء هذا المصرع.
فمن الأسباب التي تقي سوء الخاتمة أن نعلم ما هي حقيقة الدنيا، بين الله تعالى لنا حقيقة الدنيا التي جعلها محل اختبار لنا فقال سبحانه: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [ الحديد:20].
قرأ الحسن: قُلْ مَتَـ?عُ ?لدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]، قال: رحم الله عبدًا صحبها على حسب ذلك، وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب، ثم انتبه. وقال ابن معين: كان أبو مسهر ينشد:
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنَّها متاع قليل والزوال قريب
كان عبد الرحمن بنُ يزيد بن معاوية خِلاً لعبد الملك ابن مروان، فلما مات عبدُ الملكِ ودفنَ وتفرق الناسُ عن قبرِه وقفَ عليهِ عبد الرحمن قائلاً: أنتَ عبدُ الملك، أنت من كنتَ تعِدُني خيرًا فأرجوك، وتتوعدُني فأخافُك، الآن تصبحُ وتمسي وليسَ معكَ من ملكِك غير ثوبك، وليسَ لك من مُلكِكَ سوى ترابِ أربعةِ أذرُعٍ في ذراعين، إنه لملكٌ هينٌ حقيرٌ وضيعٌ، أفّ ثم أفّ لدنيا لا يدومُ نعيمُها، ثم رجعَ إلى أهلِه فاجتهدَ وجَدَّ في العبادةِ، وعلم أنها الباقية، حتى كان كأنه شِنٌّ بالٍ من كثرة العبادة.
روى مسلم أن النبي قال: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصْبغ في النار صَبْغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب)).
نعم هذا الرجل الذي ذاق من الدنيا أعظم نعمتها ومن الحياة غاية لذتها أنساه كلَّ نعيم الدنيا غمسة واحدة غُمسها في النار، فكيف به إذا تردّى في دركاتها وصارع حيَّاتها وتجرع من زقومها وغرق في حميمها؟! بل كيف به إذا استغاث فيها فقيل له: ?خْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ [المؤمنون:108]؟! بالله عليك، هل يذكر في تلك الحال فاحشة ارتكبها أو أغنية سمعها أو خمرًا شربها أو أموالاً جمعها؟! كلا بل يقال لهم: ?صْلَوْهَا فَ?صْبِرُواْ أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:16].
قال : ((ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة فيُصْبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا بن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مرَّ بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)). نعم، أنساه كلَّ بؤس الدنيا غمسة واحدة غمسها في الجنة، فكيف به إذا شرب من أنهارها وتقلّب في أحضان حورها وسكن في قصورها وجالس أنبياءها؟! بل كيف به إذا نظر إليه ربه وهو فيها ثم قال لهم: يا أهل الجنة، هل رضيتم؟! ثم ينظرون إلى وجه ربهم جل جلاله، هل يذكر شدة طاعة أداها أو حسرة شهوة تركها؟! كلا، بل هو في نعيم دائم، لا يفنى شبابه، ولا تبلى ثيابه، قال الله: لَهُم مَّا يَشَاءونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35].
ومن أسباب الوقاية من سوء الخاتمة زيارة القبور، يقول ابن عوفٍ رضي الله عنه: خرجتُ مع عمرَ رضي الله عنه إلى المقبرة، فلما وقفنا عليها ارتعد واختلس يدَه من يدي، ثم وضع نفسَه على الأرض وبكى بكاءً طويلاً، فقلت: ما لك يا أميرَ المؤمنين؟! قال: يا ابن عوف، ثكلتك أمك، أنسيت هذه الحفرة؟! حاله يقول: لمثل هذا فأعدّ.
تعلَّم هذا من حال نبيّه ، كما في المسند من حديث البراء يرى أناسًا مجتمعين فيسأل عن سبب اجتماعهم، فقيل: على قبر يحفرونه، على ذاك المصير الذي لا بد لكل واحد منا أن يسكنه كبر أم صغر عزّ أم ذل، فذهب رسول الله فزعًا مسرعًا حتى انتهى إلى القبر، فجثا على ركبتيه ثم بكى طويلاً، ثم رفع رأسه فإذا دموعه تنحدر على لحيته فقال: ((أي إخواني لمثل هذا فأعدّوا، أي إخواني لمثل هذا فأعدوا)).
ومن أسباب الوقاية من سوء الخاتمة مبادرة الآجال بعمل الصالحات، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102]، وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [المنافقون:10].
وعن عمرو الخزاعي قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبد خيرًا عَسَله))، قيل: وما عَسَله؟ قال: ((يُفتح له عمل صالح بين يدي موته فيقبضه عليه)) رواه بن حبان (343).
يمر عمرو بن العاص رضي الله عنه بالمقبرة فيبكي، ثم يرجع فيتوضأ ويصلي ركعتين، فيقول أصحابه: لم فعلت ذلك؟! قال: تذكرت قول الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ، وأنا أشتهي الصلاةَ قبل أن يحال بيني وبينها.
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر
وكم من صبِيٍّ يرتَجى طول عمره وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
ومن أسباب الوقاية من سوء الخاتمة الحذر من الغِرَّة أي: الاغترار.
يا من بدنياه اشتغل وغره طول الأمل
الموت يأتِي بغتة والقبر صندوق العمل
قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ [الانفطار:6]، قال الحسن رحمه الله: "إن قومًا ألهتهم الأمانيُّ بالمغفرة, حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة, يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي, وكذب, لو أحسن الظن لأحسن العمل", ثم تلا قوله تعالى: وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ ?لَّذِى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مّنَ ?لُخَـ?سِرِينَ [فصلت:23]. وقال سعيد بن جبير: "الغِرَّة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية, ويتمنى على الله المغفرة".
قال تعالى: وَلَيْسَتِ ?لتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ?لسَّيّئَـ?تِ حَتَّى? إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ إِنّى تُبْتُ ?لآنَ وَلاَ ?لَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18]؛ لذا قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [المنافقون:9].
وكان في وصية النبي لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، فكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.
ومن أسباب الوقاية من سوء الخاتمة الاعتبار برسل الموت، ورد في بعض الأخبار أن نبيًَّا من الأنبياء عليهم السلام قال لملك الموت: أما لك رسول تقدِّمه بين يديك ليكون الناس على حذر منك؟! قال: نعم, ولي والله رسل كثيرة من الإعلال والأمراض والشيب والهموم وتغيُّر السمع والبصر، فإذا لم يعتبر من نزل به ذلك فإني أقول له عند سَلِّ روحه: لقد أرسلتُ إليك رسولاً بعد رسول ونذيرًا بعد نذير، فأنا الرسول الذي ليس بعده رسول، والنذير الذي ليس بعده نذير.
وصدق الله تعالى: وَهُوَ ?لْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ [الأنعام:61].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4159)
ليلة القدر وزكاة الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/9/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر الله تعالى على التوفيق للعمل الصالح. 2- ضرورة الخشية من زوال هذه النعمة. 3- فضل السبع البواقي من رمضان. 4- فضل ليلة القدر. 5- الحث على التوبة والرجوع إلى الله تعالى. 6- زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إن المؤمن إذا وُفِّق لعملٍ صالح فعَمِله يتأكّد في حقِّه أن يستشعرَ فضلَ الله عليه، وكرمَ الله وجودَه عليه، إذ هداه ووفَّقه لأن عمِل هذا العملَ الصالح، ولولا توفيقُ الله لك ـ أيها المسلم ـ ما عملتَ خيرًا، وتذكَّر آيتين في كتاب الله:
يقول الله جل وعلا: وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لإيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لرشِدُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات:7، 8]، إذًا فهذا العملُ الصالح الذي شرح الله صدرَك فقبِلت هذا الحق، وعملتَ بهذا الخير، واستقمتَ على الهدى فضلاً ونعمة من الله عليك، فاحمدِ الله على فضله ونعمته.
ثم تذكَّر قول الله جل وعلا: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـ?مَكُمْ بَلِ ?للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـ?نِ إِنُ كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [الحجرات:17]، فالمنة من الله علينا، والفضلُ من الله علينا، فلربنا الفضلُ وله الثناء الحسن، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما أثنى عليه عباده.
ثم تذكَّر قولَ الله تعالى: وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
أيها المسلم، شرح الله صدرَك للإسلام، فقبلتَ الإسلام، وعملتَ بأركان الإسلام، فتصوَّر عظيمَ هذه النعمة، وأنها نعمةٌ كبرى ومنة عظمى، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]. وقارِن بين حالِ من هداه الله وشرحَ صدره لقبول الحق، وحالِ من أزاغ الله قلبَه، وحالَ بينه ويبن الهدى، فلم يقبل هدَى الله الذي بعث به نبيَّه ، كرِه قلبُه الحقَّ، واستثقلته نفسُه، وضاق به صدرُه، فلم يقبل الحقَّ ولم يعمل به ولم يُرده، بل كان موقفُه الإعراضَ والتكذيب والصدودَ والعياذ بالله، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْغَـ?فِلُونَ [الأعراف:179]. إذًا فليكن ديدنك دائمًا ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى هَدَانَا لِهَـ?ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا ?للَّهُ [الأعراف:43]، أجل لولا هدايةُ الله لضللتَ، ولولا توفيق الله لك لهلكتَ، ولولا عونُ الله لك لتسلّط عليك الشيطان، فصدَّك عن طريق الله المستقيم.
أخي المسلم، ثم إ ذا عرفتَ ذلك، فينبغي أيضًا أمور، أولاً أن تخافَ على هذه النعمة، وأن تخشى عليها أن يعرضَ لها ما يسلبُها منك، فكن خائفًا على دينك، خائفًا على أعمالك الصالحة أن تُؤتى من قبل نفسك، عُجبٌ بعلمك، غرورٌ وتكبّر بعملك، وإدلال على الله، وهذه من أسباب الهلكة والعياذ بالله.
ثم تذكَّر قولَ الله لنبيّه: وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـ?كَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَـ?كَ ضِعْفَ ?لْحَيَو?ةِ وَضِعْفَ ?لْمَمَاتِ [الإسراء:74، 75]، وقوله له: وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْء [النساء:113].
أخي المسلم، ثم اعلم أنَّ سلفنا الصالحَ أئمةَ العلم والهدى إذا وُفِّقوا للأعمال الصالحة، فعملوها إخلاصًا ومتابعة، فإنهم لا يأمنون على أنفسهم، لا ـ والله ـ سوءَ ظنٍّ بربّهم، حاشا وكلا، فهم على ثقةٍ من ربهم، أنَّ الله لا يضيع عملَ العاملين، فَ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195]، لكن يخشون أن يؤتَوا من قبَل أنفسهم، من ضعفٍ في الإخلاص، وعدم مبالاة بالعمل، ولذا قال الله في حقِّهم: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون:60]، أحسَنوا العملَ، وأخلصوا في العمل، ثم خافوا على هذا العمل أن يأتيَه ما يكدِّر صفوَه، أو ينزعه والعياذ بالله، في حديث ابن مسعود: ((إن أحدَكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبِق عليه الكتاب، فيعملُ بعمل أهل النّار فيدخلها، وإن أحدَكم ليعمل بعمَل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينَه إلا ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) [1] ، فالأعمال بالخواتيم، فسلوا الله خاتمةً حميدة، سلوه التوفيقَ والهداية، سلوه الثباتَ على الحق والاستقامةَ على الطريق المستقيم. قلوبنا ـ معشر العباد ـ بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبُها كيف شاء، إذا أراد أن يقلّب قلبَ عبد قلبه، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران:8].
معشر المسلمين، هذه الجمعة الرابعة من شهر رمضان، هذه الليالي والأيام المباركة، هذه السبع البواقي من شهر رمضان، هذه الليالي يُرجى أن يكونَ في ظلِّ لياليها ليلة القدر، تلك الليلةُ التي عظَّم الله شأنَها، ورفع ذكرَها، ونوَّه بها في كتابه العزيز، تلك الليلةُ العظيمة التي جعل الله العملَ الصالحَ فيها خيرًا من العمل في ألفِ شهرٍ سواها ليس فيها ليلةُ القدر، هذه الليلةُ المباركة التي رفع الله ذكرَها وشرَّفها وعظَّمها، وجعلها ليلةَ تقديرٍ للآجال والأرزاق والأعمال، حكمةً من الربّ، وربُّك حكيم عليم.
بيَّن الله فضلَها في موضعين من كتابه العزيز فقال جل جلاله: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الدخان:3-6]. إنها ليلةٌ مباركة، وأعظمُ بركتِها على الأمة ابتداءُ نزول هذا القرآن العظيم الذي أنزله الله في ليلة القدر في شهر رمضان، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ [البقرة:185]. إنها ليلةٌ يُعطى فيها الملائكةُ الموكَّلون بأمر العباد ما سيكون في مثلها إلى العام القادم، يعطَون عن أمِّ الكتاب ما سيكون من الأرزاق والآجال، من الأمور التي قدَّرها الله وقضاها على كمال حكمته ورحمته وعلمه وعدله، وربك حكيم عليم.
إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْرِ [سورة القدر]. تنزَّل الملائكةُ وهم عبادٌ مكرَمون مطيعون لربهم، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِ?لْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، يُسَبّحُونَ ?لْلَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، ينزِلون إلى الأرض، وإنما ينزلون بالخير والرحمة والبركة، وإمامُهم جبريل عليه السلام، وهذه الليلة ليلةُ سلامٍ لكثرة ما يُعتِق الله فيها من النار، وكثرةِ ما تنال هذه الأمةُ من بركاتِ هذه الليلة وفضائلها.
نبينا اعتكفَ العشرَ الوسطى من رمضان، فلما أُخبر أنَّها في العشر الأخيرة اعتكف العشر الأخيرة من رمضان تحريًا والتماسًا لهذه الليلة [2].
هي ليلة عظيمةٌ مباركة، ذاتُ شرف وفضلٍ وقيمة عظيمة، من قامها إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه، من حُرم خيرَ هذه الليلة فقد حُرم الخيرَ الكثير.
أيها المسلمون، ليالي بقيَّة هذا الشهر ليالٍ مباركة، ليالٍ فيها إجابةُ الدعاء، ليالٍ فيها الخير الكثير، ليالٍ مباركة. فيا أيها المسلم، إياك أن تفوتك تلك الفضائل، ارفع أكفّ الضراعة لربِّك، فربّك حكيم عليم، وربّك غفور رحيم، مهما بلغت ذنوبُنا، مهما كثُرت أوزارنا، مهما تعدَّد خطؤنا، مهما انغمسنا فيما انغسمنا من الإجرام، إلا أن ربَّنا غفور رحيم، إلا أن ربَّنا توابٌ لمن تاب إليه، إلا أن ربَّنا من كمال جودِه وفضله يحبّ من عباده أن يتوبوا إليه، يحبّ منهم أن يُقبلوا إليه، يحبّ منهم أن يستغفِروه، يحبُّ منهم أن يعتذروا من خطئهم وزللهم، وربك أرحم الراحمين. ((كتب في كتاب موضوعٍ عند العرش: إنَّ رحمتي سبقَت غضبي)) [3] ، يدعوكم لأن تسألوه، فتح بابَه للسائلين، وتعرَّف بكمال جودِه للطالبين، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56]. سلُوا الله العفوَ والعافية، سلوا اللهَ الثباتَ على الحق، سلوا اللهَ الاستقامةَ على الأعمال الصالحة، سلوا اللهَ لآبائكم وأمهاتِكم المغفرةَ والرضوان، سلوا اللهَ لذرياتكم الصلاحَ والهداية، سلوا الله لمجتمعكم التوفيقَ والسداد، ولولاتِكم العونَ والتأييد على كل خير، سلوا اللهَ أن يحفظَ عليكم إسلامَكم، ويحفظَ عليكم نعمَه عليكم، فلا إله إلا الله، ما أعظمَ فضلَه، وما أعظمَ كرمَه، وما أعظمَ جودَه لمن قويَ إيمانه وعظم يقينه.
أسأل الله أن يختم لي ولكم بخاتمة خَير، وأن يختم لنا رمضانَ بالحسنى، وأن يجعلَنا فيه من الموفَّقين للعمل الصالح، إنَّه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3332)، ومسلم في القدر (2643).
[2] أخرجه البخاري في الأذان (813)، ومسلم في الصيام (1167) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بمعناه.
[3] أخرجه البخاري في التوحيد (7422، 7453، 7454)، ومسلم في التوبة (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، قد شرع لكم نبيّكم في نهايةِ شهركم هذا صدقةَ الفطر، شرع لكم زكاةَ الفطر، فرضها عليكم نبيّكم ، وما فرضه عليكم نبيّكم فهو في حكم ما فرضَ الله عليكم، فإن طاعة الرسول طاعةٌ لله، وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7]، مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ [النساء:80].
فرضها رسولُ الله على جميع المسلمين على اختلاف طبقاتِهم، وعلى اختلافِ أسنانهم، فرضها على الذكرِ والأنثى، فرضها على الحرِّ والعبد، فرضها على الصغير والكبير من المسلمين، فرضها على من وجد صاعًا زائدًا عن قُوتِ يومه وليلته يومَ العيد، فإن من لم يجِد شيئًا فإنَّ الله لا يكلّف نفسًا إلا وسعَها، قال عبد الله بن عمر: فرض رسول الله زكاةَ الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على الذكر والحرّ والعبد والأنثى والصغير والكبير من المسلمين [1].
فيؤدِّيها الإنسان عن نفسه، ويؤدِّيها عمَّن تلزمه نفقتُه من زوجة وولد وخادم، فإنَّ ذلك واجبٌ عليه، وفي الحديث الآخر: ((أدُّوا زكاة الفطر عمن تمونون)) [2].
واستحبَّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه إخراجَها عن الجنين [3] ، وهو من الخلفاء الراشدين وسنته يعمل بها، ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي)) [4].
إن لهذه الصدقة حِكمًا ومصالحَ، فهذه الصدقةُ شكرٌ لله على نعمته بإتمام الصيام والقيام، وأنْ أعاد عليك هذا العامَ وأنت في صحة وسلامة وعافية في بدنك، وهي أيضًا طُهرة للصائم عما عسى أن يكون حصل منه من لغو أو رفث، وهي أيضًا طُعمة للمساكين لكي يغنيَهم ذلك عن السؤال في يوم العيد، فيكون العيد عيدًا للجميع، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله زكاةَ الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطعمةً للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاةٌ مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات [5].
أيها المسلم، وجنسُ ما يُخرج منه طعام الآدميين الخاص، لأن النبي فرضها صاعًا من تمر أو صاعًا من طعام، وكان طعامُهم يومئذ ما بين التمر والشعير والأقط والزبيب، كما قال أبو سعيد رضي الله عنه: وكان طعامنا الأقط والزبيب والتمر والشعير [6]. فهي في طعام الآدمي، وأفضلُها ما كان أنفعَ للآدميين.
ولا يجوز أن يعاوض عنها بقيمتها؛ لأن هذا خلافُ ما فرضه النبي ، وخلافُ عمل الخلفاء الراشدين وأصحاب محمد والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
والواجبُ صاعٌ من هذه الأنواع الأربعة من البرّ من الشعير من الأرز من الأقط من الزبيب، فالمقدار الواجب إخراجُه صاع، وهذا الصاع يُحتاط فيه، فالأولى أن يكون مقدار الصاع ثلاث كيلوات، أي: ثلاثة آلاف غرام، فإن هذا أكملُ وأحوط أن يخرجَ المسلم عن الصاع مقدار ثلاث كيلو، فيكون في ذلك احتياط وإبراءٌ للذمة.
وهذه الصدقةُ لها وقتان: وقتُ فضيلة ووقت جواز، فالمستحبّ فيها لمن تمكَّن أن يخرجَها يومَ العيد قبل الصلاة لمن استطاع وقدر على ذلك، قال عبد الله بن عمر: أمر النبي أن تؤدَّى زكاة الفطر قبل الصلاة [7] ، وقال أبو سعيد: كنا نخرجها يومَ الفطر على عهد النبي [8] ، واستنبطها بعضُهم من كتاب الله في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى? وَذَكَرَ ?سْمَ رَبّهِ فَصَلَّى? [الأعلى:14، 15]، قال: يقدِّم المسلم صدقتَه بين يدَي صلاته، فرأى أن الصدقةَ صدقةُ الفطر، وأن الصلاةَ صلاةُ العيد.
ويجوز أن تخرجَها قبل العيد بيومين أو يوم، يوم الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين، وأن تختار لها النوعَ الجيد فإنَّ الله يقول: وَلاَ تَيَمَّمُواْ ?لْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ [البقرة:267 ] ، وأن تخصَّ بها الفقراء المحتاجين، وأن تصلَ إليهم قبلَ صلاة العيد، فلا يجوز التهاونُ بذلك والاستخفاف بها، وإياك أن تفرّطَ أو تهملَ فيها، أو تدفعها لمن تظنّه يوصلها إلى أهلها، والغالب [أنه] لا يستطيع، ولا ينبغي للناس التهاونُ بهذه الشعيرة، بل ينبغي إيصالُها لمستحقيها قبل صلاة العيد اتباعًا لسنة نبينا ، ولا بدَّ أن يقبضَها الفقير بيده، أو يضعَ وكيلاً عنه ليستلمَها من الغني، هذه هي السنَّة، ويُخرج الإنسان عن نفسه وعمَّن يلزمه أن ينفقَ عليه، هذه سنَّة رسول الله.
أسأل الله لي ولكم قبولَ العمل، والتوفيقَ لما يحبّه ويرضاه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد ، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (1503)، ومسلم في الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984) بنحوه.
[2] رواه الشافعي في الأم: كتاب الزكاة، باب الفطر (4/228)، والدارقطني في السنن، كتاب زكاة الفطر (2/141)، والبيهقي في الكبرى: كتاب الزكاة، باب: إخراج الزكاة عن نفسه وغيره (4/161) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، قال الدارقطني: "رفعه القاسم، وليس بالقوي، والصواب موقوف"، وقال البيهقي: "إسناده غير قوي"، وقال الحافظ في التلخيص الحبير (2/184): "فيه ضعف وإرسال"، وضعفه الصنعاني في السبل (2/138).
[3] رواه ابن أبي شيبة: كتاب الزكاة، باب: في صدقة الفطر عما في البطن (2/432) والإمام أحمد في المسائل رواية ابنه عبد الله (644)، وفيه انقطاع؛ لذا ضعفه الألباني في الإرواء (3/331). وأخرج ابن أبي شيبة (2/398): كتاب الزكاة، باب: من قال: صدقة الفطر صاع من شعير، وعبد الرزاق: كتاب الزكاة، باب: هل يزكي على الحبل؟ (5788)، عن أبي قلابة قال: كان يعجبهم أن يعطوا زكاة الفطر عن الصغير والكبير حتى على الحبل في بطن أمه.
[4] أخرجه أحمد (4/126)، وأبو داود في السنة، باب: لزوم السنة (4607)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676)، وابن ماجه في المقدمة، باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين (44) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5)، والحاكم (1/95)، وأبو نعيم كما نقله ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109)، والألباني في صحيح أبي داود (3851).
[5] أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: زكاة الفطر (1609)، وابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة الفطر (1927)، وصححه الحاكم (1/409)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1420).
[6] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة قبل العيد (1510)، ومسلم في الزكاة (1985) بنحوه.
[7] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (1503)، ومسلم في الزكاة، باب: الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة (986) بنحوه.
[8] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة قبل العيد (1510) بنحوه.
(1/4160)
الثبات على العبودية
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
2/10/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استغراب الملائكة لخلق آدم واستخلافه في الأرض. 2- حياة المسلم كلها لله تعالى. 3- شرف مقام العبودية. 4- الاستمرار على طاعة الله تعالى. 5- حال المسلم في رمضان. 6- وجوب شكر النعم. 7- الحث على نوافل العبادات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله وهو أصدق القائلين: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـ?ئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى ?لأرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ?لدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:30].
لمَّا أخبر الله ملائكتَه بأنَه جاعلٌ في الأرض خليفةً يقوم بحقِّ الله، يعمُر الأرضَ بطاعة الله، قالت الملائكة لربِّ العالمين: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ?لدِّمَاء ، فإنهم عليهم السلام أطوعُ الخلق لله، عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ [الأنبياء:26]، يُسَبّحُونَ ?لْلَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِ?لْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28]، ولهذا قالوا: وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ ، وخافوا أنَّ هذا الخليفةَ يفسد في الأرض، يسفك فيها الدماءَ، لا يقوم لله فيه بالحقّ الواجب، ولكن حكمة الله وكمال علم الله فوق هذا كلّه، فقال للملائكة: إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، فهو يعلم أنَّ في بني آدم الأنبياءَ الأولياء الصلحاء الأتقياء، من يعمرون الأرضَ بطاعة الله، ويجعلون حياتَهم كلَّها في سبيل الله، ولئن كان في الأرض أيضًا خلافُ ذلك، لكنه الابتلاء والامتحان، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2].
أيها المسلم، إنَّ حياةَ المسلم كلّها لله وفي سبيل الله وفيما يقربه إلى الله، يأمر الله نبيَّه أن يعلن منهجَه في الدنيا فقال: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
فهذا منهجُ محمدٍ الذي سار عليه في حياته، وهو المنهجُ الذي رسمه لأمَّته، ليقتدوا به ويسيروا على نهجِه، صلاتي لله ربِّ العالمين، ذبيحتي لله ربِّ العالمين، ما آتِيه في حياتي وما ألقى الله عليه كلُّ ذلك لله ربِّ العالمين، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ هذه الحياةُ كلها لله، وما أموت عليه وألقى اللهَ عليه هو أيضًا لله ربِّ العالمين، إذًا فحياة المسلم كلُّها في سبيل الله، المسلم كلُّ حياته لله، وكلُّ عمره ينقضي في طاعة الله، فعبادةُ الله هي شريانُ حياته الحقيقية، هي عمادُ حياته، لو تخلَّى عن عبادة الله لضاع أمرُه، ولكن حياته الحقيقية أن تكونَ لله وفي سبيل الله، فما يقوم به من واجباتٍ هو لله، وما يتركه هو في سبيل الله، فالحياة كلّها لله ولأجل الله، ولهذا جعل الله له في هذه الحياة عباداتٍ مستمرةً متواصلة، فأولاً وقبل كل شيء خضوعُه العام لله، وإخلاصُ قلبه لله، وتعلق قلبِه بربه حبًا وخوفًا ورجاءً، وعلمُه الحقيقي أنّه عبدٌ لله، عبدٌ بمعنى الكلمة، خاضعٌ لله، مطيعٌ لله، منفِّذ لأوامر الله، يشرُف بالعبودية لله، ولهذا جعل الله العبوديةَ وصفَ شرفٍ وعزّ لمحمد في أعلى المقامات: ?لْحَمْدُ لِلَّهِ ?لَّذِى أَنْزَلَ عَلَى? عَبْدِهِ ?لْكِتَـ?بَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا [الكهف:1]، سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى [الإسراء:1]، وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ?للَّهِ يَدْعُوهُ [الجن:19]، تَبَارَكَ ?لَّذِى نَزَّلَ ?لْفُرْقَانَ عَلَى? عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَـ?لَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1].
فالعبودية شرفٌ له ، وهي أيضًا شرفٌ لأمته، شرفُ المسلم عبادتُه لله، وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا [الفرقان:63]، فالعبادة لله شرفُ المسلم، ثم صلاته الدائمة في اليوم خمسَ مرات، وكذلك عباداتُه الحولية من صيامِ رمضان من زكاةٍ من حج، كلها تقوِّي جانبَ العبودية لله جل وعلا، فالمسلم كلُّ حياته لله، لكن بعض العبادات قد تكون في السنة مرة كالصوم والزكاة، وقد تكون في العمر مرة كالحج، وكلُّ هذه العبادات تقوِّي العبوديةَ لله في قلب المؤمن. إذًا فالحياة كلُّها مستمرة لله، ليس هناك عند العبدِ أيامٌ يخلو فيها عن عبادة، بل العبادة لله، ذكرُه دائمٌ لله، أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28].
أيها المسلم، إنَّك عبدُ لله دائمًا وأبدا إلى أن تلقى الله، ولذا قال الله لنبيه : وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، فأمره بالعبادة وملازمة العبادة إلى أن يأتيَه أجله، فينتقل إلى الله، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ ، فليس للعمل انقضاءٌ ولا انتهاء.
أيها المسلم، لا شك أنَّ هناك مواسمَ قد يُضاعِف العبدُ الجهدَ فيها، ويزيد من الخير فيها، لكن هذه الزيادة وتلك المضاعفة إنما هي لإعداد نفسه في المستقبل العام للعبودية الدائمة.
أيها المسلم، بلَّغك الله رمضانَ، فصمتَ رمضان، فاحمدِ الله على هذه النعمة، واشكره على هذا الفضل أن بلَّغك رمضانَ صحيحًا سليمًا معافى، فصمتَ نهارَه، وقمتَ ما تيسر من ليله، فالحمد لله على التوفيق، فاسأل الله أن يقبلَ منك عملَك، وأن لا يجعلَ عملَك خسارةً وضياعًا.
أيها المسلم، صمتَ رمضان، وكان لك في رمضان حالةٌ مرْضية، محافظةٌ على الصلوات الخمس جماعةً في المسجد في أوقاتها، تلاوةٌ للقرآن، قيامٌ لما يسَّر الله من الليل، تبكير للمسجد، ندىً وبذلُ معروف وإحسان وصدقة، وطيبُ أخلاق وحلم وأناءة، صفحٌ وإعراض عن الجاهلين، ومقابلة السوء بالإحسان، تلك أخلاقُ الصائمين، فماذا بعد رمضان؟ هل ذُقت حلاوةَ الطاعة وتلذَّذت بأخلاق دينك، فعقدت العزم على مواصلة الخير والاستقامةِ على تلك الأحوال الطيبة والأوقات الصافية لك؟ هل عقدتَ العزمَ أن تكونَ كما كنتَ في رمضان؟ هل سئمتَ الطاعة، وضجرتَ الطاعة، ومللت الأخلاقَ الكريمة، وعزمتَ على الانحراف والبعدِ عن الهدى؟ أعاذك الله من حال السوء.
يا أخي المسلم، في رمضان تشاهَد تأتي المسجدَ من أول الوقت، وتؤدِّي الصلوات الخمس، وتقرأ ما يسَّر الله من كتابه، وتحضر قيامَ الليل، وتقوم ما يسَّر الله لك، فهذه الأحوال هل عزمتَ على تركها، أم أنت عاقد العزم على أن تُواصل الخير وتتابع الخير وتستقيم على الهدى والعمل الصالح؟
أخي المسلم، إن الله مدح قومًا بإيمانهم واستقامتهم فقال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِى ?لآخِرَةِ [فصلت:30، 31]، آمنوا واستقاموا، وقال: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]، ويأمر نبيَّه بالاستقامة على الطاعة فيقول: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ [هود:112].
أخي المسلم، نِعَم الله مترادفة، وآلاءُ الله متتابعةٌ، وأنتَ مغمورٌ في نعم الله، أنعمَ الله عليك بالنعم، وهداك لأسباب جلبِ النعم، وكلّ ذلك بفضله عليك، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]، وَكَأَيّن مّن دَابَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ?للَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ [العنكبوت:60]، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]. فنعَمُ الله مترادفة متتابعة، فبماذا تقابلها؟ أيليق بك أن تقابلها بالإعراض والغفلة، أم تقابلها بشكر الله بالأعمال الصالحة والاستمرار في الخير وعدم الضجر والانقطاع؟! بل أعمالٌ صالحة متواصلة متتابعة، كما أن نعم الله عليك متتابعة، فقابل هذه النعم، قابلها بشكر الله، وشكرُ الله بالقلب لها بالخضوع لله، وباللسان بالتحدّث بها، وبالجوارح بالقيام بما أوجب الله عليك، لتكون من الشاكرين حقًا، من القائمين بنعم الله حقا، من المُثنين على الله بنعمه وآلائه حقًا.
يا أخي المسلم، لئن كانَ رمضانُ هذّب النفوس، وزكَّى القلوب، وأصلح الأحوالَ، فلنكن بعد رمضان، كما كنَّا في رمضان، ولنواصل الخيرَ مع الخير، ونتابع الفضل مع الفضل، ولنحذر أن ننقطعَ عن سبيل الخير ونبتعد عن سبيل الهدى، فتلك نكسةٌ لا تليق بالمسلم، فعياذًا بالله من الحور بعد الكور، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران:8].
فلنستقم على طاعة الله ليبقَى لنا دوام صيامنا، صيامُ رمضان وقيامُه يكفِّر ما مضى من الذنوب، فلنحذر أن نأتيَ بذنوب تُضعف ذلك العمل، وتضعف ذلك الثواب، بل نُعقب رمضان بأعمالٍ صالحة.
أسأل الله أن يعيننا على كلّ خير، وأن يهديَنا صراطه المستقيم، وأن يمنّ علينا بالاستقامة على الهدى والثبات على الحق، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، لا شك أنَّ المفروضَ علينا الصلواتُ الخمس، كما قال لمعاذ: ((فأعلمهم أن الله افترضَ عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة)) [1] ، لكن رسول الله شرع لنا نوافلَ الصلاة، شرع لنا الرواتبَ التي قبل الصلاة [وبعدها]، وهي ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبلَ الفجر. وشرعَ لنا أيضًا أربعًا قبل الظهر، وسنَّ لنا أربعًا قبل العصر، وشرع لنا قيامَ الليل، ورغَّبنا ربّنا فيه، وحثنا عليه رسول الله ، وقال: ((أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد)) [2] ، وأخبر أن الدعاء في جوف الليل أسمع.
يا أخي المسلم، إذًا فحافظْ على نوافل الصلاة لتجبر ما عسى أن يكون حصل من نقصٍ عليك في فرائضك، ولئن كانت الزكاةُ المفروضة التي هي ركنُ [من أركان] الإسلام إنما هي في العام مرة، لكن شرع صدقةَ التطوع لترفعَ النقصَ وتجبر الخللَ، ولئن كان صوم رمضان هو الواجب وحدَه، لكن شُرع لنا صيامٌ آخر تطوعًا، ستّ من شوال، الخميس والاثنين، ثلاثة أيام من كل شهر، صوم التاسع والعاشر من المحرم، تسع ذي الحجة وبالأخص يوم عرفة، كلّ هذا ترغيبًا للمسلم في الطاعة حتى لا يسأم الطاعة، وتكون الأعمال الصالحة محبَّبة إلى نفسك.
أيها المسلم، صيامُ ستة أيام من شوال سنَّها لكم نبيّكم بقوله: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كمن صام الدهر)) [3] ، ذلكم أنَّ صيامَ هذه الأيام أولاً يدلّ على الرغبة في الخير وعدم السآمة من العمل الصالح، وثانيًا أنَّ في صيامها عنوانًا لتوفيق الله على قبول العمل، فإنَّ من علامة قبول العمل أن يوفَّق العاملُ بعد عمله لعمل صالح آخر، وأيضًا شكرٌ لله على إكمال الصيام والقيام، وهي كالراتبة بعد الفريضة. فعليك ـ أخي ـ بصيامها، وسواء صمتها مجتمعةً أو متفرقة إذا كان في حدود شوال، ولا تُصام الستّ من شوال إلا بعد استكمال قضاءِ رمضان، فمن عليه قضاء من رمضان، فليبدأ بالقضاء، ثم ليصمْ ستةَ أيام من شوال، لأن نبينا يقول: ((من صام رمضان وأتبعه بست من شوال)).
فصوموها ـ رحمكم الله ـ طاعةً لله، وحافظوا على نوافل الطاعة، لتقوى الفريضة في نفوسكم، وتحافظوا على ثواب فرائضكم، وأسأل الله أن يعينني وإياكم على كل خير، وأن يهدينا صراطَه المستقيم، وأن يوفّقنا لصالح الأقوال والأعمال، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1395)، ومسلم في الإيمان (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في الصلاة (482) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في كتاب الصيام (1164) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
(1/4161)
واجبنا تجاه العراق
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
2/2/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لمحات عن أحوال أهل العراق. 2- واجبنا تجاه أهل العراق: التوبة، التوكل على الله، الدعاء، الإكثار من العبادة، إبراز المفاهيم العقدية المتعلقة بالحدث، التحذير من معاونة الكافرين، الحض على مساعدتهم، الإعداد للجهاد، التوعية بخطورة هذه الحرب على الأمة، تفويت الفرصة على العلمانيين، رفع الروح المعنوية، بيان جوانب النصر، بيان حقيقة أمريكا وحلفائها، محاربة الكفار المحاربين بكل الطرق المتاحة، عدم الثقة في الأخبار التي ينقلها الكفار، بيان أن تسلط الكافرين نوع من الأذى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وما يزال الغزو الصليبي الأمريكي مستمرًّا على بلاد العراق، ويعيش إخواننا هناك أوضاعًا لا يعلمها إلا الله.
بكل أسى وحرقة نسمع ونبصر جرائم أمريكا وحلفائها في أرض العراق، من قتلٍ لأنفس بريئة، وإراقةٍ لدماء معصومة، وتدميرٍ لمساكن حصينة، وتشريدٍ للنساء والولدان، وتجويعٍ لأطفال رضّع، وبثِّ روح الأحزان والأسى على الثكلى والأرامل والمستضعفين، وجلب الخوف والقلق على الآمنين، ونهب لأموال محرّمة، وغصب لثروات ممتلكة، وبذل كل الجهود والطاقات في فرض القوة على شعب العراق وبقية الشعوب العربية والإسلامية، وتعبيد العالمين كلهم لبني الأصفر وعُبّاد الصليب، ووضعهم تحت سيطرتها وهيمنتها وسيادتها.
وكل يوم بل كل ساعة تُمطِر على العراق حمم القذائف والنار من الطائرات والصواريخ والدبابات والمدافع في أبشع صور الوحشية والطغيان واللاإنسانية من قبل رأس الكفر العالمي أمريكا، راعية الشر والوحشية، ومحترفة القتل والعنف.
فماذا يمكننا أن نفعل لإخواننا المسلمين هناك؟! وما الواجب علينا تجاه هذه المحنة؟! الواجب علينا أشياء كثيرة، وبوسعنا أن نفعل أمورًا كثيرة، من ذلك:
أولاً: التوبة إلى الله، فهذه الحرب بسبب ذنوبنا، فما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]. فيجب التوبة من الذنوب الفردية والذنوب الجماعية. أما الذنوب الفردية فيرتكبها صاحبها مستترًا، وقد يتوب إلى الله فيتوب الله عليه، ويردف السيئة بالحسنات، فينسى الناس ما كان بدر منه، ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان:71]، هذا النوع من المعاصي خَطْبه سهل مقارنة بالنوع الثاني وهو المعصية الجماعية، فإن لها شأنًا آخر، فهي من حيث التطبيق ينتظم فيها عدد كثير يتواطؤون على فعلها، ولا يزال هذا العدد يكبر ويكبر حتى يشمل المجتمع كله.
إن أثر المعصية الجماعية مدمّر ومخيف؛ لاتساع المساحة التي يظهر فيها شؤم هذا الأثر، فهي تُعرّض المجتمع الذي فشت فيه بأسره لغضب الله وانتقامه، وتجعله فاقد المناعة، يهوي ويندثر عند تعرّضه لأدنى هزّة.
لقد قصّ الله عز وجل علينا في القرآن الكريم خبر كثير من الأمم التي أهلكها بسبب المعاصي الجماعية، مثل قوم عاد: وتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وعَصَوْا رُسُلَهُ واتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود:59]، ومثل قوم لوط: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ ومَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82، 83]، ومثل قوم شعيب: ولَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وأَخَذَتِ الَذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود:94، 95].
وصور وألوان الذنوب الجماعية التي وقعت بها الأمة كثيرة لا عد لها ولا حصر، من رِبًا ومجون وفسق وشرك وبدع وحكم بغير ما أنزل الله وموالاة لأعداء الله وتقصير في تبليغ دعوة الله وإحجام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتبعية الثقافية والفكرية للغرب، ومن الذنوب الجماعية القعود عن تحصيل العلوم التي توصلنا للتقنية وصناعة الأسلحة. انظر لإسرائيل مثلاً، إسرائيل تعتبر من الدول الحديثة، ومع ذلك فهي تملك 200 رأس نووي، وتملك خبرة معلوماتية هائلة، ربما لا تنافسها إلاّ الولايات المتحدة، لكنها عملت بجدّ وتحدّ ومعاناة طويلة حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ ولَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ [الأعراف:96-99]. فالأمة التي تعود إلى طريق الرشاد وتصْدقُ في التوبة والإنابة إلى رب العباد يفتح الله لها، ويرفع من شأنها، ويعيدها إلى عزتها ومجدها، وينقذها من وهدتها التي انحدرت إليها، وينجّيها من الخطوب التي تحيط بها نتيجة الذنوب التي ارتكبتها والمنكرات التي أشاعتها.
وإذا أردت مثالاً على توبة الأمة من القرآن الكريم فتأمل في قول الله تعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ومَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِينٍ [يونس:98]. هؤلاء القوم الذين ذُكِروا في هذه الآية هم قوم يونس عليه السلام، وقريتهم هي نينوى التي تقع شرقي مدينة الموصل في شمالي العراق. ومعنى الآية ـ كما قال المفسرون ـ أن قوم يونس عليه السلام لما أظلّهم العذاب وظنوا أنه قد دنا منهم وأنهم قد فقدوا يونس عليه السلام قذف الله في قلوبهم التوبة، وفرَّقوا بين كل أنثى وولدها، وعَجُّوا إلى الله أربعين ليلة، ورفعوا أصواتهم بالتلبية والدعاء، فلما علم الله منهم صدق التوبة كشف عنهم العذاب، وقال: ومَتَّعْنَاهُمْ إلَى حِين [يونس:98] أي: لم نعاجلهم بالعقوبة.
فما أحوج أمتنا اليوم إلى أن ترجع إلى الله منيبة تائبة من جميع الذنوب، خصوصًا الذنوب الجماعية، وفي مقدمتها البعد عن الدين وترك التحاكم إلى ما أنزل الله وموالاة أعداء الله وترك الجهاد في سبيل الله، ليرضى الله عنها، ويرفع عنها هذا البلاء الأمريكي الذي نزل بها.
ثانيًا: التوكل على الله والركون إليه والاعتماد عليه، ومن ذلك الدعاء ليزيح الله هذه الغُمّة عن الناس، وأن نستمر في الدعاء مع الإلحاح على الله، مع فتح أبواب التفاؤل وحسن الظن بالله واليقين بنصر الله لدينه وعباده، ومقاومة أسباب الإحباط والخوف، قال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقال تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186]. ومهما كانت تقديرات البشر فهي في النهاية مربوطة بقدر الله سبحانه، وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]، ولذلك يجب الإكثار من الدعاء هذه الأيام، والتوكل على الله وحده، واللجوء الصادق إليه.
ومن الدعاء في هذه المحنة القنوت في الصلوات، وخاصة صلاتي الفجر والمغرب، فينبغي لأئمة المساجد والجوامع القنوت وعدم التوقف، فإن هذا الحدث من النوازل بالأمة التي ينبغي فيها القنوت والمواصلة حتى يكشف الله الغُمّة عن البلاد والعباد، وينبغي الاقتصار في الدعاء على النازلة، وقنوت النوازل ليس له صيغة معينة، فيدعو الإمام بما يناسب الحال، والقنوت يكون في الصلوات الخمس في صلاة الجماعة، أما القنوت في صلاة الجمعة والنوافل وللمنفرد فلم يثبت بذلك حديث أو أثر صريح، والصحيح أيضًا أنه لا يشترط إذن جهة معينة للقنوت، نص على هذا الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى.
الدعاء ـ معاشر الأحبة ـ له أثر عظيم، وأحيانًا لجهلنا ببعض الأمور المتعلقة بالدعاء وعدم رؤيتنا النتائج القريبة قد يترك بعضنا ذلك. فمثلاً: ما يدريكم بأن القنابل والصواريخ التي صبّها العدو الأمريكي على مسلمي العراق كانت ستحدث أضرارًا أعظم من هذا، ولكن الله جل وتعالى خفّف ودفع مكروهًا أعظم عن مسلمي العراق بسبب دعاء الصالحين من أمثالكم؟!
جانب آخر: من المعروف دقة التقنية لدى الغرب عمومًا ولدى القوات المعتدية على العراق خصوصًا، فبماذا نفسر بعض الذي حدث من مثل تصادم بعض طائراتهم وسقوطها وموت طاقمها؟! وبماذا نفسر قصف بعض طائراتهم لمواقعهم العسكرية؟! وبماذا نفسر دهس بعضهم بعضًا بالدبابات والشاحنات؟! وبماذا نفسر غرق بعض قوات المارينز البحرية؟! وبماذا نفسر سقوط بعض طائراتهم الحربية من البوارج في بحر الخليج؟! وكل هذا قد نشروه هم وتناقلته وكالات أنبائهم، وعدد من الأخطاء الفادحة والغريبة، أما هم فتحليلاتهم تقول: كل هذا حصل خطأً! وأما نحن فنقول: لماذا لا يكون كل هذا بسبب دعاء بعض المسلمين الصادقين المخلصين ممن إذا أقسم على الله أبره الله؟!
ثالثًا: الإكثار من العبادة، صح عن رسول الله أنه قال: ((العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ)) ، والهَرْج هو القتل؛ لأن معظم الناس في حال الفتن والحروب والمصائب ينشغلون بها، وربما انشغلوا بأنفسهم وأولادهم، والقليل هم الذين يعلمون بأن من الأمور المعينة على تجاوز المحن والمصائب هو الإكثار من العبادة، بل إن أجر العبادة في الهَرْج بأجر الهجرة إلى النبي.
فأكثروا ـ رحمني الله وإياكم ـ في هذه الأيام من الصلاة والصيام والصدقة والدعاء والاستغفار وصلة الرحم والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتركيز على عبادات القلوب من الإخلاص والتوكل والإنابة والخشوع والخضوع لله رب العالمين ومجاهدة النفس في إصلاحها وغيرها من العبادات، لعل الله أن يرحم ضعفنا، ويزيل هذه الكربة عنا وعن المسلمين.
رابعًا: إبراز المفاهيم الإسلامية والأصول العقدية والشرعية المتعلقة بهذا الحدث، من مثل مفهوم الولاء والبراء وأن عداوة الكفار للمسلمين سنة ماضية بيّنها الله تعالى في كتابه، قال عز وجل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، وقد اقتضت حكمة الله عز وجل أن يبتلي عباده المؤمنين بالكافرين والكافرين بالمؤمنين؛ لينظر من يطيعه سبحانه ويجاهد في سبيله، ومن ينكص على عقبيه ويتولى الكافرين ويتبع غير سبيل المؤمنين، قال الله تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وقال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، ولذلك فنحن لا نستغرب ما يخطط له الكفار من القضاء على الإسلام، فهذا هو الأصل عندهم، وإن كان ذلك مستحيلاً، فدين الإسلام باق محفوظ إلى قيام الساعة، ولا يجادل في عداوة الكفار للمسلمين وكيدهم لهم ومكرهم بهم من له بصيرة بما أنزل الله على رسوله وبصيرة بالتاريخ والواقع.
خامسًا: تحذير المسلمين عمومًا وفي العراق خصوصًا من تقديم أي عون مادي أو معنوي أو أي نوع من أنواع التسهيلات لأمريكا ودول التحالف معها في عدوانها الغاشم على العراق، فإن ذلك من الظلم العظيم والبغي البيّن، وعلى الباغي تدور الدوائر، وقد نص العلماء على أن إعانة غير المسلمين في حربهم على المسلمين يحرم بالإجماع القطعي؛ لقوله تعالى في شأن مناصرة غير المسلمين: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، قال الإمام ابن حزم رحمه الله: "هو على ظاهره بأنه كافر من جملة الكفار، وهذا حق لا يختلف فيه اثنان من المسلمين"، واحتج الإمام القرطبي رحمه الله في تفسيره بهذه الآية على ردّة من أعانهم، وقد عدّها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نواقض الإسلام، ونقل الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله الإجماع على ذلك فقال في فتاواه: "أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من أنواع المساعدة فهو كافر مثلهم"، واحتج رحمه الله بهذه الآية: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].
فلا يجوز لأي مسلم فردًا كان أو نظامًا أن يقف مع الصليبيين ضد إخوانه في العراق، فإن هذا ردّة عن دين الله، وليس هناك عذر يبرّر للمسلم أن يفعل ذلك، حتى لو أُكره لم يجز له أن يفتدي نفسه بقتل إخوانه. ويدخل في ذلك أيضًا العقود التجارية التي أبرمها عدد من التجار والشركات مع القوات الغازية المعتدية من تأمين المواد الغذائية وغيرها مما هم في حاجة له. ولا يُعرف في تاريخ المسلمين كله ولا في علمائهم من أفتى بجواز إعانتهم على المسلمين، وليس لبعض الذين جوّزوا معاونة الأمريكان في هذه الحرب سلف، اللهم إلا ما كان عن نصير الطوسي الذي شجع التتار على دخول بغداد سنة 656هـ بدعوى رفع الظلم عن أهلها، فقَتل التتار مليوني مسلم.
وهؤلاء الذين استحسنوا ضرب العراق من المسلمين بحجة أن نظامها حكم بعثي كافر، فنحن لا نخالفهم في أن حزب البعث حزب كافر، لا شك أن النظام العراقي نظام بعثي فاجر، وقد كان طيلة وجوده في الحكم حربًا على الإسلام وأهله، وقتل العديد من الدعاة إلى الله تعالى، وحارب الكثير من الأنشطة والأعمال الدعوية، ومن آخر جرائمه ما فعله في حَلَبْجَه، حيث قتل الآلاف من المسلمين بالأسلحة الكيماوية، وقاد بلاده للحصار سنوات عدة، وكانت أعماله سببًا للوجود الغربي في المنطقة. ورغم ما فعله هذا النظام فهذا لا يُسوّغ الوجود الغربي في المنطقة، والخطأ لا يُعالج بخطأ، فالشعب العراقي شعب مسلم، ولا يتحمّل جرائم نظامه الفاجر، ومن واجبنا أن نقف مع هذا الشعب في حصاره قبل هذا الحدث، وقد قصّرنا كثيرًا في ذلك، ويتأكد وقوفنا معه الآن في هذه المحنة، ويجب أن نفرّق بين النظام وبين الشعب، والقول بأن العدوان هو على الحزب لا على العراق وشعبه تضليل واضح؛ إذ لا يمكن فك الارتباط بين الشعب والدولة والنظام، لا واقعيًا ولا سياسيًا ولا قانونيًا، فأي عدوان خارجي على حكومة دولة ما هو عدوان بالضرورة على شعبه وأرضه، وهذا ما لا خلاف فيه بين دول العالم، ولهذا لا يفرق ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي في حكم العدوان الخارجي على الدول بين العدوان على الأنظمة والعدوان على الشعوب والأوطان لاستحالة الفصل واقعيًا؛ إذ الحرب لا تقتصر عند وقوعها على النظام فقط، بل تشمل الأرض والشعب، ويقع الضرر والدمار عليهما قبل أن يقع على النظام، فمن أجاز الاعتداء الأمريكي على العراق بحجة أن نظامها نظام بعثي فقد أجاز ضرورةً الاعتداء على الشعب العراقي المسلم الذي سيضطر أن يدافع عن أرضه ونفسه وماله وعرضه وإن لم يدافع عن النظام، كما أنه لن يكون في مأمن من القصف والتدمير حتى وإن لم يقاتل. ونحن نتمنى زوال الحكم البعثي في العراق، لكن ليس بأيدي الأمريكان النجسة، بل نتمنى زواله بأيدي المسلمين المتوضئة.
سادسًا: حضّ الناس وحثّهم على مساعدة ودعم المسلمين في العراق، وإغاثتهم من خلال المؤسسات الخيرية والإغاثية والقنوات الرسمية وغير الرسمية والشعبية؛ لتخفيف محنتهم وأداء الواجب نحوهم، فلو كان ما يتعرض له المسلمون في فلسطين والشيشان والعراق وغيرهم يتعرض له قطيع من البهائم لما جاز السكوت عليه، فكيف وهم أناس ومسلمون؟! فيجب على المسلمين أن يقفوا مع إخوانهم أهل السنة في العراق، ويمدّوا لهم يد العون والإغاثة بالغذاء والدواء وغير ذلك، ويناصروهم في ردّ العدوان الصليبي الآثم.
سابعًا: إعداد الأمة عقليًا وفكريًا وعسكريًا وإحياء معاني الجهاد والرجولة والشجاعة والبطولة في نفوس الأمة وتربيتها على ذلك، فالجهاد ماض في الأمة إلى يوم القيامة كما أخبر النبي بذلك، فهو سياحة الأمة ودرعها الذي تواجه به عدوها، وما ذلت الأمة إلاّ يوم أن تخلّت عن الجهاد، وأصبح شبابها غزلانًا وحملانًا جَفُولةً وديعة، بعد أن كانوا أسودًا ضارية وصقورًا حامية. ويجب استلهام السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي في ذلك، فلا مكان للبطّالين والمخذّلين خصوصًا في الأزمات. إن عدد المسلمين الآن يزيد على المليار مسلم، ولو استطعنا توظيف 5 في المائة فقط لكان هذا عددًا ضخمًا يمكن أن نصنع من خلاله الشيء الكثير.
ثامنًا: دور العلماء والدعاة والخطباء وأئمة المساجد وطلبة العلم في التوعية بخطورة هذه الحرب على مستقبل الأمة في مختلف جوانب حياتها الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، من خلال الكلمات والدروس والمحاضرات والخطب، وكيف يمكن مقاومة هذه المخاطر وسبل مواجهتها وتحريك الشعوب ليكون لها دور في مقاومة هذا العدوان. ويحسُن إخراج مطويات ونشرات صغيرة مخصوصة لهذا الحدث، تُوصّل من خلالها الفتاوى والبيانات والمعاني الشرعية الصحيحة للناس.
تاسعًا: عدم ترك الفرصة للعلمانيين للتحدث باسم الأمة والنيل من دينها وتاريخها وثوابتها، وبيان أن كل ما أصاب الأمة بسبب النظام القائم في العراق إنما هو إحدى الثمار المرّة للفكر العلماني، وقد سبقها الكثير وما هزائم (48) و(67) أمام اليهود، وما جنته الأمة في ظل المد الناصري العلماني إلا ثمار أخرى، وستبقى أمتنا تعيش هذه المآسي ما دام هذا الفكر العقيم الغريب يعشِّش في واقعها وينخر في جسدها.
عاشرًا: رفع الروح المعنوية للأمة، وبيان معنى النصر وحقيقته الشرعية، والتحذير من الهزيمة النفسية والمعنوية، والحذر من ترويج الشائعات ومن محاولات عرض أحكام الشريعة عرضًا اعتذاريًا منهزمًا، ومكافحة محاولات البعض للتنازل والمداهنة باسم المصلحة أو الضرورة أو الحالة الراهنة، وبيان أن النصر الحقيقي هو في الثبات على الدين خاصة أوقات الفتن والمحن، والحذر من الوقوع فريسة للحرب الإعلامية والنفسية الضخمة التي تدور رحاها هذه الأيام، والحذر من المواقف الرخوة التي تزيد من وهن الأمة وضعفها.
الحادي عشر: بيان جوانب النصر في هذه الأمة، والتي تتحقق على أرض الواقع والتقدم الذي يحرزه الإسلام وأهله في ميادين شتى، جهاديًا كالشيشان وأفغانستان وفلسطين، وشعبيًا كهذه الصحوة المستمرة والمتنامية اليوم في كل مكان والحمد لله، والإقبال على الإسلام في أمريكا وأوربا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر رغم الهجمة الشرسة، ورضوخ العالم إلى الاعتراف بالأمر الواقع الذي تجاهلوه طيلة قرون، وتعاملهم مع هذا الدين كواقع عالمي حتمي. فتصريحات فرعون أمريكا عن الإسلام ومدحه في كل مناسبة وإن كانت تأتي في سياق مَكْرِه بالمسلمين وحملته على الإرهاب إلا أنها تدل على ما نحن بصدده.
اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب، اللهم اهزم أمريكا ودمرها، وأبعد شرها عنا يا رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ومن واجبنا تجاه العراق أيضًا:
الثاني عشر: بيان حقيقة الولايات المتحدة الأمريكية خصوصًا والغرب عمومًا، وأن جزءًا من هيبتها إنما هو وَهْمٌ صنعه الإعلام، وصنعه الآخرون المنهزمون، وصنعه بعض الدعاة والسياسيين، وبيان أن أمريكا لا تملك أن تصنع شيئًا في العالم الإسلامي دون تعاون دوله معها كما حصل في حرب أفغانستان، وكما يتوقّع في حرب العراق، ونسأل الله أن لا يكون، وأن قوة أمريكا هو في قدرتها على تفريق الآخرين والتفرد بهم واحدًا واحدًا كما يحصل الآن، وأنه يمكن تحييد ترسانة أسلحتها الضخمة من خلال حروب الاستنزاف الطويلة كما في أفغانستان، ومن خلال العمليات الاستشهادية كما في فلسطين، وأن السياسة الأمريكية واجهت فشلاً وهزائم عديدة في عصرها الحديث منذ الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861م إلى حرب أفغانستان عام 2001م مرورًا بحرب فيتنام في السبعينات ثم لبنان فالصومال وهجمات الحادي عشر من سبتمبر التي حطمت جانبًا من الأسطورة الأمنية الأمريكية، والحذر من أن نصنع الوهم بأنفسنا لعدونا بتقليل انتصاراتنا وتقليل هزائمه أو تضخيم واقعه.
الثالث عشر: إبراز طبيعة الغرب الصليبي، وأنه مهما تحالف معه المسلمون وقدّموا له التنازلات فلن يرضى عنهم، كما قال الله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقال عز وجل: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة.
الرابع عشر: كشف حقيقة الدعاوى الأمريكية بالتحضر والإنسانية ببيان ممارساتهم العنصرية ضد الآخرين، خاصة الجاليات والمؤسسات الإسلامية داخل أمريكا، وانتهاكهم لحقوق الأسرى في جوانتانامو، وبيان أن قيم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية هي قيم عنصرية يمارسونها مع شعوبهم الأصليين وداخل أوطانهم، فمعاييرهم مزدوجة، ومكاييلهم مطفّفة، فمعسكر الأسرى في كوبا أقيم هناك للخروج من طائلة القانون الأمريكي الداخلي، وإقامة مركز للتحقيق في الأردن لمن تعتقلهم أو تختطفهم أمريكا لتمارس أساليب في التحقيق لا يسمح بها القانون الأمريكي، ويتعارض مع قيم حقوق الإنسان.
الخامس عشر: إيصال كل أذى ممكن للأعداء المحاربين من المقاطعة التجارية لبضائعهم، والردّ عليهم باللسان والقلم لإخزائهم وإغاظتهم وبيان كفرهم وشركهم وإيذائهم لله ورسوله والمؤمنين، ونشر ما أمكن من المواد المسموعة والمقروءة حول هذا الموضوع الخطير بكل الطرق، ومنها وسائل الإعلام وشبكة الإنترنت، مع ربط ذلك بالعقيدة الإسلامية وكلام الله وكلام رسوله.
السادس عشر: عدم الاعتماد على أخبار الكفار وتحليلاتهم، فإن أمريكا تعتمد في حروبها على الحرب الإعلامية والكذب وترويج الشائعات ومحاولة بلبلة الطرف الآخر؛ لذا رأينا أنها حاولت منذ بداية الحرب تعطيل الإعلام العراقي بضرب محطاته ومحاولة تعطيل التلفاز لعدم وصول الصورة والرأي الآخر للعالم، لكي يتحكموا هم في كل ما يراه العالم ويسمعه، ومثله تعطيل صفحة الجزيرة الإخبارية على شبكة الإنترنت.
ومن كذب أمريكا المكشوف ادعاؤها تحرير العراق وجعله بعد نظامه القائم دولة الرفاهية والديمقراطية، وأن هذه الحرب هي معركة تحرير للشعب العراقي، وأنها قد رصدت المليارات لإعمار العراق بعد الحرب، وكل هذا من الدجل والكذب المكشوف، فقد سمعنا مثل هذه الأسطوانة عند غزوها الصليبي لبلاد الأفغان، فأين هو إعمار أفغانستان؟! لكنها شنْشنة نعرفها من أخزم. لقد دكّت أمريكا أفغانستان، وخرّبت بلاد المسلمين هناك، وهدمت بيوت المدنيين الآمنين ومساجدهم ومدارسهم، ثم تركتهم يعانون الفقر والجوع والمرض، وستفعل لو تمكنت نفس الأمر بالعراق، وقضية إعمار العراق والتي يطنطن بها أيضًا ـ مع كل أسف ـ بعض المحطات العربية المجاورة للعراق كذب ودجل.
ومن الكذب الأمريكي أيضًا اتهام الدولة التي تحاربها بأنها تستخدم دروعًا بشرية لتجد مخرجًا ومبرّرًا سياسيًا إذا ضربت المدنيين، فتقول: هؤلاء هم الدروع البشرية التي استخدموها في الحرب.
وأيضًا من الكذب الأمريكي عمل مسرحية بإرسال بعض الصواريخ على الكويت مثلاً واتهام العراق بذلك، وأن مضاداتها تمكنت من إسقاطه، كل هذا لتهيئة الرأي العام لقبولها ودعمها.
السابع عشر: بيان أن التحدي الذي يواجهه المسلمون من قبل أمريكا هو من نوع الأذى الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى [آل عمران:111]، وإلاّ فإن العاقبة للتقوى والمتقين، وهم أهل الإسلام الصادقون، وخاصة أن العدوان الصارخ والظلم الجارح الواقع على المسلمين سيكون بإذن الله سببًا في إيقاظ الأمة من سباتها وانتشالها من غفوتها، فالأمة ضعفت كثيرًا ونامت عميقًا، فبقدر ما تكون الصدمة عنيفة يكون الاستيقاظ سريعًا، وبقدر ما يكون التحدي بقدر ما يكون سببًا في استدعاء روح المقاومة، وبوادر ذلك تحدث فعلاً على أرض الواقع إن شاء الله تعالى.
يا ألف مليون تكاثر عدّهم إن الصليب بأرضنا يتبخترُ
فالحرب دائرة على الإسلام يا قومي فهل منكم أَبَيٌّ يثأرُ
إنا سئمنا من إدانة مُنكرٍ إنا مللنا من لسانٍ يزأرُ
يتقاسم الأعداء أوطاني على مرأى الورى وكأننا لا نشعرُ
أين النظام العالَمي ألا ترى شعبًا يُباد وبالقذائف يُقبرُ
أين العدالة أم شعار يحتوي سفك الدماء وبالإدانة يُسترُ
مادام أن الشعب شعب مسلمٌ لا حَلّ إلا قولهم: نستنكرُ
يا أمتي والقلب يعصره الأسى إن الْجراح بكل شبرٍ تُسعِرُ
والله لن يَحمي رُبَى أوطاننا إلا الْجهاد ومصحف يتقدّر
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعزّ الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين والكفرة الملحدين، واحم حوزة الدين...
(1/4162)
مدافعة الكفار وأحداث الفلوجة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/2/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حتمية المدافعة بين الإسلام والكفر. 2- الأساليب الجديدة في غزو المسلمين. 3- زيف دعاوى عدل الكفار. 4- خطورة ترك الجهاد. 5- تأمل السنن الكونية. 6- وجوب نصرة المسلمين. 7- بقاء الجهاد إلى يوم القيامة. 8- وجوب كف اللسان في الفتن. 9- التحذير من اليأس والقنوط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن المدافعة بين الإسلام والكفر ضرورية لحياة الشعوب وبقائها، وكل شعب فَقَدَ استشعار المدافعة فَقَدَ الحياة ولا محالة، فأكلته شعوب الكفر، وطحنه تنازع البقاء، وذهب أقسامًا بين أشتات المطامع والأهواء، قال الله تعالى: وَلَوْلاَ دَفْعُ ?للَّهِ ?لنَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ ?لأرْضُ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [البقرة:251]، وقال تعالى: وَتِلْكَ ?لأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [آل عمران:140].
أيها المسلمون، يخطئ كثيرًا من يظن أن هزائم المسلمين في عصرهم الحاضر كانت بدعًا في تاريخهم الطويل، كلا، فالأمر ليس كذلك، بل إن أمر المسلمين قد يعلو تارة، وينحدر أخرى، بمقدار قربهم من ربهم وإحيائهم لسنة الجهاد في سبيل الله، قال رسول الله : ((من لم يغز أو يجهّز غازيًا أو يخلُف غازيًا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)) رواه أبو داود وابن ماجه بسند جيد، والقارعة هي الداهية؛ لذا فقد هبط أمر المسلمين في قرون مضت، حتى اغتُصِب الحجرُ الأسود بضعَ سنين، فما عاد إلى موضعه إلا بعد مناجزة وقوة، ولكن هذا التاريخ الذي انحدر فيه أمر المسلمين سرعان ما انقضى، وهكذا أصبح تاريخ المسلمين يتأرجح بين مَدّ وجَزْر، في صورة حقيقة لا تنكر.
أيها المسلمون، إن الناظر في واقع العالم اليوم إن كان ذا لُبّ وبصيرة فإنه لن يتمالك من قوة الفهم إلا أن يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أشبه اليوم بالأمس. فها هو التاريخ يعيد نفسه، تتغير مراكز القوى، وتنقلب معايير النفوذ والاتساع، حتى أصبحت متمركزة في معسكرات الكفر، بحيث لا تفسّر إلا بالقوة التي كان يمارسها الجاهليون ضد الإسلام، وإن كان دور أهل الكفر الذين سيطروا على المسلمين في قرون مضت لا يتجاوز سيوفًا ضربوا بها هام المسلمين ففلقوها، واحتزّوا الرقاب فقطعوها، وضربوا منهم كل بنان، حتى يقول الكافر للمسلم: قف مكانك حتى آتي بسيفي لأقتلك، فيقف المسكين مكانه لا يحرّك ساكنًا، حتى يأتي ذلك الرجل فيقتله، كما حدث ذلك عندما سقطت حاضرة الخلافة بغداد في يد التتار المجرمين.
نقول: إن كان ذلك هو أسلوب أهل الكفر في ذلك الحين فإن أسلوبهم في هذا العصر ينطلق من محاور متعددة، أورثت لدى المسلمين جبنًا وخورًا. انطلقوا يغزونهم في عدة ميادين، تمثّلت في إذكاء التخلّف العلمي والتخلّف الاقتصادي والإعلامي والتحدّي الثقافي في مجال الدراسات الإسلامية والدراسات التاريخية والأدبية واللغوية والتحديات الاجتماعية وإثارة الحروب الأهلية والنعرات الطائفية، ومع ذلك بقيت أساليب العصور الوسطى تُمارَس إلى اليوم ومن دول كانت تدّعي الديمقراطية والعدالة، وإلا فأين العدالة بما يحصل هذه الأيام في العراق؟! لقد تحوّلت إلى فلسطين أخرى، اليهود هناك والنصاري هنا. تُمارس القوات المحتلة المعتدية أبشع صور انتهاك حقوق الإنسان، هذا هو اليوم الخامس أو السادس، وهناك حصار قذر على مدينة الفلّوجة، قُطِع عن أهلها الغذاء والدواء والماء، وضُرِبت المساجد بالطائرات، وقُصِفت البيوت فوق رؤوس الأطفال والنساء. والعجيب هذا الإقرار من العالم كله، ولا أحد يتكلم حتى مجرد الكلام ويقول للظالم: إن هذا ظلم، على الأقل يقال: هذا عيب.
إن أملنا بعد الله عز وجل في رجال الفلّوجة الأبطال. إن شعوبًا لا تعرف إلا الله لن يغلبها من لا يعرف الله، وإن من لا يعرف إلا الحق لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل.
معاشر المسلمين، إن أهل الكفر هم أبعد الناس عن العدالة، وأنأى الناس عن الرحمة، وإن زعموا العدل في محاكمهم الدولية أو مجالسهم ومقرراتهم الدستورية، لقد صار غبيًّا عندهم من يحاول أن ينال حقّه باسم العدالة أو الرحمة الدولية أو القوانين الخاصة أو العامة أو باسم المدنية والإنسانية، وصار المغبون حقًّا هو ذلك الضعيف المهزول الجاثي على ركبتيه المهزولتين أمام تلك القوى الكافرة الظالمة، يستجديها حقَّه، ويسألُها إنصافَه، ويطلبُ إليها بمدْمَعه لا بمدفَعه، ويناديها باسم المدنية وباسم الحقوق الإنسانية، فصار لا يوجد العدل إلا حيث يوجد الجور، ولا يوجد السِّلم إلا حيث توجد الحرب، وصارت القوى الكافرة الظالمة لا تذكر العدالة ولا الحقوق الإنسانية إلا إذا تحدّثوا إلى الأقوياء الباطشين أمثالهم، أما الضعيف العاجز عن المدافعة فما له عندهم إلا التلويح بالعصا الغليظة والقَصْف والسَّحْق. كل ذلك ـ أيها المسلمون ـ مصداقٌ لقول المصطفى : ((يوشك أن تَتَدَاعَى عليكم الأمم كما تَتَدَاعَى الأَكَلَة إلى قصعتها)) ، قيل: أوَمن قلّة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: ((لا، أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل)) أخرجه أبو داود وأحمد.
هجمت على المسلمين الدنيا فتنافسوها، فقلبت موازين الحياة عندهم، نسوا قول الله عز وجل: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60]، ونسوا قول الله تعالى: فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ [آل عمران:175]، وقول الله عز وجل: إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِي يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160]، ونسوا قول المصطفى : ((إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود وأحمد. لمّا نسيت الأمة كل ذلك وتركت الجهاد أدَال الله الأمم عليها، وسلّط عليها الفتن.
أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى فرض الجهاد على المسلمين، وجعله ذروة سنام هذا الدين، ناشر لوائه وحامي حماه، بل لا قيام لهذا الدين في الأرض إلا به، فإن هذا الدين لا يقوم إلا كما قام أول مرّة تحت ظلال السيوف، به نال المسلمون العزّ والتمكين في الأرض، وبسبب تعطيله حصل للمسلمين الذلّ والهوان والصَّغَار، واستولى علينا الكفار، بل تداعت علينا أرذل أمم الأرض كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، وأصبحنا مع كثرتنا غثاءً كغثاء السيل، نزع الله المهابة من قلوب أعدائنا، ووضعها في قلوبنا، وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ذلّوا. لقد حثّ الله المؤمنين على القتال، وحذّرهم من التقاعس عن الجهاد والركون إلى الدنيا الفانية، فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ ?نفِرُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ ?ثَّاقَلْتُمْ إِلَى ?لأرْضِ أَرَضِيتُم بِ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا مِنَ ?لآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
إن الجهاد هو الجهاد: بذل لكل ما يمكن من الجهود في سبيل الله، ومدافعة أعداء الله وأعداء رسوله بكل ما يستطاع من القوة؛ قوة البدن وقوة السلاح وقوة المال وقوة العلم والمعرفة، على هذا استقر الإسلام يوم استقر، وبعيدًا عن هذا الفهم الجامع لمعنى الجهاد نزلت بنا الكوارث وفُعلت بنا الأفاعيل.
معاشر المسلمين، إنها فتن لا عاصم منها بعد الله عز وجل إلا النظر في سنن الله عز وجل الكونية ومعرفة أصول الدين الكلية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل. من هذه الأصول والذي ينبغي أن لا يغيب عنك ـ أيها المؤمن ـ أن كل ما أصاب هذه الأمة من ضعف أو ذل أو هزيمة أو فقر فبذنوبها ومن عند أنفسها، مع أن الله لطيف بها، فلا يُسلّط عليها من يستأصلها، ولا يكون بلاؤها كلَّه عذابًا، بل منها الشهيد المصطفى، ومنها المقتول المكَفَّر عنه بالقتل، ومنها المصاب المخفَّف عنه العقوبة في الآخرة، أما إذا اعتصمت بحبل الله وأنابت إليه وتركت الذنوب فلها النصر والعزّة والتمكين في كل ميدان، وما أعداؤها الكتابيون أو المشركون وحكّامها الجائرون ومنافقوها الماكرون إلا بعض ذنوبها، ثم الله يسلّط عليهم جميعًا بذنوبهم من يسومهم سوء العذاب من داخل الأمة أو من خارجها.
ومن هنا كان أولى خطوات التغيير التوبة والضراعة، وقد خرج أهل العراق على الحجاج ليقاتلوه، فقال الحسن البصري رحمه الله: "يا أهل العراق، إن الحجاج عذاب الله سلّطه عليكم بذنوبكم، فلا تدفعوا عذاب الله بأيديكم، ولكن توبوا إليه يرفع عذابه عنكم، فإنه يقول: وَلَقَدْ أَخَذْنَـ?هُمْ بِ?لْعَذَابِ فَمَا ?سْتَكَانُواْ لِرَبّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]".
أيها المسلمون، ومن الأصول حقيقة قرآنية نصّ عليها ربنا جل وعلا، لا بد أن يضعها المسلم نصْب عينيه، وهي أنه مهما فعل المؤمن ومهما قدّم من تنازلات فإنه لا يمكن أن يرضي أعداء الله عز وجل إلا في حالة واحدة، بيّنها ربنا لنبيه فقال: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120]، فبيّن جل وعلا لنبيه وهو سيد الخلق وأرحمهم وأعلمهم بالسياسة وأحكمهم وأحسنهم حكمة وتعاملاً مع عباد الله أنه لا يمكن له أن يرضي اليهود والنصارى مهما فعل إلا إذا اتبع دينهم وملتهم، ثم بيّن جل وعلا أنهم ليسوا على دين، وليسوا على ملة، فقال: وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120]. تأمّل ـ يا عبد الله ـ لا ينصره الله ولا يتولاّه إن هو أطاع أهواء أهل الكتاب من اليهود والنصارى.
ومن الأصول أن نُصرة الدين وتولّي المؤمنين فرض عين على كل مسلم، وهو مقتضى العقيدة والدين الذي ضمَّنتَه قلبك وعبدت به ربك، وأن هذه النصرة ليس لها صورة محددة، بل تشمل ما لا يدخل تحت الحصر من الوسائل، ولا تقتصر على القتال وحده، فالجهاد بالمال نصرة، وكذلك بالإعلام وبالرأي والمشورة وبنشر العلم وبالعمل الخيري وبنشر حقائق الإيمان وقضايا العقيدة، ولا سيما عقيدة الولاء والبراء والدعاء للمسلمين وموالاتهم ومحبتهم ونحو ذلك، كل ذلك نصرة، وليست النصرة في البدن فقط ولا القنوت فقط ولا المال فقط، بل إذا لم تتيسر النصرة بإحدى الصور ففي صور النصرة الأخرى فُسْحة. وإن المسلمين في العراق اليوم ينتظرون النصرة من إخوانهم المسلمين، فقد نزل بهم بلاء شديد عصيب، نسأل الله تعالى أن يفرّج عنهم، فقد تسلّط عليهم رعاة البقر وأقذر شعوب الأرض ممن تاريخهم تاريخ أسود في القهر والظلم والإبادة.
أيها المسلمون، إن جراحات المسلمين اليوم في العراق قد تعددت وكثرت، فهذه امرأة تصرخ بهدم الكفار بيتها عليها وعلى أولادها، وهذا شيخ عجوز يُقتل أولاده أمامه، وهذه طفلة مشرّدة فقدت أهلها بسبب قتل الكفار لعائلتها، فقد عرضت وسائل الإعلام صور عائلة من 26 شخصًا ماتوا جميعًا عن بَكْرة أبيهم جرّاء القصف، ولم يبق منهم إلا طفل له ستة أشهر.
فيا طفلة العراق، لماذا يقتلك الكفار؟! ما ذنبك؟! هل تخبئين في حقيبتك وبين لعبك أسلحة الدمار الشامل؟! لماذا يطلقون عليك القنابل؟! مسكينة طفلة العراق. تحدّرت دمعتاها لَما تمادى أساها
تُكَفكِف الدمع حَيْرى ضاقت به وَجْنتاها
تمضي إلى أين تمضي والبؤس رهنُ خطاها
كفلقة البدر نورًا يذوب فيها سناها
كظبية الروض حسنًا سبحان من قد براها
كبرعم الزهر ألقت به الحروب رحاها
صاحت بها القاذفات فجرّعتها لظاها
أحالت الليل صبحًا ملطّخا بدماها
تُسائل الصمتَ عمّا جرى وماذا دهاها
والجوع قد شلّ منها أركانَها وطواها
والبرد سلّ سياطًا من الأسى قد براها
تأوي لبعض ركامٍ تأوي به فِي دجاها
أيها المسلمون، ومن أصول عقيدة أهل السنة والجماعة أن الجهاد ماضٍ إلى قيام الساعة، مع كل من حمل الرايةَ لنصرة الدين وصدِّ عدوان الكافرين، برًّا كان أو فاجرًا، ومن الهزيمة النفسية أن ترتفع الأصوات من هنا وهناك في تحريف مفهوم الجهاد أو تضييقه وحصره في مراحل تاريخية ماضية أو بشروط قد لا تتحقق إلى يوم القيامة.
أيها المسلمون، ومن الأصول والثوابت أن يقال: إن من أدب الإسلام في الفتن كفُّ اللسان وحبسه وعدم إطلاقه للخوض في المسائل الكبار التي فيها نصوص قاطعة لا تقبل تحريف الجاهلين ولا انتحال المبطلين، لا يتكلم فيها إلا العلماء العاملون والدعاة المخلصون، ولذا فإنا نتوجّه بالمناشدة إلى الكتّاب والمذيعين والمتحدثين أن يتقوا الله فيما يقولون، فربما أعانوا على قتل مسلم بكلمة أو بشطر كلمة، فأوبقت دنياهم وآخرتهم، وأحبطت أعمالهم عند الله، فإن ((الرجل يقول الكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفًا)) كما أخبر الصادق المصدوق.
إن أمة تعيش حالة الحرب الشاملة يجب أن تكون أبعد الناس عن اللهو والترف، وأن تصرف جهودها وطاقتها للتقرب إلى الله ورجاء ما عنده، وأن تحرص على التأسي بالأنبياء الكرام والسلف الصالح في الزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله، فهي في رباط دائم وثغور متوالية، ولا قوة لها إلا بالله، ويجب أن يصحب أعمالها كلَّها إخلاصٌ لله تعالى وصدقٌ في التوجه إليه وتوكّل عليه ويقين في نصره، وعلى أهل العلم والدعوة أن يكونوا قدوة للناس في هذا كله، وأن يضعوه في أولويات برامجهم الدعوية.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، أقول ما تسمعون...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، وإن مما يُنبّه إليه في الوقت الذي يُسام فيه المسلمون سوء العذاب على أيدي الكفار أنه ينبغي للمرء المسلم في خضم هذه الأحداث الكبيرة والقاسية على المسلمين أن لا يُصاب بشيء من الاسترسال مع مشاعر القنوط واليأس، فإن الثقة بنصر الله عز وجل لا تكون في وقت الرخاء فقط، فهذا أمر يستطيعه كل أحد.
إنه من السهولة بمكان والإنسان ينعم بأمن وآمان ويسر وسهولة ورخاء أن يقول: وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [آل عمران:126]، وأن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ولكن الإيمان الحقيقي أن تدرك ـ أيها العبد المؤمن ـ وأن تؤمن وتستشعر أن النصر قادم لا محالة وأنت في الشدة، بل وفي قمة الشدة، وأن تؤمن بقضاء الله وحكمته البالغة، وما يدريك فلربما كانت مِحْنة في ثناياها مِنْحة، فلقد كشف الله بها المنافقين ومرضى القلوب وعبدة الدرهم والدينار والوظيفة والجاه عند الخلق، وهذا خير عظيم، كما حدث يوم أحد ويوم الأحزاب، وما بقي إلا معالجة السَّمَّاعِين لهم من العَوَام، قال تعالى: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى? يَمِيزَ ?لْخَبِيثَ مِنَ ?لطَّيّبِ [آل عمران:179]. ولا شك أن المسلم يستبشر لنعمة الله التي أنعم بها على عموم المسلمين من وضوح السبيل ونمو الوعي، وذلك ما نراه من خلال إجماع العامة على الولاء للمسلمين والبراء من الكافرين وإدراكهم لمخططات العدو الماكر، وهو ما كان مشوّشًا في أزمات سابقة، لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى? مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ [الأنفال:42].
إن اليأس ينبغي أن لا يكون له طريق على قلوبنا وعندنا كتاب الله فيه وعده ووعيده، فلا بد أن نصدق الوعد ونتقي الوعيد.
أيها المسلمون، نسأل الله تعالى أن يتقبل كل مسلم قُتِل على أرض العراق على أيدي النصارى، ونحسبهم شهداء عند الله. ففي الوقت الذي تتقطع قلوبنا ونحن نسمع الأخبار أو يشاهد بعضنا الصور المؤلمة عبر الشاشات وهي تنقل أخبار وصور المآسي، أقول: في الوقت الذي نتألم لما نرى ونسمع من سقوط عشرات ومئات القتلى فإننا في نفس الوقت نفرح لهم؛ لأنهم لقوا الله مقبلين غير مدبرين وأنهم على خير. ومِن وعد الله فيمن قُتِل في منازلة أعداء الله أنه شهيد في سبيله، نعم، الشهادة في سبيل الله رتبة عظيمة ومنزلة جسيمة، لا يُلقّاها إلاّ ذو حظ عظيم، ولا ينالها إلاّ من سبق له القدر بالفوز المقيم، وهي الرتبة الثالثة من مقام النبوة كما قال تعالى: فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، فهم أحياء عند ربهم يرزقون. يا شهيدًا نَسَجَ الْمجدَ وِسامًا وسقانا من كؤوس العزّ جَامَا
وتراءى فِي سماء النصر برقًا راحلاً يُلقي على الدنيا السلاما
وجهك الوضّاء ما زال يرينا عاشقًا قد ذاق بالعشق الحِمَاما
عُمَريّ العزم لاحت في رؤاه همّة تسمو وأفعال تتسامى
أيها المسلمون، لقد أُرِيقت دماء طاهرة على مدار تاريخ هذه الأمة، أُرِيقت دماء الشهداء في أحد والخندق واليرموك ونهاوند، وأُرِيقت دماء على رُبَى حطين وعين جالوت والزَّلاّقَة، وأُرِيقت دماء الشهداء على جبال قَنْدَهار وفي أودية البوسنة وعلى مرتفعات طاجاكستان وفي أراضي الشيشان، ولا تزال قوافل من جنود الله عز وجل تنتظر الحصول على هذا الوسام النفيس، وِسَام الشهادة في سبيل الله. قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52].
هؤلاء الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله قد أمنوا من عظيم الأهوال والكربات، وسكنوا في أجل المحالّ في أعلى الغرفات، وكَرَعُوا من النعيم أكوابًا، وادَّرَعوا من التنعيم أثوابًا، ومُتّعوا بجنان الفردوس مستقرًا ومآبًا، وتمتّعوا بحورٍ عينٍ.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد وعبادك الصالحين...
(1/4163)
يا فلوجة العراق
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/2/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار جرائم الحرب في الفلوجة. 2- بشائر ومبشرات: تجلّي بطولات المجاهدين، الحدث دورة تدريبية على الجهاد، تخاذل وسائل الإعلام، فشل المخططات الصليبية، تفاعل المسلمين بالدعاء لإخوانهم. 3- صفحات مشرقة من تاريخ العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ما زال العالم يسمع صراخ النساء والأطفال من فَلّوجَة العراق وأزيز الطائرات الصليبية، وبنادقهم وقنابُلهم تصبّ على الأبرياء، ولا تفرّق بين مدني وغيره، الدماء تسيل في الشوارع، والأشلاء ممزقة هنا وهناك. ورغم كل هذا تُسمع صرخات التكبير مدوّية، وسط كل هذه المناظر المؤلمة نرى ضوء الفجر قد بزغ، وإذا بالتاريخ يسجّل والقنوات تصوّر وتعرض أعظم البطولات وأسمى معاني الفداء والتضحيات، ورغم كل هذا نسمع صوت الأذان مرتفعًا: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله)، وصدق الله إذ يقول: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]. لا إله الله وحده، نصر عبده، وصدق وعده، وأعزّ جنده، وهزم الأحزاب وحده. سبحانك لا رب غيرك ولا إله سواك، حكمك نافذ، وأمرك مطاع، ولا رادّ لقضائك، لك الحمد والنعمة والفضل.
أيها المسلمون، ورغم ألم المَشَاهِد وصعوبة المرحلة التي نعيشها، ولكن والله إن البشائر قد طغت على الخسائر، والتفاؤل هزم التشاؤم، وصدق الله إذ يقول ولا أصدق ولا أجل ولا أحكم منه سبحانه: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:173]، اسمعها يا مؤمن يا عبد الله، وتأمّلها وخذها بشارة من ربك، بشارة من الذي يدبّر الكون ويصرّف الأمور، من الذي إذا قال للشيء: كن فيكون: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:173]. نقول للذي قد تسلّل اليأس إلى قلبه وتملّكه شيء من الحزن والقنوط، نقول له: أحسن الظن بربك، وتأمّل في هذه البشائر والإيجابيّات:
أولاً: ما شاهدناه وشاهده كل العالم من بطولات أحفاد سعد والمثنّى الذين أعادوا لنا رُبى حطّين والقادسية واليرموك، لكم الله يا أبطال الفَلّوجَة، يا غُرّة الزمان ويا شامة الإسلام، يا من رفعتم جبين الأمة، إننا نكاد أن نذوب خجلاً وحياءً من هذه البطولات التي فاقت كل التصورات وكل تحليلات المحللين وتوقعات المنظّرين والمخططين، هذه البطولات التي أخرست الألسنة اليائسة والنفوسَ المريضة والقلوب الضعيفة، كم هي فرحتنا وأنتم تنتقمون لنا ممن ظلمنا، ممن هتك الأعراض وخرّب الديار وسرق الخيرات وجعل الأرض كلها بَوَارًا، لقد ثَأرْتُم لكل أب مظلوم، لكل حُرّ أَبِيّ مَكْلُوم، ثَأرْتُم وربّ الكعبة فأطفأتم الحسرة والحرقة في الفتاة التي هُتك عرضها ونيل من كرامتها، لقد مرّغتم كرامة دولة عاد، وأذهبتم هيبتها، وكسرتم حاجز الخوف من حامية الصليب. بكم ـ يا شباب الفَلّوجَة ـ تُصنع الأمجاد، وعلى أيديكم تتعلّم الشعوب معنى العزّة والكرامة، لقد أعطيتمونا الدرس العظيم الذي لن ننساه: بأن حياة العزّ والشرف خير من حياة الذلّ مع الترف.
إن بطولاتكم فضحت وعرّت الممارسات الرخيصة والقذرة في إعلامنا العربي. عذرًا أيها الأبطال، أنتم تصنعون التاريخ ونحن نقدم البرامج التي تجعلنا في زبالة التاريخ. عذرًا أيها الأبطال، كاد اليأس والإحباط أن يذهب بحشاشات القلوب ونحن نشاهد العبث الذي أجمعت عليه القنوات الفضائية في زمن قلّ فيه الإجماع، فإذا بكم تبعثون الأمل وترسلون الرسالة بالأفعال لا بالأقوال: إن في الأمة رجالا، إن في الأمة أبطالا يدافعون عن الدين والعرض والأرض والمقدسات.
يا أبطال الفَلّوجَة الأُبَاة، لقد أعطيتمونا درسًا في معنى الإيمان الصحيح، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]. لئن فاتكم شيء من الدنيا ولم تتمتعوا بها، لئن لم تحوزوا على أوسمة الخيانة والذل التي أعطاها المحتلّ للخوَنَة من بني جلدتكم، فلن يفوتكم الوسام الذي أعطاكموه ربّكم إذ يقول مبينًا منزلتكم ودرجتكم: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:95].
فيا أبطال الفَلّوجَة، سامحونا على تقصيرنا، وقاتلوا الذين يلونكم من الكفار من هذا التحالف الأنجلوصهيوني المعتدي علينا وعليكم، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين. لا تلتفتوا للمخذّلين والعملاء وصنائع الصليبية، وتوكلوا على الله فإنكم بإذنه على الحق المبين. سيروا على خطى الصحابة المجاهدين، وسجّلوا قادسية الفَلّوجَة والرَّمَادِي والجولان على خطى قادسية سعد بن أبي وقاص، واستعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
لقد رفعتم رأس المسلمين، وأثبتم للناس أن النصر بالدعوات لا بالطائرات والدبابات، فهنيئًا لكم ما أنتم فيه من جهاد وتضحيات، أنتم والله أصحاب البيع الرابح، لقد عجّلتم بالصليبيين إلى النار وهم يزفّون أبناءكم إلى الجنة، إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، اثبتوا ثبّت الله فؤادكم في الدنيا والآخرة، فإن مقام أحدكم ساعة في الثغر خير من أعمار أكثر المسلمين في الأرض، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السّيوف.
فَلّوجَة العزّ أم فَلّوجَة الغَلَبِ وموئل الْمجد والأبطال والنُجُبِ
فيك الأُباة الأُولى قادوا جَحافلَنا لدحر كل بُغاة الروم والشَّغَب
لَماّ أتى الباغي الملعون أرّقنا تخاذُل قد نما فينا ولم يغب
فقلت: من ليتيم قد بكى حمَمًا من الدموع وأمٍّ قد بكت لأب
ومَن لصولة طاغوت يجرعنا سُمًّا زُعافًا ولَم يشبع من النهب
حتى إذا اقترب المأفون أرّقه صمود جيش من الأبطال والشبب
فأدركت كل نفس غير يائسة أن المعين لنا الرحمن فِي النوب
تلك الأيادي التِّي ما انفكّ ترفعها جموعنا وبقلب مشفق ترب
ثانيًا: كم من نعمة يُسديها العدوّ لكم وهو لا يشعر، لو قيل لدولة الصليب: نريدكم أن تدرّبوا أبناء العراق على الجهاد والقتال والصبر وتحمّل الأعباء لمدة طويلة حتى يستطيعوا أن يقاوموا المحتلّ، هل تتصوّرون أن يتجاوبوا معكم؟! إن المتأمل في واقع خطط الأعداء في القديم والحديث يجدها أنها تصبّ في إغراق الشعوب في الملذات والملهيات والشهوات حتى تغدو كالقطعان السائمة التي لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا، تغدو شعوبًا لا همّ لها إلا الترفيه والتسلية، كم تنفق دولة عاد وربيبتها دولة يهود على إضلال الشعوب؟! فهذا سلاحهم وطبعهم منذ القديم، فنحن إلى الآن ما زلنا نتابع البرامج التي تعرض الرذيلة في أقبح صورها وتهدم الفضيلة بأحطّ الأساليب وأرذلها، وصدق الله إذ يقول: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
فيا أبطال العراق، لقد أعطاكم عدوكم دورة تدريبية مكثفة على شظف العيش فخرجتم أبطال الميادين وصنّاع النصر، لقد حاصركم العدو ومنع منكم الغذاء والدواء فتربيتم على عين الله، فخرجتم أقسى ما تكونون على عدوكم، وأصبر ما يتصوره منكم عباد الصليب وأحفاد القردة والخنازير، لقد حاصركم فأصبح الموت أسمى أمانيكم والجنة أغلى مطالبكم، فلله كم هي تلك الأحداث في ظاهرها نقم ومحن، وفي حقيقتها نِعم لا تقدَّر بثمن، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
ثالثًا: لقد عجزت وسائلنا الإعلامية بل تعاجزت عن فضح دول الصليب وإبداء وجهها الكالح، عجزنا عن تعريتهم وبيان حقيقة حضارتهم التي يزعمون، وأنهم في حقيقة الأمر بَرَابرَة هَمَج لا يراعون طفلاً صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة ضعيفة، لقد نُزعت الرحمة من قلوبهم، فالمساكن تُدَكّ على رؤوس العُزَّل من أصحابها، والمساجد تهدم على الآمنين المطمئنين في جوار ربهم، أيّ حضارة التي تبشر بها دول الغرب الصليبية وهي تستخدم الأسلحة والقنابل المحرمة دوليًا؟! أي نظام تحترم؟! وأي شعوب تُقدّر؟! وأي عدالة تدعو لها؟! وأي حقوق تريد؟!
فيا أبطال العراق، لقد غيّرتم وسائل الإعلام رغمًا عنها، فجعلتموها تفضح الحضارة الغربية وتعرّيها للعالم عبر عدسات المصورين وهم يشاهدون همج المبشّرين بالدين المحرّف المكذوب على المسيح عليه السلام، فإذا بالعالم يزداد قناعة بفشل المشروع الغربي الذي تبشّر به حامية الصليب وعبّاد الشهوات. وعلى صعيد آخر أين كلاب الغرب النابحة إعلاميًا وسياسيًا ضد المسلمين فقط؟! أين العلمانيون الممسوخون الذين طالما نهشوا في أعراض العلماء والمجاهدين ووصفوهم بالإرهاب لمجرد أنهم أُخرِجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا: ربنا الله؟! بينما يَخْنَسون كالقِطط وهم يرون العدو المحتل يفعل ذلك كله في حق الأبرياء، واصفين من يفكّر بالدفاع عن نفسه بالإرهابي! لم لا تكون لهم وقفة يستنكرون فيها هذا العدوان الهمجي؟! حقًّا إنهم جحوش الاستعمار، ولن يرحمهم التأريخ، وسيلحقون بأسيادهم إلى مزابله، فنحن نتربّص بهم أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا [التوبة:52].
رابعًا: من البشائر والإيجابيات فشل مخططات العدو في المنطقة وتأخير مشاريعها التغريبية والتوسعية، فدول التحالف تعيش تخبّطًا كبيرًا في العراق الآن.
فنقول لأبطال العراق: إن النصر الحقيقي هو في ثباتكم على مبادئكم، وليس في نصر يكون بالتنازل عن الدين والمبادئ، إن حقيقة النصر أن لا يستطيع العدو أن يُحقّق أهدافه، ويرجع خائبًا خاسرًا على عقبيه، فها هو لم يستطع أن يتنعم بالنفط الذي كان يحلم به، ولا بالاستثمارات التي كان يتمنّاها، ولا بالتوسّع الذي كان ينشده.
فيا أبطال العراق، تذكروا قول ربكم فهو تسلية لكم وتطييب لنفوسكم: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104]، وتذكّروا قول ربكم ومولاكم: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
خامسًا: ومن المبشرات كثرة دعوات المسلمين في أرجاء الدنيا، شعورًا منهم بفداحة ما وقع على أهل العراق من ظلم وإجرام، وليتكم ـ يا أهل العراق ـ تسمعون ضجيج الأصوات بالدعوات من المساجد والبيوت والمجامع، من العجائز والأطفال والصغار والكبار والرجال والنساء، يدعون الله لكم بالنصر والثبات، ولعدوكم بالهزيمة والخذلان، فلستم وحدكم في الساحة، فكم من جنود لله مجاهيل تقاتل معكم، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]، يحيون الليالي، ويتهجّدون في الظلام، ويدعون الواحد الأحَد، ويستمطرون لكم النصر، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9].
إن العدوَّ قد جاء بقَضّه وقَضِيضه لمعركة واسعة شاملة بعيدة المدى، معركة حاسمة يراد من ورائها اقتلاع الإسلام من جذوره ونزع سلاح الإيمان من القلوب وفصل أمة الإسلام وإبعادها عن مصدر عزّها كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. إنها حرب جديدة، جمعت بين الاستعمار في الماضي والتغريب في الحاضر، إنه تطوّر جديد في أسلوب الحرب على المسلمين، يجمع بين تجربة الماضي والحاضر. إن أعداء الإسلام جادون غير هازلين في فتنة المسلمين وصدِّهم عن دينهم وعمّا أنزل إليهم، ليتطلعوا إلى مناهج أخرى، ويتعاملوا مع مبادئ غير ملّة الإسلام، وَ?حْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49]. إنها حرب عقديّة سياسية عسكريّة اقتصادية توسّعية، ذات أهداف كثيرة وأبعاد عديدة، قد اخْتُطّت مشاهدها، ونُظّمت حلقاتُها منذ سنين. إنها حرب أكبر مما نتصوّر، ومعركة أفظع مما نخمّن ونظنّ، معركة أُعدَّ لها كلّ الإعداد، ورُصِد لدراستِها ملايين الدولارات.
إنّ أوّل خطوة نضعها في الطريق الصحيح لمواجهة هذه الأزمة الفهم الصحيح لطبيعة المعركة بيننا وبين الصليب، إذا أدركنا حجم المعركة وطبيعتها بعيدًا عن السطحية والغثائية فإنه يمكن لنا حينئذ أن نعدّ لها إعدادًا سليمًا، ويمكن لنا أن نُنشئ الأجيالَ تنشئة صالحة متينة، لا تتأثّر بالأعاصير ولا تتكدّر بالرّياح. هذا هو أوّل واجب علينا تجاهَ هذه الحرب الجديدة التي نسأل الله أن يجعل عاقبتها عزًّا للإسلام وأهله وذلاًّ للصليب وأهله.
اللهم انصر المجاهدين في الفَلّوجَة ومن نصرهم، واخذل أعداء المجاهدين في الفَلّوجَة ومن خذلهم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فعندما تضعف أمة الإسلام فإن كلاب الأمم تطمع بخيراتها ومقدّراتها، بل تتجرّأ على غزو ديارها، وإنّ كلاب الأمم بعامة لا يُجدي معها سوى لغة إلقام الحجر، ولا يردعها سوى لغة: ((خمسٌ فواسق يُقتلن في الحلّ والحرم)) ، ولا يردّها خاسئة ذليلة حقيرة إلا منطق سليمان عليه الصلاة والسلام: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37]، ولا يقطع دابرها سوى مقولة: ((مَنْ لِكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله)) رواه البخاري، ولا يردّها عما عزمت عليه غير منطق: "الجواب ما ترى لا ما تسمع". لقد كان هذا هو منطق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد، يوم أطلقها مُدوّية من بغداد. لله درّك يا هارون الرشيد، والله إن الأمة بحاجة إلى مُخاطبة طاغية الروم اليوم بهذا الخطاب وبهذه القوّة وبهذه اللغة، وكم هو بحاجة إلى أن يُعرّف قدره.
يا ألف مليون تكاثر عدّهم إن الصليب بأرضنا يتبخترُ
فالحرب دائرة على الإسلام يا قومي فهل منكم أَبَيٌّ يثأرُ
يتقاسم الأعداء أوطاني على مرأى الورى وكأننا لا نشعرُ
أين النظام العالَمي ألا ترى شعبًا يُباد وبالقذائف يُقبرُ
أين العدالة أم شعار يحتوي سفك الدماء وبالإدانة يُسترُ
مادام أن الشعب شعب مسلمٌ لا حَلّ إلا قولهم: نستنكرُ
يا أمتي والقلب يعصره الأسى إن الْجراح بكل شبرٍ تُسعِرُ
والله لن يَحمي رُبَى أوطاننا إلا الْجهاد ومصحف يتقدّر
إن العراق منبت العلم والعلماء والفقه والفقهاء والحكمة والحكماء، بلد أمير المؤمنين هارون الرشيد وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل والقائد المظفّر المثنّى بن حارثة. وأنتم ـ يا أبناءها ـ اليوم رمز الأمة وحملة لواء بطولاتها، فلا تخذلوها، ولا تبتغوا بإسلامكم بديلاً، فهو سرّ عزّتكم وكرامتكم. ما عُرفت بلادكم بحضارة آشور ولا بابل، ولكن بحضارة الدين والإسلام، ولا استمدت إمامتها من حمورابي ولا بختنصر، ولكن من خلفاء الإسلام وأئمة الدين. ارفعوا لواء الجهاد وهوية الإسلام، وأخلصوا الدين لله، وتبرّؤوا من كل راية جاهلية قومية وبعثية وقبلية، واجعلوها جهادًا صادقًا ناصعًا، بعد تصحيح الاعتقاد وتحكيم الشريعة، حتى يكون قتيلكم شهيدًا وتليدكم عزيزًا.
في العراق سقط العرش الكسروي، ودُمّر البيت الأبيض إيوان كسرى، كما قال : ((عُصيبة من المسلمين يفتتحون البيت الأبيض بيت كسرى)) رواه مسلم، ومن العراق انطلقت ألوية فتح الهند والسند والصين والروس. فصبرًا يا أيها العراقيون المسلمون، لا يكن هؤلاء الصليبيون أشد بأسًا منكم، فإنما هم لفيف من اللقطاء والبغايا، وها هم يهاجمونكم ـ يا أحفاد الصحابة والعرب الأُباة ـ في عُقْرِ داركم وعلى مرأى ومسمع من العالم، فلا يكن النساء الفاجرات أشد منكم بأسًا، إياكم أن تتراجعوا في وجوه نساء الغرب، إنها سبّة التاريخ ووصمة العار، قاتلوا حتى النهاية، فإما الفوز وإما الشهادة، واعلموا أن قضيتكم عادلة، وأنتم مظلومون معتدى عليكم في دياركم، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَـ?تَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ ?للَّهَ عَلَى? نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ?لَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَـ?رِهِم بِغَيْرِ حَقّ [الحج:39، 40]، وكل هذه الصفات محقّقة فيكم، قوتلتم وظُلمتم وأراد الغُزاة إخراجكم من دياركم وسلب أموالكم وبترولكم، فلا تكونوا عبيدًا للغرب، اثبتوا واصبروا إن الله يحب الصابرين.
واعلموا أن عدوكم غاشم ظالم مستبدّ متكبر، مغرور بقوته، ظان أن لا غالب له، وهذه أمارات الزوال والهزيمة، وَتِلْكَ ?لْقُرَى? أَهْلَكْنَـ?هُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا [الكهف:59]، فعسى أن يكون موعد هلاكهم على أيديكم وفي دياركم. واعلموا أن قتال أهل الكتاب من أفضل القتال والجهاد، وقد ذكر رسول الله أن أفضل الشهداء في زمانهم من يقتلهم النصارى في الملحمة بينهم وبين المسلمين.
هذا قَدَرُكم يا أهل العراق، جاءكم الجهاد في دياركم يسعى، ودخلت عليكم الشهادة أرضكم وبيوتكم، فقولوا: مرحبًا بلقاء الله، واعلموا أنها سوق الجنة قامت في أرضكم، فبيعوا واشتروا مع الله، وانووا الجهاد الصادق، وحققوا الدين الخالص والتوحيد الحق، وتجرّدوا من كل أنواع الشرك والضلالات والبدع والمحدثات، فوالله لا نحب أن يودّعنا منكم ذاهب إلا إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين...
(1/4164)
وداع رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصوم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/9/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انقضاء أيام رمضان. 2- الناس بعد رمضان فريقان. 3- الاهتمام بقبول العمل. 4- المداومة على العمل الصالح. 5- التذكير بزكاة الفطر وصلاة العيد وصيام الست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ها نحن نودع رمضان، ولم يبق منه إلاّ ساعات قلائل. نعم، بالأمس القريب كان معنا، كنا نستنشق عطره، ونسعد في أفيائه، ونتقلّب في ضروب نعمائه. بالأمس القريب كنا نغترف من بركاته، ونخوض في بحار حسناته، ونرجع كل ليلة بجرّ الحقائب بما حملنا من خيراته. بالأمس القريب كنا نقطف من روضه زهور الإيمان، ونجد في رحابه الأنس والاطمئنان، كانت تحلق فيه الأرواح، وتطير من غير ما جناح. واليوم، أين هو شهر رمضان؟ ألم يكن منذ لحظات بين أيدينا؟ ألم يكن ملء أسماعنا وأبصارنا؟ ألم يكن هو حديث منابرنا، زينة منائرنا، بضاعة أسواقنا، مادة موائدنا، سمر أنديتنا، حياة مساجدنا، فأين هو الآن؟ أين حرق المجتهدين في نهاره؟ أين قلق المتهجّدين في أسحاره؟ أين خشوع المتهجّدين في قيامهم ورقة المتعبدين في صيامهم؟ أين أقدامٌ قد اصطفت فيه لمولاها؟ أين أعين جادت فيه بجاري دمعها؟ أين قلوب حلّقت فيه بجناحين من خوف ورجاء وسارعت إلى مرضاة ربها تلتمس النجاء؟ أين أيام كانت حياة للحياة وليال كن قلائد في جيد الزمان؟ لقد تولّت كما تولّى غيرها، وتقضّت بما فيها، ولم يبق إلا الندم والأسى.
تذكرت أيامًا مضت ولياليا خَلتْ فجرتْ من ذكرهنّ دموعُ
ألا هل لَها يومًا من الدهر عودةٌ وهل لِي إلى يوم الوصال رجوعُ
وهل بعد إعراض الْحبيب تواصلٌ وهل لبدور قد أفلن طلوعُ
أتَذكُر ـ أيها الأخ الحبيب ـ سويعات كانت من الصفاء أصفى ومن الشّهد أحلى؟! أما يحنّ فؤادك إلى دمعات كنتَ سكبتها وعبرات من خشية الله قد أذريتها؟! أما يهتزّ قلبك شوقًا إلى لحظات صَفَت فيها نفسك وحلّقت روحك، حتى كأنك تجاوزت الأرض وترابها وتنشّقت روائح الفردوس وعطرها؟! أما يعظم أسفك على أيام رفعت فيها يديك مناجيًا مولاك، فأطرق رأسك ذُلاًّ واغرورقت بالدمع مُقلتاك؟! لقد مضى ذلك كله، وطوي بساطه، ومرّ كأن لم يكن، وعاد ذكرى في النفس بعد أن كان واقعًا يشهده الحسّ، وبقيت في النفس حزازاتُ أسى وألم على فراق راحل عزيز.
أترحل لا الصحب منك ارتووا ولا امتلأت منك المُقلتان
أترحل والقلب بعد مشوق له لغة من هوى وحنان
فيا لفؤادي إذا حركته رؤى ذكريات لطاف حسان
وأصداء ماض تولّى حبيب وأطياف شهر طواه الزمان
أيها المسلمون، لقد كان ما كان وانقضى الشهر، وخرج الناس من رمضان وهم فريقان: فريق نصح فيه لنفسه وقام بحق ربه، فصامه إيمانًا، وقامه احتسابًا، وتحرّى فيه مراضي مولاه، وتجنّب مظانّ سخطه، لم يفرط في دقائقه، ولا أرخى لنفسه زمام هواها، قد اغتسل فيه من ذنوبه، وتطهّر من أوزاره، وخرج منه يترنّم:
اليوم ميلادي الجديد وما مضى موت بُلِيت به بليل داجي
إني سريت إلى الهداية عارجًا يا حسن ذا الإسراء والمعراج
وفريق آخر تمنى على الله الأماني، وأتبع نفسه هواها، فأمضى نهاره في سهو وليله في لهو، أطلق لبصره العنان، وأرهف سمعه لمساخط الديان، لم يرع للشهر حرمته، ولا عرف له حقّه، وكم نُصِح فما قبل النُصح، ودُعِي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصلح، شَاهَد الواصلين فيه وهو متباعد، ومرّت به زمر السائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت وخاف المقت ندم على التفريط حين لا ينفع الندم، وطلب الاستدراك في وقت العدم، وهيهات هيهات.
وما أحوج الفريقين ـ أيها الأحبة ـ إلى المحاسبة الدقيقة والوقفة الصادقة، فأما المفرّط المقصّر فيندم ويتوب، ويستغفر ويؤوب، فعساه إن لم يدرك الخير كله أن يدرك بعضه، وعسى أن يعيش قابل أيامه في طاعة وبرّ منتظرًا عامًا جديدًا ورمضان آخر. وأما المطيع المجد فيهتم لقبول عمله، ولقد كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون من رده، وهؤلاء الذين وصفهم الله سبحانه بقوله: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون:60].
روى الترمذي عن عبد الرحمن بن سعيد أن عائشة زوج النبي قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية: وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ ، قالت عائشة: أهم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: ((لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يُقبل منهم، أولئك الذين يسارعون في الخيرات)).
وعن فضالة بن عبيد قال: "لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27]"، وقال مالك بن دينار: "الخوف على العمل أن لا يُتقبل أشد من العمل"، وقال عبد العزيز بن أبي رَوّاد: "أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ أيقبل أم لا؟"، وكان بعض السلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنه يوم فرح وسرور! فيقول: "صدقتم، ولكني عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملاً، فلا أدري أيقبله مني أم لا". ومثل هذه المحاسبة ومثل هذا الشعور مما ينبغي أن يكون لدى المسلم الصادق.
وإن العجب كل العجب أننا ما إن نخرج من شهر رمضان حتى نكون كالذي ضمن القبول، فلا يفكّر أحد في عمله، ولا يراجعه، ولا يتأمل مدى إخلاصه فيه، ولا يلحّ على ربه أن يتقبل منه، حتى ذلك الدعاء الذي كنا نقوله كل ليلة في رمضان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العلم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم"، حتى هذا الدعاء لم يعد له نصيب وحظ، وشتان ما بيننا وبين أسلافنا في هذا، فلقد كانوا يدعون الله ستة أشهر بعد رمضان أن يَتقبل منهم.
رَأى وهيب بن الورد أقوامًا يضحكون في يوم عيد فقال: "إن كان هؤلاء تُقبّل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كان لم يُتقبّل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين".
أيها المسلمون، إنها ليست دعوة للقنوط واليأس، ولكنها دعوة إلى محاسبة النفس؛ لأن محاسبة النفس على العمل والخوف من عدم قبوله من صفات المؤمنين وسمات أهل الصلاح المتقين، ومما ينبغي أن يكون في مثل هذه الأيام.
أيها المسلمون، ولئن كان قبول العمل من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، فإن لكل أمر علامة، ولكل تجارة أمارة، ولقبول العمل علامات تدل عليه، وإن من علامة قبول العمل الصالح الاستمرار عليه والمداومة على أدائه، فقد قال بعض السلف: ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وفي الحديث: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)) ، وعن علقمة قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: هل كان رسول الله يختص من الأيام شيئًا؟ قالت: لا، كان عمله دِيمَة، وأيكم يطيق ما كان رسول الله يطيق. رواه البخاري.
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن للمداومة على العمل الصالح فوائد عظيمة، منها أن هذا كان من دأبه ، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة. رواه مسلم. ومنها دوام اتصال القلب بخالقه مما يعطيه قوة وثباتًا وتعلقًا بالله. ومنها تعهد النفس عن الغفلة وترويضها على لزوم الخيرات حتى تسهل عليها وتصبح ديدنًا لها. ومنها أن المداومة سبب لمحبة الله، وفي الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)) رواه البخاري. ومنها أن المداومة سبب للنجاة من الشدائد، وفي الحديث: ((احفظ الله يحفظك، تعرّف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة)) رواه الإمام أحمد. ومنها أن المداومة سبب لحسن الختام، أسأل الله لي ولكم حسن الختام، قال الله تعالى: وَ?لَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69]. ومنها أنها صفة عباد الله المؤمنين، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23].
أيها المسلمون، وكان السلف رحمهم الله في غاية الحرص على دوام العمل وإثباته وعدم تركه، فكانت عائشة رضي الله عنها تصلي الضحى ثماني ركعات ثم تقول: (لو نُشِر لي أبواي ما تركتهنّ)، وحين عَلّم رسول الله عليًا ما يقوله عند نومه قال علي: (والله ما تركتها بعد)، فقال له رجل: ولا ليلة صِفّين؟ قال علي: (ولا ليلة صِفّين)، وقال عفّان: "قد رأيت من هو أعبد من حماد بن سلمة، ولكن ما رأيت أشد مواظبة على الخير وقراءة القرآن والعمل لله تعالى منه".
أيها المسلمون، أما إنه يقبح بالمسلم أن يبني في رمضان صرح إيمانه ويجمله ويزيّنه ثم إذا انقضى الشهر عاد فهدم ما بنى وأفسد ما شيّد، وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]، فالله ينهانا أن نكون كهذه المرأة الحمقاء التي تنسج غزلها حتى إذا أبدعته وأحكمته نقضته، ثم عادت تغزل من جديد. وهذا وللأسف حال أكثرنا في كل عام، يعمل ويعمل ويعمل في رمضان، حتى إذا بلغ من الخير مبلغًا وبدأ يحسّ طعم العبادة ولذّة الخشوع هدم كل ذلك بعد رمضان، فإذا جاء رمضان آخر شرع يبني من جديد، فلا يكاد يبلغ منزله الأول حتى ينتكس.
والتأمل في هذا كله يقتضي من المؤمن أن يستمر على ما كان عليه من طاعة في رمضان، وأن يواصل كفّه عما كفّ عنه من معاصي في هذا الشهر الكريم، وما أقبح الحَوْر بعد الكَوْر، وما أقبح أن يتدنّس بذنوب المعاصي من قد تطهّر منها، وما أشنع أن يرجع التائبون إلى حمأة الرذيلة، وأن يتلطّخوا بأوحال المعصية بعد أن توضّؤوا بنور الطاعة.
يا رجال التوبة، لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرضاع يصلح للأطفال لا للرجال، ولكن لا بد من الصبر على مرارة الفطام، فإن صبرتم تعوّضتم عن لذة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب، ومن ترك شيئًا لله لم يجد فقده.
يا عبد الله، لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فترك قيام الليل. يا من وفّى في رمضان على أحسن حال، لا تتغير بعده في شوال. يا من أصلح في رمضان وعزم على الزلل في شوال، ويحك فإن ربّ الشهرين واحد.
اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لقد علّمنا شهر رمضان أننا نستطيع أن نبكي من خشية الله، وأن نذرف الدمع بين يديه، وأن نجهش في صلاتنا بالبكاء، وعلّمنا أننا نستطيع أن نقوم الليل ونصوم النهار ونكثر من قراءة القرآن، وعلّمنا أننا نستطيع أن نديم المكث في المساجد، وعلّمنا أننا نستطيع أن نترك كثيرًا من شهواتنا ورغباتنا.
لقد فضحنا هذا الشهر، وكشف كذب دعاوى الكثيرين ممن يزعم أنه لا يستطيع البكاء أو الصلاة أو قراءة القرآن أو البقاء في المسجد. فهل نتعلم هذا الدرس؟! هل ندرك أننا نقدر على فعل الكثير عندما نريد فعله؟! هل نتذكر أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وأن في وسعنا أن نفعل الشيء الكثير؟!
عباد الله، ما أسرع ما يتقضّى الزمن، وما أعجل ما تمضي الأيام، كنا بالأمس نستقبل رمضان، ونحن اليوم نودّعه ونبكي عليه، ولم يكن بين استقبالنا ووداعنا إلا أيام قلائل مرّت مرور الطيف ولمعت لمعان البرق الخاطف، ثم غادرتنا مُقَرِّبة إلينا آجالنا مُقَصِّرة من آمالنا. وعما قريب تتقضّى الأيام المقدّرة، وتدنو الآجال المكتوبة، ويفارق المرء دنياه، غير حامل زادًا إلا زاد العمل الصالح، ولا لابسًا لباسًا إلا لباس التقوى، فأيّنا أعدّ لذلك اليوم عدّته واتخذ له أهبته؟! أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ ?لْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ [النساء:78]، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّ ?لْمَوْتَ ?لَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ [الجمعة:8]، وقال سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَامَةِ [آل عمران:158]، فالله الله في ساعة لا شكّ في مجيئها، واجعلوا في تصرّم شهركم عبرة تذكّركم بتصرّم أعماركم.
أيها المسلمون، أذكّركم بزكاة الفطر، فقد شرعها الله طُهْرة للصائم من اللغو والرفث وطُعْمة للمساكين وشكرًا لله على توفيقه، وهي زكاة عن البدن، يجب إخراجها عن الكبير والصغير والذكر والأنثى والحرّ والعبد، ويجب إخراجها على كل مسلم غربت عليه الشمس ليلة العيد وهو يملك ما يزيد عن قوت يومه وليلته، ويجب عليه أن يُخرج عن نفسه وعمّن تلزمه نفقته من زوجته ووالديه وأولاده، ويخرج زكاة الفطر في البلد الذي وافاه تمام الشهر وهو فيه، وتدفع زكاة الفطر إلى من يجوز دفع زكاة المال إليه الفقراء والمساكين، فيدفعها إلى المستحق ويتحرّى في ذلك.
ووقت الإخراج يبدأ بغروب الشمس ليلة العيد، والأفضل ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيوم أو يومين جاز، وإن أخّرها عن صلاة العيد أثم وأجزأت، وإن فات يوم العيد ولم يخرجها فإنه يقضيها ولا تسقط عنه، ويجوز للفقير إذا قبض صدقة الفطر أن يخرجها عن نفسه.
وأذكّركم أيضًا بالتكبير فإنها سنة، قال الله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، فيُسنّ التكبير ليلة العيد والجهر به في المساجد والبيوت والأسواق تعظيمًا لله وشكرًا له على تمام النعمة.
وأيضًا أذكّركم بصلاة العيد، فإنها من تمام ذكر الله، قال الله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14، 15]، قال بعض السلف: أي: أدّى الزكاة، فَصَلَّى قيل: المراد به صلاة العيد. فاحرصوا ـ رحمني الله وإياكم ـ عليها، فقد ذهب بعض العلماء إلى وجوبها.
وأذكّركم أيضًا بصيام ستة أيام من شوال، فعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) رواه مسلم.
وفي معاودة الصيام بعد رمضان فوائد عديدة، منها أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدهر كله كما سبق الحديث، ومنها أن صيام شوال وشعبان كصلاة السنن الرواتب قبل المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص، ومنها أن معاودة الصيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان، فإن الله إذا تقبّل عمل عبد وفّقه لعمل صالح بعده، ومنها أن صيام رمضان يوجب مغفرة الذنوب، والصائمون يوفون أجورهم يوم الفطر، فتكون معاودة الصيام بعد الفطر شكرًا لهذه النعمة، كان بعض السلف إذا وُفّق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهاره صائمًا، ويجعل صيامه شكرًا للتوفيق للقيام.
اللهم أعد علينا رمضان أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة...
(1/4165)
الابتلاء
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
أحاديث مشروحة, الفتن, القصص
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الابتلاء والصبر. 2- التضرع والدعاء عند الابتلاء. 3- بر الوالدين والإحسان إليهما. 4- الهوى ومخافة الله سبحانه وخشيته. 5- الإحسان إلى الأجير والعامل. 6- الفرج مع الصبر وسلاح المؤمن الدعاء والإخلاص.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، الابتلاء سنةُ الله في خلقه، يبتليهم بالخير والشر والضار والنافع، ليرى صدق الصادقين وإقبال المقبلين عليه، فمن أُلهم الإنابة والتضرع والدعاء عند نزول البلاء فقد أريد به الإجابة. والناس في هذه الدنيا متقلبون فيها بين خير وشر ونفع وضر، وليس لهم في أيام الرخاء إلا الشكر والثناء، ولا في أيام المحنة والبلاء إلا الصبر والدعاء، وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أنه ما من ليل إلا بعده صباح، وما من ضيق وشدة إلا بعده فرح ومخرج:
تصبّر إن عقبَى الصبر خيرٌ ولا تجزع لنائبة تنوبُ
فإن اليسر بعد العسر يأتي وعند الضيق تنكشف الكروبُ
وكم جَزعت نفوسٌ من أمور أتى من دونِها فرجٌ قريب
والرسول في هذا الباب يذكرنا بقصة الثلاثة الذي اختارهم الله للابتلاء، وكيف أن الله سبحانه نجاهم بإخلاصهم وصدقهم ودعائهم له سبحانه وتعالى، يقول عليه الصلاة والسلام: ((انطلق ثلاثة نفرٍ ممن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار ـ أي: دخلوا الغار للمبيت فيه قال: ـ فانحدرت صخرةٌ من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ـ أي: يتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم أي: بأرجي عمل عملوه لله تعالى ـ قال الأول: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبِقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً ـ أي: لا أقدم عليهما أحدًا بهذا الغبوق من الحليب ـ قال: فنأى بي طلب الشجر يومًا ـ أي: استطرد مع غنمه في المرعى إلى أن بعُد عن مكانه على غير العادة ـ قال: فلم أرح عليهما ـ أي: لم أرجع عليهما ـ حتى ناما، فحلبت لهما غبُوقهُما فوجدتهما نائمين، فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي ـ أي: يتصايحون ببكاء من شدة الجوع ـ قال: فاستيقظا فشربا غبُوقهُما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنّا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت لا يستطيعون الخروج منه)).
الله أكبر عباد الله، فهذا الرجل بلغ مبلغًا عظيمًا في بره بوالديه لأن الله عز وجل قال: وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، وقال: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [الإسراء:23]، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : أقبل رجلٌ إلى نبي الله فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، فقال: ((هل لك من والديك أحد حي؟)) قال: نعم بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله تعالى؟!)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) متفق عليه.
قال الثاني: ((اللهم إنه كانت لي ابنة عمّ كانت أحبّ الناس إلي)) وفي رواية: ((أحببتها كأشد ما يحب الرجال النساء، وطلبت إليها نفسها ـ أي: طلبت منها ما يطلب الرجل من زوجة ـ فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين ـ أي: ألمت بها حاجة ـ قال: فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار، فلما وقعت بين رجليها قالت: يا عبد الله، اتق الله ولا تفتح الخاتم إلا بحقه ـ أي: لا تزل عفافي وبكارتي إلا بزواج صحيح ـ قال: فقمت عنها، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا منها فرجة، ففرج لهم)) ، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها.
الله أكبر عباد الله، مخافة الله جعلت هذا الرجل ينصرف عن ابنة عمّه، والتي تمكن منها بعد أن وعظته بتقوى الله عز وجل.
أما الثالث فقال: ((اللهم إني كنت استأجرت أجيرًا بفَرَق أرُزٍّ، فلما قضى عمله قال: أعطني حقي، فعرضت عليه فَرقَه فرغب عنه، فثمّرتُ أجره ـ أي: كثّرت أجره بتنميته حتى أصبح مالاً كثيرًا ـ قال: فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فارتعجت، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني حقي، فقلت: اذهب إلى تلك البقر ورِعائها فخذها، فقال: اتق الله ولا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، خذ ذلك البقر ورعاءها، فأخذه فذهب به، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا ما بقي، ففرج الله ما بقي، فخرجوا يمشون)) متفق عليه.
الله أكبر عباد الله، حفظ مال أجيره، بل ونماه، ولمّا رجع إليه أخذ كل شيء له، سبحان الله عباد الله، أين هذا الرجل لينظر صورَ الظلم لهؤلاء الأجراء والعمال في هذا الزمن وما يقوم به الكفلاء نحو مكفوليهم؟! بعضهم يؤخر مرتبه شهورًا عديدة أو يعطيه جزءًا منه ويماطل في الجزء المتبقي، فيتذلل هذا العامل لكفيله، ولربما سابقت دموعُه كلماتِه، لكن دون جدوى، فأين هؤلاء من قول المصطفى : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) رواه ابن ماجه؟!
عباد الله، من أعظم العبر والدروس من قصة هؤلاء الثلاثة التعرف على الله في الرخاء، فإن هؤلاء الثلاثة دعوا الله بإخلاص، واستذكروا أعمالاً صالحة كانوا تعرفوا فيها على الله في أوقات الرخاء راجين أن يتعرف إليهم ربهم مقابلها في أوقات الشدة، كما ورد في الحديث الصحيح: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) رواه أحمد.
وانظروا ـ عباد الله ـ فضل بر الوالدين وخدمتهما وإيثارهما على الولد والأهل وتحمل المشقة لأجلهما، وانظروا ثمرة العفاف والكف عن الحرام، وكذلك فضل حُسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل بعد الشدة فرجًا، ومن الضيق سعة ومخرجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، يقول الله تعالى: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس : ((واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا)) رواه أحمد وصححه الألباني، وكتب عمر لأبي عبيدة : (مهما نزل بامرئٍ من شدة إلا جعل الله بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين).
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من عباده المتقين، ولازموا الاستغفار، فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب.
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، اللهم فرّج همّ المهمومين ونفِّس كرب المكروبين، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه...
(1/4166)
الخليفة عمر بن عبد العزيز
سيرة وتاريخ
تراجم
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
20/7/1423
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحاجة لمعرفة السلف الصالح والاقتداء بهم. 2- سمات وميزات الخليفة عمر بن عبد العزيز خُلقًا وخَلقًا. 3- سيرته وهو خليفة المسلمين. 4- وفاته رضي الله عنه. 5- من هو المجدد الأول لهذا الدين؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أحسن الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس، ما أحوجنا دائمًا إلى معرفة سير سلفنا الصالح أعلام الهدى الذين جمعوا بين العلم والعمل، وامتلأت قلوب المسلمين بحبهم، وشُغِلَتْ ألسنتهُم بالثناء عليهم وذكرهم؛ وذلك لزهدهم وورعهم وخشيتهم لربهم عز وجل وعلو هممهم في طلب العلم النافع والعمل الصالح، حتى نكون على منوال الكرام، لنتبوأ منازل الخير والإنعام.
وفي هذه الجمعة المباركة إن شاء الله تعالى نتكلم عن الخليفة الزاهد والإمام العابد المجدِّدِ الأول لشباب الإسلام على رأس المائة الأولى، والذي أقبلت عليه الدنيا بخيَلها ورَجِلِها فأعرض عنها رغبةً في النعيم المقيم والملكِ العظيم في جوار رب العالمين، أعطر الناس سيرة وأطيبهم سريرة، ملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلِئت ظلمًا وجورًا، وغيّر وجه الأرض في سنتين وخمسة أشهر، قضى بعد ذلك نحبه ولقي ربه، جمع زهدًا وعفافًا وورعًا وكفافًا.
إنه الخليفة عمر بن عبد العزيز الذي جمع الفضائلَ وتنزهت نفسُه عن الرذائل، ظهرت عليه علاماتُ النجابة منذُ الصغر، فختم القرآن ولم يشتغل بما اشتغل به بعض الناس من الترف والثراء، ولكنه طلب الشرف الحقيقي والعزّ الدائم، فرحل إلى مدينة الرسول وجالس فُقهاءَ المدينةِ وأخذ من علمهم وهديهم وسمتهم، وما تطلع يومًا للخلافة ولم يكن في نَسل من تُصيبه، فقد كان من ولد عبد العزيز بن مروان، وكانت الخلافةُ في نَسل عبد الملك بن مروان، ولكنها إرادة الله عز وجل، اختير لها على حداثة سِنه وقِصَر مدته، فرد المظالم، واستعمل أهلَ الخير والصلاح، وعزل أهل َالجَوْر والفساد، حتى صار استعمالُه للرجل تعديلاً له عند أئمة الجرح والتعديل، يقولون: استعمله عمر بن عبد العزيز.
لقد أعز الله بعُِمرَ الملةَ، ورفع به منارَ السنة، وأخمد نار البدعة، فكثُر الخير وعمّ الصلاحُ وانتظمت أمورُ العباد والبلاد.
ولد بمصرَ، وأمه أمُّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب ، كان أسمرَ، رقيقَ الوجه حَسَنَه، نحيفَ الجسم، حَسَنَ اللحية، ولما تولى الخلافة صَعَدَ المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: "أيها الناس، إني قد ابتُليت بهذا الأمر من غير رأيٍ كان منّي فيه، ولا طلبةٍ له، ولا مشورة ٍمن المسلمين؛، وإني قد خَلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم"، فصاح الناسُ صيحةً واحدةً، كلُّهم يقول: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضيناك، فلما رأى الأصواتَ قد هدأت رفع صوتَه حتى أسمعهم فقال: "يا أيها الناس، من أطاع الله وجبت طاعتهُ، ومن عصى الله فلا طاعةَ له عليكم".
كان حَسَنَ الخَلقْ والخُلق، كاملَ العقل، حَسَنَ السَّمت، حريصًا على العدل، وافرَ العلم، ظاهرَ الذكاء والفهم، أواهًا منيبًا، حنيفًا زاهدًا، قانتًا بكّاءً، بكى مرةً فأبكى زوجتَه وأبكى أهلَ الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم البُكاءُ قالت له زوجتُه فاطمة: بأبي أنت وأمي يا أميَر المؤمنين، مِمّ بكيت؟ قال: تذكرتُ ـ يا فاطمة ـ مُنْصَرفَ القوم بين يدي الله، فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير، ولا أدري من أيِّ الفريقين أنا، ثم صرخ مغشيًا عليه.
كتب عمر بنُ عبد العزيز إلى رجل: "أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيَرها، ولا يرحم إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل"، وفي آخر خُطبة خطبها عمر بعد أن صعَد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد: فإن في أيديكم أسْلاب الهالكين، وسيترُكها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلةٍ تشيّعون غاديًا ورائحًا إلى الله تعالى، وتضعونه في صَدْعٍ من الأرض، ثم في بطن صَدْعٍ غير مُمَهدٍّ ولا مُوسّد، قد خلع الأسبابَ، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، فقيرًا إلى ما قدم أمامه، غنيًا عما ترك خلفه، أما والله إني لأقولُ هذا وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب أكثر مما عندي"، ثم وضع طرفَ ثوبِه على عينيه فبكى ثم نزل، فما خرج حتى أُخرج إلى حفرته.
يقول رجاء بن حَيوة: كان عمرُ بن عبد العزيز من أعطر الناس وأخيلِهم في مشيته، فلما استُخلف قوّموا ثيابه اثني عشر درهمًا فقط، ويقول آخر: رأيته بعدما استخُلف ولو شئتُ أن أعُدَّ أضلاعه من غير أن أمَسّها لفعلت.
الله أكبر ـ عباد الله ـ كان يتمثل بهذه الأبيات:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم وكيف يطيق النوم حيْران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لَحرّقت مدامع عينيك الدموع السواجم
بل أصبحت فِي النوم الطويل وقد دنت إليك أمورٌ مفظعاتٌ عظائم
نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلة وليلك نومٌ والردى لك لازمُ
يغرك ما يفنى وتشغل بالمنى كما غر باللذات في النوم حالِمُ
وتُشْغلُ فيما سوف تكره غِبّه كذلك فِي الدنيا تعيش البهائمُ
قال مالك بن دينار رحمه الله: الناس يقولون عني: زاهد، وإنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها. ويقول مكحول: لو حلفتُ لصدَقت، ما رأيت أزهد ولا أخوفَ لله من عمرَ بن عبد العزيز. ويقول أبو حاتِم: لما مرض عمر بن عبد العزيز جيء بطبيب، فقال الطبيب: به داءٌ ليس له دواءٌ، غلب الخوف على قلبه، أي: الخوف من الله.
اللهم اجعلنا لك من العابدين، لك من الطائعين، لك من الأوابين، اللهم ارزقنا توبة قبل الممات، تمحو بها عنا الزلات، يا رب الأرض والسموات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا أله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، تمضي الأيامُ على أميِر المؤمنين عمرَ بن عبد العزيز سريعًا، ويدنو الأجلُ، ويكون سببُه السم. كان بنو أميةُ قد تضايقوا منه لكونه شدّد عليهم، وانتزع من أيديهم كثيرًا مما اغتصبوه، قال مجاهد: قال لي عمر بن عبد العزيز: ما يقول الناس فيَّ؟ قلت: يقولون مسحور، قال: ما أنا مسحور، وإني لأعلم الساعة التي سُقِيتُ فيها السم، ثم دعا غلامًا له فقال له: ويحك، ما حملك على أن سقيتني السم؟! قال: ألف دينار أُعطيتُها وعلى أن أُعتق، قال: هاتها، قال: فجاء بها فألقاها في بيت المال، ثم قال: اذهب حيث لا يراك أحد.
وعند احتضاره قال لمن عنده: أَجلسوني، فأجلسوه، ثم نادى ربه فقال: أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلا الله، ثم قال: اخرُجُوا عني فلا يبقى عندي أحد، وكان عنده مسلمةُ بن عبد الملك قال: فخرجوا، فقعد مسلمةُ على الباب هو وفاطمة زوجته، قال: فسمِعُوه يقول: مرحبًا بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان، قال: ثم قال: تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83]، قال: ثم هدأ الصوتُ فقال مسلمةُ لفاطمةَ: قد قُبِضَ صاحبك، فدخلوا فوجدوه قد قبُض، فنظر إليه مسلمة فقال: يرحمك الله، لقد لينتَ قُلوبًا قاسيةً، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذكرًا.
تنعى النعاةُ أمير َالمؤمنين لنا يا خيَر من حجّ بيتَ الله واعتمرَا
حُمّلت أمرا عظيمًا فاضْطلَعْتَ به وسرت فيه بِحكم الله يا عُمرَا
الشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفةٍ تبكي عليك نُجوم الليل والقمرَا
فرحمك الله يا عمر، ورضي الله عنك، وجمعنا بك في الفردوس الأعلى.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن بقية العشرة المبشرين بالجنة، وعن بقية صحابة رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، واجمعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/4167)
افتتاح مسجد
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
المساجد, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة المسجد. 2- المسجد مكان للتعليم. 3- التعاون في بناء المساجد والمحافظة عليها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]، والحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، الحمد لله على نعمة الإسلام، والحمد لله على كل نعمة تفرعت عنها ظاهرة أو باطنة، وإن من أعظم النعم عمارة المساجد، يقول الله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَـ?جِدَ ?للَّهِ مَنْ ءامَنَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَأَقَامَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَى? ?لزَّكَو?ةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ ?للَّهَ فَعَسَى? أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ?لْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]، من أعظم النعم وجودنا في هذه الساعة العظيمة عند الله، في هذا المكان الذي تشرفت بقعته أن تكون مسجدًا تعنو فيه الوجوه للحي القيوم، تسجد فيه الجِباه لرب العالمين.
وإذا ذكر المسجد ثارت في ذاكرة المسلم مهامّ وجملة أدوار تقوم بها هذه المؤسسة الإسلامية المتميزة، فهو أولاً للصلاة، ومكانة الصلاة في هذا الدين لا تخفى، فهي ركنه الثاني بعد الشهادتين، وقد جعلها الإسلام شرطًا في إسلام المسلم، وشرطًا في دخوله الجنة، كما في حديث جبريل: ((الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة...)) متفق عليه، وكما في حديث معاذ قال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار، قال: ((لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه: تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة...)) رواه ابن ماجه.
وقد كانت الصلاة عبادة الأنبياء من قبل، فلما جاء الإسلام أخذت فيه أكمل صورة، وتناسقت أقوالها وأفعالها، وصارت لها شروط وأركان ومواقيت وأذان وإقامة وجماعة وغير ذلك.
هذه الصلاة التي أمر الله عز وجل ببناء المساجد من أجل إقامتها فيها توبة متجددة، يجدد بها المصلي إسلامه، ويتطهر بها من ذنوبه وآثامه، فهي لجسمه طهارة من الخبائث الحسية، وهي لروحه طهارة من الخبائث المعنوية.
والصلاة الكاملة هي التي يقيمها صاحبها في مواقيتها، ويصليها على وفق السنة، ويكون فيها خاشعا، ويشهدها مع جماعة المسلمين في المساجد، وقد أنشئت هذه المساجد ليُرفع من مآذنها الأذان كل يوم خمس مرات، يلخِّص للناس دعوة الإسلام، وينقل إليهم هذه الدعوة الشفوية من ربهم، أن أجيبوا داعي الله، هلموا إليه فهو أكبر من كل شيء، وعنده الفلاح كله: حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر.
وبني المسجد للصلاة مع الجماعة، هذه الكيفية التي جعلها الإسلام تَفْضُل صلاة الفرد في بيته وسوقه بسبع وعشرين درجة، تستقيم للمسلم إذا كان يحافظ على الصلاة في المسجد، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((صلاة الرجل في جماعة تُضعَّف على صلاته في بيته وسوقه خمسًا وعشرين ضعفًا))، وهذه الرواية ذكرت خمسًا وعشرين ضعفًا وزادت فضائل أخرى: ((أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة لم يَخْط خطوة إلا رفعت له بها درجة، وحُط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه: اللهم صل عليه اللهم ارحمه)) واللفظ للبخاري.
قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]. وهذه العبادة التي إذا تخلف عنها أحد ختم الله على قلبه وكتب من الغافلين، كما قال من على منبره الشريف: ((لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونُن من الغافلين)) رواه مسلم.
والمسجد لتعليم العلم، فالمسجد هو جامعة الإسلام الأولى، فيه تعلم المسلمون جيلاً عن جيل، ولذلك لم يتأخر النبي عن بنائه لحظة بعد الهجرة، فكان أول عمل قام به في المدينة بناء المسجد، ثم توالى بناء المساجد في حياته وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وسيبقى ذلك إلى قيام الساعة. ومن حلقات العلم بمسجده عليه الصلاة والسلام تخرَّج سادة الدنيا وقادة الأمة ونجوم الهدى، وعلى آثارهم سار التابعون لهم بإحسان.
والمسجد للذكر والدعاء وتلاوة القرآن، وإذا كانت هذه الثلاثة قد اجتمعت في الصلاة لأن في أقوالها الذكر والدعاء وتلاوة القرآن إلا أن المساجد مكان الذكر خارج الصلاة، قال : ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده)).
هذه بعض الأعمال التي يستمد منها المسجد رسالته، على أن رسالة المسجد أوسع من هذا، إنها تمتد إلى مختلف مجالات حياتنا، ففي المسجد نتعلم فن الحياة، في المسجد نتعلم الأخلاق الجماعية، وفي المسجد نتعلم آداب الصحبة والأخوة والجوار، وفي المسجد نتعلم كيف نقدم أهل العلم والفضل، وكيف ننزل الناس منازلهم على حسب تقواهم وعملهم الصالح، وفي المسجد نتعلم أسلوب النظام والترتيب وحسن الإمامة وحسن الطاعة. وعلى قدر عظمة هذه الرسالة تبدو عظمة الإنجاز عندما يضاف إلى مساجد الله في الأرض مسجد جديد، فالحمد لله حمدًا يوافي نعمه ويكافئ مزيده.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، كل عمل صالح يبدأ بفكرة يلهمها الله عبدًا ويشرح صدره لها، فتصير الفكرة عزيمة، وتصير العزيمة فعلاً، وكما لا يدخل أحد بيت الله إلا بإذن من الله فكذلك لا يبنيه إلا بإذن منه سبحانه، قال تعالى: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ [النور:36].
وقد كان هذا المسجد ـ مثل غيره ـ في أول الأمر فكرة، ثم صارت الفكرة واقعًا، وما بين كونه فكرة وكونه صرحًا قائمًا تيسيرات إلهية يعرفها الذين باشروا تنفيذ هذا المشروع المبارك، وتابعوا أطوار إنجازه.
وبناء المساجد ليس من الأعمال التي يستقل الفرد الواحد بها، فقد تعاون على بنائها الجماعات من الناس، كل منهم يرجو أن يكون ممن قال فيهم رسول الله : ((من بنى لله مسجدًا بنى الله له مثله في الجنة)) رواه الترمذي.
وكما يحتاج المسجد في بنائه إلى التعاون فإنه بحاجة إلى هذا التعاون لأداء رسالته بعد البناء، بين المؤذن والإمام والخطيب والواعظ والمصلين والإدارة والمسؤولين وكل من له مشاركة في شؤون المسجد، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
كما أن مرافق المسجد وأمتعته وفرشه وقف عليه، يجب على مستعمليها المحافظة عليها، فقد أمر بالمساجد أن تنظف وتطيب وقال ـ والحديث في إسناده ضعف ـ: ((عرضت على أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)) رواه أبو داود والترمذي، وقال تعالى: يَـ?بَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، أي: عند كل صلاة.
وكما أن المسجد ليس مكانًا للخبائث الحسية من أوساخ وقاذورات، فإنه ليس مكانًا للخبائث المعنوية من معاصي القلب واللسان والجوارح، كالغيبة والنميمة والكذب والجدال والمراء والتجسس والأذية بأي حال من الأحوال.
(1/4168)
السعادة وحقيقتها
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مذاهب الناس في السعادة. 2- المال والجاه والغنى المادي كله لا يحقق السعادة. 3- السعادة هي طمأنينة القلب وقربه من الله عز وجل. 4- نماذج للسعداء وأحوالهم. 5- السعداء مؤمنون عاملون يفرون إلى الله سبحانه في جميع أمرهم. 6- أسباب السعادة وكيفية تحصيلها في نفوسنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، السعادةُ مطلبُ العقلاء ومبتغى الكبراء وحلمٌ يراود الضعفاء، تفاوت الناس بفهم حقيقتها وتباينوا في طرق الوصول إليها، من يقاسي شدائدَ الفاقة والبؤس يرى السعادَةَ في الغنى وعند الأغنياء، ومن تتقلب به الأوجاعُ والأمراض يرى السعادة في صحة الأبدان وسلامةِ الأعضاء، والمستضعَف الذي سُلِبت حقوقُه ولم يقو على ردها يرى السعادة في السلطان والجاه، ومن أشرب في قلبه الفسوقُ والمجون والخلاعة والدعارة يرى السعادة في أن تأتيَه الشهواتُ من كل جانب ليطلقَ لها العِنان كيف يشاء.
يبحث الناس عن السكينة والطمأنينة، وينشدون السعادة والرضا، ويبتغون السرورَ والحبور، يطلبونها في القوة والجاه والثراء والحرية والمناصب والمراتب.
السعادة ـ عباد الله ـ ليست في المال الوفير، ولا الجاه العريض، ولا في البنين ونيل المآرب، ولقد قال الله عز وجل في أقوام: فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْو?لُهُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُعَذّبَهُمْ بِهَا فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [التوبة:55].
عذابٌ في الحياة الدنيا، مشقةٌ وألم، وهمٌ وسقم، معذبُ النّفس، مُتعَبُ القلب، لا يغنيهِ القليل، ولا يشبعه كثير، عذاب وشقاء لا ينفك عن ثلاث: همٌ لازم، وتعب دائم، وحسرة ٌلا تنقضي، وصدق الرسول عندما قال: ((لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى واديًا ثالثًا، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلا الترابُ، ويتوب الله على من تاب)) متفق عليه.
السعادة شيء لا يُرى بالعين، ولا يقاسُ بالعدد، ولا تحتويها الخزائن، ولا تُشترى بالدراهم والدنانير. السعادة شيء داخل الجوانح، يغتبط به الجنَان، ويمتلئ به الجنْبان. السعادة صفاءٌ في النفس وراحة في الضمير وطمأنينة في القلب وانشراح في الصدر وهدوء في البال. السعادة شعورٌ جميل بالغبطة وإحساس لذيذ بالطمأنينة وانطلاقةُ نفسٍ في سكينة.
إخوةَ الإسلام، واحد من ذوي الثراء والجاه ابتلي بمرض مزمن، يؤتى له بأطيب الطعام فلا يأكل، وإن أكل فلا يستلذ، أشرف من نافذة قصره وأطل من سرير مرضه، فلاحت منه نظرة على عامل من عماله قد افترش جانبًا من الأرض تحت ظل الشجرة، يأكل رغيفًا مع إدام يسير، لُقمة في فمه وأخرى في يده وثالثة ترقبها عينه، عندها تمنى هذا الوجيه لو كان في متعة هذا العامل وصحته.
فالسعادة ـ عباد الله ـ مصدرها القلب، ومظهرها الرضا، ودليلها إدراكُ النعمة والاعترافُ بها.
أجل عباد الله، لقد أخطأ من طلب السعادة في شهوات الدنيا، وقد علم أن طالبَها يظل منهومًا لا تنقضي شهواته، هلِعًا تتشعب رغباته، ثم يقود همه إلى منازعة الآخرين أرزاقَهم وخصامهم في حقوقهم، ملأ فكره بهموم الحياة وفتنه اللهو ومتع الحياة، وقد أغَمَّتْهُ فوادح الزمن وقوارع الدهر.
السعادة وجدها المصطفى الذي يقول لمؤذنه بلال: ((قم يا بلال، فأرحنا بالصلاة)) رواه أبو داود بسند صحيح. ويقول لأبي بكر وهما في الغار: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
ووجدها يونس بن متَّى عليه السلام وهو في ظلمات ثلاث: ظلمةُ الحوت، وظلمةُ اليم، وظلمةُ الليل، حين انقطعت به الحبال إلا حبل الله، وتمزقت كل الأسباب إلا سبب الله، فهتف من بطن الحوت بلسان ضارع حزين: لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، فوجد السعادة.
ووجد السعادةَ يوسفُ عليه السلام، وهو يسجن سبع سنوات، فيسألونه عن تفسير الرؤى، فيتركها ثم يبدأ بالدعوة فيقول: ي?صَاحِبَىِ ?لسّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ?للَّهُ ?لْوَاحِدُ ?لْقَهَّارُ [يوسف:39]، فيعلن الوحدانية للواحد الأحد، فيجد السعادة.
وجدها أبو بكر الصديق الذي قال عنه النبي : ((لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر، لكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقين في المسجد خَوْخَة إلا خوخة أبي بكر)) متفق عليه. والخوخة هي الباب الصغير.
ووجد السعادةَ عمرُ بن الخطاب والذي يقول: (لو تعثرت بغلة في العراق لخشيت أن يحاسب الله بها عمر).
ووجدها ابن تيمية رحمه الله والذي يقول: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أين سرت فهي معي".
ووجدها إبراهيم بن أدهم رحمه الله وهو ينام في طرف السكك في بغداد، لا يجد إلا كسرة الخبز يغمسها في نهر دجلة ويقول: "والذي لا إله إلا هو، إنا في عيش لو علم به الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف".
هذه هي السعادة، وهذه هي أحوال السعداء.
عباد الله، لن يجد امرؤ ما يملأ نفسه رضًا بأقدار الحياة سوى الإيمان بالله واللجوء إلى جناب ربه والانطراح بين يديه، الحياة بغير الدين تعقيدٌ تَحفُّها المنغصات، الحياة بغير الدين اضطرابات اجتماعية وأمراض نفسية، يفزع المبتلون إلى المهدئات والمسكنات، بل إلى المسكرات والمخدرات عياذًا بالله منها، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124].
الدنيا عند المؤمن مرحلة ومزرعة، ودار ممر واختبار، يرجو بعدها لقاء الله، الإيمان سفينته، والعبادة وسيلته.
المؤمن تغمره السعادة لأنه موقن بأن الحياة محكومة بأقدار الله، فلا يأس على ما فات، ولا يفرح بما حصل، لا يستسلم للخيبة، ولا يهلك نفسه تحسرًا، بل كل مواقف الدنيا عنده ابتلاء بالخير وبالشر، إذا زلزلته وقائع البلوى رده الإيمان إلى استقرار النفس وبرد اليقين ورباط الطمأنينة، فنعم بالسكينة من غير هلع ولا شقاء.
المؤمن يملك السعادةَ والراحة التي تجمع له بين التوكل والعمل الكادح، لا يزعزعه جزع ولا يرهقه قلق، يغمر الحياةَ نشاطًا ويعمرها جهادًا، فالسعداء مؤمنون عاملون وعلى ربهم متوكلون، وبحكمته واثقون، وبأقداره موقنون، نصيبهم المقسوم في السماء سيهبط إليهم في الأرض، فالسعيد لا يأكل أكثر مما يأكل الناس، ولا يملك أكثر مما يملك الناس، ولكنه يرضى أكثر مما يرضى الناس، فالسعادة في المسجد وفي المصحف وفي السنة وفي الذكر وفي الهداية والاستقامة والطاعة.
وهناك ـ عباد الله ـ أسباب يحسن تحصيلها لنيل السعادة، من أهمها الإيمانُ الصادق المقرون بالعمل الصالح، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، فإن للإيمان والعمل الصالح أثرًا حميدًا في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ?لْمَلَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
قال ابن القيم رحمه الله: "إن في القلب لشَعَثًا لا يلمه إلا الإقبال على الله، وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وإن فيه حزنًا لا يذهبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته، وإن فيه قلقًا لا يسكنه إلا الفرار إليه، وفيه فاقة لا يسرها إلا محبته والإنابة عليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، وفيه حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه والصبر على قضائه إلى يوم لقائه".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هُوَ ?لَّذِى أَنزَلَ ?لسَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ ?لْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُواْ إِيمَـ?نًا مَّعَ إِيمَـ?نِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [الفتح:4].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الناس، ومن أسباب السعادة دوامُ ذكر الله على كل حال، فبذكر الله تطمئن القلوب، أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28].
ومن أسباب السعادة طلبُ العلم وتحصيلُه، علمٌ واستنارة يرتفع بها صاحبها عن مصاف الجهل والجهلاء، فالجهال تقل راحتُهم وأنسهم، وتصعب إراحتهم، ويشق توجيههم، سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ?لْجَـ?هِلِينَ [القصص:55]، ولا خير في علم إذا لم يصاحبه خلق كريم وأدب سام.
ومن أسباب السعادة نفع الخلق والإحسان إليهم بالمال أو الجاه أو البدن.
ومن أسباب السعادة طلب الرزق الحلال، قال : ((من أصبح آمنًا في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)). جاء رجل يشتكي لأخيه الفاقة فقال له: عندك زوجة؟ قال: نعم، قال: هل عندك مسكن؟ قال: نعم، قال: أنت غني من الأغنياء، قال: وعندي خادم قال: أنت ملك من الملوك.
أيها الناس، أنت سعيد إذا عرفت نفسك، وطلبت السعادة من نفسك، لا ممن حولك، سعيد بإيمانك وخلقك وحبك للناس، سعيد إن كنت مع ربك، فشكرت النعمة وصبرت على البلية، فكان لك الربح في الحالين وحسن الثواب في الحياتين.
اللهم أحينا حياة السعداء، وأمتنا ممات الشهداء.
اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين...
(1/4169)
الطفيل بن عمرو الدوسي
سيرة وتاريخ
تراجم
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكانة الطفيل بن عمرو في قومه. 2- حرص قريش على تنفير الطفيل عن رسول الله. 3- إسلام الطفيل بعدما حكّم عقله وأبى الانقياد للباطل. 4- اجتهاد الطفيل في دعوة قومه إلى الإسلام. 5- موت الطفيل رضي الله عنه شهيدًا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، عندما يدخل الإيمانُ في قلوب أهله يصوغهم صياغةً جميلة، في سِيرَهم مرآة صادقة، يتمثل فيها عمقُ الإيمان بالله تعالى، وعمق التسليم بما جاء به رسول الله. وإذا تأملنا حالَ الصحابة رضوان الله عليهم نجدهُم خيرَ البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أسلموا فحسن إسلامُهم، وابتلوا بالسراء والضراء والشدة والرخاء، حتى كانوا خيرَ المؤمنين الذين حَمَلوا لواءَ الدعوة إلى الله بكل صدق وإخلاص وأمانة، تسابقٌ بالاتباع، وتنافس بالدعوة والجهاد، قدموا أنفسهم وأولادهم وأموالهم لله وفي مرضاته، ضربوا أروعَ الأمثلة في التضحية والفداء.
ومن هؤلاء ـ عباد الله ـ صحابيٌ جليلٌ وداعيةٌ إلى الإسلام عظيمٌ، من أوائل المؤمنين بالله ورسوله الذين حملوا رسالةَ هذا الدين دعوةً وصبرًا وجهادًا وتضحيةً، إنه الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه.
كان الطفيل بن عمرو الدوسي سيدُ قبيلةِ دَوسٍ بزَهْران في الجاهلية، وشريفًا من أشراف العرب المعروفين، وواحدًا من أصحاب المروءات المعدودين، لا ينزل له قِدرٌ عن النار، ولا يوصد له بابٌ أمامَ طارق، يطعم الجائعَ، ويؤمّن الخائف، ويجير المستجير، أديبٌ أريب، شاعر لبيب، مرهف الحس، رقيق الشعور، بصير بحلو البيان ومُرِّه.
شاء الله تعالى أن يكون هذا الرجل من السابقين إلى الإسلام، غادر الطفيل بن عمرو منازلَ قومِه في تِهَامة متوجهًا إلى مكة ورَحَى الصراع دائرة بين الرسول وكفار مكة، كلٌ يريد أن يكسب لنفسه الأنصار ويجتذب لحزبه الأعوان، فالرسول يدعو لربه وسلاحه الإيمان والحق، وكفار مكة يقاومون دعوته بكل سلاح، ويصدون الناس عنه بكل وسيلة، وسلاحُهم الافتراء والكذب والزور.
دخل الطفيل بن عمرو مكةَ فوجد نفسه يدخل معركةً غريبةً لم يقدُم مكة لأجلها. قال الطفيل: قدمت مكة فما إن رآني سادة قريش حتى أقبلوا عليّ، فرحبوا بي أكرم ترحيب، وأنزلوني منهم أعز منزل، ثم اجتمع إليّ سادتهم وكبراؤهم فقالوا: يا طفيل، إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي يزعم أنه نبيّ قد أفسد أمرنا وفرق شملنا، ونحن إنما نخشى أن يحل بك وبزعامتك في قومك ما قد حل بنا، فلا تُكَلِّمِ الرجل، ولا تسمعْ منه شيئًا، فإن له قولاً كالسحر، يفرق به بين الولد وأبيه وبين الأخ وأخيه وبين الزوج وزوجته.
قال الطفيل: فوالله، ما زالوا بي يقصون عليّ من غرائبَ أخبارِه ويخوفونني على نفسي وقومي بعجائب أفعاله حتى أجمعت أمري على أن لا أقترب منه، ولا أكلمه، أو أسمع منه شيئًا. قال الطفيل: ولما غدوتُ إلى المسجد للطواف بالكعبة والتبرك بأصنامها التي كُنا إليها نحج وإياها نعظم حَشوتُ في أذني قُطنًا خوفًا من أن يلامس سمعي شيء من قول محمد، لكني ما إن دخلتُ المسجدَ حتى وجدته قائمًا يصلي عند الكعبة صلاةً غير صلاتنا، ويتعبّد عبادةً غير عبادتنا، فأَسَرَني منظرُه، وهزّتْني عبادته، ووجدت نفسي تدنو منه، فسمعت كلامًا حسنًا، وقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا طفيل، إنك لرجل لبيب شاعر، وما يخفى عليك الحسنُ من القبيح، فما يمنعك أن تسمع من الرجل ما يقول؟! فإن كان الذي يأتي به حسنًا قبلته، وإن كان قبيحًا تركته.
قال الطفيل: ثم مكثت حتى انصرف رسول الله إلى بيته، فتبعته حتى إذا دخل دارَه دخلت عليه، فقلت: يا محمد، إن قومَك قد قالوا لي عنك كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوّفونني من أمرك حتى سددت أذني بقطن لئلاّ أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يُسمعَني شيئًا منه فوجدته حسنًا، فاعرض عليّ أمرك، فعرض عليّ أمره، وقرأ لي سورةَ الإخلاص والفلق، فوالله ما سمعت أحسنَ من قوله، ولا رأيتُ أمرًا أعدلَ من أمره، عند ذلك بسطتُ يدي وشَهِدت: أنْ لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
فدخلت الإسلامَ، وأقمت بمكة زمنًا أتعلم أمورَ الإسلام، وأحفظُ ما تيسر لي من القرآن، ولما عزَمْتُ على العودة إلى قومي قلت: يا رسول الله، إني امرؤٌ مطاع في عشيرتي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونًا فيما أدعوهم إليه، فقال : ((اللهم اجعل له آية)).
خرج الطفيل إلى قومه حتى إذا كان في موضعُ مشرف على منازلهم وقع نورٌ فيما بين عينيه مثل المصباح، فقال: اللهم اجعله في غير وجهي، فإني أخشى أن يظنوا أنها عقوبة وقعت في وجهي لمفارقة دينهم، قال: فتحول النورُ فوقع في رأس سوطي، فجعل الناس يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق، وأنا أهبط إليهم من الثنية، فلما نزلت أتاني أبي وكان شيخًا كبيرًا، فعرضت له الإسلام فأسلم، ثم جاءت زوجتي وأسلمت، وعرضت الإسلامَ على أمي ولم تُسلم.
قام الطفيل يدعو قومَه إلى الإسلام ويرغبُهم فيما جاء به محمد ، ولكن دوسًا تعاصت على الطفيل، وتعامت عما يدعوها إليه من الهدى والنور، وشغلهم لهو الحياة ومتاع الدنيا، ولم يستجب له إلا أبو هريرة الدوسي ، فهجر قومه، ثم رجع إلى النبي بعد أن مكث طويلاً في أرض قومه يدعوهم إلى الإسلام.
فلما قدم على النبي قال له: ((ما وراءك يا طفيل؟)) فقال: قلوبٌ عليها أكنة وكفر شديدٌ، لقد غلب على دَوسٍ الفسوقُ والعصيان والزنا والربا، فادع الله عليهم، فرفع يديه إلى السماء، فلما رآه أبو هريرة خاف على قومه وقال: هلكت دَوس، واقوماه، ولكن لم يكن ليدعو عليهم، وإنما دعا لهم بقوله: ((اللهم اهد دَوْسًا وائت بها))، ثم التفت إلى الطفيل وقال: ((ارجع إلى قومك، وارفق بهم، وادعهم إلى الإسلام)).
فخرج الطفيل إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، ولما هاجر الرسول إلى المدينة قدم على رسول الله ومعه ثمانون بيتًا من دوسٍ، أسلموا وحسُن إسلامُهم، فسُر بهم رسولُ الله أعظمَ سرور، وأسهَمَ لهم مع المسلمين في غنائم َخيبر.
وهكذا أنقذ الله قبيلةَ دوس ٍبسبب دعوة الطفيل رضي الله عنه وإصرارِه على اعتناقهم للإسلام.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، وتمضي الأيام وينتقل المصطفى إلى الرفيق الأعلى، وترتد قبائلُ العرب عن الإسلام، فينفر الطفيل في طليعة جيشِ المسلمين لحرب المرتدين الذين انحازوا إلى مسيلمةَ الكذاب، وبينما هو في الطريق إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو رأى في المنام رؤيا عجيبة غريبة، فقال لأصحابه: إني رأيت أن رأسي قد حُلق، وأن طائرًا خرج من فمي، وأن امرأة أدخلتني في بطنها، وأن ابني عَمرًا جعل يطلبني حثيثًا لكنه حيل بيني وبينه، قالوا: خيرًا إن شاء الله، فقال: أما أنا فقد أولتها، أما حلق رأسي فذلك أنه يقطع، وأما الطائر الذي خرج من فمي فهو روحي، وأما المرأة التي أدخلتني في بطنها فهي الأرض التي أدفن بها، وإني لأرجو أنْ أُقتل شهيدًا، وأما طلب ابني لي فهو أنه يطلب الشهادة.
وفي معركة اليمامة أبلى الصحابي الجليل الطفيل بن عمرو الدوسي أعظم البلاء حتى خَرَّ شهيدًا على أرض المعركة رضي الله عنه وأرضاه.
عباد الله، هذه بعض أخبارِ الطفيل سفيرِ رسول الله ، وشهيد معركة حروب الردة على أرض اليمامة.
وإنه لجدير بالمسلمين أن يكون لهم في خبره عظةٌ وفي قصته عبرة، عندما ترك الباطل وعمد إلى الحق يسأل عنه ويبحث عنه.
نبذ أباه وزوجته حتى أسلما، وترك أمه وعشيرته بعد أن كذّبوا ما جاء به من الحق، فصدق اللهَ، وحقق التوحيد في حياته ومسيرته، وطلب الشهادة فنالها.
فرضي الله عنك وأرضاك يا طفيل، وجمعنا بك في مستقر رحمته ودار كرامته.
وصلّ اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين...
(1/4170)
الغيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الآداب والحقوق العامة
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الغيبة وبيان حرمتها. 2- حرمة المسلم. 3- لماذا يغتاب المفلس؟ ومن المفلس؟ 4- آثار الغيبة على المجتمع وعلى الفرد. 5- اللسان وآفاته وما ينبغي على المسلم في حق لسانه. 6- الحالات التي تباح فيها الغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، مرضٌ خطير وداءٌ فتاك ومِعول هدام وسلوك يُفرّقُ بين الأحباب وبهتانٌ يغطي على محاسن الآخرين، ألا وهي الغيبة، البذرة التي تُنبت شرورًا في المجتمع المسلم، وتقلب موازينَ العدالة والإنصاف إلى الكذب والجور، والتي وصف الله فاعلها بأبشع الأوصاف وأشنعها: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12]، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: ((أتدرون ما الغيبة؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((ذكرك أخاك بما يكره))، قيل: أفرأيت إنْ كان في أخي ما أقول؟! قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته)) أي: افتريت عليه الكذب.
ذكرك أخاك بما يكره، سواء كان في بدنه أو في لباسه أو في ولده أو في ثوبه أو في داره أو في دابته، ولا تقتصر الغيبة ـ عباد الله ـ على القول، بل تجري أيضًا في الفعل كالحركة والإشارة.
والغيبة ـ عباد الله ـ كبيرة ٌمن الكبائر، جعلها رسول الله عديلة غصْب المال وقتْلِ النفس بقوله : ((كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم.
وتقول عائشة رضي الله عنها: قلت للنبي : حسبك من صفية كذا وكذا تعني قصيرة، فقال: ((لقد قلتِ كلمة لو مُزِجت بماء البحر لمزَجَتْه)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، أي: غيرت هذه الكلمة ماء البحر، وقال : ((إن من أربى الربا الاستطالة في عِرْض المسلم بغير حق)) رواه أحمد بسند صحيح، وعن عمرو بن العاص أنه مر على بغل ميت، فقال لبعض أصحابه: (لأن يأكل الرجل من هذا حتى يملأ بطنه خيرٌ له من أن يأكل لحم رجل مسلم).
عباد الله، للغيبة أسباب وبواعثُ، منها شفاءُ المغتاب غيظه بذكر مساوئ من يغتابه، ومنها مجاملةُ الأقران والرفاق ومشاركتُهم فيما يخوضون فيه من الغيبة، وقد قيل: الغيبة فاكهة المجالس، ومنها حسدُ من يُثنِي عليه الناس ويذكرونه بخير، يقول عليه الصلاة والسلام: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنِيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) رواه مسلم.
فتصور ـ أخي المسلم ـ عندما تأتي يوم القيامة بإعمال جليلة، تذهب هدرًا بسبب أكلك للحوم الناس، تنظر إلى سجل أعمالك فتجد بدلاً من الصلاة شرب الخمر أو الزنا، وبدلا من الصيام الربا والرشوة، وعن الزكاة شهادة الزور والسرقة وغيرها، فتسأل عن سبب وجودها، فيقال: هذه سيئات كانت على أناس أكلت لحومَهم واغتبتهم، فأُخذ من سيئاتهم فطرحت عليك، وأُخذ من حسناتك فجعلت في سجل أعمالهم، ولما عُرج برسول الله قال: ((مررت بقوم لهم أَظْفار من نَحاس يَخْمِشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويَقَعُون في أعراضهم)) والحديث صحيح رواه أبو داود.
عباد الله، الغيبة شر مستطير تؤذي وتضرّ وتجلب الخصام والنفور، مرض اجتماعي يقطع أواصر المحبة بين المسلمين، لذا ينبغي لمن سمع غيبة مسلم أن يردها ويزجر قائلها، وإذا لم يستطع فارق ذلك المجلس، كما قال تعالى: وَإِذَا سَمِعُواْ ?للَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ [القصص:55]، وقال تعالى: وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ [المؤمنون:3]، وقال : ((من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) رواه الترمذي وسنده حسن.
وأيضًا على المسلم أن يتقيَ الله في لسانه، فرُبّ كلمة هو قائلها لا يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة، ويقول سفيان بن عبد الله : قلت: يا رسول الله، حدثني بأمر أعتصم به، قال: ((قل: ربي الله، ثم استقم))، قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف عليّ؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: ((هذا)) رواه ابن ماجه والترمذي. فلا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه؛ لأنه ترجمان القلب والمعبر عنه.
عباد الله، روي عن الحسن البصري رحمه الله أن رجلاً قال له: إن فلانًا قد اغتابك، فبعث إليه رُطَبًا وقال: قد بلغني أنك أهديت إليّ من حسناتك، فأردت أن أُكُافِئَكَ عليها، فاعْذرني فإني لا أقدرُ أن أكافئَك على التمام.
فاتقوا الله عباد الله، واجتنبوا الغيبة، وتحللوا ممن اغتبتموهم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، أو أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن الغيبة ـ عباد الله ـ تباح لغرضٍ صحيح شرعيّ، لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستةُ أسباب، منها المتظلّم للسلطان أو للقاضي أو ممن له قدرةٌ على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان بكذا، وكذلك الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا، ويكون المقصود التوصل إلى إزالة المنكر. ومن الأمور التي تباح فيها الغيبة الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا، ومنها تحذير المسلمين من الشر ونصحهم، كجرح المجروحين من الرواة والشهود والمشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو معاملته، أو التحذير من مبتدع أو من فاسق مجاهر بفسقه. ومن الأمور التي تباح فيه الغيبة التعريف كأن لا يعرف الإنسان إلا بلقبه كالأعمش والأعرج والأعمى والأحول، ويحرم إطلاقُه على وجه النقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء، وأكثرها مجمَعٌ عليه، ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة.
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا ألسنتكم، وامتثلوا أمر ربكم، وقولوا خيرًا تغنموا، أو اسكتوا عن شر تسلموا، فإن أكثر خطأ ابن آدم في لسانه.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين...
(1/4171)
المستقبل للإسلام
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
قضايا دعوية, معجزات وكرامات
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تبشير الرسول أصحابه بفتح الشام وفارس واليمن. 2- تأكيد الرسول في العديد من أحاديثه على ظهور الإسلام وعزته. 3- لا بد أن يحذر المسلم من أن يؤتى الإسلام من قبله. 4- البشارة بالنصر على اليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، خرّج الأمام أحمد في مسنده وحسنه الحافظ في الفتح عن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله بحفر الخندق، وعرضت لنا صخرةٌ في الخندق لا تأخذ منها المعاول، قال: فشكونا إلى الرسول ، فجاء رسول الله فوضع ثوبه ثم هبط إلى الصخرة فأخذ المعول فقال: ((بسم الله)) فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيحَ الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا))، ثم قال: ((بسم الله)) وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: ((الله أكبر، أعطيتُ مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا))، ثم قال: ((بسم الله)) وضرب ضربة أخرى فقلع بقيةَ الحجر، فقال: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا)).
الله أكبر عباد الله، يحفرون الخندق وطعامهم القليل من الشعير والتمر، وأحيانًا لا يجدون هذا ولا ذاك لمدة ثلاثة أيام متتالية، حتى إن أحدهم يعصبُ على بطنه الحجر والحجرين من شدة الجوع.
ولك أن تتصور ـ أخي المسلم ـ هذا الموقف، الأحزابُ حول المدينة وقد ضيقوا على المسلمين الخناق، والرسول يضرب الصخرة، ويقول: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام وفارس واليمن)) ، فمثل هذا الكلام لا تصدقه إلا عقول أهل الإيمان التي قويت صِلتهم وثِقتهم بالله، ولذلك وصفهم الله بقوله: وَلَمَّا رَأَى ?لْمُؤْمِنُونَ ?لأحْزَابَ قَالُواْ هَـ?ذَا مَا وَعَدَنَا ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].
ولك أن تتصور ـ أخي المسلم ـ الموقف الآخر الذي حكاه لنا أحد صحابة رسول الله عندما قال: شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بُرْدَة له في ظل الكعبة قلنا له: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! قال: ((كان رجل فيمن كان قبلكم يحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاءُ بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيُشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشَط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عَظم أو عَصَب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتمّنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حَضْرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) خرجه البخاري في صحيحه من حديث خَبَّاب بن الأرت رضي الله عنه. وصنعاء هي صنعاء الشام كما ذكر ذلك جمع من العلماء.
عباد الله، في الموقفين السابقين يحذر رسول الله صحابته وأيضًا أمته من اليأس والقنوط وقتل الهمم والعزائم، لكثرة ما يرى ويسمع من مصاب الإسلام في أي مكان أو زمان، وأن على المسلم إحسان الظن بالله، وأن الفرج سيأتي، وأن اليسر بعد العسر، حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، فالرسول عندما يضرب الصخرة ويكبر ويقول: ((أعطيت مفاتيح فارس والشام واليمن)) كأنه يهون من شأن الأحزاب وقوتهم، وحثّ النفوس على حسن الظن بالله، مع فعل ما يستطاع من الوسائل التي تكون عونًا ـ بعد الله سبحانه ـ في هزيمة العدو وكسر شوكته.
وقوله لخباب بن الأرت رضي الله عنه: ((والله، ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) فيه: إظهار التفاؤل والقطع بأن النصر للإسلام وأهله، كما جاءت بذلك النصوص الكثيرة التي تدل دلالة واضحة على ذلك، ومن ذلك قوله تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:9].
وقد ذكر بعض المفسرين عند هذه الآية عددًا من الأحاديث النبوية المُبشّرة بظهور الإسلام وعِزته، فمن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((لا يذهب الليل والنهار حتى تُعبد اللات والعزى))، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، إن كنتُ لأظنُّ حين أنزل الله: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ أن ذلك تام، فقال : ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله)) ، وعن ثوبان قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها)) أخرجه مسلم، وفي المسند وغيره عن تميم الداري قال: قال رسول الله : ((ليبلُغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عِزًا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)) ، ثم قال تميم رضي الله عنه بعد أن ساق هذا الحديث: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعزّ، ولقد أصاب من كان كافرًا منهم الذل والصغار والخزي.
وكل هذا ـ عباد الله ـ مرتبط بالتمسك بهذا الدين العظيم عقيدةً ومنهجًا وسلوكًا واستشعارًا للمسؤولية من كل فرد من أفراد المجتمع، وأنه مسؤول ومساءَل، فيبدأ بإصلاح نفسه وبيته، ثم جلسائه وجيرانه ومجتمعه، وليعلم كل واحد منا أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فليحذرْ أن يؤتى الإسلام من قِبله، ثم أيضًا اجتناب المعاصي والحذر والتحذير منها، فالمعاصي مفتاح لكل شر ومِغلاقٌ لكل خير، وبسببها يتصدع كيان الأمة، وتزول هيبتها، وتكون تابعةً بعدما كانت متبوعة، قال : ((إذا تبايعتم بالعِينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزَّرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذُلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين يارب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51]، والصلاة والسلام على نبينا القائل: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من كذَّبهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)) رواه البخاري، وأشهد أن لا إله ألا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس، في خطبة مضت، تكلمنا عن الألفية الثانية واحتفالات العالم بها، وخصوصًا إخوان القردة والخنازير اليهود الذين جعلوا هذه الألفية مناسبة لإقامة وتشييد هيكل سليمان المزعوم، وها هم يضعون حجر الأساس لهيكل سليمان المزعوم في أولى القبلتين، ويدنسون مقدساتِ المسلمين على مرأى من العالم.
إنهم بفعلتهم هذه يخططون على أن يكون هذا الهيكل معبدًا لهم بدلاً من المسجد الأقصى، والذي أيضًا يخططون عَبر أعوام مضت على هدمه، ولكن كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]. والله الذي لا إله غيره، لسوف يأتي على اليهودي يوم ـ بإذن الله تعالى ـ لا يستره عن المسلم شيء، ولو اتقى خلف الحصى أو الحجر ولا يحميه سلاح ولا شجر. أتدرون لماذا؟! لأن الحجر والشجر جند من جنود الله تعالى، ينادي الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد.
ولكن عباد الله، بعد حُسْن عودةٍ إلى الله سبحانه والتضرع إليه والابتعاد عن كل ما يحجب نصر الله، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/4172)
الملل والفتور وقصور الهمة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمراض القلوب, اغتنام الأوقات, قضايا دعوية
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر الفتور والملل بين المسلمين وخصوصًا المستقيمين منهم. 2- أحب العمل إلى الله سبحانه أدومه. 3- الصبر والمصابرة عند سلفنا الصالح. 4- أمور تعين على علو الهمة ومحاربة الملل. 5- أهمية الوقت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، مشكلة عظيمة تواجه المسلمين جماعاتٍ وأفرادًا، وخصوصًا في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن والمغريات، ألا وهي مشكلة الفتور والملل وقصور الهمة، فالفتور وقصور الهمة والملل مسلك دنيء ومركب وطيء وخلق ساقط وعمل مرذول، لا يليق بأهل الفضل، ولا ينبغي من أهل النبل والعقل.
الفتور وقصور الهمة شر عظيم وباب من أبواب انقطاع العمل، ومشكلة المشاكل التي تصاب بها أمة من الأمم عندما يكون أفرادها هِمَمُهم ضعيفة وعزائمُهم واهنة وآمالُهم قاصرة.
عباد الله، إذا تأملنا حالَ الكثير من المسلمين اليوم وخصوصًا ممن عُرفوا بالاستقامة والصلاح نجدُ أن هِمَمَهم قد قصرت وأعمالَهم قلّت، بل ربما تركوا أعمالاً صالحةً كانوا يعملونها، وما ذك إلا بسبب الملل والفتور وقصور الهمة، فمن ذلك ـ عباد الله ـ الكسل في العبادة وخصوصًا الصلاة، الكسل في الدعوة إلى الله، التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضَعف الغَيرة على الحق، الكسل في طلب العلم.
وفي المقابل نجد أعمالا لا تليق بالمسلم، فضلاً عن أهل الصلاح والاستقامة قد فُعلت من قبل بعضهم.
فنجد ـ عباد الله ـ من يتخلف عن تكبيرة الإحرام وربما عن صلاة الفجر، ونجد من قلّ حياؤُه وكثر كذبُه وزاد انشغاله بسفاسف الأمور، وكثر إقبالُه على الدنيا، وحمل من هذا الدين مظهرًا طيبًا ومخبرًا سيئًا، بل ربما نجد من أقبل على اللهو المحرم عن طريق التلفاز أو أطباقِ الشر الفضائية.
عباد الله، جاء في صحيح ابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عمل رسول الله دِيمَة، وفي حديث آخر: كان أحب العمل إلى رسول الله الذي يدوم عليه صاحبه، وكان إذا فاتته الصلاة من الليل من وجع أو غيره صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة. رواه مسلم. وكان يقول لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((يا عبد الله، لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل فترك قيام الليل)) متفق عليه.
وإذا تأملنا حال أسلافنِا نجد أنهم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بالصبر والمصابرة وعلو الهمة، فتوحاتٌ ورحلات دعوية وسهر وتحقيق في المسائل، فكانوا من خير المجتمعات وأزكاها، تمثلوا أخلاقَ الإسلام وتعاليمه وآدابَه في جميع شؤونهم.
كان العمل للإسلام يخالط شغافَ قلوبِهم، يترجم ذلك أقوالُهم وأفعالهم، يؤْثر الواحدُ منهم أخاه على نفسه، يطوي أحدُهم جائعًا حتى يشبع أخوه، يشتركون في الآمال والآلام، ويقبلون على العبادة إقبالَ الظمآن على الماء البارد حتى سادوا الأرض.
ركب عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما كان أميرًا على مصر بغلة قد تغيّر حالها، فقال له أحدهم: أتركب هذه البغلة وأنت من أقدر الناس على امتطاء أكرم فرس بمصر؟! فقال: لا ملَل عندي لدابتي ما حملت رحلي، ولا لامرأتي ما أحسنت عشرتي، ولا لصديقي ما حفظ سري، فإن الملل من كواذبَ الأخلاق.
عباد الله، ومن الأمور التي تعين ـ بعد الله ـ على علو الهمة والإقبال على الله بفعل الطاعة وترك الفتور والملل:
أولا: كثرة ُالدعاء والإلحاحُ على الله بالثبات على الهداية والاستقامة، وطلب الإعانة من الله على ذكره وشكره وحسن عبادته، ولهذا كان من دعاء عباد الله الصالحين أنهم يقولون: وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، وإمامة المتقين من أعلى مراتب علو الهمة.
ثانيا: قراءةُ القرآن بتدبر وتعقل؛ فالقرآن يهدي للتي هي أقوم، وعلو الهمة من جملة ذلك، والقرآن هو الذي ربى الأمة َوأدبها، وزكى منها النفوس وصفى القرائح، وأعلى الهمم وغرس الإيمان في الأفئدة.
ثالثا: قِصَرُ الأمل وتذكر الآخرة، وهذا من أعظم الموقظات للهمة، ومن أكبر البواعث على الإقبال على الله؛ وذلك أن المرء إذا تذكر قِصَر الدنيا وسرعة زوالها أدرك أنها مزرعة الآخرة وفرصة لكسب الأعمال الصالحة، وتذكر ما في الجنة من النعيم المقيم وما في النار من العذاب الأليم، وزهد في متع الدنيا وأقصر عن الاسترسال في الشهوات، وانبعثت همته للأعمال الصالحة. قال ابن الجوزي رحمه الله: "من تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر".
رابعًا: إدامة ُالنظر في السيرة النبوية؛ فحياة النبي كلها مليئة بالأحداث العظام التي تبعث الهمة وتوقظ العزيمة، حياة النبي مليئة بالجهاد والصبر والمصابرة وصدق العزيمة وعلو الهمة. ولا عجب في ذلك ـ عباد الله ـ فهو سيد البشر وخيرة الله من خلقه وقدوة الناس أجمعين.
خامسًا: مصاحبةُ الأخيار وأهلِ الهمم العالية؛ فهذا الأمر من أعظم ما يبعث الهمة ويربي الأخلاق الرفيعة في النفس، وذلك لأن الإنسان مولع بمحاكاة من حوله، شديدُ التأثر بمن يصاحبه.
سادسًا: التفاؤل؛ فإن ذلك مما يبعث الهمة، ويدعو إلى محاربة الفتور والملل، وإلى الإقبال على الجد والعمل. فإذا عمل المرء ما في وسعه واستنفد جَهده وطاقته فليثق بأن ربه لن يخذله ولن يضيع عمله، وليحذر من اليأس والقنوط والتشاؤم فإنها من أشد المثبطات وأكبر المعوقات.
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا وعملاً صالحًا وتوبة نصوحًا قبل الممات.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الناس، الوقت هو رأس مال الإنسان، وساعاتُ العمر هي أنفس ما عني بحفظه الإنسان، ليس يطغى أحدهما على الآخر.
حياة مقسمة تقسيمًا محدودًا: صِبًى، فشبابا، فكهولة، فشيخوخة. فإذا جاء الأجل فلا مفر من الموت، وما فات من الزمن لا يعود؛ فالصبى إذا فات فات أبدًا، والشباب إذا مرّ مر أبدًا، والزمن المفقود لا يعود أبدًا.
وإذا أرجعنا البصر في تاريخ علماء الأمة الذين رفعوا للحكمة لواء وجدناهم يبخلون بأوقاتهم أن يصرفوا شيئا في غير درس أو بحث أو عمل صالح، فهذا ابن عقيل الحنبلي رحمه الله يختصر وقتَ أكِله، فيختار سفَّ الكعك وتحسّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، ولهذا خلَّف رحمه الله آثارا عظيمةً ككتاب الفنون الذي قيل عنه: إنه بلغ ثمانمائة مجلدة.
فإذا كان الزمن بتلك المكانة والمنزلة فأجدر بالعاقل اغتنام وقته، والحذر الحذر من إضاعة الوقت بما لا ينفع أو بما يضر، حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ ?لْمَوْتُ قَالَ رَبّ ?رْجِعُونِ لَعَلّى أَعْمَلُ صَـ?لِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99، 100].
اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم ثبتْنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/4173)
أم سليم بنت ملحان رضي الله عنها
سيرة وتاريخ
تراجم
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
27/7/1423
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصحابية أم سليم رضي الله عنها داعية مجاهدة مؤمنة صابرة. 2- صفات أم سليم رضي الله عنها وسماتها وزواجها. 3- أم سليم رضي الله عنها أمًّا ومربية. 4- تعاهد الرسول بالتربية لابنها أنس رضي الله عنه والدعاء له. 5- زواجها من أبي طلحة. 6- قصتها في موت ابنها وصبرها. 7- بركتها وشمائلها وفضائلها في سيرتها كلها رضي الله عنها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، في هذه الخطبة المباركة إن شاء الله تعالى نتكلم عن الداعية المجاهدة والمؤمنة الصابرة البارة بزوجها صاحبة أكرم مهرٍ في الإسلام المؤمنة المربية أم سليم بنت ملحان، الملقبة بالرميصاء، صاحبة الخلق الكريم والذكاء النادر، حتى أصبحت حديث الناس، ولهذا سارع ابن عمها مالك بن النضر فتزوجها، فولدت له أنس بن مالك الصحابي الجليل المعروف.
كانت أم سليم من السابقين إلى الإسلام من الأنصار، ولم تُبالِ بما يمكن أن تلاقيه من المجتمع الوثني. وكان من أول من وقف في وجهها زوجها مالك بن النضر الذي غضِب عليها عندما علم بإسلامها فقال لها بغضبٍ بالغ: أصبوت؟! فقالت بيقين وثبات: ما صبوت، ولكني آمنت.
لم تكتف بهذا فقط، بل جعلت تلقن طفلها أنسًا وتقول: يا بني قل: لا إله إلا الله قل: أشهد أن محمدا رسول الله، فيقول ما تلقنه بكل براءة، فيقول لها أبوه: لا تفسدي عليّ ابني، فتقول: إني لا أفسده بل أعلمه وأهذبه.
نعم أمة الإسلام، إنها تُوقظ جانبَ الفطرة في نفس الطفل، وتوجِّهُها إلى الله، توجهها إلى الخالق الرازق المنعم المستحق لكمال الخضوع والذل والحب، وتعلمه من صغره الإقرار بنبوة محمد ، وكما قيل:
قد ينفعُ الإصلاحُ والتْ ـتَهذيبُ في عَهد الصغر
والنَّشء إن أهملته طفلاً تعثر فِي الكبر
فأين هذا ـ عباد الله ـ من بعض الأمهات اللاتي يُلقِّنَّ أطفالهنُ َّ بعض الأغاني والكلمات الساقطة.
ثم تحركت لدى مالك بن النضر مشاعرُ الاعتزاز بالإثم أمام َمواقف زوجته الصلبة وصمودها على الإسلام، فلم يجد بُدًا من إخبارها بأنه سيخرج من البيت هائمًا على وجهه، وأنه لن يعود إليه حتى تعود إلى دينها السابق، فخرج من البيت فلقيه عدوّ له فقتله. ولما علمت أم سليم بمقتل زوجها احتسبت ذلك، وقالت: لن أتزوج حتى يأمرني أنس.
وذهبت أم أنس إلى الحبيب المصطفى ، وعرضت عليه فلذة كبدها أنس قائلة: هذا أنس يا رسول الله، أحب أن يكون خادمًا لك، فرحب رسول الله به، وأقر عينها بذلك فقالت: ادع الله لخويدمك، فقال: ((اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته)) متفق عليه.
وكان عمر أنس حينذاك تسع سنين، وقيل: ثماني سنين، فخدم النبي عشرَ سنين، قال أنس: فلقد دفنت من صلبي مائة نفس، وإن ثمرتي لتحمل في السنة مرتين، ولقد بقيت حتى سئمت الحياة، وأنا أرجو مغفرة الذنوب.
سمع أبو طلحة بالخبر، فتقدم للزواج من أم سليم وعرض عليها مهرًا غاليًا، فقالت له: أما إني فيك لراغبة، وما مثلك يرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، فإن تسلم فذلك مهري، لا أسألك غيره. رواه النسائي. فأسلم أبو طلحة فقالت: يا أنس، زوِّج أبا طلحة.
الله أكبر عباد الله، أين نحن ممن يزوجون بناتهم ويغالون في مهورهن لأناس لا يصلّون ولا يشهدون الجمع والجماعات، لكنهم يدفعون الأموال الطائلة؟!
عباد الله، لقد هزت هذه الكلماتُ أعماقَ أبي طلحة وملأت كيانه، فقد تمكنت أم سليم من قلبه تمامًا، فليس هي بالمرأة اللَّعوب التي تنهار أمامَ المغْرَيات، إنها المرأة العاقلة التي تفرض وجودها، وهل يجد خيرًا منها تكون زوجًا له وأمًا لأولاده؟! وما شعُر إلا ولسانه يردد: أنا على مثل ما أنت عليه يا أم سليم، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
وعاشت أم سليم مع أبي طلحة حياة زوجية سعيدة، تقوم بحقوق زوجها، كما كانت مثالاً للأم الرؤوم والمربية الفاضلة الداعية.
واسمعوا ـ عباد الله ـ لما يرويه لنا أنس بن مالك عن حال أبي طلحة بعد إسلامه، يقول أنس: كان أبو طلحة أكثر أنصاريي المدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرُحاء، كانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية: لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله ، إن الله سبحانه يقول في كتابه: لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ، وإن أحب أموالي إلى بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث أراك الله.. الحديث. متفق عليه.
فانظروا ـ عباد الله ـ إلى أثر دعوة أم سليم لأبي طلحة الأنصاري.
ويكرم الله هذين الزوجين بولد ذكر، فرِحا بقدومه أعظم الفرح، وأصبح قرة عين لهما، يأنسان به وبحركاته، وقد سمياه أبا عُمير، وقد اتخذ الطفل طائرًا يلعب به، فمات الطائر فحزن عليه وبكى من أجله، فمر رسول الله به فقال له مداعبًا ومواسيًا: ((يا أبا عمير، ما فعل النُّغَير؟!)) متفق عليه.
وشاء الله أن يمتحنهما بالطفل الجميل المحبوب، فمرض أبو عمير وشُغِلَ الأبوان به، وكان أبوه إذا عاد من السوق ابتدأ بسؤال الأهل عنه وعن صحته، وخرج أبو طلحة مرةً إلى المسجد فقُبِضَ الصبي، وتلقت الأم المؤمنة الصابرة الحادثَ بنفس راضية طيبة، وسجَّته في فراشه وهي تردد: إنا لله وإنا إليه راجعون، صبر واحتساب ورضا بالمقدور، وقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكونَ أنا أحدثه.
ولما رجع أبو طلحة كانت أم سليم قد جففت دموعَ الرحمة من عينيها، وهشّت لاستقبال زوجها، وأجابته عن سؤاله المعهود: ما فعل ابني؟ فقالت له: هو أسكن ما يكون، فظن أنه عوفي، ففرح لسكونه وراحته، ثم قربت له عشاءه ولبست أجمل ثيابها وتزينت وتطيبت، فأصاب منها. ولما كان من آخر الليل قالت بكل أدب وذكاء: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت، فطلبوا عاريتهم، فهل لهم أن يمنعوها عنهم؟! قال: لا، فقالت: احتسب ابنك.
الله أكبر عباد الله، زوجة بارة، لم تلجأ لهول المصاب إلى النياحة والصراخ ولطم الخدود وشق الجيوب أو إلى الانتحار، بل تعاملت مع الموقف بهدوء وسكينة، يعجز عنه بعض الرجال.
فلما أصبح أبو طلحة ذهب إلى رسول الله وأخبره بما كان، فقال رسول الله : ((بارك الله لكما في غابر ليلتكما)) رواه مسلم. فكان ذلك حملها بعبد الله بن أبي طلحة، والذي رزق بسبعة من الأولاد، كلهم قد ختم القرآن.
فرضي الله عنكِ يا أم سليم، ورضي الله عن زوجك أبي طلحة وولدك وصحابة رسولك أجمعين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأعوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، ومع هذه الصحابية الجليلة والداعية المؤمنة التي أنزل الله فيها آيات تتلى إلى قيام الساعة؛ وذلك عندما جاء رجل إلى النبي فقال: إني مجهود، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من يضيف هذا الليلة رحمه الله؟)) فقال رجل: أنا يا رسول الله، فانطلق إلي بيته فقال لامرأته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال فعلّليهم بشيء ـ أي: سليهم بشيء ـ ونوميهم، فإذا دخل ضيفنا فأريه أننا نأكل، فإذا هوى بيده ليأكل فقومي إلى السراج كي تصلحيه فأطفئيه، ففعلت فقعدوا، فأكل الضيف وباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله فقال له عليه الصلاة والسلام: ((قد عجب الله من صنيعكما بضيفكما الليلة)) متفق عليه، فأنزل الله عز وجل: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
وهكذا ـ عباد الله ـ كان لأم سليم منزلةٌ عاليةٌ عند رسول الله ، فلم يكن يدخل بيتًا غير بيت أم سليم، وقد بشرها عليه الصلاة والسلام بالجنة حين قال: ((دخلت الجنة فسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذه الغميصاء بنت ملحان أم أنس بن مالك)) رواه مسلم.
فهنيئا لك يا أم سليم، فأنت تستحقين كل ذلك، زوجة صالحة وداعية حكيمة ناصحة وأم مربية واعية، فهنيئًا لك هنيئًا لك.
ولنا في هذه السيرة العطرة لهذه الصحابية الفاضلة والداعية المجاهدة ـ عباد الله ـ الدروس والعبر والتي منها:
قضية الولاء والبراء، وهي من أهم القضايا العقدية، الولاء لله والبراء في الله ومن أجله، الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين والمنافقين وسائر أعداء الدين، وأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فهذه أم سليم لم تسمع كلام زوجها ولم تُلق لتهديده بالاً، بل ثبتت على دينها وعقيدتها.
ومن الدروس أيضا الحرص على تربية الأولاد وتعليمهم وإيقاظ جانب الفطرة لديهم.
ومن الدروس أيضا أن الإسلام ليس فوقه شيء ولو جمعت كنوز الدنيا، ولذلك اختارت أم سليم الإسلامَ مهرًا لها؛ لأن منزلة الإسلام عندها أعظم من كل نعيم الدنيا.
ومن الدروس أيضا أن على المرأة أن تكون مثالا للداعية الناصحة والزوجة الصالحة التي تقوم بحق ربها وبحق زوجها ومدرسة دعوية في بيت زوجها.
ومن الدروس أيضا التحلي عند المصائب بالصبر والاحتساب، والتسليم لقضاء الله وقدره، والتصرف بحكمة العقلاء عند الشدائد، وقد ضربت أم سليم في باب الصبر أروع الأمثلة، والذي يعجز عنه الرجال فضلا عن النساء، ذَلِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [الحديد:21].
(1/4174)
جعفر بن أبي طالب الطيار
سيرة وتاريخ
تراجم, غزوات
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفات جعفر بن أبي طالب وشمائله. 2- صاحب الهجرتين وحديثه إلى النجاشي وثمرة ذلك. 3- سرور النبي بقدومه المدينة يوم فتح خيبر. 4- جعفر الأمير الثاني على الأمة بعد زيد رضي الله عنهما. 5- بطولته واستبساله في القتال. 6- أمراء مؤتة ودعوة الرسول لخالد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، بين أيدينا أنموذج فذ، جمع بين صدق الإيمان وعلو الهمة وبين تضحية في سبيل الله، كيف لا وهو القائل:
يا حبذا الْجنةَ واقترابَها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها عليّ إن لاقيتها ضِرابها
إنه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، الخطيب المقدام، والسخي المطعام، خطيب المهاجرين، وعلم المجاهدين، ومضيف المساكين، ومهاجر الهجرتين، ومصلي القبلتين.
سُرّ النبي بقدومه إلى المدينة، وحزن لوفاته، يقول ابن مسعود : بعثنا رسول الله إلى النجاشي ثمانين رجلاً: أنا وجعفر وأبو موسى وعبد الله بن عرفطة وعثمان بن مظعون، وبعثت قريش عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد بهدية، فقدما على النجاشي، فلما دخلا سجدا له وابتدراه، فقعد واحد عن يمينه والآخر عن شماله، فقالا: إن نفرًا من قومنا نزلوا بأرضك، فرغبوا عن ملتنا، قال: أين هم؟ قالوا: بأرضك، فأرسلَ في طلبهم.
فقال جعفر: أنا خطيبكم، فاتَّبعوه، فدخل فسلّم، فقالوا: ما لك لا تسجد للملك؟! قال: إنا لا نسجد إلا لله، قالوا: ولم ذاك؟! قال: إن الله أرسل فينا رسولاً وأمرنا أن لا نسجد إلا لله، وأمرنا بالصلاة والزكاة.
الله أكبر عباد الله، موقف صادق، وثبات وقناعة، ودفاع عن العقيدة، لم يتلعثم، ولم يتردد في شرح مفاهيم الدين الحق، ووصف الرسول بالمبعوث بالحق.
ولكن عمرو بن العاص داهية العرب يحاول مرة أخرى إثارة الوقيعة بين الأحباش النصارى وبين وفد المهاجرين المسلمين في قضية عقدية، الخلافُ فيها بين المسلمين والنصارى كبير جدًا، فقال عمرو بن العاص: إنهم يخالفونكم في ابن مريم وأمه، قال: ما تقولون في ابن مريم وأمه؟! قال جعفر: نقول كما قال الله: روحُ الله، وكلمتُه ألقاها إلى مريم التي لم يمسها بشر، قال: فرفع النجاشي عودًا من الأرض وقال: يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان، ما تريدون؟ ما يسوؤني هذا، أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى في الإنجيل، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته، فأكون أنا الذي أحمل نعليه وأوضئه، قال: انزلوا حيث شئتم، وأمر بهدية الآخرين فردّت عليهم.
الله أكبر عباد الله، خرجوا من ديارهم فرارًا بدينهم لديار ملك الحبشة الذي لا يظلم عنده أحد، فنشروا الدعوة هناك، ويكفي ـ واللهِ ـ فخرًا للمهاجرين أن تصل دعوتهم إلى بلاط النجاشي، وفي مجلسه كتاب الله يتلى وأمر الإسلام يعظم، والنجاشي يعلن إسلامه، أو يُسرُّ به لمصلحة لا تخفى، وتظل جهود جعفر ومن معه في الحبشة ثمارًا يانعة يقتات منها الأفارقة.
ولما كانت هدنة الحديبية كتب رسول الله للنجاشي في طلب جعفر وأصحابه، فحملهم النجاشي على سفينة، وحين وصلوا المدينة كان المسلمون قد فتحوا خيبر، فلم يتمالك رسول الله حينها أن يبدي سروره بمقدم جعفر وأصحابه، وحين رآه قبّل ما بين عينيه وقال : ((لا أدري بأيّهما أُسرّ: بفتح خيبر أم بقدوم جعفر)).
وقدوم جعفر من الحبشة لا ليأخذ فترة نقاهة لطول غربته، ولا ليستلذ بالراحة ولو لفترة من الزمن إثر جهاده ودعوته، بل عاد ليواصل الجهاد والدعوة للدين الحق مع قافلة المؤمنين، فلم تمضِ سنة على مقدمه، حتى كان أحد القادة الثلاثة في الجيش الإسلامي الذاهب لمنازلة الروم في مؤتة في السنة الثامنة للهجرة.
وفي معركة غير متكافئة في العدد والعدة وقف المسلمون وعدتهم ثلاثة آلاف مقاتل، والروم بلغ عددهم مائتي ألف مقاتل، فأمر النبي أمره: ((عليكم زيد، فإن أصيب فجعفر، فإن أصيب جعفر فابن رواحة)).
فتقاتل المسلمون والروم في مؤتة، والراية في يد زيد بن حارثة، فلم يزل يقاتل بها حتى شاط في رماح القوم وخر صريعًا.
أخذ الراية جعفر، فقاتل بها حتى إذا أرهقه القتال، اقتحم عن فرسه فعقَرها، ثم قاتل حتى قتل، فكان أول من عقر فرسه في الإسلام عند القتال. ويقال: إن جعفر قطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله فقطعت يساره، فاحتضن الراية حتى قتل. ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة، وتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه وهو يقول:
أقسمت يا نفس لتنزِلِنّه طائعة أو لتُكرَهِنّه
فطالما قد كنت مطمئنّة ما لي أراك تكرهين الجنّة
ثمّ نزل فقاتل حتى قتِل ، ثم أخَذ الراية خالد بن الوليد، يقول المصطفى عندما نادى مناديه بالصلاة جامعة، ورد عند البخاري أن النبي نعى زيدًا وجعفر وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم فقال: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حتى أخذها سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم))، فيومئذ سمي سيف الله.
نعم عباد الله، لئن عرفت أرض الحبشة جعفر بن أبي طالب صابرًا محتسبًا عابدًا داعيًا معلمًا، فقد عرفته أرض مؤتة مجاهدًا صادقًا وشجاعًا ثابتًا، تثخنه الجراح فيثبت، وهو يتطلع إلى النصر أو الشهادة، ولقد كان له ما أراد.
ولقبه الرسول بلقب لم يعلمه في حياته الدنيا، وأخبر أن الله أبدله جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء، وفي الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا سلم على عبد الله بن جعفر قال له: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.
هذا جعفر بن أبي طالب المهاجر الطيار الذي قال الرسول في شأنه: ((أشبهت خَلقي وخُلقي)) رواه البخاري. رضي الله عن جعفرَ الصابرِ المجاهدِ الصادقِ والشهيدِ الطيارِ والمنفقِِ الجوادِ أبي المساكين وأشبه الناس خلقًا وخُلقًا بخير البرية أجمعين.
اللهم إنا نشهدك على محبة نبينا ومحبة أصحابه وإن ضعفت هممنا عن اللحاق بهم، اللهم احشرنا معهم، واجمعنا بهم، وأكرمنا كما أكرمتهم، ووفقنا للخير كما وفقتهم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب عظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الناس، هذا هو جعفر بن أبي طالب، أحد شباب الإسلام الذين رفعوا راية التوحيد على جبال السند والهند، ونشروا الدين في أوربا وإفريقيا، وقدموا النّفس والنفيس لخدمة هذا الدين، فليتطلع اليوم شباب الأمة إلى هذه النماذج ليعودوا إلى اتباع تاريخ أسلافهم.
وكما قال ابن عمر رضي الله عنهما: من كان مستنًا فليستنَّ بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد ، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه ونقل دينه.
فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد ، كانوا على الهدى المستقيم والله رب الكعبة.
اللهم أصلحْ شباب الإسلام، وردهم إلى دينهم ردًا جميلاً، يا رب العالمين.
(1/4175)
أسباب أمراض القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
أسامة بن سعيد عمر منسي المالكي
مكة المكرمة
24/2/1419
أبو العلا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشرك أهم أسباب مرض القلوب. 2- حب الدنيا يبعد القلب عن الآخرة. 3- مجالسة أصحاب البدع تفسد القلب. 4- فضول الطعام يدعو إلى الشر. 5- مفاسد إطلاق البصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ وقد يورثُ الذلَ إدمانها
وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ وخيْرٌ لنفسِكَ عصيانُها
عباد الله، حديثنا اليوم عن القلوب، وهي تنقسم إلى قسمين: قلوب بيضاء وقلوب سوداء، وذلك حسب تقسيم رسول الله لها في الحديث الصحيح، والقلوب السوداء قلوب مريضة، وهذا المرض له أسباب، وهذه الأسباب هي موضوع خطبتنا في هذا اليوم.
فمن أسباب مرض القلب الشرك، ومع ازدياد الأمراض التي تنتاب ذلك القلب يبدأ القلب بالضعف رويدًا رويدًا حتى يستسلم للموت، وفي ذلك يخاطب العلماء تلك القلوب الميتة بألم وحسرة منبعثة من حرصهم على أن يكون أولئك من جنود الإسلام، لا من موتى الإسلام، فقد آلمهم أن يروا أجسادًا بلا قلوب، فلم يستطعوا أن يكتموا غضبهم أو يتمالكوا أنفسهم حيال هذا المنظر، فصاحوا فيهم قائلين: يا موتى القلوب، يا مشركين بالأسباب، يا عابدين أصنام حولِهم وقواهم ومعايشهم ورؤوسِ أموالِهم، كل من يرى الضر والنفع من غير الله عز وجل فليس بعبد له، ومن فعل ذلك فهو اليوم في نار المقت والحجاب، وغدًا في نار جهنم، ما يسلم من نار الله عز وجل إلا المتقون الموحدون والمخلصون التائبون.
وبهذا فإننا نلاحظ هنا أن الإمام الجيلاني يحيل أسباب الأمراض التي تصيب القلوب إلى سببين رئيسين وهما: الإشراك بالأسباب والإشراك في العبادة.
فالشرك بالأسباب هو اعتقاد الإنسان أن السبب بذاته هو المؤثر دون قدرة الله عز وجل فيه، كأن يعتقد أن الدواء بذاته هو الذي يشفي دون أن يكل ذلك إلى قدرة الله، أو أن يعتقد أن فلانًا من الناس يضر أو ينفع دون أن يعتقد أن الله هو الضار والنافع، وأن ذلك الإنسان إنما كان سببًا من الأسباب التي قدرها الله لقضاءٍ قدره.
وأما الشرك في العبادة فمعلوم أنه لا معبود بحق سوى الله، وأن من معاني العبادة الانقياد والطاعة والذل والخضوع والمحبة، فإن انقاد الإنسان أو أطاع أو ذل أو خضع أو أحب لغير وجه الله فإنه أشرك في عبادته لله، وإن كل من أشرك مع الله آلهة أخرى في العبادة فإنه يعرض قلبه للمرض ثم يعقبه الموت المحقق.
ومع ازدياد ظاهرة عبادة العبيد والخوف منهم ورجاء الخير منهم يشتد المرض حتى يموت القلب، فإذا مات وتوقفت النبضات وانقلب لونه إلى السواد كان ذلك دليلاً على الموت، وفي ذلك يقول الإمام الجيلاني: "لا تبع الدين بالتين، لا تبع دينك بتين الأغنياء وأكلَة الحرام، إذا أكلت بدينك اسودَّ قلبك، وكيف لا يسود وأنت تعبد الخلق؟!".
أيها المؤمنون، ومن أسباب مرض القلب حب الدنيا، ولم نَمَلَّ ونحن نصغي للإمام الجيلاني وهو يحدثنا عن أسباب أمراض القلوب، وآثرنا قبل مغادرتنا أن نستمع إليه يذكر سببًا آخر من أسباب صدأ القلوب فيقول: "القلب يصدأ، فإن تداركه صاحبه بما وصف النبي وإلا انتقل إلى السواد، يسود لبعده عن النور، يسود لحبه الدنيا والتحويز عليها من غير ورع؛ لأن من تمكن من قلبه حب الدنيا زال ورعه، فيجمعها من حلال وحرام، يزول تمييزه في جمعه، يزول حياؤه من ربه عز وجل ومراقبته"، وقال : ((لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ أَمِنْ حَلالٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ)) رواه البخاري (2083).
ويشبه بعضهم فساد القلب بسبب طلب الدنيا بفساد العسل إذا أضيف له الخل فيقول: لا تطلب الدنيا ولا تغضب لشيء منها، فإن ذلك يفسد قلبك كما يفسد الخل العسل.
ويلازم فساد القلب وقسوته ضياع الحكمة ونسيانها، وذلك ما أراد تأكيده الإمام قبل مغادرتنا له عندما قال: "فرحك بالدنيا وإقبال الخلق عليك ينسيك الحكمة ويقسي قلبك".
ومن أسباب مرض القلب مخالطة أصحاب البدع، وطبيعة الإنسان أنه يتأثر بالحسن والسيئ، وتختلف نسبة التأثر من شخص لآخر، إلا أنه لا يسلم أحد من التأثر، لذلك قال رسول الله : ((الرجل على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) رواه الترمذي (2484). ومعنى ((على دين خليله)) أي: على عادة صاحبه وطريقته وسيرته، قال الغزالي: "مجالسة الحريص ومخالطته تحرّك الحرص، ومجالسة الزاهد ومخاللته تزهد في الدنيا؛ لأن الطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بالطباع من حيث لا يدري".
ولهذا السبب حذر الإمام الحسن البصري من مجالسة أهل البدع، لسبب مرض قلوبهم، خوفًا على الجليس من التأثر بالمرض فقال: "ولا تجلس إلى صاحب بدعة، فإنه يمرض قلبك ويفسد عليك دينك".
ولا ننسى قولَ رسول الله : ((إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَاملُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً)) رواه مسلم (2628).
ومن أسباب مرض القلب كثرة الضحك، يقول الرسول : ((لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب)) رواه ابن ماجه (4193) وصححه البوصيري. وما موت القلب إلا نتيجةٌ واحدة من نتائجه، فقد عدد نتائجه الإمام الحسن فكانت أربعة، فاسمعه حين يقول: "ابن آدم، أقلل الضحك؛ فإن كثيرَه يميت القلب، ويزيل البهجة، ويسقط المروءة، ويزري بذي الحال".
ومن أسباب مرض القلب كثرة الأكل، وقلة الطعام توجب رقة القلب وقوة الفهم وانكسار النفس وضعف الهوى والغضب، وكثرة الطعام توجب ضد ذلك. عن المقدام قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما ملأ آدمي وعاء شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صُلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه)) رواه الترمذي (3349) والحاكم (4/121) وصححه ووافقه الذهبي.
وفضول الطعام داعٍ إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي، ويثقلها عن الطاعات والعبادات، وحسبك بهذين شرًا، فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام، وكم من طاعة حال دونها، فمن وقي شر بطنه فقد وقي شرًا عظيمًا.
والشيطان أعظم ما يتحكم في الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام؛ ولهذا جاء في بعض الآثار: إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقال بعض السلف: كان شباب يتعبدون من بني إسرائيل، فإذا كان فطرهم قام عليهم قائم فقال: لا تأكلوا كثيرًا فتشربوا كثيرًا فتناموا كثيرًا فتخسروا كثيرًا.
وقد كان النبي وأصحابه يجوعون كثيرًا، وإن كان ذلك لعدم وجود الطعام، إلا أن الله لا يختار لرسوله إلا أكمل الأحوال وأفضلها، ولهذا كان ابن عمر يتشبه به في ذلك مع قدرته على الطعام، وكذلك كان أبوه رضي الله عنهما من قبله.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما شبع آل محمد منذ قدم المدينة من خبز البُرِّ ثلاث ليال تباعًا حتى قُبض. رواه البخاري (5416).
وقال إبراهيم بن أدهم: "من ضبط بطنه ضبط دينه، ومن ملك جوعه ملك الأخلاق الصالحة، وإن معصية الله بعيدة من الجائع قريبة من الشبعان".
فاتقو الله عباد الله، وتوبوا إليه واستغفروه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وآله الطاهرين وأصحابه الطيبين، ومن اقتدى بهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، ومن أسباب مرض القلب فضول النظر، وهو إطلاق النظر إلى الشيء بملء العين، والنظر إلى ما لا يحل النظر إليه، وهو على العكس من غض البصر، فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ نَظَرِ الفجاءة فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي. رواه مسلم (2159). والفجأة هي البغتة، ومعنى نظر الفجأة أن يقع بصرُه على الأجنبية من غير قصد، فلا إثم عليه في أول ذلك, ويجب عليه أن يصرف بصره في الحال, فإن صرف في الحال فلا إثم عليه, وإن استدام النظر أثم لهذا الحديث, فإنه أمره بأن يصرف بصره مع قوله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
عباد الله، وفضول النظر يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور في قلب الناظر، فيحدث أنواعًا من الفساد في قلب العبد، منها أن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصره لله أورثه حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه، ومنها دخول الشيطان مع النظرة، فإنه ينفذ معها أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي؛ ليزين صورة المنظور، ويجعلها صنمًا يعكف عليه القلب، ثم يعِدهُ ويُمنِّيه، ويوقد على القلب نار الشهوات، ويلقي حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة، ومنها أنه يشغل القلب، وينسيه مصالحه، ويحول بينه وبينها؛ فينفرط عليه أمرُه، ويقع في اتباع الهوى والغفلة، قال الله تعالى: وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
وإطلاق البصر يوجب هذه الأمور الثلاثة، وقال أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق، فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك.
وإطلاق البصر كذلك يلبس القلب ظلمة، كما أن غض البصر لله عز وجل يلبسه نورًا، وقد ذكر الله عز وجل آية النور: ?للَّهُ نُورُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] بعد قوله عز وجل: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ [النور:30]، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان.
وإطلاق البصر كذلك يعمي القلب عن التمييز بين الحق والباطل والسنة والبدعة، وغضه لله عز وجل يورثه فراسة صادقة يميز بها. قال أحد الصالحين: "من عمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وغض بصره عن المحارم وكف نفسه عن الشبهات واغتذى بالحلال لم تخطئ له فراسة".
والجزاء من جنس العمل؛ فمن غض بصره عن محارم الله أطلق الله نور بصيرته.
(1/4176)
خذ من أموالهم صدقة
فقه
الزكاة والصدقة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/9/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة في تفاوت الناس في الأرزاق. 2- التحذير من الاغترار بالمال. 3- حب المال غريزة في النفوس. 4- المال مال الله تعالى. 5- فرض الزكاة. 6- الحكمة من فرض الزكاة. 7- الأصناف التي تجب فيها الزكاة وبيان المقدار الواجب. 8- زكاة الديون والأسهم. 9- التحذير من التساهل بأمر الزكاة. 10- ضرورة التحري في صرف الزكاة لمستحقيها. 11- أولوية القريب المحتاج. 12- التحذير من سؤال الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من حكمة ربنا تعالى أن فاوتَ بين العباد في أرزاقهم كما فاوتَ بينَهم في أخلاقهم، وفي الأثر: (إن الله قسَم بينكم أخلاقكم كما قسَم بينكم أرزاقَكم) [1]. وله الحكمة في تفاوت الخلق في أرزاقهم، فإنه فاوتَ بينَهم فجَعل أغنياءَ وفقراء، بل جعل الأغنياءَ متفاوتين في قدر الغنى، كما أن الفقراءَ متفاوتون في قدر الفقر، قال تعالى مبيِّنًا ذلك وأنه يبسط الرزق لمن يشاء: قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [سبأ:36]، لا يعلمون هذه الحقيقة، لا يدركون كُنهَها، والله جل وعلا هو العليم الحكيم الذي يقسم رزقَه بين عباده على كمال الحكمة والعلم والرحمة والعدل.
ثم إنَّه جلَّ وعلا حكيم عليم في هذا التفاوت؛ ليظهر شكرُ الأغنياء عندما يُعطَون من الرزق، ويظهر صبرُ الفقراء على ما أصابَهم، فالغنيّ مبتلى بماله؛ أيكون ذلك المال سببًا لشكر الله والقيام بحق الله، أم سببًا للأشر والبطر والترفُّع عن الخلق؟ كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6، 7]. وكم قصَّ الله علينا من قومٍ خدعتهم أموالُهم وغرَّتهم ثرواتهم حتى أخرجتهم عن منهج الله القويم، هذا قارون يقول الله عنه: إِنَّ قَـ?رُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى? [القصص:76]، وبيَّن جل وعلا [غناه] بقوله: مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِ?لْعُصْبَةِ أُوْلِى ?لْقُوَّةِ [القصص:76]، فمفاتح خزائنه تعجز عن حملها العصبةُ من الرجال، فكيف بالأموال؟! وهؤلاء أصحاب الجنة الذين قصّ الله علينا خبرهم: فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَ?لصَّرِيمِ الآية [القلم:19، 20]، لمَّا منعوا حقَّ الله وتكبَّروا عاقبَهم اللهُ بما عاقبهم به.
وابتلى الفقراءَ؛ أيصبرون على ما قسم الله لهم أم يتسخَّطون؟ فمن كان منهم صابرًا محتسبًا فله الثواب العظيم، ((قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه)) [2].
ثمَّ إنَّ من حكمته تعالى أن جعل حبَّ هذا المال غريزة في نفوس البشر، لكي يسعوا في جمعه وطلبه لتقوم بذلك مصالحهم، وَتُحِبُّونَ ?لْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، وَإِنَّهُ لِحُبّ ?لْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، لكن حبّ المؤمن للمال يختلف عن حبّ غيره، فحبّ المؤمن للمال ليؤدّيَ حقَّ الله، ليؤدّي الزكاة المفروضة، وتجود نفسُه بالصدقات النافلة، وليساهم في طرق الخير ما وجد لذلك سبيلا. وحبُّ غير المؤمن للمال حبٌّ لجمعه وتكديسه والمفاخرة به والتعالي به على الخلق، أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى ?لْخَيْر?تِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56].
هذا المالُ الذي بأيدي الناس هو مالُ الله، ملّكه عبادَه ابتلاءً وامتحانًا، وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ ?للَّهِ ?لَّذِى ءاتَـ?كُمْ [النور:33]. فهو مالُ الله خلقا وإيجادًا، وهو مالُ البشر من حيث التصرّف في هذا المال، ولكنَّهم مسؤولون عن تصرّفهم في أموالهم، فليس لهم الحرّّية المطلقة أن يعملوا ما شاؤوا بدون ضابطٍ شرعي، وفي الصحيح: ((إنَّ رجالاً يتخوّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) [3]. فأموالنا عاريةٌ عندنا، ومالُنا الحقيقي ما قدَّمناه لآخرتنا، فليس لنا من أموالنا إلا ما لبسنا فأبلينا، أو أكلنا فأفنَينا، أو تصدَّقنا فأبقينا، وما سوى ذلك فنفارقه وندعه للوارث. ولهذا النبي سأل أصحابه: ((أيكم مالُ وارثِه أحبُّ إليه من ماله؟)) قالوا: كلنا ذلك، قال: ((مالك ما قدّمت، ومال وارثك ما أخّرت)) [4]. فمالك الحقيقيّ ما قدَّمته لآخرتك، وعملتَ فيه عملاً صالحًا لآخرتك، وما سوى ذلك فمالُ لغيرك، عليك التّعب في الجمع والتوفير، ولغيرك المصلحة في الانتفاع، وسبحان الحكيم العليم.
أيها المسلم، إنَّ الله جلَّ وعلا فرضَ الزكاةَ على الأغنياء حقًا لإخوانهم الفقراء، وجعل هذه الزكاةَ ركنًا من أركان الإسلام التي يقوم عليها الإسلام، فالإسلام بُني على خمسة أركان: شهادة أن لا إلا إله الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام.
إذًا فالزكاةُ هي الركن الثالثُ من أركان الإسلام، من جحدها وأنكر وجوبَها فذاك مرتدٌّ عن الإسلام والعياذ بالله، ومن بخِل بها واستخفَّ بها وتساهل بها فقد عرّض نفسَه لعقاب الله في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، الزكاةُ أحدُ أركان الإسلام، لا يكمُل إسلامُك إلا إذا أدَّيتَ الزكاةَ إن كنتَ ممن يطالَب بأدائها، فلا بدَّ في صحّة إسلامك من أدائك لهذه الزكاة، يقول النبي لمعاذ لما وجَّهه لليمن: ((فإن هم أجابوك ـ أي: وحّدوا وأدوا الصلاة ـ فأخبِرهم أنَّ اللهَ افترضَ عليهم صدقةً تُؤخذ من أغنيائهم وتردّ إلى فقرائهم)) [5].
أيها المسلمون، فالزكاة أحدُ أركان الإسلام ومبانيه العظام، دلّ على وجوبها الكتابُ والسنة وإجماع المسلمين، جعلها الله قرينةَ التوحيد والصلاح، وقرنَها في آي كثيرة بالصلاة: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5]، جعل المانعين لها من المشركين: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ بِ?لآخِرَةِ هُمْ كَـ?فِرُونَ [فصلت:6، 7]، وقال: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180]. يؤتى يوم القيامة بماله شجاعًا أقرع، فيطوَّقُه، ويأخذ بشدقيه ويقول: أنا كنزك، أنا مالك. وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
أيها المسلم، إنَّ الله حكيم عليم في أوامره ونواهيه، والمسلمُ يقبل أمرَ الله علِم السببَ أو لم يعلم، لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء:23]، ولكن إذا بُيِّن له السببُ صار بيان سببِ الأمرِ وسيلةً لقوة الإيمان واليقين، وربنا جل وعلا لما أوجب الزكاةَ بيَّن حكمتَها في جزء من آية فقال: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103]. كم يتحدَّث الناس، وكم يكتب الكتاب، وكم يقول من قائلٍ [في] حكمة الزكاة، وإذا تأمَّلت الأمرَ وجدتَ مرجعَه إلى هذه الآية: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا.
فبيَّن تعالى حكمتين: حُصول الطهارة والزكاة لهذا المال، وأنَّ هذا المالَ إذا أُدِّيت زكاته أثمر أمرين: طهرة وزكاة، الطهر هنا طهرٌ أولاً للأموال، فالأموال التي لا تؤدَّى زكاتُها أموالٌ مشتملة على الأوساخ والأدناس والأقذار، فالماء إذا وقعت فيه النجاسة، وقعت عذرة أو بول في ماء، لرأيت هذا الماءَ ماءً مستهجَنا قذرًا يجب أن يراق، إذًا هذا المال الباقي فيه زكاتُه باقيةٌ فيه أدناسُه وأوساخه، فالزكاة تطهِّر هذا المال، وتجعله نقيًا خالصًا صافيًا. وهي أيضًا تطهِّر قلبَ المزكي، تطهِّره من داء الشحِّ والبخل والجشع، فإن المالَ محبوبٌ للنفس، يقول جل وعلا: وَلاَ يَسْئَلْكُمْ أَمْو?لَكُمْ وإِن يَسْئَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَـ?نَكُمْ [محمد:36، 37]، وهي تزكِّي مالَه فيعود إخراجُها على المال بالبركة، وما نقص مال من صدقة، بل تزيدُه، بل تزيده. وهي تزكِّي نفسَه، فتجعله زكيَّ النفس مهذَّبَ الأخلاق والسلوك. وهي تطهِّر المجتمعَ من داء الجريمة، عندما يبذل الأغنياءُ زكاةَ أموالهم، ويواسوا إخوانَهم الفقراء، فهذه الزكاة نقلّصُ الجريمة، وتقلِّل السرقةَ والنهبَ والتطلع إلى أموال الآخرين. وهي تربِط بين طبقاتِ المجتمع، بين الأغنياء والفقراء، عندما يؤدِّي الأغنياء زكاةَ أموالهم والنفوسُ مجبولة على حبِّ من أحسن إليها، فتعود تلك الزكاةُ برابطة قويّة بين طبقات المجتمع المختلفة، وتلك من حكمة الله العظيمة. وهي إحسان ورحمةٌ وعطفٌ ومواساة، ففيها الخير الكثير، والله حكيم عليم.
أيها الإخوة، هذه الزكاةُ ليست ضريبةً على الأغنياء، ولا نهبًا لأموالهم، لا، ولكنها بركة لهم، وخير يعود عليهم في دنياهم وآخرتهم. إنَّ ربَّنا جل وعلا لم يوجب الزكاةَ للإجحاف بأموال الأغنياء، ولكنه جعلها جزءًا يسيرًا في أموالهم، والفضلُ فضله والخير خيرُه.
هذه الزكاة إنما تجب في كلِّ عام، وهذه الزكاة تجب في أموال خاصَّة شَرطَ كمال النصاب، ومُضيِّ الحول، وتمكّن المزكِّي بأن يتمَ ملكه كاملاً على هذا المال.
أوجبها ربُّنا في أصناف من المال، أوجبها في الخارج من الأرض من الحبوب والثمار المُكالة المدَّخرة: وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وفي الحديث: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا العشر، وفيما سُقي بالنضح نصف العشر)) [6] ، فجعل العشرَ في الحبوب والثمار إن سقِيَت بلا كلفة، وجعل نصفَ العشر إن سُقيت بالمؤونة والمشقة، ولم يوجبها في الخضروات والفواكه؛ لأنها لا تكال ولا تدَّخر، بل هي أشياء موسميّة، إلا إذا رصد قيمتَها ومضى عليها الحول.
أوجبها في بهيمة الأنعام من الإبل والبقر والغنم، إذا كانت سائمة ترعَى بنفسها فلا يقرَّب لها العلف ولا الماء، ولكن ترعى وتشرَب الماءَ من غير أن يقرَّب لها شيءٌ من ذلك الحولَ أو معظمه، هذه السائمة من الإبل والبقر والغنم، فالإبل أولُ أنصبائها خمسة وفيها شاة، إلى أن تبلغ خمسًا وعشرين فيجب فيها من الإبل، والغنم أربعون أولُ نصابها، والبقر ثلاثون, ولا تجب إلا إذا كانت سائمة، أما إن كانت عنده ماشيةٌ اتَّخذها للدَّر والنسل، ويُنفق عليها يقرِّب لها العلف والماء معظمَ الحول، وقد يبيع منها إذا احتاج، لكن ليست للتجارة ولكنها لمنفعته الخاصة، وقد يبيع منها أحيانًا، فتلك لا زكاة عليها لأنها ليست سائمة، ولم تعدَّ للتجارة.
أوجبها ربُّنا علينا في النقدين من الذهب والفضة، وهما أصول الأموال، ولهذا النبي يقول في الكتاب الذي كتبه: ((في الرقّة إذا بلغت مائتي درهم خمسة دراهم)) [7] ، والذهب أخبر أنه إذا بلغ عشرين دينارًا ففيها أيضًا ربع العشر؛ لأن نصابَه عشرون مثقالاً، ففيها ربع عشرها نصفُ دينار. هذا الذهب والفضة أوجب الله فيها الزكاة إذا بلغت النصاب، فنصاب الفضة مائتا درهم إسلامي، وهي ما تعادل بالعربي السعودي ستة وخمسين ريالاً عربيًا، أو قيمتها بالأوراق الموجودة، فيها ربعُ عشرها اثنان ونصف في المائة. والذهب إذا بلغ عشرين مثقالاً، وهي أحد عشر جنيها سعوديًا ونصف الجنيه، أي: ما يعادل اثنين وتسعين غرامًا، ففيها ربع عشرها اثنان ونصف في المائة. فيزكي المسلم النقدين اللذين عنده من ذهب من فضة من أوراق نقدية قائمةٍ مقامَ الذهب والفضة على اختلاف تلك العملات الموجودة عنده، سواء عملة حاضرة أو غيرها، ويزكيها فيخرج ربعَ عشر قيمتها على مضيِّ الحول، في المائة اثنان ونصف، في الألف خمس وعشرون، في المائة ألف ألفان وخمسمائة، فيزكي النقدَ الموجود، ويزكي المال الموجود في ذِمم الناس له، إذا كان من في ذمته المالُ مليًا قادرًا على التسديد، وكذلك من يمتهنون مهنةَ التقسيط في السيارات أو غيرها، هؤلاء يزكّون المالَ الموجود عندهم، ويزكون الأموال في ذمم الناس؛ لأنهم غالبًا موثِّقون لها برهونٍ وكفلاءَ غرماء، فيزكّون تلك الأموال الموجودة في ذمم الناس، فمن عندهم مالٌ في ذمم الناس نتيجة التقسيط في السيارات أو كانوا أربابَ عقار يبيعون ويشترون، فهؤلاء يزكّون ما بأيديهم وما في ذمم الناس لهم في أولئك الأملياء الموثَّقةِ عقودُهم بكفلاءَ ورهون ثابتة.
أيها المسلم، فزكِّ تلك الأموالَ وأدِّها كاملة، كذلك الذين عملُهم بيعُ الأسهم وشراء الأسهم، يشترون الأسهمَ إذا رأوها رخيصةً، وينتظرون بها ارتفاعَ سعرها فيبيعونها إن هي غلت، هؤلاء يزكون هذه الأسهم بقيمتها الحاضرة الشرائية يوم مضيِّ الحول، أما الأسهم الثابتة التي تؤخَذ غلَّتُها ولا يتعرّض لأصولها، فهذه الغلَّة إن مضى عليها سنة بعد قبضها زكَّيتَها وإلا فلا.
وأوجبها ربُّنا جل وعلا في عروض التجارات، قال جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـ?تِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مّنَ ?لأرْضِ [البقرة:267]، ويقول سمرة رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نخرج الزكاة مما نعدُّ للبيع [8]. فيزكِّي صاحبُ التجارة عروضَه التجارية وسلعَه التجارية على اختلاف أصنافها وأنواعها، يقدِّر موجوداته ومستودعاتِه كلَّ سنة، فيزكِّيها بقيمتِها التي يبيع بها في الحال، سواء كان بيعَ جملة أو بيع أفراد، فصاحب التفريد يقوِّمها على قدر ما يبيعها، وصاحب الجملة يقدِّرها على قدر ما يبيع بها، فالجميع يزكّون أنواعَ السلع على اختلافها وتنوّعها، يقوَّم الجميع عند الحول، فيخرَج زكاتُه، وهي ربع عشر قيمتها، اثنان ونصف في المائة.
أيها المسلم، إياك والتساهلَ بأمر الزكاة، وإياك والتهاونَ بها، فإنك إن أغفلتَها في الدنيا فسوفَ تحاسَب عليها يومَ القيامة، فحاسِب نفسَك في الدنيا وقدِّم عملاً صالحًا يُرضي اللهَ عنك، وبادر بزكاة مالك طيبةً بها نفسُك، واعلم أنها مغنمٌ لا مغرم، وأنها ربحٌ وليست بخسارة.
أيها المسلم، يتساءل البعضُ [ممن] يكون له في ذمة بعض الناس دين، ويرى أن هذا صاحبَ الدين يعجز عن الوفاء، هل يُسقطه ويعتبره من الزكاة؟ نقول: لا، لا تعتبره من الزكاة؛ لأنَّك لم تملِكه الآن وهو غائب منك، والله يقول: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:103]، فالصدقة فيها أخذٌ وعطاء، وهذا المال في ذمة الفقير ليس كذلك، ولكن إن تبرَّعتَ به له من باب الصدقة العامة فالله يقول: وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280].
فاتقوا ربكم ـ يا عباد الله ـ في زكاة أموالكم، وأحصوها قبل أن تُحصى عليكم، واحرصوا على أن تُوصلوها لمستحقِّيها، فهي أمانةٌ عندكم، أمانة الإخراج وأمانة إيصالها لمن هو أهل لها، نسأل الله العون والتوفيق على كل خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن المبارك في الزهد (1134)، والطبراني في الكبير (8990)، وأبو نعيم في الحلية (4/165) وغيرهم عن ابن مسعود موقوفا عليه، ورواه أحمد (1/387)، والبزار (3562)، وأبو نعيم في الحلية (4/166)، والبيهقي في الشعب (5524) وغيرهم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا، قال الدارقطني في العلل (5/271): "والصحيح موقوف"، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (6/1/484): "الأصح في إسناد الحديث أنه موقوف، لكن لا يخفى أنه في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال من قبل الرأي".
[2] أخرجه مسلم في الزكاة (1054) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في فرض الخمس (3118) من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6442) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه.
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1395)، ومسلم في الإيمان (19) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في الزكاة (1483) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
[7] أخرج أحمد (1/92، 113، 132)، وأبو داود في الزكاة (1574)، والترمذي في الزكاة (620)، والنسائي في الزكاة (2477، 2478)، وابن ماجه في الزكاة (1790) عن علي رضي الله عنه مرفوعا: ((قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرقة، من كل أربعين درهما درهما، وليس في تسعين ومائة شيء، فإذا بلغت مائتين ففيها خمسة دراهم)) ، ونقل الترمذي تصحيح البخاري له، وصححه ابن خزيمة (2284)، وحسن إسناده الحافظ في الفتح (3/327).
[8] أخرجه أبو داود في الزكاة (1562)، والبيهقي في الكبرى (4/146)، وضعفه ابن حزم في المحلى (5/234)، والهيثمي في المجمع (3/69)، والألباني في تعليقه على المشكاة (1811).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
يقول بعض السلف رحمهم الله: "لو صدَق الأغنياءُ فأخرجوا كاملَ زكاتهم، أو صدق السائلون فلم يسأل إلا المستحقُّ لعمَّ الخير الجميع"، ولكن يؤتَى المجتمعُ من أمرين: إما بخل من بعض الأغنياء، أو سؤال من لا يستحق الزكاة فيأخذها ويُترك الفقراء.
أيها المسلم، الزكاةُ أمانة، انظر إلى المستحقين وابحث عنهم، انظُر إلى المستحقين الذين قال الله فيهم: تَعْرِفُهُم بِسِيمَـ?هُمْ لاَ يَسْئَلُونَ ?لنَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273]، انظرْ إلى المتعفِّفين الذين لا يمكن أن يسألوا الناس، يقول النبي : ((ليس المسكينُ الذي تردّه اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي لا يسأل الناس، ولا يُفْطَن له فيتصدَّق عليه)) [1].
فابحث عن أولئك بقدر إمكانك، وأعطهم سرًا حتى لا تُخجلَهم، فإنَّ البعض قد لا يرضى باسم الزكاة، لا سيما أمامَ الناس، فأعطه سرا، إِن تُبْدُواْ ?لصَّدَقَـ?تِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ?لْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:271].
أيها المسلم، احرص على أن تكون زكاتُك لأقاربِك المستحقين إن وُجدوا، فأقاربك من إخوانك وأخواتك، أعمامك وعماتك، أخوالك وخالاتك، بني عمك وبني عماتك، بني أخوالك وخالاتك، بني إخوانك بنات أخواتك، بنات عمك [وعماتك]، هؤلاء هم أحقّ الناس بالصدقة إن وُجدوا فقراء، يقول سلمان بن عامر: سمعت رسول الله يقول: ((صدقتُك على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة)) [2].
أيها المسلم، احذَر أن تسألَها والله مغنيك عنها، فإنك إن سألتها مع الغنى إنما تسأل جمرًا، فاستقِلّ الله أو استكثِر، يقول : ((لا تزال المسألة بأحدهم حتى يلقى اللهَ وليس في وجهه مزعةُ لحم)) [3] ، ويقول: ((من سأل الناسَ أموالَهم تكثّرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقلَّ أو ليستكثر)) [4] ، ويقول: ((ما فتح عبدٌ على نفسه بابَ مسألة إلا فتح الله عليه بابَ فقر)) [5] ، جاء قبيصة بن هلال الحارثي للنبي يسأله فقال النبي: ((يا قبيصة، أقِم عندنا حتى تأتيَنا الصدقة فنأمرَ لك بها)) ، ثم قال: ((يا قبيصة، إنَّ المسألة لا تحلّ إلا لثلاثة: رجل تحمَّل حمالة فحلّت له المسألة حتى يصيبَها ثم يمسِك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت مالَه فحلَّت له المسألةُ حتى يجد قوامًا من عيش أو سدادًا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثةٌ من ذوي الحِجى من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلّت له المسألة حتى يصيبَ قوامًا من عيش، وما سوى ذلك ـ يا قبيصة ـ سحتٌ يأكله صاحبُه سحتا)) [6].
يا أخي، كم من متسوّلٍ أظهر نفسَه مظهرَ المريض والمَعيب والعاجز والأخرص وكذا وكذا، والله يعلم منه خلافَ ذلك، أما يخشى أن يعاقبه الله فيسلبُ عنه نعمته؟! فاحذروا ـ يا عباد الله ـ أن تعطوا هذا النوعَ المتقوِّل المفتري، بل انصحوهم وخوِّفوهم من الله، جاء رجلان للنبي يسألانه الصدقة، فقلّب فيهما النظر صاعدًا ونازلاً، وقال: ((إن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيها لغنيّ ولا لقويٍّ مكتسب)) [7].
فيا عباد الله، أدّوا زكاةَ أموالكم، واحرِصوا على الأمانة في إخراجها وإيصالها لمستحقيها، تقبَّل الله منا ومنكم صالحَ العمل، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذَّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1479)، ومسلم في الزكاة (1039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (4/214)، والترمذي في الزكاة (658)، والنسائي في الزكاة (2582)، وابن ماجه في الزكاة (1844)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، لكن في سنده الرباب بنت صليع الضبية الراوية عن سلمان، قال الذهبي في الميزان (7/468): "لا تعرف إلا برواية حفصة بنت سيرين عنها"، وقال ابن حجر في التقريب (8582): "مقبولة".
[3] أخرجه البخاري في الزكاة (1475)، ومسلم في الزكاة (2540) واللفظ له من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه مسلم في الزكاة (1041) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (9421)، وأبو يعلى (6691) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (3387). وله شاهد من حديث أبي كبشة الأنصاري أخرجه أحمد (18031)، والترمذي في الزهد (2325) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (16). وله شاهد آخر من حديث عبد الرحمن بن عوف أخرجه أحمد (1674)، والبزار (1033)، وأبو يعلى (849) وفي إسناده رجل لم يسمّ.
[6] أخرجه مسلم في الزكاة (1044) من حديث قبيصة بن مخارق رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (17972)، وأبو داود في الزكاة (1633)، والنسائي في الزكاة (2598)، والبيهقي في الكبرى (7/41) عن عبيد الله بن عدي أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي يسألانه من الصدقة... الحديث قال أحمد ـ كما في التلخيص الحبير (3/108) ـ: "ما أجوده من حديث"، وصححه الألباني في الإرواء (876).
(1/4177)
المسلم والمرض
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الفتن, المرضى والطب
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الصحة والعافية رأس مال المسلم. 2- حال المسلم مع المرض. 3- المرض كفارة للعبد المسلم. 4- الأمراض والمصائب نذر ومواعظ من الله سبحانه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، يقول الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
فمن سنة الله تعالى في خلقه أن يبتليَهم بالمصائب والتي تختلف على حسب أنواعها، فتارةً تكون في البدن، وتارة في الولد، وتارة تكون في المال، وقد تجتمع أحيانًا، وتفترق أحيانًا أخرى.
ولا شك ـ عباد الله ـ أن نعمة الصحة والعافية عند العبد أهم من ماله وأملاكه مهما بلغت، ولذلك تجد من أصيب بمرض ينفق أموالاً طائلةً طلبًا للعافية والسلامة، وذلك لأن نعمة العافية من أعظم نعم الله على الإنسان، قال : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) أخرجه البخاري.
عباد الله، وإذا تأملنا حال الإنسان المسلم مع المرض نجد أنه على أربعة أحوال: حال قبل المرض، وحال في أثناء المرض، وحال في أثناء العلاج، وحال بعد شفائه من المرض.
أما حاله قبل المرض أي: في أثناء صحته وعافيته فعليه بتقوى الله وطاعة والكف عما حرمه الله، وأما في حاله في أثناء المرض فعليه أن يصبر ويحتسب أجره عند الله تعالى، قال : ((ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يُهمُّه إلا كفّر به من سيئاته)) رواه مسلم، وليتفاءل المريض بأن هذا المرض الذي نزل به قد يكون خيرًا له كما قال : ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)) رواه البخاري.
وعلى المريض أن يراجع نفسه ويتفقدها، وأن ينظر في أحواله قبل المرض؛ لأن هذه المصائب غالبًا ما تكون بسب المعاصي في وقت صحته وعافيته، خرج الإمام أحمد وابن حبان عن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً تلا هذه الآية: مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]، فقال: إنا لنجزى بكل ما عملنا؟! هلكنا إذًا، فبلغ ذلك النبي فقال: ((نعم يجزى به في الدنيا من مصيبة في جسده مما يؤذيه)).
وقد قال أبو بكر : يا رسول الله، كيف الصلاح بعد هذه الآية: لَّيْسَ بِأَمَـ?نِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ [النساء:123]؟! فقال : ((غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟! ألست تنْصَب؟! ألست تحزن؟! ألست تصيبك اللأواء؟!)) قال: قلت: بلى، قال: ((فهو ما تجزون به)) رواه أحمد.
لقد غاب عن كثير من الناس عدمُ ربطهم تلك المصائب التي تحلّ بهم بسبب الذنوب والخطايا، بل جعلوا أسباب تلك المصائب مادية بحتة، فمرة بسبب تغير الجو، ومرة بسبب العدوى، فترتب من جراء ذلك عدم اتعاظهم بتلك المصائب.
عباد الله، لقد أدرك سلفنا الصالح ما غاب عن أذهان الكثيرين، حتى إن قائلهم ليقول: (والله، ما أذنبت ذنبًا إلا رأيت عقوبته في بدني أو أهلي أو مالي أو دابتي). فرحمهم الله ورضي عنهم؛ قلّت ذنوبهم فعرفوا مداخلها، وكثرت ذنوبنا فلم نعرف مداخلها من مخارجها.
وعليه أيضًا في حال مرضه أن يكثر من التضرع إلى الله، وأن يظن بالله الظن الحسن، فالله تعالى يعطي من يشاء بفضله، ويمنع من يشاء بعدله، ولا يظلم ربك أحدًا، قال علية الصلاة والسلام: ((عجبًا لأمر المسلم، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له)) رواه مسلم من حديث صهيب بن سنان.
وقد وصف الحسن رحمه الله المرض فقال: "أما والله ما هو بشرِّ أيام المسلم، قورب له أجله، وذكّر فيه ما نسي من معاده، وكفّر به عن خطاياه". وكان رحمه الله إذا دخل على مريض قد عوفي قال له: "يا هذا، إن الله قد ذكرك فاذكره، ووقاك فاشكره، فهذه الأسقام والبلايا كفارات للذنوب ومواعظ للمؤمنين، يرجعون بها عن كل شرّ كانوا عليه". قال الفضيل رحمه الله: "إنما جُعلت العلل ليؤدب بها العباد".
وعلى المريض أن يستشعر نعمة الله سبحانه عليه الذي أجرى له ما كان يعمل في صحته أثناء مرضه، قال رسول الله : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)) أخرجه البخاري، وهذا من فضل الله على عبده المريض.
وأما حاله أثناء العلاج فعليه أن يوقن أن الشفاء كله بإذن الله تعالى، وأن الأطباء وتلك الأدوية لو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرًا ما استطاعوا أن يحدثوا ذرةً من شفاء وعافية إلا أن يشاء الله، وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس:107].
فعلى المريض أن يعلق قلبه بالله تعالى، ويسأله الشفاء والعافية، وأن يحتسِب الأجر ويصبر، وينتظر فرج الله ولا ييأس من رحمة الله.
اللهم أسبغ علينا لباس الصحة والعافية، واجعلها عونًا لنا على طاعتك ومرضاتك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، أما حاله بعد المرض فعليه أن يكثر من شكر الله والثناء عليه، وأن يتذكر قدر الصحة والعافية، وأن يعمد إلى طاعة ربه، ولا يكون كحال بعض المرضى الذين ما إن يمنّ الله عليهم بالشفاء والعافية حتى يسارعوا بالعودة إلى معصية الله، وهذا من كفران المعروف ونسيان حق المنعم.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن المرض ابتلاء ابتلي به الأنبياء والصالحين ومن بعدهم، قال : ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) قال الألباني: "إسناده جيد".
اللهم صلّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/4178)
عقوق الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
محمد بن سليمان المهوس
الدمام
جامع الحمادي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة العابد جريج. 2- عقوبة العاق لوالديه. 3- صور من العقوق في الوقت الحاضر. 4- فضل الوالدين على أبنائهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((لم يتكلم في المهد إلا ثلاثةٌ: عيسى بن مريم وصاحب جُرَيج، وكان جُرَيج رجلاً عابدًا فاتخذ صومعةً، فكان فيه، فأتته أمه وهو يصلي فقالت: يا جُريج، فقال: يا رب أمّي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمّي وصلاتي، فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغد أتته وهو يصلي، فقالت: يا جريج، فقال: يا رب أمّي وصلاتي، فأقبل على صلاته، فقالت: اللهم لا تمته حتى ينظر وجوه المومسات ـ أي: الزواني ـ، فتذاكر بنو إسرائيل جُريجًا وعبادتَه، وكانت امرأةٌ بَغِيٌّ يتمثل بحسنها، فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم، قال: فتعرضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَومَعَتِه، فأمكنته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلما ولدت، قالت: هو من جريج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صَومعته وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيت بهذه البَغِيِّ فولدت منك، فقال: أين الصبي؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلي، فصلَّى، فلما انصرف أتى الصبيّ فطعن في بطنه وقال: من أبوك؟ قال فلانٌ الراعي، قال: فأقْبَلوا على جريج يُقبلونه ويتمسحون به، وقالوا: نبني لك صومعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)) الحديث.
عباد الله، جريجٌ أحدُ عباد بني إسرائيل الصالحين، حُببت إليها العبادة والخلوة لها، جاءته أمه لزيارته ومحادثته، فنادته وكان يصلي، فلم يجبْها وآثر الاستمرارَ في صلاته لما يَجِدُ من حلاوة المناجاةِ والاتصال بالله تعالى، ثلاث مراتٍ تناديه وهو لا يُلقي لها بالاً، وكان الواجب عليه أن ينصرف من صلاته ويجيب أمه؛ لأن ذلك أولى من صلاة النافلة، إلا أنه ارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب، ألا وهي عقوق الوالدين، فدعت عليه، فاستجاب الله لدعائها.
الله أكبر عباد الله، عقوق الوالدين كفُرٌ بنعم الله، وبُعدٌ عن رضوان الله. عقوقُ الوالدين زعزعةٌ في المجتمع وبعدٌ من دائرة الأمان وجريمةٌ توجب العقوبةَ في الدنيا والآخرة، قال : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين))، وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور))، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. متفق عليه.
وفي حديث آخرَ خرجه النَّسائي وأحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه عن رسول الله أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر اللهُ إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه ومدمن الخمر والمنانُ عطاءَه، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاقُّ لوالديه والدَّيوث والرَّجِلةُ من النساء)).
عقوقُ الوالدين منكرٌ عظيمٌ وضيقٌ في الرزق وقصرٌ في العمر وسوءٌ في الخلق، قال : ((من سرّه أن يمدّ له في عُمره ويُوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتةُ السوء فليتّق الله وليصِل رحمه)) خرجه أحمد بإسناد صحيح. والوالدان أقرب الناس إليك رُحمًا.
عباد الله، في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتنُ والمغريات والشبهات والشهوات تبرز فيه قضيةُ العقوق، وتنتشر في مجتمعات المسلمين اليوم.
الوالدان يتطلعان للإحسان، ويؤمّلان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا الابن قد تناسى ضعفَهُ وطفولتَه وأُعجِب بشبابه وفتوته وغرّه تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفُّف والتبرم، ويجاهرهما بالسوء وفحش القول، يقهرهما وينهرهما، بل ربما آذاها بأكثر من هذا، يريدان حياته ويتمنّى موتهما، تئن لهما الفضيلةُ وتبكي من أجلهما المروءة.
شاب تخلّص من أمه المعاقة برميها عند باب أحد المستشفيات، وآخرُ أودعها دارَ العجزة بحجة ترميم شقته، وآخر يُسمِعُها كلماتِ السب والشتائم، إذا تكلمت في زوجته وعصت أمرها.
الله أكبر يا عبدَ الله، ما هكذا تجزي من حملتك في أحشائها تسعة أشهر وهنًا على وهنٍ، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، ولا يزيدها نموّك إلا ثُقلاً وضعفًا. وعند الوضع رأت الموت بعينيها، ولكن لما بصُرت بك إلى جانبها سُرعان ما نسيت آلامها، وعلَّقت فيك جميعَ آمالِها، رأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم شُغلت بخدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، طعامُك دَرُّها، وبيتك حِجرها، ومركبُك يداها وصدرها وظهرها، تحيطك وترعاك، تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، فهي بك رحيمة وعليك شفيقة. إذا غابت عنك دعوتها، وإذا أعرضت عنك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استغثت بها، تحسب كلَّ الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك أو لحظتك بعينها.
والد من التجار بعدما كَبر أخذه أولادُه وأَوْدَعُوه دار العجزة، فكتب كل ما يملك من مسكنٍ وغيره للممرِّض الذي يعتني به.
الله أكبر يا عبدَ الله، هذا أبوك الذي يكد ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى؛ ينتقل في الأسفار يجوب الفيافي والقفار، ويتحمل الأخطار بحثًا عن لقمة العيش، ينفق عليك ويُصلحُك ويربيك، إذا دخلت عليه هشّ، وإذا أقبلت إليه بشّ، وإذا خرج تعلقتَ به، وإذا حضر احتضنت حِجره وصَدره.
غَذَوتُك مولودًا وعلتُك يافعًا تُعلّ بِما أَجْنِي عليك وتنَْهلُ
إذا ليلةٌ نابتك بالشَّجْو لَم أبت لشكواك إلا ساهرا أتَململُ
كأنِّي أنا المطروق دُونَك بالذي طُرِقْتَ به دُونِي فعينِي تَهْملُ
تَخاف الردى نفسي عليك وإنّنِي لأعلمُ أن الموت حتمٌ مؤجلُ
فلما بلغت السّنَّ والغايةَ التِي إليها مدى ما كنتُ فيك أُؤمّل
جعلت جزائي غِلظةً وفظاظةً كأنك أنت الْمنعمُ المتفضلُ
فليتَك إذ لَم ترْعَ حق أبوّتِي فعلتَ كما الجارُ الْمجاور يفعلُ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، خرّج الشيخان وغيرهما واللفظ لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أقبل رجل إلى رسول الله فقال: أبايعُك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر من الله، قال: ((فهل من والديك أحد حي؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا عقوق الوالدين، فإن العقوق بجميع وجوهه نقص في العمر وضيق في الرزق وفسادٌ في الأبناء، فمن عقّ والديه عقّه أبناؤُه.
قال الأصمعي: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجتُ من الحي أطلبُ أعقَّ الناس وأبرّ الناس، فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبلٌ يَسْتقِي بدلوٍ لا تطيقُه الإبل في الهاجرة والحر الشديد، وخلفه شابٌ في يده سوط يضربه به، قد شقّ ظهره بذلك السوط، فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟! أما يكفيك ما هو فيه من هذا الحبل حتى تضربه؟! قال: إنه مع هذا أبي، قلت: فلا جزاك الله خيرًا، قال: اسكت، فهكذا كان هو يصنعُ بأبيه، وهكذا أبوه يصنع بجده، فقلت: هذا أعقّ الناس.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا العقوقَ وقطيعة َالرحم، فإن الله ليُعَجّل هلاك العبد إذا كان عاقًا، ليعجّل له العذاب.
هذا وصلوا وسلموا على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى عليّ واحدة صلى الله بها عليه عشرًا)) رواه مسلم.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وآله وصحبه أجمعين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن بقية العشرة المبشرين بالجنة، وعن بقية صحابة رسولك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/4179)
الإسراء والمعراج
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
السيرة النبوية, معجزات وكرامات
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
23/7/1414
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسراء بالنبي إلى المسجد الأقصى. 2- معراج النبي إلى السماء وما رآه فيها. 3- بعض الدروس المستفادة من الإسراء والمعراج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، من أحداث السيرة البارزة الإسراء والمعراج، لم يكن سَفَرًا من أسفار النبي التي كان يقوم بها في الأرض، لكنه سفر بدأ بالأرض واكتمل في السماء. لقد جاء هذا السَّفر المعجز عقب سفر من أسفار الدعوة التي كان نبي الله يقوم بها لتبليغ رسالته إلى العالم، وهو سَفره إلى الطائف.
تظلِّل المسلمين في نهاية هذا الشهر ذكرى هذا السَّفر القدسيّ المعجز، فيذكرون به هذه الآية التي أيّد الله بها نبيهم ، ويستفيدون من تفاصيلها.
لقد حدّث النبي الناس بهذه الرحلة عقب عودته منها، وحفظها الله تعالى في كتب السنة الصحيحة، لتقف عليها الأجيال إلى قيام الساعة، وإن عبرتها مستمرة، فالمسجد الحرام لا زال موجودًا، وهو قبلة المسلمين، والمسجد الأقصى لا زال موجودًا كذلك، لأنه حقيقة جغرافية تاريخية لا سبيل إلى طمسها، وربُّ الكعبة والأقصى إله حي لا يموت، والسماوات التي عرج إليها النبي لا تزال موجودة، وفيها ما ذكره ، فماذا ذهب من معجزة الإسراء والمعراج؟! إنه لم يذهب منها شيء، سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1]، فما هذه الآيات التي أطلعه الله عليها وأراه إياها وحجبها عنا فنحن نراها بعينه ؟!
روى الإمام مسلم بسنده إلى أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته)), لا يصلح لهذه الرحلة شيء من مراكب الدنيا مهما بلغت سرعتها، فالأمر خارج مألوفنا في الأسفار وقطع المسافات، والذي جاء بالبراق هو جبريل عليه السلام، قال: ((حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يَربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت)) ، صلى بالأنبياء في المسجد الأقصى وخرج، قال: ((فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة)).
هذا الجزء من الرحلة يسمى الإسراء، فقد أسري به ـ وهو السفر ليلاً ـ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وبعد ذلك سيبدأ المعراج.
والمعراج من العروج أي: الصعود، قال تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى ?لأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ?لسَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [سبأ:2]، وهذا نبي الله محمد يعرج إلى السماء بعلم الله وإذنه، فما كان للعبد أن يصعد السماوات إلا بإذن ودعوة، وهذا ما جاء صريحًا في بقية الخبر قال: ((ثم عرج بنا إلى السماء، فاستفتح جبريل ـ أي: طلب فتح الباب ـ فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففتح لنا، ـ قال : ـ فإذا أنا بآدم ، فرحب بي ودعا لي بخير)). فآدم في السماء الأولى، وهو نبيّ لقيه في معراجه.
ثم عرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل فقيل له ما قيل في السماء الأولى، فلما دخل لقي عيسى بن مريم، ويحيى بن زكريا عليهم السلام، فرحبا به ودعوا له بخير، وفي السماء الثالثة لقي يوسف عليه السلام، وفي الرابعة لقي إدريس عليه السلام، وفي الخامسة لقي هارون عليه السلام، وفي السادسة لقي موسى عليه السلام، وفي السابعة لقي إبراهيم عليه السلام، كلهم يرحبون به ويدعون له بخير، ويشيعونه كما يشيع الزائر عند توديعه، وكان بلغ السماء السابعة.
وفي السماء السابعة رأى النبي البيت المعمور في السماء، وإبراهيم الذي بنى البيت الحرام في الأرض الكعبة مُسند ظهره إلى البيت المعمور في السماء، البيت الذي في الأرض يطوف به الإنس والجن، والذي في السماء يدخله كل يوم ألف ملك لا يعودون إليه، أي: لكثرة الملائكة، ومنذ خلق الله السماء والملائكة يدخلون هذا البيت، ومن دخل لا يعود.
وبعد أن لقي هؤلاء الرسل الكرام ذهب به إلى سِدْرة المنتهى، وإذا وَرَقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقِلال، وأُذن الفيل كبيرة، والقلال جمع قُلّة وهي إناء من فخار يحمل فيه الماء، فهي شجرة عظيمة، أوراقها واسعة، وثمارها ضخمة، قال : ((فلما غشيها من أمر الله ما غَشِيَ تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حُسنها، فأوحى الله إليّ ما أوحى، ففرض علي خمسين صلاة في اليوم والليلة)).
وقد ذكر الله تعالى في كتابه المعراج كما ذكر الإسراء، ففي سورة النجم قال سبحانه: وَ?لنَّجْمِ إِذَا هَوَى? مَا ضَلَّ صَـ?حِبُكُمْ وَمَا غَوَى? وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? عَلَّمَهُ شَدِيدُ ?لْقُوَى? ذُو مِرَّةٍ فَ?سْتَوَى? وَهُوَ بِ?لأفُقِ ?لاْعْلَى? ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى? فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى? فَأَوْحَى? إِلَى? عَبْدِهِ مَا أَوْحَى? مَا كَذَبَ ?لْفُؤَادُ مَا رَأَى? أَفَتُمَـ?رُونَهُ عَلَى? مَا يَرَى? وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى? عِندَ سِدْرَةِ ?لْمُنتَهَى? عِندَهَا جَنَّةُ ?لْمَأْوَى? إِذْ يَغْشَى? ?لسّدْرَةَ مَا يَغْشَى? مَا زَاغَ ?لْبَصَرُ وَمَا طَغَى? لَقَدْ رَأَى? مِنْ ءايَـ?تِ رَبّهِ ?لْكُبْرَى [النجم:1-18].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، ماذا نذكر من دروس الإسراء والمعراج؟! وماذا نذر؟! إن دروس هذه الرحلة كثيرة وكبيرة، ونكتفي بذكر بعضها فنقول:
1- ليست هذه الأرض التي نعيش عليها كل ما في الكون، فالله تعالى خلق الأرض وخلق السماوات، وأرضنا مثل حبة رمل في شاطئ لا تُعرف له حدود، والشمس بكواكبها التسعة عنقود صغير في مَجَرة تضم ملايين الشموس، وأضعافها من الكواكب والأقمار، والمجرة جزء من نظام كوني يعج بملايين المجرات، كل واحدة في مجراها، وكل نجم منها في مداره، كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33]، وهذه النجوم والمجرات هي الجزء المُكتشَف من السماء الدنيا التي تلينا، يقول الله تعالى: وَزَيَّنَّا ?لسَّمَاء ?لدُّنْيَا بِمَصَـ?بِيحَ [فصلت:12]، والسماء الدنيا إلى السماوات السبع مثل خاتم يلقى في الصحراء، فسبحانه الذي أسرى بعبده إلى بيت المقدس، وعرج به إلى السماوات السبع في جزء من الليلة.
2- ويمكن لأي لإنسان أن يسلك في حياته الطريق الذي يعرج به إلى السماء ويوصله يوم القيامة إلى المقام الذي وصل إليه نبي الله تعالى، فالله سبحانه قال عندما ذكر سدرة المنتهى: عِندَهَا جَنَّةُ ?لْمَأْوَى? [النجم:15]، فكل عبد من عباد الله تعالى يستطيع إذا شاء أن يصلي لربه، ويجعلَ حياته كلها محرابًا للعبادة كمحراب الصلاة، فإذا هو من هذا التشريف من أهل الجنة.
وفي الحديث الصحيح عن البراء بن عازب الذي فيه وصف رحلة روح المؤمن عند لموت أن الملائكة يتسلّمون هذه الروح من ملك الموت، فيصعدون بها حتى ينتهوا إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مُقَربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلّيُّونَ كِتَـ?بٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ ?لْمُقَرَّبُونَ [المطففين:19-21]، فإذا كتب كتابه في عليين أعيد إلى الأرض ليحاسب حساب القبر، وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن، فإذا أجاب عن الأسئلة فقال: ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد ينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، فافرشوا له من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، إلى آخر ما ورد في الحديث. أما العبد الكافر أو الفاجر فلا تفتح له أبواب السماء ولا يدخل الجنة.
إنّ النبيّ عرج به إلى السماوات بروحه وجسده ليحدث الناس عما رأى، فمن آمن به وصدق أكرمه الله تعالى يوم يلقاه بالدخول في عباده والدخول في جنته، ومن كذّب به وبقي في نفسه شيء حرمه الله تعالى، فكان في هذه أعمى وفى الآخرة أعمى وأضل سبيلاً.
(1/4180)
الحج المبرور
فقه
الحج والعمرة
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شروط الحج المبرور. 2- ما الذي يدفع المسلم للحج؟
_________
الخطبة الأولى
_________
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
هذا القيد الذي قيد به الحج ليكون موجبًا لدخول الجنة ينبغي على كل من أنشأ سفر الحج أن يعرفه ليكون حجه مبرورًا. والمبرور مشتقّ من البر، والبر ضد الإثم، فالحج المبرور هو الذي لا يخالطه إثم، وهذا يفتح مجالاً واسعًا للحجاج ليتنافسوا على هذه الصفة ويحققوها في حجهم، وإذا رجعنا إلى آيات القرآن الكريم نجد فيها صفات الحج المبرور، وهي:
أولها: الإخلاص لله تعالى، فأول ما يبدأ به الحاج هو تصحيح النية والقصد، حتى لا يضيع جهده وماله بسبب فساد النية، فما المقاصد التي تكون بها النية صحيحة؟! أولاً: أن يقصد بهذا الحج إكمال ركن دينه الخامس، وإجابة نداء إبراهيم الذي أذن في الناس بالحج، فإذا شهد المسلم الشهادتين وأقام الصلوات وأدى زكاة ماله وصام رمضان فإن نفسه تتعلق بإكمال ركن دينه الخامس وهو الحج، الثاني: أن يرجو غفران ذنوبه، فإنه يذهب إلى الحج ليكون كفارة لذنوبه، فيعود منه وقد تخفف منها، مصداقًا لقول النبي : ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) متفق عليه، الثالث: أن يكتب اسمه في أهل الجنة، فقد قال النبي : ((العمرة إلى لعمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
هذا الذي يكون في قلب المسلم عندما ينشئ نية السفر إلى الحج، وهذا الذي يدفعه إلى إعداد الزاد والتأهب للسفر، ولا يخلط هذه المقاصد بمقاصد أخرى، مثل تغيير اللقب أو التنافس مع الآخرين على المكانة الاجتماعية أو الشهرة أو أي مقصد دنيوي عاجل. ولا يضره بعد إخلاص القصد أن يكون مع حجه تجارة أو قضاء أغراض ومصالح، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ [البقرة:198].
هذا الشرط الأول للحج المبرور، وهو تصحيح النية والقصد.
أما الشرط الثاني: فهو إتمام الحج وأداء مناسكه على الوجه المشروع، فإن النبي قال: ((خذوا عني مناسككم))، فعنه تؤخذ مناسك الحج وأعماله، وهذا يقتضي أن يتفقّه الحاج في المناسك، ويحرص الحرص كله على أن يأتي بها على الوجه المطلوب، فيُحرِم ويلبي ويذهب إلى منى في اليوم الثامن، ويقف بعرفات في اليوم التاسع، ويرمي ويذبح ويطوف في اليوم العاشر، ويبيت بمنى أيام التشريق، ويتجنب ممنوعات الإحرام ومكروهاته، وإذا وقع منه شيء من ذلك جبره، والمقصود أن توافق حجته حجة النبي قدر المستطاع، فإن الحج ليس سفرًا عاديًا، لكنه سفر ديني، وتكلفته من الجهد والوقت والمال تقتضي الحرص على تحقيق هدفه.
الشرط الثالث: الأخلاق التي يتخلق بها الحاج خلال رحلة الحج، سواء وهو محرم أو متحلل، فإن أعمال الحج لا تستغرق أكثر من ستة أيام، ولا تملأ الوقت كله، لكن الرحلة تستغرق قريبًا من شهر، ففي الإقامة، وفي المسجد، وفي الشارع، وفي المشاعر، وفي الحافلة، وفي الطائرة، وفي أي مكان، يجب أن يستحضر الحاج أنه في سفر الحج، وأن صفة البر قد تُسلب من حجه، فلا يكون مبرورًا إذا أساء الخُلق مع الحجاج أو مع سكان الحرمين.
وهذه الشروط الثلاثة مذكورة في قوله تعالى: وَأَتِمُّواْ ?لْحَجَّ وَ?لْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فها هنا شرط الإخلاص في قوله: لِلَّهِ ، وشرط الإتمام في قوله: وَأَتِمُّواْ ، فقد يُؤتى الحاج من جهة الإخلاص أو من جهة الإتمام، أما الشرط الثالث ففي قوله تعالى: ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]، فذكر سبحانه هذه الثلاثة لأنها تهدد الحجاج أكثر من غيرها، خاصة هذا الأخير، وهو الجدال وما يتبعه.
وهناك شرط رابع للحج المبرور، وهو أن يكون بمال حلال طيب، فقد قال النبي : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا)) رواه الترمذي، فليعمد الحاج إلى أطيب مال عنده، فليحج به، وإذا أتم إجراءات التسجيل وسافر فليكن قصده وجه الله والدار الآخرة، وليكن متيقظًا منتبهًا أيام المناسك حتى لا يفوته ما لا ينجبر منها، وأثناء الرحلة كلها يكون حسن العشرة طيب الخلق، يألف ويؤلف، وإذا رجع حافظ على حجه وصانه، وثبت على توبته، إذا فعل هذا رجا أن يكون حجه مبرورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4181)
الشمائل المحمدية
سيرة وتاريخ
الشمائل
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاقتداء بسنة النبي. 2- خلق الرسول. 3- كيف يكون تعظيمه عليه الصلاة والسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام لم يكن ميلاده من الأهمية كمثل ميلاد أيّ رجل من الناس، فقد كانت الأرض على موعد بعد أربعين عامًا من مولده مع بعثةٍ هي آخر رسالات الله إلى أهل الأرض، وكان الزمن على موعد مع كلمةِ الله الخاتمة إلى الثقلين الجن والإنس.
بعث الله نبيه محمدًا على فترة من الرسل، ففتح الله بدعوته القلوب، وأنارت رسالته الصدور، وكان للناس كالنهار يأتي بعد الليل، وكالنور يسطع من بعد الظلام.
لقد انطلق نور الدعوة من جوار الكعبة بيت الله الحرام، ليضيء المشارق والمغارب، ولتتحقق دعوة إبراهيم وبشارة عيسى عليهما الصلاة والسلام: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْر?هِيمُ ?لْقَوَاعِدَ مِنَ ?لْبَيْتِ وَإِسْمَـ?عِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [البقرة:127]، وَإِذْ قَالَ عِيسَى ?بْنُ مَرْيَمَ ي?بَنِى إِسْر?ءيلَ إِنّى رَسُولُ ?للَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ ?لتَّوْرَاةِ وَمُبَشّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى ?سْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِ?لْبَيّنَـ?تِ قَالُواْ هَـ?ذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ [الصف:6].
كان محمد هو الإجابة لدعوة إبراهيم، وكان هو التصديق لبشارة عيسى. أيّ نبيٍ كان؟! وأيّ رسول ؟!
إن العبارة لتنحني أمام شمائل هذا النبي وخصاله، وأي عبارة تصلح لترجمة ما كان عليه هذا النبي الكريم؟! وإنه لشرف كبير أن يكون المرء من أتباعه والمقتدين به، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَـ?هُ وَجِبْرِيلُ وَصَـ?لِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذ?لِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4].
لقد تشرف برؤيته وصحبته والإيمان به ونصرته جيلُ الصحابة الكرام، فكانوا شهادة أخرى لنبوته في إيمانهم وإسلامهم وجهادهم، ولكن هذه الصحبة ليست خاصة بهم، فكل مسلم يمكن أن يصحب رسول الله في حياته كلها.
إن الصحبة بهذا المعنى مفتوحة لكل الأجيال، فمن فاته أن يراه في الدنيا ويصحبه فيها فإنه يستطيع أن يدرك صحبته وجواره ورؤيته في الجنة.
هذا ميراثه بين الناس: ((كتاب الله وسنتي))، من أخذ بهما أدرك الصحبتين، لا أعني الصحبة الخاصة، فهذه فضيلة لأصحابه الأولين، لا يشاركهم فيها غيرهم، ولكن أقصد الصحبة العامة في الدنيا، والجوار الدائم في الآخرة.
إن رسول الله وإن كان غائبًا بشخصه عنا ـ لأنه مثل غيره من الأنبياء وافاه أجله ـ إلا أنه لم يغب أبدًا بأقواله وأعماله، فهو بيننا في كل وقت، ونحتاج يقظة وانتباهًا لنرى هديه أمامنا وسيرته حولنا وأخلاقه وفضائله عن يميننا وشمالنا. وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ?لرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ?نقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ?للَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِى ?للَّهُ ?لشَّـ?كِرِينَ [آل عمران:144].
أجل كانت سيرته ملهمة وموجّهة، فيها الشاهد لكل موقف من مواقف الحياة، لا يحتاج المسلمون سوى إلى البحث عنه.
كان خُلُقه القرآن، يأتمر بأمره وينتهي بنهيه، وهذه لقطات من هذا الخلق القرآني:
روى البخاري ومسلم ومالك عن عائشة قالت: ما خيِّر رسول الله في أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها. وعنها أيضا: لم يكن رسول الله فاحشًا ولا متفحشًا، ولا سَخَّابًا بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئَة، ولكن يعفو ويصفح. وعنها أيضا: كان النبي إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل: ما بال فلان يقول كذا؟! ولكن يقول: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا)) رواه أبو داود. وعن ابن عباس قال: كان النبي أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله أجود بلخير من الريح المرسلة. رواه مسلم. وعن أنس قال: كان النبي أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس. رواه البخاري. وعن أنس كذلك قال: خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أف قط ـ هل يقدر أحد أن لا يقولها لخادمة ولو ليوم؟! ـ وما قال لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ رواه مسلم وأبو داود. وعن أبي سعيد الخدري : كان رسول الله أشد حياء من العذراء ـ أي: البنت التي لم تتزوج ـ في خدرها ـ أي: خبائها وخيمتها ـ، وكان إذا كره شيئًا عرفناه في وجهه. رواه البخاري ومسلم وابن ماجه. وعن جابر بن عبد الله قال: ما سئل رسول الله شيئا قط فقال: لا. رواه البخاري ومسلم.
كان رسول الله إذا عمل عملاً من أعمال الخير أثبته وداوم عليه، وكان لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله، طويل السكوت، لا يتكلم في غير حاجة، يحذر الناس ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد منهم بشْره وخُلُقه، كان خافض الطرف، ينظر إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء. كان يعجبه اليمين، فيبدأ به في طهوره وتنعله وتَرَجّله وشأنه كله. لم يَعِب طعامًا قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه. ما ضرب بيده عبدًا ولا طفلاً ولا جارية.
كان على هذه الأخلاق كلها، وعلى ما هو أعظم منها.
ولقد شهد له ربه بهذه الخصال في كتابه العزيز: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128 ] ، فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ [آل عمران:159].
هذا هو المبعوث في العرب، أهل العصبية والقبلية والجفاء والخشونة والغلظة؟! يقول عليه الصلاة والسلام: ((يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا)) ، ثم قال: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ إلى آخر الآية [الأنبياء:104]، ثم قال: ((ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب، أُصيحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117] ، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)) رواه البخاري والترمذي.
انظر ما فارق عليه النبي أصحابه فالزمه فإنه طريق النجاة: ((أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيًّا، فإنه من يعش منكم يرى بعدي اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وإن كل بدعة ضلالة)) رواه أبو داود.
اللهم اجعلنا من الذين آمنوا به وعزروه ونصروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فقد نشرت مجلة البيان التي تصدر عن المنتدى الإسلامي بلندن في عددها لشهر ربيع الأول ملفًا عن تعظيم الرسول بين إجلال المتبعين وإخلال المبتدعين، وقد تضمن الملف مقالات في التعظيم المفروض للنبي والتعظيم الممنوع، وهو المفضي إلى الشرك والابتداع.
واقتبست من المقال الأول في هذا الملف الفقرات الآتية، فإنها تبين منهج أهل السنة في تعظيم النبي ، وإذا عرف المسلم الطريقة الصحيحة في تعظيم النبي عرف أن ما يخالفها طريقة مبتدعة. وإنما دعاني لهذا ما يقع في هذا الشهر من أنواع الاحتفالات والمواسم والاجتماعات، فيسأل الناس عن المقبول والمردود من ذلك كله.
لا يخفى على مسلم أن الله سبحانه وتعالى أمر بتعظيم نبيه فقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَـ?كَ شَـ?هِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا لّتُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8، 9]، وتعزيره نصره وتأييده ومنع كل ما يؤذيه، وتوقيره إجلاله وإكرامه وتشريفه، وقد أعطى المولى سبحانه لهذا النبي الكريم من الصفات العالية والأخلاق العظيمة ما يدعو كل مسلم أن يحبه ويعظمه، فهو محمد أي: المحمود عند الله وعند ملائكته، عند أهل أرضه وسمائه، محمود الخصال والصفات.
من نظر في أخلاقه علم أنها خير أخلاق الخلق وأكرم شمائل البشر، كان أصدق الناس حديثًا، وأعظمهم أمانة، وأجودهم كفًا، وأعظمهم عفوًا، وأوفاهم ذمة، وأشدهم تواضعًا. جاء في البخاري عن عبد الله بن عمرو في صفة رسول الله في التوراة: (أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفَظّ ولا غليظ ولا سَخَّاب بالأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينًا عميًا وآذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا)). فكيف نعظم النبي ؟
تعظيمه يكون بعدة أمور منها:
1- الإيمان به وتصديق نبوته.
2- محبته وتقديم هذه المحبة على محبة النفس والأهل والولد والناس أجمعين.
3- الثناء عليه بما هو أهله، وأفضل ذلك الصلاة والسلام عليه.
4- التأدب عند ذكره، بأن لا يذكر اسمه مجردًا، بل يوصف بالنبوة والرسالة، كما كان دأب أصحابه عند ندائه.
5- الإكثار من ذكره، وتعداد فضائله ومعجزاته، وتعريف الناس بسنته.
6- استشعار هيبته وجلال قدره وعظم شأنه.
7- تعظيم ما جاء به من الشريعة، وعدم التقدم بين يدي الله ورسوله.
8- توقير آل بيته، أزواجه وبناته وسائر آله.
9- توقيره في أصحابه، ومعرفة قدرهم، والترضي عليهم والاقتداء بهم.
10- التأدب في مسجده وعند قبره.
11- حفظ حرمة بلد هجرته ودار نصرته ومراعاة حق المجاورة.
قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ على محمد وعلى آله وذريته وأزواجه وسلم تسليمًا كثيرًا.
اللهم ارزقنا شفاعته يوم العرض عليك يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، يا من بعثت محمدًا رحمة للعالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(1/4182)
إنكار التفريق بين الصلاة والصيام
فقه
الصلاة, الصوم
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة في الإسلام. 2- لا يقبل صيام من لا يصلي. 3- ضرورة تعاهد الذين لا يصلون بالنصيحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، بني الإسلام على خمسة أركان، الأول منها اعتقادي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والأربعة الأخرى عملية هي الصلاة والزكاة والصيام والحج، والواجب على المسلم أن يقيم أركان دينه الخمسة من غير تفريق، لكن الذي يستوقفنا في المجتمع هو تفرقة الكثيرين بين الصيام والصلاة، فيصومون ولا يصلون، وهذا واقع مألوف في بلادنا، فعندما يؤذّن المؤذن لصلاة المغرب تخلو الطرقات من المارة والسيارات، وتنقطع الحركة لبضع دقائق؛ لأن الجميع على مائدة الإفطار، لكننا عندما نحضر إلى المسجد لصلاة العشاء أو الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب لا يشهدها معنا جميع من يجلس للإفطار بعد المغرب، وإذا استثنينا الذين عذرهم الله تعالى من النساء والأطفال والمرضى نجد أعدادًا كبيرة من الصائمين لا يصلون ولا تقام الصلوات في المؤسسات بصورة جامعة، بينما يراعى الصيام في توقيت العمل.
إنه تناقض غريب، فالعقل لا يفرق بين المتماثلين، كما لا يسوي بين المختلفين، فكيف فرق بعض المسلمين بين الصلاة والصيام والذي فرض الصيام هو الذي فرض الصلاة؟! ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ [البقرة:183]، إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?بًا مَّوْقُوتًا [النساء:103]، هل هي العادة والنشأة، أم لأن الصوم يأتي شهرًا في السنة والصلاة فريضة يومية؟! وأيًا كان سبب هذه التفرقة المرفوضة فإن المقام يقتضي بنا التذكير بمنزلة الصلاة، ليس لأن من يسمع هذه الخطبة لا يقيم الصلاة، فحضوركم إلى المسجد يكذب ذلك، ولكن لتدعوا أقاربكم وأهليكم ممن تجمعكم معهم موائد الإفطار في هذا الشهر الكريم، فتقومون إلى الصلاة ولا يقومون، وتخرجون إلى المسجد ولا يخرجون، وتحافظون على صلواتكم ولا يحافظون.
إن رمضان شهر الدعوة إلى الله تعالى، وإن من أهم عرى الإسلام التي انتقضت هي الصلاة، فقوموا بما أوجب الله عليكم من دعوة أبنائكم وبناتكم وزوجاتكم وأقاربكم لإقامتها.
إن مكانة الصلاة في الإسلام لا تخفى، فهي الركن الثاني بعد الشهادتين، وترتيبها سابق على الصيام، وهي عمود الدين، وقد أمر الله عز وجل بالمحافظة عليها في كل الأحوال، قال عز وجل: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238]، وجعلها عز وجل فرقًا يميز المؤمنين عن المنافقين، فقال تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45، 46]، وقال سبحانه عن المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].
والصلاة عبادة الأنبياء، أقاموها وأمروا الناس بها، فلما جاء الإسلام أخذت الصلاة فيه أكمل صورة، تناسقت أقوالها وأفعالها، واجتمعت فيها عبودية القلب واللسان والجوارح، وقد فرضها الله عز وجل على الأمة في ليلة الإسراء والمعراج، ومنذ ذلك اليوم والنبي يقيمها ويأمر بها ويعلمها، حتى كانت آخر ما أوصى به قبل أن يفارق الدنيا، فقد أوصى الناس فقال: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) كرر ذلك مرارًا. رواه البخاري.
الصلاة توبة مفتوحة متجددة بتجدد مواقيتها الخمسة، ترتقي بصاحبها في درجات الإسلام والإيمان والإحسان، مع كل تسليمه يطوي صفحة ويفتح أخرى.
والصلاة تزكية وطهارة ظاهرة وباطنة وقوة روحية وجسدية، فهي زاد المسلم على الطريق، يدخرها لما يستقبل، ويستفيد بها للقاء ربه.
هذه الصلاة كيف هانت على هذه الجموع الفقيرة من الصائمين؟! فلا حظ لهم فيها، لماذا يعالجون شدة الصوم ويتحملون مشقته ويتثاقلون عن الصلاة؟! إن صيامهم تذكرة وعبرة ليعيدوا النظر في هذه التفرقة الظالمة، فينصفوا هذه الفريضة من أنفسهم، فإنها شرط لقبول صيامهم وسائر أعمالهم، لما جاء في الحديث النبوي: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عملة)).
أيها المسلمون، لا تُقِرُّوا تارك الصلاة على فعله، ولا تقبلوا منه أن يؤاكلكم ويشاربكم، دون أن تعلموه وتذكروه بالتي هي أحسن، ولأن يهدي الله بك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس، وهذا شهر التوبة، والتوبة قد تكون من ترك فريضة أو فعل كبيرة.
فأْمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر في محيطكم القريب، فإن من دعا إلى هدى كان له مثل أجر من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4183)
زكاة المال
فقه
الزكاة والصدقة
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا تقترن زكاة المال بزمن معين. 2- جزاء مانع الزكاة. 3- شروط وجوب الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله. الشهادتان ركن اعتقادي، والأربعة الأخرى أركان عملية، أما الصلاة والصيام فعبادتان بدنيتان، وأما الزكاة فعبادة مالية، والحج عبادة مشتركة بدنية ومالية.
وقد اعتاد الناس في الأسبوع الأول من شهر المحرم أن يتحدثوا عن فريضة الزكاة، وليست الزكاة مقترنة بشهر المحرم، فمرور السنة على المال المزكَّى يختلف تبعًا للاختلاف في بداية تجمعه أو استثماره، لكن اعتماد بداية السنة الهجرية لإخراج الزكاة له دور تعليمي حسن، فالناس يتذكرون هذه الفريضة، ومن وفقه الله تعالى يخرجها من ماله. ولو كانت هذه الفريضة قائمة في المجتمع لكان وجِد في كل شهرٍ زكوات، بل في كل يوم، وكانت أموال عظيمة تجمع على مدار السنة وتوزع على مستحقيها.
ويمكن للمسلم الذي لا يتذكر بداية تجارته أو مشروعاته أن يعتمد بداية السنة الهجرية، ويزكي عند نهاية كل عام، أما الذي يعرف الشهر الذي بدأت فيه تجارته أو استثماراته فعليه أن يلتزم بذلك الشهر. أما الزروع والثمار فلا يشترط فيها دوران العام لأنها تزكى عند جَنْيِهَا.
فيا معشر التجار والصناع والزُّراع، ويا أصحاب الأموال، زكوا أموالكم، وادفعوها إلى المستحقين طيبة بها نفوسكم، فإنه لا قِبَل لأحد بعذاب الله: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
وروى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثِّل له ماله يوم القيامة شُجاعًا أَقْرع له زَبِيبَتان يُطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بِلِهْزِمَتَيْه ـ يعني شِدْقيه ـ ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) ثم تلا النبي : وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180]، والشجاع يعني الثعبان.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار... ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئا، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
ولا تقل: كيف أزكي مالي؟! فهذا من الفقه الذي يجب على كل صاحب مال أن يطلبه، فإنه فرض عين في حقه يجب أن يعلمه.
واعلموا أن الراجح من أقوال أهل العلم والموافق لظواهر الآيات أن الزكاة تجب في كل الأموال بالشروط الخمسة العامة: أن يكون المال مملوكًا للمزكّي ملكية صحيحة، وأن يبلغ النِّصاب، وأن يَحول عليه الحول لبعض الأموال دون بعض، وأن يكون فاضلاً عن الحاجة الأساسية، وأن يكون مالاً ناميًا إذ لا تجب الزكاة في أثاث البيت والسيارة والمركوب وأدوات الحرفة لأنها للاستعمال الشخصي. وإن في كل ما تنبت الأرض زكاة، وفي التجارات زكاة، وفي الصنائع زكاة، وفي العقار والكُرْوة زكاة، وفي الأجور أو المال المستفاد زكاة.
وليست الخطبة مجالاً لتفصيل أحكام الزكاة وأنواع الأموال التي تزكى، فاسألوا أهل العلم إن كنتم لا تعلمون، ولا تكتفوا بإخراج مبلغ على وجه الظن والتخمين، فإن الفقير يجب أن يستوفي حقه كاملاً غير منقوص.
وإن أولى الإنفاق أداء الزكاة المفروضة تامة، فلا تبخلوا بها وقد سماها الله زكاة أي: طهارة، ومَنْ هذا الذي يزعم أن ماله خالص من الحرام والشبهة.
أيها المسلمون، إن الزكاة عبادة، والعبادة عهد بين العبد وربه، فلا مجال فيها للتحايل والخداع، فلا تتحايلوا على الزكاة، وإن من التحايل إعطاءها لمن لا يستحقها، ومن التحايل إعطاؤها مكان الضرائب، ومن التحايل تمليك المال أحد الأقارب قبل انتهاء السنة واسترجاعه بعد ذلك هروبًا من الزكاة.
هذا، والذين يجب أن تدفعوا إليهم الزكاة هم الذين ذكرهم الله تعالى في قوله: إِنَّمَا ?لصَّدَقَـ?تُ لِلْفُقَرَاء وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْعَـ?مِلِينَ عَلَيْهَا وَ?لْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ?لرّقَابِ وَ?لْغَـ?رِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ فَرِيضَةً مّنَ ?للَّهِ [التوبة:60].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4184)
تحية رمضان
فقه
الطهارة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
29/8/1419
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الناس في استقبالهم شهر رمضان. 2- استقبال النبي شهر رمضان. 3- خطبة النبي في آخر يوم من شعبان. 4- خصائص شهر رمضان. 5- فضل عبادة الصوم. 6- الاختبارات وشهر رمضان. 7- بعض أحوال المسلمين في رمضان. 8- دعوة لاغتنام شهر رمضان قبل فواته.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله باسط اليدين بالغفران، المنعم على أمة الإسلام بالقرآن، والممتن عليها بالهداية إلى الإيمان، أحمده حمد مقر بفضله معترف بنعمته راغب في المزيد من الإحسان، تواترت على عباده آلاؤه، وترادفت عليهم نعماؤه، فهم من فضله في بحار زاخرة، ومن عطائه في رياض ناضرة، له الحمد ما أشرقت على الدنيا شمس، وما تحركت على الأرض نفس، وما خطر على وجه البسيطة إنس. وأصلي وأسلم على من كان بإذن الله لظلمات الأرض جلاء ولأدوائها شفاء، أمسك بحجز أمته أن تتقحَّم في الردى، وأوضح لها منهج الحق وسبيل الهدى، فأقامها على محجّة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.
والله ما حملت أنثى ولا وضعت كمثل أحمد من قاص ومن دان
مهذب شرف الله الوجود به وخصه بدلالات وبرهان
فِي أمة كان هاديها وليس لها إلا عبادة أصنام وأوثان
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَأَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ و?حِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يأَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
قفوا يا رجال.
وسط سواد الدخانْ.
هنا بذرة الوعد تنمو، وإشراقة الفجر تبدو.
ويهوي الهوانْ.
وما بين حرّ اللهيب ونزف الحريق يكون الأمانْ.
إذا لم تردَّ الحقوقَ الخطَبْ.
فلن يفهم الخصم إلا كلام اللّهبْ.
نعم وحده كلام اللهب يفهِم المعتدين.
ومع اقتراب هذا الشهر المبارك شهر الفداء والجهاد تجدّدت صور التضحيات والبطولة، كأنما جاء رمضان ليهز الأمة من غفوتها ويذكرها بمجدها وواجبها.
مع اقتراب هذا الشهر العظيم الذي تنزل فيه القرآن تنزلت الصواعق على رؤوس يهود تقول لهم: نحن هنا، في كل ذرة رمل، وتحت كل شجرة ليمون، وفوق كل غصن زيتون.
مع اقتراب هذا الشهر بدأ إخواننا ينشدون بأفعالهم قول من قال:
لغة الخصوم من الرجوم حروفها فليقرؤوا منها الغداة فصولا
لَما أبوا أن يفهموا إلا بِها رحنا نرتلها لَهم ترتيلا
فلله دره من شهر مبارك.
إيه يا شهرنا العظيم شموخا قد تنسمت من شميم الوادي
ضمنا ضمنا إليك فإنا لَم نزل من بنيك والأحفاد
أطلق الروح من عقال التوا بيت وزيّن أيامنا بالجهاد
يا إخوتاه، لم يعد يفصل بيننا وبين رمضان غير ساعات معدودات تمر مر البرق وتنقضي انقضاء الحلم، ويا للعجب العجاب! كيف تصرم عام كامل بكل ما فيه فإذا بنا مرة أخرى نستقبل هذا الشهر العظيم.
فهنيئًا لي ولكم ولأمة الإسلام هذا الموسم العظيم والشهر الكريم، وحيهلا بأيّامه المباركات وساعاته الطيبات.
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد
فأد حقوقه قولاً وفعلاً وزادك فاتخذه للمعاد
فمن زرع الحبوب وما سقاها تأوّه نادمًا يوم الْحصاد
وأريدك ـ أيها الأخ الحبيب ـ أن تقف مع نفسك قليلاً، ذلك أن الناس في استقبال هذا الشهر العظيم على ثلاثة أصناف:
فمنهم من هو إليه بالأشواق، يعدّ الأيام والساعات شوقًا ورغبة إلى لقاء رمضان، الشهر الذي أحبه وأنس به، ولسان حاله يقول:
مرحبا أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيبا زارنا في كل عام
قد لقيناك بِحبّ مفعم كل حب في سوى المولى حرام
إن بالقلب اشتياقًا كاللظى وبعيني أدمع الحب سجام
وهذا رسول الله كان إذا دخل رجب يقول: ((اللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان)) ، وقال المعلى بن الفضل: كان السلف يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم: اللهم سلمني إلى رمضان، وسلم لي رمضان، وتسلمه مني متقبلاً.
ومن الناس ناس لا فرق عندهم بين رمضان وغيره، فهم يستقبلونه بقلب بارد ونفس فاترة، لا ترى لهذا الشهر ميزة على غيره إلا أنها تمتنع فيه عن الطعام والشراب، فهم يصبحون فيه ويمسون كما يصبحون ويمسون في غيره، لا تتحرك قلوبهم شوقًا ولا تخفق حبًا، ولا يشعرون أن عليهم في هذا الشهر أن يجدّوا أكثر مما سواه.
ومن الناس ناس ضاقت نفوسهم بهذا الشهر الكريم، ورأوا فيه حبسًا عن المتع والشهوات، فتبرموا به وتمنوا أن لم يكن قد حلّ، وقد روت لنا كتب الأدب خبر واحد من هؤلاء أدركه شهر رمضان فضاق به ذرعًا فجعل يقول:
أتانِي شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمتُ شهرًا بعده آخرَ الدهر
فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر
فابتلاه الله عز وجل بمرض الصرع، فصار يصرع في كل رمضان.
وصدق عليه الصلاة والسلام إذ قال عن شهر رمضان: ((بمحلوف رسول الله ما أتى على المسلمين شهر خير لهم منه، ولا مر بالمنافقين شهر شر لهم منه؛ وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر)) رواه أحمد وقال الشيخ شاكر: "إسناده صحيح" وضعفه الألباني. فتأمل حالك أيها الأخ المسلم، وانظر من أي الأقوام أنت.
لقد كان الرسو ل يهنئ أصحابه بحلول هذا الشهر الكريم، ويعلن لهم عن فضائله شحذًا لهممهم وعزائهم، وتشويقًا لهم لاستغلال أيامه وساعاته، فعن سلمان رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله في آخر يوم من شعبان فقال: ((يا أيها الناس، قد أظلكم شهر مبارك، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا، من تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن، ومن فطر فيه صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئًا)) ، قالوا: يا رسول الله، ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم، قال: ((يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائمًا على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء، ومن سقى صائمًا سقاه الله عز وجل من حوضي شربة لا يظمأ بعدها أبدًا حتى يدخل الجنة... وهو شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فاستكثروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غنى بكم عنهما، أما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأما اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنة وتعوذون به من النار)) رواه ابن خزيمة والبيهقي بسند فيه مقال.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين وفتحت أبواب الجنة)) رواه الشيخان.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم)) رواه النسائي والبيهقي بسند حسن وهو في صحيح الترغيب: (418).
قال ابن رجب في لطائف المعارف: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضًا بشهر رمضان، كيف لا يبشر المؤمن بفتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران؟! كيف لا يبشر العاقل بوقت يغل فيه الشيطان؟! من أين يشبه هذا الزمان زمان؟!".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يبق منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)) رواه الترمذي والنسائي والحاكم.
وعن عبد الله بن مسعود عن رسول الله قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان فتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب واحد الشهر كله، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب الشهر كله، وغلت عتاة الجن، ونادى مناد من السماء كل ليلة إلى انفجار الصبح: يا باغي الخير يمّم وأبشر، ويا باغي الشر أقصر وأبصر، هل من مستغفر نغفر له؟ هل من تائب نتوب عليه؟ هل من داع نستجيب له؟ هل من سائل يعطى سؤله؟ ولله عز وجل عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفًا، فإذا كان يوم الفطر أعتق مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفًا ستين ألفًا)) رواه البيهقي وهو حديث حسن لا بأس به.
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((ماذا يستقبلكم وتستقبلون؟)) ثلاث مرات، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله وحي نزل؟ قال: ((لا)) ، قال: عدو حضر؟ قال: ((لا)) ، قال: فماذا؟ قال: ((إن الله يغفر في أول ليلة من شهر رمضان لكل أهل هذه القبلة)) وأشار بيده إليها. رواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي.
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((إن لله تعالى عتقاء في كل يوم وليلة ـ يعني في رمضان ـ ، وإن لكل مسلم في يوم وليلة دعوة مستجابة)) رواه البزار.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) الشيخان.
بمثل هذه الأحاديث العظيمة كان عليه الصلاة والسلام يعظ أصحابه إذا أظلتهم بشائر شهر رمضان ليحرك من هممهم إلى الطاعة والعبادة، وليصرفهم عن دنياهم إلى أخراهم، ومن متاع فان إلى تجارة رابحة دائمة.
فهل لنا في ذلك متعظ؟
إن كثيرا من المسلمين اليوم لا يعرفون هذا الشهر إلا أنه شهر لتنويع المآكل والمشارب، فيبالغون في إعطاء نفوسهم ما تشتهي ويكثرون من شراء الكماليات التي لا داعي لها.
والبعض الآخر لا يعرف من رمضان إلا أنه وقت السهر في الليل على اللهو واللعب والغفلة، ووقت النوم والبطالة في النهار فتجده معظم نهاره نائمًا، فينام حتى عن الصلاة المفروضة.
والبعض لا يعرف من رمضان إلا انه موسم للتجارة وعرض السلع فينشطون في البيع والشراء ويلازمون الأسواق ولا يحضرون المساجد إلا قليلاً على عجل، فصار رمضان عندهم موسمًا للدنيا لا للآخرة، يطلب العرض الفاني ويترك النافع الباقي.
وآخرون لا يعرفون من رمضان إلا أنه وقت التسول في المساجد والشوارع فيمضي أوقاته بين ذهاب وإياب ويظهر نفسه بمظهر الفاقة والفقر وربما كان مخادعًا.
وبعض إخواننا وأحبابنا لا يعرفون عن رمضان إلا أنه شهر الأرصفة والشلل والتجمعات الرصيفية! فهم أبدًا من رصيف إلى رصيف، ومن مباراة إلى أخرى، ومن ملعب إلى أخيه.
وبعض الأحباء ظنوا أن مجيء الاختبارات في شهر رمضان يرخص لهم في التفريط في صلاة التراويح والجماعة في المسجد وقراءة القرآن، ومادروا أن المؤمن الجاد يجد في دروسه حتى يتفوق، ويجد في عبادته حتى يتألق وإنه لقادر على الجمع بينهما بإذن الله.
ورحم الله المناوي إذ يقول: "رغم أنف من علم أنه لو كف نفسه عن الشهوات شرها في كل سنة، وأتى بما وظف له فيه من صيام وقيام غفر له ما سلف من الذنوب، فقصر ولم يفعل حتى انسلخ الشهر ومضى".
يا عباد الله: السنة شجرة، والشهور فروعها والأيام أغصانها والساعات أوراقها وأنافس العباد ثمرتها، فشهر رجب أيام توريقها، وشهر شعبان أيام تفريعها، ورمضان أيام قطفها، والمؤمنون قطافها، إن هذه الأشهر الثلاث كالوقفات الثلاث فرجب أولاها تحمى فيها العزائم، وشعبان ثانيتها تذوب فيها مياه العيون، ورمضان ثالثتها تورق فيها أشجار المجاهدات، وأي شجرة لم تورق في الربيع قطعت للحطب، فيامن قد ذهبت عنه هذه الأشر وما تغير أحسن الله عزاءك!
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أي أخي، أتذكر كم كانت ندامتك وحسرتك حين تصرمت آخر ليلة من رمضان الفائت؟
أتذكر كم من عبرة سكبتها، وأنت تتندم على أوقات من شهر رمضان ضاعت، وليال لم تحسن استغلالها؟
أتذكر أنك عاهدت نفسك يوم ذاك أن تستقبل رمضان القادم بنفس عازمة، وهمة قائمة؟
فها أنت ذا أمام رمضان جديد، وها قد كتب الله لك الحياة لتدرك فرصة أخرى تختبر فيها صدقك ورغبتك في الخير، فماذا ستفعل؟ هل ستبادر؟ أم تفرط في أوقات شهرك حتى يغادر؟ ثم تندم ولا ينفع الندم؟
يا إخوتاه، هل أدركنا مقدار النعمة العظيمة حين من الله علينا ببلوغ هذا الشهر؟ ماذا لو طويت أعمارنا قبله؟ أكنا قادرين على الطاعة والعبادة؟ أكنا قادرين على الركوع والسجود؟
إن الله أعطانا فرصة عظيمة حرمها غيرنا ممن فارق الحياة وأفضى إلى ما قدم، وكم من رجل صلى معنا في هذا المسجد في رمضان الماضي، وسمع حديثًا كهذا الحديث عن فضائل رمضان، ثم هاهو الآن موسد في الثرى يتمنى لحظة يسبح فيها تسبيحة فلا يقدر عليها، ويرجو ثانية ينطق فيها بلا إله إلا الله فلا يجاب رجاؤه.
لقد وقفت طويلاً عند حديث عجيب رواه أحمد وابن ماجه، وقفت عنده طويلاً لأنه أشعرني جلال نعمة إدراك رمضان جديد، وأشعرني أيضا بعظيم المسؤولية الملقاة على كل مسلم يكتب الله له عمرًا ليدرك شهر رمضان.
عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين من بلي قدما على رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وكان إسلامهما جميعا فكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر فغزا المجتهد منهما فاستشهد ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي قال طلحة فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما فخرج خارج من الجنة فأذن للذي توفي الآخر منهما ثم خرج فأذن للذي استشهد ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنه لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك فبلغ ذلك رسول الله صلى اللهم عليه وسلم وحدثوه الحديث فقال: من أي ذلك تعجبون؟ فقالوا: يا رسول الله هذا كان أشد الرجلين اجتهادًا ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله!! فقال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: ((أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟ قالوا: بلى، قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)) [ابن ماجه:3925].
أفرأيت كيف سبق أقل الرجلين اجتهاد لما أتيح له من فرصة العمل في العمر الممتد؟
"فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي" [نداء الريان:1/169].
(1/4185)
سنن الفطرة العشرة
فقه
الطهارة
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
12/11/1417
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنن الفطرة العشر. 2- الحكمة من هذه السنن العشر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: هذا اليوم يوم الجمعة، أفضل أيام الأسبوع، وقد فضله دين الإسلام على سائر الأيام بصلاة الجمعة، وهي صلاة لا تقام إلا جماعة.
ومن أدب المجيء إلى الجمع والأعياد وصلوات الجماعة التنظف وتحسين الهيئة، ولذلك رأيت أن نجعل هذه الخطبة تذكيرًا بسنن الفطرة لأن البعض يجهلها، والبعض الآخر ينساها، وبعض ثالث يتركها مدة طويلة متجاوزًا التوقيت الذي وقته رسول الله وهو أربعون يومًا.
وقد جاء في صحيح الإمام مسلم عن عائشة قالت: قال رسول الله : ((عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البَرَاجِم، ونَتْف الإبط، وحلق العانة، وانتِقاص الماء)) وقال مصعب أحد رواة الحديث: ونسيت العاشر إلا أن تكون المضمضة.
ومعنى قوله : إن هذه السنن من الفطرة أنها من مقتضى الفطرة التي فطر الله عليها العباد، من فعلها فقد وافق فطرته، ووافق السنة التي اتفق عليها الأنبياء جميعًا.
والغرض من هذه السنن هو تحقيق الطهارة الظاهرة، فإن للبدن حقًا، ومن حقه على صاحبه أن ينظفه من الأوساخ، وهذه السنن فيها نظافة وحسن هيئة. وليس القصد الآن تفصيل القول فيها، ولكن القصد هو التذكير بها جملة، مع الإشارة إلى معنى كل سنة بإيجاز.
أولها: الختان، وهو قطع القُلْفة التي تكون في ذكر الولد، وهو واجب على الذكور جملة ومَكْرمة للإناث، ووقته غير محدد، وكلما كان في الصغر كان أفضل.
الثاني: انتقاص الماء، وهو الاستنجاء بالماء لإزالة النجاسة العالقة بالقبل والدبر، وهو من جملة آداب قضاء الحاجة، ويكون بالماء أو بالحجارة وما يقوم مقامهما.
الثالث: السواك، وهو استعمال عود أو فرشاة أو نحوهما لإزالة صُفرة الأسنان ورائحة الفم، والأحاديث فيه كثيرة، في جميع الأوقات: عند الاستيقاظ، وعند النوم، وبعد الأكل، وعند تغير الفم، وعند الوضوء، وعند الصلاة.
الرابع: تقليم الأظافر، وهو قطع الزائد منها في اليد والرجل، كي لا تتجمع الأوساخ والنجاسة والأذى فيها.
الخامس والسادس: قص الشارب وإعفاء اللحية، قص ما سقط على الشَّفة من الشارب والأخذ منه، وإعفاء اللحية أي: توفيرها وعدم حلقها.
السابع والثامن: الاستحداد ونتف الإبط، والاستحداد هو حلق شعر العانة، وهو الشعر النابت فوق الذكر والفرج، والحلق هو السنة في شعر العانة، وفي شعر الإبط النتف، فمن كان يؤلمه النتف حلقه.
التاسع: غسل البراجم، والبراجم هي عُقد الأصابع التي في ظهر الكف، فقد رُكبت أصابع اليدين من عظام صغيرة، بينهما مفاصل، وعندما يبسط المرء كفه يتجمع الجلد على هذه المفاصل، وأحيانًا يغلظ خاصة عند الفلاحين والصناع، فيتجمع الوسخ في هذه العُقد، فكانت السُّنة غسلها، ويستفاد من ذلك من باب أولى غسل اليدين، فغسلهما مستقل وإن لم يكن بنية الوضوء إذا كان فيهما وسخ.
العاشر: المضمضة والاستنشاق، وهو إدخال الماء في الفم والأنف، وهما سنتان في الوضوء، لكنهما سنتان من سنن الفطرة في غير الوضوء، فإذا تغير الفم أو بقي فيه دسم أو خرج منه دم فمن السنة المضمضة من غير وضوء، وكذلك إذا اجتمع مخاط في الأنف كان الاستنشاق بالماء ونثره للتطهر من السنة، فقد يحتاج المسلم المضمضة والاستنشاق دون الوضوء كله.
واعلم أن هذه السنن للرجل والمرأة سواء، وقد روى الإمام مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك قال: وُقِّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة.
قال الإمام النووي في هذا الحديث: "ليس المعنى أن يتركها أربعين ليلة، وإنما المعنى أنه لا يتركها أكثر من أربعين ليلة، وهذه أوضح، لأن من هذه السنن ما يفعله المسلم يوميًا، ومنها ما يحتاج إليه بعد أسبوع، أو خمسة عشر يومًا، ولذلك حددت الشريعة أجلاً أقصى لها، ولم تحدد الأجل الأدنى".
وكما ذكرنا قبل، فالحكمة من هذه السنن هو النظافة والتجمل وتحسين الهيئة، وفيها الاقتداء بالأنبياء والاهتداء بهديهم ومخالفة المشركين وأهل الكتاب ومن يقتدون بهم من الكفرة والملاحدة.
هذا يوم الجمعة مناسب لذكر هذه السنن وفعلها، وإذا لم يفعلها في كل جمعة ففي بعض الجمع، وإن فعلها في غير الجمعة فحسن أيضًا.
ويسن في التي لها تعلق بالأعضاء المزدوجة من البدن البدء باليمين، مثل تقليم الأظافر ونتف الإبط. والسنة أيضًا أن يفعل هذه السنن بنفسه، فإذا استعان بغيره فلا بأس، إلا حلق العانة فلا يجوز ذلك إلا بين الزوجين.
وهذه سنن الفطرة العشرة المذكورة في الأحاديث السابقة، وليست سنن الفطرة محصورة في هذه العشرة، ولكن هذه العشر هي أهمها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4186)
غزوة بدر
سيرة وتاريخ
غزوات
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
18/9/1413
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحداث غزوة بدر. 2- انتصار المسلمين في الغزوة. 3- الدروس المستفادة من الغزوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد شاء الحق عز وجل أن يشرّف شهر رمضان بأكثر من تشريف، شرفه بأعظم حدث شهدته هذه الأرض وهو نزول القرآن، وشرفه بهذه العبادة العظيمة عبادة الصيام، وشرفه بأن كان شهر انتصار المسلمين في أول منازلة حاسمة بين الإيمان والكفر.
وإنه لمن المناسب أن يتذكر المسلمون كل عام الوقائع الإسلامية الفاصلة التي صادفت يومًا من أيام هذا الشهر المبارك وهي كثيرة، كالحبل الموصول يبدأ طرفه الأول بغزوة بدر الكبرى، الغزوة التي سماها القرآن الكريم بيوم الفرقان.
في السنة الثانية بعد الهجرة رسول الله يستقبل المهاجرين بدينهم كل يوم، ويدمجهم في المجتمع الجديد، مهاجرون تركوا كل شيء وراءهم، وخرجوا يريدون وجه الله تعالى، وفي المقابل وعلى بعد مئات الأميال في مكة قريش تعلن بعد الهجرة حالة الحرب مع رسول الله ، وتتصرف مع المسلمين المهاجرين كما تتصرف دولة محاربة.
ومضت ليالٍ من رمضان ذلك العام فبلغ رسول الله خبر قافلة تجارية قادمة من الشام متجهة إلى مكة، يقودها أبو سفيان وفيها أموال قريش، فندب المسلمين أن يخرجوا لاعتراضها لعل الله يكتبها لهم، تعوضهم بعض ما أخذت منهم قريش عندما هاجروا من مكة، وخرج رسول الله بنفسه في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلاً، ولم يكن معهم سوى سبعين بعيرًا وفرسين، فكان الرجلان والثلاثة يتناوبون على ركوب البعير الواحد بما فيهم رسول الله.
روى أحمد بإسناد حسن عن عبد الله بن مسعود قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، وكان أبو لبابة وعلي زميلَي رسول الله ، قال: فإذا كان عُقْبَة ـ يعني نوبة ـ رسول الله في المشي قالا: اركب ـ يا رسول الله ـ حتى نمشي عنك، فقال: ((ما أنتما بأقوى على المشي مني، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما)).
وبلغ أبا سفيان خروج المسلمين لملاقاة القافلة، فاستجار رجلاً اسمه ضمْضَم بن عمر الغفاري، وبعثه إلى مكة يستصرخ قريشًا أن ينفروا لحماية تجارتهم، فنهضوا مسرعين، ولم يتخلف من أشرافهم سوى أبي لهب، فإنه بعث مكانه رجلاً جعل له على ذلك جُعلا، وخرجوا من ديارهم كما قال عز وجل: بَطَرًا وَرِئَاء ?لنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ [الأنفال:47].
ولما بلغ رسول الله خروج قريش استشار أصحابه، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثانية فتكلم المهاجرون، ثم ثالثا فعلم الأنصار أن النبيّ إنما يعنيهم، فقال سعد بن معاذ وكان قد دفع إليه النبي راية الأنصار كما دفع راية المهاجرين لمصعب بن عمير وعلي بن أبي طالب، قال سعد بن معاذ: كأنك تُعرض بنا يا رسول الله، وكأنك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقًا عليها أن لا تنصرك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فأمض بنا حيث شئت، وصِل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا منها ما شئت، وما أخذت منها كان أحب إلينا مما تركت، فوالله لئن سرت بنا حتى تبلغ البَرْك من غمدان ـ أقصى الجزيرة ـ لنسيرن معك، ووالله لئن استعرضت بنا هذا البحر لخضناه معك، وتكلم المقداد مثل ذلك، فأشرق وجه الرسول بما سمع منهم وقال: ((سيروا وأبشروا، فإن الله وعدني إحدى الطائفتين، وإني قد رأيت مصارع القوم)).
وسار رسول الله إلى بدر، وخفض أبو سفيان فلحق بساحل البحر، وكتب إلى قريش أن ارجعوا فإنما خرجتم لتحرِّزوا تجارتكم، فأتاهم خبره فهمّوا بالرجوع، فانبعث أشقاهم أبو جهل عمرو بن هشام فقال: والله لا نرجع حتى نقدم بدرًا، فنقيم فيها نطعم من حضرنا، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القِيَان، يعني المغنيات. لماذا يا أبا جهل؟! وتسمع بنا العرب، فلا تزال تهابنا أبدًا وتخافنا.
وسار رسول الله بإشارة من الحُباب بن المنذر إلى موقع مناسب من مياه بدر، فنزل ومشى في أرض المعركة، وجعل يشير بيده الشريفة ويقول: ((هذا مصرع فلان)) رواه مسلم، أي: هنا يخرّ قتيلاً صريعًا، فما تعدى أحد منهم موضع الإشارة النبوية.
فلما طلعت قريش، وكانوا خمسين وتسعمائة مدججين بالسلاح قال رسول الله : ((اللهم هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها، تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني)) ، وقام ورفع يديه واستنصر ربه وبالغ في التضرع، ورفع يديه حتى سقط رداؤه وقال: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))، فالتزمه أبو بكر من ورائه وقال: حسبك مناشدتك ربك يا رسول الله، أبشر فوالذي نفسي بيده لينجزن الله ما وعدك.
واستنصر المسلمون كلهم، وتهيئوا، فلما أصبحوا أقبلت قريش بكتائبها والتقى الجمعان، فمنح الله المسلمين أكتاف المشركين، فتناولوهم قتلاً وأسرًا، وانجلت المعركة عن نصر عظيم للمسلمين، فقُتِل من المشركين سبعون، معظمهم من صناديد قريش وأشرافهم، وعلى رأسهم أبو جهل، وأُسِر مثلُ العدد، بينما استشهد من المسلمين أربعة عشر.
وكان لنصر بدر ما بعده في تاريخ الدعوة الإسلامية ومسيرة الدولة الإسلامية، وكلُّ التطورات التي جاءت فيما بعد مدِينةٌ لهذا اليوم الفاصل، فماذا لنا نحن من يوم بدر؟!
لقد جاء الوحي عقب المعركة، ونزل على قلب رسول الله ليعلِّم الصحابة ويربيهم، وصورُ الأحداثِ لا زالت حيةً في نفوسهم، لكن الوحي ليس لهم وحدهم، ولكنه للمسلمين في كل زمان، وبهذه التعليقات القرآنية على غزوة بدر، انتقلت من حدث تاريخي جزئي إلى تاريخي نموذجي، يشارك في إعداد الفئة المؤمنة التي تنهض بمثل ما نهضت به الجماعة المسلمة الأولى من نصرة الإسلام ونشر دعوته.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ماذا نأخذ من بدر معشر المسلمين؟ إننا نأخذ من هذه الغزوة ما ينبغي أن نكون عليه دائمًا، وهو الاستعداد للجهاد، انظر إلى ذلك الاستعداد الذي أبداه المهاجرون والأنصار لملاقاة المشركين وإن لم يكونوا خرجوا لقتال، فالجهاد قبل أن يكون منازلاتٍ ومعاركَ، وهو استعداد وتهيؤ دائم، والإسلام بكل تعاليمه جهاد، فالصلاة والصيام والزكاة والحج جهاد، وطلب العلم جهاد، والدعوة جهاد، والصمود أمام الفتن جهاد. ومع الجهاد تكون عزة النفس، ويكون الجد وإتقان العمل. فلم تكن غزوة بدر مقطوعة الصلة بما سبقها من تربية طويلة بمكة ثم بالمدينة المنورة، بل هو سياق واحد موصول. الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة بكل هذه المعاني الواسعة له.
ونأخذ من هذه الغزوة أن الأصل هو الدعوة بالكلمة الطيبة والقدوة الحسنة وعدم المبادأة بالقتال، فبدر لم تقع إلا بعد سنوات من الدعوة، وكان البادئ بالشر هم الكفار، وكم بذل النبي لينقذهم من النار، فأبَوا عليه واختاروا محاربته، فماذا يملك لهم؟! لذلك لما انتهت المعركة أقبل حتى وقف عليهم وهم قتلى وقال: ((بئس عشيرة النبي كنتم، كذبتموني وصدقني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس، أخرجتموني وآواني الناس)).
ونأخذ من بدر معرفة قدر صحابة رسول الله ، وكيف كانت أيامهم، ولماذا لا يبلغ أحدٌ منَّا مُدَّ أحدهم ولا نصِيفَه، ولنعرف أي شرف ناله أولئك الناس عندما اختارهم الله لصحبة نبيه ونصرة دينه، وفضلهم بمعايشة عصر النزول، فتمتزج أحداث حياتهم بتاريخ الدعوة، وتبقى تلك الأحداث دروسًا للأجيال.
ونأخذ من بدر شروط النصر وأسباب الهزيمة، وأن ذلك كله يقع وفق سنن الله.
وكذلك نرى في بدر عاقبة الإخلاص والصدق، وعاقبة الكبر والرياء والشهرة.
ونأخذ من بدر أن قيمة كل مسلم بحسب بلائه في الإسلام، فقد كان يقال: فلان من المهاجرين، وفلان من الأنصار، وفلان من أهل بدر، وفلان من أهل بيعة الرضوان، فإذا استوى المسلمون في أصل الإسلام فالتفاضل بينهم بحسن بلاء كل واحد منهم، وهذا ليس خاصًا بالصحابة، بل هو عام لمن بعدهم، وإنما كان الصحابة يُظهِرون ذلك ويزنون به، ونحن نَزِنُ بموازينَ أخرى.
لقد كان بدر موضعًا في الجزيرة العربية مثل سائر واحاتها، وشاء الله عز وجل أن ينتقل الاسم إلى الغزوة، ليتسمى به أطفالنا وشوارعنا ومؤسساتنا ومساجدنا، وهذا طيب، لكن لا ينبغي أن ننسى أصل الاسم في الإسلام، إنها معركة فاصلة بين الحق والباطل.
(1/4187)
فضل يوم الجمعة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
9/8/1417
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل يوم الجمعة. 2- سنن يوم الجمعة. 3- بعض الأمور التي ينبغي التنبه لها يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إذا كانت فئة من المسلمين تعرف فضل هذا اليوم الذي نجتمع فيه كل أسبوع في مثل هذا الجمع المبارك، فإن فئات عريضة أخرى لا تعرف فضله، ويوشك أن يصير يوم الجمعة في حسها وشعورها يومًا عاديًا مثل بقية الأيام، بل قد صار كذلك بالفعل عند الكثيرين، فلنذكر إذًا فضل هذا اليوم العظيم ولنُذَكِّر به حتى لا ننسى.
فقد فرض الله علينا تعظيم هذا اليوم، وذلك أنه سبحانه لما شاء أن يخلق أبانا آدم خلقه في يوم الجمعة، وأمر ذريته أن تعظم اليوم الذي خُلِقَ فيه لأنه للعبادة، شكرًا وحمدًا له سبحانه، لكنه سبحانه لم يبينه للناس، فقالت اليهود: هو يوم السبت لأنه اليوم الذي فرغ الله تعالى منه من خلق الخلائق، وقالت النصارى: هو يوم الأحد لأنه اليوم الذي ابتدأ فيه تعالى خلق الخلائق، ووفق الله هذه الأمة فأصابته نعمة من الله عز وجل إذ هداها سبحانه ليوم الجمعة في حين ضل فيه اليهود والنصارى واختلفوا. اليوم الذي خلق الله فيه الإنسان.
إنه اليوم الذي نلتقي فيه كل أسبوع، ونجتمع في هذه الساعة، يوم مفضل، فضله الله على أيام الأسبوع بفضائل ثلاثة، الأولى: أن الله تعالى خلق آدم في ساعة منه، والثانية: أن فيه ساعة لا يسأل العبد ربه فيها شيئًا إلا أعطاه إياه، والثالثة: أن الساعة تقوم فيه. وجدير بيوم خلق الله فيه آدم وجعل فيه ساعة إجابة وتنتظر الخلائق فيه قيام الساعة أن يكون يوم عبادة يعظم فيه العباد ربهم ويستعدون للقائه.
أخرج أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة أن النبي قال: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة))، وروى مالك وأحمد وابن حبان والحاكم عن أبي هريرة أن النبي قال: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيبَ عليه، وفيه قبض، وفيه تقوم الساعة، ما على وجه الأرض من دابة إلا وهي تصبح يوم الجمعة مصيخة ـ أي: مستمعة ـ حتى تطلع الشمس ـ أي: تنتظر الساعة بين الفجر والشروق ـ شفقًا من الساعة إلا ابن آدم، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مؤمن وهو في صلاة يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه)) والحديث في صحيح الجامع.
أيها المسلمون، لما كان يوم الجمعة سيد الأيام عند الله تعالى اختاره عز وجل لهذه العبادة التي نجتمع فيها في المسجد، ونستعد لها بجملة من الآداب والسنن، روى الإمام أحمد والبخاري ومسلم عن أبي سعيد عن النبي قال: ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يمس طيبًا إن وجد)). فلا يدع المسلم الغسل يوم الجمعة إلا لعذر، فإنه أفضل وأكمل في التجمل والتطهر، ولا يغفل عن التطيب والسواك.
وروى أبو داود وابن ماجه عن أبي سلام أنه سمع النبي يقول على المنبر يوم الجمعة: ((ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب سنته))، ومعنى الحديث: أن الأفضل للمصلي يوم الجمعة أن يلبس للصلاة لباسًا غير الذي يعمل فيه.
وعن سلمان الفارسي قال: قال النبي : ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يروح إلى المسجد ولا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت للإمام إذا تكلم إلا غفر له من الجمعة إلى الجمعة الأخرى)). ففي هذا الحديث العظيم أن الجمعة هي مكفر الأسبوع إذا عمل فيه بهذه السنن، وهي الاغتسال والتطهر والتطيب والدهان والذهاب إلى المسجد واجتناب التفريق بين اثنين عند الجلوس والصلاة قبل خروج الإمام والإنصات إلى الإمام إذا خرج. ومن فعل هذا كانت الجمعة كفارة لما بينها وبين الأخرى ما لم يغْشَ الكبائر.
وروى الجماعة إلا ابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح ـ يعني إلى المسجد ـ فكأنما قرب بدنة ـ أي: كأنما تصدق بناقة ـ ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، وإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)). وقد ذهب الإمام الشافعي إلى أنها خمس ساعات تبدأ بالفجر في هذا الزمان وتنتهي عند الزوال، وذهب الإمام مالك إلى أنها أجزاء خمس من ساعة واحدة قبل الجمعة.
وقد ضيع المسلمون سنة التبكير إلى الجمعة في هذه الأزمان، فهم يجدون الساعة التي يقضونها في المسجد قبل الجمعة ثقيلة على نفوسهم، بل حتى الدقائق التي يستمعون فيها الخطبة تثقل عليهم، وما ذلك إلا لأن قلوبهم مهمومة مشغولة، ولست أقصد الذين تفرض عليهم ظروف عملهم التأخر إلى الأذان، ولكنني أقصد الذي يستطيع التبكير ويتثاقل، فمن لم يستطع إحياء هذه السنة كل جمعة فليعمل بها أحيانًا. وتقترن سنة التبكير بنيل فضل الصفوف الأولى، فمن بكّر إلى المسجد حاز فضل الصف الأول.
هذه سنن يتهيأ بها المسلم لصلاة يوم الجمعة، فإذا دخل المسجد فليركعْ ركعتين حيث انتهى به الصف، ولا يتخطى رقاب الناس، فقد روى أبو داود والنسائي وأحمد أن رجلاً جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب فقال له: ((اجلسْ فقد آذيْتَ وآنيْتَ)) أي: أبطأت وتأخرت، يركعهما ولو كان الإمام يخطب، لما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: قال رسول الله : ((إذا جاء أحدكم والإمام يخطب أو قد خرج فليصلِّ ركعتين)) أخرجه الشيخان مرفوعًا إلى رسول الله.
وقال : ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت))، وفي الحديث الآخر: ((ومن تكلم فلا جمعة له)) رواه أحمد وأبو داود. ومعني ((لا جمعة له)) أي: تكتب له ظُهرًا فقط، كما جاء في حديث آخر: ((ومن لغا وتخطى رقابَ الناس كانت له ظُهرًا)) رواه أبو داود.
وإنما أمر بالإنصات ونهى عن الكلام حال الخطبة حتى تحصل الاستفادة ويحصل الأجر، فقد روى مسلم مرفوعًا إلى رسول الله: ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثةِ أيام، ومن مسَّ الحصى فقد لغا)).
وشروط الانتفاع بالموعظة ذكرها الله تعالى في سورة ق التي كان يتلوها كل جمعة: إِنَّ فِى ذ?لِكَ لَذِكْرَى? لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى ?لسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
هذه بعض السنن والآداب التي يقدمها المسلم بين يدي هذه العبادة الأسبوعية.
أما الجمعة نفسها ففريضة واجبة على كل مسلم، إلا أن يكون صبيًا أو مسافرًا أو مريضًا أو امرأة.
وهي صلاة جماعية، لا تصح على انفراد، فإذا فاتت المسلم صلى الظهر أربع ركعات.
ويحسن قبل أن نغادر هذا الموضوع أن ننبه على أمور تتصل بصلاة الجمعة:
1- النوم حال الخطبة: وهو مخالف للإنصات الذي أمر به النبي ، فمن غلبه النوم فليتحوّل من مكانه إلى مكان آخر.
2- البيع والشراء بعد الأذان إلى الفراغ من الصلاة، وهو حرام لا يجوز، وفي حكمه سائر أنواع المعاملات والأشغال، لأن الله تعالى قال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ [الجمعة:9، 10].
3- مزاحمة النساء على بابهن وممرّهن، وهذا منهي عنه، فقد كان النبي إذا سلم من الصلاة ينتظر قليلاً، وينتظر الصحابة معه حتى تنصرف النساء، فالرجاء احترام هذه الآداب.
قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4188)
ليلة القدر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد عز الدين توفيق
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحديد ليلة القدر. 2- دعاء ليلة القدر. 3- فضل الاعتكاف والحث عليه. 4- فضل ليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لنا مع ليلة القدر ثلاثة وقفات:
أولاً: تعيينها، هذه الليلة متى هي؟ الأرجح أنها في العشر الأواخر، وأرجى الليالي هي ليالي الوتر، وأرجى ليالي الوتر ليلة السابع والعشرين، كما أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي أُرُوا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله : ((أرى رؤياكم قد تَوَاطَأت في السبع الأواخر، فمن كان مُتحريها فليتحرّها في السبع الأواخر)).
ووردت آثار موقوفة على بعض الصحابة، منهم عمر بن الخطاب مُحَدَّث هذه الأمة وحذيفة بن اليمان أمين سر رسول الله وأُبي بن كعب شيخ القراء أنها ليلة السابع والعشرين. ومما يُقوِّي أنها ليلة السابع والعشرين هذا الإجماع الحاصل في الأمة الإسلامية عبر مئات السنين، فهم يتحرّونها في هذه الليلة، والله سبحانه لا يجمع الأمة على ضلالة.
الوقفة الثانية: لتلك الليلة ليلة القدر دعاء علّمه النبي لعائشة ، علينا أن ندعو به في سجودنا، وفي قنوتنا هذه الأيام، وهو: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عني. عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عني)) رواه الخمسة غير أبي داود وصححه الترمذي والحاكم.
وقد جمع هذا الدعاء آداب السؤال، فابتدأ بهذا النداء: ((اللهم)) ، وأصلها: يا الله، واسم الجلالة الله هو اسم الله الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب، وفي قوله: ((إنك عفو تحب العفو)) توسّل إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته، وهنا توسل إليه بصفة العفو، فإنه العَفُوُّ، وتضمن قوله: ((فاعف عني)) كل خير، لأن العفو يمحو الماضي ويسقط المتابعة.
وليس هذا هو الدعاء الوحيد الذي يُدعَى به في ليلة القدر، بل ندعو بأدعية أخرى، فليلة القدر ليلة الدعاء والاستغفار، لأن الدعاء فيها مستجاب.
الوقفة الثالثة: التنبيه على سنة نبوية في هذه العشر الأواخر، وهي سنة الاعتكاف، فقد كان النبي يعتكف العشر الأواخر طلبًا لليلة القدر، لما قوي ظنه أنها فيها.
وأجمعت الأمة أنه ليس بفرض، ولكنه سنة مؤكدة، واظب عليها النبي حتى توفاه الله، واقتدى به في ذلك أزواجه وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين. فمن تيسرت له تأسيًا به فهو أفضل وسيلة لترصّد ليلة القدر والتعرض لها، ومن لم تسمح له الظروف فليكثر المكث في المسجد في هذه العشر، وليشهد صلاة القيام حيث تقام في المسجد، فمن حرم فضل هذه الليلة فقد حرم خيرًا كثيرًا.
ولا تنسَوا أن تأمروا بهذا أولادكم وبناتكم وزوجاتكم، فقد كان النبي إذا أقبلت العشر الأواخر أيقظ أهله وشد المئْزر، كناية عن شدة الاجتهاد. وأبعِدهم عن الملهيات، خاصة ما يعرض في التلفاز من برامج فارغة ساقطة تلهيهم وتفتنهم.
فمن لم يعتكف فليجعل الاعتكاف حالة نفسية يعيشها، يقطع علاقته بفضول الأغراض وكل ما يمكن تأجيله من الحاجات والمصالح، وليعشْ في خلوة بربه، ولو كان في بيته ومتجره وعمله، فالاعتكاف من العكوف، وهو حبس النفس على أمر وملازمته والمواظبة عليه.
هذه العشر لقراءة القرآن الكريم بآدابه المعلومة عند التلاوة والاستماع، وهي للدعاء، وهي لملازمة المساجد وشهود الصلوات فيها، وهي لحضور مجالس المواعظ.
وليلة القدر هي الليلة التي تنسخ فيها مقادير السنة، وتفرق فيها الآجال والأرزاق، فتتلقاها الملائكة من اللوح المحفوظ، وتنزل بها بأمر الله: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مّنْ عِنْدِنَا [الدخان:3-5].
أما فضل هذه الليلة فهي خير من ألف شهر: لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]، ومَنْ مِنَ الناس يستطيع أن يحيا ثلاثة وثمانين عامًا صائمًا نهاره قائمًا ليله بلا كلل ولا فتور. إن ليلة القدر لمن أدركها قائمًا داعيًا متضرعًا تضيف لعمره عند الله تعالى ألف شهر من العبادة.
أيها المسلمون، إن الله عز وجل تفضل علينا، فعوضنا عن قصر أعمارنا وضَعفِ عبادتنا وقلة طاعتنا بمواسم الخير والفضل، ومنها هذا الشهر الكريم الذي جعل فيه الحسنة بعشر أمثالها في غيره، ثم تفضل علينا بهذه الليلة منه، فجعل قيامها خيرًا من ألف شهر.
وليس هذا هو كل فضل هذه الليلة، بل كما يزداد فيها المسلم من الأجر يتخفف فيها من الوزر، ففي البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدم من ذنبه)).
إن سورة القدر تثبت زيادة الأجر، والحديث يثبت سقوط الوزر، فهل بعد هذا الفضل من فضل؟! وهل يجود بمثل هذا غير الجواد الكريم سبحانه وتعالى؟!
فأبشروا يا معشر المسلمين، سيروا وبشِّروا واعلموا أنه لا يدخل أحدكم الجنة بعمله، وإنما يدخلها بفضل الله ورحمته، ومن فضل الله ورحمته أنه يضاعف الحسنات ولا يضاعف السيئات، ومن فضله أنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ومن فضله أنه نصب لعباده مواسم الخير ليتعرضوا لها، ومن فضله أنه بينها لهم في كتابه وعلى لسان رسوله ، هل من الناس من يفعل من هذا من شيء؟!
اللهم مغفرتك أوسع من ذنوبنا، ورحمتك أرجى من أعمالنا، اللهم اغفر لنا في هذا الشهر أجمعين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4189)
معركة القادسية
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
19/6/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العناية بأبطال الإسلام. 2- أهمية معركة القادسية. 3- اختيار سعد لقيادة نفير المسلمين إلى القادسية. 4- وفود المسلمين إلى كسرى ملك الفرس. 5- بطولة طليحة بن خويلد الأسدي. 6- وفود المسلمين تدعو رستم للإسلام. 7- وصف معركة القادسية. 8- بطولات المسلمين في القادسية. 9- قصة توبة أبي محجن الثقفي والدروس المستفادة منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: القادسية وما أدراكم ما القادسية، معركة من معارك الإسلام الخالدة، تاريخ وأحداث، قصص ومواقف، يعجز عن تسطيرها القلم، وعن وصفها اللسان، وعن التعبير عنها خطيب، لكنه الإسلام الخالد الذي يصنع من الرجال غير الرجال، ومن الأحداث والأخبار ما يشبه الأساطير والمعجزات، ولا تزال الأمة بخير ما دامت ترتبط بتاريخها ورجالاتها، لكن عندما تتنكر الأمم لصانعي تاريخها فإنها تنحدر من العلياء إلى الحضيض، وتبدأ تتخبط هنا وهناك. وإن أمة تستحي أن تفخر بتاريخها لهي أمة لا تستحق الحياة، وستبقى الأمة بخير ما بقي الفرد فيها يعرف عن خالد وسعد أكثر مما يعرف عن لاعبي الأندية، ويعرف عن محمد بن القاسم وقتيبة بن مسلم وعقبة بن عامر أكثر مما يعرف عن فلان وفلان ممن يروج لهم وسائل الإعلام.
أيها المسلمون، معركة القادسية من المعارك الحاسمة في تاريخ العالم، فهي التي انفتحت على آثارها أبواب العراق وما وراء العراق من بلاد فارس، وهي التي من عندها استطرد نصر المسلمين، فاستطرد معه السقوط الساساني من الناحيتين الحربية والسياسية، والسقوط المجوسي من الناحية الدينية العقائدية.
في القادسية كسر المسلمون شوكة المجوس كسرًا لم ينجبر بعدها أبدًا، وبعدها انساح دين الإسلام في العالم شرقًا وغربًا. فلنعش ـ أيها الأحبة ـ لحظات مع أحداث هذه المعركة العجيبة، ولنقف مع بعض فوائدها وفرائدها.
كان للفرس دولة عظيمة قوية اتخذت من المدائن عاصمة لها، وأطلق عليها العرب اسم دولة الأكاسرة، وبعد هزيمة المسلمين في معركة الجِسر والتي قتل فيها خلق من المسلمين ونقض أهل الذمة في العراق عهودهم وبدأ الفرس في لمّ شملهم تحت قيادة يزدجرد وبدؤوا بالتحرك على حدود الدولة الإسلامية قرر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الخروج بنفسه غازيًا للفرس في العراق، وأعلن ما يسمى في عصرنا بالنفير العام، فلم يدع رئيسًا ولا ذا رأي وشرف وبسطة ولا خطيبًا ولا شاعرًا إلا أرسله إلى العراق، وقال: والله، لأضربن ملوك العجم بملوك العرب. فلما كان على بعد ثلاثة أميال من المدينة استشار عمر كبار الصحابة معه، وكان رأيهم أن يرجع هو إلى المدينة ويبعث أحدًا مكانه، فقال: أشيروا عَليّ برجل، فقالوا: إليك الأسد في براثنه، سعد بن أبي وقاص، فأحضره عمر وأقرّه على جيش العراق، وقال له: يا سعد، لا يغرنك من الله إن قيل: خالُ رسول الله وصاحبه، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئ بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، فانظر الأمر الذي رأيت رسول الله يلزمه فالزمه.
سار سعد بالجيش وتتابعت الإمدادات حتى صار معه ثلاثون ألفًا من المجاهدين المؤمنين، فنظم الجيش، وكلّف يزدجرد قائده رستم بقيادة الجيش، فحاول رستم الاعتذار عدة مرات لكن أصرّ عليه يزدجرد، فأرسل سعد وفدًا لمقابلة يزدجرد، وكانت هذه عادةً قبل المعارك، وكان في الوفد النعمان بن مقرّن والمغيرة بن شعبة، فأحضر يزدجرد قائده لاستقبال هذا الوفد الفريد من نوعه، فدخلوا عليه وحضر الترجمان، فسألهم: ما جاء بكم؟ وما دعاكم إلى غزو بلادنا؟ فتكلم النعمان بن مقرّن وقال: أتينا ندعوكم إلى ديننا، فإن أبيتم فأمر من الشر هو أهون من آخر شر منه: الجزية، فإن أبيتم فالمناجزة، فإن أجبتم خلّفنا فيكم كتاب الله ونرجع عنكم، وإن بذلتم الجزية قبلنا وإلا قاتلناكم. فتكلّم يزدجرد بعدما أثاره هذا الكلام وقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقى منكم، ولولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم، ارجعوا إلى صاحبكم وأعلموه أني مرسل إليه رستم حتى يدفنه ويدفنكم في خندق القادسية.
رجع الوفد ويزدجرد منزعجٌ من حديثهم، وقال لرستم: ما كنت أرى أن في العرب مثل هؤلاء. وما عَلِم هذا الضال أن محمدًا غيّر النفوس وقلبها إلى حكماء وعلماء، وجعل منهم أسودًا، الرجل بألف رجل. سار رستم بجيش يبلغ تعداده 120 ألفًا ومعه سبعون من الفيلة.
من البطولات العجيبة التي حصلت قبل المعركة أن دخل طليحة الأسدي معسكر رستم لوحده فصار يجوسه ويتوسّم ما فيه؛ لكي يعرف مقدار قوة جيش العدو، فشعروا به، فخرج يحطّم عليهم أعمدة خيامهم وأخذ أمامه فرسًا فركبوا في طلبه، فلحق به فارس منهم فقتله طليحة، ثم لحق به آخر فقتله أيضًا، فلحق به ثالث فكرّ عليه طليحة وأسره ودخل به على سعد فطلب الأمان، فأمّنه سعد وأتي بالترجمان، فقال الفارسي: لقد باشرت الحروب منذ أنا غلام وسمعت بالأبطال ولم أرَ مثل هذا! يدخل المعسكر بمفرده والجند آلاف ثم طلبناه فما أدركناه، فقتل الأول وهو عندنا بألف فارس، ثم الثاني وهو نظيره، ثم أدركته ولا أظنّ أني خلفت من بعدي من يعدلني، فرأيت الموت واستؤسرت، ثم أسلم هذا الأسير وحسن إسلامه.
أرسل بعدها رستم إلى سعد أن ابعث إلينا رجلاً نكلمه ويكلمنا، فأرسل إليهم ربعي بن عامر، فحبسه الحراس على جسر نهر الفرات خشيةً منه، وبعد مشاورات سمحوا له وقد جلس رستم على سرير من ذهب خالص وبُسط أمامه النمارق والوسائد، فأقبل ربعي على فرسه وسيفُه في خرقة، فنزل وربط فرسه بوسادتين شقّهما وأدخل الحبل فيهما، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: لم آتكم، أنتم دعوتموني، فإن أبيتم إلا كما أريد وإلاّ رجعت، فأخبروا رستم فقال: ائذنوا له، فأقبل ربعي يتوكأ على رمحه ويزج النمارق والبسط، فلم يدع نمرقًا ولا بساطًا إلا أفسده، فلما دنا من رستم جلس على الأرض وركز رمحه، وقال: إنّا لا نستحب القعود على زينتكم، فسأله الترجمان: ما جاء بكم؟ فقال ربعي كلماته الخالدة التي سطرها التاريخ منذ ذلك الزمان وحتى وقتنا هذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وأجيال المسلمين يرددون كلمات ربعي حيث قال: الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فمن قبله قبلنا منه ورجعنا عنه وتركناه وأرضه دوننا، ومن أبى قاتلناه حتى نفضي إلى الجنة أو الظفر، فقال رستم: قد سمعنا قولكم، فهل لكم أن تؤخّروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟ فقال ربعي: وإن مما سنّ لنا رسول الله أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك واختر واحدة من ثلاث بعد الأجل.
رجع ربعي إلى جيش المسلمين وترك القوم في حيرة مما قاله لهم، وأوقع في نفوسهم من الخوف والهلع قبل المعركة.
وفي اليوم التالي أرسل رستم إلى سعد أن ابعث إلينا ذلك الرجل ربعي لنتفاوض معه مرةً أخرى، فبعث إليهم حذيفة بن محصن، أقبل حذيفة ولم ينزل عن فرسه، فقال رستم: انزل، قال حذيفة: لا أفعل، فقال له: ما جاء بك ولم يجئ الأول؟ قال له: إن أميرنا يحب أن يعدل بيننا في الشدة والرخاء، فقال: ما جاء بكم؟ ـ سؤالهم المعهود ـ فأجابه بمثل جواب ربعي، فقال رستم: المواعدة إلى يوم ما؟ قال حذيفة: نعم ثلاثًا من أمس.
وفي اليوم الثالث طلب رستم رجلاً آخر، فبعث سعد إليه المغيرة بن شعبة، فأقبل وله أربع ضفائر يمشي حتى جلس مع رستم على سريره ووسادته، فوثبوا عليه فأنزلوه ومعكوه، فقال كلمات أفسدت حياة الفرس إلى الأبد، قال بهدوء واطمئنان: كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولا أرى قومًا أسفه منكم، إنا معاشرَ العرب سواء، لا يستعبد بعضنا بعضًا، فظننت أنكم تواسون قومَكم كما نتواسى، اليوم علمتُ أن أمركم مضمحل وأنكم مغلوبون، فنخر رستم نخرةً، واستشاط غضبًا، ثم أقسم بالشمس لا يرتفع الصبح غدًا حتى أقتلكم أجمعين.
فانصرف المغيرة تاركًا وراءه رستم ومن حوله يغلون غضبًا وفي دوامة من التفكير، فقال رستم: أتعبرون إلينا أم نعبر إليكم؟! فقالوا: بل اعبروا إلينا. فأمر سعد جيشه أن يقفوا مواقفهم، وعبر الفرس النهر، وجلس رستم على سريره، وعبّأ في قلب الجيش 18 فيلاً، وأما سعد فقد نظم الجيش واستخلف عليهم خالد بن عرفطة لأنه أصيب بمرض عرق النسا، فكان لا يتمكن من الجلوس، ولكنه بقي يشرف على القتال من مكانه، فأمر الجيش أن الزموا مكانكم حتى تُصلّوا الظهر، فإذا صليتم فإني مكبر تكبيرة فكبروا واستعدوا، فإن سمعتم الثانية فكبروا والبسوا عدّتكم، ثم إذا كبرت الثالثة فكبروا وليُنشّط فرسانكم الناس، فإذا كبرت الرابعة فازحفوا جميعًا حتى تخالطوا عدوكم وقولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما كبر سعد الثالثة برز أهل النجدات فأنشبوا القتال وخرج إليهم من الفرس أمثالهم، فتبادلوا الطعن والضرب، فخرج فارسيٌّ يريد المبارزة، فقام له عمرو بن معديكرب أحد فرسان اليمن، فبارزه فاعتنقه ثم جلد به الأرض فذبحه كما تذبح البهيمة، فرماه آخر بقوس من بعيد فعرفه عمرو فحمل عليه فاحتمله ووضعه بين يديه حتى دنا به من المسلمين فكسر عنقه، ثم وضع السيف على حلقه فذبحه ثم ألقاه، وقال: هكذا فاصنعوا بهم أيها المسلمون.
ومما أزعج المسلمين الفيلة التي جاء بها رستم، لأن الخيول كانت تحجم عنها وتحيد، فاقترح عاصم بن عمرو أن يرموا ركبان الفيلة بالنبل، فشد عليهم الرماة فما بقي فيل إلا قُتل صاحبه، واقتتل الناس ذلك اليوم حتى غروب الشمس، وفي اليوم الثاني أصبح المسلمون وإذا بنواصي الخيل قادمة من الشام وقد فتحت دمشق وفي مقدمته القعقاع بن عمرو، فما عمل القعقاع وهو يعلم عدد جيش المسلمين وضخامة جيش الفرس؟! قطّع الجيش عشرًا عشرًا، وكانوا ألف فارس، وجعلهم متباعدين يثيرون الأرض حتى يصلوا ويلحقوا بالجيش، فبقيت العشرات تتوارد أرض على القادسية حتى المساء، فظن الفرس أن مائة ألف قد وصلوا من الشام، فألقى القعقاع في قلوبهم الرعب والهلع، فلا تدري من أين جاء هؤلاء الفرسان بفنون الحرب وخططها وهم حديثو عهد بالحروب؟!
ومن خطط القعقاع أيضًا أنه ألبس الإبل البراقع، فجعلت خيل الفرس تفر منها تحسبها فيلة، فلقي الفرس من الإبل أعظم مما لقي المسلمون من الفيلة، فتنشّط المسلمون وتقاتل الفريقان ذلك اليوم حتى منتصف الليل.
ومن القصص العجيبة التي حصلت في ذلك اليوم قصة الخنساء وأبنائها الأربعة، جمعت أبناءها في أول الليل وقالت لهم: إنكم أسلمتم مختارين، وتعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، فإذا رأيتم الحرب قد شمّرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها وجلّلت نارًا على أوراقها فتيمّموا وطيسها وجالدوا رئيسها. فخرج أبناؤها الأربعة فقاتلوا ببسالة حتى قتلوا جميعًا، فلما بلغها الخبر قالت: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
أيها المسلمون، قد يتعجب البعض من انتصار المسلمين في القادسية وغيرها من المعارك وعدد العدو أضعاف أضعاف المسلمين، فلم العجب وفي نساء المسلمين من أمثال الخنساء فكيف بالرجال؟!
ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية قصة امرأة همّام بن الحارث النخعي قالت: شهدنا القادسية مع أزواجنا، فلما أتانا أن قد فُرغ من الناس شددنا علينا ثيابنا وأخذنا الهراوي ثم أتينا القتلى، فمن كان من المسلمين سقيناه ورفعناه، ومن كان من المشركين أجهزنا عليه، ومعنا الصبيان فنولّيهم ذلك ـ تعني استلابهم ـ لئلا يكشفن عورات الرجال.
إنها المرأة المسلمة، لبنة من لبنات المجتمع المسلم، تشارك في مجالها وتحافظ على حيائها وعفافها. أين هذه الصورة من بعض نساء اليوم ممن يلهثن وراء عروض الأزياء وبيوتات الموضة متأثرات بموجات التغريب والعلمنة؟! إن المرأة المسلمة لها دورها، ويمكنها أن تقدم لنفسها وأن تخدم دينها، وأن تشارك أمتها في شدتها ورخائها. وحريّ بنا نحن أن نوجه هذه المرأة وأن نحسن استغلال طاقاتها، وإلاّ ضاعت أوقاتها بين مكالمات فارغة ومشاهدات ساقطة وقراءات هابطة وتجوّل وتسكع بين أروقة المجمعات التجارية، وسيدفع ثمن ذلك الجميع.
وكيف لا ينتصر المسلمون وفيهم رجل عجوز أعمى مثل ابن أمّ مكتوم رضي الله عنه وأرضاه؟! قال أنس : رأيت يوم القادسية عبد الله بن أمّ مكتوم وعليه درعٌ يجرّ أطرافها وبيده راية سوداء، فقيل له: أليس قد أنزل الله عذرك؟! قال: بلى، ولكني أُكثّر سواد المسلمين بنفسي. وقال: ادفعوا إليّ اللواء فإني أعمى لا أستطيع أن أفر، فأقيموني بين الصفين. واستشهد رضي الله عنه وأرضاه يوم القادسية، ودفن هناك ليعطّر تلكم البقعة بدمه الطاهر. إنها الهمم العالية والبذل العجيب في سبيل هذا الدين رجالاً ونساءً.
أيها المسلمون، أصبح القوم لليوم الثالث على التوالي وبين الصفين من قتلى المسلمين ألفان، ومن المشركين عشرة آلاف، فنقل المسلمون قتلاهم إلى المقابر والجرحى إلى النساء، وبات القعقاع ولم ينم تلك الليلة، واستمر القتال حتى الصباح، وكان صليل الحديد فيها كصوت سوق الحدادين، ولم ينم سعد تلك الليلة أيضًا، وأقبل يدعو الله أن ينصر جنده، فأصبح الناس لليوم الرابع والقتال مستمر، فأصبح القعقاع بن عمرو ورأى أنها قد طالت، فجمع حوله جماعة من الرؤساء وشجعهم، وكان هو محور المعركة الفاصلة، فقال لهم: إن الدائرة بعد ساعة لمن بدأ القوم فاصبروا ساعة. فقصدوا رستم وخالطوا جيش العدو، فوصل القعقاع إلى سرير رستم وقتلوا من دونه، فهرب رستم ونزل في الماء، فرآه هلال بن علّفة فلحق به ورمى بنفسه عليه، وتناوله من رجليه فأخرجه من الماء، ثم ضرب جبينه بالسيف حتى قتله ثم ألقاه بين أرجل البغال، ثم صعد طرف السرير وقال: قتلت رستم وربِّ الكعبة، فكبر الجميع وهم يطوفون به يرون رأس رستم، فلما رأى الفرس ذلك المنظر وبعد قتالٍ استمر يومين كاملين دون توقف انهزموا، فتبعهم المسلمون برماحهم وسيوفهم وهم يقتلون فيهم.
بقي عمر بن الخطاب مشغول الفكر والقلب بأمر القادسية، وكان يخرج كل يوم خارج المدينة لعل أحدًا يأتي من طرف سعد بالخبر يزفّ إليه البشرى بالنصر، ولكنه يرجع إلى أهله دون أن يرى أحدًا، وفي اليوم الذي ورد فيه البشير لقيه عمر وهو يسرع على ناقته، فسأله عمر: من أين؟ قال: من قبل سعد، فقال عمر: يا عبد الله، حدثني، قال: هزم الله العدوّ، كل هذا والبشير مسرع على ناقته وعمر يجري وراءه، والرجل لا يعرف أنه عمر، حتى دخل المدينة، فإذا بالناس يُسلّمون على عمر، فقال الرجل: فهلاّ أخبرتني ـ رحمك الله ـ أنك أمير المؤمنين؟! وعمر يقول: لا عليك يا أخي، فنادى الصلاة جامعة، وزف بشرى النصر إلى الناس، وقرأ عليهم كتاب سعد بالفتح.
بقي سعد بن أبي وقاص بعد النصر شهرين، ثم توجه إلى المدائن ودخلها، واتخذ من إيوان كسرى مصلى، ودخله وهو يقرأ قول الله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان:25-28]. وصلى فيه صلاة الفتح ثماني ركعات، وبعث بتاج كسرى وثيابه المنسوجة بالذهب وحليّه وسيفه وجواهره إلى عمر، ليرى ذلك المسلمون، وليوزعها على الأمة، فقال عمر: إن قومًا أرسلوا هذا لذو أمانة، فقال علي : إنك عففت فعفّت رعيتك.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ومن قصص القادسية والتي تستحق أن نقف عندها قصة أبي محجن، كان قد اتهم بشرب الخمر، وقصته أنه خرج مع المجاهدين في معركة القادسية وقد حبسه سعد في المعركة ومنعه من القتال من أجل المسكر، فلما اشتدّ القتال وكان أبو محجن قد حبس وقُيّد في القصر، فأتى سلمى بنت خَصفة امرأة سعد، فقال لها: هل لك إلى خير؟! قالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عنّي وتعيرينني البلقاء ـ وهو فرس سعد ـ فللَّه عليّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في قيدي، وإن أُصِبت فما أكثر من أن أفلت، فقالت: ما أنا وذاك، فقال حزينًا على نفسه والأبطال في حلبة القادسية وهو مقيّد:
كفى حُزنًا أن تُرد الخيل بالقنا وأُترك مشدودًا عليَّ وثاقيا
إذا قُمت عنّاني الحديد وغُلقت مصاريع دونِي قد تصمّ المناديا
وقد كنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوة فقد تركونِي واحدًا لا أخا لِيا
وقد شق جسمي أنني كلَّ شارفٍ أعالِج كبلاً مصمتًا قد برانيا
فللَّه درّي يوم أُتركَ موثقًا ويذهل عنّي أُسرتي ورجاليا
حبست عن الحرب العوان وقد بدت أعمال غيْري يوم ذاك العواليا
وللَّه عهد لا أخيس بعهده لئن فُرّجت أن لا أزور الحوانيا
فسمعت سلمى منه وهو يردد هذه الأبيات فقالت: إني استخرت الله، ورضيت بعهدك، فأطلقته. فاقتاد الفرس، وأخرجها من باب القصر فركبها، ثم دبّ عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة كبر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة، فكبر على ميمنة القوم يلعب بين الصفين برمحه وسلاحه. فلما انتصف الليل تحاجز الناس وتراجع المسلمون.، وأقبل أبو محجن حتى دخل من حيث خرج، فوضع عن نفسه ودابته وأعاد رجليه في قيوده. فجاء سعد، فقالت له امرأته: كيف كان قتالكم؟ فجعل يخبرها ويقول: لقينا ولقينا، حتى بعث الله رجلاً على فرس أبلق، لولا أني تركت أبا محجن في القيود لقلت: إنها بعض شمائل أبي محجن، فقالت: والله، إنه لأبو محجن، كان من أمره كذا وكذا، فقصت عليه قصته. فدعا به، فحلّ قيوده، وقال: لا نجلدك على الخمر أبدا، قال أبو محجن: وأنا ـ والله ـ لا أشربها أبدًا.
أيها المسلمون، من الذي لا يخطئ؟ ومن الذي لا يَزِل؟ كل بني آدم خطاء، لكن الخطيئة في الإسلام ليست وصمة عار تبقى ملاصقة للمرء لا فكاك عنها، فخير الخطائين التوابون، فالخطيئة تعالج بالتوبة، والسيئة تمحوها الحسنة بعدها، ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)). إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، قال الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114].
إن المخطئون والمذنبون ليسوا عناصر فاسدة في المجتمع المسلم لا يمكن الاستفادة من طاقاتهم، ولو أن كل من أخطأ أو أذنب استبعد من كل شيء لتعطّلت كثير من المصالح والأنشطة.
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد؟!
هكذا يجب أن نتعامل مع صاحب المعصية، فليس في الإسلام أن فلانا من الناس قد كتب عليه الشقاوة أبد الدهر، بل ربما هذه السيئة التي وقع فيها الشخص ترفعه إلى أحسن مما كان قبلها بسبب الندم على فعلها وكثرة الاستغفار منها ومحاولة التعويض عنها، فهل يعي المربّون هذا؟! وهل من تفكير في إيجاد أماكن تناسب أصحاب الخطايا يمكن من خلالها أن يقدموا شيئًا لدينهم وأن ينفعوا أنفسهم وغيرهم؟!
(1/4190)
معركة شقحب
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/3/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- زمن معركة شقحب وأحداثها. 2- أسباب ضعف الوجود النصراني في بلاد الشام. 3- مواقف مشرفة لابن تيمية. 4- الدروس والعبر المستفادة من المعركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لا تزال حادثة سقوط بغداد سنة ست وخمسين وستمائة غُصّة في صدر كل مسلم، وشجًى في حلق كل مؤمن، إنَّ ذِكرها ليحدث رعشة في القلب، وإن جراحاتها ما تزال تنزف دمًا في أعماق قلوبنا.
ولا يستطيع دارس أحداث هذه العصور أن ينسى الآلام والمآسي التي تجرعها المسلمون في تلك الحقبة، فيكاد يذوب قلب المسلم أسفًا وكمدًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكن الشخصية المسلمة كانت ما تزال متماسكة، وأركان المجتمع كانت على الأغلب قائمة على معان أصيلة من الإسلام، ولذلك فسرعان ما كان الثأر واسترداد الكرامة في معركة عين جالوت التي كانت سنة 658هـ، ولم يمض وقت طويل حتى دان الغزاة بدين أهل البلاد المغلوبين دين الإسلام، وإن لم يتخلوا عن همجيتهم وعدوانهم وشرهم.
ثم كانت معركة انتصر فيها المسلمون انتصارًا عظيمًا، وربما كانت أقل شهرة من المعارك التي سبقتها، وهي معركة شَقحَب.
في اليوم الثاني من رمضان سنة اثنتين وسبعمائة للهجرة وقعت هذه المعركة بين المسلمين والمغول، وكان عدد الجيش المغولي الذي اشترك في هذه الموقعة كبيرًا.
إن معركة شَقحَب سلسلة في حلقة من الهجمات المغولية على ديار الإسلام، لقد كان السبب الذي حرّك المغول في معاركهم واحتلالاتهم واحدًا، سواء كان فيما سبق سقوط بغداد أو كان بعدها. فمن المعلوم أن بلاد المسلمين قد تعرضت إلى أخطار من جهة أوربا النصرانية التي جيشت الجيوش، وسيرت الحملات الصليبية تلو الحملات، وجاءت هذه القوى الباغية المعتدية إلى ديار المسلمين، فعاثت في الأرض فسادًا، وأهلكت الحرث والنسل، وانتهى بها الأمر إلى أن تقيم في قلب العالم الإسلامي دولاً، منها إمارات الرها وأنطاكية وبيت المقدس وطرابلس، واستمر وجود الصليبيين في بلاد المسلمين قرابة قرنين، وقد أدرك المسلمون خطورة بقاء هذه الإمارات الصليبية في بلادهم، واستيقظ وعيهم، فقامت حركة الجهاد، يذكيها علماء الأمة ومصلحوها، وتجاوب الناس معها، فكان توحيد الجبهة الإسلامية غرضًا مهمًا، وكان لعماد الدين فضل كبير في تحقيق ذلك، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي، فاستطاع أن يقطف ثمرة جهاد الرجل العظيم نور الدين، وانتصر في معركة حطين، واستطاع أن يطهر معظم بلاد الشام من رجس الصليبيين. واسترد المسلمون بيت المقدس وكل ما كان بأيدي النصارى من قلاع وحصون، ولم يبق للصليبيين إلا جيوب يسيرة في أنطاكية وطرابلس والساحل بين صور ويافا. في هذا الوقت ظهرت حركة المغول في أقصى الشرق بزعامة جنكيز خان.
إن الوجود النصراني في بلاد الشام تضعضع بتوفيق الله ثم بسبب اليقظة التي بدأت تظهر، ثم بسبب وجود بعض العمالقة من أمثال نور الدين وصلاح الدين، ثم بسبب قيام عدد من رجال الفكر والعلم والتوجيه بواجبهم، وانهار هذا الوجود النصراني بعد معركة حطين وغيرها، عند ذلك فكر النصارى بأسلوب أكثر قوة وأشد عودًا وأشنع وحشية وبربرية، فلم يجدوا إلا التتار. وقد اتجهت النصرانية نحو المغول راغبة في استمالتهم، وعقد أواصر الصداقة معهم لكسبهم إلى النصرانية أولاً، وللاستعانة بهم ضد أعدائهم المسلمين ثانيًا.
وهولاكو كانت له زوجة نصرانية، وبسببها عامل النصارى من رعاياه معاملة حسنة، ولما فتح بغداد أعفى أهلها النصارى من القتل. ولما فتح المغول في عهده دمشق ودخلوها تساهلوا مع النصارى من أهلها، حتى أصبحوا نتيجة لهذا التساهل يشربون الخمر علنًا في رمضان، ويرشونها على المسلمين، كما صاروا يمرون في الطرقات وهم يحملون الصلبان، ويجبرون المسلمين على احترامها وإجلالها.
لقد كان النصارى في أوربا يأملون في أن يعتنق المغول النصرانية، وأن يتم التحالف بينهم، وأن يوجهوا ضربة قاصمة للإسلام، غير أن هذه الآمال لم تلبث أن تبددت بفضل من الله ثم بسبب جهود دولة المماليك في مصر والشام، وإنزال الهزيمة الساحقة بالمغول في معركة عين جالوت في رمضان سنة 658هـ، فتحطمت الأسطورة القائلة: إن المغول قوة لا تقهر.
إن السبب في سير هذه الحملة التي وقعت فيها معركة شقحب كان رغبة قازان في تحطيم سلطان المسلمين في مصر، واسترداد الأرض المقدسة، وتسليمها إلى النصارى، وقازان كان يريد السير بنفسه على رأس تلك الحملة، ولكن تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن ينيب عنه قطلوشاه الذي تعاون مع النصارى، ولا سيما الأرمن الذين كانوا يشكلون قوة كبيرة في جيشه، وقد استولوا على عدد من مدن المسلمين، وقتلوا فيها ومثلوا ونهبوا، وفعلوا الأفاعيل البالغة في الفظاعة والشناعة.
كان الرعب الذي يرافق تحركات المغول شديدًا، يملأ صدور الناس ويوهن من قواهم، فكلما سمع الناس قَصْدَهم إلى بلد فروا من مواجهتهم، وقد سهّل هذا الرعب لهؤلاء الغزاة المعتدين سبيل النصر والغلبة.
وكان الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر مقيمين في مصر، ويبدو أن أخبار عزم التتار على تجديد حملاتهم لدخول بلاد الشام وإزالة دولة المماليك بلغ المسؤولين في مصر، فعمل العلماء وأولو الفكر والرأي على إشراك الخليفة والسلطان في مواجهة هؤلاء الغزاة، وقام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بمهمة جسيمة في هذا المجال.
ففي شهر رجب من سنة 702هـ قويت الأخبار بعزم التتار على دخول بلاد الشام، فانزعج الناس لذلك، واشتد خوفهم جدًا كما يقول الحافظ ابن كثير، وقنت الخطيب في الصلوات، وشرع الناس في الهرب إلى الديار المصرية والكرك والحصون المنيعة، وتأخر مجيء العساكر المصرية فاشتد لذلك الخوف.
ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فسادًا، وقلِق الناس قلقًا عظيمًا لتأخر قدوم السلطان ببقية الجيش، وخافوا خوفًا شديدًا، وبدأت الأراجيف تنتشر، وشرع المثبطون يوهنون من عزائم المقاتلين، ويقولون: لا طاقة للمسلمين بلقاء التتار؛ لقلة المسلمين وكثرة التتار، وزينوا للناس التراجع والتأخر، ولكن تأثير العلماء ـ ولاسيما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ كان يتصدى لهؤلاء المرجفين المثبطين، حتى استطاعوا أن يقنعوا الأمراء بالتصدي للتتار مهما كان الحال، واجتمع الأمراء وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم ورعاياهم، ونودي بالبلد دمشق أن لا يرحل منه أحد، فسكن الناس وهدأت نفوسهم، وجلس القضاة بالجامع يشجعون الناس على القتال، وتوقدت الحماسة الشعبية، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند، وكان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أعظم التأثير في ذلك الموقف، فلقد عمل على تهدئة النفوس، حتى كان الاستقرار الداخلي عند الناس، والشعور بالأمن ورباطة الجأش. ثم عمل على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص، ثم توجه بعد ذلك ابن تيمية إلى العسكر الواصل من حماة، فاجتمع بهم فأعلمهم بما تحالف عليه الأمراء من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يَحلِف للأمراء والناس: إنكم في هذه المرة منصورون، فيقول له الأمراء: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله، منها قول الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج: 60].
وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفت في عضد المحاربين للتتار، من نحو قولهم: كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام؟! فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه، فرد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه الشبهة قائلاً: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليّ ومعاوية رضي الله عنهما، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق من المسلمين وهم متلبسون بالمعاصي والظلم. فانجلى الموقف وزالت الشبهة. وتفطن العلماء والناس لذلك، ومضى يؤكد لهم هذا الموقف قائلاً: إذا رأيتموني في ذلك الجانب ـ يريد جانب العدو ـ وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.
وامتلأت قلعة دمشق والبلد بالناس الوافدين، وازدحمت المنازل والطرق، وخرج الشيخ ابن تيمية رحمه الله من دمشق صبيحة يوم الخميس من باب النصر بمشقة كبيرة وصحبته جماعة كبيرة، ليشهد القتال بنفسه وبمن معه، فظن بعض الرعاع أنه خرج للفرار، فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد! فلم يرد عليهم إعراضًا عنهم وتواضعًا لله، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.
وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسوة، ووصل التتار فانزعج الناس لذلك، وخافوا أن يكون العساكر قد هربوا، وانقطعت الآمال، وألح الناس في الدعاء والابتهال في الصلوات وفي كل حال. وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان، فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بأن السلطان قد وصل وقت اجتماع العساكر المصرية والشامية، وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق، بل عرجوا إلى ناحية تجمع العساكر، ولم يَشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق، وقالوا: إن غَلبنا فإن البلد لنا، وإن غُلبنا فلا حاجة لنا به.
وحيل بين الناس وبين خبر الجيش، وانقطعت الطرق إلى الكسوة، وظهرت الوحشة على البلد والحواضر، وليس للناس شغل غير الصعود إلى المآذن ينظرون يمينًا وشمالاً وإلى ناحية الكسوة، فتارة يقولون : رأينا غبرة فيخافون أن تكون من التتر، ويتعجبون من الجيش مع كثرتهم وجودة عُدّتهم وعددهم أين ذهبوا؟! فلا يدرون ما فعل الله بهم، فانقطعت الآمال وألح الناس في الدعاء والابتهال وفي الصلوات وفي كل حال، وكان الناس في خوف ورعب لا يعبر عنه، لكن كان الفرج من ذلك قريبًا، ولكن أكثرهم لا يعلمون، (( عجب ربك من قنوط عباده وقرب غِيَرِه، ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب )).
وأثبت الشهر ليلة الجمعة القاضي تقي الدين الحنبلي، فعُلقت القناديل وصليت التراويح، واستبشر الناس بشهر رمضان وبركته، وأصبح الناس يوم الجمعة في همّ شديد وخوف أكيد؛ لأنهم لا يعلمون ما خبر الناس.
أصبح الناس يوم السبت على ما كانوا عليه من الخوف وضيق الأمر، فرأوا من المآذن سوادًا وغبرة من ناحية العسكر والعدو، فغلب على الظنون أن الوقعة في هذا اليوم، فابتهلوا إلى الله عز وجل بالدعاء في المساجد والبلد، وضج البلد ضجة عظيمة، ووقع في ذلك الوقت مطر عظيم غزير، ثم سكن الناس، فلما كان بعد الظهر قرئت بطاقة بالجامع تتضمن أن في الساعة الثانية من نهار السبت هذا اجتمعت الجيوش الشامية والمصرية مع السلطان في شقحب، وفيها طلب الدعاء من الناس والأمر بحفظ القلعة والتحرز على الأسوار، فدعا الناس في المآذن والبلد، وانقضى النهار، وكان يومًا مزعجًا هائلاً. ووقفت العساكر قريبًا من قرية الكسوة، فجاء العسكر الشامي، وطلبوا من شيخ الإسلام ابن تيمية أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه، فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فجاء هو وإياه جميعًا، فسأله السلطان أن يقف في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم. وحرّض السلطان على القتال، وبشره بالنصر، وجعل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنكم منصورون عليهم في هذه المرة، فيقول له الأمراء: قل: إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا.
وأفتى الناس بالفطر مدة قتالهم، وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الأجناد والأمراء، فيأكل من شيء معه في يده، ليُعلمهم أن إفطارهم ليتقووا به على القتال أفضل من صيامهم.
ونظم المسلمون جيشهم أحسن تنظيم في سهل شقحب، وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء.
وقبل بدء القتال اتُخذت الاحتياطات اللازمة، فمر السلطان ومعه الخليفة والقرّاء بين صفوف جيشه، بقصد تشجيعهم على القتال وبث روح الحماسة فيهم. وكانوا يقرؤون آيات القرآن التي تحض على الجهاد والاستشهاد.
ولما اصطفت العساكر والتحم القتال ثبت السلطان ثباتًا عظيمًا، وأمر بجواده فقُيّد حتى لا يهرب، وبايع الله تعالى في ذلك الموقف يريد إحدى الحسنيين: إما النصر وإما الشهادة في سبيل الله، وصدق الله فصَدَقَه الله. وجرت خطوب عظيمة، وقتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، واحتدمت المعركة وحمي الوطيس، واستحر القتل، واستطاع المغول في بادئ الأمر أن يُنزلوا بالمسلمين خسارة عظيمة، فقُتل من قُتل من الأمراء، ولكن الحال لم يلبث أن تحول بفضل الله عز وجل، وثبت المسلمون أمام المغول، وقَتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتغيّر وجه المعركة، وأصبحت الغلبة للمسلمين، وبقوا هناك طوال الليل، ولما طلع النهار نزلوا يبغون الفرار بعد أن ترك المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، وقد تتبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، كما أنهم مروا بأرض موحلة، وهلك الكثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم.
قال ابن كثير رحمه الله: "فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحد إلى وقت الفجر، فقَتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقهم".
ثم لحق المسلمون أثر المنهزمين يقتلون منهم ويأسرون، ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات، وأخذ أهل العراق منهم جماعة كثيرة.
وفي يوم الاثنين الرابع من رمضان رجع الناس من الكسوة إلى دمشق، فبشروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخ الإسلام ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له، وهنؤوه بما يسر الله على يديه من الخير. وفي يوم الثلاثاء الخامس من رمضان دخل السلطان إلى دمشق، وبين يديه الخليفة، وزُيّنت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادوا بعدها إلى الديار المصرية.
وكان فرح السلطان الناصر محمد بن قلاوون والمسلمين بهذه المعركة فرحًا كبيرًا، ودخل مصر دخول الظافر المنتصر، يتقدم موكبه الأسرى المغول، يَحملون في أعناقهم رؤوس زملائهم القتلى، واستُقبل استقبال الفاتحين.
وقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مواقف بطولية عظيمة في هذه المعركة، قال ابن عبد الهادي: "قال حاجب أمير وكان ذا دين متين: قال لي الشيخ يوم اللقاء وقد تراءى الجمعان: يا فلان، أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي، هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك ما تريد، قال: فرفع طَرْفَه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلاً، ثم انبعث وأقدم على القتال. يقول: وأمّا أنا فخُيّل إليّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة. ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله".
ودخل جيش الإسلام المنصور إلى دمشق والشيخ في أصحابه شاكيًا سلاحه، عاليةً كلمته، قائمة حجته، ظاهرةً ولايته، مقبولة شفاعته، مجابة دعوته، مكرمًا معظمًا، ذا سلطان وكلمة نافذة، وهو مع ذلك يقول للمدّاحين: أنا رجل ملة لا رجل دولة. وهكذا انتهت هذه المعركة بهزيمة التتار وانتصار المسلمين.
وجدير بالذكر أن نشير إلى أن هذه الحملة الثالثة من حملات التتار كانت هي آخر الحملات الكبرى التي قام بها هؤلاء المتوحشون، ينقضون على بلاد الإسلام الآمنة المطمئنة.
ثم إن المغول دخلوا في دين الله العظيم، وكانت هذه معجزة للإسلام، وأصبح هؤلاء القوم بعد إسلامهم مددًا لقوة الإسلام وتياره المستمر.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ولنا مع هذه المعركة عدة وقفات:
أولاً: دور العلماء في قيادة الأمة في أزماتها، فقد كان دور شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله واضحًا في هذه المعركة، والدور العظيم الذي قام به لوحده مع انهزام الجميع من حوله في البداية، ودوره في لمّ شمل المسلمين وتقوية قلوبهم بالثبات، وثقته الكبيرة والقوية بالله في مسألة النصر.
إن حركات الإصلاح في حياة الأمة لا بد أن يتولاها ويأخذ بيدها العلماء، ولو تأملنا مراحل التغيير وحركات الإصلاح في العالم الإسلامي لرأينا أن العلماء الربانيين المخلصين كانوا في مقدمتها، خصوصًا في الدول الإسلامية التي وقعت في فترة من فتراتها تحت ظل الاستعمار الغربي، وتجد أن الذي قاوم الاستعمار وأن الذي أيقظ وألهب روح الجهاد وتحرير البلاد هم العلماء العاملون.
نعم، قد يكون هناك من له دور بارز في جانب معين ويؤثر في الناس، كقائد عسكري مثلاً ينتقل بالأمة من انتصار إلى آخر، أو خطيب مفوه يؤثر في مستمعيه ويفيدهم، كل هذا وارد، لكن الانقلاب في حياة الأمة والتغيير الشامل الكامل من حال المرض إلى الصحة ومن الضعف إلى القوة ومن الذلة والتدهور إلى العزة والتقدم، هذه الحالة وهذا التغيير لا يمكن أن يكون في مقدمته خطيب أو داعية أو قائد جيش، بل لا بد أن يكون الرأس فيه عالمًا من علماء الشريعة.
إن علماء أية أمة وأيّ مجتمع لا بد أن يكونوا هم في مقدمة الناس، يوجهونهم ويرشدونهم، ويبثون الوعي فيهم، ولا يمكن لأيّ مجتمع ولا لأيّ واقع أن يتخلص من سيطرة أعدائه عليه وأن يحصل إصلاح عام بين الناس إذا تخلى العلماء عن دورهم.
ثانيًا: معركة شقحب كانت في رمضان، ورمضان كما نعلم أنه شهر الفتوحات والانتصارات، والسبب في ذلك هو قرب الناس من الله في هذا الشهر وبعدهم عن المعاصي. فلا يمكن للأمة أن تنتصر وهي غارقة في أوحال المعصية. المعاصي سببُ كل عناء، وطريق كل تعاسة وشقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله تعالى أمة إلا بذنب، وما نجا من نجا وفاز من فاز إلا بتوبة وطاعة، قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].
وكتاب الله تعالى خير شاهد، فقد عمّ قوم نوح الغرق، وأهلكت عادًا الريح العقيم، وأخذت ثمود الصيحة، وقُلبت قرى قوم لوط عليهم، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
لقد فشا الربا في مجتمعات المسلمين، وكثر الزنا، وشربت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات، وكثر أكل الحرام وتنوعت فيه الحيل، شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، ودخل الغناء أغلب البيوت، وتربى الصغار والكبار على ما تبثه وسائل الإعلام، وتساهل الناس في شأن القنوات الفضائية، وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات في البنين والبنات، وتسكعت النساء في الشوارع والأسواق، وكثرت المغازلات والمعاكسات، وتساهل البعض حتى في شأن الصلوات، إلى غير ذلك من المنكرات والمخالفات التي لا عد لها ولا حصر، فإلى متى الغفلة عن سنن الله؟! ونعوذ بالله من الأمن من مكر الله.
إن المجتمعات حين تغفل عن سنن الله فتغرق في شهواتها وتضل طريقها وتتنكب شريعة ربها، إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسها، إنها سنة الله حين تفشو المنكرات وتقوم الحياة على الذنوب والآثام.
إن الانحلال الخلقي وفشو الدعارة وسلوك مسالك اللهو والترف طريق إلى عواقب السوء، إذ تترهل النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات، فتنتشر الفواحش، وترخص القيم العالية فتتحلل الأمة، وتسترخي وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلك وتُطوى صفحتها.
نعم، إن الاستمرار في محادّة أمر الله وشرعه والاستمرار على الذنوب والخطايا وعدم الإقلاع يهدم الأركان، ويقوض الأساس، ويزيل النعم، وينقص المال، وترتفع الأسعار، وتحل الهزائم الحربية، وقبلها الهزائم المعنوية، ولقد أصابنا من ذلك الشيء الكثير.
إن الحق أبلج، والدين واضح، وسنن الله لن تتغير ولن تتبدل، قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:94-99].
ثالثًا: خطورة النصارى وحقدهم على المسلمين، والمحاولة بعد المحاولة في الاستيلاء على بلاد المسلمين واستعمارها ونهب خيراتها.
إن من سنن الله الثابتة في هذا الكون ديمومة صراعنا نحن المسلمين مع النصارى، وأنه سيستمر إلى نهاية العالم، وقد ورد ما يشير إلى بقاء هذا الصراع في الكتاب الذي بعثه الرسول إلى هرقل بطريق غير مباشر؛ حيث قال: ((فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين)) ، والأصرح منه قول الله تعالى: وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة: 14].
إذًا صراع الإسلام والنصرانية سيستمر إلى قيام الساعة، وهو فتنة ابتلى الله بها المسلمين، وهذا قَدَرُهم وما عليهم إلا الصبر والمواجهة.
وانطلاقًا من إيماننا بالغيب وثقة بما أخبر به الرسول فنحن على موعد مع النصارى في ملحمة عظيمة، وسيتحقق ما أخبر به الرسول ، وسترفرف رايات المجاهدين فوق دول النصارى، وسيطأ المسلمون بأقدامهم عاصمة الفاتيكان الحالية روما، وستلتحم هذه الأمة مع أعدائها ويكون الغلبة لها، وستقع المعركة الفاصلة مع النصارى، وسيُكسر الصليب فوق رؤوس أصحابه، وستكون معركة شديدة قوية، وسيكون قتلاها عدد كبير من الطرفين، قل: عسى أن يكون قريبًا.
رابعًا: ما أشبه الليلة بالبارحة، إن من يتأمل على ضوء أحداث الماضي أحوال المسلمين وكيف تتعرض بلادهم إلى الاحتلال والتقسيم، ليجد عبرة عظمى وموعظة بليغة في معركة شقحب، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد [ق: 37].
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك الصالحين، اللهم عليك باليهود والنصارى...
(1/4191)
الرشوة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن علي العسكر
الرياض
عبد الله بن عمر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بمخالفة الأمم السابقة. 2- الرشوة من صفات اليهود. 3- فتنة المال. 4- مفاسد الرشوة. 5- ذم الرشوة. 6- بين الهدية والرشوة. 7- خطر انتشار الرشوة. 8- التحذير من تسمية الرشوة بغير اسمها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، الخير كله والصلاح والفلاح في تقوى الله، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
عباد الله، أعاد القرآن وكرر من الأمر بمخالفة الأمم السابقة، وأمرنا أن لا نسلك ما سلكوا فنهلك كما هلكوا، وقال : ((ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشي أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتهلككم كما أهلكتهم)) ، ولقد أخبر الرسول عن هذه الأمة أنها ستفعل مثل ما فعل من قبلهم: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)). ألا وإن من أعظم من حذِّرنا أن نقع فيما وقعوا فيه هم اليهود والنصارى.
عباد الله، إن فيما قصه الله علينا في كتابه من أخبار الماضين في معرض الذم لهم والإنكار عليهم ما يحمل أرباب العقول على اجتناب طريقهم والبعد عن مسالكهم.
وإن مما أخبرنا الله سبحانه من صفات اليهود أنهم كانوا أكالين للسحت فيما بينهم: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة:42]، ويقول سبحانه: وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [المائدة:62، 63]. يقول ابن مسعود: (السحت هو الرشا)، وقال عمر بن الخطاب: (رشوة الحاكم من السحت)، وروى ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به)) ، قيل: يا رسول الله، وما السحت؟ قال: ((الرشوة في الحكم)). وقال الحسن رحمه الله: "كان الحاكم من بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمّه فأراها إياه وتكلم بحاجته، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيأكل الرشوة، ويسمع الكذب، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]".
عباد الله، إن المال فتنه أي فتنة، وإن الإنسان متى فتح لنفسه باب شرٍ من طريقه فلن يغلق. ألا وإن من طرق أكل المال الحرام ما جاء في قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، فنهى الله المسلم أن يأكل مال غيره بالباطل، وصورها في صورة الرشوة التي يصانع بها صاحب الحاجة الحاكم لينال حق غيره، ولقد فسر قول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ [التوبة:34] بأنه أكل الرشوة.
الرشوة ـ عباد الله ـ مرض فتاك يفسد الأخلاق، ويسري في الأمة حتى يوردها موارد التلف، ما خالطت الرشوة عملاً إلا أفسدته، ولا نظامًا إلا قلبته، ولا قلبًا إلا أظلمته، ما فشت الرشوة في أمةٍ إلا وحل فيها الغش محل النصح، والخيانة محل الأمانة، والخوف جاء بدل الأمن، والظلم بدل العدل.
الرشوة ـ أيها الناس ـ مهدرة الحقوق، معطِّلة للمصالح، مجرَأَة للظلمة والمفسدين، ما فشت في مجتمع إلا وآذنت بهلاكه، تساعد على الإثم والعدوان، تقدم السفيه الخامل، وتبعد المجد العامل، تجعل الحق باطلاً والباطل حقًا، كم ضيّعت الرشوة من حقوق، وكم أهدرت من كرامة، وكم رفعت من لئيم وأهانت من كريم.
الرشوة ـ أيها الناس ـ نقص في الديانة، وضياع للأمانة، وعلامة على الخيانة، انتشرت الرشوة بين اليهود فكانت أمتهم تعيش بالمحاباة والرشا في الأحكام، ففسدت بينها أمور المعاملات، وكذلك استبدلت الطمع بالعفة. كان اليهود ورؤساؤهم أكالين للسحت من رشوة وغيرها من الدناءات، كما هو دأب الأمم في عهود فسادها وأزمان انحطاطها، وما كان عليه أسلافهم في الماضي فهم عليه اليوم، ما تسقط شركة من شركات يهود إلا وفضائح الرشوة تلاحقها، بل ما يزول حاكم من حكامهم إلا وأول تهمة توجه إليه هي أخذه للرشوة ومحاباته لغيره.
عباد الله، الرشوة ملعون صاحبها على لسان رسول الله ، روى الترمذي وأحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لعن الله الراشي والمرتشي))، وفي رواية عند أحمد: ((والرائش)) وهو الذي يمشي بينهما. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت).
ولما بعث رسول الله معاذًا إلى اليمن أرسل في أثره، فلما جاءه قال: ((أتدري لِمَ بعثتُ إليك؟ لا تصيبن شيئًا بغير إذني فإنه غلول، ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة، لهذا دعوتك فامض لعملك)) رواه الترمذي.
عباد الله، الهدية مندوب إليها، بل لقد قال رسول الله : ((تهادوا تحابوا)) ، لكن متى ما كانت الهدية سبيلاً إلى حرام فإنها حرام، يقول ابن التين: هدايا العمال رشوة ليست بهدية، إذ لولا العمل لم يهد له، وهدية القاضي سحت، وإذا قلبها وضعها في بيت المال، فقيل له: إن رسول الله كان يقبل الهدية! فقال: إنها كانت هدية، وهي الآن رشوة.
إذا أتت الهديّة دار قومٍ تطايرت الأمانة من كواها
روى البخاري في صحيحه عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي رجلاً من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أُهدي إلي، فقام النبي على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا لك وهذا أهدي إلي؟! فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة، يحمله على رقبته، إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تعير)) ، ثم رفع يديه حتى عفرتي إبطيه ـ يعني بياضهما ـ وقال: ((ألا هل بلغت؟)) ثلاثًا. وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من استعملناه على عملٍ فرزقناه رزقًا ـ أي: منحناه مرتبًا ـ فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)) رواه أحمد وأبو داود.
أيها الناس، إن وجود الرشوة وانتشارها في قوم مؤذن بخطر عظيم، فقد روى الإمام أحمد وأبو عبيد وابن أبي الدنيا وصححه الحافظ ابن حجر عن عُليم قال: كنت مع عابس الغافري على سطح، فرأى قومًا يتحملون من الطاعون ـ أي: يتوجّعون ـ فقال: ما لهؤلاء يتحمّلون من الطاعون؟ يا طاعون خذني إليك، يا طاعون خذني إليك، فقال له أحد الصحابة: لِمَ تتمنَّى الموت وقد سمعت رسول الله يقول: ((لا يتمنّينّ أحدكم الموت، فإنه عند انقطاع عمله)) ؟! فقال: إني سمعت رسول الله يقول: ((بادروا بالأعمال خصالاً ستًا: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط، وقطيعة الرحم، وبيع الحكم، واستخفافًا بالدم، ونشوًا يتخذون القرآن مزامير، يقدمون الرجل ليس بأفقههم ولا أعلمهم، ما يقدمونه إلا ليغنّيهم)). والمقصود بيع الحكم كما فسره العلماء: هو تولية المناصب عن طريق الرشوة.
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بمن مضى قبلكم من الأمم المحادّة لله والمعتدية على حدود الله، كيف حلت بهم نقمة الله، وكيف توعد الله من سلك سبيلهم واجترأ على معاصي الله.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل لنا في الحلال غنيةً عن الحرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد من اتقاه أن يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، فله الحمد يهدي إلى الرشد ويعِد بالرزق ويفيض النعم ويدفع النقم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المأمور بأكل الطيبات والعمل بالصالحات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فيا أيها الناس، قاعدة عظيمة ينبغي لكل مؤمن أن يجعلها نصب عينيه في كلّ عمل يعمله، يقول الرسول : ((إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
عباد الله، إن تفنُّن الناس في تسمية الرشوة بغير اسمها لا يخرجها عن حكمها، سمَّوها بغير اسمها، ولقّبوها بألقاب تخدع السذج من الناس وتسرّ الغششة، حتى انتشرت الرشوة بينهم انتشار النار في يابس الحطب، حتى أفسدت كثيرًا من الذمم، الطالب يعطي أستاذَه، الموظَّف يهدي إلى مديره، صاحب الحاجة يقيم مأدبة لمن هو محتاج إليه، في صوَر أفسدت العمال على أصحاب العمل، يجعلون الخدمة لمن يدفع أكثر، ومن لا يدفع فلا حول لهم ولا قوة، لا يجد الإنسان أمامه إلا نفوسًا منهومة وقلوبًا منكّسة، ولو كانوا صادقين في إباحة ما أخذوا ما بالهم لا يعلنونه أمام الملأ؟!
أيها الناس، إن من قصور النظر أن يظن أن الرشوة لا تعدو أن تكون مالاً يتبرّع به شخص لآخر، إن كل منفعة كائنة ما كانت بذلت لجلب منفعة أخرى بغير حقّ فهي داخلة في الرشوة، ألم تروا إلى اليهود يقول الرسول عنهم: ((قاتل الله اليهود لما حرمت عليهم شحوم الميتة جملوها وأذابوها، ثم باعوها وأكلوا ثمنها)) ؟! ويقول فضالة بن عبيد رضي الله عنه: "كل قرضٍ جرّ منفعة فهو وجه من وجوه الربا"، ويقول على بن أبي طالب رضي الله عنه: (يأتي على الناس زمان يستحَلّ فيه السحت بالهدية).
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في سركم وعلانيتكم.
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير، فقد قال سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/4192)
التحذير من المخدرات ومروِّجيها
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة العقل. 2- حياة المؤمن. 3- الساعون في الأرض فسادا. 4- أضرار المخدرات. 5- مروجو المخدرات أشدّ من قطاع الطريق. 6- مزاعم المتعاطين للمخدرات. 7- وجوب التعاون للقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، خلق الله الخلقَ لعبادته، خلقهم لعبادته وحده لا شريك له: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. سخَّر لهم ما في السموات والأرض جميعًا منه ليستعينوا بذلك على طاعته. كرَّم بني الإنسان فخلقه في أحسن تقويم: لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ ?لَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]. كرَّمه بالعقل ليميّز به النافع من الضار، وليكون صفة تميِّزه عن سائر الحيوان. اختصّ من بني الإنسان من كرّمه بالإسلام، وتفضّل عليه بالإيمان، فشرح صدرَه لقبول الحق والعمل به، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ [الزمر:22].
أيها المسلم، حياةُ المؤمن حياةُ خير، حياة سعادة، حياةٌ يَسعد بها في نفسه، وحياة تسعد بها أمتُه، حياة ذلك الإنسان التقيّ المؤمن الذي عرف الحقَّ فعمل به، فلما كمَّل نفسَه سعى في إصلاح واستصلاح الخير للمسلمين، إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [العصر:2، 3]. ترى ذلك الرجلَ المؤمن يحبّ الخير لإخوانه كما يحبّ لنفسه، ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)) [1] ، يكره لهم ما يكره لنفسه، لا يرضى بإلحاق الأذى والضرر بهم، لا في دينهم ولا في دنياهم، مترفِّع عن الرذائل، ساعٍ في الفضائل، كلُّ حركاته وتصرّفاته تعود على نفسه وعلى مجتمعه بالخير والسعادة.
أيها المسلم، هكذا تتميّز حياةُ المؤمن التقيّ، حياة المؤمن الصالح، حياة المؤمن الموقن، تتميّز حياته بأنه أسعدَ نفسه، وسعى بتوفيقِ الله في إسعاد مجتمعه، فالناس يأمنون أن يحصل ضررُه، ويأمنون أن ينالَهم على يديه سوء؛ لأنه مؤمن آمن بالله ورسوله واتقى الله في كلِّ تصرفاته.
هذا المؤمن تراه إن اشتغلَ في التجارة فتجارةٌ طيبة وبيعٌ طيب، تجارةٌ مباحة طيّبة تعين المسلمين على الخير، فهو لا يهدِف من كلّ أموره المطامعَ الدنيوية، وإنما يهدِف [إلى] إصلاح نفسه وأمَّته، هكذا المؤمن الذي يرجو الله ويخافه.
ولكن للأسف الشديد يقابل هذا النقاءَ وهذا الطهرَ والصلاح يقابله فئة قد تُحسبُ على الأمة ولكنَّهم أعداؤها داخلاً وخارجًا، هؤلاء المحسوبون على الأمة وهم حربٌ على الأمة في الداخل والخارج، حربٌ على دينها، حربٌ على قيمها وفضائلها، حربٌ على أخلاقها، حربٌ على مبادئها وفضائلها، يسعون جهدَهم في تدمير أنفسهم وأمّتهم علموا أو لم يعلموا.
أيتها الأمة، إن هذا النوع من البشر ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104] وجودُهم ضررٌ على الأمة في حاضرها ومستقبلها، أولئك مروِّجو المخدّرات، الساعون في نشرها في المجتمعات الإسلامية، أولئك الذين فسدت أخلاقهم، وانحطّت قيمُهم، وسعوا في الرذيلة جهدَهم، أولئك شذّاذٌ في المجتمع، أعضاء في المجتمع لا خير فيهم، قد شُلّت من الخير حركاتهم، فحركاتهم في الباطل والعياذ بالله.
أيها المسلم، إن المجتمعات الإسلامية بالأخصّ تشكو من أثر المخدّرات السيئة التي هي تدميرٌ لكيان الأمة، وإفساد لأخلاقها، وسعيٌ في إلحاق الضرر بها، إنها داءٌ عضال، إنه البلاء والعياذ بالله، إن وراءها أعداءُ الإسلام، إن وراء ترويجها أعداء الإسلام في كل آن وحين؛ لأنهم يعلمون أن هذه المخدرات ما حلّت بمجتمع إلا دمَّرت كيانه، وقضت على قيمه وفضائله، وأفسدت الفطرة، وجلبت كلَّ المصائب على الإسلام وأهله.
إذًا فلا يرضى مسلم لنفسه تلك الخصالَ الذميمة، يربأ بدينه من أن يكون مروِّجًا لها، أو متعاطيا لها، أو ساعيًا في بثّها في المجتمع بأيّ وسيلة تكون، يسعى في إبعاد مجتمعه عنها، فلا يكن مساهمًا في ترويجها بأيّ وسيلة كانت. لا شك أن وراءَ ترويجها الأموال الطائلة، ولكن المسلم لا يهتمُّ بهذا، يعلم أن المكاسب من وراء هذا البلاء مكاسبُ خبيثة، مكاسبُ محرمة، مكاسب ضارة خبيثة، وأعظم من ذلك أنه عدوٌّ للإسلام وأهله.
أيها المسلمون، داء المخدرات داءٌ عضال، إن أعداءَ الإسلام من ورائه، ويستعينون بمن ضعف إيمانه من البشر، ومن لا يخاف الله ولا يتقيه ولا يراقبه في أمواله، ويظنّ أن ما يحصل له من مطامع مادية فيها غنى له، وتبًّا لهذا المال الذي مصدره هذا الداء العضال.
أيها المسلم، فليتق المسلم ربَّه من أن يلحق الضرر والأذى بمجتمعه، وليعلم أن تعاطيها أمرٌ محرّم شرعًا، فهي أعظم من المسكر داءً، وأكثر منه بلاء، وكذلك ترويجها وبيعها والسعي فيها والتستّر على أهلها وحمايتهم، كل ذلك من أمور تخالف شرع الله، فإن الله جل وعلا حرَّم على الأمة ما تحقَّق ضررُه، وعظم ضرره وفساده، ولا شك أن المخدرات ضرُرها وشرّها وفسادها استبان لكلّ ذي لبّ، استبان لكل ذي لب ما فيها من الضرر والفساد، إنها تقضي على كلّ خير، إنك إن نظرتَ إليها من حيث تهديدُ الصحة وجدتَها مضِرةً بالصحة، قاضية على قوة الإنسان، قاضيةً على عقله وفكره وتصرفاته. إن نظرتَ إليها اقتصاديًا فهي تمتصُّ الأموال، وينفَق في سبيل الحصول عليها الأموالُ [الطائلة] لمن ابتُلي بها. إن نظرتَ إلى إفسادها للمجتمع فهي داءٌ وبلاء يدمِّر المجتمعَ كلَّه، ويسلبه قوتَه ومعنويته، ويجعله لقمةً سائغة للأعداء. إن نظرتَ إليها من حيث سعيُها في تفكيك الأسر وإهدار كرامتها وأن المتعاطي لها بلاء على نفسه وبلاء على أسرته، بلاء على زوجته وأولاده وبناته. إن نظرتَ إليها وهي تقطع الغيرةَ من قلب الإنسان المتعاطي لها، فربما جعل عرضَه وسيلةً للحصول عليها. إنها تُفقد الإنسان قيمتَه، وتفقِده معنويته، وتُفقده كلَّ خير، فهي بلاء ومصيبة. إذًا فالمسلم يتحاشاها لنفسه، ثم إذا تصوَّر ضررَها علم أن السعيَ في ترويجها ونشرها بين المجتمع فسادٌ عظيم وحربٌ لله ورسوله. إذا كان الله جل وعلا قد حكم على قطّاع الطرق بأنهم محاربون لله: إِنَّمَا جَزَاء ?لَّذِينَ يُحَارِبُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـ?فٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ?لأرْضِ [المائدة:33]، فكيف بمروِّجي المخدّرات؟! هؤلاء قطّاع الطرق إنما غايةُ أمرهم تهديدُ الأمن أو نهبُ الأموال، لكن من يفسدون الأخلاقَ ويدمّرون كيان الأمة ويقضون على عقولها وأفكارها هؤلاء أولى أن يكونوا حربًا لله ورسوله، هؤلاء المفسدون الضالون.
فالمسلم عندما يجتنبُها خوفًا من أضرارها وخوفًا من مفاسدها، فهو لا يرضاها لأمّته، لا يرضاها لمجتمعه المسلم، دينُه يمنعه من ذلك، ويحول بينه وبين أن يكون مؤذِيًا ضارًّا بالأمة، هو يسعى في الخير جهده، أما أن يكون مروّجًا لها أو متستِّرًا على مروِّجيها أو متغاضيًا عنهم أو معينًا لهم أو مسهّلاً لمهمّتهم، فإن ذلك حربٌ لله ورسوله، وعداءٌ لله ورسوله، وسعي في نشر الفساد في الأرض. فليتق المسلم ربه، وليتصوَّر المسلمون أن هذا البلاءَ مصيبة عظيمةٌ على الأمة، مصيبة على المجتمعات المسلمة.
إن متعاطيها يزعم أنها تُذهب همومَه المتراكمة وأحزانه المتتابعة، وإن ذلك لمِن سوء التصوّر، فالهموم والأحزان لا يزيلها سلبُ العقل، وإنما يزيلها الصبرُ والثبات على الحق. إن متعاطيها يبقى أحيانًا يومًا أو بعض يوم أو أيامًا وهو لا يشعر بمن حوله، ولا يدري في أي حال كان، وإنما شخصٌ ترى صورتَه ولكن قد فقد معنويتَه وحياته الحقيقية، فيا خسارة على الإسلام وأهله.
فيا أمة الإسلام، ليتق كلُّ مسلم ربَّه في نفسه، وليتّق المسلم ربّه في أمته، وفي مجتمعه المسلم، وليعلم أن المكاسبَ الناتجة من وراء هذا البلاء مكاسبُ خبيثة، وإن عظمت وكثُرت فلا خير فيها؛ لأنها ناتجة عن أمر محرّم، قُل لاَّ يَسْتَوِى ?لْخَبِيثُ وَ?لطَّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ?لْخَبِيثِ [المائدة:100].
إن ما نسمعه من غسيل الأموال معظمُ ذلك بأسباب هذه المخدّرات، يروِّجونها ويتعاونون مع بعض من لا إيمان عنده، فيتَّخذ تلك الأموالَ باسمه لكي يصدِّرها إلى مكان آخر، وكلّها نتيجة لهذا الداء الخبيث. فليعلم الإنسان أن ما ناله من مكاسبها فإنّه مكسب حرام عليه، ضررٌ وإيذاء، ومكسب خبيث حرام، مُمْحق للبركة في العمر والعمل. وإنَّ تعاون المسلمين فيما بينهم وتكاتفَهم فيما بينهم وشعورَهم بهذا الضرر العظيم هو الذي يؤدِّي بتوفيق من الله إلى قطع خط الرجعة أمام أولئك الأراذل الساعين في الفساد في الأرض وتدمير الأمة.
فلنتق الله في أنفسنا وفي مجتمعنا المسلم، فإن المجتمعَ أمانة في عنق كل مسلم، أن لا يسعى في إلحاق الضرر بهم بأيّ وسيلة من وسائل الشر، ولا سيما المخدرات، فإنها من أعظم المفاسد وأكبرها.
فلنحذر ـ أيها المسلمون ـ من ذلك، وقد نهى النبي عن كل مسكر ومفتِّر، وهذا الداء الخبيث تصوَّر الناسُ ضرره، علموا خطرَه وتصورا مفاسده، وكشف الطبّ الحديث عن أضراره، لكن أحيانًا تعمى البصائرُ في سبيل الحصول على المال والعياذ بالله، أو تعمى بصائر من يستعمله فرارًا من كذا أو كذا فيقع في المحذور.
فليتق المسلمون ربَّهم، وليكونوا أعوانًا على البر والتقوى، لا أعوانًا على الإثم والعدوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني إياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].
إن متعاطيَ المخدرات قاتلٌ لنفسه، قاتل لمعنويَّته، قاتلٌ لكرامته، قاتل لكلِّ نزعات الخير في نفسه، قاتل لكلِّ خير، إنه في الحقيقة يتعاطى ما فيه ضررُه المتحقّق وبلاؤه الذي هو على يقين منه، لكن سبحان من يضلّ من يشاء، أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَنًا فَإِنَّ ?للَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء [فاطر:8].
فعلى المسلمين اليقظةُ في أنفسهم، وتحذير أبنائهم وبناتهم، والتعاون على الخير، وأن لا يدَعوا لهذا المروّج قرارًا، لا يتستّروا عليه، ولا يرحموه، ولا يشفِقوا عليه، فضلاً أن يعينوه أو يساعدوه، إنه يأتي بما يضرّ ويؤذي ويفسد، فالمسلمون جميعًا يكونون [على] يقظة من هذا الخطر العظيم، وحربًا على أولئك المفسدين، وسعيًا في كشف مخطَّطاتهم وهتك أستارهم، فلا يُرحمون ولا يُتغاضى عنهم، فهم شرٌّ وبلاء وفسادٌ عظيم، ولا يمكن التسامح والتساهلُ معهم والتغاضي عنهم أو رحمتهم أو الشفقة عليهم، لماذا؟ لأنهم يروِّجون ما فيه الضرر، وما فيه البلاء، وما فيه الإفساد للأفراد والمجتمعات، فالإسلام يدعو المجتمع المسلم إلى أن يكونوا أهلَ يقظة وحذر من الشر وأهله، فمن أعانهم أو سهَّل مهمَّتهم فإنما يتعاون معهم على الإثم والعدوان، والمسلم بريء من هذه الأخلاق السيئة.
أسأل الله أن يحفظنا ومجتمعَنا ومجتمعات المسلمين عامةً من هذا البلاء العظيم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/4193)
عناية الإسلام بالحياة الزوجية
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/4/1423
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل تدبر القرآن الكريم والعمل به. 2- عناية القرآن الكريم بالحياة الزوجية. 3- أهمية العلاقة بين الزوجين وخطورتها. 4- وصية النبي بالنساء. 5- حق المرأة على زوجها. 6- حق الرجل على امرأته. 7- ضرورة أداء الحقوق والواجبات والتمسك بآداب القرآن. 8- من أسباب الخلافات الزوجية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، أنزل الله كتابَه العزيز، وأمر العبادَ بتدبّره والعمل بمقتضاه، ففي تدبّره والعمل بمقتضاه السعادةُ في الدنيا والآخرة، قال تعالى: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29]، وقال جل جلاله: وَهَـ?ذَا كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ مُبَارَكٌ فَ?تَّبِعُوهُ وَ?تَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155].
ففي تدبّر القرآن السعادةُ والهدى، وفي تدبّر القرآن الرحمةُ والخير، فالأمة تسعَد عندما يكون كتاب الله نظامَ حياتها، تحكِّمه وتتحاكم إليه، وتعمل بأوامره وتبتعد عن نواهيه، وتتأدَّب بآدابه، وتقف عند حدوده، فعند ذلك تنال السعادة في الدنيا والآخرة، فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123]. أجل، إن اتباعَ القرآن العزيز عصمةٌ من الخطأ والضلال، فمن اتَّبع هذا القرآن وحكَّمه وتحاكم إليه نجا من الضلال والشقاء.
وهو نورٌ تهتدي به البشرية فيخلِّصها من ظلمات الجهل والضلال، قال تعالى: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقال: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
إنما تُصاب البشرية في معتقداتها وفي أخلاقها وسلوكها، وإنما يصاب الفردُ أيضًا في نفسه في علاقته مع ربه وصلته مع أهله وصلته مع الناس أجمعين، إنما يصاب بالبلاء عندما يتخلى عن العمل بالقرآن، فتطبيق آداب القرآن سببٌ للسعادة والهناء في الدنيا والآخرة، والإعراض عنه سببٌ للشقاء في الدنيا والآخرة.
أيها المسلم، كتاب الله يهدي إلى كل خير، مَّا فَرَّطْنَا فِى ?لكِتَـ?بِ مِن شَىْء [الأنعام:38]، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى? لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].
أيها المسلم، خذ مثلاً العلاقةَ بين الزوجين وضمانَ حقِّ كلٍّ منهما، قد جاء القرآن بما يكفل ذلك، وبما يُنهي كلَّ نزاع، وبما يحقِّق للزوجين السعادة الزوجية في هذه الدنيا، وبما يضمن اتفاقَ الكلمة، ونشْء الذرية في بيت تُرفرف عليه أعلامُ السعادة والهناء، ولكن عندما يُعرض الفرد عن كتاب الله ولا يطبِّق آدابَ القرآن عند ذلك يقع البلاء.
أيها المسلم، العلاقة بين الزوجين أمرٌ مهمٌّ، فإنَّ استقامتها سببٌ لاستقامة الحال وعمارةِ المنزل وانتظامِ شأن الولد وحياة الأولاد بين الأبوين المتعاونين في سبيل إصلاح الأولاد وتربيتهم التربية الصالحة. وعندما يعطِّل الناس آدابَ القرآن ولا يطبقونه تشقى الحياةُ الزوجية، فتبقى المرأة أرملة والزوجُ أيّمًا بلا زوجة، والولد يتشتت، ويُصاب الأولاد بالعُقد النفسية بين بعدهم عن أبيهم تارة وبين بعدهم عن أمهم تارة أخرى. وكلُّ ذلك من عدم تطبيق أدب القرآن في هذا.
الله جل جلاله في كتابه العزيز وضع للزوجين نظامًا إنْ هما سارا عليه فإنَّ ذلك سبب لسعادتهما واجتماعهما وتآلف قلوبهما، قال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، فالجزء من هذه الآية بيَّن الله فيه أن للمرأة حقًا كما عليها حق، وللرجل حق على امرأته كما له عليها حق، فله عليها حق، ولها عليه حق، فإذا قام الزوجُ بالواجب عليه وقامت المرأة المسلمة بالحق الواجب عليها وتعاون الجميع على ذلك فعند ذلك تكون الحياة الزوجية حياةً طيبة سعيدة.
أيها المسلم، سنة محمد أرشدت الزوجين أيضًا إلى هذا المنهج القويم.
فأولاً: نجد في سنة رسول الله ترغيبَ الأزواج في القيام بحق النساء، ووصيتَهم بذلك، فرسولنا يقول: ((استوصوا بالنساء خيرًا، فإن المرأة خُلقت من ضلع، وإن أعوجَ ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، فاستوصوا بالنساء خيرًا)) [1] ، ويقول: ((المرأة كالضلع إن أقمتها كسرتَها وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج)) [2] ، فأخبرنا عن المرأة وضعفِها وعجزها وأنها خُلقت من ضلع أعوج, وأنَّ الرجلَ يجب أن يكون أقوى منها تحمّلاً، أشدَّ منها صبرًا وتحملاً، لا يعاتِب على كلّ قليل وكثير، ولا يأمَل الكمالَ المطلق، وإنما يقبل منها ما جاء، ويتحمَّل بعضَ ما فات، فبذا تستقيم الحياة، وفي لفظ: ((ولن تستقيم لك على طريقة)) [3] ، فهي لا تستقيم لك على كلّ ما تريد، لكن الزوج هو أقوى وأشد تحملاً وصبرًا وعلاجًا للمشكل.
ويبين أن المرأة المؤمنة قد يكون منها شيء من الأخلاق التي لا يرضاها الزوج، وهي أخلاق لا تتنافى مع الشرف والفضل والفضيلة، ولكن طباع بعض الناس، فيقول : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)) [4] ، فالمرأة المؤمنة قد تكره منها شيئًا من الطباع، ولكن في مقابل ذلك ترضى بأخلاق حسنة وسيرة طيبة، فليكن ما لديها من خلق كريم وعمل طيب مقابلَ ما قد ترى منها من بعض المخالفات.
ويبين أيضًا كيف يتعامل الرجلُ مع امرأته، يسأله معاوية بن حيدة رضي الله عنه قائلاً: يا رسول الله، ما حقُّ امرأتنا على زوجها؟ قال: ((أن تطعمَها إذا طعمتَ، وتكسوَها إذا اكتسيتَ، ولا تضربِ الوجهَ، ولا تقبِّح، ولا تهجرْ إلا في البيت)) [5] هكذا يوصي هذا الصحابي، أنك تنفق عليها، ((تطعمها إذا طعمت، تكسوها إن اكتسيت)) ، أيضًا إذا أردتَ التأديبَ فكن واقعيًا مؤدّبًا، لا تضربِ الوجه فهو أجملُ أعضائها، والضرب فيه إهانة، ((ولا تقبِّح)) لا تخاطبها بالألفاظ الشنيعة البذيئة الساقطة، تقولُ لها: قبَّحك الله، فكيف بمن يلعن أباها وأمَّها؟! وكيف بمن يسبّها ويعيبها؟! وكيف بمن يقول فيها ما هي براء منه؟! إنَّ غضبَك أحيانًا قد يحمِلك على شيء، لكن ليكن عندك تماسكٌ أثناءَ الغضب، وثباتٌ أثناء الغضب من أن يزلَّ لسانك بكلمات تندم عليها ولا ينفعك الندم.
ويبيِّن في حديث آخر حقَّ الزوجة على زوجها وحقَّ الزوج عليها فيقول: ((إن لكم على نسائكم أن لا يوطِئن فرشَكم أحدًا تكرهونه، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهونه، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) [6].
أيها المسلم، هكذا أرشد الإسلام الزوجَ كيف يتعامل مع المرأة، وكيف يصبر، وكيف يتحمَّل، وكيف يعالج أيَّ نزاع.
ثم في مقابل ذلك يرشد المرأةَ إلى طاعة زوجها، والسمع والطاعة له في المعروف، والتأدُّب معه، وتنفيذ أوامره، فيقول مبيِّنا عظيم حقّ الزوج على امرأته لمَّا سجد له معاذ بن جبل نهاه، فقال: رأيتُ النصارى يسجدون لبطارقتهم، فقال : ((لو كنت آمرًا أحدًا بالسجود لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها)) [7] ، ويقول مبينًا أيضًا ما للزوج على امرأته: ((إذا أغضبتِ المرأة زوجَها في الدنيا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله، فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا)) [8] ، ويحذِّر المرأةَ المسلمة من عصيان الزوج فيما يطلب منها من متعة فيقول : ((إذا دعا الرجلُ امرأتَه لفراشه فلم تجبه فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)) [9].
أيها المسلم، إن بتدبّر القرآن والسنة يعلم الزوجُ ما له وما عليه، وإن قيامَ كلٍّ منهما بما يجب عليه هو الذي يحقّق السعادة، وهو الذي يرسي دعائمَ الاستقرار في المنزل، وهو الذي يجعل الأبوين يقومان بالواجب المُلقى عليهما نحوَ أولادهما، فينشأ الولدُ وتنشأ البنتُ نشأةً صالحة بين أبوين مسلمين، محترمًا بعضهم بعضًا، فتنشأ البنت تحترم زوجَها، وينشأ الابن يحترم أمَّه وأباه، وإنما يُصاب النشء بالعُقد النفسية عندما يشاهد الأطفال الأمَّ والأب وما بينهما من شِجار ونزاع وتبادلٍ للتّهم وتراشقٍ بالكلمات البذيئة التي لا خير فيها، ولا تحقِّق خيرًا، وإنما تنشر سوءًا وبلاء، وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53].
فالتعامل بالأخلاق الكريمة بين الزوجين واحترامُ كلٍّ منهما لصاحبه وقيامُ كلّ منهما بالواجب عليه هو الأمر المطلوب من المسلمين، هذا الذي دعا إليه القرآن، وأرشدت إليه سنة المصطفى.
أيها المسلم، إن آدابَ القرآن هي الآداب الحميدة، وهي الآدابُ التي تحقِّق السعادة، فنسأل الله أن يرزقنا وإياكم الاستقامةَ على الهدى، والعملَ بهذا القرآن، إنه على كل شيء قدير.
يقول الله جل وعلا: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ [البقرة:228].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3331)، ومسلم في الرضاع (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[2] هذا اللفظ أخرجه البخاري في النكاح (5184)، ومسلم في الرضاع (1468).
[3] هذا أحد ألفاظ مسلم للحديث السابق.
[4] أخرجه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه أحمد (4/447)، وأبو داود في النكاح، باب: حق المرأة على زوجها، والنسائي في الكبرى (9171)، وابن ماجه في النكاح (1850) من حديث معاوية القشيري رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4175)، والحاكم (2/187-188)، والدارقطني كما في التلخيص الحبير (4/7)، وصححه الألباني في الإرواء (2033).
[6] جزء من خطبة النبي يوم عرفة، أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما، وليس فيه قوله: ((ولا يأذنَّ في بيوتكم لمن تكرهونه)) ، وهو عند الترمذي في الرضاع (1163)، وابن ماجه في النكاح (1851) من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1501).
[7] أخرجه أحمد (5/227)، والطبراني في الكبير (20/174) من طريق أبي ظبيان عن معاذ رضي الله عنه، وهذا سند منقطع أبو ظبيان لم يسمع من معاذ، وللقصة شاهد عند أحمد (4/381)، وابن ماجه في النكاح (1853) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4171)، وحسنه الألباني في الإرواء (7/56)، وللفظ المرفوع شواهد كثيرة منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي في الرضاع، باب: ما جاء في حق الزوج على المرأة (1159)، والبيهقي (7/291)، قال الترمذي: "حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (4162). وقد استوفى الألباني تخريجه في الإرواء (1998).
[8] أخرجه أحمد (2/466)، والترمذي في الرضاع (1174)، وابن ماجه في النكاح (2014) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (173).
[9] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3237)، ومسلم في النكاح، باب: تحريم امتناعها من فراش زوجها (1736) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماُ كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله، من الأسبابِ التي تثير النزاعَ بين الزوجين، وتعمِّق هذا النزاع، وتجعله نزاعًا قويًا عميقًا، من أسباب ذلك أمور:
فمن أهمها تدخُّل أولياء الزوجين في اختلاف وجهة النظر بين الزوج وزوجته، فربما تدخّلٌ من أولياء المرأة، وتجسيد للأخطاء، ومحاولةُ إيقاد نار الفتنة بين الزوج وزوجته، فأولياءُ المرأة يقفون معها في كلّ ما تدَّعيه، حقًا كان أو باطلاً، صدقًا كان أم كذبًا، المهمُّ أنهم يقفون مع ابنتهم من غير مراعاة للزوج وحقوقه، وهل البنت محقَّة فيما تقول أم غير محقة؟ وهل يمكن أن هذا الاختلاف يعالَج بالطرق المناسبة أم لا؟ المهمّ أنهم يقفون مع البنت دون مراعاة لحقِّ الزوج، وربَّما وقف أولياءُ الزوج مع ابنهم دون مراعاة لحقّ الزوجة، وهل ابنُهم صادق فيما يدعيه أم ابنهم غير صالح لهذه المرأة؟ فهذا التدخّل من الأولياء مما يسبّب انتشارَ الاختلاف، مما يسبّب عمقَ الاختلاف وتطوّره، ولكن لو كان أولياء الزوجين ولو كان الأهلون من الزوجين ساعين جميعًا في التوفيق واجتماع كلمتهما والحرص على تضييق شقة النزاع لكان خيرًا، ولذا قال الله: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حًا يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35]، وقال: وَإِنِ ?مْرَأَةٌ خَـ?فَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَ?لصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء:128]. إذًا فالأهلون أهلُ الزوج والزوجة لا بد أن يسعيا في الإصلاح والتوفيق ما وُجِد لذلك سبيل.
ومن أسباب النزاع أيضًا والاختلاف تسلّطُ بعض الأزواج على مال امرأته، وعلى مرتَّب امرأته، والتحكّم فيه، وأخذُ معظمه أو كلّه، وظلمُها بذلك، من غير مراعاة للشعور، وهذا أيضًا خطأ، فمالها هي أحقّ به، وأنت مُلزمٌ بالنفقة والقيام بالواجب، والتسلّطُ على الأموال ليس من المباح، بل هو من الظلم، فلا بد من إعطائها حقَّها، إلا بطيبة نفسٍ منها، فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا [النساء:4].
ومن أسباب هذا الاختلاف ما يحصل أحيانًا من بعض الأزواج، فبعضُ الرجال هدانا الله وإياهم للخير، وبصَّرنا وإياهم فيما يعود علينا بالنفع، بعضُ الأزواج لديه هجرانٌ لامرته، مثلاً في أيام إجازته يستغلّها في البعد عن امرأته، وربَّما ابتعدَ الشهر والشهرين دون أن تعلمَ المرأة عن زوجها وحاله، وربما لا يريد استصحابَ زوجته معه ولا سفرَها معه، ويريد كما يقول أن يأخذ حريتَه في كلّ ما يأتي ويذر، وأن وجودَ المرأة معه تأخذ على يده وتمنعه من بعض التصرُّفات الخاطئة، فهو يريد شُللا يمشي معها دون أن يكون له ارتباطٌ بامرأته، تصحبه فيستثقل سفرَها معه، ويحاول البعدَ عنها مدةً من الزمن، وربما كان هذا السفر مقتطعًا من نفقة البيت والأولاد، ولكن عمَى البصيرة يحول بين الناس وبين التصرفات الطيبة.
وبعضُ الأزواج ـ هدانا الله وإياهم ـ وإن لم يسافر لكن معظم الليل لا تراه في منزله، ولا سيما مساءَ الأربعاء ومساءَ الخميس والجمعة، لا يكون متواجدًا في المنزل، ولا يهتمّ بالمنزل، عدَّة ليال من الأسبوع في لهوه ولعبه وسهره مع زملائه وأصدقائه، أما المرأة والبيت فمهجور مهما كان فيه من الظروف. وهذا ـ يا أخي ـ من الأخطاء السيئة.
وبعضٌ من النساء أيضًا قد يخطئن، فهناك الشكوك الكثيرة من بعض النساء، وهناك التقصّي الذي لا مبرِّر له، وهناك الوساوسُ التي لا داعيَ لها، كما أن الرجلَ يجب أن يكون متَّزنًا، فإياه والشكوك وظنون السوء التي بناها على غير هدى، وإنما هي وساوس وتدخُّلات من بعض جلساء السوء، ليفسدوا بين الزوجين ويفصم عرى المودة بينهما.
فليتق الرجلُ ربَّه في امرأته، ولتتقي المرأة ربَّها في زوجها، وليتَّق أهلُ الرجل وأهل المرأة ربَّهم في الزوجين، وليحرص كلٌّ على جمع الكلمة وردء الصدع ووحدة الصف، فهذا هو المطلوب، نسأل الله أن يعيننا جميعًا على كل خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد ، حيث أمركم ربكم بذلك قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/4194)
الرسول زوجًا
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ
الشمائل, المرأة, قضايا الأسرة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
11/11/1422
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفهم الخاطئ للحياة الزوجية. 2- حرص الرسول على إظهار حبه لزوجاته. 3- لين الرسول عليه السلام وتلطفه مع زوجاته. 4- صبر الرسول عليه الصلاة والسلام على أذى زوجاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
في كل يوم نقرأ في الصحف عن ارتفاع نسبة الطلاق في مجتمعاتنا المسلمة، وفي كل حين تتناهى إلى أسماعنا قصة من قصص الشقاق الأسري والنزاع الزوجي، كثيرًا ما تنتهي بالطلاق أو تفضي إلى أسرة شقية بائسة تكون مرتعًا خصبًا لناشئة السوء والفساد.
وكل من له أدنى اتصال بالعاملين في حقل التوجيه الاجتماعي أو العلاج النفسي يسمع ما يشيب له الرأس وتدمع له العينان من ضروب الشحناء والبغضاء وفنون الكيد والمكر بين الأزواج. صور كثيرة تتراءى أمام العين، وأصوات مصطخبة ترنّ هنا وهناك، وشعور عميق بالحسرة والألم على الواقع الأسري في أمة هي أمة التكاتف والتعاطف والمرحمة. ترى أين الخلل؟! وكيف صار من صار إلى هذه النفرة المشتتة والجفوة المفتتة؟!
ثمةَ أسباب كثيرة وتحليلات متعددة ودوافع شتى، ولكنها تجتمع كلها في كلمة واحدة هي الفهم الخاطئ، نعم الفهم الخاطئ للحياة الزوجية.
حين لا تفهم المرأة دورها في عش الزوجية ولا يفهم الرجل دوره أو حين يفهم كل منهما دوره بشكل خاطئ تبدأ النزاعات والشقاقات وإلقاء التهم، وتنشأ قائمة طويلة من التبريرات والتفسيرات لكل موقف أو كلمة. ولنقصر حديثنا هنا على الرجال، وللنساء من بعد نصيب إن شاء الله.
كثير من الرجال يتصور أن علاقته بزوجه علاقة الآمر بالمأمور والمتبوع بالتابع والمخدوم بالخادم، ومن ثم فعليه الأمر وعليها الطاعة، وعليه أن يستلقي في الدار وعليها أن تقوم بكل شيء، عليه أن يوفر القوت وعليها أن تدفع ثمن ذلك ذلاً وخضوعًا وانكسارًا.
ولما كانت جهامة الوجه وصرامة اللفظ والمبالغة في الشدة، لما كانت هذه الأوصاف في حس البعض هي سمات الزوج الناجح المسيطر على بيته والممسك بزمام الأمور، لما كان الأمر كذلك صارت الابتسامة والمباسطة والمداعبة مدرجة في قائمة المحرمات، وصار من أكبر الكبائر عند البعض أن يقول الزوج لزوجه كلمة رقيقة يعبر بها عن محبته وتقديره لها.
ولما كان الاعتقاد عند البعض بأن المرأة لا تصلح لشيء إلا للاستمتاع والخدمة صارت مشاورتها في شؤون البيت وأخذ رأيها فيما يأتي الزوج أو يذر خطيئة كبرى تحطّ من قيمة الزوج وتهز من كبريائه، وصار نزول الرجل عن رأيه من أجل زوجه في عرف هؤلاء شرخًا في الرجولة، لا يمكن أن يلتئم.
وهكذا تفعل هذه المفاهيم الخاطئة فعلها في فتور العلاقة بين الزوجين، ثم في نشوء النزاعات والشقاقات.
وهلموا نَحْتَكِمْ ـ أيها الأحبة الكرام ـ إلى سيد البشر محمد بن عبد الله ، لنرى كيف كان يتعامل مع أزواجه.
سنقف اليوم مع الرسول الزوج ، كما وقفنا من قبل مع الرسول المعلم، كيف كان عليه الصلاة والسلام في بيته؟ وكيف كان يمارس دور الزوجية؟
إن أول ما يلفت النظر في حياة الرسول الزوجية أنه كان حريصا على إظهار حبه لزوجاته رضي الله عنهم، كان يصرح بهذا الحب ويجهر به، وكان يعلمه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. كان يقول عليه الصلاة والسلام عن خديجة: ((إني قد رُزقت حبها)) رواه مسلم (2453)، وكان يقف المواقف التي يُعلم منها حبُّه لأزواجه ، ودونك هذا الخبر الطريف: عن أنس رضي الله عنه أن جارًا لرسول الله فارسيًا كان طيب المَرَق، فصنع لرسول الله ثم جاء يدعوه، فقال : ((وهذه؟)) يعني عائشة، فقال الفارسي: لا، فقال رسول الله : ((وهذه؟)) فقال: لا، فقال رسول الله : ((لا)) ، ثم عاد الفارسي يدعوه، فقال رسول الله : ((وهذه؟)) فقال: نعم في الثالثة، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله. رواه مسلم. فانظر كيف فعل رسول الله ، وكيف أبى في هذا السياق أن يدعى وحده.
وكانت زوجات النبي يتسابقن في إظهار حبه لهن، وهو يقرّهن على ذلك ولا ينكر عليهن، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أتاني رسول الله في غير يومي يطلب مني ضجعًا، فدقَّ فسمعت الدق، ثم خرجت، ففتحت له، فقال: ((ما كنت تسمعين الدّق؟!)) قلت: بلى، ولكنني أحببت أن يعلم النساء أنك أتيتني في غير يومي.
وبلغ من إظهار الرسول لحبه لأزواجه ـ ولا سيما عائشة رضي الله عنها ـ أن تعالم الناس بذلك، عن عروة قال: كان المسلمون قد علموا حب رسول الله عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هديّة يريد أن يهديها إلى رسول الله أخرها حتى إذا كان رسول الله في بيت عائشة بعث صاحب الهدية إلى رسول الله في بيت عائشة. رواه الشيخان. وعن عمرو بن غالب أن رجلاً نال من عائشة عند عمار بن ياسر فقال: اعزُب مقبوحًا منبوحا، أتؤذي حبيبة رسول الله؟!
أرأيتم؟! فما لأحدنا اليوم يخجل من أن يظهر حبه لأهله ويستحيي من أن يعبر لزوجه عما يكنه لها من مودة ومحبة؟!
لقد كان عليه الصلاة والسلام يدعو الزوج إلى أن يتلطف مع زوجه بالشكل الذي يشعرها بمحبته ومودته، حتى إنه دعا الزوج إلى أن يضع اللقمة بيده في فم زوجه تحببًا وتوددًا، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله : ((وإنك مهما أنفقت من نفقة فإنها صدقة، حتى اللُّقمة التي ترفعها إلى في امرأتك)) رواه الشيخان.
وإليك هذه الصورة الزوجية الرائعة: عن عائشة قالت: كان رسول الله يعطيني العظم فأتعرّقه ـ أي: آكل ما بقي فيه من اللحم وأمصه ـ، ثم يأخذه فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي. رواه مسلم. أيّ محبة وأي مودة وأي أجواء رائعة كان يضفيها عليه الصلاة والسلام على الحياة الأسرية؟!
وكان عليه الصلاة والسلام يبالغ في التلطف مع أزواجه إذا مرضت إحداهن أو اشتكت، تقول عائشة رضي الله عنها وهي تروي خبر الإفك: فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرًا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، ولا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللّطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. رواه البخاري. فتأمل قولها: اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي.
وكان عليه الصلاة والسلام هيّنًا لينًا مع أزواجه، يحرص على تحقيق ما يرغبنه ويشتهينه إن استطاع، ولم يكن في ذلك محذور، وإليك هذين المثالين، لترى من خلالهما كيف كان عليه الصلاة والسلام يلين مع أزواجه ويوافقهن فيما يردن ما لم يكن حرجًا:
حين حجت عائشة وحاضت لم تتمكن من أداء عمرتها، فلما جاء وقت الحج أمرها النبي أن تفعل ما يفعل الحاج غير أن لا تطوف بالبيت، فلما طهرت وطافت وسعت بين الصفا والمروة حزنت على أن لم تكن اعتمرت كما اعتمر الناس، فقالت: يا رسول الله، أيرجع الناس بنسكين وأرجع بنسك واحد؟! وفي رواية: أيرجع الناس بأجرين وأرجع بأجر واحد؟! فبعث بها النبي مع عبد الرحمن إلى التنعيم، فاعتمرت بعد الحج. رواه مسلم. قال جابر بن عبد الله: وكان رسول الله رجلا سهلا، إذا هويت الشيء تابعها عليه. رواه مسلم. فأين هذا ممن يعدّ مجرد موافقة المرأة في رأي سُبَّة وعيبًا وعارًا؟!
وكان عليه الصلاة والسلام إلى ذلك لا يأنف من أن يقوم ببعض عمل البيت ويساعد أهله، سئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـ أي: في خدمتهم ـ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري. وفي رواية عند أحمد: كان بشرًا من البشر، يَفْلي ثوبه، ويحلب شاته، ويخدم نفسه. وفي رواية أخرى: كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم. وهي في صحيح الجامع (4813).
وكان عليه الصلاة والسلام يستشير أزواجه ويأخذ برأيهن فيما يعرض عليه من أمور، ومن ذلك ما فعله حين جاءه جبريل أول مرة، فرجع فزعًا إلى زوجه خديجة رضي الله عنها، وهو يقول: ((زمِّلوني زمِّلوني)) ، ثم أخبر خديجة بالخبر وقال: ((لقد خشيت على نفسي)) رواه الشيخان. فكلمتُه هذه كلمة المستنصح لخديجة الطالب رأيها في هذا الأمر العظيم الذي عرض له، وحين أشارت عليه بالذهاب إلى وَرَقَة قبل مشورتها واتبع نصحها رضي الله عنها.
وكان عليه الصلاة والسلام يصحب زوجاته في السفر، كما صحّ في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله إذا أراد سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله. رواه البخاري ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وكان عليه الصلاة والسلام يدرك طبيعة المرأة وأن على الزوج احتمال بعض شغبها وأذاها؛ لأنه هو القيم عليها، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يصبر على زوجاته، وكنّ أحيانا يرفعن أصواتهن فوق صوته ويراجعنه فيما يقرره من قرارات، وربما غاضبته الواحدة منهن فهجرته إلى الليل، فلا يهتاج عليه الصلاة والسلام، ولا يحتدّ، بل يقابل الأمر بسكينة ولطف. ولنستمع معًا إلى هاتين القصتين الطريفتين اللتين روى إحداهما عمر رضي الله عنه ورويت الأخرى عنه:
القصة الأولى: عن سعد بن أبي وقاص قال: استأذن عمر على رسول الله وعنده نسوة من قريش ـ يعني من أزواجه ـ يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته، فلما استأذن عمر قمن فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله ، فدخل عمر ورسول الله يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، فقال النبي : ((عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي، فلما سمعن صوتك ابتَدَرْن الحجاب)) ، فقال عمر: فأنت أحق أن يَهَبن يا رسول الله، ثم قال عمر: أي عدوّات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟! فقلن: نعم أنت أفظُّ وأغلظ. رواه البخاري ومسلم.
القصة الثانية: عن عمر رضي الله عنه قال: والله، إن كنا في الجاهلية ما نعد للنساء أمرًا، حتى أنزل الله فيهن ما أنزل، وقسم لهن ما قسم، فبينا أنا في أمر أتأمّره إذ قالت امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! قال: فقلت لها: ما لك ولما ها هنا؟! وما تكلُّفُك في أمر أريده؟! فقالت: عجبًا لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن تُراجَع في أمر، وإن ابنتك لتراجع رسول الله حتى يظل يومه غضبان، وفي رواية عند البخاري: والله، إن أزواج النبي ليراجعْنَه، وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل، فقام عمر فأخذ رداءه من مكانه حتى دخل على حفصة فقال لها: يا بنية، إنك لتراجعين رسول الله حتى يظل يومه غضبان؟! فقالت: والله إنا لنراجعه، فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله... قال عمر: ثم خرجت حتى دخلت على أم سلمة لقرابتي منها فكلمتها، فقالت أم سلمة: عجبًا لك يا ابن الخطاب، دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله وأزواجه! وفي رواية: والله، إنا لنكلمه فإن تحمّل ذلك فهو أولى به، وإن نهانا عنه كان أطوع عندنا منك. رواه البخاري ومسلم.
وأعجب من كل ما سبق أن النبي كان أحيانًا هو الذي يسترضي زوجه إذا غضبت، ويعتذر لها. وسأحكي لهم هذه القصة الزوجية الطريفة:
روى أبو داود (4999) بإسناد قوي عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبو بكر على النبي فسمع صوت عائشة عاليًا، فلما دخل تناولها ليلطمها وقال: ألا أراكِ ترفعين صوتك على رسول الله ! فجعل النبي يحجِزُه ـ أي: منع أبا بكر من أن يزجر ابنته أو يضربها ـ ، وخرج أبو بكر مغضبًا، فجعل النبي يترضى عائشة ويقول: ((كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟!)) أي: ألا ترين أني منعت أباك من زجرك وعقوبتك؟! وكأنه يريد أن يقول لها: ألا يكفيك هذا شاهدا على محبتي لك؟! فإلام تظلين ساخطة؟! ثم إن أبا بكر استأذن مرة أخرى فوجدهما قد اصطلحا، فقال: أدخلاني في سِلمكما كما أدخلتماني في حربكما، فقال النبي : ((قد فعلنا، قد فعلنا)).
فتأمل وانظر وتفكر، ثم قس هذا بحال من يرى في اعتذاره لزوجه وإن كان مخطئًا هوانًا في النفس ونقصا في الرجولة.
أيها الأحبة، لقد قال الله سبحانه: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
نعم أيها الزوجان:
أنتما فِي رحلة العمر معا تبنيان العشَّ كالروض الأنيق
قد نَما بينكما عهد الوفا صادقا فالعهد في الله وثيق
تَحملان العبء روحًا ويدًا والتقى نعم التقى زاد الطريق
نفحة تثمر في النفس الرضا تَجعل الأيام كالغصن الوريق
فإذا الدنيا سراج هادئ والمنى تسبح في بَحر طليق
عن أنس قال: خرجنا إلى المدينة قادمين من خيبر، فرأيت النبي يُحَوِّي لها ـ أي: لصفية ـ وراءه بعباءة، ثم يجلس عند بعيره فيضع ركبته، وتضع صفية رجلها على ركبته حتى تركب. رواه البخاري.
(1/4195)
فرعون
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, القصص
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
25/7/1422
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طغيان فرعون وجبروته وتطاوله حتى على رب البشر. 2- نشأة موسى عليه السلام في بيت فرعون. 3- تسليط الله عز وجل أضعف جنده على فرعون ومن تبعه. 4- نهاية فرعون ومن تبعه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد حكى الله تعالى في كتابه الكريم قول فرعون الطاغية: أَنَاْ رَبُّكُمُ ?لأَعْلَى? [النازعات:24]، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِى [القصص:38].
بهذا الصلف المقيت والكبرياء الممجوجة كان يدير أمور الناس الذين ابتلوا بالخضوع له، وشاء الله أن يجعل جزاءه من جنس عمله، وأن يجعل هؤلاء الذين احتقرهم سببا في زواله، وعلّمه الله أن الكبرياء رداؤه سبحانه والعظمة إزاره، وأن من جاذبه شيئًا منهما أذله وحقره.
لقد بطر فرعون، غره ملكه وجاهه، غرته الجموع التي تأتي إليه صاغرة وتحتشد بين يديه ذليلة، غره المال الذي ينثال بين يديه والقوة التي تملؤه، فصاح في غباء وغفلة: قَالَ ي?قَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَـ?ذِهِ ?لأَنْهَـ?رُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [الزخرف:51].
ظن الملك ملكه، والدولة دولته، فطفق يفعل ما يشاء، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى ?لأرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مّنْهُمْ يُذَبّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:4]، إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـ?ذِرُونَ [الشعراء:54-56].
ولم يكتفِ بالطغيان على البشر حتى تطاول على رب البشر، فَأَوْقِدْ لِى ي?هَـ?مَـ?نُ عَلَى ?لطّينِ فَ?جْعَل لّى صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى? إِلَـ?هِ مُوسَى? وَإِنّى لأظُنُّهُ مِنَ ?لْكَـ?ذِبِينَ [القصص:38]، بل قال بكل وقاحة: ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى? وَلْيَدْعُ رَبَّهُ !!
وظن فرعون بعد كل هذا الجبروت والطغيان أنه يتحكم في الأقدار، فقد كان بنو إسرائيل يتدارسون فيما بينهم مما حفظوه عن إبراهيم عليه السلام أنه سيخرج من ذريته غلام يكون هلاك فرعون مصر على يديه، وكانت هذه البشارة مشهورة في بني إسرائيل، فتحدث بها القِبْط فيما بينهم، ووصلت إلى فرعون، فأمر عند ذلك بقتل أبناء بني إسرائيل حذرًا من وجود هذا الغلام، فجعل فرعون رجالاً وقوابل يدورون على الحبالى، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرًا إلا ذبحه أولئك الذابحون من ساعته.
هكذا إذًا بلغ فرعون غاية الجبروت والطغيان، كفر بالله وتطاول عليه، وظن ملك الأرض بين يديه، وأراد أن يتحكم في أحداث المستقبل ويرسم صورته كما يريد هو.
ونظر الرعاع الضعفة إلى هذا الملك وهذا الجبروت، نظروا إلى هذه الأموال المكدسة والجيوش المجيشة والعدة والعتاد، فآمنوا أن فرعون إله عصرِهم وكبير أمرهم، فانساقوا له طائعين، وذلوا بين يديه، وقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وتبرعوا من بعد ذلك بمساعدته فيما طلب وفيما لم يطلب، وقدموا له النصيحة الآثمة: وَقَالَ ?لْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى? وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ وَيَذَرَكَ وَءالِهَتَكَ [الأعراف:127].
فأي شيء كان بعد ذلك كله؟! وهل استطاع فرعون المتجبر أن يحمي نفسه؟! وهل وجد اللائذون به ملاذًا حين جاء أمر الله؟! لا والله، لقد أراد الله أن يذل فرعون بأعجب إذلال وأغربه، وحوّل المعركة إلى بيته هو، ونشأ موسى عليه السلام الذي أبطل باطل فرعون في بيت فرعون، وكانت آية من آيات الله وقف عندها التاريخ طويلاً.
لقد ولدت أم موسى وليدها، وخافت عليه بطش فرعون، فكان أمانه في أخوف مكان، وكانت سلامته من الذبح في بيت ذابحه، وشاء الله أن يغذّي فرعون بيديه من يكون على يديه زواله، ولا راد لما أراد الله، وَقَالَتِ ?مْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ [القصص:9].
يقدر الطاغوت شيئًا ويقدّر الله غيره، والله يريد غير ما يريد فرعون، وإرادة الله وقدرته تتحدّى بطريقة مكشوفة فرعون وهامان وجنودهما، إنهم ليتّبعون الذكور من بني إسرائيل خوفًا على ملكهم، وها هي إرادة الله تلقي في أيديهم بطفل، وأي طفل؟! إنه الطفل الذي على يديه هلاكهم أجمعين، ها هي ذي تلقيه في أيديهم مجردًا من كل قوة، ومن كل حيلة، عاجزًا عن نفسه، ها هي ذي تقتحم به على فرعون حصنه. يا فرعون، موسى لن يكون مرباه إلا في دارك وعلى فراشك، ولن يغذَّى إلا بطعامك وشرابك في منزلك، وأنت الذي تتبناه وتربيه وتتعهّده، ولا تطّلع على سر معناه، وأنت تقدم له مبررات نقمته بظلمك بني قومه، لتعلم أن رب السموات هو الفعال لما يريد.
لقد اقتحمت إرادة الله على فرعون قلب امرأته بعدما اقتحمت به عليه حصنه، لقد حمته بالمحبة لا بالسلاح ولا بالجاه ولا بالمال، حمته بالحب الحاني في قلب امرأة، وتحدت به قسوة فرعون وغلظته وحرصه وحذره، وقالت المرأة: عَسَى? أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]، فقال فرعون: أمّا لكِ فنعم، وأمّا لي فلا. والبلاء موكَّل بالمنطق، وكان ما كان فهداها الله به، وأهلكه على يديه.
وقام موسى عليه السلام بواجب الدعوة والبلاغ، واهتدى الآلاف من قوم فرعون، بل اهتدت زوجه أقرب الناس إليه، وأصر هو وطغمته ومن مالأه على كبريائه وجبروته، وتحدى موسى، وبدأت الحرب بداية إعلامية: أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى ?لأرْضِ ?لْفَسَادَ [غافر:26]، إِنْ هَـ?ذ?نِ لَسَاحِر?نِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ?لْمُثْلَى? [طه:63]، ويا سبحان الله! في عشية وضحاها تحوّل فرعون عالمًا بالدين، يقرّر ما هو الصلاح وما هو الفساد، ويفرق بين دعاة الهدى ودعاة السحر والتضليل.
ثم بدأت حرب التهديد ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى? وَلْيَدْعُ رَبَّهُ [غافر:26]، ثم بدأ الفعل وجمع الجموع وتجييش الجيوش والضرب بيد من حديد وعبارات الغيظ والمقت، إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ [الشعراء:54، 55]، وفزع أقوام وظنوا النجاة في جند فرعون وجيشه، فقالوا بأعلى أصواتهم: بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الشعراء:44]. فإلى أي مدى مضت المواجهة بين موسى عليه السلام وبين فرعون المتجبر الطاغي؟!
لقد سلط الله عليه أضعف جنده، سلط عليه جندًا ضعيفًا يستكثر عليها هذا الجيش الجرار، سلط عليه جرادًا وقملاً وضفادع ودمًا، لتنقلب كل موازين فرعون فلا يدري ماذا يفعل.
عن سعيد بن جبير قال: لما أتى موسى عليه السلام فرعون قال له: أرسل معي بني إسرائيل، فأرسل الله عليه المطر فصب عليهم شيئًا خافوا منه، فقالوا لموسى: ادعُ لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن بك، فدعا ربه فلم يؤمنوا، فأنبت لهم في تلك السنة شيئًا لم ينبته من قبل من الزرع والثمر والكلأ، فقالوا: هذا ما كنا نتمنى، فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ، فلما رأوا أثره عرفوا أنه لا يبقى، فقالوا: يا موسى، ادعُ لنا ربك ليكشف عنا الجراد، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه، فكشف عنهم الجراد فلم يؤمنوا، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل، فدرسوا الحَبَّ وأحرزوه في البيوت، وقالوا: قد أحرزنا، فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس، فكان الرجل يخرج عشرة أجرِبة إلى الرَّحى فلا يرد منها ثلاثة أقفِزَة، فقالوا لموسى: ادعُ لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل، فدعا ربه فكشف عنهم، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل، فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع، فقال لفرعون: ما تلقى أنت وقومك من هذا؟ فقال فرعون: وما عسى أن يكون كيد هذا، فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه الضفادع، ويهم أن يتكلم فتثب الضفدعة في فيه! فرجوا موسى فدعا ربه فكشف عنهم الضفادع ولكنهم لم يؤمنوا، فسلك عليهم الدم، فكل ما في أوعيتهم من ماء صار دمًا عبيطًا. قال ابن إسحاق: فتابع الله عليهم الآيات وأخذهم بالسنين فلم يؤمنوا.
وهكذا استمر فرعون على بغيه، وغالب أمر الله سبحانه حين قرر فرعون في النهاية أن يحسم أمر موسى بضربة قاضية مهلكة، جمع لها كل جموعه وحشد لها كل حشوده، وكانت ساعة الصفر، فتنزل نصر الله وعونه، فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ [القصص:40]، وأغرقت الأمواج فرعون وجنده، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:29].
قال سيد: "انظر إلى هوانه وهوانهم على الله، وعلى هذا الوجود الذي كان يشمخ فيه بأنفه، فيطأطئ له الملأ المفتونون به، وهو أضل وأزهد من أن يحسّ به الوجود، وهو يُسلب النعمة فلا يمنعها من الزوال، ولا يرثي له أحد على سوء المآل، لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله فيها، ذهبوا ذهاب النِّمال، وهم كانوا جبارين في الأرض، يطؤون الناس بالنعال، ذهبوا غير مأسوف عليهم".
قال القُشَيري: تكبر فرعون بغير حق فأقمأه الله بحق، وتجبر بغير استحقاق، فأذله الله باستحقاق، وَ?سْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِى ?لْيَمّ فَ?نظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:39، 40].
ولم يبقَ من فرعون إلا جسده شاهدًا على قدرة الله، فَ?لْيَوْمَ نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً [يونس:92].
ورجع أتباع فرعون في الدنيا تبعًا له في المآل: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَأَوْرَدَهُمُ ?لنَّارَ [هود:98]. لما كانوا تبعًا لفرعون في هذا الأمر يمشون خلفه، ويتبعون خطواته الضالة بلا تدبر ولا تفكر ودون أن يكون لهم رأي، لما كانوا كذلك فإن السياق يقرر أن فرعون سيقدمهم يوم القيامة ويكونون له تبعًا.
وجعل الله العاقبة للمؤمنين: وَأَوْرَثْنَا ?لْقَوْمَ ?لَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـ?رِقَ ?لأرْضِ وَمَغَـ?رِبَهَا ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ?لَّذِينَ ?سْتُضْعِفُواْ فِى ?لأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ?لْوَارِثِينَ وَنُمَكّنَ لَهُمْ فِى ?لأرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَـ?مَـ?نَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ [القصص:5، 6].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4196)
من أجل فلسطين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, فضائل الأزمنة والأمكنة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
13/2/1423
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل أرض فلسطين. 2- جهاد السلف الصالح لتحرير فلسطين والدفاع عنها. 3- ما الذي نستطيع أن نقدمه للأرض المقدسة في الوقت الحاضر؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: من أجلها ذرفت عيون، ولتربها حنت قلوب، من أجلها شد الرجال عزائم الأبطال، أحيوا في نفوسهم الحماسة، عرفوا معنى النضال.
إنها فلسطين أرض القدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى نبينا.
إنها فلسطين الأرض المباركة بنص كتاب الله، قال سبحانه: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وقال تعالى: وَنَجَّيْنَـ?هُ وَلُوطًا إِلَى ?لأرْضِ ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:71]. قال ابن كثير: "هي بلاد الشام"، وقال عز من قائل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ?لْقُرَى ?لَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَـ?هِرَةً [سبأ:18]، قال ابن عباس: (القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس).
إنها فلسطين الأرض المقدسة بنص القرآن الكريم: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، قال الزجاج: "المقدسة الطاهرة، سماها مقدسة لأنها طهرت من الشرك، وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين".
إنها فلسطين أرض الأنبياء والمرسلين، فعلى أرضها عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وداود وسليمان وصالح وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وغيرهم الكثير ممن لم تذكر أسماؤهم من أنبياء بني إسرائيل.
إنها فلسطين التي تبسط عليها الملائكة أجنحتها، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((يا طوبى للشام، يا طوبى للشام، يا طوبى للشام)) ، قالوا: يا رسول الله، وبم ذلك؟! قال: ((تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام)) صححه الألباني.
إنها فلسطين أرض المحشر والمنشر، فقد روى الإمام أحمد بسنده وابن ماجه عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي قالت: يا نبي الله، أفتنا في بيت المقدس، قال: ((أرض المحشر والمنشر)).
إنها فلسطين موئل الطائفة المنصورة الثابتة على الحق، فعن أبي أمامة عن النبي قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)) رواه أحمد.
إنها فلسطين مصرع الدجال ومقتله، حيث يلقاه عيسى عليه السلام عند باب لُد، فيذوب كما يذوب الملح في الماء، فيقول له: إن لي فيك ضربة لن تفوتني، فيضربه فيقتله. رواه مسلم.
إنها فلسطين موطن الكثير من صحابة رسول الله ، منهم عبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأسامة بن زيد بن حارثة وواثِلة بن الأَسْقع وفيروز الدَّيلمي ودِحْية الكلبي وعبد الرحمن بن غَنْم الأشعري وأوس بن الصامت ومسعود بن أوس وزِنْباع بن روح الجُذامي، وغيرهم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
إنها فلسطين موطن الآلاف من أعلام الأمة وعلمائها الذين أضاؤوا في سمائها بدورًا ولمعوا فيها نجومًا، ومن هؤلاء مالك بن دينار والأوزاعي ورَوح بن زِنْباع وسفيان الثوري وابن شهاب الزُّهري والشافعي وابن قدامة المقدسي.
نعم، هذه هي فلسطين بعبقها وتاريخها، بخيراتها وبركاتها وفضائلها، بشموخها وكبريائها، هذه هي فلسطين بجمالها الساحر وحسنها الفتان.
أقول والقلب يشدو فِي خَمائلها هذا الجمال إلى الفردوس ينتسب
يا للجبال إذا ما زينت وعلى سفوحها غرد الزيتون والعنب
يا للرُّبى والمروج الخضر مصبحة والورد من كل لون منظر عجب
هنا السموات بالأرض التقيْن وقد عم السرور جميع الكون والطرب
هذي فلسطين يا من ليس يعرفها كأن أحجارها القدسية الشهبُ
نعم، هذه فلسطين يا عباد الله، ما أحببناها لترابها ولا لجبالها، ولكن لبركاتها وخيراتها، ولما لها ولمسجدها الأقصى من مكانة في ديننا.
هذه فلسطين التي من أجلها نَهَد الأبطال وانطلق الرجال. من أجل فلسطين ـ أيها الإخوة ـ شد الأبطال عزائمهم وأسرجوا خيولهم وطاروا يسابقون الريح. من أجل فلسطين أراق الشهداء دماءهم وبذلوا أرواحهم رخيصة. من أجل فلسطين تتابعت التضحيات وعظم البذل.
وكم سجل التاريخ من مواقف عظيمة لأبطال عظماء هبوا دفاعًا عن فلسطين، وما بخلوا بغالٍ ولا نفيس.
لقد سار إليها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه على بعير، يَعْتقب عليه هو وغلام له، حتى إذا اعترضته مخاضة نزل عن بعيره فنزع مُوقَيه وخاض في الماء، ثم لما وصل إلى بيت المقدس صلى في محراب داود عليه السلام، وترنم بسورة الإسراء.
من أجل فلسطين امتنع الملك البطل نور الدين زنكي عن التبسم، وقال: أستحي من الله أن أتبسم وبيت المقدس في الأسر. ومن أجلها وقف هذا الملك الفذّ على تل حارم، وسجد لله ومرّغ وجهه في التراب، ودعا ربه: اللهم انصر دينك ولا تنصر محمودًا، ثم لقي الصليبيين الذين استولوا على بيت المقدس، لقيهم بثلاثين ألفًا وهم أزيد من مائة وخمسين ألفًا، فكسرهم وقتل منهم عشرة آلاف، وأسر عشرة آلاف أو أكثر.
ومن أجل فلسطين شمخ صلاح الدين برأسه، وشحذ سيفه، وأعدّ عدته، ليخرج الصليبيين من أرض الأقصى، كان في بيت المقدس نحو من ستين ألف مقاتل صليبي، كلّهم يرى الموت أهون عليه من تسليمها. لقد جهز صلاح الدين جيشه الذي لا يزيد عن اثني عشر ألف مقاتل، وجابه به جيوش الفرنجة التي تجاوز عددها ثلاثة وستين ألف مقاتل، والتقى الفريقان على أرض حطين، وحاصر المسلمون الصليبيين، وأحرقوا الحشائش الجافة من حولهم ومن تحتهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح، ثم أمر صلاح الدين بالحملة الصادقة، فمنح الله المسلمين أكتاف الفرنج، فقتلوا منهم ثلاثين ألفًا، وأسروا ثلاثين ألفًا، وبيع الأسير الصليبي يومئذ بدرهم، بل باع مسلم أسيرًا صليبيًا بنعلين، فقيل له: ما أردت بذلك؟! قال: أردت أن يكتب التاريخ هوانهم، وأن أحدهم بيع بنعلين.
ومن أجل فلسطين جرد العملاق مظفر قطز سلاحه، ووقف على عين جالوت، ليصد عن فلسطين ومصر طوفان التتار الهادر، لقد بعث له هولاكو وهو في الأشهر الأولى من مُلكه رسالة يقول له فيها: اتَّعظوا بغيركم، فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكا، أيّ أرض تؤويكم؟! وأي طريق تنجيكم؟! وأي بلاد تحميكم؟! فما لكم من سيوفنا من خلاص ومن مهابتنا مناص، الحصون عندنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع، قرأ قطز هذه الرسالة العاصفة، ثم ألقى ببصره ناحية القدس، وكأني به ناجاها فقال لها:
يا دامية العينين والكفين إنّ الليل زائلْ
لا غُرَف التوقيف باقية ولا زُرد السلاسلْ
وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل
ثم أمر بالقبض على الرسل وإعدامهم، وعلقت رؤوسهم على باب زُوَيْلة. وفي رمضان من عام 658هـ اصطدم الجبلان في عين جالوت شمالي شرق فلسطين، وصاح قطز صيحته الشهيرة: وا إسلاماه، فانتفض الجند المسلم، ومنح الله للمسلمين أكتاف الكافرين، وترجّل قطز عن فرسه، ومرَّغ وجهه في التراب شكرًا لله.
ومن أجل فلسطين ضحى عبد الحميد بعرشه ومُلكه، وصكّ سمع هرتزل بكلماته المدويّة: لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدًا من فلسطين؛ لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بدمائهم وسوف نغطّيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها. لقد حاربت كتيبتنا في سوريا وفي فلسطين، وقتل رجالنا الواحد بعد الآخر؛ لأن أحدًا منهم لم يرض بالتسليم، ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل، إنها لن تقسم إلا على جثثنا، لماذا نترك القدس؟! إنها أرضنا في كل وقت وفي كل زمان، لا بد أن تظل القدس لنا.
ومن أجل فلسطين وقف الشيخ يوسف الجرار شيخ الجبل رحمه الله أمام حملات الفرنسيين، وتمكن وحده مع جنده القلة من تدويخ نابليون القائد الشهير الأسطوري الذي دوّخ العالم، واستطاع هذا الشيخ بمن معه أن يصدّ جيوشه عن عكا، ومن ثم عن فلسطين، وأن يبخِّر أحلامه بتأسيس إمبراطورية تمتد من مصر والشارم وصحارى الجزيرة إلى العراق وإيران والهند، وقد بلغ الغيظ بنابليون من هزيمته أمام الشيخ الجرار أن وقف بجوار سور عكّا، وقذف بخوذته إلى الأعلى، وقال: إن لم أدخل أنا فلتدخل خوذتي، وأخذ يقول لأحد ضباطه متأوِّهًا: لو فتحت عكّا لبدّلت وجه العالم، ثم أمر بقذف عكا بجميع ما يملك من مدافع مدى أربعة أيام، وقطع الماء عنها ودمر الكثير من عمارتها.
ومن أجل فلسطين قام الشيخ المجاهد عز الدين القسام ليكون شوكة في حلوق أبناء القردة والخنازير، قام بإمكاناته المتواضعة وعدده اليسيرة، ليجابه مدافع اليهود ورشاشاتهم وقنابلهم، لقد باع بيته الوحيد في حيفا، وباع أصحابه حُليّ زوجاتهم وبعض أثاث بيوتهم، ليوفروا الرصاص والبنادق، وتمكن القسام من أن يقض مضاجع اليهود سبع سنوات كاملات، إلى أن بذل روحه رضية في أحراش قرية "يعبد" بعد معركة استمرت أربع ساعات ونصف.
نعم يا فلسطين، من أجلك نهض هؤلاء.
فدى لعينيك ربيّون ما وهنوا تجدّدين بِهم أيامك الأولا
خضر الطيور هم العليا منازلهم كل يغرد فِي قنديله جذلا
ومن أجل فلسطين ينتفض اليوم أبناء الحجارة، يحملون حصى أرضهم وترابها ليرموا بها وجوه الدخلاء الغاصبين، لقد نطقت حجارتهم حين أخرست المدافع، ووقعوا بدمائهم شهادة ميلاد جيل جديد، لا يؤمن بالخوف ولا يعترف بالعجز ولا يرضى بالهوان. وأقول:
يا جيل المصاحف، يا خمير الأرض، يا طلق الولادة.
ها أنت كالينبوع تدفق في صحارينا، وتمنحنا الوثيقة والشهادة.
أنت الذي سيبدّل الأوزان والأحزان.
يزرع في العيون نخيلَها.
فلكم تباطأ في الرحيل عن القرى عام الرَّمادَة.
أنت الذي يقتات جمر المرحلَة.
ها إن أحبار اليهود تجمعوا، ها إنهم حشدوا لنا.
فاقرأ على تلك الرؤوس الزلزلة.
اقرأ علينا ما تيسر باسم ربك يا بلال.
اقرأ علينا (المؤمنون) وشدّ قوسك، إنّ قوسك لا تطيش بها النبال.
كم ذا سألت فلم يجيبوا، كم ذا سألت فلم يجيبوا.
أنت وحدك من يجيب عن السؤال.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: فمن أجل فلسطين تسيل اليوم هذه الدماء وتتناثر هذه الأشلاء. من أجل فلسطين يحمل الشاب المؤمن روحه على يديه، ويتجلبب بالموت، ويتحول إلى غضب أحمر، إلى لهب حارق، إلى قنبلة بشرية تعصف بأركان اليهود. من أجل فلسطين يصبر أولئك الصامدون تحت لهيب النيران وقصف المدافع وأزيز الطائرات. من أجل فلسطين باع إخواننا هناك أرواحهم لله، إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّا فِي ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ وَ?لْقُرْءانِ وَمَنْ أَوْفَى? بِعَهْدِهِ مِنَ ?للَّهِ [التوبة:111].
ومن أجل فلسطين لا بد أن نعمل نحن كذلك شيئًا، مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نفعل شيئًا، مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقدم لفلسطين شيئا، مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نحدّث أنفسنا بالجهاد ونسأل الشهادة ونعد العدة، ((من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)) رواه النسائي وابن ماجه وأبو داود، ((من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق)) رواه مسلم.
مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن ندعو، أن نستخدم هذا السلاح الهائل الذي طالما قلب الموازين وغير مجرى التاريخ، ((هل تنصرون إلا بضعفائكم)) ، بدعوتهم وإخلاصهم.
مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نحمل هم القضية، أن نتحدث بها في كل مجلس وبكل لسان، أن نجعلها شغلنا الشاغل في صباحنا ومسائنا، أن نعيش في كل خطوة من خطواتنا، أن نُعرِّف بها لنجلو الغشاوة ونحرك القلوب وندفع للعمل.
مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقاطع بضاعة اليهود وأعوان اليهود، نستطيع أن نترفع عن بعض شهواتنا ورغباتنا لئلا تتحول أموالنا إلى رصاصات في صدور إخواننا، نستطيع أن ندوس بأقدامنا على بعض ما نحب ونألف لئلا نخذل المجاهدين على أرض الرباط، نستطيع أن نحرم أنفسنا رغباتها، فنهز بذلك اقتصاد أولئك الذين بأموالهم وأسلحتهم يُقتل إخواننا، نستطيع أن نكون سببًا في إغلاق محلات واضطراب أخرى، وكم رأينا وسمعنا.
مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نقتطع من أموالنا وقوتنا للتبرع لإخواننا. مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نربي جيلاً جديدًا على الإيمان واليقين والجهاد وبغض القتلة المارقين، ليكون هذا الجيل بإذن الله طلائع جيل النصر المنشود، وتعقد على يديه ألوية الظفر لأمة الإسلام. مهما كنا ضعفاء فإننا نستطيع أن نفعل الكثير من أجل فلسطين.
المهم أيها الأخ الكريم، أن لا تنطوي صفحة هذه الأحداث وقد عشتها واصطليت بلهبها دون أن يكون لك فيها أثر، المهم أن لا يقضى الأمر وينفض السامر ولم يكتب في كتابك أنك عملت لفلسطين شيئًا، المهم أن لا تكون عالة على أمتك، المهم أن لا تخذل إخوانك هناك، أن لا تنسى النصوص القرآنية الصريحة: وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71]، إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103].
(1/4197)
يوم الجمعة: أحكام وحكم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عادل بن أحمد باناعمة
جدة
14/1/1423
محمد الفاتح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل يوم الجمعة. 2- خصائص يوم الجمعة. 3- بعض المسائل المتعلقة بصلاة الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذا يوم مباركة أوقاته، طيبةٌ ساعاتُه، يوم اصطفاه الله من بين سائر أيام الأسبوع، وجعل له من الخصائص والمزايا ما شرف بها على غيره.
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي أنه قال: ((نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له)) ، وروى مالك في الموطأ وأبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: ((خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أُهبط، وفيه تِيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مُصِيخَة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا الجنّ والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها))، قال كعب: ذلك في كلّ سنة يوم، فقلت: بل في كل جمعة، فقرأ كعب التوراة فقال: صدق رسول الله.
وبلغ من فضل هذا اليوم وشرفه أن العلماء قد اختلفوا في المفاضلة بينه وبين يوم عرفة.
وما وردت به النصوص من فضائل هذا اليوم أكثر من أن تحصى في مقام كهذا.
فمن ذلك أن فيه ساعة الإجابة، وهي الساعة التي لا يسأل اللهَ عبدٌ مسلمٌ فيها شيئًا إلا أعطاه، كما صح بذلك الحديث عند البخاري ومسلم (852).
وفي تحديد هذه الساعة أقوال عديدة، تزيد على أحد عشر قولاً، أرجاها كما قال ابن القيم قولان: الأول: من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة، والثاني: بعد العصر، وهذا أرجح القولين، وهو قول عبد الله بن سلاَم وأبي هريرة والإمام أحمد وخلق، ويشهد له حديث جابر: ((يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، لا يوجد مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر)) رواه أبو داود (1048) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وصححه النووي والألباني وحسنه ابن حجر.
ومن ذلك الندب لقراءة سورة الكهف فيه، وقد جاء في الحديث بسند يصح إن شاء الله أن النبي قال: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة، وغفر له ما بين الجمعتين)) رواه الحاكم.
ومن ذلك استحباب كثرة الصلاة على النبي فيه، وفي الحديث الحسن عند البيهقي: ((أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة))، والرسول سيد الأنام، ويوم الجمعة سيد الأيام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزية ليست لغيره.
ومن ذلك استحباب قراءة سورتي الم تَنزِيلُ [سورة السجدة]، وهَلْ أَتَى? عَلَى ?لإِنسَـ?نِ [سورة الإنسان] في فجره، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه (879).
قال ابن القيم رحمه الله في الزاد (1/375): "ويظنّ كثير ممن لا علم عنده، أن المراد تخصيص هذه الصلاة بسجدة زائدة، ويسمونها سجدة الجمعة، وإذا لم يقرأ أحدهم هذه السورة استحب قراءة سورة أخرى فيها سجدة، ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعًا لتوهم الجاهلين. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إنما كان النبي يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة، لأنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المعاد وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة، وكان في قراءتهما في هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه وما يكون، والسجدة جاءت تبعًا ليست مقصودة، حتى يقصد المصلي قراءتها حيث اتفقت".
ومن خصائص الجمعة كذلك الأمر بالاغتسال فيه، قال ابن القيم في الزاد (1/376): "وهو أمر مؤكد جدًا، ووجوبه أقوى من وجوب الوتر وقراءة البسملة في الصلاة ووجوب الوضوء من مس الذكر ووجوب الصلاة على النبي في التشهد الأخير".
ومن خصائص الجمعة أن للصدقة فيه مزية عليها في سائر الأيام، والصدقة فيه بالنسبة إلى سائر أيام الأسبوع كالصدقة في شهر رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور، قال ابن القيم في الزاد (1/407): "وشاهدت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه إذا خرج إلى الجمعة يأخذ ما وجد في البيت من خبز أو غيره فيتصدق به في طريقه سرًا، وسمعته يقول: إذا كان الله قد أمرنا بالصدقة بين يدي مناجاة رسوله فالصدقة بين يدي مناجاته تعالى أفضل وأولى بالفضيلة".
ومن خصائصه أيضًا عدم جواز السفر فيه لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها، وأما قبل دخوله فللعلماء فيه أقوال، والمختار عند مالك أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى يصلي الجمعة، ورخص عمر رضي الله عنه في السفر ما لم تزل الشمس ويحضر وقت الصلاة، والأصح أن له أن يسافر ما لم يدخل وقت الصلاة، فإذا حان وقت الصلاة وهو من أهل وجوبها لم يجز له أن يسافر حتى يؤديها. وهذا إذا لم يخف فوت رفقته، فإن خاف فوت رفقته وانقطاعه بعدهم جاز له السفر مطلقًا؛ لأن هذا عذر تسقط به الجمعة والجماعة.
ولا ريب أن من أهم خصائص هذا اليوم، وأجلى سماته أداء صلاة الجمعة، هذه الصلاة التي عظم النبي من شأنها حتى قال: ((لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أُحَرِّق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)) رواه مسلم.
وكان أسعد بن زرارة رضي الله عنه أول من جمّع بالمدينة قبل مقدم رسول الله في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات، وكانوا يومذاك أربعين رجلاً.
قال ابن القيم في الزاد (1/373): "كان هذا مبدأ الجمعة، ثم قدم رسول الله المدينة فأقام بقُباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس، وأسس مسجدهم ثم خرج يوم الجمعة، فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي، وكانت أول جمعة صلاها بالمدينة، وذلك قبل تأسيس مسجده".
ولما كان البعض من الناس يغفل عن مسائل مهمة تتعلق بهذه الصلاة العظيمة وجب التنبيه إلى ذلك والإشارة إليه، ولا سيما مع تكرر الشكوى من عدد من فضلاء الحي من ممارسات تكون وقت الصلاة غيرها أولى منها وأجدر. وأنا أشير في هذا المقام إلى جملة من المسائل، وأوفيها حقها من النظر والتمحيص بإذن الله.
1- يستحب للمسلم أن يلبس يوم الجمعة أحسن الثياب التي يقدر عليها، ففي سنن أبي داود (1078) بسند حسن عن عبد الله بن سلاَم أنه سمع رسول الله يقول على المنبر يوم الجمعة: ((ما على أحدكم إن وجدتم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)).
ويسن أن يتنظف للجمعة بقص شاربه وتقليم أظافره وقطع الروائح الكريهة بالسواك وغيره، وأن يتطيب بما يقدر عليه ويأخذ من طيب أهله.
ووقت الغُسل بعد طلوع الفجر، فمن اغتسل بعد ذلك أجزأه، وإن اغتسل قبله لم يجزئه، لقول النبي : ((من اغتسل يوم الجمعة))، واليوم من طلوع الفجر، وإن اغتسل ثم أحدث أجزأه الغسل وكفاه الوضوء.
2- كما يستحب فيه تَجْمير المسجد، فقد ذكر سعيد بن منصور عن نعيم بن عبد الله المجمِر أن عمر بن الخطاب أمر أن يُجمر مسجد المدينة كل جمعة حين ينتصف النهار.
3- ومن مهمات مسائل الجمعة استحباب التبكير إليها، ففي الصحيحين أنه قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسلَ الجنابة ثم راح فكأنما قرب بَدَنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقْرَن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)).
وقد ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد والثوري وغيرهم إلى أن التبكير إليها يكون من أول النهار، قال الشافعي رحمه الله: "ولو بكر إليها بعد الفجر وقبل طلوع الشمس كان حسنًا"..
وعن سمرة أن النبي قال: ((احْضُروا الذِّكر، وادْنُوا من الإمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخر في الجنة وإن دخلها)) رواه أبو داود وأحمد.
ودلت السنة على أن اليمين أفضل من اليسار عند التقارب أو التساوي، وأما مع البعد فقد دلت السنة على أن اليسار الأقرب أفضل، ودليل ذلك أن الناس كانوا إذا وجد جماعة ثلاثة فإن الإمام يكون بين الرجلين، ولو كان اليمين أفضل على الإطلاق لصار مقام الرجلين مع الرجل عن اليمين، وطرف الصف الأول من اليمين أو اليسار خير من الصفّ الثاني وإن كان خلف الإمام.
4- ويجب الإنصات للخطبة في أصح القولين، فإن تركَه كان لاغيًا، ومن لغا فلا جمعة له، وعند البخاري ومسلم: ((إذا قلت لصاحبك: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغوت)) ، وفي رواية أحمد: ((والذي يقول لصاحبه: أنصت فلا جمعة له)).
وإذا سمع الإنسان متكلمًا لم ينهه بالكلام، ولكن يشير إليه، نص عليه أحمد، فيضع أصبعه على فيه.
5- ويستحب أن يستقبل الناس الخطيب إذا خطب، قال الأَثْرم: قلت لأبي عبد الله: يكون الإمام عن يميني متباعدًا، فإذا أردت أن أنحرف إليه حولت وجهي عن القبلة، فقال: نعم تنحرف إليه، وممن كان يستقبل الإمام ابن عمر وأنس، وهو قول شُرَيح وعطاء ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، قال ابن المنذر هذا كالإجماع، وعند ابن ماجه كان النبي إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم.
6- وما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام قضية تخطي الرقاب، فإن البعض غفر الله لنا وله لا يولي هذا الأمر حقه، ويتساهل فيه، وقد جاء في صحيح البخاري عن سلمان قال: قال رسول الله : ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدَّهِنَ من دُهْنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) ، وفي مسند أحمد: ((ولم يتخط أحدا ولم يؤذه وركع ما قضي له ثم انتظر حتى ينصرف الإمام غفر له ما بين الجمعتين)).
وفي مسند أحمد وسنن أبي داود (1113) بسند حسن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها يلغو وهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة له إلى يوم الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك أن الله يقول: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160] )) وحسنه الألباني. فتأمل كيف قيد تمام الأجر بأن لا يفرق المصلي بين اثنين، ولا يتخطى أحدًا، ولا يتجاوز رقبة مسلم.
قال العلامة البهوتي: "ويكره أن يتخطى رقاب الناس لما روى أحمد أن النبي وهو على المنبر رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال: ((اجلس فقد آذيت)) ، ولما فيه من سوء الأدب والأذى، إلا أن يكون إمامًا فلا يكره أن يتخطى رقاب الناس للحاجة لتعيين مكانه، وألحق به المؤذن".
ولكن ها هنا أمر آخر ينبغي التنبه له، وهو أن على من بكَّر إلى المسجد أن يتقدم إلى الصفوف الأولى، وأن لا يدع أمامه فُرجات تضطر من جاء بعده إلى تخطي رقبته. وقد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله أن المصلي إذا رأى فُرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي فلا يكره؛ لأن هؤلاء المتأخرين أسقطوا حق أنفسهم بتأخرهم.
ولابن قدامة رحمه الله في المغني (3/231) كلام نفيس خلاصته أن المصلين إذا تركوا مكانًا واسعًا مثل الذين يصفُّون في آخر المسجد ويتركون بين أيديهم صفوفًا خالية فهؤلاء لا حرمة لهم كما قال الحسن؛ لأنهم خالفوا أمر النبي ورغبوا عن الفضيلة وخير الصفوف، وجلسوا في شرها، ولأن تخطيهم مما لا بد منه، وأما إن كانت الفُرج المتقدمة لم تنشأ من تفريط من سبق وإنما جلسوا في مكانهم لامتلاء ما بين أيديهم ثم شغرت أماكن فالأَولى أن لا يتخطّى إليها ومتى لم يمكن الصلاة إلا بالدخول وتخطيهم جاز لأنه موضع حاجة.
والخلاصة أن على من سبق إلى المسجد أن لا يدع فرجة أمامه، وأن المصلّي إذا جاء بأخَرة فوجد فرجات كبيرة تركها من سبقه فله أن يتخطى إليها، وإن كان الأولى ـ كما قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ـ أن لا يتخطى حتى ولو إلى فرجة، لأن العلة وهي الأذية موجودة.
_________
الخطبة الثانية
_________
7- وليس للجمعة على الأصح سنة راتبة قبلية، وعليه فليس من الأولى أن يقوم الجالس بعد أذان الخطبة لصلاة ركعتين، قال ابن القيم في الزاد (1/433): "وكان إذا فرغ بلال من الأذان أخذ النبي في الخطبة، ولم يقم أحد يركع ركعتين البتة، ولم يكن الأذان إلا واحدًا، وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد لا سنة قبلها، وهذا أصح قولي العلماء، وعليه تدل السنة، وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي".
وإنما يصلي الإنسان حال وصوله المسجد ركعتين تحية للمسجد، وإن شاء أن يصلي صلاة كثيرة من باب التطوع المطلق فلا حرج عليه، وكذلك كان يفعل ابن عمر رضي الله عنه، وقد نقل عنه أنه كان يصلي قبل الجمعة ثنتي عشرة ركعة، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يصلي ثمان ركعات، وروي عن ابن مسعود أنه كان يصلي قبلَه أربع ركعات.
فإذا خرج الإمام للخطبة وهو في نافلة خففها، ولو كان نوى أربعًا صلى ركعتين ليستمع الخطبة، ويحرم ابتداء نافلة بعد خروج الإمام للخطبة غير تحية مسجد، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر.
وفي الصحيحين من حديث جابر قال: جاء رجل والنبي يخطب الناس فقال: ((أصليت يا فلان؟)) قال: لا، قال: ((قم فاركع)) ، ولمسلم قال: ثم قال: ((إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما)).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "أمّا النّبِيُّ فإِنّهُ لم يكُن يُصلِّي قبل الجُمُعةِ بعد الأذانِ شيئًا، ولا نقل هذا عنهُ أحدٌ، فإِنّ النّبِيّ كان لا يُؤذّنُ على عهدِهِ إلا إذا قعد على المِنبرِ، ويُؤذِّنُ بِلالٌ ثُمّ يخطُبُ النّبِيُّ الخُطبتينِ، ثُمّ يُقِيمُ بِلالٌ فيُصلِّي النّبِيُّ بِالنّاسِ، فما كان يُمكِنُ أن يُصلِّي بعد الأذانِ، لا هُو ولا أحدٌ مِن المُسلِمِين الّذِين يُصلُّون معهُ ، ولا نقل عنهُ أحدٌ أنّهُ صلّى فِي بيتِهِ قبل الخُرُوجِ يوم الجُمُعةِ، ولا وقّت بِقولِهِ صلاة مُقدّرة قبل الجُمُعةِ، بل ألفاظُهُ فِيها التّرغِيبُ فِي الصّلاةِ إذا قدِم الرّجُلُ المسجِد يوم الجُمُعةِ مِن غيرِ توقِيتٍ، كقولِهِ: ((من بكّر وابتكر ومشى ولم يركب وصلّى ما كُتِب لهُ)). وهذا هُو المأثُورُ عن الصّحابةِ، كانُوا إذا أتوا المسجِد يوم الجُمُعةِ يُصلُّون مِن حِينِ يدخُلُون ما تيسّر، فمِنهُم من يُصلِّي عشر ركعاتٍ، ومِنهُم من يُصلِّي اثنتي عشرة ركعةً، ومِنهُم من يُصلِّي ثمانِ ركعاتٍ، ومِنهُم من يُصلِّي أقلّ مِن ذلِك، ولِهذا كان جماهِيرُ الأئِمّةِ مُتّفِقِين على أنّهُ ليس قبل الجُمُعةِ سُنّةٌ مُؤقّتةٌ بِوقت مُقدّرةٌ بِعددِ، لأنّ ذلِك إنّما يثبُتُ بِقولِ النّبِيِّ أو فِعلِهِ، وهُو لم يسُنّ فِي ذلِك شيئًا لا بِقولِهِ ولا فِعلِهِ، وهذا مذهبُ مالِكٍ ومذهبُ الشّافِعِيِّ وأكثرِ أصحابِهِ، وهُو المشهُورُ فِي مذهبِ أحمد.
قال ابن عثيمين رحمه الله في الشرح الممتع (5/104): "فإن قلت: هل تختارون لي إذا جئت يوم الجمعة أن أشغل وقتي بالصلاة أو بقراءة القرآن؟ الجواب: نرى أن ركعتين لا بد منهما وهما تحية المسجد، وما عدا ذلك ينظر الإنسان ما هو أرجح له، فإذا كنت في مسجد يزدحم فيه الناس ويكثر المترددون بين يديك فالظاهر أن قراءة القرآن أخشع لقلب الإنسان وأفيد، وإذا كنت في مكان سالم من التشويش فلا شك أن الصلاة أفضل من القراءة؛ لأن الصلاة تجمع قراءة وذكرًا ودعاء وقيامًا وقعودًا وركوعًا وسجودًا".
وأما بعد الجمعة فقد جاء في الحديث عند مسلم (881): ((إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعًا)) ، وفي الصحيحين عن ابن عمر أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال: كان رسول الله يصنع ذلك.
وجمعُ ما بين الحديثين ما قاله ابن تيمية رحمه الله: "إن صلى في المسجد صلى أربعًا، وإن صلى في البيت صلى ركعتين". ويؤيد هذا ما رواه أبو داود (1130) بإسناد قوي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا صلى في المسجد صلى أربعًا، وإذا صلى في بيته صلى ركعتين.
8- ومن مسائل صلاة الجمعة أنها لا تجمع مع العصر في محلّ يبيح الجمع بين الظهر والعصر.
9- ولا يكره لمن فاتته الجمعة صلاة الظهر جماعة، فإن خاف فتنة أو ضررًا أخفاها وصلى حيث يأمن ذلك.
10- ويكره أن يسند ظهره إلى القبلة، نص عليه، واقتصر الأصحاب على الاستحباب في استقبالها.
11- ومن نعس سُنّ انتقاله من مكانه إن لم يتخطَ أحدًا في انتقاله، لقوله : ((إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
12- وأما الاحتباء يوم الجمعة فالأولى تركه لأجل ما ورد من النهي عنه في حديث سهل بن معاذ عند أبي داود وإن كان ضعيفًا، ولأنه يكون متهيئًا للنوم والوقوع وانتقاض الوضوء، فيكون تركه أولى والله أعلم، ويحمل النهي في الحديث على الكراهة، ويحمل أحوال الصحابة الذين فعلوا ذلك على أنهم لم يبلغهم الخبر.
وقد ذهب بعض الحنابلة إلى أنه لا بأس بالاحتباء يوم الجمعة والإمام يخطب، وذلك لما رواه مالك عن ابن عمر وجماعة من أصحاب الرسول من أنهم كانوا يفعلون ذلك. وقد قال أبو داود: لم يبلغني أن أحدًا كرهه إلا عبادة بن نُسَيّ، وروى يعلى بن شداد بن أوس قال: شهدت مع معاوية بيت المقدس، فجمع بنا، فنظرت فإذا جل من في المسجد أصحاب رسول الله ، فرأيتهم محتبين والإمام يخطب. والأولى كما أسلفت الامتناع عن ذلك.
13- ومن المسائل المهمة مسألة قضاء ما فات من الجمعة، فالمأموم إذا أدرك من صلاة الجمعة ركعة أتمها جمعة، أما إذا جاء وقد رفع الإمام رأسه من ركوع الركعة الثانية فإنه يدخل معه ولكنه يتمها ظهرًا أي: أربع ركعات، وذلك لقوله : ((من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة)) رواه الشيخان، وعند النسائي في السنن الكبرى: ((من أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت صلاته)) ، ومفهوم ذلك أنه إذا أدرك أقل من ذلك لم يكن مدركًا لها. قال ابن عثيمين في الشرح الممتع (5/62): "القول الثاني: أنه إذا دخل معه بنية الجمعة فتبين أنه لا يدرك ركعة فلينوها ظهرًا بعد سلام الإمام، وهذا هو القول الصحيح".
(1/4198)
بادروا بالأعمال
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, اغتنام الأوقات, الفتن
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التعجيل بالأعمال الصالحة قبل حلول الفتن. 2- استدراك ما فات من الزمان بالتوبة النصوح. 3- اغتنام الزمان الحاضر بالعمل الصالح. 4- الفتن الصغار والكبار. 5- سبل الوقاية من الفتن. 6- أشراط الساعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فعن أبي هريرة قال: قال : ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أحدكم دينه بعرض من الدنيا قليل)) رواه مسلم، وعنه قال: قال : ((بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها، والدخان، ودابة الأرض، والدجال، وخويصة أحدكم، وأمر العامة)) روه مسلم، وعن عابس الغفاري قال: قال : ((بادروا بالأعمال ستا: إمارة السفهاء، وكثرة الشُّرَط، وبيع الحكم، واستخفافا بالدم، وقطيعة الرحم، ونشوًا يتخذون القرآن مزامير، يقدمون أحدهم ليُغَنِّيَهم وإن كان أقلَّهم فقها)) رواه أحمد والطبراني وصححه الألباني في صحيح الجامع (2812)، وعن أبي هريرة قال: قال : ((بادروا بالأعمال سبعا: هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هَرَمًا مُفْنِيا، أو موتا مُجْهِزًا، أو الدجالَ فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعةُ أدهى وأمرّ)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
في هذه الأحاديث الأربعة الشريفة يأمرنا بالمبادرة بالأعمال، أي: الإسراع بالأعمال الصالحة والتعجيل بها قبل أن تأتي هذه الفتن وهذه الصوارف التي تعيق الإنسان عن العمل الصالح.
فأنت ـ أيها الإنسان ـ بين زمن مضى لا تستطيع رده، وبين زمن مستقبل لا تدري هل تدركه أم لا، وإذا أدركته هل ستستطيع فيه العمل الصالح أم ستعجز عنه، وبين زمن حاضر إما أن تستفيد منه وتكثر فيه من العمل الصالح، وإما أن يذهب منك وأنت لا تشعر، فتندم حين لا ينفع الندم.
أيها المسلمون، استدركوا ما فات من زمانكم بالتوبة النصوح مما فرطتم فيه، واغتنموا زمانكم الحاضر بالإكثار من العمل الصالح، كالصلاة والصدقة والصيام وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والذكر والدعاء وحسن الخلق وطلب العلم والدعوة إلى الله وغير ذلك من أبواب الخير، وهي كثيرة بحمد الله، ودلُّوا إخوانكم عليها، فإن الدال على الخير كفاعله، واعزموا على الاستمرار في الطاعة والازدياد منها في مستقبلكم، فإن الإنسان يدرك بنيته ثواب العمل الصالح الذي عزم عليه، ولكن منعه عذر من فعله.
وقد أمرنا الله سبحانه بالمسابقة إلى الخيرات والمسارعة إليها، فقال سبحانه: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، وقال سبحانه: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
والمسارعة والمسابقة والمبادرة معناها التعجيل بتحصيل شيء يفوت بالتأخر في طلبه ويندم الإنسان على فواته، فما بالك إذا كان هذا الشيء الفائت هو الجنة والمغفرة؟! ولا بديل لمن فاته ذلك إلا النار والعذاب الأليم، فما أعظم الحسرة وأفدح الخسارة.
أيها المسلمون، إن من فوائد التعجيل بالأعمال الصالحة في زمن الرخاء والراحة والصحة والفراغ والغنى أن من فعل ذلك عرفه الله سبحانه في أوقات الفتن والشدائد، فثبته وسلَّمه في دينه، وكتب له أجر ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، كما قال : ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقد بلغ من إسراعه بالخير أنه صلى العصر يوما فسلم فتخطى الرقاب، ودخل البيت بسرعة فأخرج ذهبا فقسمه على الناس، وقال: ((إنه صدقة فكرهت أن أبيته)).
أيها المسلمون، في الحديث الأول يحذر النبي أمته من الفتن التي هي مثل قطع الليل المظلم في التباس أمرها على أكثر الناس وانتشارها وكثرتها وتتابعها، والفتن هي تلك الأمور التي تفتن المؤمن عن دينه، أي: تصرفه عنه وتكون سببا في نقصان إيمانه أو زواله بالكلية والعياذ بالله بسبب الرغبة في شيء من أمور الدنيا؛ كمال أو جاه أو رياسة أو نساء، أو رهبة من شيء من أمور الدنيا يخوَّف به؛ كزوال نعم أو حلول مصائب فيؤثر الدنيا على الدين، وهذه الفتن التي حذر منها النبي سيبلغ من قوتها أن الرجل يصبح مؤمنا ثم يتعرض لهذه الفتنة فلا يصبر فيكفر ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ثم يتعرض لهذه الفتنة فيكفر فيصبح كافرا والعياذ بالله.
والفتن منها صغار وكبار، فالصغار كفتنة الأهل والمال والولد والجار، أي: ما يقع بسبب هذه الأمور من صغائر الذنوب ونقصان الإيمان، وتكفيرها بالصلاة والصيام والصدقة، والفتن الكبار هي التي بدأت بقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وستستمر وتكثر في آخر الزمان.
روى البخاري عن حذيفة بن اليمان أن عمر بن الخطاب قال: أيكم يحفظ قول رسول الله في الفتنة؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ كما قال، قال: هات إنك لجريء، قال: قال رسول الله : ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) ، قال: ليست هذه، ولكن التي تموج كموج البحر، قال: يا أمير المؤمنين، لا بأس عليك منها، إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال: يفتح الباب أو يُكسر؟ قال: لا بل يُكسر، قال: ذلك حري أن لا يغلق. فسأل مسروق حذيفة: من الباب؟ قال حذيفة: هو عمر.
وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: نادى منادي النبي : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله فقال: ((إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعمله لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء شديد وأمور تنكرونها، وتجيء فتن فيرفق بعضها بعضا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي، ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه، فمن أحب منكم أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه)).
والمخرج من هذه الفتن كما أرشد هو المبادرة إلى الأعمال الصالحة في أوقات الرخاء والتعوذ بالله من الفتن، فعن زيد بن ثابت قال: قال : ((نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) ، ولزوم جماعة المسلمين أي: الذين يتمسكون بما كان عليه النبي وأصحابه، ولزوم إمام المسلمين إن كان لهم إمام.
في الحديث الثاني: يأمر بالمبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن تأتي ستة أمور، منها أربعة من علامات الساعة الكبرى، وهي:
1- طلوع الشمس من مغربها؛ وذلك أن الشمس تخر ساجدة تحت عرش الله تعالى، وهو مستقرها كل ليلة، وتستأذن ربها أن تطلع فيؤذن لها، حتى إذا كان قرب يوم القيامة استأذنت فلم يؤذن لها، وقيل لها: عودي من حيث أتيت، فتطلع من مغربها، وحينئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا.
2- الدخان، قال تعالى: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10، 11]، وهو من علامات الساعة الكبرى، وهو دخان يملأ ما بين السماء والأرض، فيصيب المؤمن منه كالزكمة، وأما الكافر فينتفخ من هذا الدخان حتى يخرج مما معه فيثقبها.
3- الدابة، قال تعالى: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]. وهي حيوان عظيم يدبّ على الأرض ويكلم الناس، ومعها عصا موسى تجلو بها وجه المؤمن حتى يشرق، ومعها خاتم سليمان تخطم به أنف الكافر ـ أي: تكويه أو تجرحه ـ علامة على كفره. جاء ذلك في حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي وصححه أحمد.
4- الدجال، وهو رجل كافر من بني آدم، شاب أحمر قصير، جعد الرأس، ممسوح العين اليمنى كأنها عنبة طافية، وعينه اليسرى عليها لحمة غليظة، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤها كل مسلم كاتب أو غير كاتب، وهو عقيم لا يولد له، يخرج في آخر الزمان فيدعي الربوبية، ويفتن الناس، وتقع له خوارق. ومن علامات الساعة أن يترك الناس ذكره على المنابر.
5، 6- خويصة نفسك وأمر العامة؛ أي: يكثر الشر والخيانة، فيصبح عامة الناس كذلك، ولا يثق المسلم إلا بأفراد معدودين لرفع الأمانة من الناس.
وفي الحديث الثالث ذكر النبي من أشراط الساعة إمارة السفهاء وكثرة الشُرْطة وانتشار رشوة الحكام وكثرة القتل واستخفاف الناس بحرمة الدماء وقطيعة الرحم ووجود من يقرأ القرآن ولا يعمل به ولا يتدبره، بل يتخذه كالأغاني ليطرب به الناس.
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4199)
سنن العيد وأحكام صلاة عيد الفطر
فقه
الزكاة والصدقة, الصلاة
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- زكاة الفطر. 2- وقت التكبير وصفته. 3- إدخال السرور على الأهل والأولاد. 4- شهود النساء صلاة العيد. 5- الذهاب مشيا. 6- أكل تمرات قبل الخروج للعيد. 7- التحذير من أعياد المشركين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد أوشك الشهر الكريم على الرحيل، فنسأل الله تعالى أن يتقبل منا أحسن ما عملناه، وأن يتجاوز عن سيئاتنا وتقصيرنا، وأن يختم لنا هذا الشهر الكريم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار.
أيها المسلمون، مما يُشرع لنا في نهاية الشهر الكريم شهر رمضان زكاة الفطر التي هي طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وقد فرضها رسول الله صاعا من طعام، على الصغير والكبير والذكر والأنثى من المسلمين. فبادروا إلى إخراج زكاة فطركم.
ومما يشرع لنا كذلك في نهاية الشهر تكبير الله تعالى، قال الله عز وجل: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185]، أي: لتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم، فكما شرع ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الصلاة وشُرع عند انقضاء مناسك الحج كما قال تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200] شرع كذلك عند انقضاء الصوم ذكر الله تعالى بالتكبير، ويبدأ وقته من رؤية هلال شوال أو غروب شمس آخر ليلة من رمضان، وينتهي وقته بصلاة العيد.
وصيغة التكبير كما جاء عن ابن مسعود : (الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد).
ويشرع الجهر بالتكبير عقب الصلوات، وعند الخروج إلى مصلى العيد في الطريق، وفي المصلى أثناء انتظار الصلاة، وكلما تذكر المسلم يشرع له تكبير الله تعالى شكرا له على توفيقه لنا وإنعامه علينا.
ويشرع للمسلم يوم العيد أن يلبس أجمل ثيابه؛ لما جاء عن علي أن النبي كان يلبس بُرْدَ حِبَرَة في كل عيد. رواه الشافعي والطبراني. وروى ابن خزيمة عن جابر أن النبي كان يلبس برده الأحمر في العيدين والجمعة. وبرد الحِبَرَة: نوع من البرود يصنع باليمن.
ويشرع للمسلم إدخال السرور على أهله وأولاده يوم العيد، وأن يهنئ المسلمون بعضهم بعضا بقول: تقبل الله منا ومنكم.
ويستحب الاغتسال قبل الخروج لصلاة العيد؛ لورود ذلك من فعل جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
وصلاة العيد شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام، يشرع أن يخرج إليها المسلمون، رجالا ونساءً وصغارا وكبارًا. عن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى العواتق والحُيَّض وذوات الخدور ـ العواتق اللائي قاربن البلوغ، وذوات الخدور الشابات الأبكار ـ فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب، قال: ((لتلبسها أختها من جلبابها)) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن، وزاد أبو داود في روايته: والحُيَّض يكن خلف الناس يكبرن مع الناس.
وفيه مشروعية التكبير للنساء ولكن سرا، وأن تخرج النساء لصلاة العيد في جلابيبهن وحجابهن السابغ.
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن صلاة العيد فرض عين، وذهب الإمام أحمد إلى أنها فرض كفاية، وذهب الإمامان مالك والشافعي إلى أنها سنة.
ويستحب أن يذهب إلى صلاة العيد ماشيا وأن يرجع ماشيا إذا استطاع ذلك؛ لما فيه من إظهار شعار الإسلام في الطرقات، ويستحب أن يرجع من غير الطريق الذي ذهب منه كما رواه البخاري.
وعن أنس قال: كان النبي لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا. رواه البخاري. وفيه استحباب أكل تمرات وترا قبل الخروج إلى صلاة عيد الفطر.
وعلى المسلم الحرص على التبكير يوم العيد لحضور الصلاة، والحرص على الاستماع إلى خطبة العيد بعد الصلاة.
أيها المسلمون، إن الأعياد من شعائر الإسلام التي يتميز بها المسلمون عن أعياد المشركين، فلا يجوز للمسلم أن يحتفل بأعياد المشركين ولا أن يهنئ المشركين بها بإجماع العلماء، قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72]، قال أبو العالية وابن سيرين وطاووس وكثير من السلف: "أي: لا يشهدون أعياد المشركين".
ولما دخل النبي المدينة وجد أهلها يحتفلون بيومين من أعياد الجاهلية، فنهاهم النبي وقال: ((إن الله أبدلكم بهما يومين خيرا منهما: يوم الفطر ويوم الأضحى)).
والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4200)
ماذا بعد رمضان؟!
فقه
الصوم
وليد بن إدريس المنيسي
مينيسوتا
دار الفاروق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الانسلاخ من آيات الله. 2- أحب العمل إلى الله القليل الدائم. 3- فضل صوم ستة أيام من شوال. 4- الاستقامة إلى الممات. 5- الحذر من مكايد الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد حذَّرنا الله تعالى في كتابه الكريم من أن نكون مثل بلعم بن باعوراء، وهو رجل من بني إسرائيل، ذاق حلاوة الإيمان وآتاه الله آياته، ثم انقلب على عقبيه واشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها.
قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175، 176].
وحذَّرنا ربنا سبحانه أن نكون مثل امرأة مجنونة كانت بمكة، اسمها ريطة بنت سعد، كانت تغزل طول يومها غزلاً قويًا محكما ثم تنقضه أنكاثا، أي: تفسده بعد إحكامه، فقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمْ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [النحل:92].
ومعنى: تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أي: تعاهدون قوما على أن تكونوا معهم، وهذا العهد خديعة، فإذا وجدتم أمة أربى منهم ـ أي: أكثر وأعز ـ غدرتم بعهد الأولين وعاهدتم الآخرين.
وهذه التحذيرات القرآنية تنطبق على من ذاق حلاوة طاعة الله تعالى في رمضان، فحافظ فيه على الواجبات وترك فيه المحرمات، حتى إذا انقضى الشهر المبارك انسلخ من آيات الله، ونقض غزله من بعد قوة أنكاثا.
أيها المسلمون، إن كثيرًا من المسلمين ـ هداهم الله ـ يكونون في رمضان من الذين هم على صلاتهم يحافظون، فإذا انقضى رمضان أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وكثير من المسلمين يجتنبون في رمضان شرب الدخان ومشاهدة المحرمات وسماع الأغاني، فإذا انقضى رمضان عادوا إلى ما كانوا عليه من الباطل، وهؤلاء يُخشى عليهم أن يُختم لهم بالسيئات أعاذنا الله وإياكم.
أيها المسلمون، إن كثيرا من المسلمين كانوا يعمرون المساجد في رمضان بطاعة الله وبحضور مجالس الذكر، وكانوا يقضون أوقاتهم في تلاوة كتاب الله وتدبره، فإذا انقضى شهر رمضان هجروا المساجد وهجروا كتاب الله. فاتقوا الله عباد الله.
لقد سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كيف كان عمل رسول الله ؟ قالت: كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله يستطيع. رواه مسلم. وروى مسلم أيضا أن النبي قال: ((إن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قل)).
فعلى المسلم أن يلزم نفسه بقدر من العبادات يستطيع أن يداوم عليه ولو كان قليلاً، فإنه سيكون كثيرًا بالمداومة عليه، وسيكون محببا إلى رب العزة سبحانه وتعالى.
من الأعمال الصالحة التي تشرع لنا بعد رمضان صيام ستة أيام من شوال، عن أبي أيوب قال: قال : ((من صام رمضان وأتبعه ستا من شوال فذلك صيام الدهر)) رواه مسلم. وذلك أن شهر رمضان بعشرة أشهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وستة أيام بستين يوما أي: بشهرين، وذلك يعادل أجر صيام سنة كاملة، فلا يفوتكم هذا الفضل العظيم.
ولا يشترط في هذه الأيام الستة التتابع، ولا أن تكون مباشرة بعد يوم العيد، بل يجزئ صيام أي ستة أيام من شوال.
ويمكن أن يجعلها في أيام الاثنين والخميس أو في غيرها. واختلف العلماء فيمن كان عليه أو كان عليها قضاء أيام من رمضان، هل ينال فضل صيام ست من شوال إذا صامها قبل قضاء ما عليه من رمضان أم لا؟ وفضل الله واسع، ولن يحرم المسلم الأجر ـ بإذن الله ـ إذا صامها ولو قبل القضاء، فإن حاز فضل صيام ست من شوال فبها ونعمت، وإلا فإنه سيحوز فضل الصيام عموما وفضله عظيم.
عن أبي أمامة قال: قال : ((من صام يوما في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقا كما بين السماء والأرض)) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (6233)، وعن أبي هريرة قال: قال : ((من صام يوما في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفًا)) صححه الألباني في صحيح الجامع (6334).
فعلى المسلم أن يستقيم على طاعة الله ويداوم عليها حتى يأتيه الموت وهو على ذلك، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] أي: الموت، وذكر تعالى عن عيسى عليه السلام أنه قال: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31].
فليس هناك غاية لانقطاع العمل الصالح إلا الموت، فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ من التهاون في الطاعات بعد رمضان، واحذروا من المعاصي بعد رمضان كما كنتم تحذرون منها أثناءه، واعلموا أن الدنيا مزرعة للآخرة، فمن زرع خيرا وجد خيرا، ومن زرع شرا وجد شرًا.
أيها المسلمون، إن الشياطين يُطلق سَرَاحها بعد رمضان وتفكّ قيودها، ولكن كيد الشيطان ضعيف كما أخبرنا ربنا سبحانه، ومن اعتصم بالله عصمه الله من مكايد الشيطان.
والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4201)