مع الحافظين (2)
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, خصال الإيمان
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التقوى. 2- من حفظ حدود الله حفظه، ومن ضيع حدود الله ضيعه. 3- إذا سألت فاسال الله. 4- صور ونماذج حفظ الله لعبده.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي أنزل كتابه الكريم هدى للمتقين وعبرة للمعتبرين ورحمة وموعظة للمؤمنين ونبراسًا للمهتدين وشفاءً لما في صدور العالمين، أحمده تعالى على آلائه، وأشكره على نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحيا بكتابه القلوب، وزكى به النفوس، هدى به من الضلالة، وذكر به من الغفلة، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الذي كان خلقه القرآن، فصلوات الله عليه وعلى آله وصحبه الذين كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيها من القول والعمل، ورضي الله عن جنده وحزبه، ومن ترسم خطاه وسار على نهجه، ما تعاقب الجديدان وتتابع النيران، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، إن كل مشكلة وكل معضلة وكل ضيق وكرب سلاحه الإيمان والتقوى، قال جل وعلا: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]. هذا وعد الله، ومن أصدق من الله قيلا؟! ومن أصدق من الله حديثا؟! اللهم اجعلنا من عبادك المتقين الأبرار.
لا زلنا ـ وإياكم ـ مع الحافظين الذين حفظوا أوامر الله وعملوا بها، وحفظوا نواهي الله فاجتنبوها، وحفظوا حدود الله فلم ينتهكوها، فحفظهم الله في الدنيا والآخرة.
قال ابن الجوزي في صفة الصفوة: "إن رجلا رأى عصفورا يتردد على نخلة من النخلات وفي فمه شيء فاستغرب، وقال: العصافير لا تعشعش على النخل، فلماذا يطير العصفور إلى هذه النخلة؟! فحط العصفور على مكان مرتفع، فرأى أن على النخلة حيّة عيماء يأتي العصفور فيصدر صوتا جميلا فتفتح الحية فمها ويضع قطعة من اللحم في فمها". سبحان الله! من الذي دل العصفور؟! إنه الواحد الأحد، من الذي رزق الحية؟! إنه الحي القيوم القائل: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6].
أخي الحبيب، هل حفظت الله بالتوكل عليه والثقة فيما عنده، يحميك من شر الأشرار ويبارك لك في رزقك؟! فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].
طلب أبناء يعقوب عليه السلام أخاهم يوسف فقال يعقوب عليه السلام: إني أخاف أن يأكله الذئب، فغاب عنه يوسف أربعين عاما، ومرت الأيام والسنون وجاؤوا لأخذ بنيامين، وبعد إصرار عليه قال: خذوه فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين، فأعاد الله له الاثنين يوسف وبنيامين.
احفظ الله تجده تجاهك، احفظ الله تجده أمامك، من حفظ الله وحدوده وراعى حقوقه وجد الله معه في كل أحواله، يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه ويسدده، قال تعالى: إنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]. إن الله سبحانه وتعالى مع الذين اتقوه ـ بامتثال ما أمر واجتناب ما نهى ـ بالنصر والتأييد, ومع الذين يحسنون أداء فرائضه والقيام بحقوقه ولزوم طاعته بعونه وتوفيقه ونصره. وقال تعالى على لسان موسى: كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62].
قيل لأحد الصالحين: ألا تستوحش وحدك؟! قال: "من يكون الله معه لا يستوحش، وهو جليسُ مَن ذكره".
ها هو أبو الطيّب الطبري ـ أحد علماء الإسلام ـ بلغ من العمر سبعين سنة، وبينما هو على سفينة وصلت إلى الشاطئ، لكن اليابسة بعيدة تحتاج إلى قفز وقوة، فما استطاع الشباب، فإذا بهذا العالم الجليل يشمّر عن ساقيه ويقفز إلى اليابسة، فاستغرب الشباب، وقالوا: ما هذه القوة يا شيخ؟! قال: "هذه جوارح حفظناها وقت الصغر، فحفظها الله لنا وقت الكبر". فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
فالعين يحفظها الله إذا حفظت الله، والسمع يحفظه الله ويبارك فيه يوم يحفظ الله، وكذلك اليد والرجل. فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
ومن ضيع الله ضيعه، أما سمعتم خبر البرامكة الذين كانوا وزراء بني عباس، فأعطاهم الله المال والذهب حتى طلَوا قصورهم بماء الذهب، لكنهم ضيّعوا أوامر الله في المعاصي، داخل القصور غناء وخمر ومجون وتضييع للصلاة وزنا وفواحش، فأخذهم علام الغيوب الذي يمهل ولا يهمل، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، فسبحان الله ما أقدره، ولا إله إلا الله ما أعظمه وما أجله.
فسلّط الله عليهم أقرب الناس إليهم، فقتل شبابهم وشيوخهم،َ أودعهم السجن وحبس النساء في غرف. قيل ليحيى البرمكي: ما أنزلكم هذه المنزلة وقد كنتم وكنتم؟! فقال وهو يبكي: دعوة مظلوم غفلنا عنها وما غفل عنا علام الغيوب.
لا تظلمن إذا ما كنتَ مقتدِرًا فالظّلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عيناك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لَم تنم
قيل لعلي بن الحسين : كم بين العرش والتراب؟ قال: دعوة مستجابة يرفعها الله فوق الغمام حتى تصل إليه. فالله خير حافظا وهو أرحم الرحمين.
من الذي يصرف الأمور إلا الله؟! من الذي بيده مقاليد الأمور إلا الواحد الأحد؟! من الذي بيده قلوب العباد إلا الله؟! قال قتادة: "من يتق الله يكن معه، ومن يكن معه فمعه القوة التي لا تغلَب والحارس الذي لا ينام".
ها هو أبو بكر يقول ليلة الهجرة: يا رسول الله، لو رأى أحدهم تحت قدمه لرآنا، فقال النبي بلسان الواثق بالله تعالى: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)).
من يتّق الله يُحمد فِي عواقبه ويكفه شرّ من عزّوا ومن هانوا
من استجار بغيْر الله فِي فزع فإنّ ناصره عجز وخذلان
فالزم يديك بحبل الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان
قال بعض الصالحين: "إذا أردت أن توصي صاحبك أو جارك فقل له: احفظ الله يحفظك"، قال موصيا معاذ بن جبل: ((اتق الله حيثما كنت)).
راقب الله في الجلوة والخلوة يكن معك في السراء والضراء؛ فهو الحافظ الذي حفظ إبراهيم في لهب النار، يُرمى فيقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، فيأتي الفرج: قلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]. من الذي يُطفئ النار؟! إنه الله، من الذي يكسر الحديد؟! إنه الله.
أرسل الحجاج جنوده إلى الحسن البصري، فعلم الحسن أنها النهاية، فلجأ إلى منفّس الكربات وتمتَم بكلمات بينه وبين الله، وانطلق إلى الحجاج ودخل قصره وهو يتمتم بكلمات بينه وبين ربه، وقد جهز الجلادين والسيّاف، فما إن رأى الحسن حتى دعاه إلى جواره وسلّم عليه وقبّله في رأسه، طيَّب لحيته وودعه بخير، فلحقه رئيس الجند، فقال: يا أبا سعيد، والله ما دعاك الحجاج إلا لقتلك، فماذا قلت وأنت داخل؟! قال: قلت: يا ذا العزة التي لا ترام، والركن الذي لا يضام، يا حي يا قيوم، اجعل نقمة الحجاج عليّ بردا وسلاما كما جعلت النار بدرا وسلاما على إبراهيم. فسبحان مقلّب القلوب! مَن قلَب قلْب الحجاج إلا الله؟!
إذًا لماذا نذل بين يدي المخلوقين وننسى الخالق؟! إذا لماذا نطرق باب المخلوقين وننسى باب الخالق الذي لا يغلق؟! إذا لماذا نخاف من الناس ولا نخاف من الله؟!
عبد الله، إذا سألت فاسال الله. إن السؤال فيه بذل لماء الوجه وذلّة للسائل، وذلك لا يصلح إلا لله وحده، فلا يصلح الذل إلا له بالعبادة والمسألة، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول في دعائه: "اللهم كما صنت وجهي عن السجود لغيرك، فصنه عن المسألة لغيرك".
أما من أكثر المسألة بغير حاجة فإنه يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم كما ثبت ذلك في الصحيحين؛ لأنه أذهب عِزّ وجهه وصيانته وماءه في الدنيا، فأذهب الله من وجهه في الآخرة جماله وبهاءه الحسّي، فيصير عظما بغير لحم، ويذهب جماله وبهاؤه المعنويّ، فلا يبقى له عند الله وجاهة. الله الذي بيده خزائن السماوات والأرض ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء أحق من يسأَل ويطلَب منه قضاء الحوائج، جاء في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر)).
قال بعض السلف: "إني لأستحي من الله أن أسأله الدنيا وهو مالكها، فكيف أسأل من لا يملكها؟!"، وكان بعض السلف يتواصون في طلب الحوائج إلا من الله، قال طاووس لعطاء: "إياك أن تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه وجعل دونك حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أن تسأله ووعدك أن يجيبك".
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنَيَّ آدم حين يُسأَل يغضَب
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: عباد الله، حين دخل عبدُ الله بن علي ـ ذلكم الحاكمُ العباسيُ ـ دمشقَ، في يوم واحد فقط قتل فيه ثمانيةً وثلاثين آلفَ مسلم، ثم أدخل الخيولَ مسجدَ بني أميةَ، ثم تبجّح وقال: من يُنكرُ عليّ ما أفعل؟! قالوا: لا نعلمُ أحدًا غير الإمامُ الأوزاعي. فأرسل من يستدعيه، فعلمَ أنه الامتحان، وعلم أنه الابتلاء، وعلم أنه إما أن ينجحَ ونجاحٌ ما بعدَه رسوب، وإما أن يرسبَ ورسوبٌ ما بعده نجاح، فماذا كان من هذا الرجل؟!
قام واغتسلَ وتحنّطَ وتكفّن ولبس ثيابه من على كفنه، ثم أخذَ عصاه في يده، ثم اتجه إلى من حفظه في وقت الرخاء، فقال: يا ذا العزةِ التي لا تضام، والركن الذي لا يرام، يا من لا يهزمُ جندُه، ولا يغلبُ أولياؤهُ، أنتَ حسبي ومن كنتَ حسبَه فقد كفيتَه، حسبي اللهُ ونعم الوكيل. ثم انطلقَ ـ وقد اتصلَ بالله سبحانه وتعالى ـ انطلاقة الأسد إلى ذلك الحاكم، وذاك قد صفَ وزراءه وصفّ سماطين من الجلود يريد أن يقتله وأن يرهبه بها. قال الأوزاعي: فدخلت وإذ السيوف مصلتة، وإذ السماط معدّ، وإذا الأمور غير ما كنت أتوقع، قال: فدخلت، ووالله ما تصوّرت في تلك اللحظة إلا عرش الرحمن بارزا والمنادي ينادي: فريق في الجنة وفريق في السعير. فوالله ما رأيته أمامي إلا كالذباب، والله ما دخلت بلاطه حتى بعت نفسي من الله جل وعلا، قال: فانعقدَ جبينُ هذا الرجل من الغضب، ثم قال له: أأنتَ الأوزاعي؟ قال: يقولُ الناسُ: غني الأوزاعي، قال: ما ترى في هذه الدماء التي سفكناها؟ قال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن جَدّك ابن عباس وعن ابن مسعود وعن أنس وعن أبي هريرة وعن عائشة أن رسول الله قال: ((لا يحلّ دمُ امرأ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: الثيبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينه المفارقُ للجماعة)) ، قال: فتلمّظَ كما تتلمّظُ الحية، وقام الناس يتحفّزون ويرفعون ثيابهم لئلاّ يصيبَهم دمي، ورفعتُ عمامتي ليقع السيفُ على رقبتي مباشرة، وإذا به يقول: وما ترى في هذه الدّور التي اغتصبنا والأموالِ التي أخذنا؟ قال: سوفَ يجرّدُك اللهُ عريانًا كما خلقَك، ثم يسأُلك عن الصغيرِ والكبيرِ والنقيرِ والقطميرِ، فإن كانت حلالاً فحِساب، وإن كانت حرامًا فعقاب، قال: فانعقدَ جبينُه مرة أخرى من الغضبِ، وقام الوزراء يرفعون ثيابهم، وقمت لأرفع عمامتي ليقع السيف على رقبتي مباشرة، قال: وإذ به تنتفخ أوداجه ثم يقول: اخرج، قال: فخرجت، فوالله ما زادني ربي إلا عزّا.
ذهب وما كان منه إلا أن سار بطريقه حتى لقيَ الله جل وعلا بحفظه سبحانه وتعالى. ثم جاء هذا الحاكم ومر على قبره بعد أن توفي ووقف عليه وقال: والله، ما كنتُ أخافُ أحدًا على وجهِ الأرضِ كخوفي هذا المدفونُ في هذا القبر، واللهِ إني كنتُ إذا رأيتُه رأيتُ الأسدَ بارزا. اعتصمَ بالله وحفظَ اللهَ في الرخاء فحفظَه اللهُ في الشدة، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64]. اللهم أصلح فساد قلوبنا يا رب العالمين.
عباد الله، ما ضاعت أمة الإسلام اليوم إلا يوم ضيّعنا أوامر الله ولم نحكّم شرع الله، ما ضاعت أمة الإسلام اليوم إلا يوم استنصرنا بالشرق والغرب ونسينا القوي العزيز، ما ضاعت أمة الإسلام اليوم إلا يوم خاف المسلم أن يقول للظالم: يا ظالم.
لو حفظنا الله حق الحفظ بطاعته واتباع أمره وتحكيم شرعه لما تسلط علينا من ذلوا ومن هانا.
سلفنا الصالح حفظوا الله واعتزّوا به فأعزّهم العزيز، وما اغترّوا بدنيا زائلة، وصدق الله القائل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10].
قال أحد السلف: "لما أطعنا الله سخّرت لنا حتى الوحوش في البراري، ولما عصينا الله سلط الله علينا حتى الفئران في جحورها".
خرج عقبة بن نافع قائدا للمسلمين ليفتح إفريقيا، فلما وصل إلى هناك دخل غابة إفريقيا الموحشة وإذا بالأسود في طريقه والحيّات والعقارب، فقام وصلّى ركعتين وخرج وصعد على صخرة وسط الغابة وقال: أيتها الأسود، أيتها السباع، أيتها الحيات، أيتها العقارب، نحن أصحاب محمد ، جئنا لنفتح الدنيا بلا إله إلا الله، فارحلوا إنا نازلون، ومن وجدناه بعد ذلك قتلناه. ورأى الناس بعد ذلك عجبا؛ رأوا أن السباع تخرج من الغابة تحمل أشبالها، والذئاب تحمل جروانها، والحيات تحمل أولادها، ونادى في الناس: لا تؤذوهم حتى يرحلوا عنا، الله أكبر.
بِمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس إفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كنا نقدّم للسيوف صدورنا لَم نَخش يوما غاشِما جبّارا
ذكر ابن كثير بسند جيد أن صلة بن أشيم التابعي كان يغزو في خراسان مع قتيبة بن مسلم، وكان صلة بن أشيم من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر في عبادة وفي بكاء. الله أكبر! قولوا ذلك لأهل الطرب والغناء إلى آخر الليل ولا حياء من ربّ الأرباب. طوال الليل وصلة بن أشيم يصلي داخل الغابة، فقام يصلي ويتنفّل، فأتى أسد فدار عليه فما تحوّل ولا تحرّك وما اضطرب، فلمّا سلّم من الركعتين قال: يا حيدرة، إن كنت أمرت بأكلي فكلني، فإنه ليس معي سلاح إلا حماية الله، وإن كنت ما أمرت بقتلي فانطلق إلى حال سبيلك واتركني أصلِّي، فقام الأسد فولّى ذنبه وخفض صوته وذهب إلى حال سبيله. فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
عبد الله، كن من الحافظين لحدود الله وأوامره، يحفظك الله في الساعة التي لا مفرّ منها ساعة الموت، ساعة والتفَّت الساق بالساق. كم رأينا وسمعنا أناسًا حفظوا أوامر الله، أدّوا الصلاة في أوقاتها، وصلّوا الأرحام، وأكلوا الحلال، وحسنت أخلاقهم، فجاءت ساعة الموت فثبتهم الله بالقول الثابت، ونطقوا بكلمة التوحيد بكل سرور وحسنت الخاتمة.
وكم رأينا وسمعنا من أناسٍ ضيّعوا أوامر الله، فأصروا وقطعوا الصلاة وقطعوا الأرحام وأكلوا الحرام وساءت أخلاقهم، عصوا ربهم فجاءت ساعة الموت فعجزت ألسنتهم عن النطق بكلمة التوحيد وساءت الخاتمة.
اللهم احفظنا بحفظك ورعايتك، واحرسنا بعينك التي لا تنام.
وصلّوا وسلموا على المصطفى رسول الله...
(1/4017)
أبغض الحلال
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
3/11/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آثار الطلاق. 2- أسباب الطلاق. 3- نصائح وتوجيهات لمن أدار أن يقدم على الطلاق. 4- نماذج من الصالحات. 5- حقوق الزوج والزوجة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، حديثي معكم اليوم عن كلمة طالما أبكت العيون وروعت القلوب، وفرقت الأسر ومزقت الشمل، يا لها من كلمةٍ صغيرة ولكنها جليلةٌ عظيمة خطيرة، هل تعلمون ما هي هذه الكلمة؟ إنها كلمة الطلاق، كلمةٌ أبكت عيون الأزواج والزوجات، وروعت قلوب الأبناء والبنات. أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تكون معولاً صلبًا يُهدم به صرح أسر وبيوتات؟! أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تنقل صاحبها من سعادة وهناء إلى محنة وشقاء؟! أيستغرب أحدكم لو قيل له: إن كلمة من الكلمات تحرك أفرادًا وجماعات، وتُنشئ تزلفًا وشفاعات لرأب ما صدعت وجمع ما فرقت؟! لا غرابة في ذلك لو عُلم أن تلكم الكلمة هي: كلمة الطلاق.
إنها كلمة أبكت عيونًا وأجهشت قلوبًا وروعت أفئدة، إنها كلمة صغيرة الحجم لكنها جليلة الخطب، إنها كلمة ترتعد الفرائص بوقعها؛ لأنها تقلب الفرح ترحًا والبسمة غُصّة.
إنها كلمة الطلاق، وما أدراك ما الطلاق. كلمة الوداع والفراق، والنزاع والشقاق، والجحيم والألم الذي لا يطاق.
فللَّه كم هدمت من بيوت للمسلمين، وكم قطّعت من أواصر للأرحام والمحبين، وكم فرّقت من شملٍ للبنات والبنين.
يا لها من ساعةٍ حزينةٍ، يا لها من ساعةٍ عصيبة أليمة ولحظة أسيفة يوم سمعت المرأة طلاقها، فكفكفت دموعها، وودعت أولادها، وفارقت زوجها ووقفت على باب بيتها، لتُلقي آخر النظرات، على بيتٍ مليءٍ بالذكريات، يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ حين تقتلع السعادة أطنابها من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك.
أيها المسلمون، الزواج نعمةٌ من نعم الله ومنةٌ من أجلّ منن الله، جعله الله آية شاهدةً بوحدانيته، دالةً على عظمته وألوهيته، لكنه إنما يكون نعمةً حقيقية إذا ترسّم كلا الزوجين هدي الكتاب والسنة، وسارا على طريق الشريعة والملّة، ولكن ما إن يتنكب الزوجان أو يتنكب واحدٌ منهما عن صراط الله حتى تفتح أبواب المشاكل، عندها تعظم الخلافات والنزاعات، ويدخل الزوج إلى بيته حزينًا كسيرًا، وتخرج المرأة من بيتها حزينةً أليمةً مهانةً ذليلةً، عندها يعظم الشقاق ويكبر الخلاف والنزاع، فيفرح الأعداء ويشمت الحسّاد، وبعدها يتفرّق شمل المؤمنين وتتقطّع أواصر المحبين.
أيها المسلمون، لقد كثُر الطلاق اليوم، هل تعلمون لماذا؟ كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجًا يرعى الذمم، وعندما فقدنا الأخلاق والشيم، زوجٌ ينال زوجته اليوم فيأخذها من بيت أبيها عزيزةً كريمةً ضاحكة مسرورة، ويردها بعد أيام قليلةٍ حزينةً باكية مطلقة ذليلة.
كثر الطلاق اليوم حينما استخف الأزواج بالحقوق والواجبات، وضيّعوا الأمانات والمسؤوليات، سهرٌ إلى ساعات متأخرةٍ، وضياعٌ لحقوق الزوجات والأبناء والبنات، يُضحك البعيد ويبكي القريب، يؤنس الغريب ويوحش الحبيب.
كثر الطلاق اليوم حينما كثر النمّامون، وكثر الحسّاد والواشون.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا زوجًا يغفر الزلة ويستر العورة والهنة، حينما فقدنا زوجًا يخاف الله ويتقي الله ويرعى حدود الله ويحفظ العهود والأيامَ التي خلت والذكريات الجميلة التي مضت.
كثر الطلاق اليوم حينما فقدنا الصالحات القانتات الحافظات للغيب بما حفظ الله، حينما أصبحت المرأة طليقة اللسان طليقة العنان، تخرج متى شاءت، وتدخل متى أرادت، خرّاجة ولاّجة، إلى الأسواق، إلى المنتديات واللقاءات، مضيعة لحقوق الأزواج والبيت، يا لها من مصيبةٍ عظيمةٍ.
كثر الطلاق اليوم حينما تدخّل الآباء والأمهات في شؤون الأزواج والزوجات، الأب يتابع ابنه في كل صغير وكبير، وفي كل جليل وحقير، والأم تتدخل في شؤون بنتها في كل صغير وكبير، وجليل وحقير، حتى ينتهي الأمر إلى الطلاق والفراق. إن مثل هذه التدخلات في الحياة الزوجية لهي مكمن الخطر لدى كثير من الأسر، فما بال الآباء والأمهات يهجمون على البيوت فيأتونها من ظهورها، ويمزقون ستارها، ويهتكون حجابها، وينتزعون الجرائد من أكنافها والفرائد من أصدافها، ويوقعون العداوة والبغضاء بين الأزواج.
كثر الطلاق اليوم لما كثرت المسكرات والمخدرات، فذهبت العقول، وزالت الأفهام، وتدنّت الأخلاق، وأصبح الناس في جحيم وألمٍ لا يطاق.
كثر الطلاق اليوم لما كثرت النعم، وبطر الناس الفضل من الله والكرم، وأصبح الغني الثري يتزوج اليوم ويطلق في الغد القريب، ولم يعلم أن الله سائله، وأن الله محاسبه، وأن الله موقفه بين يديه في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون ولا عشيرة ولا أقربون.
لقد كثر الطلاق اليوم لما فُقدت قوامة الرجل في بعض المجتمعات، إبان غفلةِ تقهقرٍ عن مصدر التلقي من كتاب وسنة، ورَكَنَ فئام من الناس إلى مصادر مريضة، قلبت مفاهيم العشرة، وأفسدت الحياة الزوجية، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وتولى كبر تلك المفاهيم الإعلام بشتى صوره، من خلال مشاهدات متكررة يقَعّدُ فيها مفاهيم خاطئة ومبادئ مقلوبة في العشرة الزوجية. والواقع أن داخل البيت المسلم يتأثر بخارجه، وتيارات الميوعة والجهالة إذا عصفت في الخارج تسللت إلى الداخل، فلم ينج من بلائها إلا من عصم الله.
الحياة الزوجية ـ أيها المسلمون ـ حياة اجتماعية، ولا بد لكل اجتماع من رئيس يرجع إليه عند الاختلاف في الرأي والرغبة، والرجل أحق بالرئاسة لأنه أعلم بالمصلحة وأقدر على التنفيذ بما أودع الله فيه من ذلك، وإن ما تتلقنه المرأة من الأجواء المحيطة بها على منازعة الرجل قوامته لمن الانحراف الصرف والضلال المبين. إن قوامة الرجل في بيته لا تعني منحه حق الاستبداد والقهر، فعقد الزوجية ليس عقد استرقاق، ولا عقد ارتفاق لجسد المرأة، إنه أزكى من ذلك وأجل، وكل من الزوجين بشر تام، له عقل يفكر به وقلب يحب به ويكره، فوجب الحق للمرأة حتى مع قوامة الرجل، قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، كما أن قوامة الرجل لا تعني استغناءه عن زوجه، فالله عز وجل يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187].
أيها المسلمون، الطلاق مصيبة عظيمةٌ.
فيا من يريد الطلاق، اصبر فإن الصبر جميل، وعواقبه حميدةٌ من الله العظيم الجليل.
يا من يريد الطلاق، إن كانت زوجتك ساءتك اليوم فقد سرّتك أيامًا، وإن كانت أحزنتك هذا العام فقد سرّتك أعوامًا.
يا من يريد الطلاق، انظر إلى عواقبه الأليمة ونهاياته العظيمة، انظر لعواقبه على الأبناء والبنات، انظر إلى عواقبه على الذرية الضعيفة، فكم بُدد شملها وتفرّق قلبها بسبب ما جناه الطلاق عليها.
يا من يريد الطلاق، صبرٌ جميلٌ، فإن كانت المرأة ساءتك فلعل الله أن يخرج منها ذريةً صالحةً تقر بها عينك، قال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، قال: (هو الولد الصالح). المرأة تكون عند زوجٍ تؤذيه وتسبّه وتُهينه وتؤلمه، فيصبر لوجه الله ويحتسب أجره عند الله، فما هي إلا أعوامٌ حتى يقرّ الله عينه بذريةٍ صالحةٍ، وما يدريك فلعل هذه المرأة التي تكون عليك اليوم جحيمًا لعلها أن تكون بعد أيام سلامًا ونعيمًا، وما يدريك فلعلّها تحفظك في آخر عمرك. اصبر فإن الصبر عواقبه حميدةٌ، وإن مع العسر يسرًا.
فإذا أردت الطلاق فاستخر الله وأنزل حوائجك بالله، واستشر العلماء وراجع الحكماء، والتمس أهل الفضل والصلحاء، واسألهم عمّا أنت فيه، وخذ كلمة منهم تثبتك ونصيحةً تقوّيك.
فإن كنت مريدًا للطلاق فخذ بسنة النبي ، طلّقها طلقةً واحدةً في طهر لم تجامعها فيه، لا تطلّقها وهي حائضٌ، فتلك حدود الله، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]. وإذا طلقتها فطلقها طلقة واحدةً لا تزيد، جاء رجل إلى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، طلقت امرأتي مائة تطليقة، فقال : (ثلاثٌ حَرُمَت بهن عليك، وسبع وتسعون اتخذت بها كتاب الله هزوًا).
أيها المسلمون، اللجوء إلى الطلاق كاللجوء إلى بتر عضو من الجسم، فهو الحل الأخير للضرر الذي يصيب أحد الزوجين أو هما معًا، ومن حكمة الله تعالى أن جعل الطلاق ثلاث مرات، قال تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229]. سأل أبو رزين الأسدي النبي قائلاً: سمعت الله يقول: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فأين الثالثة؟ فقال : أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ رواه أبو داود.
الطلاق يكون حرامًا إذا كان لغير سبب أو ضرورة، فالزواج نعمة، والطلاق من غير حاجة إليه فيه ضرر على الزوج والزوجة، ونبينا يقول: ((لا ضرر ولا ضرار)). ونرى اليوم مع الأسف بعض الرجال ممن لم يُقدّر إكرام الله له بجعل الطلاق بيده يتسرع في إيقاع الطلاق لأتفه الأسباب، غير ناظر إلى ما يجره ذلك من نتائج وخيمة عليه وعلى زوجه وذريته، فهو إن باع أو اشترى حلف بالطلاق، وإن أراد أن يُنزل أحدًا على رغبته طلق، أو أراد منع زوجته من شيء حلف وطلق، بل ربما مازح بعض زملائه بالطلاق، أو راهن بالطلاق، فيعود إلى بيته والمسكينة منتظرة إياه متزينة له معدة طعامه، فيُروّعها ويقول لها: احتجبي عني والحقي بأهلك فقد طلقتك.
وربما ثار فيطلق ثلاثا بلفظ واحد متكرر غير آبه لذلك ولا مهتم أنه طلق طلاقًا بدعيًا، ناسيًا أن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، فإذا ما هدأت نفسه وتذكر صيحات أطفاله يركضون ويلعبون ببراءة في جنبات البيت وتذكر ما كان غائبا عن ذهنه حين الغضب من صفات زوجته الحميدة، إذا ما تذكر كل هذا عض أصابع الندم، وذرف دموع الحسرة والألم، وسارع يلتمس الفتاوى لإرجاعها، ويتتبع الآراء الضعيفة، مذلاً نفسه مضيعًا وقته، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، من أشد أنواع الطلاق الطلاق التعسفي؛ إذ هنالك حالتان يكون الطلاق فيهما تعسفًا وعدوانًا:
أولها: الطلاق حال مرض الموت، الذي يطلق زوجته طلاقًا بائنًا في مرض موته ليَحرِمها من إرثها منه، فيقترف عدوانًا لا يرضاه الله وتأباه المروءة.
والحالة الثانية من حالات طلاق التعسف: أن يطلقها لسبب غير معقول، فقد تكون فقيرة أو عجوزًا لا أمل من زواجها مرة ثانية، فبقاؤها من غير زوج ينفق عليها إضرار بها ولؤم في معاملتها، وهو آثم بلا شك فيما بينه وبين الله تعالى؛ إذ استغل زهرة شبابها، ولم يكن عندها ما يحفظ لها كرامتها.
لقد أكرم النبي امرأة عجوزًا زارته، ولما سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال: ((إنها كانت تغشانا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
أيها المسلمون، إن الله عز وجل لم يخلق الزوجين بطباع واحدة، والزوجان اللذان يظنان أنهما مخلوق واحد يعيشان في أوهام؛ إذ كيف يريد منها زوجها أن تفكر برأسه؟! وكيف تريد هي منه أن يحس بقلبها؟! وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
إن النسيم لا يهب عليلاً داخل البيت على الدوام، فقد يتعكر الجو، وقد تثور الزوابع، وإن ارتقاب الراحة الكاملة نوع وهم، ومن العقل توطين النفس على قبول بعض المضايقات، وترك التعليق المرير عليها، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، وقال رسول الله : ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم.
ومن يتتبّع جاهدًا كلَّ عثرةٍ يجدها ولا يسلم له الدهرَ صاحبٌ
اللهم أصلح نياتنا، اللهم أصلح أزواجنا وذرياتنا، وخذ بنواصينا إلى ما يُرضيك عنا.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، إن العلاقات الزوجية عميقة الجذور بعيدة الآماد، فرحم الله رجلاً محمود السيرة طيب السريرة، سهلاً رفيقًا لينًا رؤوفًا، رحيمًا بأهله، لا يكلف زوجته من الأمر شططا، وبارك الله في امرأة لا تطلب من زوجها غلطا، ولا تُحدِث عنده لغطا، قال رسول الله : ((إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرّها)) رواه مسلم، وقال : ((إذا صلت المرأة خمسها وأحصنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت)) رواه ابن حبان.
وبهذا كله يفهم الرجل أن أفضل ما يستصحبه في حياته ويستعين على واجباته الزوجة اللطيفة العشرة القويمة الخُلق، وهي التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره. إن هذه الزوجة هي دعامة البيت السعيد وركنه العتيد، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
فيا أيها الناس، إن أحدنا لتمر عليه فترات لا يرضى فيها عن نفسه، ولكنه يتحملها، يتعلل بما يَحضُره من المعاذير، وإذا كان الأمر كذلك فليكن هذا هو الشأن بين الزوجين، يلتمس كل منهما لقرينه المعاذير، فإن المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات، ولا بد من غض الطرف عن الهفوات حتى تستقيم العشرة.
فمن ذا الذي ما ساء قَطْ؟! ومن له الحسنى فَقَطْ؟!
ولا شيء يخفف أثقال الحياة وأوزار المتاعب عن كاهل الزوجين كمثل أحدهما للآخر، ولا شيء يعزي الإنسان عن مصابه في نفسه وغيره مثل المرأة للرجل والرجل للمرأة، فيشعر المصاب منهما بأن له نفسًا أخرى تمده بالقوة وتشاطره مصيبته.
فهذه أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها زوج النبي كانت له في المحنة قلبَه العظيم، وكانت لنفسه كقول: نعم، فكأنما لم تنطق قطّ: لا، إلا في الشهادتين، وما زالت رضي الله عنها تعطيه من معاني التأييد والتهوين، كأنما تلد له المسرات من عواطفها كما تلد الذرية من أحشائها، بمالها تواسيه، وبكلامها تسليه: (كلا والله، لا يخزيك الله أبدا؛ إنك تصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق).
وحدث أنس بن مالك عن أمه أم سليم بنت ملحان الأنصارية رضي الله عنهما قال: مرض أخ لي من أبي طلحة، يدعى أبا عمير، فبينما أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فهيأت أم سليم أمره، وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد وقد تطيبت له وتصنّعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، وقدمت له عشاءه، فتعشى هو وأصحابه، ثم أتما ليلتهما على أتمّ وأوفق ما يكون، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلان، استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طُلبت إليهم شق عليهم! قال أبو طلحة: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك فلانا كان عارية من الله فقبضه إليه، فاسترجع وحمد الله وقال: والله، لا أدعك تغلبينني على الصبر، حتى إذا أصبح غدا على رسول الله فلما رآه قال: ((بارك الله لكما في ليلَتَكما)) متفق عليه.
الله أكبر، بمثل هذا فلتكن العشرة أيها الأزواج، بمثل هذا فلتكن الحياة الهانئة السعيدة في النفس والولد والمال.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن لكلا الزوجين حقًا على الآخر، فحق على الزوج أن ينفق عليها، ولا يكلفها من الأمر ما لا تطيق، وأن يسكنها في بيت يصلح لمثلها، وأن يعلّمها ويؤدّبها، ويغار عليها ويصونها، وأن لا يتخوّنها ولا يلتمس عثراتها وأن يعاشرها بالمعروف، قال رسول الله : ((استوصوا بالنساء خيرا)) متفق عليه، وسُئل : ما حقّ امرأة أحدنا عليه؟ قال: ((تطعمُها إذا طَعِمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت)) رواه أبو داود.
ومن حق الزوج على زوجته أن تطيعه في المعروف، وأن تتابعه في مسكنه، وأن لا تصوم تطوعا إلا بإذنه، وأن لا تأذن لأحد في بيته إلا بإذنه، وأن لا تخرج بغير إذنه، وأن تشكر له نعمته عليها ولا تكفرها، وأن تدبّر منزله وتهيئ أسباب المعيشة به، وأن تحفظه في دينه وعرضه، قال رسول الله : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة)) رواه الترمذي والحاكم، وقال : ((خير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) رواه مسلم، وقال : ((لو كنتُ آمرا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها)) أخرجه الترمذي وهو صحيح.
(1/4018)
أبو هريرة رضي الله عنه
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله يخلق ما يشاء ويختار. 2- فضل الصحابة رضي الله عنهم. 3- فضل أبي هريرة &. 4- قبسات مضيئة من حياة أبي هريرة &.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن أكمل الناس خلالاً وأفضلهم حالاً وأفصحهم مقالاً من اصطفاه ربّ البريّة ليكون هاديًا للبشريّة صلوات الله وسلامه عليه، حيث امتن الله عزّ وجلّ علينا ببعثته فقال: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، وزكّاه ربّه بما كان عليه من مكارم الأخلاق فقال: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، ثم أمرنا الله عزّ وجلّ بالاقتداء به والاهتداء بهديه والتخلق بأخلاقه فقال: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، وكما اختار الله نبيّه للنبوة والرسالة اختار له من الأمم أفضلها، ومن الأصحاب أفضل الناس بعد النبيين، أبرّ هذه الأمةِ قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقومها عملاً، وأقلها تكلفًا، وأحسنها حالاً، جاهدوا في الله حقّ جهاده في حياة نبيهم وبعد وفاته، فنصر الله بهم الدين، ونصرهم به، وأظهرهم على كل الأديان والملل عربهم وعجمهم، أثنى عليهم ربهم، وأحسن الثناء عليهم، ورفع ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، ووعدهم عظيم الأجر وجميل الغفران.
كان منهم الخلفاء الراشدون والأمراء الحازمون والعلماء الربانيّون والقادة الفاتحون والعبّاد الزاهدون، يشهد بذلك أفعالُهم وتنطق به آثارُهم، لِما قاموا به من نشر الدين وتعليمه وتبليغه في الأمصار القاصية والدانية.
ومن جملة هؤلاء العلماء والزهاد الذين حفظوا لنا كنوز السنة والآثار النبوية راوية الإسلام الملهم وحافظ الأمة المقدَّم أبو هريرة ، النجم المتألق من صحابة رسول الله. ذلك الاسم الذي اقترن اسمه باسم رسول ربّ العالمين، لِما له من كثرة الرواية وعلو الكعب في الحفظ والإتقان على الصحابة أجمعين، فلم يخلُ ديوان من دواوين الإسلام إلاّ واسمه فيه منقوش مرسوم، ولم يمض مجلس من مجالس الذكر والعلم إلاّ وكان لذكره نصيب معلوم، فدعوات المؤمنين له في كل عصر متوالية بالرضا والثناء والرحمات الغالية، لم يسمع به أحد إلاّ أحبّه قبل أن يراه، وما جلس إليه أحد فملّ حديثه ولقياه، جالسه أبو صالح السمّان من تابعي الكوفة الصالحين عشرين سنة، فما ملّ مجالسته بل تمنّى عند موته أن يحظى بجلسة معه، فقال: "ما كنت أتمنى من الدنيا إلاّ ثوبين أجالس فيهما أبا هريرة ".
أيها المسلمون، هل في أمة الإسلام أحدٌ لا يعرف أبا هريرة؟!
إن الناظر بعين الإنصاف في سيرة هذا المؤمن المحبوب يجدها سيرة قد حازت من الفضائل كلّ مرقوب ومطلوب. كان الناس يدعونه في الجاهلية بعبد شمس، فلما أكرمه الله بالإسلام وشرّفه بلقاء النبي قال له: ((ما اسمك؟)) فقال: عبد شمس، فقال عليه الصلاة والسلام: ((بل عبد الرحمن)) ، فقال: نعم عبد الرحمن بأبي أنت وأمي يا رسول الله.
وأبو هريرة من قبيلة دوس إحدى بطون الأزد، وهي قبيلة يمانيّة قحطانيّة مشهورة، فهو عبد الرحمن بن صخر الدوسي اليماني، معروف النسب شريف المعدن والأصل، لكنه لم يشتهر باسمه وإنّما اشتهر بكنيته، فكان يدعى بأبي هريرة، وكان ذلك في الجاهلية قبل أن يسلم؛ وسبب تكنيه بهذه الكنية سبب لطيف ظريف، فقد أخرج الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة قال: إنّما كنوني بأبي هريرة لأني كنت أرعى غنمًا لأهلي فوجدتُ أولاد هرة وحشيّة فجعلتها في كمي، فلما رجعت إليهم سمعوا أصوات الهر في حجري، فقالوا: ما هذا يا عبد شمس؟! فأنت أبو هريرة فلزمتني بعدُ. ويقول أبو هريرة: كان رسول الله يدعوني أبا هر، ويدعوني النّاس أبا هريرة، وكان يفضِّل كنية النبي له ويقول: ناداني بها حبيبي رسول الله ، والهر ذكرٌ والهريرة أنثى، والذكر خيرٌ من الأنثى.
وقد نشأ يتيمًا وهاجر مسكينًا كما يقول عن نفسه، وتأخر قدومه إلى النبي وأسلم سنة سبع في غزوة خيبر، لم يشهد بدرًا ولا أحدًا ولا غزوة الأحزاب، ومات النبي في السنة الحادية عشرة للهجرة، فكانت مدة صحبته للنبيّ ثلاث سنين، انقطع خلالها الفتى الدوسي لخدمة النبي وصحبته، فاتخذ المسجد مسكنًا والنبي معلمًا وإمامًا، إذ لم يكن له في حياة النبي زوج ولا ولدٌ، وإنما كانت له أم عجوزٌ أصرت على الشرك، فكان لا يفتأ يدعوها إلى الإسلام إشفاقًا عليها وبِرًّا بها فتنفر منه وتصده، فيتركها والحزن عليها يفري فؤاده فريًا، وكان يتمنى إسلامها وحرص على ذلك حتى أسلمت، وكان سببًا في إسلامها، أخرج مسلم في صحيحه عنه أنه قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله : ((اللهم اهد أم أبي هريرة)) ، يقول: فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله ، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها، ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيرًا صلوات ربي وسلامه عليه.
لقد أحب أبو هريرة النبي حبًا خالط لحمه ودمه، فكان لا يشبع من النظر إليه، ويقول: (ما رأيت شيئًا أملح ولا أصبح من رسول الله ، حتى لكأنما الشمس تجري في وجهه). وكان يحمد الله تبارك وتعالى على أن منّ عليه بصحبة نبيه واتباع دينه، فيقول: (الحمد لله الذي هدى أبا هريرة للإسلام، والحمد لله الذي علّم أبا هريرة القرآن، والحمد لله الذي منّ على أبي هريرة بصحبة محمد ).
وقد نال أبو هريرة شرف دعوة النبي بالهداية لقومه فقال لما قالوا له: يا رسول الله، إن دوسًا عصت وأبت فادع الله عليها، فقال: ((اللهم اهد دوسًا وائت بهم)). وأبو هريرة وإن كان مسلمًا حين قال رسول الله هذه المقولة إلاّ أنّ الدعوة الكريمة تلحقه، لأنّ من معاني الهداية الثبات على معانيها لمن هو مسلم، والدخول في الإسلام لمن لم يسلم بعد.
وأبو هريرة كما أنه دوسي فلحقته تلك الدعوة الكريمة فهو أيضًا يمانيّ كما أسلفنا فيلحقه شرف اليمن وشرف أهلها، فقد أخرج البخاري بسنده إلى عقبة بن عمرو أنّه قال: أشار رسول الله بيده نحو اليمن فقال: ((الإيمان يمانٍ ها هنا)) ، وفيه أيضًا عن أبي هريرة أنه سمع النبي يقول: ((الإيمان يمانٍ، والحكمة يمانية)). وكلّ هذا داخل في شرف العموم، أمّا شرف الخصوص فحدِّث عن البحر قبل أن تغوص، فقد نال أبو هريرة شرف دعوة النبي له، أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله : ((اللهم حبب عُبيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهم المؤمنين)) ، فما خُلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
وهكذا كان من علامات المؤمنين حب أبي هريرة ببركة دعائه له، وشهادة القرآن له إذ هو معدود من جملة الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجه الله، وقد أُمر النبي بالجلوس إليهم والصبر معهم كما قال تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الكهف:52]، وهؤلاء هم أهل الصفة، والصفة موضع مظلل في شمال المسجد النبوي يأوي إليه أصحاب رسول الله ممن لا منزل له، وأكثرهم من المهاجرين الفقراء، وكان النبي يطعمهم ويتفقد أحوالهم، وفضلهم مشهور معروف، وأبو هريرة منهم قد حاز شرف فضلهم وأجرهم، وهكذا نرى أن الفضل قد تتابع لأبي هريرة لصحبته وهجرته ودوسيته ويمانيته ونيله دعوة الرسول له وشهادة القرآن له.
أيها المسلمون، فكما أحب أبو هريرة النبي فقد أحب العلم وجعله ديدنه وغاية ما يتمناه، حدّث زيد بن ثابت قال: بينما أنا وأبو هريرة وصاحب لي في المسجد ندعو الله تعالى ونذكره إذ طلع علينا رسول الله وأقبل نحونا حتى جلس بيننا فسكتنا، فقال: ((عودوا إلى ما كنتم فيه)) ، يقول زيد: فدعوت الله أنا وصاحبي قبل أبي هريرة وجعل النبي يؤمّن على دعائنا، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم إني أسألك ما سألك صاحباي وأسألك علمًا لا ينسى، فقال عليه الصلاة والسلام: ((آمين)). يقول زيد: فقلنا: ونحن نسألك علمًا لا ينسى، فقال عليه الصلاة والسلام: ((سبقكم بها الغلام الدوسي)). فنال أبو هريرة بركة دعاء النبي فأصبح وعاءً من أوعية العلم في هذه الأمة.
وكما أحب أبو هريرة العلم لنفسه فقد أحبه لغيره، ومن ذلك ما رواه الطبراني في الأوسط بسند حسن أن أبا هريرة مر بسوق المدينة ذات يوم فهاله انشغال الناس بالدنيا واستغراقهم في البيع والشراء والأخذ والعطاء، فوقف عليهم وقال: يا أهل السوق، ما أعجزكم! قالوا: وماذا يا أبا هريرة؟ قال: ذاك ميراث رسول الله يُقسم وأنتم ها هنا! ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟! قالوا: وأين هو؟ قال: في المسجد. فخرجوا سراعًا ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا فقال لهم: ما لكم؟ قالوا: يا أبا هريرة، أتينا المسجد فدخلنا فلم نر فيه شيئًا يُقسم، فقال لهم أبو هريرة: وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلون وقومًا يقرؤون القرآن وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: ويحكم! فذاك ميراث محمد.
لقد عانى أبو هريرة بسبب انصرافه للعلم وانقطاعه لمجالس رسول الله ما لم يعانه أحد من الجوع وخشونة العيش، وتحمّل بسبب ذلك الكثير، فأين طلاب العلم اليوم؟! روى عن نفسه فقال: (إنه كان يشتد بي الجوع حتى إني كنت أسأل الرجل من أصحاب رسول الله عن الآية من القرآن وأنا أعلمها كي يصحَبَني معه إلى بيته فيُطعِمَني، وقد اشتد بي الجوع ذات يوم حتى شددت على بطني حجرًا فقعدت في طريق الصحابة فمر بي أبو بكر فسألته عن آية في كتاب الله وما سألته إلاّ ليدعوني فما دعاني، ثم مر بي عمر بن الخطاب فسألته عن آيةٍ فلم يَدْعُنِي أيضًا، حتى مر بي رسول الله فعرف ما بي من الجوع فقال: ((أبو هريرة؟)) ، قلت: لبيك يا رسول الله، وتَبِعتُه، فدخلت معه البيت فوجد قدحًا فيه لبن فقال لأهله: ((من أين لكم هذا؟)) قالوا: أرسل به فلانٌ إليك، فقال: ((يا أبا هريرة، انطلق إلى أهل الصفة فادعهم)) ، فساءني إرساله إياي لدعوتهم، وقلت في نفسي: ما يفعل هذا اللبن مع أهل الصفة؟! وكنت أرجو أن أنال منه شربة أتقوى بها ثم أذهب إليهم، فأتيت أهل الصفة ودعوتهم فأقبلوا، فلما جلسوا عند رسول الله قال: ((خذ يا أبا هريرة، فأعطهم)) ، فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى إلى أن شربوا جميعًا، فناولت القدح لرسول الله فرفع رأسه إلي مبتسمًا وقال: ((بقيت أنا وأنت)) ، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: ((فاشرب)) ، فشربت، ثم قال: ((اشرب)) ، فشربت، وما زال يقول: ((اشرب)) فأَشرَب حتى قلت: والذي بعثك بالحق لا أجد له مساغًا، فأخذ الإناء وشرب من الفضلة.
أيها المسلمون، لم يمض زمن طويل على ذلك حتى فاضت الخيرات على المسلمين وتدفقت عليهم غنائم الفتح، فصار لأبي هريرة مالٌ ومنزلٌ ومتاعٌ وزوجٌ وولد، غير أن ذلك كله لم يغيّر من نفسه الكريمة شيئًا، ولم يُنسه أيامه الخالية فكثيرًا ما كان يقول: (نشأت يتيمًا، وهاجرت مسكينًا، وكنت أجيرًا لبُسرة بنت غزوان بطعام بطني، فكنت أخدم القوم إذا نزلوا، وأحدو لهم إذا ركبوا، فزوّجنِيها الله، فالحمد لله الذي جعل الدين قِوامًا، وصيّر أبا هريرة إمامًا).
وقد وَلي أبو هريرة المدينة من قبل معاوية بن أبي سفيان أكثر من مرة، فلم تبدل الولاية من سماحة طبعه وخفة ظله؛ مر ذات يوم بأحد طرق المدينة وهو والٍ عليها، وكان يحمل الحطب على ظهره لأهل بيته، فمر بثعلبة بن مالك، فقال له: أوسع الطريق للأمير يا ابن مالك، فقال له: يرحمك الله، أما يكفيك هذا المجال كله؟! فقال له: أوسع الطريق للأمير وللحطب الذي على ظهره.
وكانت ابنته تقول له: يا أبتِ، إن البنات يُعيّرنَني فيقلن: لم لا يُحلّيكِ أبوك بالذهب؟! فيقول: يا بنية، قولي لهنّ: إن أبي يخشى عليّ حر اللهب.
ولم يكن امتناع أبي هريرة عن تحلية ابنته ضنًّا بالمال أو حرصًا عليه، إذ كان جوادًا سخيّ اليد في سبيل الله، فقد بعث إليه مروان بن الحكم مائة دينار ذهبًا، فلما كان الغد أرسل إليه يقول: إن خادمي غَلِط فأعطاك الدنانير وأنا لم أُردك بها وإنما أردت غيرك، فسُقط في يد أبي هريرة وقال: أخرجتها في سبيل الله ولم يَبِت عندي منها دينار، فإذا خرج عطائي من بيت المال فخذها منه. وإنما فعل ذلك مروان ليختبره، فلما تحرّى الأمر وجده صحيحًا.
وكانت لأبي هريرة جارية زنجية فأساءت إليه وغمّت أهله، فرفع السوط عليها ليضربها به ثم توقف وقال: لولا القِصاص يوم القيامة لأوجعتُكِ كما آذَيْتينا، ولكن سأبيعُك ممن يوفِّيني ثمنَك وأنا أحوج ما أكون إليه، اذهبي فأنت حرة لله عز وجل.
رحم الله أبا هريرة و، وجعلني الله وإياكم من محبّي الصحب الكرام، المتقربين بحبهم إلى الملك العلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن الحديث عن أبي هريرة هو حديث عن أخلاق الإسلام وآدابه، وحديث عن صفوة رجال كانوا لهذا العِلم من أوعيته وطلابه، أفنوا أعمارهم في خدمة هذا الدين، وخرجوا من هذه الدنيا ولم يشبعوا في ليلتين.
وأبو هريرة أحد هؤلاء الفحول النوادر، الذين دخلوا التاريخ كما دخله الأكابر، فأناروا العقول وفتحوا البصائر، وهذبوا النفوس وأيقظوا الضمائر، وكيف لا يكون منهم وهو وارث العلم النبوي الشريف الذي ضرب فيه بسهم وافر، حتى غدا ترجمان السنة وحافظها بلا منازع؟!
ولم يكن يندفع للعلم وكثرة الرواية ويتأخر عن العمل به، بل ضم إليه الخشية وكثرة التعبّد وحسن السمت والتزهد، وهذه قبسات مضيئة من سيره إلى الله عز وجل نستلهمها من زوامل أسفاره إلى الدار الآخرة:
أخرج البخاري وأحمد عن أبي عثمان النهدي قال: تضيفت أبا هريرة سبعًا، فكان هو وامرأته وخادمه يتعقبون الليل أثلاثًا، يصلي هذا، ثم يوقظ هذا، فكانت العبادة لا تنقطع في بيته طوال الليل. ويقول هو عن مسلكه في كل ليلة: إني لأُجزّئ الليل ثلاثة أجزاء: فثلث أنام، وثلث أقوم، وثلث أتذكر أحاديث رسول الله.
وكان يصوم الاثنين والخميس تطوعًا، وكان هو وابن عمر يخرجان إلى السوق أيام العشر الأولى من ذي الحجة يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وكان أمّارًا بالمعروف ونهّاءً عن المنكر، إذا رأى رجلاً ذا مال كثير يوصيه بإخراج الزكاة ويحذره من مغبة منعها، فنراه يقول: إياك وأخفاف الإبل، إياك وأظلاف الغنم، ثم يقول للرجل: إني سمعت رسول الله يقول: كذا وكذا، ويسوق له حديثًا في ذلك.
ومن أخلاق أبي هريرة العالية التي بوأته المكانة السامية كثرة برّه بأمه وملازمته إياها، فإنه لما سمع النبي يقول: ((للعبد المملوك المصلح أجران)) ، قال: والذي نفس أبي هريرة بيده، لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبرّ أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك.
قال سعيد بن المسيب: وبلغنا أن أبا هريرة لم يكن يحج حتى ماتت أمه لصحبتها. ومن بره بأمه أيضًا ما أخرجه ابن سعد بسند صحيح عنه أن النبي أعطاه تمرتين، قال أبو هريرة: فأكلت تمرة وجعلت تمرة في حِجري، فقال رسول الله : ((يا أبا هريرة، لم رفعت هذه التمرة؟)) فقلت: لأمي، فقال: ((كلها فإنا سنعطيك لها تمرتين)) ، فأكلتها وأعطاني لها تمرتين.
ولم يقتصر في بره لأمه فحسب بل تعدى إلى غيره، فوصل كرمه الضِيفان وإعتاقه للعبيد وإحسانه للموالي وكفالته الأيتام، فقد أعتق من ماله الأغر بن سُليك المدني بالاشتراك مع أبي سعيد الخدري الذي نزل الكوفة وصار من كبار محدثيها، وكانت له دار بالمدينة تصدق بها على مواليه، إلى حسنات أخرى يضيق المقام عن عدها.
وكان إلى جانب هذا حريصًا على تربية أولاده، فقد ربى ابنه تربية علمية جعلت كبار الرواة يحتاجون إليه ويروون عنه ما فاتهم من حديث أبيه كالشعبي والزهري وغيرهم.
أيها المسلمون، ولو استعرضنا تفاصيل سيرته المرضية لطال بنا المقام، ولم نأت على ربع معشار منها، لكن حسب المؤمن أن يعرف أن الأصل إذا طاب طابت فروعه، وأن القليل اليسير إذا كان مباركًا يدل على الخير الكثير، على حد قول الشاعر:
القليل منك يكفيني وقليلك لا يقال له: قليل
لما مرض أبو هريرة مرض الموت بكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا هريرة؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبعد السفر وقلة الزاد، لقد وقفت في نهاية طريق يفضي بي إلى الجنة أو النار، ولا أدري في أيهما أكون. وقد عاده مروان بن الحكم فقال له: شفاك الله يا أبا هريرة، فقال: اللهم إني أحب لقاءك فأحِبَّ لقائي وعجّل لي فيه، فما كاد يغادر مروان داره حتى فارق أبو هريرة الحياة.
فرحمة الله على أبي هريرة معلمًا وهاديًا ومجاهدًا وداعيًا وآمرًا وناهيًا ورائحًا وغاديًا، فقد حفظ للمسلمين ما يزيد على ألف وستمائة وتسعة من أحاديث رسول الله ، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
(1/4019)
أسلحة الأمة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
25/10/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضعف الأمة الإسلامية وقوتها. 2- أسباب للنصر لا يملكها إلا المسلمون. 3- من وراء اليهود؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لا أحد ينكر ما يحيط بالأمة من أخطار وأعداء من كل مكان من الداخل ومن الخارج، لكن أكثر ما يخيف الناس وبعض ضعاف الإيمان ما يمتلك العدو من أسلحة هائلة مخيفة، وقد يخالط بعض المسلمين رعب وخوف من هذه الأسلحة ومن هذه القوة المدمرة ومما يملك العدو من ترسانة عظيمة من قنابل محرقة وطائرات مخيفة وصواريخ مدمرة، وينشأ عن ذلك أحيانًا يأس وإحباط، فكيف يمكن للأمة المسلمة أن ترد عدوان هذا الثور الهائج صاحب القرون النووية الفتاكة؟! وربما ترتب على ذلك الهزيمة النفسية التي يريد العدو إيقاعها بنا، فنخاف من محاصرتهم لنا اقتصاديًا كما يهددون بين الفينة والأخرى، ونخاف من ضربة استباقية كما يزعمون، ونسينا أن قوة الله أعظم وجبروته أكبر، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، وقال الله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [محمد:10]، وقال تعالى: وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [الفتح:7]، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ [غافر:21]، وقال تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:15، 16].
أيها المسلمون، إن الثقة في الله جل وتعالى وتذكّر قوته وعظمته وأنه القادر على كل شيء وأن له ما في السموات وما في الأرض وأنه وحده المتصرف في الكون هي من أبجديات عقيدة المسلم، ولكن المسلم أحيانًا يضعف يقينه بالله في الأزمات والفتن، فيطغى عليه الخوف وتتنازعه الهواجس ما لم يتداركه الله برحمته، فيعود لكتاب الله وسنة نبيه ليستظل في ظلها حيث السكينة والطمأنينة والثقة بنصر الله ووعده.
أيها المسلمون، ما من شك في أن الإعداد واتخاذ الأسباب الممكنة لمواجهة الأعداء واجب شرعي وأمر مطلوب، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60]، ولكن الأمة المسلمة كغيرها من الأمم تمر بها فترات قوة وضعف ونصر وهزيمة، ولربما تراكمت عليها المحن والأزمات وقادها أصحاب الشهوات والمصالح الخاصة فأضعفوها وأفرغوها من قواها حتى تصبح أشباحًا أمام أعدائها، ولذلك فلا بد لها ـ والحالة هذه ـ أن تتذكر أن لديها من السلاح الفتاك ما تستطيع به النهوض من كبوتها، فهي ليست كغيرها من الأمم، فيد الله ترعاها وإن قصّرت أحيانًا، وقوة الله تحميها وإن ضعفت أحيانًا، فلها حبل متين مع القوة الإلهية العظمى مهما أصابها من ضعف وهوان وتسلط للأعداء، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، والعجيب أن هذه الأسلحة الفتاكة التي تختص بها الأمة المسلمة لا يستطيع عدوها كائنًا من كان أن ينتزعها منها، إلا أن توافق هي بإرادتها فتتخلى عنها عجزًا وكسلاً وخذلانًا، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
وهل حقًا تملك هذه الأمة وفي هذا الوقت من الأسلحة التي يمكنها أن تواجه به أسلحة ما تسمى بالدول العظمى؟! الجواب: نعم. إليك بعض هذه الأسلحة التي تملكها الأمة ما يمكّنها من منازلة عدوها وقهره بإذن الله وحوله وقوته:
السلاح الأول: الإيمان بالله سبحانه، والإيمان بالله له شأن عظيم، فهو يزرع اليقين والثقة بوعد الله ونصره، وهو من أعظم أسباب الثبات في المعارك مع الأعداء، فالمؤمن لديه قوة وشجاعة وإقدام وتوكل على الله سبحانه، ولديه يقين بأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قال الله تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، وقال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، فمن لديه الإيمان بقوة الله المطلقة فلن يخاف إلا الله، ومهما امتلك الأعداء من الطائرات المدمرة والسفن الهائلة والمدرعات المحرقة وصواريخ عابرات القارات فهي تحت قدرة الله وملكه، فلو شاء لعطلها جميعًا، فالسماء سماؤه، والأرض أرضه، والبحر من جنوده، فأين يذهبون؟!
السلاح الثاني: الرعب، وهذا سلاح فتاك يلقيه الله في قلوب الكافرين متى صدق المؤمنون مع ربهم ونصروا دينه وأخلصوا له العمل، قال الله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151]، وقال تعالى: وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا [الأحزاب:26]، ومن ثم فحينما يركن المسلمون إلى الدنيا وشهواتهم يسلط الله عليهم ذلاً وينزع مهابتهم من قلوب أعدائهم كما ورد بذلك الحديث.
رعب وخوف الكفار من المؤمنين أمر أوجده الله في قلوبهم، فلا نحتاج أن نبذل شيئًا لإيجاده، وقد صح عن رسول الله أنه قال: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر)). فالواجب علينا الاستعداد والمسير، ولا يجب علينا أكثر من ذلك. وكم نقرأ هذه الأيام تقارير ينشرها الغرب نفسه عن أحوال تصيب بعض جنودهم في بعض بلدان المسلمين التي دخلوها، وأنه أصاب أعدادًا منهم أمراض نفسية وخوف وذعر غير طبيعي، وصدق الله العظيم: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمْ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ [آل عمران:151].
السلاح الثالث: الملائكة، وهم جند من جنود الله سبحانه وتعالى، يؤيد الله بهم عباده المؤمنين، والسيرة مليئة بقصصهم في قتالهم مع رسول الله ومع الصحابة رضوان الله عليهم، قال الله تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان [الأنفال:11، 12]. لقد شهدت الملائكة عددًا من الغزوات مع النبي ، وهذا ليس خاصًا بذلك الجيل القرآني الفريد، بل متى ما صدق المسلمون وأخلصوا لله في قتالهم قاتلت معهم الملائكة، وعندها لا ينفع الكفار أي نوع من السلاح استخدموه.
السلاح الرابع: ذكر الله الدائم، وهذا له أثر عظيم في صلة المؤمنين بربهم وثباتهم، ولذلك أوصى الله عباده المؤمنين بذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، وقد ورد في الأثر أن المسلمين يفتحون مدينة على البحر بالتكبير، فيكبرون التكبيرة الأولى فيسقط جانبها الأول، ثم يكبرون التكبيرة الثانية فيسقط جانبها الآخر. فسبحان من أمره بين الكاف والنون، وما أعظم هذه الكلمة لو وعاها المسلمون، فلها وقع عظيم في نفوس الكافرين، بل إنها سرعان ما تزلزل قلوبهم فلا يلوون على شيء إذا قرعت آذانهم. لقد كان التكبير شعار المسلمين المقاتلين في القادسية واليرموك ونهاوند وغيرها من معارك الإسلام الكبرى فعملت عملها ـ بإذن الله ـ في نفوس المسلمين، وألقت الرعب في قلوب الكافرين، وجاء بعدها نصر الله.
السلاح الخامس: الريح، وهي من جنود الله التي نصر بها عباده في مواطن عديدة، ومنها ما حصل يوم الخندق يوم تحزّب الكافرون لاستئصال النبي والقلة المؤمنة التي كانت معه في المدينة، فقال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9].
السلاح السادس: الدعاء، وهو سلاح عظيم به يتنزل النصر، وقد كان النبي يبدأ معاركه بالدعاء، وما قصته يوم بدر إذ سقط عنه رداؤه من شدة مناشدته ربه في الدعاء إلا دليل على أهمية الدعاء في ساحات المعارك وفي مقارعة أعداء الله، ورُب دعوة ضعيف من المسلمين كانت سببًا في نصرهم، وفي الحديث قول النبي : ((إنما تُنصرون وترزقون بضعفائكم)).
أتهزأ بالدعاء وتزدريه وما تدري بِما فعل الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن لَها أمد وللأمد انقضاء
السلاح السابع: الشوق إلى الجنات، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111]، وقد كان النبي يحث أصحابه على الجهاد ويشوقهم إلى الجنات حتى قال عمير بن الحُمام وهو يأكل تمرات: (ما بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟) ثم ألقى التمرات ومضى مجاهدًا إلى ربه حتى استشهد رضي الله عنه وأرضاه، وذاك أنس بن النضر يقول وهو منطلق لقتال الكفار: (واهٍ لريح الجنة! والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد). وهذا الشوق من أعظم ما يدفع المؤمنين لمبارزة العدو.
وكيف لا يبذل المسلم روحه في سبيل الله؟! وكيف لا يشتاق إلى جنة الله في وسط لمعان السيوف وتطاير الرؤوس وصوت البنادق وتدمير القنابل وقد حفظ قول النبي : ((إن للشهيد عند ربه سبع خصال: أن يغفر له في أول دفعة في دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلّى حلية الإيمان، ويجار من عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه)) ؟!
هل من يَموت بِميدان الجهاد كما موت البهائم فِي الأعطان تنتحر
كلاَّ وربِّي فلا تشبيه بينهمُ قد قالَها خالد إذ كان يَحتضر
أهل الشهادة فِي الآثار قد أمِنوا من فتنةٍ وابتلاءاتٍ إذا قُبروا
ويوم ينفخ صور ليس يزعجهم والناس قائمةٌ من هوله ذُعروا
وما سوى الدَّين من ذنب وسيّئةٍ على الشهيد فعند الله مغتَفَر
أرواحهم في عُلى الجنّات سارحةٌ تأوي القناديل تحت العرش تزدهر
وحيث شاءت من الجنات تحملها طير معرّدةٌ ألوانُها خضر
إن الشهيد شفيع فِي قرابته سبعين منهم كما في مسندٍ حصر
والترمذي أتى باللفظ فِي سنن وفِي كتاب أبِي داود معتبر مع ابن ماجة والْمقدام ناقله في ضمن ست خصال ساقها الخبَر
ما كل من طلب العلياء نائلها إن الشهادة مَجد دونه حفر
وقد تردّد فِي الأمثال من زمن لا يبلغ الْمَجد حتَّى يلعق الصّبِر
ربِّي اشترى أنفسًا ممَّن يَجود بِها نعم المبيع وربِّ العرش ما خسروا
السلاح الثامن: السكينة والطمأنينة، وهي من أسباب الثبات في المعارك، قال الله تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:26].
السلاح التاسع: الصبر ومضاعفة العدد، قال الله تعالى: الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:66].
وهكذا فإن لهذه الأسلحة الخفية أثرًا عظيمًا في قوة المسلمين وثباتهم وانتصارهم، فمتى ما صدقت الأمة ربها ونصرت دينه جاءهم نصر الله ومدده، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، ومهما بلغت قوة الأعداء فإن الله أقوى منهم، فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6].
فاصبري ـ أمة الإسلام ـ واثبتي وأَقبلي على ربك ولا تخشي ما عند الأعداء من قوة، فإن الباطل مهما انتفش فهو هباء، إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [الإسراء:81]، قال الله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: 8]، وقال تعالى: ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ [الأنفال:18].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن كل حرب في التاريخ لها هدف ظاهر أو خفي، حقًا كان أو باطلاً، وبهذا تجري سنة التدافع قدرًا وشرعًا، حتى تضع الحرب أوزارها، قال الله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ [البقرة:251]، وثمة فساد عريض في الأرض اليوم لا مناص من جريان سنن الله القدرية والشرعية لاستنقاذ الإنسانية منه بدفع أهل الإيمان على أهل الطغيان، وإلاّ فسدت الأرض أكثر وأكثر. ولا إفساد اليوم أكثر من إفساد كفار بني إسرائيل من يهود ونصارى؛ ذلك أن طوائف من النصارى قد لحقت حكمًا باليهود في اعتقادهم وإفسادهم منذ زمان، بل كادوا يسبقون اليهود في العلو في الأرض فسادًا، أولئك هم طوائف الإنجيليين الصهيونيين النصارى الذين صنعوا على أعينهم الصهيونية اليهودية في القرون المتأخرة.
إن هناك عددًا من الحقائق الماثلة اليوم تستحقّ النظر والتأمّل فيما يحدث من تواطؤ وتطابق بين الطائفتين المتزعمتين للفساد في الأرض عامة وفي بلاد المسلمين خاصة، من ذلك أن نصارى الغرب هم أسبق من اليهود في اعتناق المذهب الصهيوني في العصر الحديث، هؤلاء النصارى هم الذين أقنعوا اليهود وذكّروهم ونظَّروا لهم لكي يتجمّعوا في فلسطين، وهم الذين خططوا ونفذوا مشروع توطينهم فيها وتكفّلوا بحمايتهم ما بقيت دولتهم. هؤلاء النصارى هم المسؤولون عن إبقاء الأمة الإسلامية في انشغال دائم بما يُدخلونه عليها من فتن وحروب ونزاعات بسبب الحدود المصطنعة والعناصر والزعامات العميلة، وذلك عبر سلسلة طويلة بدأت في العصر الحديث بإسقاط الكيان السياسي العالمي الأخير للمسلمين: "الخلافة العثمانية"، والحيلولة دون إقامتهم كيانًا عالميًا آخر باستخلافهم بعد الاستعمار لشرائح من المنافقين في أكثر ديار المسلمين لضمان عدم نهوض الأمة بالإسلام مرة أخرى.
أيها المسلمون، إن الكوارث العظام التي تصيب البشرية إنما هي نتيجة الظلم والفساد في الأرض، قال الله تعالى: قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام:65]، وعند نزول الكوارث العظام لا بد من الرجوع إلى القرآن الكريم الذي يقول لنا: قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ [آل عمران:165].
لماذا يخاف البعض من اليهود والنصارى وقد أثبتت الأحداث القديمة والجديدة أنهم أضعف مما نتصور؟! ورغم امتلاكهم للأسلحة المتطورة فإن عنصر الإنسان يبقى له دور مهم، وهؤلاء يعتمدون على التقنية لأنهم لا يملكون الإنسان الجادّ، وهذا يؤكد لنا مرة أخرى أن المشكلة ليست في صعوبة مواجهة الكيان الصهيوني أو النصراني، بل في النية أصلاً لمواجهته.
أيها المسلمون، إن شبح الحرب في هذه الأيام مقلق للجميع، ولا أحد يدري ماذا في علم الغيب، لكن الله جل وتعالى أراد أن يكشف ما كان مستورًا، وهو التعصب النصراني والحقد الصليبي وكره الإسلام والمسلمين الذي كان مغطّى بقشرة رقيقة من الحرية والديمقراطية، فهل من مدّكر؟!
لقد أثبت التاريخ أن العرب إذا لم يهتدوا بهدي الإسلام الذي يغيّر من تركيبتهم الداخلية ويصوغهم صياغة جديدة فإنهم سيعيدون حرب البسوس وداحس والغبراء التي يفنى فيها المال والأهل والولد. لقد قامت حرب البسوس بين ربيعة وبَكر لأسباب تافهة، من أجل ناقة جرباء، ولم تنته إلا بعد أربعين عامًا. وإن الذين يراهنون على المد القومي يثبتون أنهم أغبياء للمرة الثانية، فليس هناك إلا الله أو الدمار.
إن الأمة الإسلامية تعيش هذه الأيام حالة من الاستنفار لم يسبق أن عاشتها في أزمنتها الأخيرة، كردّ فعل على ما يمارس في حقها تحت شعارات تعددت أسماؤها وتلونت راياتها واتحدت أهدافها وغاياتها، فما كان مخبوءًا انكشف أمره، وما كان تورية انكشف عواره، لقد تقطعت الحجب وانقشعت السحب التي كانت تلف جميع تلك الشهب، ولم تعد الأمور تنطلي حتى على الغافلين والمغفلين من أبناء هذه الأمة الذين تصوروا ردحًا من الزمن أنه من الممكن أن يعيشوا وسط قرية عالمية ملؤها المحبة والإخاء والمودة والعدل والمساواة، والكل سينهل من معين الديموقراطية، ويَغرف من زلال حقوق الإنسان، وينعم بخيرات حرية التجارة مهما تنوعت ثقافاتهم وتعددت أعراقهم وألوانهم، فكل هذه الفقاعات ذهبت وبان كذب مدّعيها.
أيها المسلمون، إن المسلمين أمة مجاهدة، وقد أثبتت تجارب التاريخ ـ البعيد منه والقريب ـ أنهم يهون عليهم كل شيء في سبيل أن يبقى لهم دينهم الذي هو روحهم وعنوان وجودهم، وأنه لا شيء يجمعهم ويحشد طاقاتهم ويستنفر جهودهم مثل التعرض لهذا الحمى المنيع حمى الإسلام، فأين هؤلاء الذين تترنح نفوسهم بنشوة القوة وحب الهيمنة عن هذه الحقيقة البسيطة؟!
إن الغرب اليوم يستهين بالمسلمين استهانة غير مسبوقة، وتستفز مشاعرهم على جميع المستويات الرسمية والشعبية، وتعلن عليهم حربًا سافرة بلا قناع، حيث تستخدم هذا القناع الشفاف الذي تتستر به قناع الحرب على الإرهاب، وقد جرّب غيرها كل أنواع الحروب سافرة ومقنّعة ضد المسلمين، فلم يحققوا ما أرادوا لجهلهم بالعوامل التي يستمد منها المسلمون ثباتهم وصبرهم وبالعناصر التي تؤلف سر قوة الإسلام واستعصائه على المقارنة بالمبادئ الأرضية الأخرى. فلسنا كالنازية ولا الشيوعية، نحن عقيدة حية تسكن نفوسًا لا يمكن القضاء عليها بالتهديد أو باستخدام العنف، ونحن أمة تجمع شعوبًا كثيرة ذات أعراق ولغات مختلفة، ولكنها كلها تنطق بلا إله إلا الله محمد رسول الله والله أكبر، أكبر من كل كبير، وأعظم من كل عظيم، وأكثر جبروتًا من كل جبار متغطرس.
إن المسلم العادي الذي يجد يديه مكبلتين عن الحركة بينما يجد حواليه الظلم قد تجاوز كل حد والعدوان قد انطلق لا يردعه شيء يحز في نفسه أن يصبح هدفًا لكل قوى الشر في هذا العصر، لكنه يطمئن إلى أن الله معه ولن يتخلى عنه تحقيقًا لقوله عز وجل: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11]، وقوله سبحانه: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].
نسأل الله تعالى أن يتولى الأمة بحفظه وينصرها على أعدائها ويحفظ عليها دينها وأمنها، إنه سميع مجيب.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين والكفرة الملحدين واحم حوزة الدين...
(1/4020)
أعياد الكفار
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان
أديان, الولاء والبراء
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
26/6/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقيدة النصارى في عيسى عليه السلام. 2- من خرافات النصارى في أعيادهم. 3- وجوب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب. 4- حكم مشاركة الكفار في أعيادهم وصور ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: سيشهد العالم بعد أيام معدودات نهاية عام ميلادي ودخول عام جديد، وكما لا يخفى على الجميع أنه سيصحب ذلك مناسبتان أو عيدان من أعياد النصارى كما هو مقرر في دينهم المحرف الفاسد.
وخلال هذه الأيام تجد هناك التجهيزات والاستعدادات من قبل النصارى لاستقبال هذه المناسبة، سواء كانت في دولهم وبلادهم أو كانت في المجتمعات والأوساط التي يعيشون ويتجمعون فيها خارج بلادهم.
ولما كان هناك أمران: الأول: جهل كثير من المسلمين بحقيقة هذه الأعياد وجهلهم بعقيدة النصارى كذلك، والثاني: دخول بعض المسلمين إما جهلاً وإما قصدًا معهم في أعيادهم، إما مشاركة أو رضًا أو دنيًا من خلال البيع والشراء والاستئجار أو تهنئةً أو غيرها من صور المشاركات كان لا بد من كلمة بهذا الصدد توضيحًا للحق.
لقد احتار النصارى أنفسهم في أمر عيسى عليه السلام؛ فمنهم من قال: إنه هو الله، ومنه من قال: إنه ابن الله، وقائل: إنه ثالث ثلاثة، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
وإذا كان نصارى اليوم قد نسبوا إلى عيسى عليه السلام القول بألوهيته أو بنوته لله تبارك وتعالى، فإن عيسى عليه السلام سوف يكذبهم ويفضحهم على ملأ من الأشهاد يوم القيامة، حيث يقول الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:116، 117].
إن الذين يؤلهون عيسى عليهم السلام أو الذين يدّعون له نبوة لله تبارك وتعالى حاشاه عز وجل أو يقولون: إن الله ثالث ثلاثة أولئك هم الكفار الفجار الضلال الذين يجب علينا نحن هذه الأمة أمة التوحيد أن نبرأ منهم ومن قولهم، قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمْ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة:73-75].
أيها المسلمون، وبعد بيان كفر هؤلاء القوم المنتسبين إلى نبي الله عيسى عليه السلام زورًا وبهتانا، وبعد وضوح ضلالهم وكفرهم وشركهم بنص كتاب الله عز وجل، ماذا يكون شأن عيدهم؟ لا شك أنه عيد شرك وكفر وضلال، والذي يدلكم على كفر هذا العيد وفساده ما يحصل فيه من منكرات كفرية بدعية واضحة، فمن ذلك أن كل واحدٍ منهم يحضر طبقًا من الطعام ويضعونه بعد ذلك على مائدة طويلة، ثم تزاح جميع الأغطية عن تلك الأطعمة لمدة من الزمن تستغرق ساعة أو أقل أو أكثر، فلماذا يزيحون تلك الأغطية عن تلك الأطعمة التي يُحضرونها؟ يقولون: حتى يباركها الرب، ومن هو الرب عندهم؟ هو المسيح عليه السلام، يأتي ليبارك لهم طعامهم ذلك في تلك المناسبة الكفرية، ثم بعد ذلك يأكلون من تلك اللقمة المقدسة بزعمهم.
ومن المنكرات التي تحصل في هذه الأعياد الكفرية ـ وهذا يحصل في عيد رأس السنة الميلادية ـ أنهم يملؤون كؤوس الخمر ليلة رأس السنة، ويبلغ الانحلال أقصاه ـ كما يقولون ـ في ساعة الصفر، وهي الساعة الثانية عشرة ليلاً، حيث تطفأ الأنوار في تلك الساعة، ليتمكن شياطين الإنس من ممارسة ومقارفة معصية الله تبارك وتعالى، ففي تلك اللحظة يستباح المحظور جهرًا، وتدب رعشات الرذيلة والوقاحة، حقًا إنها ساعة الصفر من العرض والشرف، إنها لحظة الصفر من البناء الخلقي والدين، إنها لحظة الصفر من الرجولة والحياء، فهل هذا عيد يمكن أن ينسب إلى نبي من أنبياء الله؟!
أيها المسلمون، ليس غريبا من النصارى أن يفعلوا مثل هذه الأفعال، فإنه ليس بعد الكفر ذنب، لكن الغريب نورده في هذا السؤال الذي يطرح نفسه.
كلنا يعلم ـ ولله الحمد ـ بأن أنظمة البلاد لا تسمح لهم بإقامة أعيادهم الكفرية، وقد صدرت أنظمة وتعميمات صارمة بهذا الشأن، فكيف يخالف هؤلاء الكفرة تعليمات البلد ونظام الدولة، ويقيمون مثل هذه الأعياد الكفرية في بلد التوحيد؟! وكيف تقام هذه الأعياد الكفرية في بلاد الوحي، ويعلن فيها الشرك علانية، وتدار كؤوس الخمر؟! وكيف تسمح بعض الشركات لنفسها بأن تخالف توجيهات بلاد الحرمين، وتحتفل بعيد ميلاد المسيح كل عام؟!
إنها ـ والله العظيم ـ لإهانة بالغة لنبي الله عيسى عليه السلام، إضافة إلى الاستخفاف والاستهانة بمشاعر المسلمين، بأن يمارس هؤلاء المحتفلون من الكفرة ألوانًا من المجون وأشكالاً من العربدة في بلادنا. هؤلاء الكفرة في السابق لم يكن أحد منهم يجرؤ على أن يرفع رأسه في بلاد الحرمين فضلاً عن دخوله؛ لأن دخولهم وبقاءهم في الجزيرة أصلاً لا يجوز، ولا بد من إخراجهم من جزيرة العرب بنص حديث رسول الله ، حتى وصل حالهم الآن إلى أن يرفعوا ليس رؤوسهم بل صليبهم، بل تعطي بعض الشركات إجازات رسمية لموظفيها لكي يتفرغوا لإقامة الكفر والسكر والمجون والعربدة. إنا لله وإنا إليه راجعون. تصل الدنية في الدين إلى هذا الحد، ويصل الاستخفاف بالإسلام في بلاد الإسلام وفي بلاد تعتبر هي الحامية للإسلام والمقيمة لشرع الله في نظر الناس إلى هذه الدرجة.
أيها المسلمون، عباد الله، وهنا سؤال آخر أيضًا يفرض نفسه: هل الدول النصرانية تسمح للمسلمين بأن يقيموا أعيادهم ومناسباتهم أو حتى على الأقل تأبه لهم؟! وهل سمعنا عن دولة ما أنها أعطت المسلمين العاملين في بلادهم عطلة رسمية لكي يحتفلوا بأعيادهم ويعبدوا الله عز وجل كما يريدون؟! هناك بعض الدول الكافرة يبلغ فيها نسبة المسلمين أكثر من 20 في المائة، ومع ذلك لا يعطون أية فرصة لرفع شعار دينهم، ونحن هنا في بلد التوحيد نقرهم على الكفر والبدعة، فلماذا نكرمهم وهم يهينوننا؟! ولماذا نقدرهم وهم يسخرون بنا؟! لماذا نمكن لهم في بلادنا وهم يحاربوننا؟!
إن مثل هذه المعادلة لا يشعر المسلم معها بالعزة والكرامة، بل يشعر بالذلة والمهانة، ومع كل أسف فإننا نسمع من أبناء هذه البلاد من ينفق بدعوى التسامح، وأن هذا من باب التسامح معهم، والإسلام دين السماحة. إن التسامح ـ أيها الإخوة ـ لا يكون من الأضعف المقلّد إلى القويّ المبتدع، كما أن الأعياد الدينية النصرانية الكافرة ليست من أبواب التسامح مع الكفار في شيء. فنسأل الله عز وجل أن يبصرنا في ديننا، وأن يوفق المسؤولين لمنعهم في هذا العام، وأن تعاقب كل من يخالف نظامًا أو قانونًا صادرًا من هذا البلد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن حرص النصارى على إقامة هذه الأعياد الكفرية يعتبر جزءًا من عقيدتهم، لذا فلا تستغرب حرصهم على إقامتها، بل بذل كل ما في وسعهم لإزالة العقبات التي قد تحول بينهم وبين إقامتها، فهم لا يستغرب منهم أي عمل، فكما قلت بأنه ليس بعد الكفر ذنب، لكن مصيبتنا نحن المسلمين في بعض المسلمين، المصيبة هي مشاركة بعض المسلمين لهؤلاء النصارى في هذه الأعياد الكفرية، وهذه المشاركة أخذت صورًا عدة في زماننا هذا، فمن المسلمين من يشاركهم في حضورها ويحتفل معهم وكأنه ـ والعياذ بالله ـ واحد منهم، تجده يلهو ويلعب ويضحك بملء فمه معهم، فكيف يرضى مسلم لنفسه أن يقع في مثل هذه الأمور؟! كيف يرضى مسلم لنفسه أن يلوث عقيدته الصافية النقية ـ عقيدة لا إله إلا الله ـ بعقيدة النصارى الذين يدّعون بأن الله ثالث ثلاثة تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرا؟!
إن مشاركة المسلم الكفار النصارى بهذا الشكل ـ أيها الإخوة ـ ليست مسألة إثم ومعصية، وليست مسألة خطأ وزلة، لكنها قد تكون مسألة إيمان وكفر، وقد قال رسول الله : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن أقل أحوال هذا الحديث أن يكون منهم، أي: كافرًا مثلهم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]"، فأيّ منكر أعظم ـ أخي المسلم ـ أن تشارك النصارى في أعيادهم الكفرية؟! وبأي وجه تريد أن تلقى رسول الله غدًا يوم القيامة وقد خالفت سنته وفعلت فعل القوم الكافرين الضالين أعداء الدين؟!
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "إن الأعياد من جملة الشرائع والمناهج والمناسك التي قال الله سبحانه وتعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، كالقبلة والصلاة والصيام، فلا فرق بين مشاركتهم في العيد وبين مشاركتهم في سائر المناهج، فإن الموافقة في جميع العيد موافقة في الكفر، والموافقة في بعض فروعه موافقة في بعض شعب الكفر".
صورة أخرى من صور المشاركة: التهنئة؛ وذلك بأن يهنئ المسلم بعض الكفار على أعيادهم، وهذا يقع فيه الكثير من موظفي الشركات التي يعمل فيها عدد كبير من النصارى، فإنك لتسمع تبادل التهاني، بل ربما يصل الأمر إلى إرسال بعض المسلمين بطاقات التهنئة لبعض الكفار بمناسبة أعيادهم.
وهذا ـ يا عباد الله ـ منكر عظيم وحرام كبير، قال الإمام العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في كتابه الفذ: أحكام أهل الذمة، قال رحمه الله: "أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق، وذلك مثل أن يهنئهم بأعيادهم، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، فمن هنأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه" انتهى كلامه رحمه الله.
ومن صور المشاركة أن نبيع عليهم كل ما يستعينون به على إقامة شعائر دينهم وأعيادهم، وهذا لا يجوز، وبيعهم هذه الأشياء حرام، فلا يجوز أن يباع لهم أي شيء يستعينون به على إقامة كفرهم وضلالهم وشعائرهم الدينية، فالذي يستورد لهم شجرة الميلاد والذي يبيع لهم أنوار الزينة والذي يبيع لهم بطاقات المعايدة والتهنئة والذي يؤجر لهم الفنادق أو المسارح أو الأحياء المغلقة أو المجمعات السكنية ليقيموا فيها حفلات الميلاد فعمله هذا حرام، وماله الذي يجنيه من ذلك سحت، وأي لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "ولا يجوز بيع كل ما يستعينون به على إقامة شعائر دينهم".
فاتقوا الله عباد الله، كيف نرفعهم وقد أذلهم الله؟! كيف نكرمهم وقد أهانهم الله؟! كيف نتعاون معهم ونهنئهم وقد توعدهم الله؟!
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1].
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين...
(1/4021)
ألا إن نصر الله قريب
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/8/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تسلية وتصبير المؤمنين بتحقق وعد الله. 2- الأيام دول. 3- دلائل نصر هذه الأمة في آخر الزمان. 4- النصر والتمكين لدين الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن المخلص من هذه الأمة وهو يتأمل في حالها اليوم وما وصلت إليه من القهر والذل قد يتبادر إلى ذهنه هذا السؤال: هل يمكن أن تقوم للمسلمين قائمة، ويرجع المسلمون إلى عزهم ومكانتهم، بل وإلى قيادة البشرية كما كان أسلافهم؟! هل يمكن أن ترجع الأمة إلى سالف عزها بعد أن تكالب عليها أعداؤها من كل جانب وقاموا بضربها بيد واحدة؟! هل ستفيق هذه الأمة من نومها خصوصًا بعد أن قام أناس من أبنائها بمحاربة دينها، وأصبحوا هم الذين يطاردون الصلاح فى كل ناحية من نواحيها؟! فليس الغريب أن يحصل ذلك من الكفار أو من اليهود أو من النصارى فهذا أمر طبيعي، لكن الغريب والمؤلم أن يحارب الإسلام أهل الإسلام، المؤلم أن يفتك أناس من هذه الأمة بها أكثر وأشد من فتك اليهود والنصارى، فهل بعد هذا كله ـ وفى ظل الظروف الحالية التى تمر بها أمتنا ـ يمكن أن تعود الأمة وتقوم من سباتها وتنفض غبار النوم عنها؟! وهل سيأتى نصر الله عز وجل بعد الوصول إلى هذه الحالة؟!
إن هذا سؤال قد يرد على أذهان البعض، وهو سؤال ليس بغريب، بل وفى محله ووقته، لذا فإنى رأيت أنه من المناسب أن أخصّص هذه الخطبة فى الإجابة على هذا السؤال، فأقول وبالله التوفيق ولا حول ولا قوة إلا به سبحانه وتعالى:
لا شك أن كل مسلم يتطلع دائما إلى نصر الله عز وجل لأوليائه المؤمنين، وكيف لا يتطلع وهو يقرأ فى كتاب ربه: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]؟! كيف لا وهو يقرأ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]؟! فنصر الله عز وجل لهذه الأمة قريب كما قال ربنا، فكل لحظة من حياتنا وكل ذرة من ترابنا وكل شيء فى حياتنا تؤكد معنى هذه الآية: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
أيها المسلمون، لا بد أن نعلم ـ بل نعتقد ـ بأن الحق والعدل أساس فى هذا الكون وأصل فى بناء السماوات والأرض، والدنيا بدأت بالحق وستنتهي بالحق، ويوم القيامة يتجلى الحق فى أعلى وأجل صورة، ومن هذا الحق أن تعود لأمة الإسلام قيادتها للبشرية، ومن الحق أن يعود حكم الإسلام فى الأرض كله، ومن الحق والعدل أن تزول هذه الغشاوة وتنقشع هذه الغمة، وتعود هذه الأمة إلى وضعها الطبيعى، ويتحقق قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
أيها المسلمون، لا يغركم انتعاش الكفر وتسلطه على الدنيا في هذه الفترة، فإن الله جل جلاله يقول: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، فإن الكفر والباطل وإن تسلط فإن تسلطه محدود بقدر من الله، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستمر هذا التسلط وهذه الغلبة فإن لكل شيء نهاية، ولنفرض أن الكفار استطاعوا أن تكون لهم الغلبة مدة الحياة الدنيا كلها مع أن هذا الافتراض ليس بصحيح، ولكن لنفترض ذلك أليس نحن المسلمين نعتقد ونؤمن بأن الله وعدنا بالآخرة ووعدنا بالجنة ووعدنا بالحياة الأبدية الباقية؟! فما قيمة الحياة الدنيا من أولها إلى آخرها مقارنة بالآخرة؟! لا شيء، فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]. فليأخذوا هم الدنيا بأسرها، ولتكن لنا الآخرة. وكما قلت: فإن هذا الافتراض ليس بصحيح؛ لأنها حتى فى المدة الزمنية في هذه الدنيا فإن حكم المسلمين وتمكنهم أطول وأكثر من تسلط الكفار وتمكنهم.
إذًا لا بد أن لا نغفل الآخرة حين نقارن، فإغفال الآخرة يخل بالمقاييس وتضطرب الأمور، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما الدنيا بالنسبة للآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع)).
أيها المسلمون، لماذا قص الله علينا في كتابه قصة أصحاب الأخدود بهذه الطريقة لمن تأملها وبتلكم النهاية التي انتهت إليه؟ إنه حادث مؤلم جدًا، أن تحفر حفرًا في الأرض ثم تؤجج فيها النار ويلقى فيها أبرياء لا ذنب لهم سوى الإيمان، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود. إنه حادث بشع، ولحكمة لم تذكر الروايات التي وردت في هذا الحادث كما لا تذكر النصوص القرآنية أن الله قد انتقم منهم بسبب جريمتهم البشعة، كما أخذ قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط، أو كما أخذ فرعون وجنوده أخذ عزيز مقتدر. وعند المقارنة المادية وإغفال عالم الآخرة يكون هؤلاء المجرمون هم المنصورون، وأولئك المؤمنون هم الخاسرون، لكنّ الله عز وجل يخبرنا بهذه الحادثة في كتابه وبهذه النهاية ليعلمنا شيئًا آخر وليكشف لنا عن حقيقة أخرى قد نغفل عنها وهو أن الحياة الدنيا وسائر ما يلابسها من لذائذ وآلام ومن متاع وحرمان ليست هي القيمة الكبرى في الميزان، وليست هي السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة، والنصر ليس مقصورًا على الغلبة الظاهرة، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة.
إن القيمة الكبرى في ميزان الله هي قيمة العقيدة، وإن السلعة الرائجة في سوق الله هي سلعة الإيمان، وإن النصر في أرفع صوره هو انتصار الروح على المادة، وانتصار العقيدة على الألم، وانتصار الإيمان على الفتنة، ولم تعد مجال المعركة هو الأرض وحدها، وليس هو الحياة الدنيا وحدها، وشهود المعركة ليسوا هم الناس في جيل من الأجيال، بل إن الملأ الأعلى يشارك في أحداث الأرض ويشهدها ويشهد عليها، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [البروج:8، 9]. وهكذا اتصلت حياة المؤمنين في الأرض بالحياة الباقية الخالدة في الملأ الأعلى، واتصلت الدنيا بالآخرة، ولم تعد الأرض وحدها هي مجال المعركة بين الخير والشر والحق والباطل والإيمان والطغيان، ولم تعد الدنيا هي خاتمة المطاف ولا موعد الفصل في هذا الصراع. لقد انفسح المجال في المكان، وانفسح المجال في الزمان، وانفسح المجال في القيم والموازين، واتسعت آفاق النفس المؤمنة وكبرت اهتماماتها، فصغرت الأرض وما عليها والحياة الدنيا وما يتعلق بها، وكبر المؤمن بمقدار ما معه من إيمان غيبي وما عرف من الآفاق وما يتعلق بالحياة الآخرة، إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:10-12].
أيها المسلمون، قد يقول لنا الكفار: أنتم تتسلّون بهذا الكلام، وتسلّون أنفسكم بعدما رأيتم بأننا هيمنا على الشرق والغرب وقبضنا زمام هذه الدنيا وصار كل شيء تحت تصرفنا، أصبحتم تقولون بأنكم تنتظرون الجنة، وأن الآخرة أفضل من الدنيا، وأن الدنيا لا تقاس بالآخرة، وأن نعيم الكفار فى الدنيا ونعيم المؤمنين في الآخرة، فأنتم تسلون أنفسكم بهذا الكلام؛ لأنكم عاجزون أن تصلوا إلى ما وصلنا إليه.
فيقال ردًا على هذه الشبهة: وإن كنّا نتسلى بهذا الكلام لكنه حساب منطقي جيد، حتى فى نظر غير المؤمنين، حتى فى نظركم أنتم أيها الكفار؛ ألم تر أن الكفار هم أنفسهم يرضون أحيانًا بذل مؤقَّت طمعًا فى نصر كبير، نعم الكفار أنفسهم يرضون بذل مؤقت طمعًا فى نصر كبير، خصوصًا إذا توقعوا أن بعد هذا الذل فوزا أكبر منه، فلماذا تعيبون علينا ـ نحن المسلمين ـ إذا وقعنا تحت قهر وذل خارج عن إرادتنا ونحن موعودون بنعيم وفوز أعظم وأكبر من الدنيا كلها؟!
ولأضرب لكم مثالاً يوضح هذه القضية، وليكن المثال فى الكفار أنفسهم، ولنختر اليهود بالذات لأنهم حديث الساعة هذه الأيام وكل الأيام، ولنرجع قليلاً إلى الوراء إلى أيام أزمة الخليج، لماذا لم ينتقم اليهود من الصواريخ التي أرسلها النظام العراقي والتى أصابت بعض المواقع في تلك الأزمة وحققت بعض الخسائر عند اليهود، خسائر في الأوراح فضلاً عن الخسائر المادية؟! لماذا رضي اليهود بذلك الذلّ المؤقت ولم ينتقم من العراق؟! هل عجزًا؟! الجواب: لا، هل خوفًا؟! الجواب: لا، لكنهم رضوا بذلك الذل المؤقت طمعًا فى تحقيق نصر أكبر. ولعل الأحداث بعد ذلك كشفت عن المكاسب اليهودية من ذلك السكوت ومن ذلك الذلّ المؤقت. ماذا كان يحصل لو أن إسرائيل ردت على العراق فى تلك الفترة الصاع صاعين؟! لا نريد أن ندخل فى علم الغيب والعلم عند الله عز وجل، لكني أطرح سؤالاً: هل مشروع السلام كان سيتم بعد انتهاء أزمة الخليج بعجرها وبجرها بهذه السرعة وبهذه الموافقة الجماعية من دول الجوار لو أن حربًا جديدةً قامت بين العراق وإسرائيل؟! أدع الجواب لكم.
أيها الأحبة في الله، إذا كان هذا فى المقاييس المادية فما بالكم بالمقاييس الأخروية؟! فإن التضحية من أجلها والصبر لها أجل وأوضح، هذا جانب واحد، وهو قياس الدنيا بالآخرة.
جانب آخر: النظرة إلى الدنيا لوحدها، حتى لو نظرنا إلى الدنيا لوحدها وأغفلنا جانب الآخرة على فرَض فإننا نجد أن دين الله عز وجل كان هو الغالب وكان هو المسيطر مدة أطول مقارنة بتسلط الكفار. هل تعلم أن بعد آدم عليه السلام بقي الناس كلهم على التوحيد عشرة قرون كما قال ابن عباس في قول الله تعالى: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً [البقرة:213]، قال ابن عباس: (كان الناس بعد آدم عليه السلام عشرة قرون كلهم على التوحيد)، فكيف تقارن خمسين أو مائة سنة سيطرت فيها حضارات زائفة مادية منحرفة وتنسى عشرة قرون كان المسيطر هو دين الله وشرع الله والتوحيد؟!
كذلك أيضا: بعد بعثة محمد كم مكثت هذه الأمة المحمدية ظافرة منتصرة منصورة، بقيت هذه الأمة أكثر من اثني عشر قرنًا ظافرةً منتصرة منصورة، بيدها تدبير كثير من الأمور حتى الأمم الكافرة، وهذه هي التى طالما تغنى بها كثير من الشعراء:
ملكنا هذه الدنيا قرونا وأخضعها جدود خالدونا
وسطّرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا
حَملناها سيوفا لامعات غداة الروع تأبى أن تلينا
إذا خرجت من الأغماد يومًا رأيت الهول والفتح المبينا
وكنَّا حين يأخذنا ولِي بطغيان ندوس له الجبينا
وكنّا حيِن يرمينا أناس نؤدّبهم أباةً قادرينا
وما فتِئ الزمان يدور حتى مضى بالمَجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا
إذًا أكثر من ألف ومائتي سنة والأمة الإسلامية أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب، ولعله يكفي مثالاً قصة هارون الرشيد عندما قال وهو يخاطب سحابة في السماء: "أمطري حيث شئت، فسيجيء إليّ خراجك". هذا ما كان فى الماضي.
أما المستقبل، أما عن مستقبل هذه الأمة فبعض ما أخبرنا به رسول الله عن المعركة الظافرة الفاصلة مع اليهود على نهر الأردن كما حدد النبى : ((أنتم شرقية وهم غربيه، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فتعال فاقتله)) ، ومن دلائل نصر هذه الأمة فى آخر الزمان أيضًا نزول عيسى عليه السلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق، وتجمع المسلمين عليه، ومن دلائل النصر أيضًا قيادة المهدي لهذه الأمة فى آخر الزمان كما ورد فى عدد من الأحاديث الصحيحة، وأيضًا من دلائل النصر قول النبي : ((أمتى كالغيث لا يدرى أوله خير أو آخره)) ، فأوله خير وحقّ وعدل، وآخره خير وحق وعدل، أوله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وآخره عيسى ابن مريم والمهدي الذي يملأ الدنيا قسطًا وعدلاً كما ملئت جورًا وظلمًا، إذًا لا يجوز أن نقارن لحظة معينة من عمر التاريخ وننسى الماضي كله والمستقبل كله، فهذه أمة منصورة بإذن الله عز وجل، وتسلط الكفار فى هذا الوقت بقدر من الله ولحكمة من الله، هو تسلط مؤقت، ودين الله غالب وتحقق ما وعدنا به رسولنا لا شك فيها عندنا، وهو جزء من عقيدتنا، ولا بد أن يتحقق قول الله عز وجل: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، ومن المسلّمات عندنا أيضًا ـ إضافة إلى ما تقدم ـ أن هذه الأمة فيها خير كثير، وهذه الأمة منصورة بإذن الله تعالى، فقط تحتاج إلى من ينفض عنها الغبار، والذى يريد أن يواجه الإسلام ويحارب الإسلام هذا مسكين، مثله كمثل الصبي الذى يريد أن يوقف السيل بيده، أو كالذى يريد أن يحجب أشعة الشمس بيده الضعيفة.
أيها المسلمون، ربما يقتل أناس من هذه الأمة وهذا صحيح، وربما تباد جماعات ومجتمعات وهذا أيضًا صحيح، وربما تسقط دول وتذهب أسماء وشعارات أيضًا هذا صحيح، لكن الإسلام باق، والله متم نوره ولو كره الكافرون، كيف لا وقد قال الحق سبحانه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]؟!
أيها المسلمون، إن هذا الدين هو سر هذه الأمة وروح هذه الأمة وسر بقائها ووجودها، إن هذه الأمة للإسلام، هذه الأمة وجدت للإسلام مهما غضب الغاضبون وخطط المخططون وزمجر المزمجرون وأزبد المزبدون، فالذى يريد أن يقضي على الإسلام فليقض على هذه الأمة، وهل يستطيع أحد أن يقضي على هذه الأمة؟! هيهات ثم هيهات. نقول بأن هذا محال، لماذا؟ لأنّ هذه الأمة موعودة بالبقاء، ليس بالبقاء فقط، بل بالنصر والتمكين، ولا يزال الله يغرس لهذا الدين غرسًا يستعملهم فى طاعته، ولا يزال المولى جلّ وعز يخرج لهذه الأمة في كل مرحلة من تاريخها وفي كل فترة من فتراتها علماء ودعاة وقادة يستعملهم لخدمة هذا الدين، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله. كم دفن الناس من طاغية، كم دفن الناس من محارب لله ولرسوله، كم دفن الناس من زنديق، كم دفن الناس من كافر، كم دفن الناس من ملحد، كم دفن الناس من علماني منافق، فرعون مضى، هولاكو مضى، جنكير خان مضى، وقرونًا بين ذلك كثيرا، حتى رموز الكفر والضلال فى هذا الزمان سوف يأتى يوم ويدفنهم أصحابهم، فقط صبرٌ جميل، واستعانة بالله، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
أيها المسلمون، إن هذا الدين هو كلمة الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا [إبراهيم:24، 25]، ولا إله إلا الله هي كلمة الإسلام، ومن ذا الذى يستطيع أن يطفئ وهج ونور هذه الكلمة.
أتطفئ نور الله نفخة كافر؟! تعالى الذي بالكبرياء تفرّدا
إذا جلجلت الله أكبر فِي الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك الندا
ومن خاصم الرحْمن خابت جهوده وضاعت مساعيه وأتعابه سدى
أيها المسلمون، قد يضعف المسلمون فترة من الزمن، وقد يضطهدون، لكن النهاية لهم بإذن الله عز وجل. وهناك أمثلة من الواقع: اليهود مثلاً، ألم يعيشوا فترة طويلة من الزمن فى ذل وضعف واضطهاد؟! والآن أعطوا بعض التمكين المؤقّت، واستطاعوا أن يقيموا لأنفسهم دولة أصبحت كالشوكة في المنطقة. الرافضة ألم يعيشوا فترة طويلة من الزمن وهم أقليات مضطهدة لا قيمة لهم؟! والآن قامت لهم دول تحميهم وتدافع عنهم.
فلنثق ـ يا عباد الله ـ بوعد الله، ولنثق بوعد رسول الله، وهذا لا يعني أن يجلس المسلم ويضع يده على خده ينتظر نزول عيسى ابن مريم أو خروج المهدي، أبدًا هذا ليس بصحيح ولا يقول ذلك عاقل، لكن المسلم يعمل، ومتى نزل عيسى أو خرج المهدي فكلنا جند من جنودهم.
(1/4022)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
30/10/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- واجب المسلم الحق تجاه ما يراه من منكرات. 4- الدفاع عن رجال الحسبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن المحافظة على حرمة الإسلام وصون المجتمع المسلم من أن تخلخله وتقوّضه البدع والخرافات والمعاصي والمخالفات وحمايته من أمواج الشر الهائجة وآثار الفتن المائجة وتحذيره مزالق الشقوق ودركات الهبوط أصل عظيم من أصول الشريعة وركن مشيد من أركانها المنيعة، يتمثل في ولاية الحسبة وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك المهمة العظمى والأمانة الكبرى التي هي حفاظ المجتمعات وسياج الآداب والكمالات، بها صلاح أمرها واستتباب أمنها وقوة ملاكها وتمساكها، ما فُقدت في قوم إلا زاغت عقائدهم وفسدت أوضاعهم وتغيرت طباعهم، وما ضعُفت في مجتمع إلا بدت فيه مظاهر الانحلال وفشت فيه بوادر الاختلال، والأمة حين تكون سائرة في جادة الطريق محكمة شريعة الله بالتحقيق والتطبيق يكون من أول مهامها إقامة ولاية الحسبة ورفع لوائها وإعلاء بنائها وإعزاز أهلها؛ لأن جميع الولايات تعود إليها، يقول تبارك وتعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، ويقول تبارك وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
أمةٌ قائدة رائدة تحقق في المجتمع المسلم شرع الله، وتصدع بالحق في وجوه النفوس المريضة الباغية إشباع شهواتها العابثة بأمن الأمة ومقدراتها، يقول جل وعلا في وصف الأمة المحمدية وذكر أسباب الخيرية: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
أيها المسلمون، إن المعاصي والمنكرات هي الداء العضال والوباء القتّال الذي به خراب المجتمعات وهلاكها، وإن التفريط في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظم أسباب حلول العقاب ونزول العذاب، فعن أم المؤمنين أم الحسن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعًا وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ويأجوج مثل هذه)) وحلّق بأصبعه الإبهام والتي تليها، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال : ((نعم إذا كثر الخبث)) متفق عليه. والخبث هو: الفسوق والفجور. ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة)) رواه أحمد. ويقول عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب)) رواه أبو داوود وغيره. وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى بعض عماله: "أما بعد: فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح بينهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات والنقمات ما قُمع أهل الباطل واستخفي فيهم بالمحارم".
أيها المسلمون، إن المداهنة في الدين وعدم التناهي بين المسلمين من أعظم أسباب اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين، يقول النبي : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ، ثم قرأ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، ثم قال : ((والله، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنّه على الحق أطرًا ولتقصرنّه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)) رواه أبو داوود والترمذي. لُعنوا في كتاب الله لعنًا يتلى على مر الأيام والسنين وإلى أن يقوم الناس لرب العالمين، فاحذروا ـ عباد الله ـ سبيلهم الوخيم وفعلهم الذميم، فإنه لا صلة بين العباد ورب العباد إلا صلة العبادة والطاعة، فمن استقام على شريعة الله استحق من الله الكرامة والرضوان، ومن حاد عن سبيل الحق والهدى باء باللعن والخيبة والخسران.
يا من رضيتم بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً، أصيخوا سمعكم وأصغوا قلوبكم لقول النبي محمد : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) رواه مسلم. وانظروا وتساءلوا: أين أثر تطبيق هذا الحديث في نفوسنا ومجتمعاتنا؟! أين إيماننا الصادق وخضوعنا التام لما جاء به محمد ؟! ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده)) ، السلطان في سلطانه، والأمير في إمارته، والقائد في جيشه، والرجل في أهل بيته، وكل مسؤول فيما تحت ولايته، يقول عثمان : (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن)، ويقول بعض السلف: "ما قيمة حق لا نفاذ له؟!".
أيها الآباء والأمهات، طهروا بيوتكم من جميع المنكرات، وليكن بيت النبوة ـ على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام ـ لكم في ذلك قدوة وأسوة، تنتهجون نهجه وتحذون حذوه، تقول عائشة رضي الله عنها: قدم رسول الله من سفر وقد سترت سهوة من جدران فيه تماثيل، فلما رآه رسول الله هتكه وتلوّن وجهه وقال: ((يا عائشة، أشد عذابًا عند الله يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله تعالى)) متفق عليه، تقول عائشة رضي الله عنها: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين. رحماك ثم رحماك يا رب.
عباد الله، من عجز منكم عن الإنكار باليد والسلطان فلينكر باللسان والبيان، فعن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم. متفق عليه. وعن أبي سعيد الخدري أن النبي قال في خطبته: ((ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه)) رواه الترمذي وأحمد وزاد ((فإنه لا يُقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكّر بعظيم)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحقر أحدكم نفسه)) ، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟ قال: ((يرى أمرًا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا، فيقول: خشية الناس، فيقول الله جل وعلا: فإياي كنت أحق أن تخشى)) رواه ابن ماجه.
أيها المسلمون، إن الطامة الكبرى والمصيبة العظمى أن تتوالى الفتن على القلوب ويزيل خطر المعاصي في النفوس، فيواقع الناس حدود الله وينتهكون أوامر الله، ويصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، يقول رسول الهدى : ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مربادًّا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه)) رواه مسلم. وسُئل حذيفة بن اليمان : من ميت الأحياء؟ فقال رضي الله عنه وأرضاه: (الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه)، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).
أيها المسلمون، لم يفتأ أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين ومن سار في ركابهم من فسّاق الملة المستغربين يشنون على أمة الإسلام حملات متلاحقة عبر وسائل ورسائل لا يخفى مستواها، ولا يُجهل فحواها ومحتواها، غرضها زعزعة عقيدة الأمة وتدمير أخلاقها وطمس هويتها وتغييبها عن رسالتها. فبماذا واجه المسلمون تلك الحملات؟! هل أوصدوا دونها الأبواب؟! هل جاهدوها حق الجهاد؟! هل قاموا بالضمانات الكافية من عدم انتشار الشر والفساد؟! لقد فتح كثير من المسلمين بسبب الغفلة عن دين الله وقلة التحفظ والتيقظ، فتحوا بلادهم ومتاجرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيارات الوافدة، وأسلموا مجتمعاتهم للأمة الكافرة المعاندة، وصدق رسول الله : ((لتتبعن سَنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) ، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ فقال : ((فمن؟!)) رواه البخاري. يقول بعض أهل العلم: "إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة".
أيها المسلمون، إنكم أغلى وأعلى وأعز وأكرم من أن تهبطوا من سماء عليائكم إلى التشبه بأمم كافرة فاجرة تعيسة بئيسة حائرة شاردة تلهث وراء شهوتها وتستهيج في سبيل متعتها، فلقد شرفكم الله جل وعلا بأعظم دين، وأكرمكم بأفضل رسول محمد ، وأنزل عليكم خير كتاب، فاشكروا الله على ما حباكم وأعطاكم، وجابهوا جهود أعدائكم بجهود أقوى وأمضى قبل أن تشتد شوكتهم وتحتد شَكّتُهم، جهود تحفظ أمانة الدين الذي ائتمنكم الله عليه، صونوه طاقتكم واحفظوه جهدكم، وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35].
عباد الله، إن مما يبعث على الحرقة والأسى أن يرى المسلم في مجتمعه وأمام عينيه صورًا ممرضة وأحوالاً مرضية من المنكرات والمحرمات فلا يجد لذلك في نفسه توجعًا، فأي ركن قد وهى؟! وأي نور للأمة قد ذهب واختفى؟! نعوذ بالله من اندراس معالم هذه الشعيرة واستيلاء المداهنة على القلوب وذهاب الغيرة الدينية.
فيا أمة محمد ، يا خير أمة أخرجت للناس، أين الحمية التي تتأجج في صدوركم لدين الله؟! أين الغضب؟! أين تمعّر الوجوه من انتهاك حدود الله؟! تقول عائشة رضي الله عنها: ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله فينتقم لله عز وجل. رواه مسلم.
أيها المسلمون، تعاقدوا وتعاهدوا أن تنصروا شريعة الرحمن، وقوموا قومة تُعلي راية الإيمان، وخذوا على أيدي سفهائكم قبل استفحال الداء وإعواز الدواء، واعلموا أن التواكل والتلاوم والتحسر والتضجر دون عمل وجد واجتهاد وأمر ونهي ودعوة وإرشاد لا يغير من الواقع شيئًا، بل هو داعية غم وهمّ وفتور وإحباط. إننا لا نريد غيرةً لا تعدو أن تكون مجرد معان نتمناها بأذهاننا أو نحسها مجردة في مشاعرنا، إننا نريدها باعثًا قويًا وواقعًا عمليًا وعملاً إيجابيًا لخدمة دين الله والانتصار لشرع الله وفق القيود الشرعية والضوابط المرعية.
أيها المسلمون، إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء لا يقدر عليها إلا الكُمّل من الرجال، هي مهمة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، مهمة تصطدم بشهوات الناس ونزواتِهم وغرورِهم وكبريائِهم وهبوط السفلة منهم، ولا بد أن ينال القائمين بها شيء من الاعتداء والأذى، فصبرًا صبرًا يا أهل الحسبة، فقد أوذي إمامكم وقائدكم خاتم الأنبياء وإمام الحنفاء محمد فصبر وصابر حتى نصره الله، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
أيها المسلمون، إن إيذاء المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو الاعتداء عليهم أو الطعن فيهم أو تضخيم أخطائهم أو بث الإشاعات الكاذبة عنهم جرم عظيم وذنب كبير، تصيب المرء مغبته ومعرّته ولو بعد حين، يقول جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) رواه البخاري.
فاحذروا من الانخداع بمقالات الجاهلين أو الانسياق وراء أكاذيب الحاقدين وما يدور على ألسنة المغرضين المنافقين، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:69-71].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، إن للحق والخير والمعروف رجالاً ودعاةً وأنصارًا يدعون إليه، ويرغبون فيه، ويأمرون به، ويصبرون عليه، ويتحملون في سبيل ذلك كل ما ينالهم ويصيبهم، كما أن لهم في المقابل أعداءً يكرهون الحق الذي معهم ويقاومونه، ويدعون إلى الباطل ويحسنون الشر ويفعلونه.
أيها المسلمون، لقد وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم: يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، بينما وصف جل وتعالى الصنف الآخر من أهل النفاق ومن في قلوبهم مرض بأنهم: يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67]، ولكن شتان بين هؤلاء وأولئك، فالمؤمنون الصالحون الآمرون بالمعروف وليهم الله، ومن يعاديهم من المنافقين وأذنابهم وليهم الشيطان، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، والنهاية مهما طال الطريق وادلهم الليل وكثرت العقبات سيكون بإذن الله لأصحاب الحق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ [المائدة:56].
أيها المسلمون، إن أعضاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذين يمارسون العمل الميداني هم في قمة هرم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فهم من خير الناس للناس، وهم ممن يرجى لهم الفلاح حيث إنهم يسعون للصلاح والإصلاح، إنهم هم الذين يقفون في وجه تيار الفساد ليصدوه عن العباد والبلاد، وهم الذين يسهرون لحماية الأعراض ويجتهدون في التقليل من الأمراض، وهم الذين يوجهون الناس إلى الخير ويحولون بينهم وبين فعل الشر، وهم الذين يمضون في المجاهدة جل أوقاتهم على قلة مرتباتهم، ولكنهم لا يرجون من الناس جزاءً ولا شكورا، وإنما يرجون من ربهم عفوًا ورحمةً وأجرًا عظيما، فما أحسن أثرهم على الناس، وما أسوأ أثر الناس عليهم.
فيا عباد الله، احذروا من التحدث في شأنهم في مجالسكم،من حيث تنقصهم وغيبتهم والسخرية بهم والعتب عليهم، كأن يقول القائل: إنهم يتدخلون فيما لا يعنيهم، وآخر يقول: إنهم يستعجلون، عجبًا ـ والله ـ من هذه التهم الباطلة، إذا كان منع وقوع المنكر لا يعنيهم فما الذي يعنيهم؟! فإذا كاد أن يقع منكر ما وقاموا بضبطه أو الحيلولة دون وقوعه، إذا كان هذا استعجالاً وإذا كان هذا لا يعنيهم فماذا يعني غير الاستعجال؟! أهو إذا وقعت الفاحشة وفُرغ منها أو ارتكبت الجريمة وتفرّق أصحابها يُبحث عنهم؟!
أيها المؤمنون، ساعدوا أعضاء الهيئات بكل ما تستطيعون وكونوا معهم؛ أعينوهم على البر والتقوى وواسوهم في المصيبة والبلوى، فإنهم يتعرضون لما لا نتعرض له، ادعوا لهم في السر والعلانية، فجزى الله أعضاء الهيئات كل خير، وبيض الله وجوههم، وأعانهم وسدد خطاهم.
أولئك الذين يسهرون ونحن نائمون في فرشنا، ويعملون ونحن منشغلون بدنيانا، ويجاهدون للحفاظ على محارمنا وأعراضنا ونحن لا نعلم، يصدُون الباطل ويقاومون الفساد ويمنعون وقوع المنكرات، فكم من جريمة ضبطوها، وكم من مصانع للخمور أزالوها، وكم من شقق للدعارة داهموا أربابها فأغلقوها، كم من منحرف اهتدى على أيديهم، وكم من عاصٍ ستروه بعد معصيته، وكم من فتاةٍ أنقذوها من أيدي ذئاب البشر، وكم من طفل أرجعوه إلى والديه من عبث المجرمين به.
لهم جهود لا تُنكر وبذل وعطاءٌ مع كل أسف لا يُشكر، في المجمعات التجارية والشواطئ والأسواق وأماكن الترفيه والحدائق العامة في ملاحقة الساقطين والساقطات وإبطال حيل المغازلين والمغازلات وكل من يرتاد إلى هذه الأماكن ليصطاد في الماء العكر.
ومع كل ما يبذلون ويقدمون تجد من يطعن فيهم ويتكلم عليهم ويشهّر بهم وينقب عن أخطائهم، ولو حصل أن أخطأ أحدهم في تصرف أو سلوك أو حصل منه شيء وهم بشر يعتريهم ما يعتري سائر الناس، يصيبون ويخطئون، يزيدون وينقصون، ينشطون ويكسلون، فلو حصل من أحدهم هفوة لأصبح حديث المجالس، وسبحان الله! وكأنه لا يقع في الأخطاء إلا رجال الهيئات، إنهم ـ أيها الأحبة ـ يتعرضون لما لا نتعرض له، فقد يؤذى أحدهم، وقد يضرب، وقد يعتدى عليه، بل وقد يقتل وهو يؤدّي مهمة رسمية، بل مهمة ربانية شرعية. فنسأل الله تعالى أن يعين ويوفق الأحياء منهم، وأن يتغمد برحمته الأموات.
ما سمعنا من يعدد وينقب عن أخطاء رجال المطافي ـ مثلاً ـ أو المرور أو رجال الشرطة أو غيرهم ممن يقدمون خدمات عامة للمجتمع، وهل يعقل أن كل هؤلاء لا يخطئون ولا يقصرون ودائمًا معصومون؟! هذا لا يمكن أبدًا، ولا يصدقه عاقل، لكن هناك من الشهوانيين وممن يحملون أفكارًا منحرفة ويسعون للإباحية، لا شك بأن الذين يفضحهم ويقف في طريق تحقيق مرادهم هم رجال الهيئة، لذا تسمع الطعن فيهم ولا تسمع في غيرهم، فما أحوجهم إلى مناصرتنا وتأييدنا ودعائنا.
اللهم انصر من نصر دينك، وأيد بالحق من أراد وجهك ورضوانك، اللهم واخذل من خذل دينك وعادى الداعين إلى الخير والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. اللهم عليك بدعاة الفساد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا...
(1/4023)
الإيمان بالملائكة (1)
الإيمان
الملائكة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
9/10/1407
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان. 2- عجز المدارك والحواس البشرية عن إدراك الملائكة. 3- خصائص الملائكة وصفاتهم. 4- الحياء من ملائكة الله الكرام الكاتبين. 5- كتابة الملائكة أسماء المبكرين إلى صلاة الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، يقول الله عز وجل في محكم تنزيله: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:17- 22].
وجاء في حديث سؤال جبريل للنبي قال: أخبرني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأن تؤمن بالقدر خيره وشره)).
عباد الله، فمن الأصول الأساسية والتي عليها اعتقاد المسلم ولا يتمّ تمامه إلا به هو الإيمان بالملائكة، ذلك العالم الغيبي الذي خلقه الله عز وجل لحكمة عظيمة، والذي لا يكمل إيمان المرء إلا بإيمانه بالملائكة جملة وتفصيلاً.
وإحكام العقل البشري في هذه القضية ـ يا عباد الله ـ لا يسمن ولا يغني من جوع، لأن العقل الإنساني لا يستطيع التوصل إلى ما يهمه معرفته عن الملائكة بنفسه، فحواس الإنسان أعجز من أن ترى الملائكة وتسمع أحاديثهم، والفيصل الوحيد في التعرف على هذا العالم الغيبي هو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله الصحيحة في ذلك، فليس شيء سوى الكتاب والسنة يشفي ويسد هذا الجهل عند الإنسان، ((تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا: كتاب الله وسنتي)).
فحواس الإنسان ـ يا عباد الله ـ أعجز من أن ترى الملائكة وتسمع أحاديثهم، ولا شك أن هذا العجز في الإنسان من صالحه، ومن رحمة الله عز وجل أن يجعل سمعه وبصره فيما يحيط به، ولكي تدرك حكمة الله عز وجل في عجز الإنسان حسبنا أن نتصور أن إنسانًا تلتقط أذنه ما يلتقطه المذياع من أصوات لنعلم البلاء الذي يحل بهذا المسكين الذي لا بد أن يصاب بالذهول والجنون، فكيف بالذي يريد أن يسمع أصوات العالم الغيبي ولا يؤمن بها حتى يدركها بحواسه؟! فحسبنا أن نقف على نصوص الكتاب والسنة لنتعرف من خلالها على بعض المسائل الذي تخص الملائكة، وما أثر ذلك على حياتنا.
عباد الله، أما عن خلق الملائكة فإنهم خلقوا من نور كما علمنا ذلك من رسول الله فيما رواه مسلم في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن رسول الله قال: ((خلقت الملائكة من نور، وخلق الجن من مارج من نار، وخلق آدم كما وصف لكم)). ولا نعلم متى خلقهم الله عز وجل لأنه لم يخبرنا بذلك، ولكننا نعلم أن خلقهم سابق على خلق آدم أبي البشر، فقد أخبرنا سبحانه أنه أعلم ملائكته أنه سيجعل في الأرض خليفة: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30].
وللملائكة ـ يا عباد الله ـ خصائص كثيرة نذكر منها:
أولاً: عظم خلقهم، قال الله تعالى في ملائكة النار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله جبريل في صورته وله ستمائة جناح، كل جناح فيها قد سد الأفق. وقال عليه الصلاة والسلام: ((أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش ما بين شحمة أذنه وعاتقه مسيرة سبعمائة عام)). فتأمل ذلك الخلق العظيم، وليكن ذلك مما يزيد في إيمانك.
ومن خصائص الملائكة أيضًا ـ يا عباد الله ـ الجمال؛ فإن الله قد خلقهم على صور جميلة كريمة كما قال تعالى في حق جبريل: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:5، 6]، قال ابن عباس: ( ذُو مِرَّةٍ ذو منظر حسن).
وقد تقرر عند الناس وصف الملائكة بالجمال كما تقرر عندهم وصف الشياطين بالقبح، ولذلك تراهم يشبهون الجميل من البشر بالملك، انظر إلى ما قالته النسوة في حق يوسف عليه السلام عندما رأينه: فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ [يوسف:31].
ومن خصائصهم أيضًا أنهم لا يوصفون بالذكورة والأنوثة، وقد ضل كثير من الناس ـ يا عباد الله ـ في هذه القضية، والسبب في ذلك أنهم يحاولون إخضاع العوالم الغيبية لمقاييسهم البشرية الدنيوية، فلا يجوز ـ أيها الإخوة ـ أن نصف الملائكة بأنهم إناث، ولا يجوز أيضًا أن نصفهم بأنهم ذكور، وإنما نقف إلى حيث أرشدنا كتاب الله عز وجل في هذه القضية: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ [الزخرف:19]، فهم إذًا عباد الرحمن، وقد ضل مشركو العرب وخاضوا في هذه القضية وزعموا أن الملائكة إناث، بل قد زادوا في ذلك بقولهم: إن هؤلاء الإناث بنات الله، وقد ناقشهم القرآن في هاتين القضيتين، فبين أنهم لم يعتمدوا على دليل صحيح فيما ذهبوا إليه: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلا تَذَكَّرُونَ أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ [الصافات:149- 156].
ومن خصائصهم أيضًا أنهم لا يأكلون ولا يشربون، فقد أخبرنا الله أن الملائكة جاؤوا نبينا إبراهيم عليه السلام في صورة بشر، فقدّم لهم الطعام فلم تمتد أيديهم إليه، فأوجس منهم خيفة، فكشفوا له عن حقيقتهم، فزال خوفه واستغرابه، قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ [الذاريات:24- 28]، وقال تعالى في آية أخرى: فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ [هود:70].
ومن خصائصهم أنهم لا يملون ولا يتعبون، يقومون بعبادة الله وطاعته وتنفيذ أوامره بلا كلل ولا ملل، ولا يدركهم ما يدرك البشر من ذلك، قال تعالى في وصف ملائكته: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وقال تعالى: فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38].
والملائكة ـ يا عباد الله ـ خلق كثير لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ [المدثر:31]، فإذا أردت أن تعرف كثرتهم فاسمع إلى ما قاله المصطفى في البيت المعمور الذي في السماء السابعة: ((فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم)) رواه البخاري ومسلم، وفي صحيح مسلم عن عبد الله قال: قال رسول الله : ((يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك)) ، فعلى ذلك فإن الذين يأتون بجهنم يوم القيامة أربعة آلاف وتسعمائة مليون ملك.
عباد الله، وقد ورد في الكتاب والسنة ذكر بعض من أسمائهم كجبريل وميكائيل، قال تعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:97، 98].
ومن الملائكة أيضًا إسرافيل الذي ينفخ في الصور، ومنهم أيضًا مالك خازن النار كما جاء في قوله تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، ومن الأسماء الشائعة عند الناس خطأ أنهم يسمون ملك الموت بعزرائيل، وهذا لم يثبت في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله ، وإنما يسمى ملك الموت كما جاء في كتاب الله عز وجل: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة:11]. ومنهم الكرام الكاتبون الموكلون بأعمال العباد، ومنهم المعقبات وهم الموكلون بحفظ العبد، كما قال تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، ومنهم الموكلون بفتنة القبر وهم منكر ونكير، ومنهم حملة العرش، وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، ومنهم الموكلون بالنطف في الأرحام من تخليقها وكتابة ما يراد بها، فيجب أن نؤمن بكل هذا جملة وتفصيلاً.
عباد الله، وكُل إنسان قد وكّل الله به قرينًا من الملائكة وقرينًا من الجن، ففي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((ما منكم من أحد إلا وقد وكّل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة)) ، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: ((وإياي، ولكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير)).
فانظر يا عبد الله، وقرين الإنسان من الملائكة وقرينه من الجن يتعاوران عليه، هذا يأمره بالشر ويرغبه فيه، وهذا يحثه على الخير ويرغبه فيه، ولكي تعرف كيف يكون التسابق بين القرين الجني والقرين الملكي على توجيه الإنسان ذكر الحافظ أبو يعلى من حديث أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله : ((إذا أوى الإنسان إلى فراشه ابتدره ملك وشيطان، فيقول الملك: اختم بخير، ويقول الشيطان: اختم بشر، فإذا ذكر الله تعالى حتى يغلبه ـ يعني النوم ـ طرد الملك الشيطان وبات يكلؤه، فإذا استيقظ ابتدره ملك وشيطان، فيقول الملك: افتح بخير، ويقول الشيطان: افتح بشر، فإن قال: الحمد لله الذي أحيا نفسي بعد ما أماتها ولم يمتها في منامها، الحمد لله الذي يمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، الحمد لله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده، الحمد لله يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بأذنه، طرد الملك الشيطان وظل يكلؤه)). فأين الذي يكون ذاكرًا لله حال نومه وحال يقظته؟!
إن استشعار حديث القرين جزء من الإيمان بالملائكة، فيجب عليك ـ أيها المسلم ـ أن تكون واضعًا أمثال هذه الأحاديث نصب عينيك في كل وقت، وأن تدعو الله عز وجل أن يعينك على قرينك الشيطاني، وأن يقربك من القرين الملكي فلا يأمرك إلا بخير.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، نعود مرة أخرى إلى آيات سورة ق التي تلوتها عليكم في الخطبة الأولى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:16- 22].
فانظر ـ أيها المسلم ـ كم ملكًا من الملائكة وكّلهم الله بهذا الإنسان وهذا غافل لا يدري، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ يعني ملائكة الله تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، ثم يأتي نوع آخر من الملائكة: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ، فهذان الملكان اللذان وضعهما الله سبحانه وتعالى أحدهما عن يمين الإنسان والآخر عن شماله يكتبان عمل الإنسان، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ أي: ما يتكلم بكلمة إلا ولها من يرقبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]. هل استشعرت هذا أيها المسلم؟! وهنا نوجه كلمة إلى الذين ينتهكون حرمات الله عز وجل، إلى الذين يعصون الله عز وجل وقد غرقوا في ذنوبهم إلى رؤوسهم: هل أدركوا هذه الحقائق؟! أين ذهب الإيمان بالملائكة حال المعصية؟!
إن الإيمان بالملائكة ـ يا عباد الله ـ لا يكون بالمعرفة فقط، فإن المعرفة المجردة لا تنجّي الإنسان من عذاب جهنم، فلو آمن الإنسان بوجود الله سبحانه وتعالى ولم يأت بأركان الإسلام الخمسة ما نفعه هذا الإيمان، وكذلك الذين يؤمنون بوجود الملائكة إذا لم يؤثر ذلك في واقع حياتهم ويغير ذلك من سلوكهم ما نفعهم هذا الإيمان، ووالله لو أن كل إنسان وهو يُقدم على معصية الله ذكر الملك الذي يكتب عليه في تلك اللحظة وأنه سوف يحاسب عليها لما تجرأ على معصية الله.
يقول الحسن البصري بعد أن تلا هذه الآية: عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ : "يا بن آدم، بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان، أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقول الله تعالى: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]".
عباد الله، ومن جملة الإيمان بالملائكة ـ والتي نتمنى أن يكون لها أثر في واقع الناس ـ ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر)).
أين الإيمان بالملائكة عند أولئك النفر الذين يجلسون في بيوتهم ينتظرون الإمام حتى يبدأ بالخطبة ثم بعدها ينهلون على المسجد؟! إنك لتجد المسجد ليس فيه سوى عدة صفوف، وإذا ما شرع الإمام في الخطبة انكب الناس على المسجد، أين إيمانه بالملائكة الذين يقفون على أبواب المسجد ويسجلون الأول فالأول؟! هل استشعر كل مسلم هذه الحقيقة في نفسه؟! إذا لم يكن لإيماننا بالملائكة أثر في سلوكنا وتغيير في واقعنا ما نفعتنا المعرفة المجردة، وماذا استفدت ـ أيها المسلم ـ لو طوت الملائكة صحائفها وجلست تستمع للخطبة ولم تكن من الذين كتبوا في تلك الجمعة؟! وما بالكم لو كان هذا حاله في كل جمعة؟!
فاتقوا الله أيها المسلمون، وتأملوا كتاب ربكم، واقرؤوا أحاديث نبيكم ، وليكن لها واقع في حياتكم، وادعوا الله عز وجل بعد ذلك أن يجعلكم من الذين قبلوا لا من الذين ردوا.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين، اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعزّ فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولمَّ بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا.
اللهم صل على محمد...
(1/4024)
البعث والحشر والحساب
الإيمان
اليوم الآخر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة تذكر الموت وما بعده. 2- التغير الذي يحدث في الكون عند قيام الساعة. 3- البعث والنشور. 4- الحشر. 5- أهوال الموقف. 6- الشفاعة العظمى. 7- الحساب. 8- شهود يوم القيامة. 9- المرور على الصراط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، هناك أمور نعرفها جميعًا ونؤمن بها ونعتقد حدوثها، لكن مع زحمة الحياة وكثرة المشاغل والنفس والهوى والشيطان وكثير من الأسباب الأخرى التي تتجاذب الإنسان تجعله ينسى كثيرًا من هذه المسلمات والحقائق؛ لذا فكم نحن بحاجة إلى أن يذكر بعضنا بعضًا بهذه الأمور، ومن أهم هذه الأشياء التي تشَاغَلنا عنها ما نحن مقدمون عليه بعد الموت من أمور عظيمة وأحداث هائلة، سوف يمر بها كل واحد منا، فلا أدري هل تأهبنا لها؟!
أيها المسلمون، إننا مقدمون على أمور عظيمة وأحداث هائلة يوم القيامة، ينبغي أن تكون منا على بالٍ دائمًا، وأن نستعد لها، ويسبق ذلك أحداث سوف تغير أشياء كثيرة في هذا الكون، فتنشق السماء، وتتناثر النجوم، وتتصادم الكواكب، وتتفتّت الأرض، وتغدو صعيدًا جرزا، وتصبح الجبال كثيبًا مهيلاً، يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، ويكون هذا على إثر النفخة الأولى ينفخها إسرافيل بأمر ربه، فيصعق كلُ من في السماوات ومن في الأرض إلا ما شاء الله، قال الله عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68]، وقال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ [الحاقة:13-16]، وروى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((يقبض الله الأرض، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟)).
ثم يكون بعد ذلك النفخة الثانية، وقد أشار الله عز وجل إلى النفخة الأولى والثانية في قوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ [النازعات:6، 7]، فالراجفة كما يقول ابن عباس: (هي النفخة الأولى، والرادفة هي الثانية)، فتعود الحياة إلى الأجساد الميتة، وهذا هو يوم البعث وهو إعادة الإنسان روحًا وجسدًا كما كان في الدنيا، ثم يُخرج الله الناسَ من الأجداث أحياء، فيقول الكفار والمنافقون حينئذٍ: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا [يس:52]، ويقول المؤمنون: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:52]. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الرسول هو أول من يخرج من قبره، فقد روى البخاري في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخد بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق)).
ثم بعد ذلك يقوم الملائكة بحشر الخلائق إلى الموقف، يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:85، 86]. والحشر ـ يا عباد الله ـ هو سَوق الناس جميعًا إلى الموقف، وهو المكان الذي يقفون فيه انتظارًا لفصل القضاء بينهم، فبعد بعث الناس يأمر الله ملائكته فتسوقهم إلى الموقف، وحالهم كما خلقوا أول مرة، حفاة غير منتعلين، عراة غير مكتسين، غرلاً غير مختتنين، فقد صح عن عائشة رضي الله عنها فيما اتفق عليه الشيخان أنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً)) ، قلت: يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال : ((يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)) ، وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله فقال: ((يا أيها الناس، إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً)) ، ثم قرأ: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ إلى آخر الآية [الأنبياء:104]، ثم قال: ((ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي، فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح ـ أي: عيسى عليه السلام ـ : وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم)) رواه البخاري.
عباد الله، وفي الموقف يصيب الخلائق كرب شديد، فقد روى المقداد بن الأسود عن رسول الله أنه قال: ((تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يُلجمه العرق إلجامًا)) وأشار بيده إلى فِيِه. رواه مسلم.
وفي أثناء ذلك يكون أناس تحت الظل الذي يخلقه الله، تحت ظل العرش كما أخبر المصطفى عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)).
فإذا اشتد الأمر بالناس وعظم بهم الكرب في هذا الموقف العظيم استشفعوا إلى الله عز وجل بالرسل والأنبياء أن ينقذهم مما هم فيه ويُعجل لهم فصل القضاء، وكل رسول يحيلهم على من بعده، حتى يأتوا نبينا محمدًا ، فيشفع فيهم، وهذه هي الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا محمد من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وهي من المقام المحمود الذي وعد به الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى: وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، فينصرف الناس بعد ذلك إلى فصل القضاء، وعندها يجازى كلُ إنسان بما كسب في الحياة الدنيا من خير أو شر، قال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:89، 90]، وقال رسول الله فيما يرويه عن ربه عز وجل: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
وهناك تنصب الموازين، فتوزن بها أعمال العباد خيرها وشرها، وهو ميزان حقيقي له لسان وكفتان، وهذا إظهار لعدل الله عز وجل، قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وقال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:8، 9]، وقال أيضًا: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:6-9]، فتوضع الحسنات في كفه والسيئات في كفه، فمن ثقل ميزان حسناته كان من المفلحين الفائزين، ومن ثقل ميزان سيئاته ـ والعياذ بالله ـ كان من الخائبين الخاسرين، وفي ذلك قال الإمام ابن القيم في نونيته:
أفما تصدّقُ أنّ أعمال العبا دِ تُحَطّ يوم العرض فِي الميزان
وكذاك تثقل تارة وتخف أخـ ـرى ذاك فِي القرآن ذو تبيان
وله لسانٌ كفتاه تقيمه والكفتان إليه ناظرتان
ما ذاك أمرًا معنويًا بل هو الـ ـمحسوس حقًّا عند ذي الإيمان
عباد الله، ثم تنشر الدواوين بعد ذلك وهي صحائف الأعمال، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:7-12]، ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ [الحاق:25، 26]، قال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].
ثم بعد ذلك يُعرض الناس على ربهم وتقام عليهم الحجج، ويطلعون على أعمالهم ويقرؤون صحفهم، فيجب أن نؤمن ـ يا عباد الله ـ بالعرض والحساب وقراءة الكتاب، فجميعها حقٌ، دل عليها الكتاب والسنة قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الواقعة:15-18]، وقال تعالى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا [الكهف:48].
فيجب على كل مسلم أن يومن بأن كلّ عبد يعرض على ربه، فيتولى سبحانه وتعالى حسابه بنفسه وبدون وساطة، عن عدي بن حاتم أن النبي قال: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر عن شماله فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة)) ، فإن كان من أهل النجاة ـ وهو الذي يؤتى كتابه بيمينه ـ تجاوز الله عن ذنوبه ولم يناقشه الحساب وأدخله الجنة ولم يعذبه بالنار، فنسأل الله عز وجل أن يجعلنا من هؤلاء، وأما من كثرت معاصيه ـ والعياذ بالله ـ وأوتي كتابه بشماله فذلك الذي يناقش الحساب، ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة، فقد حدثت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك)) ، فقلت: يا رسول الله، أليس قد قال الله: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7، 8]؟! فقال رسول الله : ((إنما ذلك العرض، وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)). والمراد بالمناقشة الاستقصاء في المحاسبة والمطالبة بالجليل والحقير وترك المسامحة، كما ذكر صاحب الفتح.
وأما عن كيفية الحساب فنؤمن بما ورد في القرآن عنها وفي حديث رسول الله لا نزيد ولا ننقص، ولا نسأل عن أكثر مما ورد، فنؤمن أن الله سبحانه وتعالى يذكرّ كل عبد بما قدمه في الحياة الدنيا من خير أو شر، ويشهد على العباد جميع من يستشهدهم الله عليهم، فتشهد الأرض بما حدث على ظهرها، قال عز وجل: إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة]، فقد ورد عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله : يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا فقال: ((أتدرون ما أخبارها؟)) ، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ـ قال: ـ فهذه أخبارها)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: ومما يشهده الله عز وجل على عباده أيضًا في ذلك اليوم أعضاء الإنسان من الألسنة والأيدي والأرجل والجلود وغيرها، وقد أخبر الله عز وجل أن أعداء الله يحاورون هذه الأعضاء، قال تعالى: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت:19-22]، وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قيل له: كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى ـ أي: مناجاة الله لعبده المؤمن في الآخرة ـ؟ قال: سمعته يقول: ((يدنو أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول:نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم، ثم يعطى صحيفة حسناته. وأما الكفار فينادى على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين)).
عباد الله، وبعد الحساب والعرض والميزان ينصرف الناس من الموقف ليمروا فوق الصراط، وهو الجسر المنصوب على جهنم، وجاء في وصفه أنه أدق من الشعر وأحد من السيف، وكل إنسان سواء كان طريقه إلى الجنة أو النار ـ والعياذ بالله ـ لا بد وأن يمر على الصراط، والمرور على الصراط عام لجميع الناس الأنبياء والصديقين والمؤمنين ومن يحاسب ومن لا يحاسب إلا الكفار، ومن استقام على صراط الله الذي هو دين الحق في الدنيا استقام على هذا الصراط في الآخرة، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الناس يمرون عليه بقدر أعمالهم في الدنيا؛ فمنهم من يمر كانقضاض الكواكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يرمل رملاً، فميرون على قدر أعمالهم، حتى يمرّ المقل في العمل الصالح تخرّ يد وتعلق يد، وتخرّ رجل وتعلق أخرى، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما في حديث طويل لأبي هريرة حتى يقول الرسول في آخر الحديث: ((ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز، ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذٍ: اللهم سلم سلم)).
إذا كان الرسل ـ يا عباد الله ـ وهم مضمونٌ لهم الجنة يقولون على الصراط: اللهم سلم اللهم سلم، فماذا يقول غيرهم؟! ماذا يقول ذلك الذي لم يأتمر بأوامر الله عز وجل ولم ينته عن نواهيه؟! ماذا يقول ذلك المتهاون المتكاسل عن صلاته، يصلي واحدة ويترك أخرى؟! بل ماذا يقول النائم عن صلاة الفجر، المؤذن يقول: الصلاة خير من النوم، وهو يقول: النوم خير من الصلاة، وإن لم يقلها بلسانه فإنه قد قالها بفعله؟! وماذا يقول الآباء الذين تهاونوا في تربية أولادهم إلى حد التفريط وانشغلوا هم في دنياهم؟! بل ماذا يقول ذلك الموظف الذي استغلّ منصبه لجلب منفعة لشخصه أو قرابته؟! بل ماذا يقول علماء الأمة الذين تركوا النصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم إلا من رحم ربي وقليل ما هم؟! وماذا يقول المرابي؟! وماذا يقول المقامر؟! وماذا يقول الظالم؟! وماذا يقول وماذا يقول وماذا يقول؟!! اللهم سلم، اللهم سلم، اللهم سلم.
عباد الله، والمرور على الصراط هو الورود المذكور في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا [مريم:71]، فإنه لا ينجو منه أحد كما روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((لا يدخل النار ـ إن شاء الله ـ من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها)) ، فقالت حفصة: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ، فقال النبي : ((قد قال الله عز وجل: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:72] )). فأشار عليه الصلاة والسلام إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، فالجميع يمرون من فوق جهنم فوق الصراط، وينجي الله المؤمنين، ويذر الظالمين فيها جثيا، ثم إذا عبر المؤمنون الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقتص من بعضهم لبعض، فإذا هذبوا أذن لهم في دخول الجنة، روى أبو سعيد الخدري فيما أخرجه البخاري في صحيحه عن الرسول أنه قال: ((يَخْلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفسُ محمد بيده، لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا)).
فنسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من أهل الجنة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتن عنا، وتصلح بها ديننا، وتحفظ بها غائبنا، وترفع بها شاهدنا، وتزكي بها علمنا، وتبيض بها وجوهنا...
(1/4025)
التربية والتعليم وتغيير المناهج
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
15/7/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية العلم والتعليم في الإسلام. 2- أثر النظم التعليمية الدخيلة على المسلمين. 3- نتائج ضعف التعليم في العالم الإسلامي. 4- مقومات المناهج المستوردة. 5- مقاصد حقيقية للتعليم. 6- أمية المتعلمين وانحراف المثقفين. 7- نصائح وتوجيهات للمعلمين. 8- حملة تغيير وتطوير المناهج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: كما أن لمعظم الأمم حضارات وقيَمًا وعادات فكذلك لها مناهجها في التربية والتعليم، لكن أمة الإسلام تختلف عن سائر الأمم في حضارتها وقيمها وعاداتها، وكذلك في تربيتها وتعليمها، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
أيها المسلمون، يتبوّأ العلم والتعليم في الإسلام درجة عظيمة ومرتبة كبيرة، به ترتفع الأقدار وتحاز المغانم الكبار، يقول الله جلّ وعلا: يَرْفَعِ ?للَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11]، والنبيّ يقول: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنّة)) أخرجه مسلم.
فماذا تعني التربية والتعليم في إسلامنا؟ إنها تعني رسالة تحملها الأمة لأبنائها، ويتحمّلها المسؤولون وواضعو المناهج في مجتمعاتنا، إنها عقيدة نؤمن بها ومبادئ نرتبط بها ارتباط الروح بالجسد؛ لذا يخطئ من يظن أنه يمكن أن يطور نظم التعليم الإسلامية باستيراد تجارب تربوية بشرية من دول وثنية، كاليابان مثلاً التي أساس قيامها على الإلحاد والتنكر للدين. ولو أردتم أن تدركوا ضعف مناهج التعليم في معظم العالم الإسلامي وانحرافها في دول أخرى فتأملوا في النتائج لتدركوا ماهية المناهج، ماذا كانت الحصيلة لفلذات الأكباد وأنواع الشباب؟! إليكم بعضها: أحوال من الفوضى الفكرية الهائلة، وتناقض في الأفكار والآراء، والشك والارتياب في مسائل كثيرة من الدين، والتهاون في الفرائض والواجبات، والتمرد على الآداب والأخلاق، والتقليد والتبعية القاتلة في الظواهر والقشور، وإعجاب بالكافر وانبهار بشخصيته، وأجيال وأفواج من الشباب فارغو الهمم مظلمو الروح ضعيفو البصر، ينكرون أنفسهم، ويتنكرون لأصولهم وثوابتهم، يموت الأمل في صدورهم، مبهورون بإنتاج غيرهم، يتسابقون إلى قصات ويتكسّرون في مشية.
أليس هذا وأضعاف أضعافه حاصل وموجود؟! فأين هي مناهج التعليم؟! لماذا لم تزرع فيهم الثقة بأنفسهم؟! ولماذا لم تعرّفهم بأنفسهم، ولم تبين له منزلتهم؟! ولمَ لمْ تشحذ همتهم؟! لماذا لم تبن فيهم الشعور بمسؤوليتهم؟! لقد قتلوا من غير حرب، كل قلوبهم ونفوسهم حول الماديات تحوم وبالقشور والهندام تتعلق.
لقد آن الأوان لوقفة جادة ومحاسبة صادقة والاعتراف بفشل النظم التربوية الدخيلة والاعتراف بعجزها عن تربية الفرد والمجتمع، لقد فشلت تلك المناهج في بلادها، فنِسَب الجرائم والاغتصاب كلّ يوم في ازدياد، والإقبال على المخدّرات والمسكرات لا عدَّ له ولا حَصر، لقد باتت تلك الدّوَل تئنّ من وضعِها، فكيف تقدّم الخير لغيرها؟!
لقد قامت المناهج المستوردة في التربية على أحد أمرين: إما التنكر للدين، وإما الفصل بين الدين والدنيا، وعلى هذا قامت دراساتهم وبنيت نظرياتهم، فجاءت التطبيقات والمناهج على أمور الدنيا وحدها، وفصلت أمور الدين عن التربية. إنه ليس من العقل ولا من الحكمة والنصح للأمة أن تنقل هذه العلوم والنظريات بعلاّتها وعوامل الإفساد فيها، يجب أن تقود هذه العلوم والدراسات إلى الإيمان والتقوى والخشية، وإلاّ فبئست التربية وبئس التعليم، قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].
أيها المسلمون، إن قضية التربية والتعليم في البلاد الإسلامية من كبرى القضايا ومن عظائم المهمات، فهي مسألة قائمة بذاتها؛ لأن أمة الإسلام أمة خاصة في طبيعتها ومنهجها وأهدافها، أمة ذات مبدأ وعقيدة ورسالة ودعوة وجهاد، ويجب أن تكون التربية والتعليم خاضعين لمبادئ الأمة وعقيدتها ورسالتها ودعوتها وجهادها، وكل تربية أو تعليم لا تحمل ذلك ولا تتضمنه فهي خيانة للأمة وغدر بالذمة.
التربية والتعليم عملية شاملة يتمّ بها الانتقال بالفرد والمجتمع من الواقع الذي هو عليه إلى المثل الأعلى الذي ينبغي أن يكون عليه، سئل أحد المربين عن مستقبل أمته فقال: "أعطوني مناهج تعليمها لأقول في مستقبلها".
التربية والتعليم في الإسلام لم تُترك للاجتهادات الإنسانية البحتة من قبل وزير أو مسؤول، ولا لمن تستهويهم المبادئ المستوردة وتأسرهم الأفكار الوافدة، لتأخذ بهم ذات اليمين تارة وذات الشمال تارة، ما بين اشتراكية ورأسمالية وحداثة وعلمانية، وفي مدرسة كذا، وعند مدرسة كذا، ونظرية فلان، وقانون فلان. التربية والتعليم ليست بضاعة للتصدير والاستيراد، ولكنها لباس يفصَّل على مقاس الأمة ليعكس حقيقتها وملامحها، حقيقتها في الباطن وملامحها في الظاهر.
التربية والتعليم عملية مستمرة تتكامل وتشترك فيها العديد من المؤسسات في المجتمع، كالمؤسسات الإعلامية والثقافية والاجتماعية وغيرها للقيام بالوظيفة التعليمية والتربوية، وأدنى درجات التكامل الذي يتوقعه التعليم من المؤسسات الأخرى عدم المناقضة، فلا يصلح أن يتعلم الطالب في النهار بعض الأحكام الشرعية في مادة الفقه مثلاً وفي الليل يرى ما يناقضه في الشاشة الملونة عبر المؤسّسات الإعلامية، أو يسمع كلامًا حسنًا من موجِّه أو مدرس ويرى ما يناقضه على صفحات الجرائد. فكم هو مؤلم أن تتضارب المؤسسات داخل المجتمع الواحد، والضحية الطلاب والطالبات.
التربية والتعليم هي وظيفة صناعة الرجال وصياغة العقول وصيانة السلوك وتحقيق أهداف كل العلوم؛ ليكون الإنسان قادرًا على حسن المسيرة في هذه الحياة، وفق أهدافه النبيلة وغاياته السامية. التربية والتعليم تجسد أهداف الأمة التي تعيش من أجلها وتموت في سبيلها، تجسد العقيدة المستقرة في قلوبها، واللغة التي تنسج بها حضارتها، والمثل الأعلى الذي تتطلع إليه، والتاريخ الذي تغار عليه.
أيها المسلمون، إن أمة الإسلام بحاجة إلى نظام تربوي وسياسة تعليمية تناسب طبيعتها، وتسير مع مثلها العليا في عقيدتها وشريعتها وروحها الجهادية؛ لتعود لها عزتها وتسترد أمجادها. تربية إسلامية منهجية وسياسة تعليمية واضحة تنتظم كل سنوات العمر ومراحل الدراسة، من رياض الأطفال حتى أعلى الدراسات العليا، يكون التغيير بها عمليًا إلى الصلاح والإصلاح واستعادة العزة وتثبيت الكرامة، تربية إسلامية وسياسة تعليمية تُصلح القلوب وتطبب النفوس وتزكي العقول.
لقد آن الأوان في وقت تواجه الأمة فيها عدوًا شرسًا كشّر عن أنيابه وأظهر ما في نفسه، وأعلنها حربًا صليبية، وهدد بتمزيق وتقسيم جسد الأمة، وضرب مصالحها في كل مكان، نقول: لقد آن الأوان أن تصاغ التربية ونظام التعليم في الأقطار الإسلامية في هذه الفترة في الروح والقالب، يجب أن تُدوّن العلوم تدوينًا إسلاميًا، وتؤلف الكتب والمناهج مشبعة بروح الدين، وتغذي بين أسطرها روح الجهاد في سبيل الله، وفي أوراقها عداوة اليهود والنصارى.
إن الأمة إن فعلت ذلك فلسوف تنشأ أجيال تفكر بعقل مسلم، وتكتب بقلم مسلم، وتدير دفة أمورها بسيرة رجل مسلم، وتقوم على شؤونها كلها بمقدرة مسلم وبصر مسلم.
أيها المسلمون، لا شك أن الجهل شر وبلاء، وأن الأمية ضياع وجفاء، ولكن علم المنحرفين وأمية المتعلمين أشدّ وأنكى، ومصيبة أن تتحول المناهج الدراسية إلى نوع من المعرفة الآلية الباردة، وأن يبقى هذا الكم من المعلومات رصيدًا للثقافة العامة، لا علاقة له بواقع الحياة، ولا صلة له كما ينبغي بتوجيه سلوك الفرد والإجابة عن كثير من تساؤلاته، وترى المتعلّم في المراحل الدراسية مثلاً يقرأ قيمة الصلاة في الإسلام ويتعلّم سننها وواجباتها وأركانها، ولكنه في واقعه العملي من المقصرين في المحافظة عليها أو من المخلّين بأحكامها، وربما احتاج ـ وهو المتعلم ـ إلى استفتاء العارفين المحافظين، وإن كانوا دونه في التعليم، وتراه يقرأ معنى التوحيد الحق، ويقف على أنواع الشرك في المنهج الدراسي، ثم تجده في حياته أو حياة أسرته المحيطة به مخلاً بما قرأ جاهلاً لما تعلّم، وترى فئة ثالثة تعي وتدرك الثقافة الإسلامية الأصيلة، وهم في واقعهم العملي من دعاة التغريب ورافعي رايات العلمنة، وقد تلقوا تعليمهم من مناهج دول إسلامية، وفئة رابعة ترى وتسمي التراث رجعية، والبلاء أنهم يزعمون أنهم من المسلمين، ثم هم متحمسون للدعوة إلى الحداثة، مغرمون بالكفار الساقطين، وصدق الله العظيم: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]. هذه فقط أمثلة عرضتها من أمية المتعلمين وانحراف المثقفين، وهناك غيرها في واقعنا يجدها من تأمل وبحث عنها. فأين هي مناهج التربية وسياسات التعليم؟!
أيها المسلمون، إن أعداء الإسلام يجعلون في أولويات اهتمامهم سياسة تعليمية تضمن تربية تخدم مصالحهم، وتنشئ جيلاً يتقمص مفاهيمهم ويقتبس عاداتهم وأنواع سلوكياتهم، ويدين بالولاء والطاعة لهم، قال جلّ وعلا: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89]، فأعداء المسلمين يخططون للنيل منهم ومن دينهم بكل طريقة ممكنة ووسيلة متاحة، ومن أعظم وسائلهم محاولة اختراق بلدان المسلمين بمناهج أو برامج تعليمية تهدف لسلخ الولاء لهذا الدين، ولنسف المفاهيم الإسلامية الصحيحة والتقاليد الأصيلة في إطار تغذية بأفكار علمانية، وتربية قائمة على التحلل من الضوابط الدينية والاستهانة بالأخلاق الاجتماعية الفاضلة، فهي في الجملة تفرز في مجتمعات المسلمين أضرارًا متناهية ومخاطر بالغة، تكمن في إضاعة الدين وإماتة آدابه وإخفاء مميزاته.
أيها المسلمون، ويبقى للمناهج الدراسية قيمتها وأثرها في تنشئة أبناء المسلمين، فالتعليم فيها منذ الصغر، والدراسة فيها للذكر والأنثى، وإنما أصيبت أجيال المسلمين أخيرًا بالخواء الروحي والشذوذ السلوكي يوم أن طُوّرت المناهج في زعم المطوّرين، فزوحمت لغة القرآن، وقلّصت مواد التربية الإسلامية أو فرغت من بعض محتوياتها المهمة، وقَطعت صلة الدارسين بتاريخ الإسلام وبطولات المسلمين، فتخرجت أجيال وهي لا تعلم من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، وويل لمن خان أمته واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
يجب علينا أن نعيد حساباتنا بخصوص التعليم، ولا بأس أن نستفيد من الناحية الهيكلية من تجارب الآخرين بدلاً من أن نظل نتخبط في محاولات الصح والخطأ. وللخروج من هذا المأزق الحرج يجب على العالم الإسلامي والعربي أن يكون على قدر من الشجاعة والمسؤولية، وأن يعترف بأخطائه في هذا المجال، ومن ثم تبدأ إعادة البناء بشكل كامل وصحيح.
من الضروري أن تكون هناك كلمة أسبوعية لجميع الطلاب وكذلك الطالبات من قبل مدير المدرسة إذا كان يحسن إلقاء الكلمات من خلال الطابور الصباحي أو غيره، ينقل فيه للطلاب ما يحصل للمسلمين من جراحات في كل مكان، وما يكيد ويخطط له اليهود والنصارى وأعداء الملة؛ ليتربى الطلاب على هذه المعاني، ويقل تعلقهم بهموم رخيصة كالرياضة والفن وغيره.
ثم أنتم أيها المعلمون والمدرسون، لتكن تلكم الأهداف نصب أعينكم، وليكن تحقيقها في ناشئة المسلمين هو مطلبكم ومسعاكم، حققوا غرسًا يدين للإسلام أولاً وللأمة ثانيًا، ابذلوا قصارى جهدكم لتربية تغرس في القلوب الولاء الصادق والمحبة الحقيقية لدين الإسلام ولنبيِّ الإسلام محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
أيها المعلمون والمدرسون، لا تكتفوا بما بين أيديكم من مناهج تقدموها للطلاب وتظنوا أن واجبكم قد انتهى عند هذا الحد، احرصوا على كشف الحقائق الصحيحة لهذا الدين، بينوا مخططات اليهود والنصارى في حرب الإسلام، تكلموا عن مآسي المسلمين وجراحاتهم في كل مكان، اربطوا طلابكم بقضايا الأمة الكبار، وجهوا الناشئة إلى الالتزام بالأخلاق الإسلامية والآداب المرعية والتمثل بالمكارم والفضائل في المدرسة والبيت، في الشارع والسوق وفي ميادين الحياة كلها، أكثروا من ذكر القصص والنماذج والقدوات من سيرة سلفنا الصالح في كل مجال؛ لتمحوا صور بعض القدوات الزائفة التي يقدمها الإعلام اليوم، والتي قد عششت في عقول وقلوب الشباب. في تلك المعالم مسؤولية تقع على عواتقكم، وواجب محتم نحو أمتكم، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته.
أيها المعلمون والمدرسون، ليس الامتحان للطلاب وحدهم، بل أنتم في نهاية الفصل ممتحَنون ومسؤولون، فإن قلتم: إنكم اعتدتم أن تمتحِنوا ولا تُمتحنوا وتَسألوا ولا تُسألوا، فدونكم هذه الأسئلة، وخليق بكم أن تعدّوا للسؤال جوابًا:
س1: ما هي القيَم التربوية التي عنيتم بها وأوصلتموها للطلاب؟
س2: كم من المبادئ الإسلامية غرستموها في الناشئة ودعوتم إليها؟
س3: كم رذيلة ومنكر منتشر في المجتمع حذّرتموهم منها؟
س4: كم من سلوك معوجّ نقدتموه؟ وكم ثقافة أصيلة رسختموها؟ وكم من فكر منحرف حذّرتم منه؟
س5: أي ذكرى أبقيتم في ذهن الطلاب بعد نهاية كل عام دراسي؟
س6: هل لازمتكم مسؤولية المربي طوال الفصل؟
تلكم وغيرها كثير من الأسئلة المهمة، ينبغي أن يَمتحن المعلم والمربي نفسه فيها، وأن يضعها أمامه في مطلع كل عام دراسي جديد، ذاك هو المرجو والمؤمّل منكم، فالأمانة عظيمة، والمسؤولية جسيمة، والامتحان مشترك، والرسوب والفشل ـ لا قدر الله ـ ليس حاصلاً بالطلبة وحدهم، فأنتم شركاء لهم، فاختاروا لأنفسكم ما تريدون.
ألا فلينتبه الغافل وليغتبط العامل، وهناك في أرض المحشر تبلى السرائر، وتطير القلوب، وتزيغ الأبصار، وتذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لم يعد خافيًا على أحد الحملة التي قامت بها الدول الغربية على مناهج التعليم في العالم الإسلامي والعربي موجّهةً إليها التهمة المضحكة: إن مناهج التعليم في العالم الإسلامي يغذي التطرف والإرهاب، فلذا لا بد من التغيير.
إن هذا الاتهام ليس وليد الأحداث الأخيرة، لكن بإمكانك أن تقول: إنه تَزَايَد بسبب حرارة الأحداث الأخيرة. إن قضية تغيير المناهج ارتبط أول ما ارتبط بالصراع العربي الإسرائيلي، وفي جميع مشروعات السلام كان اليهود يطالبون بمراجعة المناهج وإزالة كل ما يؤدّي لغرس الكراهية فيهم ويعكر على مسيرة السلام والمصالحة، فقد عقدت ندوة في جامعة تل أبيب كان عنوانها: (دراسة تأثير القرآن الكريم في عرقلة التطبيع مع إسرائيل)، وقد شارك في الندوة مع كل أسف أحد وزراء إحدى الدول، وتمّ على إثره حذف بعض آيات القرآن من المناهج التي يدرسها الطلاب في تلك الدولة، وقال بيجن لذلك الوزير: "كيف تريد أن أصدق أن هناك نيّة عندك للتطبيع وطلابكم ما زالوا يقرؤون الآية التي تقول: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [المائدة:78]؟!". فنقول بأن قصة تغيير المناهج قديمة قِدم الصراع العربي الإسرائيلي، وبعد الأحداث الأخيرة زادت المطالبة الجادة بها في معظم الدول.
أيها المسلمون، حين يتحدث الغرب عن تنقية المناهج مما يغذي الإرهاب فإنه يتحدث عن نوع محدد من الإرهاب، إنه يتحدث عن الإرهاب الذي يهدد مصالحه، أو بعبارة أخرى يسعى إلى تنقية كل ما يعارض مصالحه ونفوذه.
فحين تنطلق الحملة على المناهج الشرعية والمدارس الدينية من فرضية مؤداها أن التعليم الشرعي يغذي الإرهاب فإن هناك من رجال التربية من يعكس الأمر فيقول: إن زيادة الجرعة الشرعية هي التي تقي من التوجه للإرهاب والتطرف. حين تبدو من فئة من طلاب المدارس مظاهر من التطرف ويمارسون أعمالاً تصنف عند غيرهم أنها إرهابية، فالسؤال: هل مصدر هذه الأعمال هو مناهج التعليم فقط؟
إن الطالب يؤثر في سلوكه ـ كما نعلم ويعلم عقلاء العالم ـ عدة عوامل: المدرسة والأسرة والرفقة والمجتمع ووسائل الإعلام والأوضاع الاقتصادية والأوضاع الاجتماعية وغيرها، فهل من المقبول عقلاً وواقعًا أن نختار بعض تصرفاته لنحيلها إلى المدرسة؟! أليس هناك من الطلاب من وقع في جرائم جنائية والبعض وقع في قضايا أخلاقية وبعضهم تعاطى المخدرات؟! فهل هذه الأعمال التي صدرت من بعضهم أيضًا بسبب مناهج التعليم؟!
خذ هذا المثال الحي: ها هي الدولة التي نصبت نفسها الحامية للعالم من شرور الإرهاب، والتي تتبنى اليوم الحملة على المدارس الدينية والمناهج التعليمية في العالم الإسلامي، تتعرض هذه الدولة ـ اليوم وقبل اليوم ـ لأعمال العنف والإرهاب في مدارسها، ويمارس طلابها أعمال الإرهاب البشعة قبل أن يجاوزوا أسوار المدرسة، فقبل فترة قُتل شاب رميًا بالرصاص وأصيب اثنان آخران بجروح قرب إحدى المدارس الثانوية في ولاية جورجيا الأمريكية، وبعده بشهر قَتَلَ طالبان اثني عشر من زملائهما وإحدى المدرّسات بعد أن راحا يطلقان النار بشكل عشوائي في إحدى مدارس دينفر بولاية كولورادو، وأصاب طالب آخر ستة من زملائه بجروح حين أطلق النار عليهم في مدرسة ثانوية في ولاية جورجيا، ومنذ أشهر قريبة أطلق صبي في العاشرة من العمر النار على زميلة له فأرداها قتيلة في إحدى مدارس ولاية ميتشيجان. وهذا غيض من فيض وقطرة في بحر، فهل تعني هذه الظواهر على حسب معادلتهم أن سببه مناهجهم التعليمية، وأنها هي التي أفرزت هذا الإرهاب؟! لذا يجب علينا التدخل في مناهجهم لنوقف الإرهاب في مدارسهم.
أيها المسلمون، إن كان من كلمة أخيرة في تطوير المناهج فيجدر الإشارة إلى أنه في الوقت الذي يطالب فيه المسلمون بتصفية المدارس الدينية والتقليل من المواد الشرعية فإن التعليم في دولة ما يسمّى بإسرائيل يسير وفق الخطّ البياني المرسوم والمستهدف في قفزات تطويرية منذ قيام الدولة لا يخطئ قدر أنملة، فالمدارس الدينية تزداد رواجًا وانتشارًا، بل ويحظى أصحابها بمزايا عديدة تمنحها لهم الدولة لا يحظى بها خريج التعليم العلماني في إسرائيل، على أن ما يسمى بالتعليم العلماني هناك ما زال يحمل بوضوح الحلم اليهودي بأفكاره وقيمه التلمودية وأساطيره الصهيونية وتاريخه التوراتي، فكيف بمدارسهم الدينية؟! فهل من وقفة تأمل ومراجعة؟!!
اللهم عليك باليهود، اللهم أحصهم عددًا، اللهم لا تدع لهم قوة في الأرض إلا دمرتها، ولا قوة في البحر إلا أغرقتها، ولا قوة في الجو إلا فجرتها وأسقطتها يا قوي يا عزيز، اللهم أقم علم الجهاد، اللهم استعملنا جميعًا في طاعتك واجعلنا مفاتيح للخير...
(1/4026)
التواضع والتكبر في ميزان الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
20/4/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة التكبر على الفرد والمجتمع. 2- أسباب التكبر. 3- أقبح أنواع التكبر. 4- أهمية التواضع وأثره. 5- التواضع خلق الأنبياء والصالحين. 6- بين التواضع والهيبة. 7- تواضع النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، من الأمراض الاجتماعية الخطيرة التي راجت بضاعتها وقامت سوقها وسرت في المجتمعات كسريان النار في الهشيم داء عضال، ومرض وبيل وشر مستطير، ما فشا في مجتمع إلا صدّع بنيانه وقوّض أركانه وقاده إلى الدمار والبوار، وما وقع فيه شخص إلا زعزع حياته وأورده موارد السوء والهلاك وجعله في أسفل السافلين، وإن بدا في نفسه أنه رفيع الجانب مهاب من الناس، ذلكم ـ يا معاشر المسلمين ـ هو داء التكبر والعظمة ومرض التعالي والعجب.
عباد الله، التكبر سبب للعناء والشقاء، وموجب للحرمان من رحمة الله تعالى ورضوانه، على ما فيه من التعالي على الخلق والحق، مما يسبب خراب المجتمع إذا فشا فيه، وأصحابُ التكبّر من أهمّ وسائل الهدم في كيان المجتمعات، ولا يزالون يتكبرون ويبحثون عن الأسباب الجالبة لهذا الداء المفسد حتى يخفضهم الله تعالى، فلا يبالي بهم في أي أوديته هلكوا. وهل كفر إبليس بربه وأُخرِج من الجنة وطُرِد عن الرحمة وحَقّت عليه اللعنة إلا بتكبّره وعناده وإعجابه بنفسه؟! وهل كَفَر من كَفَر وطَغَى من طَغَى إلا بتكبّرهم على الله تعالى وإعجابهم بما هم عليه من نعمة وصحة؟!
عن سلمة بن الأكوع قال: قال رسول الله : ((لا يزال الرجل يذهب بنفسه ـ أي: يرتفع ويتكبر ـ حتى يُكتب في الجبّارين، فيصيبه ما أصابهم)). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكبر شرّ من الشرك، فإنّ المتكبر يتكبّر على عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره، ولذلك جعل الله النار دار المتكبرين، فقال عز من قائل: ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِين [غافر:76]، وأخبر أن أهل الكبر والتجبر هم الذين طبع الله على قلوبهم فاتبعوا أهواءهم: كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّار [غافر:35] ".
قال الله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [الإسراء:37] ، أي: لا تمش في الأرض متبخترًا كمشية الجبارين، فإنك لن تخرق الأرض بمشيك عليها وشدة وطئك، ومهما شمخت بأنفك عاليًا فلن تبلغ الجبال ارتفاعًا.
أيها المسلمون، التكبر خصلة ذميمة تفسد المجتمع الإنساني، وتورث الحرمان الإلهي، وتجلب الشقاء النفسي، وأسبابه في الجملة ترجع إلى شعور المتكبر المغرور بالاستعلاء الذاتي على أقرانه والرغبة في الامتياز على الآخرين والانتفاخ والتعالي عليهم والاستغناء عنهم، إضافة إلى الشعور بالنقص الداخلي مما يدعوه إلى تكميله على حسب نظره القاصر بالتكبر الخارجي، ولذلك كله فإن المتكبرين من أجبن الناس إطلاقًا، ومن أكثرهم جهلاً وأبعدهم عن صفات الشجاعة والمروءة والرجولة، ورحم الله من قال:
كبرًا علينا وجبنًا عن عدوكم لبئست الخلتان: الكبر والجبن
ومن أهم أسباب التكبر وأخطرها تزكية النفس وحب الظهور وحكاية الأحوال للغير على وجه المفاخرة والتكاثر والتفاخر بالنسب والأصل والقبيلة أو الوظيفة والمرتبة، قال رسول الله : ((يقول الله تعالى: العز إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني فيهما عذبته)). قال الله تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18]، أي: لا تمل خدك وتعرض به عن الناس تكبرًا عليهم، ولا تمش في الأرض متبخترًا معجبًا بنفسك، فإن هذا مما يبغضه الله.
عباد الله، وأقبح حالات التكبر أن يتكبر الفتى من غير سبب يدعوه للتكبر، فهذا من أشر الناس منزلة عند الله يوم القيامة، قال المصطفى : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) أي: فقير مستكبر.
ألا ما أقل حظ المتكبرين، وما أعظم خسرانهم المبين، فقد خسروا بتكبرهم الإيمان والأعمال الصالحة، وخسروا ما أعده الله للمتواضعين من الثواب والنعيم، وخسروا محبة الناس أجمعين، فالناس جبلوا على محبة المتواضعين ومقت المتكبرين، ومن أظهر من الناس تعظيمهم ومحبتهم فذلك نفاق وخداع لمصالح معينة يذهب بانقضائها.
عباد الله، علام يتكبر الناس والجميع من تراب؟! وعلام يتجبر المتجبّرون والموت مصرعهم؟! وبماذا يتعالى بعض الناس على بعض والقبور بعد هذه الدار منازلهم؟! كيف يتكبر الإنسان وهو مخلوق ضعيف فقير ناقص من كل وجه؟! فأوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة، وبين جنبيه يحمل العذرة.
إن الواجب على المسلم أن يتواضع لعباد الله، ويلين لهم جانبه، ويحب لهم الخير والنصح في كل حالة من أحوالهم، يحترم كبيرهم، ويحنو على صغيرهم، ويوقر عالمهم، ويحفظ لكل ذي مكانَة منزلته. فقد تكاثرت نصوص الكتاب والسنة في الأمر بالتواضع للحق والخلق والثناء على المتواضعين وذكر ثوابهم في العاجل والآجل، فالعبودية لله وحده وطاعته في أمره ونهيه كل ذلك خضوع وانقياد للصواب والحق، فإن أعظم الحقوق على العباد حق الله تعالى عليهم أن يعبدوه وحده لا يشركون به شيئًا، فمن خضع لهذا الحق في أصول الدين وفروعه فهو المتواضع الخاضع لله، ومن أعرض عنه وعارضه فهو المتكبر، وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا [النساء:172]. قال الله تعالى: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر:88]، وعن عياض بن حمار أن رسول الله قال: ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)) ، وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)).
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه إلى طبقات الجو وهو وضيع
أيها المسلمون، إن التواضع خلق الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام ووصف المؤمنين المتقين، يزيد الشريف شرفًا، ويرفع للوضيع ذكرًا وقدرًا حتى يبلغه مقامات الأولياء والأصفياء، ما وُصِل إلى المنازل العالية إلا بتقوى الله تعالى والتواضع، ولا أدركت الأخلاق الجميلة إلا بالانقياد للحق وتعظيم حقوق الخلق، فكم حصل للمتواضع من مودة وصفاء، وكم تم له من محبة وثناء، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله. وأفضل الناس ـ عباد الله ـ من تواضع عن رِفْعة، وزهد عن قُدرة، وأنصف عن قوة. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "التواضع أن يُخضِع الرجل نفسه للرجل وينقاد له، ولا يرى لنفسه قيمة، فمن رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب".
تواضع إذا ما نلت فِي الناس رِفْعة فإن رفيع القوم من يتواضع
روى أهل السير أنه كان عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله قوم ذات ليلة في بعض ما يحتاج إليه، فغُشي سراجه، فقام إليه فأصلحه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ألا نكفيك؟ قال: "وما ضرّني قمتُ وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعتُ وأنا عمر بن عبد العزيز". الله أكبر يا عباد الله! هكذا فهِم المتقون التواضع فطبقوه واقعًا ملموسًا في حياتهم، فعاشوا أصفياء، وماتوا سعداء، لم يعرف التكبر رواجًا عندهم، وقد كانوا يملكون أسبابه ووسائله ودواعيه.
وهذا لا ينافي أن يكون للمؤمن هيبة يحفظ بها قدره، ويصون بها عرضه، فإن من قلّت هيبته قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل إيمانه، ومن أكثر من الضحك والمزاح مع الناس استُخِف به واجترأ الناس عليه، والسعيد من جمع بين التواضع والهيبة، فلم يتكبر على عباد الله، ولم يفقد نفسه هيبتها. وهكذا كان السلف رحمهم الله.
فقد كان عمر بن الخطاب والذي بلغ من تواضعه أنه كان يتناوب مع خادمه على الركوب على دابة واحدة حين ذهب إلى فلسطين فاتحًا وهو أمير المؤمنين، ولما جاء دوره ليمشي صادف ذلك ساعة الوصول إلى بيت المقدس، وكان في استقباله القساوسة والرهبان، فأبى الخادم أن يركب، لكنّ عمر أصر على عدالة القسمة بينه وبين خادمه، ودخل عمر فلسطين وهو يقود زمام الناقة وعليها خادمه، فما زاده ذلك في أعين القوم إلا إجلالاً وإكبارًا، حتى سُمِع نشيجهم وبكاؤهم لعدل الإسلام ورحمته وتواضع أبنائه. ومع ذلك فقد كان ذا هيبة ووقار، حتى قال عبد الله بن عباس : (مكثت سنة كاملة وأنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية من كتاب الله فلا أستطيع أن أسأله هيبة له).
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وليكن لكم في رسول الله أسوة حسنة، فقد كان شديد التواضع مع علو قدره ورفعة منزلته ، تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المسكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما.
وعند البخاري من حديث أنس بن مالك قال: إن كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت حتى يقضي لها حاجتها.
وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى شيء يسير، وكان هيّن المؤونة، لين الخلق، كريم الطبع، جميل المعاشرة، طلق الوجه، متواضعًا من غير ذلّة، جوادًا من غير سرف، رقيق القلب، رحيمًا بكل مسلم، خافضًا جناحه لكل مؤمن، يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويركب الحمار، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف عليه إكاف من ليف. ودخل عليه رجل وهو يرتعد خوفًا من هيبته فقال له: ((هوّن عليك؛ فإني لست بملِك، وإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة)). حتى وصفه الله تعالى بقوله: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [التوبة:159]، قال الله تعالى عنه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
وهكذا كان صحابته من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، رحماء بينهم. فما بال أقوام لا يساوون عند الله موطئ قدمه ولا موطئ قدم أحد من أصحابه يتكبرون على عباد الله، ويتكلفون الشطط في المعاملة مع الناس، ويرون الناس في أعينهم كأنهم القذى؟!
أيها المسلمون، إن التكبر من الخصال الذميمة والخلال الممقوتة، متوعَّد عليه بالعذاب الشديد من العزيز الحميد، فإن المتكبرين يحشرون يوم القيامة كالنمل ـ أضعف الحشرات ـ يطؤهم الناس بأقدامهم كما صح بذلك الخبر عن المعصوم ، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) ، فقال رجل: يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة! فقال رسول الله : ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) ، أي: إن التكبر إنما هو رد الحق على قائله واحتقار الناس.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا من الكبر، وتواضعوا لله تعالى ثم لعباده تفوزوا وتفلحوا.
وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم...
(1/4027)
خلق العفو والصفح
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
20/3/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل سلامة الصدر. 2- مصدر العزة والرفعة. 3- فضل العفو. 4- حضّ الشريعة على العفو. 5- العفو شجاعة وقوة. 6- ذم التشفّي والانتقام. 7- بين العفو والصفح. 8- فضل الصفح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدَى هديُ محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة.
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنَّما هذه الحياة الدنيا متاع، وأنَّ الآخرة هي دار القرار، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
أيّها الناس، سلامة صدرِ المرء من الغشَش وخُلوّ نفسِه من نزعةِ الانتصار للنَّفس والتشَفِّي لحظوظِها لهي سِمَة المؤمن الصالح الهيّن اللَّيِّن الذي لا غلَّ فيه ولا حسَد، يؤثر حقَّ الآخرين على حقِّه، ويعلم أنَّ الحياةَ دارُ ممرٍّ وليسَت دار مَقرٍّ؛ إذ ما حاجةُ الدنيا في مفهومه إن لم تكُن موصِلَةً إلى الآخرة؛ بل ما قيمةُ عيشِ المرء على هذه البسيطة وهو يَكنِزُ في قلبه حبَّ الذات والغِلظة والفَظاظَة ويُفرِزُ بين الحين والآخر ما يؤكِّد من خلالِه قَسوَةَ قلبِه وضيق عَطَنه؟!
ما أكثَرَ الذين يبحَثون عن مصادرِ العزِّة وسبُلها والتنقيب عنها يمنةً ويَسرةً والتطلُّع إلى الاصطباغِ بها أو بشيءٍ منها مهما بلَغ الجَهدُ في تحصيلها، مع كثرَتِها وتنوُّع ضُروبها، غيرَ أنَّ ثمَّةَ مصدرًا عظيمًا من مصادرِ العزَّة يغفل عنه جلُّ النّاس مع سهولَتِه وقلَّة المؤونةِ في تحصيله دون إجلابٍ عليه بخيلٍ ولا رَجلٍ؛ إنما مفتاحُه شيءٌ من قوَّةِ الإرادة وزمِّ النفسِ عن استِتمامِ حظوظها واستيفاءِ كلِّ حقوقِها، يتمثَّل هذا المفتاحُ في تصفِيَة القلب من شواغلِ حظوظ الذّات وحبِّ الأخذ دون الإعطاءِ.
هذه العزّةُ برمَّتها يمكِن تحصيلُها في ولوجِ المرء بابَ العفو والصَّفح والتسامح والمغفرة، فطِيبُ النفس وحسنُ الظنّ بالآخرين وقَبول الاعتذار وإقالةُ العثرة وكَظم الغيظ والعفوُ عن الناس كلُّ ذلك يعَدّ من أهمِّ ما حضَّ عليه الإسلام في تعامُل المسلمين مع بعضِهم البعض. ومَن كانت هذه صفَته فهو خليقٌ بأن يكونَ من أهل العزَّة والرفعة؛ لأنَّ النبيَّ قال: ((ما نقَصَت صدقةٌ من مالٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلاَّ عِزًّا، وما تواضَعَ أحدٌ للهِ إلا رفعَه)) رواه مسلم [1] ، وفي لفظٍ لأحمد: ((ما مِن عبدٍ ظُلِمَ بمظلمةٍ فيُغضِي عنها لله إلاَّ أعزَّه الله تعالى بها ونصَره)) [2]. فهذِه هي العِزَّة يا باغيَ العزة، وهذه هي الرِّفعة يا من تنشُدُها.
إنها رِفعة وعِزّة في الدنيا والآخرة، كيف لا وقد وعد الله المتَّصفِين بها بقولِه: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]؟! والكاظِمونَ الغيظَ ـ عباد الله ـ هم الذين لا يُعْمِلون غضَبَهم في الناس، بل يكفّون عنهم شرَّهم، ويحتسِبون ذلك عند الله عز وجل، أمّا العافون عن الناس فهم الذين يعفونَ عمَّن ظلمَهم في أنفسهم، فلا يبقَى في أنفِسهم موجِدَة على أحدٍ. ومن كانت هذه سجيَّته فليبشِر بمحبَّةِ الله له حيث بلَغَ مقامًا من مقاماتِ الإحسان، وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [آل عمران:134]. ألا إنَّ مَن أحسن فقد أحبَّه الله، ومن أحبَّه الله غفَر له ورحمه، إِنَّ رَحْمةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ المُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
العفو ـ عبادَ الله ـ شِعار الصالحين الأنقِيَاء ذوِي الحِلم والأناة والنّفس الرضيّة؛ لأنَّ التنازلَ عن الحقِّ نوعُ إيثارٍ للآجلِ على العاجل وبسطٍ لخُلُقٍ نقيٍّ تقيٍّ ينفُذ بقوّةٍ إلى شِغاف قلوب الآخرين، فلا يملِكون أمامه إلا إبداءَ نظرةِ إجلالٍ وإكبار لمن هذه صفتُه وهذا ديدَنُه.
إنَّ العفو عن الآخرين ليس بالأمرِ الهيِّن؛ إذ له في النّفسِ ثِقلٌ لا يتِمّ التغلُّب عليه إلاّ بمصارعةِ حبِّ الانتصار والانتقامِ للنفس، ولا يكون ذلك إلا للأقوياءِ الذين استعصَوا على حظوظ النّفس ورغباتها وإن كانت حقًّا لهم يجوزُ لهم إمضاؤُه لقوله تعالى: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ [الشورى:41]، غيرَ أنَّ التنازل عن الحقّ وملكةَ النفس عن إنفاذِه لهو دليلٌ على تجاوزِ المألوفِ وخَرق العادات. ومِن هنا يأتي التميُّز والبراز عن العُموم، وهذا هو الشَّديد الممدوحُ الذي يملِك نفسه عند الغضب كما في الصحيحَين وغيرهما عن النبي [3] ، وقد أخرج الإمام أحمَد في مسنده قولَ النبيِّ : ((من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء)) [4].
أيّها المسلمون، إنَّ شريعتَنا الغرّاء يوم حضَّت المسلمِين على التخلُّق بخلقِ العفو والتجاوُز لم تقصِر هذا الحضّ في نطاقٍ ضيق أو دائرة مغلَقَة، بل جعلتِ الأمرَ فيه موسَّعًا ليشمَلَ جوانبَ كثيرةً من شؤونِ التّعامُل العَامّ والخاصّ، فلقد جاء الحضُّ من الشارع الحكيم للقيادة الكُبرى وأهلِ الولاية العظمى بذلك؛ لأنَّ تمثُّل القيادَةِ بسيما العفوِ والتسامُح أمارةٌ من أمارات القائدِ الناجحِ كما أمرَ الله نبيَّه في قولِه: خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، والعفو هنا هو التجاوُز على أحدِ التفسيرَين، وكما في قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران:195].
ولقد تعدَّى الحضُّ أيضًا إلى أبوابِ الدِّماء والقِصاص كما في قولِه تعالى: فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ [المائدة:54]، كما تعدى الحضّ أيضًا إلى الزَّوجين في مسألةِ الصداق في الطلاق قبلَ الدخول حيث قال سبحانه: وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، بل إنَّ الحضَّ على العفوِ قد تعدَّى إلى ما يخصّ تبايُع الناس وشراءَهم ومدايناتهم، فقد قال النبي : ((من أقال مسلمًا بيعتَه أقال الله عثرتَه)) رواه أبو داود وابن ماجه [5] ، وقال : ((كان تاجرٌ يدايِن الناس، فإذا رأَى معسِرًا قال لفتيانه: تجاوَزوا عنه لعلَّ الله أن يتجاوز عنّا، فتجاوَز الله عنه)) رواه البخاري ومسلم [6]. وثمّة تأكيدٌ على عموم الحضِّ على العفوِ في التعاملِ مع الآخرين بسؤالِ الرجل الذي جاء إلى النبيِّ فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمَت، ثم أعادَ عليه الكلام فصمَت، فلمّا كان في الثالثة قال: ((اعفوا عنه في كلِّ يومٍ سبعين مرة)) رواه أبو داود والترمذي [7].
وبعدُ يا رعاكم الله: فإنّ العفو والتجاوز لا يقتضِي الذّلَّةَ والضعف، بل إنه قمَّة الشجاعة والامتنانِ وغلَبَة الهوى، لا سيَّما إذا كان العفوُ عند المقدِرَة على الانتصار، فقد بوَّب البخاريّ رحمه الله في صحيحه بابًا عن الانتصارِ من الظالم لقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ [الشورى:39]، وذكَرَ عن إبراهيم النخعيّ قوله: "كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا" [8] ، قال الحسن بنُ علي رضي الله تعالى عنهما: (لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه) [9] ، وقال جعفرُ الصادِق رحمه الله: "لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة" [10] ، وقال الفضيل بنُ عياض رحمه الله: "إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزّ وجلّ فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع، فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأنّ الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان".
ثم إنَّ بعض الناس ـ عباد الله ـ قد بلغ من القسوةِ ما لا يمكن معها أن يعفوَ لأحد أو يتجاوَز عنه، لا ترونَ في حياته إلاّ الانتقام والتشفِّي، ليس إلا. ترونَه وترونَ أمثالَه كمثَل سماءٍ إذا تغيَّم لم يُرجَ صَحوُه، وإذا قَدر لا يُنتَظَر عفوه، يغضِبُه الجرمُ الخفيّ، ولا يرضيه العذرُ الجليّ، حتى إنّه ليرَى الذنبَ وهو أضيقُ من ظلِّ الرمح، ويعمَى عن العذرِ وهو أبيَنُ من وضَح النهار. ترونَه ذا أُذنين يسمَع بإحداهما القولَ فيشتطّ ويضطرب، ويحجبُ عن الأخرَى العذرَ ولو كان له حجّةٌ وبرهان. ومَن هذه حالُه فهو عدوُّ عقلِه، وقد استولى عليه سلطان الهوَى فصرفَه عن الحسنِ بالعفوِ إلى القبيح بالتَّشفِّي، تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ما ضرب رسول الله شيئًا قطّ بيده، ولا امرأة ولا خادمًا، إلا أن يجاهِدَ في سبيل الله، وما نيل منه شيء قطّ فينتَقِم من صاحبه إلاّ أن يُنتَهَك شيء من محارِم الله فينتَقِم لله عز وجل. رواه مسلم [11].
ألا إنَّ الانتصارَ للنفس من الظلمِ لحقّ، ولكنَّ العفوَ هو الكمالُ والتّقوى، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40].
باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] صحيح مسلم: كتاب البر (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] مسند أحمد (2/436) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا القضاعي في مسند الشهاب (820)، وفي إسناده محمد بن عجلان اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، وقد خولف في إسناد هذا الحديث، فرواه الليث بن سعد مرسلا، ورجح الإرسال البخاري في التاريخ (2/102)، والدارقطني في العلل (8/153)، والحديث في السلسلة الصحيحة (2231).
[3] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6114)، صحيح مسلم: كتاب البر (2609) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] مسند أحمد (3/440) من حديث معاذ بن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الأدب (4777)، والترمذي في صفة القيامة (2493)، وابن ماجه في الزهد (4186)، وأبو يعلى (1497)، والطبراني في الكبير (20/188)، والبيهقي في الشعب (6/313)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2753).
[5] سنن أبي داود: كتاب البيوع، باب: في فضل الإقالة (3460)، سنن ابن ماجه: كتاب التجارات، باب: الإقالة (2199) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه قوله: ((بيعته)) ، وأخرجه أيضًا أحمد (2/152)، وصححه ابن حبان (5030)، والحاكم (2/45)، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حزم في المحلى (9/3)، وابن دقيق العيد كما في الفيض (6/79)، وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه (3/18): "إسناد صحيح على شرط مسلم"، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه أيضًا الألباني في إرواء الغليل (1334).
[6] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2078)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1562) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] سنن أبي داود: كتاب الأدب (5164)، سنن الترمذي: كتاب البر (1949) عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/90، 111)، وعبد بن حميد (821)، وأبو يعلى (5760)، والطبراني في الأوسط (1765)، والبيهقي في الكبرى (8/10)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وجود المنذري في الترغيب رواية أبي يعلى (3/152)، وقال الهيثمي في المجمع (4/238): "رواه أبو يعلى ورجاله ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (488).
[8] صحيح البخاري: كتاب المظالم، باب: الانتصار من المظالم، قال ابن حجر في الفتح (5/100): "هذا الأثر وصله عبد بن حميد وابن عيينة في تفسيرهما في تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [الشورى:39]".
[9] انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (1/319 ـ مؤسسة الرسالة ـ)
[10] انظر: أدب المجالسة لابن عبد البر (ص116).
[11] صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2328).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتَّّقوا الله أيها المسلمون، واعلَموا أنَّ تحضيضَ الشريعة على العفوِ والتجاوُز لم يكن مقتصِرًا على العفو في الظاهرِ دون الباطن، بل إنَّ التحضيضَ عمَّ الظاهر والباطنَ معًا، فأطلق على الظاهر لفظَ العفو، وأطلق على الباطنِ لفظ الصَّفح، والعفوُ والصفح بينهما تقارُبٌ في الجملة، إلاَّ أنَّ الصفحَ أبلغ من العفو؛ لأنَّ الصفح تجاوزٌ عن الذنبِ بالكلية واعتباره كأن لم يكن، أمّا العفو فإنّه يقتضي إسقاطَ اللوم الظاهر دونَ الباطن، ولذا أمَر الله نبيَّه به في قولِه: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وهو الذي لا عتاب معه.
وقد جاءتِ الآيات متضَافِرةً في ذكرِ الصفح والجمعِ بينه وبين العفو كما في قولِه تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ [المائدة:13]، وقوله: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [البقرة:109]، وقوله سبحانه: وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التوبة:22]، وقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًا لَّكُمْ فَاحْذَرُوَهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التغابن:14].
العفو والصّفح ـ عباد الله ـ هما خلُقُ النبيّ ، فأين المشمِّرون المقتَدون؟! أين من يغالِبهم حبُّ الانتصار والانتقام؟! أين هم من خلُق سيِّد المرسَلين ؟! سئِلَت عائشة رضي الله عنها عن خلُق رسولِ الله فقالت: لم يكن فاحِشًا ولا متفحِّشًا ولا صخَّابًا في الأسواق، ولا يجزِي بالسيِّئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح. رواه أحمد والترمذي وأصله في الصحيحين [1]. وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:36، 37].
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحبِ الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...
[1] مسند أحمد (6/174، 236، 246)، سنن الترمذي: كتاب البر (2016)، وأخرجه أيضا الطيالسي (1520)، وابن راهويه في مسنده (1612)، والبيهقي في الكبرى (7/45) وفي الشعب (6/312)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (6443)، والحاكم (4224)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1640).
(1/4028)
جريمة السحر
التوحيد, فقه
المرضى والطب, نواقض الإسلام
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
20/3/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الهداية. 2- مفاسد السحر. 3- تحكم الشيطان في السحرة. 4- حب السحرة للمال. 5- مكر السحرة وخداعهم. 6- أضرار السحرة على الأفراد والمجتمعات. 7- حدّ الساحر. 8- نداء للمغرورين بالسحرة. 9- السحر ظلم. 10- نصائح للمسحور. 11- علاج السحر والتحصن منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التّقوى، فالتّقوَى طريقُ المفلحين، والإعراضُ عنها سَبيل البائِسين.
أيها المسلمون، الهدايةُ مِنحَةٌ منَ الكريم، ينعِم بها على من يشاء مِن عباده، وقد أمَر جلَّ وعلا بالحِفاظ عليهَا ممّا يدنِّس صَفوَها أو يمحو نورَها، ومِنَ النّاس من أَرخَص دينَه بعدَمِ رِضاه بما كُتب له أو لغَيره جزَعًا على المقدور، فباعَ دينَه للسَّحَرة والمشعوِذين بِسؤالهم المغيَّباتِ أو طلبِ السّحر منهم أو لتحقيقِ أطماعٍ موهومة، ولَقد اكتوَى بنارِ السّحَرة الأفرادُ والمجتمعات.
والسِّحر جامعٌ لمُهلكاتٍ في الدّين من الاستغاثةِ بالجنّ والشياطينِ وخوف القلبِ مِن غيرِ الله ونبذِ التوكّل على الله وإفسادِ معايش النّاسِ ومصالحهم، وهو من مَعاول هدمِ المجتمَع وممّا يفرِّق الأسَر، قال عليه الصلاة والسلام: ((اجتَنِبوا السبعَ الموبِقات)) ، قالوا: وما هنَّ يا رسول الله، قال: ((الشركُ بالله والسّحر وقتلُ النفس التي حرَّم الله إلا بالحقّ وأكلُ الرِّبا وأكل مالِ اليتيم والتولِّي يومَ الزحف وقذفُ المحصَنات المؤمِنات الغافِلات)) متفق عليه [1].
والشّيطان يَؤزُّ السّاحرَ أزًّا ليَعملَ السّحرَ أذيّةً لعبادِ الله، قال جلّ وعلا: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]، وقال جل وعلا: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ [البقرة:102]. وليسَ كلّ سِحرٍ يؤثّر في المسحور، فكم من سَاحرٍ عقَد سِحْرًا ولم يؤثِّر في المسحور، قال عز وجل: وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:102]. والضرّ والنفع كلُّه بيدِ الله، قال النبيّ : ((واعلم أنّ الأمّةَ لو اجتَمعوا على أن يَضرّوك بشيءٍ لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبَه الله عليك)) رواه الترمذيّ [2].
أيّها المسلمون، السّاحِر أخبَثُ الناس نَفسًا وأفسدُهم طَبعًا وأظلَمهم قَلبًا، قَريبٌ من الشّيطان، عابدٌ له، مدبِرٌ عن الخير، ناقِمٌ عَلى المجتمَع، متَّصِف بأحقرِ الصّفات، يَكذب على من يأتيه بالأخبارِ المزيَّفة، قالَ النبيّ : ((فيُلقيهَا على لسانِ السّاحر أو الكاهن، فيكذِب معها مائةَ كذبَة)) متفق عليه [3].
ولا يَتمّ له السِّحر إلاّ بعدَ الكفرِ بالله العظيم، قال عليه الصلاة والسلام: ((ومَن سحَر فقد أَشرَك)) رَواه النسائيّ [4] ، قال في فتحِ المجيد: "هذا نصٌّ في أنَّ الساحرَ مشرِك؛ إذ لا يتأتَّى السِّحر بدون الشّرك".
يحبّ الساحرُ المالَ حبًّا جمًّا، ويخدَع السُّذَّج لذَلك، ولمَّا طلَب فرعون من السّحَرة أن يواجِهوا موسى بالسحرِ طلَبوا منه مالاً، قال سبحانه إخبارًا عنهم: وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المُقَرَّبِينَ [الأعراف:113-114].
الساحر يمكُر بالآخرين، فيَدعوهم إلى الشّرك، فقد يَأمر من يأتيه بالذَّبح لغير الله، وقَد يأمرُه بتعليقِ تميمةٍ زاعمًا النفعَ منها ودفعَ الضرِّ بها، والنبيّ يقول: ((مَن تعلَّق تميمةً فقَد أشرَك)) رواه أحمد [5].
ويوهِم من أتى إلَيه بأنّه يَعرِف ما بِه من الأمرَاضِ والأسقَام ليتَعلَّق قلبُه به، ويخادِع من أتاه بإحاطةِ طَلاسِمِه بالآياتِ القُرآنيّة.
السّاحِرُ ضرَرُه محضٌ على المجتَمع، وأفعالُه ظُلماتٌ متراكِبة، أوقَع أفرادًا من المجتَمع في الشّرك، وأحلَّ به الخُطوبَ، شتَّت بيوتًا سعيدَة، وفرّق بين زوجَين متآلِفَين، فذاقَ بسبَبه الأبناءُ الأبرياءُ مرارةَ الحَياة، وتعرَّضوا بفُرقةِ والدِيهم لأسبابِ الانحرَاف، جلَب للنّاسِ الهمومَ والكروب، فكم من إنسانٍ مُعافى تسبَّب الساحر في مرَضه، وكم من فقيرٍ تحمّل ديونًا طلبًا لعافيةٍ سلَبها منه السّاحر، وكم أكَل السّاحر من الأموال سُحتًا لقاءَ ما يزعمُه من الدّواء أو عِلم الغَيب، وكم من إنسانٍ أخرَجه الساحِر من الدّين لتصديقِه خَبرًا من الغيب لا يعلَمه إلا الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن أتى عرّافًا أو كَاهنًا فسأَله عن شيءٍ فصدَّقه فقَد كفَر بما أُنزل علَى محمّد)) رواه أحمد [6].
ولتفاقُمِ خطَر السّحَرة على المسلِمين جاء حُكمُهم بقَطعِ أعناقِهم لتسلَمَ المجتمعاتُ من شرورِهم، كتب عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه إلى عمّاله أن اقتُلوا كلَّ ساحِر وساحرة [7]. وجزَاؤه في الآخِرة دخولُ النّار، قال عز وجل: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102].
ومَع ضرَرِ السّاحر المتحقِّق على المجتمع والدّين ترَى نفوسًا تفسِد دينَها بإتيانِ السّاحر مرّةً بعد أخرى.
أيّها المسلمون، مَن طرَقَ بابَ ساحرٍ ليعمَل له سِحرًا فقد باعَ دينَه بدنياه، واستعَاض عن نورِ الإيمان بظلامِ القَلب، وإنَّ الراضِيَ بالفعلِ المستحبّ له كالفاعِل له، جاءَ في نواقضِ الإسلام العشَرة: "فمن فعله ـ أي: السحر ـ أو رضِيَ به فقد كفَر، قال سبحانه: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102]".
الذّاهِب للسّحَرةِ أغضَب الخالقَ، وظَلَم المخلوق، وبلَغ من الحسَد غايتَه بعمَل السِّحر لغيرِه إزالةً لنِعمةٍ تفضَّل الله بها علَى غيرِه، ووَبالُ من سعَى لسحرِ غيرِه مَردود عليه، قال جلّ وعلا: وَلاَ يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]. قال ابنُ كثير رحمه الله: "أي: وما يعودُ وبالُ ذلك إلاّ عَليهم أنفسِهم دونَ غيرهم، قال محمّد بن كعب القرظيّ: ثلاثٌ من فعَلهنّ لم ينجُ حتى تنزلَ به: مَنْ مكَر أو بغَى أو نكَث، وتصديقُها في كتاب الله عز وجلّ" [8].
فلا تكن ـ يا طالب السِّحر ـ منَ الهاوين مع السَّحَرة بالخروجِ من دينِك، وتذكَّر أنَّ الدّنيَا قصيرة، وأنّك تُوسَّد في قبرٍ مظلِم، فأعلِن توبتَك، واغسِل حسَدَ قلبِك بالإحسان إلى غيرِك عِوَضًا عَن سِحرِهم، واحلُل عُقَدَ مَنْ سحَرتَ قبل أن تدورَ عليك الدوائر من الربِّ العظيم.
أيّها المسلمون، المسحورُ مظلومٌ، وقد يُعوِّضه الله عن النّعمة التي حُسِد علَيها بنعمةٍ أعظَمَ منها، والله يبتلِي من يحبّ مِن عباده رفعةً له وتكفيرًا لسيّئاته، قال النبيّ : ((من يُردِ الله به خيرًا يصِب منه)) رواه البخاريّ [9].
فلا تحزَن ـ أيّها المسحور ـ على ما أصابك، فالله يبتلي عبدَه المؤمِن ليقرّبَه إليه، ولا تسخَط بسبَب ما حلَّ بك، ولا تجزَع مما كتَبَه الله عليك، فقد يَكون ذلك سببَ سعادَتك، قال سبحانه: وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ [البقرة:216].
ودَعوة المظلوم مستجابَة، قال المصطفى : ((ثلاثُ دعواتٍ مستجابات لا شكَّ فيهنّ: دعوة المظلوم، ودَعوة المسافِر، ودعوةُ الوالِدِ على ولده)) رواه الترمذي [10]. وإذا صَبرتَ واتَّقيتَ الله كانت لك العاقبةُ، قال عز وجلّ: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
وأكثِر من دعوة ذي النون: "لا إله إلا الله أنت، سبحانَك إني كنت من الظالمين"، يقول النبيُّ : ((لم يَدعُ بها مسلِم قطّ إلاّ استجابَ له)) رواه الترمذيّ [11] ، قال ابن القيّم: "وقد جُرِّب أنّ مَن قالها سَبعَ مراتٍ كشَف الله ضرَّه" [12].
واجعَل "إنّا لله وإنّا إليه راجعون، اللّهمّ أجُرني في مصيبَتي، وأخلِف لي خيرًا منها" معطَّرًا بها لسانُك، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن قالها آجرَه الله في مصيبَتِه، وأخلَف له خيرًا منها)) رواه أبو داود [13].
ولازِم الاستغفارَ تفرَج عنك الهمومُ ويُزاح ما ألمَّ بك مِن الكروب، وإنّك أن تقدمَ ـ أيّها المسحور ـ على ربّك وأنت مظلوم خيرٌ من أن تأتيَ إليه وأنت ظالم، فالجَأ إلى الله، وأكثر منَ الاستغفار والدعاءِ، ففرَجُ الله قريب، وإيّاك واليَأسَ مِن رَوح الله.
ومَن أسرفَ على نفسِه بارتيادِ الكَهَنة وسوَّلَت له نفسُه الإضرارَ بالآخرِين فليقلِع عمّا يفسِد دينَه، وليُقبِل على الله بتوبةٍ نصوحةٍ من الجُرم العَظيم، وليسلُك سبيلَ التائِبين، وليحذَر طريقَ المفسِدين منَ السّحرَة والمشعوِذين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69].
بَارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيهِ مِن الآيات والذّكر الحكيم، أقول ما تَسمعون، وأستغفِر الله لي ولَكم ولجميعِ المسلمين مِن كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الوصايا، باب: قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا (2767)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (89).
[2] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2516) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (1/293)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وهو في صحيح سنن الترمذي (2043).
[3] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3210، 3288)، صحيح مسلم: كتاب السلام (2228) عن عائشة رضي الله عنها نحوه. وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] سنن النسائي كتاب: تحريم الدم، باب: الحكم في السحرة (4079)، وكذا الطبراني في الأوسط (2/128-1469) كلاهما من طريق أبي داود الطيالسي عن عباد بن مسيرة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، والحسن لم يسمع من أبي هريرة. انظر: العلل لأحمد (1/144)، والمراسيل لابن أبي حاتم (1/35)، وجامع التحصيل (1/115). وضعفه المنذري في الترغيب (3/51)، والألباني في غاية المرام (288).
[5] مسند أحمد (4/156) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وصححه الحاكم (4/219)، وقال المنذري في الترغيب (4/203) والهيثمي في المجمع (5/103): "رواة أحمد ثقات"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (492).
[6] مسند أحمد (9290، 9536)، وأخرجه أيضا أبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (639)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "ضعف محمد ـ يعني البخاري ـ هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيف البغوي وابن سيد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك. وله شاهد من حديث جابر رضي الله عنه، أخرجه البزار (6045 ـ كشف الأستار ـ)، وجوده المنذري في الترغيب (3/ 619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/ 117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285).
[7] أخرجه أحمد (1/191)، وأبو داود في الخراج (3043)، والبيهقي (8/136)، وصححه ابن الجارود (1105)، وأصل الحديث في البخاري في أول كتاب الجزية (3156، 3157) وليس فيه الأمر بقتل السحرة، وصححه الألباني بكامله في صحيح سنن أبي داود (2624).
[8] تفسير القرآن العظيم (3/563).
[9] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5645) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: ما ذكر في دعوة المسافر (3448) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (2/258، 348، 478، 517، 523)، وأبو داود في الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب (1536)، وابن ماجه في الدعاء، باب: دعوة الوالد (3862)، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (2699)، والقرطبي في تفسيره (13/223)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3115).
[11] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3505) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (3/65-66) (1462)، وصححه الحاكم (1/505)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب (1644).
[12] الفوائد (ص201).
[13] أخرجه مسلم في الجنائز (918) عن أم سلمة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ محمّدًا عبده ورسولُه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحَابه، وسلَّم تسليمًا مَزيدًا.
أيّها المسلمون، مَن كان قَريبًا من اللهِ ابتعَدت عنه الآفاتُ والشّرور، والإكثارُ من ذِكرِ الله مِن أسبابِ مَنع وقوعِ السِّحر، والمحافظةُ على صَلاةِ الفجر جماعةً حِصنٌ مِن الشّرور، وَسورَةُ البقرة سورَةٌ مباركَة، قال عليه الصلاة والسلام: ((اقرَؤوا سورةَ البقَرة، فإنَّ أخذَها برَكة، وتركها حَسرة، ولا تستطيعها البَطَلة)) يعني السحرَة. رواه مسلم [1].
وقِراءةُ المعوِّذَتين في أوَّل النهار وآخرِه تدفَع السّحرَ، قال عليه الصلاة والسلام لعُقبةَ بن عامِر رضي الله عنه: ((تعوَّذ بهما، فما تعَوَّذ متعوِّذٌ بمثلِهما)) رواه أبو داود [2]. قالَ ابن القيّم: "حاجَةُ العبدِ إلى الاستِعاذةِ بهاتَين السّورَتين أعظمُ من حاجَتِه إلى النفَسِ والطعامِ والشّراب واللّباس" [3].
ومَن قرأ الآيتين من آخر سورةِ البقرة في ليلةٍ كفَتاه من الشّرور، وأَكلُ سبعِ تمرَات من تمرِ العجوَة تمنَع السّحر، قال المصطفى : ((من تصبَّح بسبعِ تمراتٍ عجوة لم يَضرَّه ذلك اليوم سمٌّ ولا سِحر)) متفق عليه [4].
واحذَروا المعَاصيَ وأنواعَ المعازِف، فإنها مِن أعظمِ ما يجلب الشياطينَ إلى البُيوت، وإذا خَلا جوفُ العبد من ذِكرِ الله أو قلّت عِبادتُه لمولاه تسلَّطَت عليه الشيَاطينُ وسهُل وُصول الضرَرِ إليه، فأكثِروا من قِراءةِ القرآن، واشغَلوا أوقاتَكم بذكرِ الله وعبادتِه، فالقرآن شفاءٌ من الأدواء، وذكرُ الله يحْرسُ العبدَ مما يؤذيه ويشرَح الصدرَ ويُطَمئِن القلب، أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ [الرعد:28].
ثمّ اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكَم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمّد، وارض اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة القرآن وسورة البقرة (804) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
[2] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1463) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الحميدي (851)، وابن أبي شيبة (6/78)، والدارمي في فضائل القرآن (3440)، والنسائي في الاستعاذة (5438)، والطبراني في الكبير (17/345)، والبيهقي في الشعب (2564)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1299).
[3] بدائع الفوائد (2/426).
[4] صحيح البخاري: كتاب الطب (5768، 5769، 5779)،صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2047) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(1/4029)
الحكم والتحاكم إلى شرع الله
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, نواقض الإسلام
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
20/3/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب نزول قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ. 2- التحاكم إلى شرع الله من مقتضيات الإيمان. 3- موقف المنافقين قديمًا وحديثًا من تحكيم الشريعة. 4- حال الجماعات الإسلامية اليوم. 5- التحذير من النقد الهدّام. 6- دعوة لتوحيد جهود الإسلاميين. 7- حكم الزواج العرفي وبيان أخطاره. 8- اعتداء يهودي جديد على الأوقاف الإسلامية في القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله في محكم كتابه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا [النساء:60، 61].
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان من سورة النساء، وسبب نزولهما كما ورد في كتب التفسير والسيرة النبوية بأن أحد المنافقين في المدينة المنورة قد وقع في مشكلة، ورفض هذا المنافق الاحتكام إلى رسول الله محمد ، وفضّل أن يحتكم إلى كاهن من قبيلة جُهَينة.
وتشير هاتان الآيتان الكريمتان إلى أن من مقتضيات الإيمان الاحتكام إلى الإسلام في جميع المسائل التي تواجه المسلم في حياته العملية واليومية، ولا يجوز شرعًا الاحتكام إلى الطاغوت والشيطان، كما لا يجوز شرعًا الاحتكام إلى القوانين الوضعية والعادات الجاهلية. ومعنى هذا أن الاحتكام إلى غير الإسلام ينفي عن المسلم صفة الإيمان إذا كان معتقدًا أن القوانين الوضعية والعادات الجاهلية أولى وأفضل من الأحكام الإسلامية. وهذا ما نشاهده في أيامنا هذه، حيث إن الزوجة إذا توفّي زوجها لا ترضى بحكم الشريعة الذي يعطيها ثُمُن تَرِكة زوجها إن كان لديه أولاد، ويعطيها ربع التركة إن لم يكن لها أولاد، وإنما تلجأ إلى المحاكم الإسرائيلية التي تعطيها نصف تركة زوجها، ضاربة بعرض الحائط التقسيم الشرعي الإلهي للتركة، لاحقة وراء متاع الدنيا الفانية.
أيها المسلمون، إن هاتين الآيتين الكريمتين تكشفان نفسية المنافقين الذين يزعمون بأنهم يؤمنون بالله ورسوله، وفي الوقت نفسه يصدّون عن الاحتكام إلى الإسلام، أي: إنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والإلحاد ويطالبون بتعطيل الأحكام الشرعية القطعية والعياذ بالله.
وهذا الصنف من الناس موجودون في المجتمعات الإسلامية في هذه الأيام على مستوى الحكام والمسؤولين، وعلى مستوى الجماعات والأحزاب. إنهم يزعمون بأنهم مسلمون، وفي الوقت نفسه يحتكمون إلى القوانين الوضعية وإلى النظام الرأسمالي، ويسيرون حسب أهوائهم وشهواتهم وانحرافاتهم الجنسية والفكرية، ويجعلون القرآن الكريم والسنة النبوية وراءهم ظِهْرِيًّا، والله سبحانه وتعالى يقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أيها المسلمون، علينا أن نحذر من هؤلاء المستهترين بالإسلام، ويصفون أنفسهم بأنهم مثقفون وأنهم متقدّمون، وهم في حقيقتهم منحرفون في عقيدتهم وأفكارهم وسلوكهم، وأنهم يعارضون أن يكون القرآن الكريم دستورًا لهم، ويطلقون على ديننا الإسلامي العظيم بأنه رَجْعِي وأنه غير صالح لهذه الأيام. وإن هؤلاء المنحرفين لا يتجرّؤون أن يتعرضوا لأي دين آخر، وإنما همّهم أن يوجّهوا الافتراءات والشبهات الباطلة ضد الإسلام فحسب، مع أنهم من جلدتنا، ويتكلمون بلساننا، كما خبّرنا بذلك رسولنا الأكرم محمد. إنهم يتجرؤون على هذا الدين العظيم في غياب دولة الإسلام وسلطانه، وبسبب الخلافات والمشاحنات بين الحركات والجماعات والأحزاب الإسلامية، حيث لم تشكّل هذه الجماعات والحركات قوة مؤثّرة نتيجة تبعثر جهودها وانشغالها ببعضها البعض.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنه لمن أوجب الواجبات على الحركات والجماعات والأحزاب والمؤسسات الإسلامية أن توحّد جهودها لتتصدّى للأفكار الدخيلة الهدّامة، ولكن ما الذي نلاحظه على الساحة الإسلامية في هذه الأيام في فلسطين وفي سائر الأقطار العربية والإسلامية؟ إننا نلاحظ جهودًا مُبدّدة ومبعثرة هنا وهناك غير مبرمجة ولا منسّقة، مما يؤدّي إلى ضعف في تأثير الفكر الإسلامي في المجتمع. وإن كل حركة توهم نفسها بأنها هي المنصورة وأنها وحدها الحق وأن غيرها خلاف ذلك بالإضافة إلى كيل التهم جزافًا بين دعاة الإسلام والتشكيك فيما بينهم وإلى إثارة قضايا فرعية جزئية ينبغي التجاوز عنها.
اسمعوا ـ أيها المسلمون ـ قول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا موسى وهارون عليهما السلام في سورة طه: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:43، 44]. فالقول الليّن مع فرعون، كيف القول مع المسلمين؟! ويقول تعالى في سورة سبأ: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ:24]. إنه لأدب الخطاب في النقاش وعدم الادّعاء والتعصّب والانفعال.
أيها المسلمون، يتوهّم البعض أنه إذا طَعَن في حزب آخر أو حركة أخرى بأنه يحقق إنجازًا إيجابيًّا إلى الأمام، وفي الحقيقة إنه يرجع القَهْقَرَى من حيث يدري أو لا يدري هذا المسكين؛ لأن إضعاف أي مسلم هو إضعاف لنفسه؛ لأن المسلم أخو المسلم، ولأن المسلم مرآة أخيه المسلم، فيقول رسولنا الأكرم محمد : ((ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ، ويقول في حديث آخر: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)).
في حين نشاهد الحركات والأحزاب الوطنية والقومية والعلمانية واليسارية تنسّق فيما بينها، وتحقق إنجازات على أرض الواقع، وتأخذ الوضع القيادي لها.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ديننا الإسلامي العظيم يمتاز بأنه دين شامل ولجميع مناحي الحياة، ويتعذّر على أي حركة أو حزب أو جماعة أو مؤسسة أن تحيط بهذا الدين كله من جميع جوانبه وأطرافه، وهذا أمر متوقّع وليس غريبًا ولا شاذًّا، لذا نقول وبالله التوفيق: إن الأصوات الحريصة على الإسلام قد أخذت ترتفع رويدًا رويدًا في هذه الأيام، تطالب بعمل إسلامي موحّد، وأن كل حركة تكمل الأخرى، وعلى قادة هذه الحركات والأحزاب أن يتفهّموا هذه الحقيقة، وسبق لي أن ناديت بهذا الاقتراح قبل سنتين من على منبر المسجد الأقصى المبارك وقلت: لا يجوز لقادة ورؤساء الحركات والجماعات والأحزاب أن يضعوا أنفسهم في أبراج عاجِيّة. وإن الحقيقة تقول: إن كل حركة منفردة لا تستطيع أن تؤثر وأن تغير في المجتمع، ولا تستطيع أن تقف منفردة أمام التحديات الكبيرة التي تخطط لها الدول الكبرى الصليبية. فإذا لم يحصل التعاون الحقيقي الصادق فإن جهود الدعاة تبقى ضعيفة وغير مؤثرة في المجتمع.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نحن أمام تحديات كثيرة وكبيرة، وهي في حقيقتها أكبر من حجمنا وطاقاتنا ما دمنا في هذا الوضع الممزّق، وكما يقول المثل السائر: "كلٌّ يُغَنّي على ليلاه". ولن نستطيع الوقوف أمام الأفكار الدخيلة إلا بوحدة دعاة الإسلام على اختلاف اجتهاداتهم، وهذا لا يضير، فلا مجال للمكابرة، ولا مجال للغرور، ولا مجال للتعنّت والتشنّج. فهناك أمور كثيرة فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، ليتمكن المسلمون جميعًا من استئناف حياة إسلامية رائدة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إنه من واجبنا أن ندعو للوحدة والتضامن والتنسيق والتفاهم في المواقف، ونحن مع كل من يقول: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، هذا ما أمرنا به ربّ العزّة، وأمرنا به أيضًا ـ دعاةَ الإسلام ـ رسولنا محمد.
جاء في الحديث القدسي الشريف عن أم المؤمنين زينب رضي الله عنها من حديث مطوّل قالت بأن النبي دخل عليها وهو يقول: ((ويل للعرب من شر قد اقترب)) ، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخَبَث)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، أيها المرابطون في أرض الإسراء والمعراج، أتناول في هذا الموضوع أمرين يهمان المسلمين في فلسطين وفي خارج فلسطين وهما:
أولاً: الزواج العُرْفِي وما يعرف أيضًا بالزواج المدني، وهو الزواج الذي لا تكتمل فيه أركان عقد الزواج، ويفتقر إلى موافقة ولي أمر الفتاة، لأي موافقة، أبيها أو أخيها حالة وفاة أبيها. والمعلوم بداهة أن موافقة ولي أمر الفتاة ركن من أركان عقد الزواج، وإن فقدان هذا الركن يجعل النكاح باطلاً، وهذا رأي جمهور الفقهاء، وبهذا نفتي لقول رسولنا الأكرم : ((أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل)).
أيها المسلمون، لقد أُشِيع مؤخّرًا عن وقوع حالات من الزواج العُرْفِي في بلادنا. والحقيقة أن هذه الحالات كانت نادرة جدًّا، إلا أن الإشاعات حينما تنتشر تكبر وتكبر ويُبالَغ فيها، فكونوا حذرين من الإشاعات، وينبغي توخّي الحيطة والحذر حين نشر المعلومات.
في الوقت نفسه نقول لأصحاب المكاتب من المحامين وغيرهم ممن يجرون مثل هذه العقود الباطلة، نقول لهم أن يتقوا الله في أعراض المسلمين، ونحذّرهم من عواقب تصرّفاتهم غير الشرعية. ونقول لبناتنا: إن الطرف الخاسر من هذه العقود الباطلة هي البنت، فلتحذر من رفقاء السوء، لتحذر من التلاعب بالعواطف والمشاعر الجنسية، فالزواج رباط ديني، والمرأة عِرْض يجب أن يُصان.
أيها المسلمون، أما توثيق عقد الزواج في المحاكم الشرعية فنقول: إن الأصل في التوثيق من الناحية الشرعية هو أنه مستحب، ولكن يحقّ لولي الأمر شرعًا أن يُلزِم المواطنين بالأمور المستحبّة أو بالأمور المباحة من باب السياسة الشرعية، وذلك صيانة لحقوق الأسرة بعامة وحقوق الزوجة والأولاد بخاصة؛ خوفًا من ضياع هذه الحقوق، علمًا أن أي شخص لا يستطيع أن يتصرف في حياته اليومية إلا من خلال الأوراق وشهادات الميلاد.
أيها المسلمون، أما الأمر الآخر هو المسجد الأقصى المبارك والمنطقة المحيطة به: لقد أقدمت سلطات الاحتلال الإسرائيلية المحتلّة على إقامة جسر في منطقة حي المغاربة، والمعلوم بداهة أن حي المغاربة هو وقف إسلامي، كما أن حائط البراق هو وقف إسلامي، وإن إقامة هذا الجسر هو اعتداء على الوقف الإسلامي، وهو يغيّر المعالم الأثرية الإسلامية. وإننا نسجّل رفضنا لهذه التصرفات التجاوزية العدوانية، ونعلن بأن الاعتداء على حقوق الآخرين أو على الأوقاف الإسلامية لا يكسب المعتدي حقًّا مهما طال الزمان، وإن سياسة فرض الأمر الواقع هي سياسة مرفوضة جملة وتفصيلاً، ولا نقرّ ولا نعترف بها.
أيها المسلمون، إن إقامة هذا الجسر اعتداء أيضًا على المسجد الأقصى المبارك؛ لأن هذا الجسر يصل إلى إحدى بوابات الأقصى الخارجية وهي بوابة المغاربة. وبهذه المناسبة نحيّي إخوتنا المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس وقفتهم الإيمانية في حمايتهم للمسجد الأقصى المبارك، ونخص بالذكر إخوتنا في مناطق عام 48، لقد حزتم على إعجاب وتقدير واحترام واعتزاز وثقة العالم بأسره لهذه الوقفة الإيمانية، وإنكم بحق أهلٌ للمرابطة في أرض الإسراء والمعراج، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
نذكّركم ـ أيها المصلون ـ بالموعد الجديد الذي أعلنه اليهود المتطرفون وذلك يوم الاثنين في 9/5/2005م، ونحن على ثقة تامة بأن أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس على العهد ماضون، وبدينهم متمسّكون، وللأقصى محافظون بعون الله ورعايته.
(1/4030)
العزة
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, القتال والجهاد
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/8/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصادر العِزّة. 2- شخصية المسلم الحقيقية. 3- الحرب ضد الشخصية الإسلامية. 4- أثر الشعور بالعِزّة الإسلامية. 5- مفاهيم مغلوطة للعِزّة. 6- قصة ماشطة بنت فرعون. 7- قصة مقتل خبيب بن عدي. 8- ربعي بن عامر والعِزّة. 9- عِزّ الطاعة وذل المعصية 10- العزة الجوفاء. 11- العزة وأطفال الحجارة في فلسطين. 12- من أول من يجب عليه أن يتحلى بالعزّة؟ 13- مقومات العزة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وقال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10]، وقال سبحانه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
هذه النصوص القرآنية الكريمة تحمل توجيهًا للناس جميعًا أن يطلبوا العزة من الله سبحانه، فمن آمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبينًا ورسولاً اعتز بعقيدته، وسما بشخصيته، وأعلن ولاءه لدينه، وتميز في سمته ولباسه، عزة العلم والإيمان، وليست عزة الإثم والعدوان.
إن الشخصية الإسلامية هي الشخصية الإنسانية الوحيدة التي توسم بأنها سوية، سوية في صفاتها، سوية في خصائصها، سوية في آمالها، سوية في طبائعها، سوية في مقاييسها وموازينها. إن شخصية المسلم هي الشخصية السوية التي لم تمسخ فطرتها، ولم تشوه جبلتها. إن الشخصية الإسلامية الحقيقية هي الشخصية التي تسعى في هذا الكون لتكوّن الإنسان الذي أراده خالق الكون ومبدع الحياة وفاطر الإنسان، وجميع الشخصيات الأخرى في هذا العالم غير شخصية المسلم هي شخصيات منكسة القلب مشوشة الفكر، لا تعرف طريقها، ولا تهتدي سبيلها.
لقد تعرضت شخصية المسلم عبر القرون إلى حملات آثمة غادرة استهدفت إزالتها وتدميرها، كما استهدفت تشويهها ومسخها، وقاد هذه الحملة أعداء الإسلام بما ألقوه من شبهات، وبما جاؤوا به من فلسفات وثقافات، لعلمهم أن المسلم لو تزعزعت شخصيته واهتزت لا يمكن أن يكون هو المسلم الحق الذي يريده الله. فهناك حربٌ قوية جدًا لإضعاف شخصية المسلم من عدد من الجهات، سخرت إذاعاتها وصحفها وبرامجها، وإليه وجهت الكتاب وأصحاب الفكر والقلم، وأنفقت في سبيل ذلك أموالاً طائلة، تكفي لإثراء الفقراء وإزالة أسباب التعاسة عن كثير من البشر ومحاربة الجهل والمرض، لكن الإنسان يحرص على بث فكره وحمل الناس عليه ودعوتهم إليه، حرصًا يصغر أمامه أحيانًا بذل نفسه فضلاً عن ماله، وصدق الله العظيم حيث يقول: كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108]، ولكن ومع كل هذه المحاولات وكل هذه التخطيطات ستبقى شخصية المسلم هي الشخصية الفذة في هذا الكون، مهما بذلوا من أسباب، ومهما أَتَوا بوسائل، يريدون ليطفئوا بها نور الله، فالله متم نوره ولو كره الكافرون.
إن المسلم عزيز، ويجب عليه أن يعتز بإسلامه، وأن يشعر بهذه العزة وهذه الرفعة في قلبه، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8]. مجرد أنك مسلم هذه وحدها كافية لتكسبك العزة، فلا اعتزاز بجنس، ولا اعتزاز بلون، ولا اعتزاز بنسب، ولا اعتزاز بلغة، فهي كلها عزة جوفاء، تقوم على شفا جرف هار، تقوم على تصورات خاطئة وقيم زائلة.
إن اعتزاز المسلم بدينه الذي يحمله بين جنبيه يدعوه إلى إعلان هذا الدين على الملأ، يدعوه أن لا يسر إسلامه، ولا يسر صلاته، ولا يسر عبادته، بل يعلن ذلك على الملأ وعلى الناس، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33]. إن مجرد كون المسلم مسلمًا فإن إسلامه يكسبه هذه العزة، روى الحاكم وغيره بسند صحيح أن حكيم بن حزام ذهب إلى السوق يومًا، فوجد فيها حلة تباع، وكانت حلة نفيسة جميلة، فقال: حلة من هذه؟ قالوا: هذه حلة ذي يزن ملك اليمن، فاشتراها حكيم بخمسين دينارًا، ثم ذهب وأهداها للنبي ، فلبسها رسول الله وصعد بها المنبر، فما رُئيت حلة أجمل منها وهي على رسول الله ، فنزل عليه الصلاة والسلام وألبسها لحبه وابن حبه أسامة بن زيد ؛ وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان عازفًا عن الدنيا، فلبسها أسامة ، وكان آنذاك فتى صغيرًا، وكان دميم الخِلقة، وكان أبوه مولى، فلبسها ونزل بها السوق، فرآه حكيم بن حزام ـ ولم يكن قد أسلم بعد ـ فقال له: حلة من هذه؟ فقال: حلة ذي يزن ملك اليمن، فقال له حكيم: أوَتلبس أنت حلة ملك اليمن؟! قال: نعم، أنا خير من ذي يزن، وأمي خير من أمه، وأبي خير من أبيه.
انظروا إلى هذه العزة وكيف كان يشعر بها ذلك الفتى المسلم، كان يشعر بأنه أفضل من ذي يزن ملك اليمن، لماذا؟ لأنه مسلم وذاك كان كافرًا، فأصغر رجل من المسلمين هو أفضل من ملوك ورؤساء الدول الكافرة كلها، لا لشيء سوى أن هذا مسلم وذاك كافر. إن مجرد كون الرجل مسلمًا دون النظر إلى ما يملك أو إلى ما عنده أو إلى نسبه أو إلى أي دولة ينتمي، كونه مسلمًا فقط لا يعدله شيء، فهو عزيز عند الله عز وجل.
لماذا نريد من كل مسلم أن يشعر بهذه العزة؟ لأنه لو تملّك قلبه هذا الشعور فهذه العزة كافية لأن تجعله داعية للعالمين، يدعوهم إلى الهدى والرشاد، وهو موقن من جودة بضاعته التي يدعو إليها، ومن صلاحيتها لانتشال الناس وانتشال الملل الكافرة من الأوحال التي تلطِخ نفوسهم وتلطِخ قلوبهم ومجتمعاتهم. إن هذه العزة تجعله قائدًا لركب الإنسانية وإمامًا يُهتدى به ويُقتدى به. إن هذه العزة تجعله في مرتبة متقدمة يحمل الراية وينير الدرب للسائرين، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. هذه العزة تجعله لا يخجل من انتمائه لأمة الإسلام، ولا يخجل من عقيدته وشريعته، ولا يخجل من أن يتحدث بلغته لغة القرآن، ولا يخجل من لباسه الشرعي، ولا يخجل من منظره الإسلامي الذي يخالف به الكفر وأهله. هذه العزة ضرورية ومطلوبة للمسلم السائر على درب الاستقامة والدعوة إلى الله، وبدونها لا يستطيع أن يقدم منهجه ودينه للعالمين، وسيبقى منزويًا معزولاً عن الحياة، يخشى أن تسلط عليه الأضواء.
إن العزة والاعتزاز بالحق لا يعني الكبرياء والتعالي على الناس، فهذا شيء وذاك شيء آخر. بعض الناس قد يفهم أن العزة هي أن تنظر للآخرين بعين الاحتقار والازدراء، وأن العزة تستلزم البعد عن الناس وعدم مخالطتهم؛ لأنه يرى نفسه أرفع وأفضل منهم، وهذا خطأ، بل إن المسلم يخالط الناس ويُعاشرهم وإن كان فيهم أخطاء وتقصير، ويبقى هو عزيزًا، ولا يستلزم من ذلك أن يتنازل عن شيء من دينه وعقيدته، فالعزة شيء، والتعالي والتكبر على الناس شيء آخر، فالأول مطلوب، والثاني مرض وإثم ولا يجوز. فمن العزة أن يكون المسلم مع أخيه رحيمًا متواضعًا، لا يفخر عليه ولا يبغي، لكنه مع عدو الدين عزيز قوي، قال الله تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [محمد:29].
إن المسلم إذا اعتز بدينه وشعر بهذه العزة وشعر بهذه القوة ـ والله ـ لو تمكن منه أعداء الإسلام كلهم فلن يستطيعوا أن يحصلوا منه على شيء؛ لأن هذه العزة موجودة في قلبه، ومهما فُعل به فالوصول إلى قلبه أمر مستحيل، وإن تمكنوا من جسده، ولو قطعوه إربًا إربًا، أما دينه وعقيدته وعزته فهي في قلبه، لا يخاف أحدًا إلا الله عز وجل.
والأمثلة والأحداث في ذلك كثيرة، فهذه ماشطةُ بنتِ فرعون، كانت ابنة فرعون الصغيرة لها ماشطة، أي: امرأة متولية أمر تمشيط شعرها، وكانت هذه الماشطة مؤمنة، ففي ذات يوم وهي تمشط بنت فرعون سقط المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت البنت الصغيرة: بسم أبي؛ لأنها كانت تعتقد أن أباها هو الرب وهو الله؛ لأن فرعون قد رسخ هذه العقيدة عندها كما نشرها بين قومه، مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وكان يدّعي الألوهية، فقالت الماشطة: لا، بل الله هو ربي وربك ورب أبيك، فقالت الصغيرة: إذًا أخبر أبي بذلك، قالت: أخبريه، فأخبرت البنت أباها، فطلبها فرعون فسألها، قالت: نعم ربي وربك الله، فجاء بها فرعون على ملأ من الناس هي وأبناؤها الصغار، وقد أوقدت النار على قدر كبير، فأمسك بولدها الأول وأخذه من فوق كتفها وألقاه في القدر، فانمحى كالحبة، وسرعان ما تقطع وتمزق وذاب جسده، ثم أخذ بالثاني وهو يجر ويسحب ثوب أمه، وفعل به كالأول، فقالت له الماشطة: لي عندك طلب، قال: وما طلبك؟ قالت: أن تجمع عظامي وعظام أولادي في قبر واحد. الله أكبر، أي قوة في إيمان هذه المرأة؟! امرأة ضعيفة لكن باعتزازها بدينها وبقوة إيمانها وعزتها تتحدى أكبر طاغية في زمانه، ولم يستطع فرعون بكل ما أوتي من قوة أن يصل إلى قلب هذه المرأة، وإن تمكن من جسدها وأحرقها. وهكذا الإيمان يفعل في النفوس، وهكذا عزة المسلم بدينه وعقيدته، تجعله يقف في وجه قوى الأرض كلها، تجعله يتحدى كل أعداء الله؛ لأنه يعلم أنهم لن يصلوا إليه إلا بأمر الله عز وجل، فما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.
وقصة خبيب بن عدي مشهورة، حين أمسك به المشركون من قريش، ثم جاؤوا به ليصلبوه ويقتلوه على جذع نخلة في مكة، التفت إلى الذين حوله من الكفار، وكان أعزل وحيدًا مكبلاً بالقيود. هل ضعف وهو في تلك الحالة وكان يعلم أنه سيقتل ويصلب بعد قليل؟ لا، ما ضعف أبدًا. إن عزته بدينه جعلته يقف ذلك الموقف البطولي في التاريخ. التفت إليهم واستأذن في صلاة ركعتين، فأُذن له، فقام وصلى تلك الركعتين، ثم قام من صلاته ونظر إليهم وقال:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وكلهم مبدي العداوة جاهرٌ عليّ لأنِّي فِي وصالٍ بمضبع
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل مُمنع
وكانت قريش قد جمعت له النساء والأطفال؛ ليتفرجوا عليه وهو يقتل.
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع
إلَى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فيا رب صبرنِي على ما يراد بِي فقد بضعوا لحمي وقد يئس مطمعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد هَملت عيناي من غيْر مجزع
يقول أنه قد بكى وقد ذرفت عيناه لكنه من غير خوف من الموت.
وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد هملت عيناي من غير مجزع
وما بِي حذار الموت إنِّي لميت ولكن حذار جسم نار ملفع
ولست أبالي حين أقتَل مسلمًا على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك فِي ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
ولست بِمبدٍ للعدو تَخشّعًا ولا جزعًا إنِّي إلى الله مرجعي
هكذا تكون عزة المؤمن، وهكذا يفعل الإيمان إذا وقر في القلب. والأمثلة والمواقف في تاريخنا الإسلامي لا عد لها ولا حصر.
وهذا ربعي بن عامر ضرب مثالاً عجيبًا في العزة في معركة القادسية، عندما طلب رستم من سعد بن أبي وقاص أن يبعث إليه رسولاً يتفاوض معه قبل أن يبدأ القتال، فأرسل إليه المغيرة بن شعبة، فكان مما قاله لرستم: إنا ليس طلبنا الدنيا وإنما همنا وطلبنا الآخرة، ثم بعث إليه سعد رسولاً آخر، وهو ربعي بن عامر، فدخل عليه وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة والحرير، وأظهروا اليواقيت واللآلئ الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، فقالوا له: ضع سلاحك، فقال: إني لم آتكم وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلاّ رجعت، فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق تلك النمارق فخرقها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ قال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسَلَنَا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدًا حتى نفضي إلى موعود الله، قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي. هذا الصحابي الجليل عاش العزة في أسمى معانيها، ربّى الإيمان عزته فغدت الدنيا حقيرة ومباهجها صغيرة والكبراء صغارًا لا يزنون مثقال ذرة.
من أين تُستمد العزة؟ مصادر العزة في ديننا عديدة:
منها الصلاة، نعم تُستمد العزة من الصلاة، وتبدأ بكلمات المؤذن وهو يردد على الملأ: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر من كل كبير، وأكبر من كل عظيم، وأكبر من كل قوي، وأكبر من كل غني، فهو وحده الكبير المتعال. فيا من تطلب العزة من غني، فالله أكبر من الغني، ويا من تطلب العزة من عظيم، فالله أكبر منه مهما عظم. في كل أركان الصلاة شرع الله أن نردد حال الانتقال من ركن إلى ركن قولنا: الله أكبر، فإذا ركعت تقول: سبحان ربي العظيم، فلا عظيم إلا الله، وإذا سجدت تقول: سبحان ربي الأعلى، فلا أعلى على الخلق إلا الله، وهذا يورث كمال العزة والكرامة التي يعرف الإنسان بها قدره، وأن العظمة لله وحده، وأنه لا استعلاء لأحد من البشر، كل هذا لكي يوقن المسلم يقينًا لا يهتز ولا يزول أن كل متكبر بعد الله فهو صغير، وأن كل متعاظم بعد الله فهو حقير، فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْي فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى? وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ [فصلت:15، 16].
وتستمد العزة أيضًا من التربية الإسلامية وترسيخ العقيدة؛ هذه العقيدة التي أقنعت العربي المسلم الذي كان يرقع ثوبه ويخصف نعله ويتبلّغ بالتمرات الجافة أنه بالإسلام سيد الأرض ومن عليها، دون استكبار على الحق وتعالٍ وطغيان بالظلم وذل للشهوة.
من أهم مصادر العزة طاعة الله عز وجل، قال الله تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، قال ابن كثير رحمه الله: "من كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة وله العزة جميعًا". قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى? كُلّ شَيء قَدِيرٌ [آل عمران:26]، فأنت المعطي، وأنت المانع، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، وبهذا نعلم أن العز الحقيقي إنما يكون بالقيام بطاعته سبحانه واتباع رسله، والذل الحقيقي إنما يكون بعدم القيام بطاعته، وإن وُجد مع أهل المعاصي عزٌ ظاهر وانتفاش دنيا، فإن ذلك محشوٌّ بالذل والهوان، قد يشعر به صاحبه، وقد تغلب عليه السكرة فلا يشعر، كما قال الحسن البصري رحمه الله في أهل المعاصي: "إنهم وإن طقطقت بهم البراذين وهملجت بهم البغال، إن ذل المعصية قد علاهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه"، قال الله تعالى: وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج:18]، فالعاصي له الذل والشقاء في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى? [طه:124]، ومن أطاع الله واجتنب معاصيه أعزه الله، فمع كل طاعة عز وتكريم، ومع كل معصية ذل ومهانة، وقد ربط الله سبحانه العز بالطاعة، فهي طاعة ونور، وربط سبحانه الذل بالمعصية، فهي معصية وذل وظلمة وحجاب بين العاصي وبين الله تعالى.
خرج عمر بن الخطاب إلى الشام ومعه أبو عبيدة، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة له، فنزل وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته فخاض في تلك المخاضة، فقال أبو عبيدة: يا أمير المؤمنين، أنت تفعل هذا؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك، فقال عمر: أَوّهْ، لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة جعلته نكالاً لأمة محمد، إنّا كنّا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله.
فلا بد لنا أن ندرك أن من أسباب قوتنا وعزتنا ونصر الله لنا أن نستقيم على أمره، وأن نعلن الصلح مع الله سبحانه وتعالى، وأن نسير بوصية النبي يوم أوصى فأوجز فقال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم)).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، العزة كلها لله، وليس شيء منها عند أحد سواه، فمن كان يريد العزة فليطلبها من مصدرها الذي ليس لها مصدر غيره؛ لأن الله عز وجل مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعًا.
قد يتعزز الإنسان بقوة البدن فيأتيه المرض فيهده هدًا، وقد يتعزز بالمال فإذا المال غول قاتل، وقد يتعزز بالنسب والحسب فيأتيه الضياع من كل مكان، وقد يتعزز بالعلم فلا يزيده العلم إلا انحرافًا، وقد يتعزز بالمنصب والجاه والقوة والجبروت فتدور عليه الدوائر فيصبح من أذل خلق الله. اعتزاز البشر بأجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأنسابهم وأموالهم عزة جوفاء على شفا جرف هار، تستمد زيفها من تصورات خاطئة وقيم زائلة، أما الاعتزاز بالله فباقٍ دائم لا يحول ولا يزول، ولذلك قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]. هذه العزة هي الحصن القوي والشِبع المعنوي أمام المتعالين بالثروة أو المفاخرين بالنسب أو المكاثرين بالعدد أو المزهوين بالقوة أو غير ذلك من أعراض الدنيا.
إن أخطر ما يصيب الأمة الإسلامية روح الهزيمة النفسية وضعف الهمة الذي يولّد الانحطاط والتقهقر والتخلف. إن الأمة الإسلامية وهي تعيش في أعقاب الزمن هزيمة نفسية بحاجة إلى أن تبث في نفوس أبنائها معاني العزة، تعمقها في شخصياتهم، وتصقل بها فكرهم ورأيهم، وترفع بها ذكرهم، وتدفعهم بها نحو المعالي والسؤدد والشموخ.
يحسّ المؤمن الذي تعلق قلبه بالله أنه عزيز بتلك القوة المستمدة من العبودية الحقة لله، فهو الإله الخالق الرازق الضار النافع المحيي المميت، المالك للأمر كله بلا شريك، ومن ثم لا يخشى الأشياء ولا الأشخاص ولا الأحزاب، يرفض المساومة على الشرف والكرامة؛ لأنه يعلم أن الله هو المدبر الحقيقي لكل ما في الكون، وأن أحدًا في الكون كله لا يملك شيئًا مع الله، فعلام إذًا يذِل لغير الله؟! علام يبذل من كرامته وعزته لبشر مثله عاجز ولو كانت في يده مظاهر القوة؟! علام يبذل من كرامته وعزته لبشر مثله ضعيف وإن كان جبارًا في الأرض؟! هذا الضعيف العاجز محتاج لما عند الله؛ لأن الله هو الحي القيوم، وكل ما عداه صائر إلى زوال.
إن لله سننًا لا تتخلف، تجري على الأفراد كما تجري على الأمم، فيصيبهم الذل والهوان جزاء ما اقترفوا ولقاء ما قدموا، يسلط الله عليهم ما لم يكونوا يحتسبون، وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنْ اللَّيْلِ مُظْلِمًا [يونس:27].
كيف ترجى العزة ومتى يؤمل النصر وقد اهتزت في كثير من المواقع العقيدة وفقد المثل الأعلى وطمس التاريخ؟! بل لا تكاد ترى في الواقع إلا ما يصور الذلة والخنوع والتبعية، وما يجرد الأمة بأفرادها من كل معاني العزة والغيرة وتماسك الشخصية والبعد عن مواطن العهر النفسي والجسدي.
ولن تستعيد الأمة حقوقها ولن تنتصر على أعدائها إلا حين تبتغي العزة، والعزة لن تكون عند الكافرين، العزة تطلب من رب العزة وحده لا شريك له، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10]. يعلق الإمام القرطبي رحمه الله على هذه الآية وهو ممن عاش أيام سقوط الأندلس وأفول شمس الحضارة الإسلامية هناك، يقول رحمه الله: "هذا تنبيه لذوي الأقدار والهمم من أين تنال العزة، ومن أين تُستحق، فمن طلب العزة من الله وحده وصدق في طلبها بافتقار وذل وسكون وخضوع وجدها عنده ـ إن شاء الله ـ غير ممنوعة ولا محجوبة عنه، قال : ((من تواضع لله رفعه)) ، ومن طلبها من غيره وكلَه إلى من طلبها عنده، وقد ذكر قومًا طلبوا العزة عند من سواه فقال: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]".
في ماضي تاريخ المسلمين مرت حوادث مستهم فيها البأساء والضراء وزلزلوا، فاجتاح التتار ديار المسلمين، فضج منهم السهل والجبل، وأريقت دماء، وسجل التاريخ هول المناظر وبشاعة الأحوال، وقد وُقف زحفهم بعدما رجع المسلمون إلى الأصل والمنبع، إنه الإسلام ولا شيء غير الإسلام، الذي تردد في بطاح حطين وعين جالوت والزلاقة، ولن يوقف التتار الجدد سوى هذا النداء نداء الإسلام، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى الالتزام بالعزة والأخذ بمقوماتها على مستوى الحكومات والشعوب والأفراد، والاعتزاز بالدين من أقوى ما نواجه به أعداءنا في زمن تداعت فيه الأمم علينا كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فهلم إلى طريق العزة والمجد والخلود.
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
وفي هذا الوقت ضرب أطفال الحجارة في فلسطين أروع الأمثلة في العزة، لقد علّموا العالم كيف تكون العزة، كيف لا ونحن نراهم صامدين ثابتين، كيف لا ونحن نراهم مضحّين مجاهدين، نرى أمهات لهنّ قلوب أثبت من الجبال الرواسي، ونرى أطفالاً وهم يطاولون بقاماتهم القصيرة الرجال الكبار، ويعلمونهم كيف تكون بطولة الصغار، ونرى ونرى كثيرًا من صور العز والاستبشار التي نحتاج إلى تأملها. إن هذا الطفل بما يمارسه من تصرفات يعتبره العالم إرهابيًّا، هو بتصرفه ليس ضائعًا ولا تائهًا ولا لاهيًا ولا عابثًا، بل هو ممن أدرك طريقه وعرف منهجه، واتضحت معالم سيره في هذه الحياة، فلا يميل مع الشرق ولا يحاذي الغرب، ولا يكون مع النصارى في ولاء ولا مع اليهود في سلام، بل هي العزة بإيمانه، يجعله بذلك مجددًا لما كان عليه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
لا يصنع التاريخ إلا الرجال الأعزة، أهل الحق والإيمان يُغيّرون مجرى التاريخ بجهادهم المتواصل وعزائمهم التي لا تلين، تسير الدنيا في ركابهم ولا يسيرون في ركابها.
وأول من يجب أن يتحلى بالعزة ويمتطي صهوتها رجال الأمة الذين وكل إليهم تدبير شؤونها من العلماء والمعلمين والمربين والقادة والسياسيين، قياداتها في جماعاتها ودولها.
العزة لأهل الحق والإيمان باقية ما استقاموا على النهج، وأصلحوا نفوسهم، وحافظوا على الصلاح، وأخذوا بدروب الاستقامة ودروب الفضيلة؛ ذلك أن العزة لا تجتمع مع السفاسف والدنايا والبعد عن الله.
تذل الأمة وتفقد كرامتها حين تنحرف نفوسها عن غاياتها، وتزل أقدامها عن طريقها، حين يتلاشى الدين من مظاهر الحياة، فتتغير وجوهها وقلوبها. يحل محل عزة المؤمن ورجولة المجاهد صور النساء وعلائم الكفار تصطبغ ثيابهم بألوان أعداء الله.
أين العزة فيمن يرى في اتباع أوامر الله عبءًا ثقيلاً على كاهله، ويرى البهجة واللذة في سلوك المعاصي ودروب المخالفات؟! إنه الضعيف أمام كل قوة المنجرف مع كل تيار، يرتعش خوفا ويرتعد فرقا يقول: نخشى أن تصيبنا دائرة، يحسبون كل صيحة عليهم.
لن تبني أمة عزة بالانقياد خلف الملذات أو بانتشار الفوضى والظلم وغياب الحق والعدل. إن عِزّ هذه الأمة ورفعة أهلها لن تتم ولن يكون إلا بالعضّ على هذا الدين عقيدة وشريعة، صدقًا وعدلاً، إحلالاً للحلال وتحريمًا للحرام، ثباتًا في المواقف لا يزعزعه تهديد ولا إغراء، ومن فقد الجرأة ورضي بالحياة الهينة واستثقل حمل الشدائد فلن يحقق مجدًا أو يحرز عزًا، ولكنه سيسير في ركاب الآخرين ويجرفه التيار ويهلك في الغابرين، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
كيف يمكن لأمة أن تنتصر وأن تقوى وأن تعتز وهي تخالف أمر ربها وتترك هدي رسولها ؟! وكيف يمكن أن تستمد القوة من الله، وهي تحادّه وتواجهه مستعلنة بكثير من المعاصي وتجاهره بكثير من الفسق؟! ألسنا نرى ذلك في كثير من مجتمعات المسلمين؟! ألسنا نعلم يقين ما أخبرنا الله عز وجل به من حقيقة أثر الصلاح والاستقامة وانعكاسها على حياة الأمة في أمنها وطمأنينتها واستقرارها وقوتها، بل وفي رزقها ورغد عيشها؟! وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96].
إن خير الله ونصره وأمنه وطمأنينته التي يفيضها على عباده لا تكون إلا بطاعته والاستقامة على أمره، فلئن عملنا لله ولدينه استقامة على أمره واتباعًا لنهجه وخوفًا من معصيته ومراعاة لمحارمه فإن ذلك يؤذن ـ بإذن الله عز وجل ـ أن تنتهي المشكلات فيما بيننا، وأن يكون ذلك عونًا وسببًا لتَنزُّل نصر الله سبحانه وتعالى علينا، وأما أن تكون الأمة قد أوغلت بعيدًا عن منهج الله وافترقت وجعلت بينها وبين كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام بونًا شاسعًا ومفارقة كبيرة فإن ذلك بكل الأحوال لن تجني منه إلا ما نرى صوره الكثيرة في مجتمعاتنا، سواءً كان ذلك في العذاب والبلاء والمصائب التي تصب علينا بتسلط أعدائنا، أو بما فقد في كثير من مجتمعات المسلمين من الأمن والأمان والاستقرار، أو بما فشا فيها من الأدواء والعلل والأمراض، أو بما حلّ بها من الفقر والمسكنة والذلة والمهانة، وكما أخبر الحق جل وعلا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
فنسأل الله تعالى رحمة يهدي بها قلوبنا...
(1/4031)
الكلمة الطيبة صدقة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/5/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عِظم الكلمة في الإسلام. 2- أثر صلاح اللسان وفساده على الإنسان. 3- آداب وشروط الحديث. 4- آثار الكلمة الطيبة. 5- آثار الكلمة الخبيثة وصور منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن للألفاظ والكلمات دلائلها ومعانيها التي تحمل في طياتها الخير، فيجازى عليها الإنسان بالإحسان إحسانًا، أو تحمل في طياتها الشر والفحش والبذاء، فيجازى عليها بالسيئات المضاعفة إلى يوم المعاد.
وإن أعظم مثل توضيحي لذلك ما ضربه الله تعالى في كتابه الكريم في قوله جل وعز: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:24- 27]
عباد الله، إن جارحة اللسان لها أعظم الأثر في حياة المسلم دينًا ودنيا، ربط الله عليها الفلاح، وعلق عليها السعادة أو الشقاوة في العاجل والآجل، ورتب عليها الجزاء والعقاب. والكلمات هي الترجمان المعبر عن مستودعات الضمائر، والكاشف عن مكنونات السرائر، بكلمة واحدة يدخل العبد في الدين والملة، ألا وهي كلمة التوحيد الخالص: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وبكلمة واحدة يخرج العبد من الدين والملة، ألا وهي كلمة الكفر. بكلمة واحدة يتبوأ العبد في الجنة غرفًا من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار، وبكلمة أخرى يزل العبد في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب، فرب كلمة قالها عبد حصل له السعادة في الدنيا والآخرة، ولرب كلمة أوردت صاحبها الموارد فندم عليها ولات ساعة مندم؛ ولأجل هذا كان من أولى الاهتمامات في حياة المسلم حفظ لسانه إلا من الخير وإطابة كلامه، قال المصطفى : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)).
اللسان هو الميزان الذي توزن به الرجال، والمعيار الذي تعرف به أقدارها، حتى قال بعض السلف: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا تكلم سقط من عيني"، قال علي : (اللسان معيار أطاشه الجهل، وأرجحه العقل)، وكان ابن مسعود يقول: (يا لسان، قل خيرًا تغنم، واسكت عن شر تسلم، قبل أن تندم).
وإذا أنعم الله سبحانه وتعالى على العبد بصدق اللهجة وطيب الحديث وجمال المنطق شرف قدره، وحمدت سيرته، وحسنت عاقبته، فملك قلوب الناس، وأمّنوه على أقوالهم ووصاياهم وأماناتهم. من صلح منطق لسانه وطاب ظهر ذلك على سائر عمله، فأكسبه حسنًا وأجرًا وقبولاً، ومن فسد منطقه وخبث انعكس أثره على سائر عمله. قال بعض السلف: "لا تجد شيئًا من البر يتبعه البر كله غير اللسان".
الكلام هو حصاد اللسان، ولذا كان لزامًا على المرء العاقل أن يكون كلامه فيما يعود عليه بالنفع ويجنبه الضرر، وأن يحترس منه، وأن يحذر من فضوله بالإمساك عن كثيره، والإقلال منه إلا ما كان في طاعة الله سبحانه من تهليل وتحميد وذكر وتسبيح ودعاء واستغفار، فإن الإكثار منه هو النجاة. جاء أعرابي إلى النبي فقال: دلني على عمل يدخلني الجنة؟ قال: ((أطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير)). قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله: "فضول الكلام ما عدا تلاوة القرآن، والقول بالسنة عند الحاجة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تنطق في أمر لا بد لك منه في معيشتك. أما يستحي أحدكم لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره أن يرى أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه"، ثم تلا قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
عباد الله، لقد ذكر أهل العلم أن للكلام شروطًا لا يسلم المتكلم من الزلل في حديثه إلا بالحفاظ عليها، ولا يعرى كلامه من النقص ويسلم من الخلل إلا بعد أن يستوفيها ويتأدب بها:
أولها: أن يكون الكلام لداع يدعو إليه، إما في جلب نفع أو في دفع ضرر، فالمسلم الحق هو من يسأل نفسه قبل الكلام عن الداعي له، فإن وجد داعيًا للكلام تكلم، وإلا فالصمت أولى به من منطق في غير حينه؛ لأن الإكثار من الكلام في غير ذكر الله وعبادته أو مصلحة النفس والآخرين سبب للوقوع في السقط، وزيادة الهذيان الذي يذهب معه الرشد وتستجلب الفضائح، فيكون القول مرذولاً والرأي معلولاً. قال عمر بن عبد العزيز: "من لم يعدَّ كلامه من عمله كثرت خطاياه"، وقد قيل: "لسان العاقل من وراء قلبه، فإذا أراد الكلام رجع إلى قلبه، فإن كان له تكلم، وإن كان عليه أمسك، وقلب الجاهل من وراء لسانه، يتكلم بكل ما عرض له"، ولهذا قيل في منثور الحكم: "اعقل لسانك إلا عن حق توضحه، أو باطل تدحضه، أو حكمة تنشرها، أو نعمة تذكرها".
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل
وثاني شروط الكلام: أن يكون في موضعه ووقته، فإن الكلام في غير حينه من القبائح التي تضر ولا تنفع، فمن علم متى يحسن له الكلام أدرك نجاة نفسه ونفعها.
وثالثها: أن يكون الكلام على قدر الحاجة، فإنه إذا زاد عنها كان هذرًا، وإذا نقص كان عيًا وحصرًا، وكلاهما شين يجب الحذر منه، فإن مقتل الرجل بين فكيه، وقد قال رسول رب العالمين لمعاذ بن جبل: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)).
ولله در القائل:
وزن الكلام إذا نطقت فإنما يبدي عقول ذوي العقول المنطق
فنضر الله وجه امرئ أوجز في كلامه فاقتصر على قدر حاجته، وسلم من الزلل والخطأ لسانه. قال المصطفى : ((إن من البيان لسحرًا)).
عباد الله، ورابع شروط الكلام: اختيار الكلمات والألفاظ التي يتكلم بها المرء من أطايب الكلام وأنفسه، والبعد عن البذاءة والفحش في القول والمنطق؛ لأن اللسان عنوان صاحبه، يترجم عن مجهوله، ويبرهن عن محصوله، فهو وزيره الذي يستدل به على رجحان عقله وفصاحة لسانه.
وإن لسان المرء ما لم تكن له حصاة على عوراته لدليل
إن عظماء الخلق لهم الذين يلتزمون في أحوالهم جميعًا أن لا تبدر منهم كلمة قبيحة أو لفظة سائبة مغلوطة أو مكذوبة، فيكونون بها سفهاء أو متطاولين على غيرهم؛ لأن الكلمة إذا خرجت من فم الرجل ملكته، وقبل أن تخرج هو الذي يملكها، فلبئس الرجل الذي تملكه كلماته ولا يملكها.
إن من الناس ـ عباد الله ـ من يعيش صفيق الوجه شرس الطبع منتن الفم خبيث اللسان، لا يحجزه عن كلام السوء حاجز، ولا يعرف للحسن سبيلاً، لسانه مهذار، وفمه ثرثار، حتى إن الكلمة الحسنة لو صدرت منه لعدت من الغريب النادر في حياته. ولقد قال رسول الله : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ، قالت عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله فقال: ((بئس أخو العشيرة هو)) ، فلما دخل انبسط إليه وألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله، حين سمعت الرجل قلت كذا وكذا، ثم انطلقت في وجهه وانبسطت إليه! فقال: ((يا عائشة، متى عهدتني فاحشًا؟! إن من شر الناس عند الله تعالى منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)).
عباد الله، ومن آداب الكلام التي يجب أن يزمّ بها العاقل لسانه أن لا يتجاوز في المدح قدره، ولا يسرف في الذم عن حده، فلا يذكر كلمة يرضي بها بشرًا ويسخط بها رب البشر، قال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج وليس معه، قيل: وكيف ذلك؟! قال: يرضيه بما يسخط الله عز وجل، قال : ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أنها تبلغ ما بلغت يكتب الله بها سخطه إلى يوم القيامة)) ، ولقد قال لرجل مدح رجلاً آخر عنده: ((ويحك، قطعت عنق صاحبك)) ، قالها مرارًا، ثم قال: ((إن كان أحدكم لا بد مادحًا أخاه فليقل: أحسب فلانًا ولا أزكي على الله أحدًا)).
ومن أعظم آداب الكلام أن يصدقه الفعل؛ لأن مخالفة القول للفعل نفاق، واتفاقهما إيمان صادق، والله عز وجل يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا، إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أن طيب الكلام مجال واسع ومفهوم عظيم يشمل مجالات الخير كلها، ولقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بذلك في غير ما آية من كتابه الكريم، من مثل قول الله تبارك وتعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:83]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]. قال العلامة القرطبي رحمه الله: "ينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينًا، ووجهه منبسطًا مع البر والفاجر، من غير مداهنة؛ لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، يعني لفرعون، فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما ربهما باللين معه".
فانظروا ـ عباد الله ـ كيف أُمر النبيان الكريمان موسى وهارون عليهما السلام أن يتلطفا في القول مع فرعون الذي ادعى الألوهية من دون الله تعالى وقال للناس: ما علمت لكم من إله غيري! أنا ربكم الأعلى! فأمر الله رسوليه إليه أن تكون دعوتهما له بكلام رفيق لين سهل رقيق؛ ليكون أوقع في نفسه وأبلغ في قيام الحجة عليه وأدعى لقبوله لدعوتهما. وكم يحتاج ذلك كل مسلم لتربية ودعوة من تحت يده من أهل وزوجة وأولاد وطلاب وموظفين، فهم أولى بالرفق واللين، قال : ((والكلمة الطيبة صدقة)) ، وقال : ((على كل مسلم صدقة)) ، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((فيعمل بيده فينفع نفسه ويتصدق)) ، قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: ((فيعين ذا الحاجة الملهوف)) ، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: ((فليأمر بالمعروف)) ، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: ((فليمسك عن الشر فإنه له صدقة)).
الكلمة الطيبة ـ عباد الله ـ تحفظ المودة وتديم الصحبة وتمنع كيد الشيطان أن يوهي بين الأصدقاء والإخوان من المسلمين الحبال ويفسد ذات بينهم، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53]، بل إن طيب الكلام حتى مع الأعداء مطلوب؛ لأنه سبب في إطفاء الخصومة وإخماد الغضب، مما يقرب القلوب ويذهب غيظ الصدور، وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34]. قال طلحة بن عمر التابعي لعطاء بن أبي رباح: إنك رجل يجتمع عندك ناس ذوو أهواء مختلفة، وأنا رجل فيّ حدة، فأقول لهم بعض القول الغليظ، فقال: لا تفعل؛ فإن الله تعالى يقول: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، قال عطاء: فدخل في هذا اليهود والنصارى، فكيف بالحنيفي المسلم؟!
الكلمة الطيبة ـ عباد الله ـ تغسل الضغائن المستكينة في الجوارح، وتجمع الأفئدة، وتجلب المودة، ولكم في رسول الله أسوة حسنة، فقد قال: ((لا تحقرن من المعروف شيئًا ولو تلقى أخاك بوجه طلق)) ، قال عمر بن الخطاب : (البر شيء هين؛ وجه طليق وكلام لين).
فكل كلمة ـ أخي المسلم ـ لا تضر في الدين ولا تسخط الرب الكريم وترضي الجليس فلا تبخل بها على أخيك المسلم، يأجرك الله عليها، وتكون حجابًا لك من النار، قال : ((اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة)) ، وعن أبي المقدام عن أبيه عن جده قال: قلت للنبي : أخبرني بشيء يوجب الجنة، قال: ((عليك بحسن الكلام وبذل الطعام)).
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وكف الأذى وحسن الخلق وطيب الكلام.
ثم اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنه كما أن مجال الكلمة الطيبة واسع فإن مجال الكلمة الخبيثة أوسع، أعظمه الإشراك بالله تعالى، والقول على الله بغير علم، وشهادة الزور، والسحر والقذف، والشتم والسباب، والغيبة والنميمة والكذب، والمراء والجدال بالباطل، وتزكية النفوس، والخصومات، والغناء المحرم، والسخرية والهمز والاستهزاء بالمسلمين وبدينهم. كل هذه من أمهات الخبائث الموجبة للحرمان من رحمة الله، المورثة للضغائن والأحقاد بين الناس.
فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا ألسنتكم، وطهروها من الخبث والخبائث، واجعلوها رطبة بذكر الله تعالى وطاعته.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا))...
(1/4032)
العشر الأواخر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/9/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العشر الأواخر من رمضان. 2- الوصية بالاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان. 3- فضل ليلة القدر. 4- أعمال كان النبي يخص بها العشر الأواخر من رمضان. 5- أحوال الناس في رمضان. 6- الوصية بتوديع شهر رمضان بالاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فها هي أيام رمضان تسارع مؤذنة بالانصراف والرحيل، وها هي أيام العشر تحل لتكون الفرصة الأخيرة لمن فرط في أول الشهر، أو لتكون التاج الخاتم لمن أصلح ووفى فيما مضى.
أيها الأحبة، العشر الأخيرة من شهر رمضان سوق عظيم يتنافس فيه العاكفون، وموسم يضيق فيه المفرّطون، وامتحان تبتلى فيها الهمم، ويتميز أهل الآخرة من أهل الدنيا، طالما تحدث الخطباء وأطنب الوعاظ وأفاض الناصحون بذكر فضائل هذه الليالي، ويستجيب لهذا النداء الحاني قلوب من خالط الإيمان بشاشتها، فسلكت هذه الفئة المستجيبة طريق المؤمنين، وانضمت إلى قافلة الراكعين الساجدين، واختلطت دموع أصحابها بدعائهم في جنح الظلام، وربك يسمع ويجيب، وما ربك بظلام للعبيد.
أما الفئة الأخرى فتسمع النداء وكأنه لا يعنيها، وتسمع المؤمنين وهم يصلون في القيام لخالقهم وكأنه ليس لهم حاجة، بل كأنهم قد ضمنوا الجنة. فهل يتأمل الشاردون؟! وهل يعيد الحساب المفرطون؟!
أيها المسلمون، وفي الليل ـ سواء في رمضان أو غيره ـ ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله تعالى شيئًا من أمور الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وهو وقت النزول الإلهي، ومنه الثلث الأخير من الليل، يقول الله تعالى: ((هل من سائل فأعطيه، هل من مستغفر فأغفر له)) ، فأين أنت ـ يا عبد الله ـ عن هذا المورد العظيم، وإذا غلبَتك نفسك في سائر العام، أفلا تغلِبها على الأقل في هذه الليالي والأيام؟!
أيها المسلمون، أيام عشر رمضان المباركة حصلت فيها أول انطلاقة للإسلام وأول إشعاع لنوره الوضّاء، عشر رمضان التي نزلت فيها الهداية الربانية، وأخذ العالم العلوي فيها يتصل بالعالم الأرضي، عشر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، عشر شرفت بليلة القدر العظمى التي شهد لها الحق سبحانه بأنها خير من ألف شهر، وبأنها مباركة ويفرق فيها كل أمر حكيم، وتنزل فيها مواكب الملائكة الكرام إلى الأرض، يحف بهم السلام، يتنزل فيها أشرف الملائكة الروح الأمين وسفير الله بينه وبين سائر المرسلين جبريل عليه الصلاة والسلام، يتنزلون فيها لكثرة ما ينزل الله فيها على عباده من البركة والرحمة والعفو والرضا والغفران، ولتزين المؤمنين فيها بألوان الطاعات وكثرة القربات، ينزلون فيها ليحفوا بالمصلين ويسلموا على المؤمنين ويشهدوا للطائعين.
فيا أيها المسلمون الراجون عفو الله ومغفرته ورضاه، تعرضوا لذلك بفعل أسبابه، واتقوا الله وأروه تعالى من نفوسكم خيرا، أروه تعالى رجوعا صادقا إليه، وقلوبا خاشعة له منكسرة بين يديه، وعيونا محشرجة بالدموع خوفا من عقابه ورغبة في ثوابه، وألسنة تالية لكتابه مسبحة لجلاله، أروه دوما خيرا بالإخلاص له في الأعمال والصدق في الأقوال، بتعظيم شعائره واحترام مقدساته الزمانية والمكانية، وتعرضوا بأعمالكم الطيبة وعزمكم الصادق على الرشد لنفحات بره وقدسه، فإن له تعالى في هذه الأيام نفحات، إنها أيام وليالي إعتاق الرقاب وقبول المتاب، إنها أيام وليالي مضاعفة الحسنات ورفعة الدرجات، إنها أيام وليال كان رسول الله ـ رغم ما هو محمّل به من أعباء الرسالة وتبليغ الدعوة ـ ينقطع فيها عن الناس ويفرغ نفسه لمناجاة ربه وتلاوة كتابه والقيام بين يديه آناء الليل راكعا وساجدا، يدعو ربه رغبًا ورهبا. روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا دخل العشر شد المئزر وأحيا ليله وأيقظ أهله، وثبت عنها أنها قالت: كان رسول الله يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده.
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى قد تفضل عليكم بأن أبلغكم أيام رمضان المشرقة ولياليه المباركة، وإن ذلكم لنعمة كبرى واجبة الشكر؛ وشكرها يتجلى في اغتنامها. فاتقوا الله واغتنموها بالأعمال الصالحة، اغتنموا ما بقي فان أحدكم لا يدري أين هو من رمضان القادم، وأين رمضان القادم منه، وإن الله سبحانه وتعالى لما أعطى أمة محمد ليلة القدر حددها في ليال قليلة، وأخفاها بين غضون تلكم الليالي، أخفاها إهابةً بكم وحثًا لكم ـ أيها المسلمون ـ بأن تستمروا في طاعته وتستغرقوا في مناجاته، ولتكبروه تعالى على ما هداكم له، لتفوزوا بجزاء الشاكرين وعظيم مثوبة الطائعين، يقول : ((من قام رمضان وصامه إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، ويقول: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)) ، ويقول جل وعلا: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
إن مما شرعه الله في هذا الشهر المبارك زيادة الاجتهاد في العشر الأواخر منه؛ لأنها ليالي الإعتاق من النار لمن استحقوا دخول النار إذا تابوا من ذنوبهم واجتهدوا في هذه الليالي بنية صالحة، ولأنها الليالي التي كان اجتهاد النبي يتزايد فيها، فكان يحييها بالتهجد والقيام، وكان يعتكف في المسجد للتفرغ للعبادة، ففي الاجتهاد فيها اقتداء بالنبي وعملٌ بقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ولأنها الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التي قال الله تعالى فيها: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]، أي: العمل في هذه الليلة خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقيامها إنما يحصل يقينا بالقيام في كل ليالي الشهر، ولا سيما ليالي العشر الأواخر، فهي أرجى لتحريها وآكد لموافقتها. فهي لم تحدد في ليلة معينة من الشهر؛ لأن الله سبحانه أخفاها لأجل أن يكثر اجتهاد العباد في تحريها، ويقوموا ليالي الشهر كلها لطلبها، فتحصل لهم كثرة العمل وكثرة الأجر، وليتميز المجد من الكسلان.
فاجتهدوا ـ رحمكم الله ـ في هذه العشر التي هي ختام الشهر وأيام الإعتاق من النار، إنه شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. فالمسلم الذي وفقه الله للعمل في هذا الشهر ومرت عليه مواسم الرحمة والمغفرة والعتق من النار وقام ليلة القدر إيمانا واحتسابا حريٌّ أن يفوز بكل خيرات هذا الشهر ونفحاته، فينال الدرجات العالية بما أسلفه في الأيام الخالية.
ولقد كان النبي يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال يعملها فيها، منها إحياء لياليها بالتهجد والقيام، ومنها أنه كان يوقظ أهله للصلاة ويوقظ كل صغير وكبير يطيق الصلاة، وهذا شيء أهمله اليوم كثير من الناس مع أهلهم وأولادهم؛ فيتركونهم يسهرون على اللعب واللهو، يسرحون في الشوارع أو يجلسون في البيوت، يشاهدون الأفلام والمسلسلات، ويسمعون الأغاني والمزامير طيلة ليالي رمضان، فلا يستفيدون منه إلا الآثام، وإذا جاء النهار ناموا حتى عن أداء فرائض الصلوات؛ لأنهم تربوا على عدم احترام رمضان، وهذا نتيجة إهمال أوليائهم، فبئست التربية وبئست الولاية، وسيسألهم الله يوم القيامة عن إهمال رعيتهم وإضاعة مسؤوليتهم، قال : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ومن الأعمال التي كان يختص بها العشر الأواخر الاعتكاف، وهو لزوم المسجد للعبادة وعدم الخروج منه إلا لحاجة ضرورية، ثم يرجع إليه. كان يعتكف في هذه العشر قطعًا لأشغاله وتفريغًا لباله وتخليا لمناجاة ربه وذكره ودعائه.
فاجتهدوا ـ رحمكم الله ـ في هذه العشر التي هي ختام الشهر، والتي هي أرجى ما يكون لموافقة ليلة القدر، وأكثروا من الجلوس في المساجد للذكر وتلاوة القرآن إذا لم تتمكنوا من الاعتكاف.
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه واتباع سنة نبيه...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي منّ علينا بإدراك شهر رمضان، ووفق من شاء فيه لنيل المغفرة والرضوان، وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وأسمائه الحسان، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله كان كلُّ دهره رمضانَ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى.
عباد الله، كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم بعد ذلك يهتمون بقبوله ويخافون من رده، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، وقال تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]. وبعض الناس اليوم على عكس هذا؛ فمنهم من لا يتمم العمل، فقد رأينا من ينشطون في أول الشهر ويفترون في آخره، حتى ربما يكسلون عن صلاة الجماعة، وهؤلاء لا يستفيدون من رمضان، ولا يتغير حالهم عما كانوا عليه قبله من الإساءة والعصيان، والذي تفوته المغفرة في رمضان يكون محروما غاية الحرمان، فقد صعد النبي المنبر فقال: ((آمين آمين آمين)) ، فقيل له، فقال: ((إن جبريل أتاني فقال:من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فمات فدخل النار فأبعده الله، قل آمين، فقلت: آمين)). ومنهم من يسهر الليل على لغو الكلام أو جمع الحطام، وينام النهار عن أداء الصلوات في أوقاتها مع الجماعات مع الأمن من عقاب الله.
فأكثروا ـ عباد الله ـ من التوبة والاستغفار في هذه الأيام، لتختموا بذلك شهركم، وتستدركوا به تقصيركم، فإن الاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها، فتختم به الصلاة والحج وشهر رمضان وقيام الليل، وتختم به المجالس، والله قد أمر بالاستغفار ووعد المستغفرين بالمغفرة إذا كان استغفارهم صادقا ولم يكن استغفارا باللسان فقط.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تأمنوا العقوبة، ولا تقنطوا من الرحمة، واعتصموا بكتاب ربكم وسنة نبيكم، فإن خير الحديث كتاب الله...
(1/4033)
صِلُوا أرحامَكم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأرحام, مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
11/10/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اقتران الأمر بالتوحيد بالأمر بالبرّ والصلة. 2- صلة الرحم بركة في الرزق والعمر والعمل. 3- سُبُل صلة الرحم. 4- شؤم قطيعة الرحم وسوء عاقبتها. 5- النصرة على الباطل ليست من صلة الرحم في شيء. 6- أهمية الصفح والعفو في صلة الرحم. 7- بيان الأرحام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: انتهت أيام العيد الجميلة، وإن أجمل ما كان في العيد هو التزاور بين الأرحام وصلة ذات القرابات، ممن ربما مرّ على الواحد منا أشهر بل ربما سنة وهو لم يره أو يسمع حديثه، فجاء العيد بنفحاته وبركاته، ومن تلكم النفحات زيارة ذوي القرابات.
أيها المسلمون، ما أمر الله بتوحيده وما نهى عن الإشراك به إلا وقَرَنَ ذلك بالإحسان إلى الوالدين والأقربين، اقرؤوا إن شئتم: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36]، وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [الإسراء:23]، ثم قال سبحانه: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ وَ?لْمِسْكِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ [الإسراء:26].
إن أساس التواصل والرباط الموثّق هو التوادّ والتراحم، وإذا فُقِد ذلك تقطّعت الأوصال واستشرى الفساد وحقّت لعنة الله عياذًا بالله، وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
إن صلة الرحم بركة في الأرزاق وتوفيق في الحياة، ويكتب الله بها العزّة والمنعة، وتمتلئ القلوب بها إجلالاً وهيبة. أخرج الإمام أحمد وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((وصلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان الأعمار)) ، وروى البزّار بإسناد جيد والحاكم عن علي قال: (من سرّه أن يُمدّ له في عمره ويوسّع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه)، وفي صحيح البخاري مرفوعًا: ((من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)) ، وفي الخبر: (صلة الرحم محبة في الأهل ومثراة في المال ومنسأة في الأثر) أي: زيادة في المال والعمر وبركة فيهما.
بصلة الأرحام تقوى المودّة، وتزيد المحبّة، وتتوثّق عُرى القرابة، وتزول العداوة والشحناء، ويحِن ذو الرحم إلى أهله.
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن صلة الرحم والإحسان إلى الأقربين ذات مجالات واسعة ودروب شتّى، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة، إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه. إنها زيارات وصِلات، وتفقّد واستفسارات، مكالمة ومراسلة، إحسان إلى المحتاج، وبذل للمعروف، وتبادل في الهدايا. ينضم إلى ذلك غض عن الهفوات وعفو عن الزلات وإقالة للعثرات، عدل وإنصاف، واجتهاد في الدعاء بالتوفيق والصلاح. وأصدق من ذلك وأعظم مداومة الصلة ولو قطعوا، والمبادرة بالمغفرة إذا أخطؤوا، والإحسان إليهم ولو أساؤوا. إن مقابلة الإحسان بالإحسان مكافأة ومجازاة، ولكن الصلة الواصلة بُينت في قول نبينا محمد : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قُطِعت رحمه وصلها)). وجاء رجل إلى النبي فقال له: يا رسول الله، إن لي قرابة أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن كان كما تقول فكأنما تسفّهُمُ المَلّ ـ أي: تطعمهم الرماد الحار في أفواههم ـ، ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك)).
ومع كل ذلك أيها المؤمنون، ومع هذه الآيات والأحاديث فإن في الناس من تموت عواطفه، ويزيغ عن الرشد فؤاده، فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب. إن العار والشنار فيمن منحه الله جاهًا وأحسن له رزقًا، ثم يتنكّر لأقاربه أو يتعالى عليهم، بل قد يترفع أن ينتسب إليهم فضلاً عن أن يشملهم بمعروفه ويمدّ لهم يد إحسانه.
إن قطيعة الرحم شؤم وخراب وسبب للعنة وعمى البصر والبصيرة، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:23، 24].
إن تقطيع الأرحام من أعظم كبائر الذنوب، وعقوبتها مُعجّلة في الدنيا قبل الآخرة، أخرج أبو داود والترمذي وصححه الحاكم عن أبي بكرة عن النبي قال: ((ما من ذنب أجدر أن يُعجّل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) ، وروى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن أعمال بني آدم تعرض كل عشيّة خميس ليلة الجمعة، فلا يُقبل عمل قاطع رحم)).
فأسرة الإنسان وقرابته ـ يا عباد الله ـ هم عدّته وسنده، وهم أصله وقوته، يقول علي رضي الله عنه: (أولئك هم عشيرتك، بهم تصول وتطول، وهم العدّة عند الشدّة، أكرِم كريمهم، وعُد سقيمهم، ويسِّر على معسرهم، ولا يكن أهلك أشقى الخلق بك).
أيها المؤمنون، إن صلة الأرحام حق لكل من يمتّ إليك بصلة نسب أو قرابة، وكلما كان أقرب كان حقه ألزم وأوجب: أمك وأباك ثم أدناك أدناك. وطريق القيام بحق الأقارب والأرحام فشو المودّة واتساع الصدور وسلامة القلوب. وإن أعظم ما امتن الله به على الزوجين اللذين هما أصل الأسرة ونواتها أن جعل المودة والرحمة بينهما، وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
أيها المسلمون، إن أسرع الخير ثوابًا البرّ وصلة الرحم، وأسرع الشرّ عقوبة البغي وقطيعة الرحم، ومع هذا ترى في بعض مَن قَلّ نصيبهم مِن الخير مَن يسارع في قطع صِلاته بأقاربه لأدنى سبب، إما لكلمة سمعها، أو شيءٍ صغيرٍ رآه، وما درى أنه بهذا قد يجرّ إلى نفسه وأهله العداوة والجفاء، فيستحقّون اللعنة وزوال النعمة وسوء العاقبة، وَ?لَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ ?للَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَـ?قِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25]. ولقد أوصى زين العابدين علي بن الحسين ابنه رضي الله عنهم أجمعين فقال: "لا تصاحب قاطع رحم، فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع".
فاتقوا الله، وصلوا أرحامكم، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض. قدّموا لهم الخير ولو جفوا، وصلوهم وإن قطعوا، يُدِم الله عليكم بركاته، ويبسط لكم في الأرزاق، ويبارك في الأعمار. قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
أيها المسلمون، اعلموا أن حق القريب رحم موصولة وحسنات مبذولة وهفوات محمولة وأعذار مقبولة، ولئن كانت صلة الرحم تعني الإحسان إلى المحتاج ورفع الظلم عن المظلوم والمساعدة على وصول الحق فليس من صلة الرحم المناصرة على الباطل والعون على الظلم والبغي والعدوان، فما هذا إلا الحميّة الجاهلية الممقوتة، تفشو بها العداوة، وينشر بها الفساد، وتتقطّع بها الأرحام، ولن يكون البغي والعدوان طريقًا إلى الحق أو سبيلاً إلى العدل والخير. فاعرفوا الحق وميّزوه عن الباطل، ولا تأخذكم العزّة بالإثم، واستقيموا على أمر ربكم، ((أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام)).
لقد شاء المولى تعالى وتبارك بلطفه وتدبيره وحكمته وتقديره أن يكون بناء الإنسانية على وشيجة الرحم وقاعدة الأسرة من ذكر وأنثى من نفس واحدة وطبيعة واحدة، رحم وقربى تتوثّق عراها، ويتجذّر نباتها؛ ليقوم على سُوقِه بإذن ربه، فيحمى من المؤثّرات، ويحفظ من العاديات.
يقول بعض أهل العلم: "ما بُعِث أنبياءُ الله في أواسط البيوت من أقوامهم إلا لما يُقَدّر الناس من أمر الرحم، ويعرفون من شأن القرابة"، قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ ?لْمَوَدَّةَ فِى ?لْقُرْبَى? [الشورى:23]. وحينما قلّت عشيرة نبي الله لوط عليه السلام وضعف ركن قرابته أعذر نفسه بقوله: قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِى إِلَى? رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]، ومن ثم قال نبينا محمد : ((يغفر الله للوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله نبيًّا بعده إلا في ثروة من قومه)). ومن بعد لوط قال قوم شعيب لشعيب عليه السلام: وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَـ?كَ [هود:91]، وامتن الله على نبيه محمد بقوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَاوَى? [الضحى:6].
أيها المسلمون، إذا كتب الله لعبده التوفيق فكان إلفًا مألوفًا محبًّا لأهله رفيقًا بأقربائه حفيًّا بعشيرته انتصر بالألفة على أعاديه، وامتنع بالإحسان من حاسديه، فسلمت له نعمته، وصفت له معيشته، فيجتمع عليه الشمل، ويمتنع عنه الذل، وخير الناس أنفعهم للناس. ولقد علم العقلاء والحكماء وأصحاب المروءات أن تعاطف ذوي الأرحام وتوادّ أهل القربى يبعث على التناصر والألفة، ويُجنّب التخاذل والفرقة.
النفس الرحيمة الواصلة الكريمة الباذلة يورث الله لها ذكرًا حسنًا في الحياة وبعد الممات، الألسن تلهج بالثناء، والأيدي تمتد بالدعاء. تعيش بين الناس بذكرها وذكراها أمدًا طويلاً، يبارك لها في الحياة فتكون حافلة بجليل الأعمال وجميل الفعال وعظيم المنجزات وكثرة الآثار. من وصل أقاربه أحبّه الله وأحبّه الناس، ووضع له الذكر والقبول. وجُبِلت النفوس على حبّ من أحسن إليها، ألم تقل الرحمُ وهي متعلقة بعرش الرحمنِ: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله؟! وقال لها رب العزّة في الحديث القدسي: ((من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته)) ، وإنكم لتعلمون أن من وصله الله فلن ينقطع أبدًا، ومن قطعه الله فلن ينفعه أحد من الخلق كائنًا من كان.
إن من صلة الرحم أن تغفر الهفوة وتستر الزلة، فأي صارم لا ينبو؟! وأي جواد لا يكبوا؟! وما العقل والفضل والنبل إلا أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتحلم على من جهل عليك. ويزداد النبل ويعظم الفضل وتسمو النفس حين تحسن الظن بهم، وتحمل أخطاءهم على المحمل الحسن، وتنظر في عثراتهم نظر العاذر الكريم.
اسمع ـ رعاك الله ـ إلى هذه القصة التي تنضح نُبلاً وشرفًا: حُكي عن بنت عبد الله بن مطيع أنها قالت لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف، وكان أجود قريش في زمانه، قالت: يا طلحة، ما رأيت قومًا ألأمَ من إخوانك، قال: ولم ذاك؟! قالت: أراهم إذا أيسرتَ وكثر مالك زاروك ولزموك، وإذا أعسرت تركوك، قال: هذا والله من كرمهم، يأتوننا في حال القوة بنا عليهم، ويتركوننا في حال الضعف بنا عنهم.
فانظروا كيف تأوَّل بكرمه هذا التأويل، وفسّر بنبيل أخلاقه هذا التفسير، حتى جعل قبيح فعلهم حسنًا، وظاهر غدرهم وفاءً. وهذا محض الكرم ولباب الفضل، وبمثل هذا يلزم ذوي الفضل أن يتأوّلوا الهفوات، ويمحوا الزلات من إخوانهم وأرحامهم وأصهارهم، إنه تغافل مع فطنة، وتآلف صادر عن وفاء. وعلاقات الرحم ووشائج القربى لا تستقيم ولا تتوثق إلا بالتغافل، فمن شدّد نفَّر، ومن تغاضى تآلف، والشرف في التغافل، وسيد قومه المتغابي.
أين طلحة بن عبد الرحمن في هذه القصة من أناس ماتت عواطفهم وغلب عليهم لؤمهم؟! فلا يلتفت إلى أهل، ولا يسأل عن قريب، ولا يود عشيرة، إن قرُبوا أقصاهم، وإن بعدوا تناساهم، بل يبلغ به اللؤم أن يقرب أصحابه وزملاءه، ويجفو أهله وأقرباءه، يُحسِن للأبعدين، ويتنكّر للأقربين، بطون ذوي رحمه جائعة، وأمواله في الأصدقاء والصِحاب ضائعة. تراه يحاسب لهفوة صغيرة، ويقطع رحمه لزلة عابرة، إما بسبب كلمة سمعها أو وشاية صدّقها أو حركة أساء تفسيرها.
معاذ الله عباد الله، ربما كان بين الإخوة والأقارب من القطيعة ما يستحقون به لعنة الله من فوق سماواته، اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:23]، نعم يستحقون اللعنة، وتحل بهم النقمة، وتزول عنهم النعمة. والجنة تبلغ ريحها خمسمائة عام، ولا يجد ريحها عاقّ ولا قاطع رحمٍ.
من لم يصل رحمه ويتعاهد بخيره أقاربه فلا خير فيه ولا نفع منه، من ذا الذي قد فاض ماله يأكل ويشرب ويكتسي ويتمتّع وأقاربه الضعفاء عراة جائعون ورحمه البؤساء مهملون ضائعون؟!
ألم تعرفوا أنه من شريف خصال نبيكم محمد وخصاله كلها شريفه، ألم تقرؤوا نعت خديجة لحبيبها محمد : (كلا والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتحمل الكَلّ، وتصل الرحم، وتقْرِي الضيف، وتُكسِب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق)، صلة كريمة تحوطها السماحة، ويظللها الحلم، ويحيط بها العفو، ويحكمها ضبط النفس. حسن معاملة تعلو بها المراتب، ويكثر بها الأحباب، وتستجلب بها المودّات، وتحسن بها العواقب.
فحذار حذار ـ رحمكم الله ـ من التساهل مع أحق الناس بحسن صحبتكم، وإياكم إياكم أن تتضارفوا وتتكايسوا مع الأبعدين وتنسوا الأقربين، فإنكم إن فعلتم غَبنتم أنفسكم وظلمتم الحق الذي عليكم، وقد علمتم أن تقطيع الأرحام يهدم كيان الأسرة، ويزلزل أركان العشيرة، ويجعل أفرادها مرتعًا للفتن ونهبًا للأحقاد وفريسة للتمزّق.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، وصلوا ما أمر الله به أن يوصل من حقوقه وحقوق عباده، صِلُوا أرحامكم، والأرحام والأنساب هم الأقارب، وليسوا كما يفهم بعض الناس أقارب الزوج أو الزوجة، فإن أقارب الزوج أو الزوجة هم الأصهار، فأقارب زوج المرأة أصهار لها وليسوا أنسابًا لها ولا أرحامًا، وأقارب زوجة المرء أصهار له، وليسوا أرحامًا له ولا أنسابًا. إنما الأرحام والأنساب هم أقارب الإنسان نفسه كأمه وأبيه وابنه وبنته، وكل من كان بينه وبينه صلة من قِبَل أبيه أو من قبل أمه أو من قبل ابنه أو من قبل ابنته.
صلوا أرحامكم بالزيارات والهدايا والنفقات، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام وكل ما يتعارف الناس من صلة، إن صلة الرحم ذِكْرى حسنة وأجر كبير، إنها سبب لدخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم قول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:19-24]. وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال النبي : ((لقد وُفّق ـ أو قال: ـ لقد هُدي، كيف قلت؟)) فأعاد الرجل، فقال النبي : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك)) ، فلما أدبر قال النبي : ((إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).
وأعظم القطيعة قطيعة الوالدين، ثم من كان أقرب فأقرب من القرابة، ولهذا قال النبي : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاث مرات، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)).
إن من الناس من لا ينظر إلى أقاربه نظرة قريب لقريبه، ولا يعاملهم معاملة تليق بهم، يخاصمهم في أقل الأمور، ويعاديهم في أتفه الأشياء، ولا يقوم بواجب الصلة، لا في الكلام ولا في الفعال ولا في بذل المال، تجده ثريًّا وأقاربه محاويج، فلا يقوم بصلتهم، بل قد يكونون ممن تجب نفقتهم عليه لعجزهم عن التكسب وقدرته على الإنفاق عليهم فلا ينفق، وقد قال أهل العلم: كل من يرث شخصًا من أقاربه فإنه يجب عليه نفقته إذا كان محتاجًا عاجزًا عن التكسب وكان الوارث قادرًا على الإنفاق؛ لأن الله تعالى يقول: وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، أي: مثل ما على الوالد من الإنفاق، فمن بخل بما يجب عليه من هذا الإنفاق فهو آثم محاسب عليه يوم القيامة سواء طلبه المستحق منه أم استحيا وسكت.
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم، هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟! هل ألنتم لهم الجانب؟! هل أطلقتم الوجوه لهم؟! وهل شرحتم الصدور عند لقائهم؟! هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟! هل زرتموهم في صحتهم؟! وهل عدتموهم في مرضهم؟! هل بذلتم ما يجب بذله لهم من نفقة وسداد حاجة؟!
هذا، وصلّوا وسلّموا على خير البريّة وهادي البشريّة...
(1/4034)
صلاة الفجر
فقه
الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/10/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مقارنة بين صلاة الفجر في رمضان وفيما بعده من الأشهر. 2- فضائل صلاة الفجر. 3- حال السلف مع صلاة الفجر. 4- منزلة راتبة الفجر. 5- ظاهرة التخلّف عن الجماعة في صلاة الفجر. 6- علاج التخلّف عن الجماعة في صلاة الفجر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: وبعد ظلام الليل الحالك يتنفس الصبح بضيائه، ويرسل إلى الكون خيوط الصباح الأولى مؤذنًا ببدء يوم جديد، ويشهد الكون في تلك اللحظات المهيبة صراع النور والظلمة واعتراك الليل والنهار، ويبصر ميلاد يوم جديد، ويُقبل الفجر في زُهُوّه وبهائه يتهادى اختيالاً، مِلءَ عينيه أسرار وأخبار.
وفي هذا الوقت البديع المبارك يدوّي في سماء الكون النداء الخالد، نداء الأذان لصلاة الفجر، فتهتف الأرض كلها: الله أكبر الله أكبر، الصلاة خير من النوم. وتكون صلاة الفجر فاتحة اليوم في حياة المسلم، لكأنما يعلّم الإسلام أهله أن يبدؤوا كل أمر بطاعة الله والإقبال عليه والإنابة إليه، وكأنما هي شكر لله على نعمة الإصباح بعد الإظلام. ويبدأ وقت صلاة الفجر من ظهور الفجر الصادق الذي هو عبارة عن بياض ممتد من الشمال إلى الجنوب إلى طلوع الشمس، والسنة فيها التعجيل، فيصليها بغَلَس قبل الإسفار.
أيها المسلمون، ما من جديد سأذكره عن صلاة الفجر، ولكنها كلمات نُصْح أوجّهها لكم بعد رمضان عن هذه الشعيرة بالذات؛ لأنها قد ذُبِحت بالسكين من قبل كثير من المسلمين بعد رمضان.
إنك لو وازنت بين عدد المصلين هذه الأيام في صلاة الفجر وفي غيرها من الصلوات لرأيت عجبًا! هل لي أن أطالب نفسي وإياكم بأن يحصي كل فرد مقدار ما فاته من صلاته الفجر في جماعة منذ بداية شوال؟! هل حاولت إحصاء ذلك؟! كيف كانت النتيجة؟! أليست محزنة؟! وإذا كنت أدركت الفجر جماعة فهل لي أن أسأل عن سُنّتها القَبْلِية؟! فهل يسوغ لنا ويُقبَل منا مثل هذا التفريط؟!
أيها المسلمون، لقد سَمّى الله هذه الصلاة العظيمة: قُرْءانَ ?لْفَجْر، فقال سبحانه: أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، قال ابن كثير رحمه الله: "يعني صلاة الفجر". وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي قال: ((فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح)) ، يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم: وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].
وهكذا تكون صلاة الفجر مجتمعًا للملائكة ومحفلاً من محافل الخير والطاعة والعبادة، لا يحضره إلا كل طاهر مطهر من الأبرار، يستحق أن يكون في ضيافة الرحمن، عن أبي أمامة عن النبي قال: ((من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار، وكتب في وفد الرحمن)) رواه الطبراني بإسناد حسن، بل قد صح في الحديث عند أبي نعيم عن رجل من أصحاب النبي اسمه ميثم أنه قال: بلغني أن الملك يغدو برايته مع أول من يغدو إلى المسجد، فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل بها منزله، وإن الشيطان ليغدو برايته إلى السوق مع أول من يغدو، فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخلها منزله.
وليست هذه فضيلة صلاة الفجر الوحيدة، بل قد تكاثرت النصوص بما لهذه الصلاة من فضائل، فهل تعلم ـ يا عبد الله ـ أن صلاة الفجر تعدل قيام الليل؟! روى مسلم في صحيحه عن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلّى الصبح في جماعة فكأنما صلّى الليل كله)) ، وروى مالك بسند صحيح أن عمر بن الخطاب فَقَدَ سليمان بن أبي حثْمة في صلاة الصبح، فمَرّ على الشِّفاء أم سليمان فقال لها: لم أر سليمان في الصبح! فقالت: إنه بات يصلي فغلبته عيناه، فقال عمر: لأن أَشْهد صلاة الصبح في جماعة أحب إلي من أن أقوم ليلة.
وهل تعلم أن صلاة الفجر وصية النبي والصحابة من بعده لأمة الإسلام؟! فعن رجل من النخع قال: سمعت أبا الدرداء حين حضرته الوفاة قال: أحدّثكم حديثًا سمعته من رسول الله ، سمعت رسول الله يقول: ((من استطاع منكم أن يشهد الصلاتين: العشاء والصبح ولو حبوًا فليفعل)) رواه الطبراني في الكبير وهو حديث حسن.
وهل تعلم ـ يا أخي الحبيب ـ أن صلاة الفجر نور لصاحبه يوم القيامة؟! فعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله : ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) رواه ابن ماجه بسند حسن، وعند الطبراني بإسناد حسن عن أبي الدرداء عن النبي قال: ((من مشى في ظلمة الليل إلى المساجد لقي الله عز وجل بنور يوم القيامة)).
وهل تعلم أيضًا أن صلاة الفجر أمان وحفظ من الله لعبده؟! فعن سمرة بن جندب عن النبي قال: ((من صلّى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله تعالى)) رواه ابن ماجه بسند صحيح.
وهل تعلم أن أهل الفجر لهم وعد صادق بأن يروا ربهم عز وجل؟! ففي الصحيحين من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن النبي قال: ((أما إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضامّون في رؤيته, فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)) ، يعني صلاة العصر والفجر، ثم قرأ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا [طه:130].
ثم هل تعلم أن أهل الفجر في ذمة الله تعالى وجواره؟! فما ظنكم بمن كان في جوار الله تعالى؟! وأنتم ترون الناس يطمئنون ويأمنون أشد الأمن حين يكون أحدهم في جوار عظيم من عظماء الدنيا, فإن كان في جوار الله لهو أشد أمانًا وأعظم اطمئنانًا، ففي صحيح مسلم من حديث جُندَب بن عبد الله أن النبي قال: ((من صلّى الصبح فهو في ذمة الله, فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء, فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه, ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)).
فيا عبد الله، أين أنت من هذه الفضائل العظيمة والتي واحدةٌ منها لكافية في أن تستيقظ وتقوم لتصلي مع المسلمين؟! فكيف إذَا أسمعتك فضائل أخرى؟!
هل تعلم أن صلاة الفجر ضمان للجنة؟! عن أبي موسى أن رسول الله قال: ((من صلّى البردين دخل الجنة)) رواه البخاري ومسلم، والبردان هما الصبح والعصر. وهل يعمل المسلم في هذه الدنيا ـ لو كان صادقًا ـ إلاّ من أجل الجنة؟! فأين هو في صلاة الفجر وعنده هذا الضمان من النبي ؟!
وهل تعلم أن صلاة الفجر حاجز عن النار؟! وماذا يريد المسلم سوى النجاة من النار لو كان صادقًا؟! فعن أبي زهير عمارة بن رويبة قال: سمعت رسول الله يقول: ((لن يَلِج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) يعني: الفجر والعصر. رواه مسلم.
أيها المسلمون، ولما كانت صلاة الفجر بهذه المنزلة العظيمة كان التفريط فيها جرمًا كبيرًا وغفلة غير يسيرة، قال ابن عمر رضي الله عنهما: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظنّ)، وعن أبي بن كعب قال: صلى بنا رسول الله يومًا الصبح فقال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا، قال: ((أشاهد فلان؟)) قالوا: لا، قال: ((إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموها ولو حَبْوًا على الركب)) رواه أحمد وأبو داود بسند حسن.
أيها المسلمون، لقد تعلّقت قلوب السلف رضي الله عنهم بهذه الصلاة لما علموا من جليل فضلها وسوء عاقبة التخلّف عنها، فكانوا أحرص الناس عليها، حتى لقد قال عبد الله بن مسعود: (ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤتى به يَتَهَادَى بين الرجلين حتى يقام في الصف). وها هو رسول الله نبي الأمة وهاديها يمرّ بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر، يقول: ((الصلاة يا أهل البيت، إِنَّمَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ ?لرّجْسَ أَهْلَ ?لْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33] )) رواه الترمذي. إنه حرص نبوي وتربية لابنته على أن تحرص على صلاة الفجر في وقتها.
وكان علي بن أبي طالب يمر في الطريق مناديًا: (الصلاة، الصلاة)، يوقظ الناس لصلاة الفجر، وكان يفعل ذلك كل يوم. وحين اشتكى الإمام سعيد بن المسيب عينه قالوا له: لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة لوجدت لذلك خفة، يدعونه للتنزه في ضواحي المدينة حيث الخضرة والجو الطليق، فقال لهم: فكيف أصنع بشهود العَتَمَة والصبح؟! وتزوج الحارث بن حسان في ليلة من الليالي فحضر صلاة الفجر مع الجماعة، فقيل له: أتخرج وإنما بنيت بأهلك الليلة؟ فقال: والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جمع لامرأة سوء. وقام عبد الرحمن بن مهدي ليلة حتى جهد، فلما طلع الفجر رمى بنفسه على الفراش فنام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس، فقال: هذا مما جنى عليّ الفراش، فجعل على نفسه أن لا يجعل بينه وبين الأرض شيئًا شهرين. ومكث الإمام مدين بن أحمد الحميري دهرًا إلى حين وفاته لا تفوته التكبيرة الأولى من صلاة الصبح، ويمكث في مصلاه وهو على طهارة إلى أن يركع الضحى وربما جلس بعد ذلك. وبقي الشيخ الغرناطي نحوًا من عامين أو أزيد يخرج للصلوات الخمس يُهَادَى بين رجلين لشيء كان برجله حتى كان بعض أصحابه يقول: الغرناطي حجة الله على من لم يحضر الجماعة.
وكانوا يرون فَوْتَ صلاة الفجر في الجماعة خَطْبًا جَلَلاً يستحق العزاء. قال حاتم الأصم: فاتتني صلاة الجماعة، فعزّاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزّاني أكثر من عشرة آلاف؛ لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الدنيا.
فأين نحن ـ معاشر الأحبة ـ من هدي من سبقونا؟ وهذا شيء يسير من أخبارهم.
أيها المسلمون، وبلغ من منزلة صلاة الفجر أن خُصّت راتبتها القبلية دون سائر الرواتب بالمحافظة عليها حضرًا وسفرًا، قال ابن القيم رحمه الله: "وكان رسول الله في السفر يواظب على سنة الفجر والوتر أشد من جميع النوافل دون سائر السنن، ولم ينقل عنه في السفر أنه صلى سنة راتبة غيرها"، وكان ابن تيمية رحمه الله يقول: "سنة الفجر تجري مجرى بداية العمل والوتر خاتمته". بل وصف راتبة الفجر بأنها خير من الدنيا وما فيها، وبأنها أحب إليه من الدنيا جميعًا، ولم يكن إلى شيء من النوافل أسرع منه إلى الركعتين قبل الفجر. فهذه منزلة النافلة فكيف بالفريضة يا عباد الله؟!
فيا معاشر المسلمين، إن من الظواهر التخلفَ عن صلاة الفجر في المسجد مع الجماعة، وقضاءها بعد فوات وقتها، وإنك لترى المسجد في الحي المزدحم يمتلئ في الصلوات كلها، حتى إذا جئت لصلاة الفجر ألفيته شبه خاوٍ ليس فيه إلا صفوف قليلة! وهذه ـ والله ـ بليّة يعجب لها المرء، كيف يفوّت المسلم على نفسه هذا الخير العظيم؟! كيف يهنأ بالنوم والناس في المساجد مع قرآن الفجر يعيشون، وإلى لذيذ خطاب الله يستمعون، وفي ربيع جناته يتقلبون؟! كيف يطيب له الفراش وأرباب العمل قد صفّوا أقدامهم في المساجد، بين سجود وركوع، وخشوع ودموع؟! كيف يحرم نفسه بركات الفجر المتنزلة وخيراته المتواترة؟! بل كيف يرضى المسلم أن يتلاعب به الشيطان فيبول في أذنه؟! عن أبي وائل عن عبد الله قال: ذُكِر عند النبي رجل، فقيل: ما زال نائمًا حتى أصبح ما قام إلى الصلاة، فقال: ((بال الشيطان في أذنه)) رواه البخاري. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "واختُلِف في بول الشيطان فقيل: هو على حقيقته، وقيل: هو كناية عن سد الشيطان أذن الذي ينام عن الصلاة حتى لا يسمع الذكر، وقيل: معناه ملأ سمعه بالأباطيل، وقيل: هو كناية عن ازدراء الشيطان به، وقيل: معناه أن الشيطان استولى عليه واستخف به حتى اتخذه كالكنيف المعد للبول. وخُصّ البول لأنه أسهل مدخلاً في التجاويف وأسرع نفوذًا في العروق فيورث الكسل في جميع الأعضاء". وهذه معانٍ كيفما قلّبتها وجدت بعضها شرًا من بعض.
تُرى هل أدرك المتخلّف عن صلاة الفجر متعمّدًا أن فِعْلته أشنع من السرقة والزنا والقتل وغيرها من الموبقات؟! قال ابن حزم رحمه الله: "لا ذنب بعد الكفر أعظم من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها، ومن قتل امرئ مسلم بغير حق".
وهل علم هذا النائم عن صلاته أن من ترك صلاة واحدة عمدًا حتى يخرج وقتها فقد كفر عند بعض أهل العلم؟! وهل غفل هذا المضيع لجماعة الفجر عن قوله تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]؟! وويل واد في جهنم لو سُيّرت فيه جبال الأرض لذابت من شدة حرارته. وهل نسي قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَاةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]؟! وإضاعتها تأخيرها عن وقتها. أين هو من ذلك الحديث العظيم الرهيب الذي رواه البخاري في صحيحه والذي أخبر فيه النبي أنه أتاه آتيان فانطلقا به، فمروا على رجل مضطجع وآخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتهدهد الحجر ها هنا فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان ثم يعود عليه، فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، فلما سَأل الملكين عن خبره قالا: أما الرجل الذي أتيت عليه يُثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة.
وبعض الناس يتعمد ضبط المنبه على وقت العمل ولو كان وقت العمل في السابعة أو الثامنة، ولا يصلي الفجر إلا في هذا الوقت، وقد قال الشيخ العثيمين رحمه الله في هذا: "صلاته هذه غير مقبولة، ولا تبرأ بها ذمته، وسوف يُحاسَب عنها".
أيها المسلمون، وبعد هذا كله كيف نحمي أنفسنا من هذا الوعيد؟! فما غرك بربك وألهاك عن صلاة فجرك؟! أهو السهر أمام القنوات الفضائية أم على الأرصفة أم في الشواطئ والمنتزهات؟! ترى أي خير فاتك؟! وأي موت للقلب ابتليت به؟! فهل لك من عودة؟! وهل لك من رجوع؟! فإن المسجد يفتح أبوابه، وداعي الرحمن يدعوك، فأقبل ـ يا عبد الله ـ تكن من الفائزين.
ولعل أول خطوة في طريق العلاج استشعار أهمية هذه الصلاة وإدراك قيمتها، فلو شعر الإنسان بذلك وأدرك أنه يفوته بفوتها خير كثير لربما تحركت همته وانبعثت عزيمته كما تتحرك وتنبعث لكل محبوب لديه. وعليك بأذكار النوم ودعاء الله في الوتر أن توفّقك للقيام، وابتعد عن المعاصي جملة وتفصيلاً فإن المعاصي تقيّد المرء عن الطاعة، فإنها سلاسل وأغلال في عُنُق صاحبها تمنعه من العمل الصالح.
أسأل الله جل وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يعينني وإياكم على أنفسنا، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وبعد ما سمعت ما سمعت ـ يا عبد الله ـ ألا تحب أن تكون من رجال الفجر؟! أولئك الرجال الذين ما إن سمعوا النداء يدوّي: (الله أكبر, الله أكبر, الصلاة خير من النوم), هبّوا وفزعوا وإن طاب المنام, وتركوا الفرش وإن كانت وثيرة, مُلبّين النداء, فخرج الواحد منهم إلى بيت من بيوت الله تعالى وهو يقول: اللهم اجعل في قلبي نورًا, وفي لساني نورًا, واجعل في سمعي نورًا, واجعل في بصري نورًا, واجعل من خلفي نورًا, ومن أمامي نورًا, واجعل من فوقي نورًا. فما ظنكم بمن خرج لله في ذلك الوقت؟! لم تخرجه دنيا يصيبها, ولا أموال يقترفها, أليس هو أقرب إلى الإجابة؟! فيا لسعادة يعيشها حين لا ينفك النور عنه طرفة عين.
أيها الأحبة في الله، إن أهل الفجر لهم ثناء جميل, لا أقول: سطرته وسائل الإعلام باختلاف أشكالها, فليسوا بحاجة إلى أن ينشر لهم عمل, ولكنه ثناء أعظم وأجل, مسطّر في رقّ منشور, ثناء تكلم به الجبار جل جلاله, وحسبك بثناء من عند الله تعالى, الذي لا يزين مدحه إلا هو, ولا يشين ذمه إلا هو, فبشراكم ذلك الثناء يا أهل الفجر, قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال سبحانه: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وفي الصحيحين أن النبي قال: ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر, فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون)).
فماذا يقول ذلك الذي آثر فراشه معرضًا عن نداء ربه عز وجل؟! ماذا يقول وقد فوّت على نفسه ذلك الفضل العظيم؟! في حين تراه خلف سقط المتاع يلهث من صبحه إلى مسائه. ماذا يقول وهو يقيم الوقت الطويل في السهر الضائع وجلسات اللهو واللعب؟! فيا من فقدناك في صلاة الفجر, أرضيت أن تكون أسيرًا للشيطان والهوى؟! أرضيت أن يبول الشيطان في أذنيك؟! فلا يجعلها تسمع نداءً ولا تجيب فلاحًا، ثم هل ترضى أن يحضر الشيطان منزلك كل ليلة فيبيت معك حتى تصبح, وهو يراك فريسة اصطادها في كل يوم؟! فهلا عزمت من هذه الساعة أن تكون ضمن الركب المبارك أهل الفجر, لتحظى بفضائلهم, ولتنجو من الوعيد الشديد للذين ينامون عن فرائض الله تعالى.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/4035)
أهمية الأخلاق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/10/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية حسن الخلق وأثره على الفرد والمجتمع. 2- دور الأخلاق في نشر الإسلام. 3- أضرار الخلق السيّئ. 4- جوانب العظمة في خلق النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن حسن الخلق من الإيمان، وصفة من صفات أهل الإحسان، وحلية للمتقين في واسع الجنان، كما أن سوء الخلق من فعل الشيطان، وسبب من أسباب انغماس العبد في النيران.
الأخلاق الفاضلة ركيزة أساسية من ركائز هذا الدين في بناء الفرد وإصلاح المجتمع، فسلامة المجتمع وقوة بنيانه وسمو مكانته وعزة أبنائه بتمسكه بفاضل الأخلاق.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
كما أن شيوع الانحلال والرذيلة والفساد مقرون بنبذ الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمًا وعويلا
بل إن التاريخ يبين لنا أن كل أمة نهضت نهضة جبارة وكل حضارة ازدهرت وحققت السعادة كان لتمسك أفرادها بالأخلاق الحميدة والسيرة الفاضلة الرشيدة. يصوّر عمر بن الخطاب الأمة الإسلامية في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وقد عينه قاضيًا على المدينة، فمكث سنة لم يعقد جلسة قضاء، فطلب من أبي بكر إعفاءه فقال أبو بكر: أمِن مشقة القضاء تطلب الإعفاء يا عمر؟ فقال عمر: لا، ولكن ليس بي حاجة عند قوم مؤمنين. وصلوا إلى ذلك بالأخلاق الإسلامية النبيلة والآداب الإنسانية الفاضلة.
عباد الله، المسلمون الأوائل فتحوا بلادًا إسلامية لم تتحرك إليها جيوش، ولم تزلزل بها عروش، ولم يرفع بها سيف ولا رمح، بل تجارٌ صالحون بأخلاقهم حقّقوا الفتح فكان فتحًا خُلُقيًا، ذهبوا يتعاملون بالدّرهم والدينار، فحقّق الله لهم بأخلاقهم الانتصار، بأخلاق أدهشت العقول والأفكار، وسلوك حسنٍ لفت الأنظار، فالعودة العودة ـ عباد الله ـ إلى مكارم الأخلاق قولاً وعملاً ودلالةً ومضمونًا، لا سيما وأن البعض زهد فيها، ورحل إلى أخلاق غير المسلمين، وبعضهم جمع من العلم فأوعى، لكنه خلا من الخلق الأوفى، وفقد آخرون الإخلاص والنية، فأخلاقهم نفعية لمصالح أرضية، فهو يبتسم للمصلحة، ويرحّب للمنفعة، أخلاقه توصف بأنها عالية، لكنها لمطالب دنيوية فانية، يرى أنها مظهر من مظاهر الحضارة، أو متطلب من متطلبات العمل، وهي في الحقيقة زيف ودجل، يتكلّفها المسكين على حظوة من مدير أو ثناء من بشر، فأنى له أن ينال أجرًا وثوابًا لعمل صار هباءً منثورًا؟!
لقد افتقدنا كثيرًا من الأخلاق الحميدة، فأين الحب والوفاء؟! أين الصدق والإخاء مع الخدم والضعفاء؟! أين العدل مع العمال والفقراء؟! أين بر الوالدين؟! أين حقوق الأقارب والجيران؟! أين معاشرة الناس بالحفاوة والوفاء؟! أين صدق الحديث؟! أين أداء الأمانة؟! أين معاشرة الزوجة بالإكرام والاحترام؟! أين بشاشة الوجه؟! أين طيب الكلام!؟ أين إفشاء السلام؟! وأين، وأين، وأين؟!
أيها المسلمون، إن حسن الخلق عبادة، بل إن ثواب بعضه قد يفوق ثواب كثير من العبادات المعروفة. إن إلقاء السلام عبادة، عيادة المريض عبادة، زيارة الأخ في الله عبادة، تبسّمك في وجه أخيك صدقة، الكلمة الطيبة صدقة، مصافحة أخيك صدقة، مسح رأس اليتيم عبادة، صلة الرحم عبادة، إغاثة الملهوف عبادة، قضاء حوائح الناس عبادة، مساعدة المحتاجين عبادة، فما أعظمها من تجارة! وما ألذّها من سعادة! غفل عنها أكثر الناس فحرموا نفعها وآثارها، نسأل الله العافية.
أيها المسلمون، ولأهمية الأخلاق كانت أخلاق العبد السيئة وسلوكياته المشينة تأكل الخيرات، وتحرق الحسنات، وتحمّله من غيره الأوزار والسيئات، وتقذف به في الدركات، ولو صلّى وصام وعمل الصالحات، سَألَ النبيُ يومًا أصحابه ـ كما في صحيح مسلم ـ فقال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إنَّ المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طُرِح في النار)).
تأمّلوا ـ رحمني الله وإياكم ـ في هذا الرجل الذي قد أجهد نفسه في الطاعة، وأسهر ليله في الإنابة، أظمأ نهاره بالصيام، وتكبّد سفرًا في الحج إلى بيت الله الحرام، فلما وقف بين يدي الجليل المتعال فوجئ برصيد هائل من الديون، فقد شتم وسفك وضرب وهتك، فوزّعت حسنات النهار وطاعات الليل سدادًا لتلك الديون في يوم الجزاء والنشور، فهذا خادم مغبون، وذاك عامل مظلوم، وهذا جار له مشتوم، وذاك ضعيف ماله مأكول، فوقف أمام الجميع بين يدي الجبار العظيم، وقلبه متألم متأوّه محزون، فانهمرت الدموع من العيون، هل من طريق للفرار من الديون؟! هذا وأمثاله يوم القيامة هم المفلسون. فالذي يباشر العبادات ويبقى بعدها باديَ الشر كالح الوجه قريب العدوان كيف تُرجى له النجاة إذا نصب الميزان؟!
بل قد حذّر الرسول أمثالهم من النّار ولو جاء بصلاة وصيام وفعل الأمور العظام، وفي هذا ورد عن النبي أن رجلاً قال له: إن فلانة يُذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال: ((هي في النار)) رواه الإمام أحمد.
وبهذا نعلم أن الحديث عن الأخلاق ليس ترفًا علميًا، وليس نافلة في درجات العمل، بل هو طريق إلى السعادة لمن حسّن خلقه، وطريق إلى الشقاوة لمن أساء تعامله.
أيها المسلمون، إن من أخطر ما يضر الأخلاق ويفسد السلوك ويدمّر الفضائل حب الدنيا، فهو رأس كل بليّة، من أجلها يغشّ التجار، ومن أجلها يخون الناس الأمانات، بسبب حبّ الدنيا تُنكث العهود، وتجحد الحقوق، بسببها تنسَى الواجبات، وتستباح المحرمات، من أجل حب الدنيا يكذب العباد ويزوّرون، ومن أجلها تداس القيم ويباع الدين والشرف والعرض.
عباد الله، إن للأخلاق ميزانًا واحدًا لا يتغير بتغير الأزمان والأماكن أو الأشخاص، لا يتغير بتغير الأشخاص ومواقعهم ومناصبهم، فالأخلاق مع الأغنياء والفقراء والضعفاء والكبراء، وكذا مع الحشم ومع الخدم، في حالة الفرح وفي حالة الألم، كما هي مع الزوجة والولد، بحب وصدق وصفاء، على قدم سواء، بما يرضي ربّ الأرض والسماء. فليس مع الأغنياء التزلّف والمديح، ومع الفقراء الاحتقار والتوبيخ. كان أبو بكر الصديق يحلب للضعفاء أغنامهم كرمًا منه ورفقًا بهم، فلما تولى الخلافةَ لم يتغيّر ولم يتبدل، سمع جارية تقول: اليوم لا يحلب لنا، فقال: (بلى لعمري، لأحلبنَّها لكم). وهو الذي يمشي على قدميه مع جيش أسامة، وأسامة راكبًا فقال أسامة: يا خليفة رسول الله، لتركبنّ أو لأنزلنّ، فقال: لا والله، لا نزلتَ ولا أركب، وما عليّ أن أُغبّر قدمي ساعة في سبيل الله. هذه هي أخلاق الإسلام متمثلة في حاكمها وخليفتها.
ولا تنعدم الأخلاق حتى مع الأشرار، فمن الناس من تحسن إليه، وتتخلق معه اتقاء شره، ولو اشتغلت بتأديب كلّ جهول أعيتك الحيل.، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي فلما رآه قال: ((بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة)) ، فلما جلس تطلق النبي في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه! فقال رسول الله : ((يا عائشة، متى عهدتني فَحّاشًا؟! إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شرّه)) رواه البخاري في صحيحه. قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].
أيها المسلمون، إن ميزان الخلق لا يتغير مع اختلاف الزمان، فالخير يبقى خيرًا أبدًا، والشر يبقى شرًا أبدًا، والفضيلة تبقى فضيلة إلى يوم القيامة. فالسفور والتبرج مثلاً شر أبدًا، وهو دنس ورذيلة، ولا يتغير في زمن آخر على أنه تقدّم ورقيّ وفضيلة، وإلا اختلّ ميزان الأخلاق، وتعرضنا لسخط العليم الخلاّق. والوفاء بالوعود والانضباط بالمواعيد خير أبدًا، وسيبقى خيرًا إلى يوم القيامة مهما تغير الزمان.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن الحديث عن الأخلاق يكون ناقصًا حتى يكمّل ببعض المواقف الزكية من أخلاق رجل حوى أعظم سيرة وأزكى سريرة، إنه الحبيب المصطفى الذي قال الله تعالى عنه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
لقد نقل النبي بأخلاقه البشر خطوات فسيحة إلى حياة مشرقة بالفضائل والآداب، اقرأ سير العظماء، وتصفح تاريخ النبلاء، لن تجد أعظم من خلق وسيرة أفضل الأنبياء. اقرأ سيرته مع الأطفال، مع الخدم، مع الفقراء، مع الأغنياء، في البيع والشراء، في الشارع والسوق، مع الزوجة والولد، تجد أعظم خلق وأزكى سلوك، كان صلوات ربي وسلامه عليه أحسن الناس، أجود الناس، أشجع الناس، كان دائم البشر، سهل الطبع، ليّن الجانب، ليس بفظّ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش، ولا عتّاب ولا مدّاح، يشتري حاجته ويحملها بنفسه، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، يأكل مع الخدم، ويجالس المساكين، يمشي مع الأرملة واليتيم، بأبي هو وأمي.
روى الترمذي عن عبد الله بن سلامٍ قال: لما قدم رسول الله المدينة انجفل الناس إليه، وقيل: قدم رسول الله ، قدم رسول الله ، قدم رسول الله ، فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استثبتُ وجهَ رسول الله عرفت أن وجهه ليس بوجه كذابٍ، وكان أول شيءٍ تكلم به أن قال: ((أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلّوا والناس نيامٌ؛ تدخلوا الجنة بسلامٍ)).
هذا هو الرسول القائد الآمر الناهي الذي عُرج به إلى السماء، وتنزّل عليه الوحي صباح مساء، مع كل هذه الألقاب والمناصب والمسؤوليات والوظائف يأتي أعرابي إلى رسول الله وعليه برد غليظ الحاشية، فيدركه الأعرابي فيجذبه جذبة شديدة أثرت في صفحة عاتق رسول الله ، ثم يقول الأعرابي فوق هذا بكل غلظة وجفاء مخاطبًا أكرم الأنبياء: يا محمد، مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء. رواه البخاري. هذه العظمة في أسمى معانيها، والأخلاق في واحد من أجلّ مواقفها.
تأمّل سيرته حين دخل مكة فاتحًا منتصرًا عزيزًا مؤيدًا على أولئك الذين طردوه وآذوه وحاصروه، حتى أكل مع أصحابه ورق الشجر فما رحموه، ووضعوا سلا الجزور فوق ظهره وهو ساجد لله، فلما دخل مكة دخلها وهو مطأطئ رأسه متذللاً لله، متواضعًا لعباد الله، قائلاً لأولئك: ((ما تظنون أني فاعل بكم؟)) قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)). لم ينتقم لنفسه صلوات ربي وسلامه عليه.
ثم كم كان يحمل في صدره من الهموم والغموم، هموم الأمة، هموم هدايتها، هموم الرسالة، هموم القيادة، هموم الفقراء، وهو أبٌ متزوجٌ وقائدٌ وحاكمٌ، ومع ذلك كله يقول عبد الله بن الحارث: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله. رواه الترمذي.
كان يمازح أصحابه، يخالطهم، يداعب صبيانهم، ((يا أبا عُمَير ما فعل النُّغَير)) ، يجيب دعوة الحر والعبد والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر. كم كان في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والندى. يقول أنس : إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله فتنطلق به حيث شاءت. رواه البخاري. كان إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع.
ما نصيبنا ـ أيها الأحبة ـ من هذه الأخلاق؟! أين موقعنا من هذه الخلال الحميدة والأفعال الرشيدة؟! لقد أصبحت أخلاق الرسول تراتيل بها يُتغنى، وأورادًا صاحبها يتمنى. إنه لأمر يدعو إلى الأسى والحزن ما وصل إليه حال أخلاقنا، والله المستعان.
إنه لا صلاح لحالنا وحال أمتنا إلاّ أن ننهل من معين أخلاقه الذي لا ينضب، ونقتبس من ثباتها الذي لا يتذبذب، ونصعد إلى مُثُلها لمن أراد منّا أن يتهذّب ويتأدب، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
فيا رجال هذه الأمة، إن العالم بأسره يرمقكم عن بعد، ويخالطكم عن قرب، فإذا رأوا الأيدي المتوضئة تقف عن الشبهات والدنايا ورأوا سناء قلوبكم ورقة طباعكم ونزاهة نياتكم والصدق في معاملاتكم دخلوا في دين الله أفواجًا، وإذا رأوا عكس ذلك كنّا سببًا في شرود الناس عن الدين بسبب سوء أخلاقنا وجفاء تعاملنا.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت. اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولمّ بها شعثنا، وردّ بها الفتن عنا.
اللهم صلّ على محمد...
(1/4036)
ما يفعله المسلم في ختام رمضان
فقه
الزكاة والصدقة, الصلاة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
28/9/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة انصرام أيام رمضان. 2- تعريف زكاة الفطر. 3- الحكمة من مشروعية زكاة الفطر. 4- من أحكام زكاة الفطر. 5- مشروعية التكبير في العيد وبعض أحكامه. 6- من أحكام صلاة العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن شهر رمضان قد أوشك تمامُه، وإسدالُ ستاره قاب قوسين أو أدنى، بعد أن ظلَّ المسلمون ثمانية وعشرين يومًا منه ينالونَ من نفحات ربهم، فما أسرع ما انقضت الأيام وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق الخريف عصفت بها ريح القدر.
شهر رمضان، أين هو شهر رمضان؟! ألم يكن بين أيدينا؟! ألم يكن ملء أسماعنا وملء أبصارنا؟! لم يكن إلا طرفة عين، حتى انقضى موسم التقوى، وبلابل الدَّوْح قد هدأ تغريدُها، وإلى الله المصير.
وهكذا ـ أيها المسلمون ـ تنطوي صحيفة رمضان، وتُقوَّضُ سوقٌ كانت عامرةٌ بالخيرات والحسنات، ربح فيها من ربح، وخسر فيها من خسر، وحُرِم فيها من حُرِم، على تفاوت كبير في درجات الربح والخسران أو الحرمان، وما لنا إلا الصبر على ألم فراقه، نودِّعه وأشواقنا لم تزل، ودموعنا في المآقي، والغُصّةُ في الحلوق جارحة، وأعيننا لانصرامه في أَرَق، وإن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنَّا على فراق رمضان لمحزونون، فأحسن الله عزاءكم، وجبر مُصابكم، وتقبّل منا ومنكم.
أيها المسلمون، لقد شرع الله لكم في ختام هذا الشهر المبارك أعمالاً تفعلونها، من ذلك إخراج زكاة الفطر، وتُسمّى صدقة الفطر، ويقال للمُخْرَج: فِطْرة، وهي المقصودة في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الشمس:14]، وقد أضيفت إلى الفطر لأنها تجب بالفطر من رمضان، وهي صدقة عن البدن والنفس.
زكاة الفطر يخرجها المسلم قبل صلاة العيد شكرًا لله تعالى على نعمة التوفيق لصيام رمضان وقيامه، يختم بها المسلم عمل رمضان. زكاة الفطر يخرجها المسلم من غالب قوت البلد، والأصل فيها ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان: صاعًا من تمر أو صاعًا من أَقِطّ أو صاعًا من شعير، على كل حرّ وعبد ذكر أو أنثى على الصغير والكبير.
زكاة الفطر إحسان إلى الفقراء وكفّ لهم عن السؤال في أيام العيد؛ ليشاركوا الأغنياء في فرحهم وسرورهم به، ويكون عيدًا للجميع، وفيها الاتصاف بخلق الكرم وحب المواساة. زكاة الفطر فيها تطهير للصائم مما يحصل في صيامه من نقص ولغو وإثم. زكاة الفطر فيها إظهار شكر نعمة الله بإتمام صيام شهر رمضان وقيامه وفعل ما تيسّر من الأعمال الصالحة فيه.
إن الحكمة في زكاة الفطر مركبة من أمرين:
الأول: يتعلق بالصائمين في شهر رمضان، وما عسى أن يكون قد شاب صيامهم من لغو القول ورفث الكلام، والصيام الكامل الذي يصوم فيه اللسان والجوارح كما يصوم البطن والفرج فلا يسمح الصائم للسانه ولا لأذنه ولا لعينه ولا ليده ولا لرجله أن تتلوّث بما نهى الله ورسوله عنه من قول أو فعل، وقلّ أن يسلم مسلم من ذلك، فجاءت زكاة الفطر في ختام الشهر لتجبر ذلك كله، وتغسل ما قد يكون علق بالصائم مما يكدّر صومه وينقص أجره.
الثاني: يتعلق بالمجتمع وإشاعة المحبة والمَسَرّة في جميع أنحائه وخاصة المساكين وأهل الحاجة فيه، ذلك أن العيد يوم فرح وسرور، فينبغي تعميم هذا الفرح والسرور ليشمل جميع فئات المجتمع ومنها الفقراء والمساكين، ولن يدخل السرور إلى قلوبهم إلا إذا أعطاهم إخوانهم وأشعروهم أن المجتمع يد واحدة، يتألم بعضه بألم بعضه الآخر، ويفرح لفرحه.
وأما عن وقتها فإن زكاة الفطر تجب بغروب الشمس ليلة العيد؛ لأنه الوقت الذي يكون به الفطر من رمضان، وزمن دفعها له وقتان: وقت فضيلة ووقت جواز، فأما وقت الفضيلة فهو صباح العيد قبل الصلاة، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة. رواه البخاري ومسلم. وأما وقت الجواز فهو قبل العيد بيوم أو يومين؛ لما ثبت عن نافع قال: كان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إنه كان يعطي عن بنيّ، وكان يعطيها الذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين. ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخّرها فهي صدقة من الصدقات.
أيها المسلمون، وتجب زكاة الفطر فريضة على الكبير والصغير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين؛ لما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: فرض رسول الله زكاة الفطر من رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين. رواه البخاري ومسلم. وتستحب عن الجنين، فقد كان السلف رضي الله عنهم يخرجونها عنه.
ويجب أن يخرجها عن نفسه، وكذلك عمن تلزمه مؤونته من زوجة أو قريب إذا لم يستطيعوا إخراجها عن أنفسهم، فإن استطاعوا فالأولى أن يخرجوها عن أنفسهم؛ لأنهم المخاطبون بها أصلاً، وتجب زكاة الفطر على من وجدها فاضلة زائدة عما يحتاجه من نفقة يوم العيد وليلته، فإن كانت أقل من ذلك سقطت عنه ولم تجب عليه.
أيها المسلمون، والواجب في زكاة الفطر صاع من غالب قوت أهل البلد من برّ أو شعير أو أرز أو تمر أو زبيب أو أقطّ، وكلما كان أجود فهو خير وأفضل، فعلى كل مسلم ذكر أو أنثى صغير أو كبير حرّ أو عبد أن يخرج صاعًا من طعام بصاع النبي أو ما يعادله كيلاً أو وزنًا، ولا يجزئ أقل من ذلك، والصاع بمقاييسنا الحالية قرابة الكيلوين وأربعين جرامًا.
أيها المسلمون، وزكاة الفطر تدفع إلى فقراء المكان الذي هو فيه وقت الإخراج، سواء كان محل إقامته أو غيره من بلاد المسلمين، فإن كان في بلد ليس فيه من يدفع إليه أو كان لا يعرف المستحقّين فيه وكَّلَ من يدفعها عنه في مكان فيه مُستحِق، وبناء على ذلك فمن أقام في بلاده أكثر رمضان ثم سافر إلى بلد آخر في أواخر رمضان فالأولى له أن يدفع زكاة الفطر في البلد الذي سافر إليه؛ لأنه البلد الذي غرب عليه فيه شمس آخر يوم من رمضان، وإن دفعها إلى فقراء بلده الذي يقيم فيه أجزأته، ولكنه خلاف الأولى.
وزكاة الفطر خاصة بالفقراء والمساكين، ولا تصرف لبقية المصارف الثمانية التي تصرف لها زكاة المال، إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك أو رأى الإمام أو نائبه ذلك. والأولى أن تصرف على فقراء نفس البلد، إلا أن يكون في غيره من هو أشد حاجة فلا حرج حينئذ من نقله.
أيها المسلمون، ولا يجوز إخراج زكاة الفطر نقودًا وإن أفتى به بعض المنتسبين إلى العلم، فإن هذا خلاف الصحيح من قول أهل التحقيق من أهل العلم.
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن العبادات الأصل فيها التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بأي عبادة إلا بما أخذ عن المشرّع الحكيم صلوات الله وسلامه عليه الذي قال الله تبارك وتعالى عنه: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى [النجم:3]، وقد شرع هو صلوات الله وسلامه عليه زكاة الفطر بما ثبت عنه في الأحاديث الصحيحة صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقط، روى هذا الحديث البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر، وبناء عليه فلا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر، وإنما يجب أن تكون من غالب قوت أهل البلد، فيقول العلماء: إن إخراج القيمة لا يجزئ؛ لأنه مخالف لأمر النبي ، ولأنه مخالف لعمل الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا يخرجونها صاعًا من طعام، ولأن زكاة الفطر عبادة مفروضة من جنس معين في وقت معين، فلا يجزئ إخراجها من غير الجنس المعين، كما لا يجزئ إخراجها في غير الوقت المعين؛ لأن كل الذين يقولون بجواز إخراج القيمة يعلّلون القضية عقليًّا في أذهانهم، فلو تُرِكت للعقل فقد يقول قائل: هذا الفقير كل الناس يعطونه الآن في رمضان فيتكدّس لديه الطعام مثلاً، فأنا أعطيه إياه في ذو القعدة، ولو فكّرت في كلامه عقليًّا قد يكون له شيء من الوجاهة، فحَسْمًا للاجتهادات العقلية يقال: كما أنه لا يجوز تغيير الوقت، فكذلك لا يجوز تغيير الجنس.
ثم إننا لو قلنا: القيمة، فقيمة صاع التمر يختلف سعره عن قيمة صاع القمح، ويختلف عن قيمة صاع الشعير، فبأي قيمة نأخذ؟ هل بالأقل أم بالأكثر أم المتوسط؟! وإذا أخذنا بأحدهما فلماذا ليس بالآخر؟! وهكذا، لكن الصاع ثابت.
ثم إن إخراج القيمة يخرج الفطرة عن كونها شعيرة ظاهرة، فمقصود الشارع إظهار هذه الشعيرة، فلو صارت قيمة لأصبحت خفيّة مثل الصدقة يعطيها الإنسان سرًّا للفقير، وليس هذا هو المقصود من زكاة الفطر، وإنما مقصودها أن تكون ظاهرة بين المسلمين، معلومة للصغير والكبير، يشاهدون كَيْلها وتوزيعها، ويتبادلونها بينهم بخلاف ما لو كانت دراهم.
ثم إن هذا هو ما عليه الفتوى من علماء هذه البلاد، فمخالفة رأي العلماء أيضًا أمر صعب، فإنا لم نصل إلى ما وصلوا إليه من العلم الشرعي حتى نخالفهم. فيقال: إنه لا يجزئ إخراج القيمة في زكاة الفطر.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي بيّن لأمته طرق النجاة، وحذّر من طريق الغيّ والهلكات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: أيها المسلمون، أما الأمر الثاني الذي شُرِع لكم في ختام هذا الشهر فهو التكبير، قال الله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
ويبتدئ التكبير ـ أيها الإخوة ـ من غروب الشمس ليلة العيد حتى حضور الإمام لصلاة العيد، ويكبر المسلمون ذكورًا وإناثًا، ويُسنّ في حق الرجال الجهر بالتكبير في المساجد والأسواق والبيوت، إعلانًا لتعظيم الله وشكره، وأما النساء فإنهن يكبّرن سرًّا؛ لأنهن مأمورات بالتستّر، وليسوا أهلاً للتكبير جهرًا.
وصفة التكبير أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وأما الأمر الثالث الذي شُرِع لكم في ختام شهركم هذا فهو صلاة العيد، وصلاة العيد أمر بها النبي ، حتى النساء أمرهنّ أن يخرجن ولم يأمر عليه الصلاة والسلام النساء بالخروج لأي شيء سوى صلاة العيد، ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى أن صلاة العيد فرض عين، وإن قال بعض العلماء بأنها فرض كفاية.
ومن السنة أن تُصلّى خارج البلد؛ وذلك لإظهار هذه الشعيرة. وكذلك من السنة أن يذهب الإنسان من طريق وأن يعود من طريق آخر؛ وذلك لنشر هذه الشعيرة في جميع أسواق البلد وشوارعها. ومن المؤسف ـ أيها الإخوة ـ أن بعض الناس تجده بعد التعب في أيام رمضان ولياليها تجده ينام عن صلاة العيد، ولا يشهد الخير مع المسلمين، وهذا حرمان عظيم، تقول أم عطية رضي الله عنها: أُمرنا أن نُخرِج الحيّض وذوات الخدور يشهدن الخير ودعوة المسلمين. وقد أمر النبي الحيّض أن يعتزلن المصلى، ولكن أمرهن باستماع خطبة العيد وحضورهن دعوة المسلمين.
عباد الله، أدعو نفسي وأدعو إخواني المسلمين إلى الحرص على هذه الصلاة وحضورها مع المسلمين، يدعون الله عز وجل ويكبرون، فربما تصيبهم نفحة خير وبركة.
وكيفيّة الخروج ـ يا عباد الله ـ أن يخرج المسلم إليها متطيبًا متجمّلاً، وذكر بعض العلماء أنه يستحب له الاغتسال لها أيضًا.
أيها المسلمون، إنه لا مانع من تناول الطيبات وفعل المباحات وإظهار الفرح والسرور بالعيد، بل ذلك مستحب مع المحافظة على فعل ما أوجب الله وترك ما حرم الله وعدم الإسراف والخيلاء.
إن كثيرًا من الناس ـ هداهم الله ـ تضيع أوقاتهم بعد العيد بالسهرات واللهو واللعب، وربما تركوا أداء الصلوات في أوقاتها أو مع الجماعة، فكأنهم بفعلهم هذا يريدون أن يمحوا أثر رمضان من نفوسهم، ويجددوا عهدهم مع الشيطان، إن أولئك حَرِيّون أن لا يُقبل منهم رمضان؛ لأن من شروط صحة التوبة العزم على عدم العودة إلى الذنب بعدها، وهؤلاء تركوا الذنوب تركًا مؤقتًا ثم عادوا إليها، وهذا لا يعتبر توبة؛ لأنهم إنما تركوها لعارض ثم عادوا إليه بعد زواله. فنعوذ بك اللهم من الحَور بعد الكَور...
(1/4037)
وما جعل عليكم في الدين من حرج
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
27/3/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طابع اليسر ورفع الحرج. 2- آصار بني إسرائيل. 3- أمة الوسط. 4- فضل هذه الأمة. 5- أمثلة لرفع الحرج في الإسلام. 6- ضابط المشقة المقتضية للتيسير. 7- من آثار التيسير ورفع الحرج. 8- حب الله تعالى لإتيان الرخص.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عباد الله، اتَّقوا الله الذي خلَقكم ورزَقكم، وأسبَغ عليكم نِعَمه ظاهرةً وباطِنة، وراقِبوه واذكُروا وقوفَكم بين يديه، يَوْمَ يَنظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40].
أيها المسلمون، طابَعُ هذا الدِّين وسِمَتُه التي يتَّسِم بها اليُسرُ ورفع الحرَج عن الأمّة ووضع الآصار والأغلال عن كاهِلها؛ ليقطَعَ بذلك المعاذير، وليسُدَّ أبوابَ التنطُّع ويغلِق المسالكَ الموصلةَ إليه، ويحولَ دون الأسباب الباعِثةِ عليه، لئلاَّ يكبِّل المرء نفسه، فيحجِّرَ واسعًا أو يسقِطَ ما رخَّص له ربُّه فيه، كما قال عزّ اسمه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
وقد جاءَت هذه الآيةُ في أعقابِ البيانِ القرآنيّ لأحكام التطهُّر من الحدَثَين الأصغَرِ والأكبر، بعد الإرشاد إلى مشروعيّة التيمُّم عند تعذُّر استعمالِ الماء أو فَقده، إمعانًا في التيسِير على المكلَّفين ورفعِ الحرج عنهم، وإشعارًا بوجود الرّخصة عند تحقُّق المشقة. ولئن كان نزولُ هذه الآية عقِبَ تشريع هذا الحُكم مشعِرٌ بالتقييد وعدمِ الإطلاق ـ أي: أنَّ رفعَ الحرَجِ مقصورٌ على الأحكام الواردة فيها ـ إلاَّ أنَّ الحقَّ أنها عامّةٌ مستغرِقة كلَّ أحكام الدين، يؤيِّد ذلك قولُه سبحانه في الآيةِ الأخرى في سورة الحجّ: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فهي رافِعة للقيد المتبادِرِ إلى الأذهان في الآية الأولى.
وكلا الآتَين ـ يا عبادَ الله ـ تلمَس من المسلم وجدانَه، وتخالط بشاشةَ قلبِه، وتمتزِج بأجزاء نفسِه، وتشعِرُه بعظيم فضلِ ربِّه عليه وكريم رحمتِه به وجميل إحسانِه إليه، حيث جعَل له طريقَ السعادة مذَلَّلاً وسبيلَ النجاح ممهَّدًا، لا يرهِقُه سلوكُه من أمرِه عُسرًا، على النّقيض من حالِ بني إسرائيل الذين أثقَلَت كواهِلَهم الآصار والأغلالُ التي كانت عليهم في شريعتِهم، كتحريمِ الأكل من الغنائم وقتل النفس الآثمة في التوبة وقرضِ النّجاسة من الثياب، وما ذلك إلاَّ لفضل هذه الأمّةِ المرحومَةِ التي جعَلَها الله وسَطًا بين الأمَمِ كما قال عزّ من قائل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا الآية [البقرة:143].
والوسَط كما قال العلاّمة ابنُ كثير رحمه الله: "الخِيار والأجود، كما يقال: قرَيش أوسَط العرب نَسبًا ودارًا أي: خيرُها، وكان رسول الله وسطًا في قومه، أي: أشرفَهم نسبًا، ومنه الصلاة الوسطَى التي هي أفضلُ الصلوات وهي العصر كما ثبَت في الصِّحاح وغيرها. ولما جعَل الله هذه الأمّةَ وسطًا خصَّها بأكملِ الشرائع وأقوم المناهج وأوضحِ المذاهب" انتهى كلامه يرحمه الله [1].
ورَفعُ الحرَج عن هذه الأمّة المسلِمة ـ يا عباد الله ـ ملائمٌ لفضلها وعدلِ شريعتها وعمومِ رسالة نبيِّها التي هي خاتمةُ الرسالات، مناسبٌ لبقاء دينِها وظهورِه على الدّين كلِّه كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ [التوبة:33]، فهو لِذا نهجٌ ربّانيّ عامٌّ شامل صالحٌ للبشر كافّةً مهما تبايَنَت درجةُ رقِيِّهم أو اختلفت مراتِب حضارتهم، نهجٌ لا تشتَبِه فيه السّبُل ولا تلتوي فيه المسالك، يسَّر الله للأمّة فيه اتِّباعه وأوضح لهم معالمَه.
وإنَّ لرَفعِ الحرجِ في الدين أمثِلةً بيِّنة وشواهدَ واضحة، منها إباحةُ التيمُّم عند فَقد الماء وعند التأذِّي باستعماله لمرضٍ ونحوه ومنها إباحةُ الصلاة قاعِدًا للعاجز عن القيام، ومنها إباحة الفِطر للمسافر والمريض والحامِل والمرضِع، ومنها قَصر الصلاة الرباعيّة والجَمع بين الصلاتين للمسافِر وسقوط الصلاة عن الحائِض والنّفَساء، ومنها عدمُ وجوب الحجّ على من لم يستطع إليه سبيلاً، ومنها إباحةُ الأكل من الميتَةِ للمضطرّ الذي أشرف على الهلاكِ وليس عنده ما يسدّ رَمَقه، على تفصيلاتٍ لهذا كلِّه مبسوطةٍ في مواضعها في كتُب أهل العلم، إلى غيرِ ذلك من الأمثلة ممّا يدخل في إطارِ التيسير ويتِمّ به رفعُ الحرج عن الأمة، فيكون المصير إليه أخذًا برخصةِ الله لعباده وتجافِيًا عن الحرَج ودَفعًا للعَنَت، وتلك قاعدةٌ عامّة وأصل يتفرَّع عنه حشدٌ وافِر من الفروع في العباداتِ والمعاملات، وكلُّها دائِر في نطاقِ رفع الحرج وسلوك سبيلِ التيسير كما أشار إليه سبحانه في قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ [البقرة:185].
ومِن مِشكاة النبوَّة قول رسول الله في الحديث الذي أخرجَه الشيخان في صحيحيهِما عن أنسِ بن مالك رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشّروا ولاَ تنفِّروا)) [2] ، وفي الصَّحيحَين أيضًا عن عائشةَ رضي الله عَنها أنها قالت: ما خُيِّر رسولُ الله بين أمرَين إلاّ اختَارَ أيسَرَهما ما لم يَكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعدَ الناسِ عنه. الحديث [3].
غيرَ أنَّ لتحديد المشقَّة التي تجلِب التيسير ضابطًا شرعيًّا يجِب اعتباره، إذ ليس كلُّ جَهدٍ يُعَدُّ مشقّةً، وليس كلُّ مَرضٍ يُبيح الأخذَ برخصة الفطر، وليس كلُّ جوعٍ يرخَّص معه في أكل لحمِ الميتة كما يظنّ بعض الناس، بل المشقَّة نوعان:
مشقّةٌ معتادة لا تُعتَبَر في العرفِ السليم من المشقّات، كجهد العامِل في نهارِ الصّوم والوَعكَةِ العابِرة المحتَمَلة والجوعِ المؤقَّت لظرفٍ طارئٍ لا إشرافَ فيه على الهَلاك، فكلُّ ذلك وأمثاله لا يعتَبَر عُسرًا وحرَجًا يُراد رفعُه؛ ولذا فإنَّ الشارع لا يقصدُ إلى رفع ما كان من هذا القبيل المعتادِ، إذ لا يخلو كلُّ عملٍ عن مشقّة حتى في ضروراتِ الحياة من الأكل والشّربِ ونحوهما.
أمّا النوع الثاني فهو المشقَّة الزائدةُ عن المعتاد حتى تضيقَ بها الصدور وتستنفدَ الجهود ويكون لها الأثر السيِّئ في نفس المرء أو ماله، وربما أفضَت به إلى الانقطاع عن كثيرٍ من الأعمال النّافعَة التي يزكو بها عملُه ويعظم بها رصيدُه من الخير في مختلفِ ضُروبِه، فهذه المشقَّة هي التي منَّ الله على الأمّة برفعها عنهم تيسيرًا ورَحمة وتخفيفًا، وهي المقصودَة في نصوص الوحيَين.
وصَفوةُ القول وغايتُه ومدارُه ـ يا عباد الله ـ إنما هو علَى هذه اللّمسةِ الحانية الرفيقةِ التي تملك على المسلم مشاعِرَه، وتوجِّهه إلى ربِّه الأعلى الكريم الرحيم الذي يربِّي عباده بما يشرَعه لهم، كما يربِّيهم بما يُنعم به عليهم، فيشرَع لهم من الشرائع المشتَمِلة على ألوان كثيرةٍ من التيسير وضروب شتَّى من رفع العنَت ما يغرس في قلوبهم حبَّه سبحانه وحبَّ دينه وكتابه ورسولِه صلوات الله وسلامه عليه، ذلك الحبّ الذي يورِثهم كمالَ الخضوع والإنابةِ إليه سبحانه وتمامَ التعظيم لأمرِه ونهيه ودوامَ الإقبال على طاعتِه بذكره وشكرِه وحسنِ عِبادته والنزولِ على حكمِه.
ألا وإنَّ رفع الحرجِ في الإسلام هو مزيّةٌ من أوضح مزايا هذا الدين، ومنقَبَة من أعظم مناقبِه، ومقصد من أجلّ مقاصدِه، فحريٌّ بدعاةِ الخير وحمَلَة مشاعل الهداية وأنصار الحقّ وورثة الأنبياء أن تعظُم عنايتُهم وتدأبَ جهودُهم في بيانِ هذا البابِ الجليل من أبوابِ الهدَى في أوساط المسلِمين وغيرهم، قيامًا بواجب البيانِ الذي أخذه الله على أهلِ العلم، وتأثُّمًا من الكِتمان، وذبًّا عن حياض هذا الدين، وذَودًا عن حوزَتِه؛ ليكونَ كما أراد الله له منارًا للمدِلِجين وضياء للسالكين ودليلاً للحائرين، ولِيكون في الأخذ به رفعُ الحرج والآصارِ والأغلال وإقامةُ معالم الحنيفيّة السمحةِ، وصدق الله إذ يقول: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78].
نَفَعني الله وإيّاكم بهدي كتابِه وبسنة نبيِّه ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلِمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه إنّه كان غفَّارًا.
[1] تفسير القرآن العظيم (1/191).
[2] صحيح البخاري: كتاب العلم (69)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1734).
[3] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3560)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2327).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا يبلِّغنا رِضاه، أحمده سبحانه لا رَبَّ غيره ولا إلهَ سِواه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنَّ سيِّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله وخِيرته من خلقه ومُصطفاه، اللّهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه.
أمّا بعد: فيا عباد الله، إنَّ الأخذَ بما رخَّص الله لعبادِه وتفضَّلَ به عليهم ليس لأجل ما فيها من رفعٍ للحرج وتيسير على الأمّة فحسب، بل لأنَّ الأخذَ بها أمرٌ محبوب عند الله تعالى كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسندِه وابن خزيمةَ وابن حبّان في صحيحيهما والبيهقيّ في شعب الإيمان بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله أنّه قال: ((إنَّ الله تعالى يحِبّ أن تؤتَى رخصه كما يكرَه أن تؤتَى معصيته)) [1] ، وأخرج ابن خزيمةَ وابن حبان في صحيحيهما والبيهقيّ في سننه الكبرى بإسنادٍ صحيح أيضًا عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله أنّه قال: ((إنَّ الله يحب أن تؤتَى رخصُه كما يحِبّ أن تُؤتى عزائِمُه)) [2].
وفي هذا البيان النبويِّ الكريم ـ يا عباد الله ـ ما يرفَع توهُّمَ أنَّ الأخذَ برُخَص الله لعباده موصوفٌ بالنّقص أو التقصير أو عدَمِ الوفاء بالواجبات على الوجهِ الذي يحبُّه الله ويرضَاه؛ إذ بَيّنَ عليه الصلاة والسلام بيانًا جليًّا واضحًا أنَّ الأخذَ بالرّخَص هو كالأخذ بالعزائم ما دامَ أنَّ كلا منهما مستعمَلٌ في موضِعِه بمراعاة ضوابطه.
فاتَّقوا الله عباد الله، وانهَجوا نهجَ التيسير ورفعِ الحرج الذي رضِيَه الله لكم وتصدَّق به عليكم، فاقبلوا صدقتَه.
واذكروا على الدوامِ أنَّ الله تعالى قد أمركم بالصَّلاة والسلامِ على خيرِ الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعليّ، وعن سائر الآلِ والصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوِك وكرمك وإحسانك يا أكرمَ الأكرمين.
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين...
[1] مسند أحمد (2/108)، صحيح ابن حبان (2742)، شعب الإيمان (3/403)، وقال المنذري في الترغيب (2/87): "رواه أحمد بإسناد صحيح، والبزار والطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما"، وصححه الألباني في الإرواء (564) على شرط مسلم.
[2] صحيح ابن حبان (3568)، سنن البيهقي الكبرى (3/140). وفي الباب عن ابن عباس وابن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك وأبي الدرداء وأبي أمامة وواثلة بن الأسقع وعائشة رضي الله عنهم.
(1/4038)
خطر السكوت على المنكر
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
27/3/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غربة الدين في آخر الزمان. 2- سبب اغتراب الدين في أوطان المسلمين. 3- ذم السكوت عن المنكرات. 4- صمام الأمان. 5- خطر المجاهرة بالمعاصي. 6- التحذير من مساندة أهل العصيان. 7- وصية أهل الحسبة بالصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله، فإنَّ تقواه أفضل مكتسب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، يعظم الكَيدُ في آخرِ الزَّمان، وتتواصَى قوَى الباطلِ والطّغيان، وتشتدُّ الغربة على أهل التقوى والإيمانِ، غربةُ أديان لا غربةُ أوطان، ولكلِّ شيءٍ عَلَمٌ، وعَلَمُ الخذلان ركوبُ المجونِِ والعِصيان. وتحصلُ غربةُ الإسلام بنقصِه ونقضه وتركِه وهَجْرِه وتهوين أمره وإهمال نصرِه والرِّقّة والتجوّزِ فيه والاستهانة بحرُماته وغلَبة الوقوع في الكبائر والتساهل إلى حدِّ الفسوق والتفلّتِ الأخلاقيّ والفساد والاجتماعيِّ والسلوكيّ وخَرْق هيبةِ الشرع ونظامِ الدين والمجاهرةِ بقبائِحِ الأفعال وفِعل ما لا يسوغ في دينِ الإسلام وغلَبَة أهل الباطل وظهورِ أهلِ الخنا والفجور واندراس شعيرةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى لا يبقى منها إلا رسومٌ واتِّباعِ الأهواءِ المضِلّة والأغراض الفاسدة والأقوال الشّاذّة وزلل المفتِينَ ورخَصِ المتساهِلين ومقابلةِ نصوص الكتاب والسنة ونَقض محالِّ الإجماع بقَعقَعة التأويل وجَعجَعة الإصلاح والتغيير وفرقعةِ الانفتاح والتنوير.
فلسفاتٌ فارغة من الدين، حاكَها الرُّعْنُ المنافقون، وصاغَها الهُوجُ المبطلون، سرايا إبلِيس، وأعداءُ العفَّة والفضيلة، وخصومُ الإسلام، ودُعاة التحلُّل والفجور والغِواية، وصدق رسول الهدى : ((بدَأ الإسلامُ غريبًا، وسيَعود كما بدأ غريبًا، فطوبى للغرباء)) أخرجه مسلم [1]. طوبَاك أيّها المتمسِّك بكتاب الله في زمن الفتن، طوباك أيّها العامِلُ بسنّة النبيِّ الأكرَم محمّدٍ في عصر المحن.
أيّها المسلمون، إنّ نبتَةَ اغتراب الدينِ في أوطانِ المسلمين الإجهارُ والإظهار بالمَعَاصي والأوزار والتغاضي عن العُصاة المبايِنين والفسَّاق المستعلِنين والإدهانُ لهم والملايَنَة معهم ومصانَعَتُهم على حِساب العقيدة والشريعة والدين. قال ابن بطّالٍ رحمه الله تعالى: "في الجهرِ بالمعصيةِ استخفافٌ بحقِّ الله ورسوله وبصالحِي المؤمنين، وفيه ضَربٌ من العناد لهم" [2].
أيّها المسلمون، إنَّ السّكوتَ عن الآثِم المجاهر والمنكرِ الظاهر عيبٌ في أهل الإسلام ودليل نقصِ وَلائهم لدين الله وجِهادِهم لإعلاء كلمتِه وشرعه وجهادِهم لإعلاءِ سنّة نبيِّه محمَّد ، وهو عَلامةٌ على ضعفِ إيمانهم وقِلّة توكُّلهم على من بيَده كلُّ حركةٍ وسكون ومَنْ أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن يكون، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71]، فجعل الأمرَ بالمعروف والنّهيَ عن المنكر مِن أوَّلِ صفاتهم وأعظمِ سمَاتهم.
وعن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلِسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) أخرجه مسلم [3] ، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((ما من نبيٍّ بعثَه الله في أمّةٍ قبلي إلاّ كان له مِن أمَّته حواريّون وأصحابٌ، يأخذون بسنَّته، ويقتَدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدِهم خلوفٌ، يقولون ما لا يفعلون، ويفعَلون ما لا يؤمَرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمِن، وليس وراءَ ذلك من الإيمان حبّةُ خردل)) أخرجه مسلم [4].
أيّها المسلمون، الساكتُ عن المنكر حالَ الإظهار وعدم الاستتار مع إمكانِ الإنكار شريكٌ لا يسلَمُ من التبِعة، ولا ينجو من الإثم والحرج، يقول جلّ في علاه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ [الأنفال:25]. فِتنةٌ تتعدَّى المذنِبَ المباشر والظالم المجاهِرَ لتصيبَ الصالح والطّالح، بسَبَب عُصبة فاسقةٍ لم تُقمَع ومنكراتٍ ظاهرة لم تُدفَع وتجاوزاتٍ للشَّرع لم تُمنَع. فإن قيل: فما ذنبُ من لم يظلِم؟ قيل: بموافَقَتِه الأشرار أو بسكوته عن الإنكار استحقَّ عقوبة الجبّار.
وإذا تظاهر الناسُ بالمنكر وأتَوه جِهارًا وجَب إنكارُه على من رَآه، فإذا سكَتوا جميعًا فالكلُّ عُصاة: هذا بفعلِه وهذا برضاه، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما مِن رجلٍ يكون في قومٍ يعْملُ فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيِّروا عليه فلا يغيّروا إلاَّ أصابهم الله بعذابٍ من قبل أن يموتوا)) أخرجه أبو داود [5] ، وعن أبي بكرٍ الصدّيق رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((إنَّ الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخذوا على يدَيه أوشك أن يعمَّهم الله منه بعقاب)) أخرجه أبو داود وغيره [6]. غايةٌ في التشدِيد ونهايةٌ في التهديد بأوفى وعيدٍ، نسأل الله أن يتدارَكَنا بعفوه ولطفِه ورحمتِه، وأن يهديَ ضالَّنا ويصلحَ شبابنا وفتياتنا.
يقول الإمام القرطبيّ رحمه الله تعالى: "قيل: كلُّ بلدةٍ يكون فيها أربعة فأهلُها معصومون من البلاء: إمامٌ عادِل لا يظلِم، وعالمٌ على سبيلِ الهدى، ومَشايخ يأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر ويحرّضون على طلب العلم والقرآن، ونساؤهم مستوراتٌ لا يتبرَّجن تبرُّج الجاهلية الأولى" [7].
أيّها المسلمون، لا ينجو من البلاء إلاَّ الناهون المصلِحون، وخسِر هنالك الخُرس المداهنون والعصاةُ المجاهرون الراسخون في الإجرام القاطِعون لأمر الله على الدَّوام، قال جلَّ في علاه: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]، وفي هذه الآيةِ أعظَمُ زاجرٍ عن التشبُّه بحالهم الموقِعِ في مَثيل نَكالهم. ويقول جلّ في علاه: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116، 117]، قليلٌ نجَوا مِن العذاب؛ لأنهم نهَوا عن الفَساد.
أيّها المعلنُ المكاشِف، حلّت بك الخيبَةُ والخسار يومَ رُفِعَت عنك العافية وتردَّيتَ في الهاوية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((كلُّ أمّتي معافى إلاّ المجاهرين، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعملَ الرجلُ بالليل عملاً، ثم يصبح وقد سترَه الله، فيقول: يا فلان، عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يستره ربُّه، ويُصبح يكشِف سترَ الله عنه)) أخرجه البخاري [8].
أيّها المسلمون، أنكِروا على من كاشَف بمواقعةِ الحدود، وعِظوا من جاهر بملابسةِ الذنوب، ولا توانَوا ولا تواكَلوا ولا تواهَنوا ولا تكاسَلوا، استفرِغوا الوسعَ وابذلوا الجهود قبل أن يستشرِي المُرود ويستَعليَ الصدود ويكثُرَ الشُّرود، فعن العُرْسِ بن عميرة الكنديّ رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((إذا عُمِلت الخطيئة في الأرضِ كان من شهِدها فكَرِهَها ـ وقال مرّة: فأنكَرَها ـ كان كمَن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضِيَها كان كمن شهِدها)) أخرجه أبو داود [9] ، يقول الحافظ ابنُ رجب رحمه الله تعالى: "فمن شهِد الخطيئةَ فكرِهها بقلبه كان كمن لم يشهدها إذا عَجز عن إنكارها بلسانِه ويدِه، ومن غاب عنها فرضيَها كان كمن شهِدَها وقدِر على إنكارِها ولم ينكِرها؛ لأنَّ الرِّضا بالخطايا من أقبح المحرمات" [10].
أيّها المسلمون، ويلٌ لمن جالس أهلَ المعاصي والمنكرات، أو فرِح بظهورِهم، أو رضيَ بباطلهم، أو أشادَ بأفعالهم، أو ساعَدَهم وساندهم، أو أعلَن فجورَهم، أو كثّر سوادَهم، ومن كثَّر سوادَ قومٍ فهو منهم، ومَن رضِيَ عمَلَ قومٍ كان شريكَ مَن عملَ به، والرِّضا بالمعصية وِزر، والرِّضا بالكفر كفر، قال جل في علاه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140].
فويلٌ لمن عَرّض نفسَه لمَقتِ الله وغضَبِه وعذابه وسخَطِه، ويلٌ له يوم يلقَى شؤمَ فعله وعاقبةَ أمرِه ومَكرِه، وكان عاقبةُ أمرِه خسرًا.
وَقاني الله وإياكم سبيلَ الخاسِرين، وجعلنا جميعًا من الهداةِ المهتَدين المتَّبعين لسنّة سيّد المرسلين محمّد ، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئةٍ، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (145) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] انظر: فتح الباري (10/487).
[3] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (49).
[4] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (50).
[5] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4339)، وأخرجه أيضا أحمد (4/364، 366)، وابن ماجه في الفتن (4009)، والطبراني في الكبير (2/332)، وصححه ابن حبان (300، 302)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3646).
[6] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4338)، وأخرجه أيضا أحمد (1/2، 5، 7)، والترمذي في الفتن (2168)، وابن ماجه في الفتن (4009)، وأبو يعلى (130، 131)، والبيهقي في الكبرى (10/91)، وصححه الترمذي، وابن حبان (305)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3644).
[7] الجامع لأحكام القرآن (4/49).
[8] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6069)، وأخرجه أيضا مسلم في الزهد (2990).
[9] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4345)، وأخرجه أيضا ابن قانع في معجم الصحابة (2/309)، وابن عبد البر في التمهيد (23/313)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3651).
[10] جامع العلوم والحكم (ص321).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانهِ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله وراقِبوه، وأطيعوه ولا تَعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المسلمون، عجَبًا لزمنٍ مَن أنكر فيه قلّ مجالِسوه وكثُر مجافوه، ومَن داهن فيه كَثُر معاشروه وقلَّ معادوه. من تصدَّى للإنكار ثقُل على القلوب ورمِيَ بالكذب وقُصد بالأذى وقوبِل شرَّ مقابلةٍ، زلَلُه غيرُ مغفور، وفضلُه غير مذكور، وخَيرُه غير مشكور.
فعلَى طالبِ الآخرة أن ينتظمَ في سِلك المصلحين ويصبرَ على ما يصيبُه في ذاتِ الله من أذَى السافِلين واعتداء الجاهلين وغرورِ المتكبِّرين، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "فكلُّ من قام بحقٍّ أو أمرَ بمعروف أو نهى عن منكرٍ فلا بدّ أن يؤذَى، فما له دواءٌ إلاّ الصّبرُ في الله والاستعانة بالله والرجوع إلى الله عزّ وجلّ" انتهى [1] ، يقول جلّ في علاه: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].
أيّها المسلمون، إنّ ثمرة الاستماع الاتِّباع، فكونوا منَ الذين يستمِعون القول فيتَّبعون أحسنَه.
واعلَموا أنَّ الله أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائِكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيَّه بكم أيّها المؤمنون مِن جِنِّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلم على نبينا وسيّدنا محمّد، بشير الرحمة والثواب، ونذير السَّطوة والعقاب، الشافع المشفَّع يومَ الحساب، اللّهمّ وارضَ عن جميع الآل والأصحاب...
[1] تفسير القرآن العظيم (1/437).
(1/4039)
مزمار الشيطان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي
محمود الدالاتي
حمص
3/7/1424
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم الغناء والمعازف. 2- السمع أمانة. 3- مفاسد الغناء. 4- اتفاق العلماء على حرمة الغناء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أوصيكم ـ عباد الله ـ بتقوى الله، وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [الأنعام:72].
وبعد: أيها الإخوة المؤمنون، مرض خطير قد تفشّى في الأمة يزداد يومًا بعد يوم، يطغى به أصحابه، وينحرف به أربابه، حتى جعلوه شغل الناس الشاغل، ودخل كل بيت، وجرى على كل لسان، وأفسد كل جنان، وعربد فيه الشيطان، وغضب من أجله الرحمن، إنه الغناء، إنه اللهو، إنه الطرب، إنه مزمار الشيطان.
أسماؤه دلت على أوصافه تبًّا لذي الأسماء والأوصاف
قال الله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ ?لْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى? عَلَيْهِ ءايَـ?تُنَا وَلَّى? مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان:6، 7]. قال ابن مسعود : (والله الذي لا إله غيره، إنه الغناء) يرددها ثلاث مرات، وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه الغناء، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، وهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم الذين فسّروا لهو الحديث بالغناء شهدوا الوحي والتنزيل، فهم أعلم الناس بكلام الله.
وقد حذّر النبي من سماع الغناء واتخاذ المعازف أشد التحذير؛ نظرًا لما فيه من المفاسد والشرور. روى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلّون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف)) أي: الزنا والحرير والخمر والمعازف. ولاحظوا اقتران هذه الموبقات الأربع مع بعضها البعض.
وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله : ((يكون في أمتي خسف وقذف ومسخ)) ، قيل: يا رسول الله، متى؟ قال: ((إذا ظهرت المعازف والقَيْنَات واستحلت الخمرة)) صحيح، أخرجه أحمد والترمذي والطبراني واللفظ له، قال الهيثمي في المجمع (8/10): "وفيه عبد الله بن أبي الزناد، وفيه ضعف، وبقية رجال إحدى الطريقين رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2203).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورَنّة عند مصيبة)) أخرجه البزار والضياء بسند حسن.
ألا وإن الغناء هو صوت الشيطان، يستفزّ به بني الإنسان إلى الفجور والعصيان، قال تعالى: وَ?سْتَفْزِزْ مَنِ ?سْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى ?لاْمْو?لِ وَ?لأولَـ?دِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ إِلاَّ غُرُورًا [الإسراء:64]، قال مجاهد: عن ابن عباس حبر الأمة رضي الله عنهما قال عن استفزاز الشيطان بصوته: إنه الغناء والمزامير واللهو، وقال الضحاك أيضًا: صوت الشيطان في هذه الآية هو صوت المزمار.
والسمع أمانة عظمى ومنّة كبرى امتنّ الله على عباده بها، وأمرهم بحفظها، وأخبرهم بأنهم مسؤولون عنها، وإن استماع الأصوات المطربة وما يصحبها من المزامير والطنابير جحود لهذه النعمة واستخدام لها في معصية الله، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطى، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)) رواه مسلم.
والغناء بريد الزنا ومن أقوى جنوده، ففيه الدعوة إلى الموعد، والدعوة إلى الجلوس والخلوة مع المحبوب، والغرام والعشق والصداقة، والتأوه والتأسف لفراق المحبوب، والدعوة إلى التهتك والسفور وغير ذلك مما لا يخفى عليكم ضرره وفحشه وإسفافه، قال الفضيل بن عياض: "الغناء رُقْيَة الزنا"، وقال يزيد بن الوليد: "يا بني أمية، إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل المسكر، فإن كنتم ولا بد فاعلين فجنبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا" أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (ص41).
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده: "ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها يُنبِت النفاقَ في القلب كما يُنبِت العشبَ الماء" أخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي (ص40-41).
وكتب لعمر بن الوليد كتابًا جاء فيه: "وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام، ولقد هممت أن أبعث إليك من يجزُّ جمّتك جمة السوء" أخرجه النسائي في كتاب الفيء من المجتبى، وصححه الألباني في صحيح السنن.
والنساء هن أكثر من يتأثرن بالغناء من جهة الصوت والأنغام، ومن جهة معنى الكلمات، وربما يورث ذلك أن تحب الفتاة ذلك المغني، ومن ثم تجد صورته وأغانيه لا تفارقها، فأي فتنة في الدين أعظم من هذه؟!
والغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل كما قال ذلك ابن مسعود ، وهذا كلام صحيح، أليس الغناء يهيج النفوس إلى الشهوات، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح؟! أليس هو الذي يسوق النفوس إلى وصل كل امرأة؟! فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا رهان، فإنه صِنْو الخمر ورضيعه ونائبه وحليفه وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما عقد الإخاء الذي لا يُفسخ، وأحكم بينهما شريعة الوفاء التي لا تنسخ، وأكثر ما يورث الغناء عشق الصور واستحسان الفواحش.
وعجبًا من أمة تغني طربًا في حين أنها مثخنة بالجراح والدماء، مثقلة بتلال الجماجم والأشلاء، يُنال من كرامتها، ويُعتدى على أرضها وعرضها ومقدساتها في الصباح والمساء، تغني طربًا، وكأن لم يكن ثمّ حروب شديدة ووقائع مبيدة وقتال مستعر وأمم من المسلمين تحتضر، نعوذ بالله من موت القلوب وطمس البصائر.
ولذلك فقد أفتى الأئمة الأربعة بتحريم الغناء، فأما الإمام مالك رحمه الله فإنه نهى عنه وقال: "إنما يفعله عندنا الفساق"، وقال: "إذا اشترى الرجل جارية فوجدها مغنية كان له أن يردها بالعيب". وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار، وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق، وترد به الشهادة. وأما الشافعي فقد صرح أصحابه بتحريمه، ويرون أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة، وأن الاستئجار على الغناء باطل، وأن أكل المال بالغناء هو أكل مال بالباطل، كما لا يجوز لرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك، وأنّ بذله في ذلك كبذله في مقابلة الدم والميتة. وأما مذهب الإمام أحمد فقال ابنه عبد الله: سُئل أبي عن الغناء؟ فقال: "الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني". ثم ذكر قول مالك: "إنما يفعله الفساق".
قال ابن القيم: "ومن مكائد الشيطان التي كاد بها من قل نصيبه من العقل والعلم والدين وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة الذي يصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان، فهو قرآن الشيطان والحجاب الكثيف عن الرحمن، وهو رقية اللواط والزنا، وبه ينال العاشق الفاسق من معشوقه غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها مكرًا منه وغرورًا، وأوحى إليها الشبه المبطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجورًا، فلو رأيتهم عند ذيّاك السماع، وقد خشعت منهم الأصوات، وهدأت منهم الحركات، وعكفت قلوبهم بكليتها عليه، وانصبت انصبابة واحدة، يتمايلون كتمايل النشوان، ويتكسرون في حركاتهم ورقصهم كتكسر النسوان والعياذ بالله، ـ ثم قال: ـ وهو خمارة النفوس، يفعل بالنفوس أعظم من فعل الكؤوس، ولغير الله، بل للشيطان قلوب هناك تمزق، وأموال في غير طاعة الله تنفق، قضوا حياتهم لذة وطربًا، واتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن، لو سمع الواحد منهم القرآن من أوله إلى آخره لما حرك له ساكنًا، ولا أزعج له قاطنًا، حتى إذا تلي عليه قرآن الشيطان ـ يعني: الغناء ـ وولج مزموره سَمعَه تفجرت ينابيع الوجد من قلبه إلى عينه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وإلى يديه فصفقت، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله الواحد الديان، عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل" اهـ.
تُلِيَ الكتاب فأطرقوا لا خيفة لكنه إطراق ساه لاهي
وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله ما رقصوا لأجل الله
ثقل الكتاب عليهم لَمَّا رأوا تقييده بأوامر ونواهي
إن لَم يكن خمر الْجسوم فإنه خمر العقول مُماثل ومضاهي
فانظر إلى النشوان عند شرابه وانظر إلى النسوان عند ملاهي
ومن مفاسده اقتران غناء اليوم بالتصوير الفاضح للبغايا والمومسات، فما من مطرب إلا ويترنح حوله نفر من الراقصات، وما من مطربة إلا وحولها نفر من الرجال يتراقصون ويتمايلون، فمن يجيز ـ يا أمة الإسلام ـ مثل هذا الاختلاط والسفور والرقص وتعرية النحور؟!
ومن مفاسده إنفاق الأموال الطائلة في هذه المعصية، فالمطربون يتقاضون أجورًا باهظة بمئات الآلاف، لا سيما في الحفلات الخاصة، ويسهم الحضور بدفع هذه الأجور، وهذا سفه وتبذير، والمولى عز وجل يقول: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ [الإسراء:27].
ثم إن بعض الأغاني فيها أقوال وألفاظ مخالفة للشريعة، وأحيانًا تكون هادمة للعقيدة، والاستماع إليها والقبول بها والرضا عنها قد يكون مزلقة للكفر والعياذ بالله تعالى.
ففي بعض الأغاني ما فيها من المحادة لله ولرسوله، ومن التعدّي على رسل الله الكرام، ومن تمييع للمعاني السامية والمثل الرفيعة، ومن الاعتراض على رب العالمين والاعتداء عليه وعلى ما هو مكتوب في اللوح المحفوظ، وغير ذلك مما يردده الجيل صباحًا ومساءً، فيصحو الشاب وينام على أنغامه، بل أصبح الكثير لا غنى له عن الغناء وسماعه.
أخي الكريم، لقد لحنوا الكفر الصريح والردة المعلنة عن دين الله بما غنوه من قصيدة الشاعر الكافر:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
ولقد أبصرت قُدّامي طريقًا فمشيت
كيف أبصرت طريـ ـقي لست أدري
والله تعالى يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذرايات:56]، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
وتقول قائلتهم: "لبِّستُ ثوبَ العيش لم أُستَشَر"، ويقول الآخر: "لو كنتُ أعلم خاتمتي ما كنتُ بدَأتُ". عجيب هذا! هل هم يحيَون ويموتون كما يشاؤون، ويفعلون ما يشتَهون؟! يريدون أن يُستشاروا في الحياة! من الذي سيستشيركم؟! وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص:68].
وبعضهم يتخرّص ويكذب على الله يقول: "الله أمَر، لعيونك أسهَر". قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28].
أما اعتداؤهم على أنبياء الله ورسله فاسمع إلى قولهم: "صبرتُ صبرَ أيّوب، وأيوب ما صبر صبري". اعتداء فاحش على نبيّ الله الكريم الذي ابتلاه مولاه سنوات طويلة فصبر، وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، وهؤلاء يقولون: "أيوب ما صبر صبري".
أما عقيدة القضاء والقدر ولوم الرب فلهم فيها النصيب الأوفر، يقول قائلهم: "ليه القسوة؟ ليه الظلم؟ ليه يا رب ليه؟". هكذا يتهم الله ـ تعالى الله ـ بالقسوة والظلم، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وهم يميّعون القيم العالية والمعاني الفاضلة، فمنزلة الشهادة منزلة عظيمة عند الله، وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، والشهيد هو الذي يقتل بين الصّفّين مقبلاً غير مدبر في سبيل الله، ثم يقول سفيههم: "يا ولدي، قد مات شهيدًا من مات فداءً للمحبوب". هكذا جعلوا هذا المقام العظيم مقام الشهادة، جعلوه للمحبوب.
ومن مخالفات العقيدة قولهم: "جلست والخوف بعينيها تتأمل فنجانَ المقلوب، قالت: يا ولدي، لا تحزن فالحبّ عليك هو المكتوب". اشتمل هذان البيتان على جلوسه مع امرأة تدّعي علم الغيب، فهي كاهنة وعرافة ومشعوذة تقرأ الفنجان المقلوب، واشتمل أيضًا على الكذب على الله في أنه كتب الحبّ على هذا الرجل، وادعاء علم الغيب كفر واعتداء على خصوصية من خصوصيات الله، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [الجن:26]، وقراءة الفنجان والكف وضرب الودع والتخطيط في الرمل والقراءة في كرة الكريستال كل ذلك من أعمال المشركين.
ويشيع عند المغنين سبّ الدهر والساعة والزمان والعمر يقولون: "قدَر أحمق". ثلاثون سنة والكفر يُذاع على المسلمين صباحًا ومساءً في كل الإذاعات، ولم يستطع أحد أن يمنع شتيمة الله عز وجل، والنبيّ يقول: ((لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر)). هذا بعض ما يقال.
لقد اعتدى هؤلاء المغنون على الشريعة، وما أبقوا عزيزًا إلا أذلوه، ولا غاليًا إلا لطخوه بهذه الكلمات، فيا أمة محمّد ، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فطهّروا بيوتكم ودكاكينكم وأسواقكم وسياراتكم ومدارسكم وكل ما استرعاكم الله عليه من تلك الأغاني والمعازف، وتلك الرعاية أمانة في أعناقكم، وسوف تسألون عنها يوم الوقوف بين يدي الله تبارك تعالى كما قال عز وجل: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ?للَّهُ نَفْسَهُ وَ?للَّهُ رَءوفُ بِ?لْعِبَادِ [آل عمران:30].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4040)
حرمة الدماء المعصومة في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحدود, الكبائر والمعاصي
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
27/3/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أول جريمة قتل في الأرض. 2- الحكمة من تعظيم جريمة القتل. 3- حرمة دم المسلم والتغليظ فيه. 4- لا تزر وازرة وزر أخرى. 5- لا عصبية لغير الإسلام. 6- عوامل الحد من انتشار القتل. 7- الأقصى في خطر. 8- الإشادة بحفظة كتاب الله وحفل تكريمهم في القدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32].
وبعد: أيها المسلمون، فإن الطغيان والظلم والعدوان يرجع تاريخه إلى عهد بعيد في الزمن الغابر، حين اعتدى أحد بني آدم على أخيه وسفك دمه ظلمًا وعدوانًا واندفاعًا نحو تحقيق الأطماع والمصالح الذاتية، فكان قدوة سيئة للعدوان والطغيان، وباء بالخسران وبالخزي والندامة على فعلته البشعة. وقد قصّ الله تعالى في القرآن الكريم خبر هذا الطغيان والعدوان يتلى إلى الأبد، إنذارًا وتحذيرًا، ولئلا تسلك البشرية سبيل المعتدين فيصيبها ما أصابها، قال الله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ [المائدة:27-31].
ومن أجل أن الموعظة والتحذير لا يجديان في بعض الجِبلاّت المطبوعة على الشرّ وأن المسالمة والموادعة لا توقفان الاعتداء حين يكون الشر عميق الجذور في النفس، من أجل ذلك جعل الله تعالى جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة كبيرة، تعدل جريمة قتل الناس جميعًا، وجعل العمل على دفع القتل وإحياء نفس واحدة عملاً عظيمًا يعدل إنقاذ الناس جميعًا: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32].
أيها المؤمنون، إن سنة الطغيان واحدة في كل زمان ومكان، إنها اندفاع نحو الشر، تحقيقًا للأغراض والأطماع لكل طاغية معتد، فيه من أوصاف من عناهم رب العزة بقوله: لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ [التوبة:10]، أي: لا يراقبون في العباد قرابة، ولا يحفظون عهدًا، ولا يبقون على أحد لو ظهروا أو انتصروا، الكل في شريعة الطغاة المعتدين أناس لا يستحقون الحياة.
وإن شر الطغيان وأفظع ألوان العدوان سفك الدماء التي حرم الله قتلها إلا بالحق، والمسلم قد حقن الله دمه كما جاء في الحديث الشريف: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه ))، فمن اجترأ على قتله دون جناية أو قصاص فقد حادّ الله ورسوله وارتكب كبيرة من الكبائر؛ مما يجرّ عليه الوبال والدمار، ويصطلي بها العذاب خالدًا في النار، كما قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وجاء في الحديث الشريف: ((لو اجتمع أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأَكَبّهم الله في النار)) ، وفي حديث آخر: ((من أعان على قتل مسلم ولو بِشَطْرِ كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه: آيس من رحمة الله)).
أيها المؤمنون، لقد ضيّق الإسلام دائرة إراقة الدماء المسلمة، وجعلها درءًا لمفسدة أكبر أو ضرورة لإقامة العدل واستتباب الأمن في المجتمع، فقد صح عن رسول الله أنه قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
أيها المؤمنون، ولكي ينتشر الأمن في ربوع المجتمعات لا بد من حصانة الإنسان أنّى كان، وعدم تجريمه إلا بدليل قاطع، وهذا هو الحق المشروع لكل البشر. ومن السنن الإلهية براءة البشر وعدم إدانتهم بذنب الآخرين، وعدم أخذهم قبل إتمام الحجة عليهم، وأن لا يؤخذ البريء بجُرم غيره، وهذا من تجليات العدل الإلهي، قال الله تعالى: أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى [النجم:38، 39].
وعلى هذا فإن كل إنسان يتحمّل وحده مسؤولية أفعاله، ولا يظلم أحد بتحميله وزر غيره، إلا إذا كان قد صدر منه ما يستوجب تقصيره، فيتحمّل وزر نفسه بقدر تقصيره، فلا يجوز العقاب الجماعي المعمول في الأنظمة الظالمة، ولا يجوز ملاحقة ذوي القرابة بسبب اتهام قريبهم بجريمة.
أيها المسلمون، إن الصفات السيئة ـ والتي منها رذيلة التعالي وفاحشة الحسد ـ قد تمسي خطيرة على حياة البشر، وعلى المؤمن أن يسعى جاهدًا لتطهير نفسه منها، كما ينبغي أن يسعى المجتمع المؤمن نحو تزكية النفوس من رواسب العصبية والأنانية؛ لكي يقتلع جذور الفساد والجريمة.
لقد تبرّأ رسول الهدى عليه الصلاة والسلام من كل العصيبات كيفما كان لونها واتجاهها، ووضعها تحت قدميه، إلا العصبية للإسلام، وتبرّأ ممن لا ينتمي إليها، إذ يقول: ((من قُتِل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية)) ، وقال: ((ليس منا من قاتل على عصبية)). وما ذلك إلا لجمع شمل المسلمين والاتجاه بهم إلى توحيد الصفوف وتوحيد الكلمة تحت شعار الإسلام وكلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إن محور التربية السليمة هو التقوى، وإن التنافس والتسارع إلى الخيرات بالتقوى خير من الصراع والتنافس على حطام الدنيا.
إن الحياة من الحقوق الأساسية للبشر، وهي قيمة إيمانية نابعة من احترام الآخرين والاعتراف بكل حقوقهم، وهكذا كانت حرمتها من أعظم الحرمات في القرآن الكريم، وليس القتل جريمة عادية؛ إذ إنه مخالف لفطرة البشر، كما أنه من مفردات الظلم؛ لأنه استلاب لحق الحياة من صاحبها.
إخوة الإيمان، ومن أجل المحافظة على حرمة الدماء واحترام قيمة الحياة جعل الله سلطانًا لولي المقتول ظلمًا بدون إسراف، وجعل ميثاق المجتمع حرمة القتل، كما جعل القصاص حياة للمجتمع: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
ومن الصفات التي وصف الله بها عباد الرحمن بأنهم لا يقتلون النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ويترفعون عن كل مجالات الإثم وعن العدوان في مختلف ألوانه، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]، إلى أن قال: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:75، 76].
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، فإنه من أجل المحافظة على الحياة ووقف جرائم القتل لا بد من البيان بأن إزهاق الأرواح من كبائر الذنوب، وأن جزاء من يقتل مؤمنًا جهنم خالدًا فيها، وأنه لا بد أن يكون من ميثاق الأمة منع القتل، ووضع قصاص عادل للجاني، وعدم تكتم الناس على القاتل.
أيها المؤمنون، وفي ظل انتشار جريمة القتل والاعتداء على الآخرين أذكر أمورًا وأحكامًا من شأنها منع هذه الظاهرة، أو على الأقل التخفيف منها، وهي:
1- عدم جواز مبادرة الإنسان إلى قتل الآخرين أو إلحاق الأذى بهم لمجرد شعوره بأنهم يُضْمِرون له شرًّا، فالكثير من الجرائم تقع بسبب هذا الخوف، وحبذا أن يلتزم الناس بما قاله ابن آدم لأخيه: إنه لن يبسط إلى أخيه يده ليقتله. ولا يعني ذلك بالطبع منع الدفاع عن النفس، أو الاستسلام التام لقتله وللجناة.
2- المبادرة إلى أعمال الخير والاستباق فيها، كذلك يجب الامتناع عن المبادرة إلى الشر.
3- الاستفادة من عزمنا وإرادتنا وكل طاقاتنا الروحية والعقلية في المرحلة السابقة على الشيطان والنفس الأمارة في سعيهما لإضلالنا وتطويع وجداننا.
ومن هنا ينبغي الاهتمام بما يلي:
أ- نشر ثقافة قيمة الحياة الإنسانية في المجتمعات بكل وسيلة ممكنة، ومواجهة ومحاربة كل النعرات الجاهلية التي تستهين بالحياة البشرية.
ب- التخويف من عاقبة القتل، وبيان مدى الخسارة التي ستلحق بالقاتل في الدنيا والآخرة، وبيان ندم القاتل على جريمته.
ت - منع عرض أفلام القتل التي تجعل القتل عملاً سهلاً، بل ومقبولاً، كما وأنها تُعلّم أساليبه، وأيضًا الامتناع عن سماع الأغاني والأناشيد والأشعار والقصص التي تمجّد القتل.
والأهم من كل ذلك امتناع الناس عن أخذ القانون وتطبيقه بأيديهم.
وأخيرًا أقول: إن قيمة الحياة عظيمة، وعلى المؤمنين أن يحافظوا عليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
أيها المؤمنون، ومن الأمور التي تؤدّي إلى القتل ـ والتي يستهان بها من قبل البعض ـ الاتجار بالأغذية والأطعمة الفاسدة المنتهية صلاحيتها، فليتق الله المتاجرون بها، وليتذكروا الآخرة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيها العرب والمسلمون، فإنه ليس بخاف عليكم الوضع الذي يمرّ به ويشهده المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، رمز عقيدة المسلمين، وتاج عزّهم ورمز كرامتهم. إن مخاطر جَمّة تحيط به من كل جانب، وإن تهديدات المتطرفين المدعومين من جهات مسؤولة آخذة بالازدياد يومًا بعد يوم، وسط صمت عربي وإسلامي مريب.
إن هذه التهديدات والتصريحات لبعض المسؤولين الإسرائيليين حول تقسيم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه وبناء كنيس يهودي على جزء منه مرفوضة جملة وتفصيلاً، وغير مقبولة على جميع المستويات، وليعلم هؤلاء أن أي مساس بالمسجد الأقصى هو مساس بعقيدة المسلمين جميعًا.
وعلى العقلاء أن يعملوا على منع ووقف هذه التهديدات، وعلى العرب والمسلمين أن يتحملوا مسؤولياتهم بشكل كامل تجاه حماية المسجد الأقصى ومدينة القدس وأرض الإسراء والمعراج. كما يتوجب على أبناء شعبنا المرابطة فيه وزيارته والصلاة فيه على مدار أيام السنة؛ لتفويت الفرصة على هؤلاء الطامعين الحاقدين.
إخوة الإيمان، من الأمور الهامة والجديرة بالإشارة الاحتفال الذي أقامته وزارة الأوقاف قبل يومين لتكريم حفظة القرآن الكريم والفائزين بمسابقة الأقصى في حفظ القرآن وتجويده، وإن هذا الاحتفال قد كشف الستار وأماط اللثام عن وجود المئات بل الآلاف من حفظة القرآن والمرتلين له بأصواتهم الحسنة النديّة من أبناء شعبنا المرابط ومن مختلف الأعمار.
إن هذا الإقبال على حفظ القرآن وترتيله والعمل بأحكامه والسير على نهجه خطوة في الطريق الصحيح، حقًّا إنه يُبهِج النفوس، ويُثلِج الصدور، ويثبت أن شعبنا الفلسطيني بالرغم من كل العوائق والصعوبات المحيطة به متمسّك بتعاليم هذا الدين، حافظ لكتاب الله تعالى، حيّ لم ولن يموت بمشيئة الله. فبارك الله في هذه الكوكبة وفي القائمين على مراكز تحفيظ القرآن والمشجعين والداعمين لها.
(1/4041)
آفات الهوى
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أمراض القلوب, التربية والتزكية, الفتن
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
13/3/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من اتباع الهوى. 2- الفرق بين الإنسان والحيوان هو العقل. 3- الفرق بين منهج الله سبحانه وتعالى وبين مناهج البشر. 4- صور من اتباع الهوى. 5- عواقب اتباع الهوى. 6- سبل الوقاية من اتباع الهوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السرّ والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم : فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النزعات:37-41].
إنه اتّباع الهوى الذي حذّرنا منه المولى عز وجل، وحذّرنا منه نبينا محمد ، وبين خطره علماء الأمة. إنه الهوى الذي يغير الأمور فيجعل المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ويصبح المسلم ـ بل المتبع لهواه ـ لا يميز بين خير أو شر ولا بين حسن أو قبيح إلا ما أشرب من هواه. يقول النبي في الحديث الذي رواه مسلم: ((تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه)) ، فأصبح هواه هو الذي يسيره، فأصبح هواه هو الذي يقوده، فأصبح هوى النفس هو الذي يقود الإنسان الذي اتبع هواه.
فاتباع الهوى ـ يا عباد الله ـ أن تكون النفس هي القائدة للإنسان، تحسن له القبيح وتقبح له الحسن، وتقوده إلى المهالك فيطيعها في كل صغيرة وكبيرة، دون أن يبحث عن دين أو عن شرع أو عن خلق أو عن قيم أو عن مبادئ، وإنما يتبع هواه، أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:43]. لقد أصبح الهوى عند ذاك الإنسان الذي قادته نفسه الأمارة بالسوء وقاده الهوى والشيطان، أصبح الهوى إلهًا يعبده، يحلِّل له ويحرّم له، فيتبعه عند كل صغيرة وكبيرة.
إن الهوى ـ يا عباد الله ـ من أخطر الأمور التي يصاب بها الإنسان، ولنعلم ـ أيها المؤمنون ـ أن الفرق بين الإنسان وبين الحيوان هو هذا العقل الذي ميز الله به الإنسان، فجعله يميز بين الحسن والقبيح، وبين الضار والنافع، وبين ما ينفعه في دينه ودنياه وبين ما يضره، بيد أن الحيوان لا يعلم شيئًا من ذلك؛ لأنه لا عقل له، لكن النتيجة مختلفة، فالحيوان يكون ترابًا يوم القيامة لأنه غير مكلف، بينما الإنسان إما أن يصير إلى جنة وإما إلى نار بحسب حاله الذي كان عليه في الحياة الدنيا.
وينبغي أن نعلم أن الفرق بين منهج الله سبحانه وتعالى وبين مناهج البشر أن مناهج البشر تتبع الهوى وتسير وفق الأهواء ووفق الرغبات والشهوات، بينما منهج الله سبحانه وتعالى لا خطأ فيه ولا ميل؛ لأنه منزل من قبل رب الأرض والسماوات، وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [المائدة:49].
إن من يتحاكم إلى غير شرع الله قد اتبع الهوى، والهوى يختلف بحسب اختلاف الرغبات والشهوات، ومحالٌ أن يتفق الناس أصحاب الأهواء على منهج واحد؛ لأن الأهواء تختلف، ولأن الرغبات تختلف، بينما حكم الله واحد لا يتغير.
لما سرقت المخزومية في عهد النبي وأراد النبي أن يقطع يدها حز هذا الأمر في نفوس أصحاب الهوى من كفار قريش الذين يتحاكمون إلى العادات وإلى المبادئ الأرضية، فأرسلوا أسامة بن زيد إلى النبي ليشفع لتلك المرأة فلا تقطع يدها، فغضب النبي غضبا شديدا وقال: ((يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) رواه أبو داود وأحمد ومسلم بمعناه.
إنه منهج الله الذي لا يعرف المحاباة، ولا يعرف المداهنة، ولا يعرف الفرق بين الكبير والصغير، ولا بين الرئيس والمرؤوس، ولا بين الغني والفقير، فالناس أمام شرع الله سواسية كأسنان المشط، هكذا هو منهج الله، منهج ثابت دائم لا يتغير ولا يتبدل ولا يزول ولا يحول، هكذا هو المنهج الشرعي الذي أنعم الله به على هذه الأمة.
وينبغي أن نعلم ـ يا عباد الله ـ أن العبد في هذه الحياة بين إجابتين لا ثالث لهما، إما أن يستجيب لشرع الله، وإما أن يستجيب لهواه، لا ثالث للأمرين، إن لم يستجب لشرع الله فهو مستجيب لهواه لا محالة، يقول الله سبحانه وتعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، إذا لم يستجيبوا لك ـ يا محمد ـ فإنما يتبعون أهواءهم ورغباتهم. هذا هو المنهج الواضح: أن الإنسان إذا لم يستجب لشرع الله سبحانه وتعالى فإنه متبع لهواه، رضي بذلك أم لم يرض.
لماذا ـ يا عباد الله ـ جاءت الشريعة واضحة في هذا الأمر، وجاءت النصوص الشرعية متواترة في التحذير من الهوى، وفي بيان عاقبته، وفي بيان أنه من أعظم الأمور التي ينهى عنها؟!
إن الهوى ـ يا عباد الله ـ من أعظم الآفات ومن أعظم المصائب ومن أعظم السيئات التي يبتلى بها العباد في هذه الحياة الدنيا؛ لأن من يتبع هواه قد جعل هواه إلهًا يعبَد من دون الله، أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، لأنه جعل هواه مشرعًا يشرع له ما يريد ويقبح له ما يريد.
لما دخل عدي بن حاتم على النبي وسمعه يتلو قول الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] قال: يا رسول الله، لم نعبدهم! قال: ((أليسوا يحلون لكم الحرام ويحرمون لكم الحلال فتطيعوهم؟)) ، قال: بلى يا رسول الله، قال: ((فتلك عبادتهم)) رواه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني.
إن من اتخذ إلهه هواه قد عبد هذا الهوى، ومن جعل نفسه هي التي تحلل أو تحرم فقد جعل نفسه إلهًا من دون الله، من اتخذ العادة منهجًا يرجع إليه في التحليل والتحريم فقد اتخذ العادة إلهًا تعبد من دون الله، من اتخذ التقاليد الأرضية أو البشرية أو القبلية منهجًا يتحاكم إليها دون شرع الله فقد اتخذها إلهًا من دون الله يُعبد. هذا منهج واضح لا غبش فيه ولا غموض، قد بينه المولى عز وجل بقوله: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ [الجاثية:23].
في اتباع الهوى ـ يا عباد الله ـ استهانة بالذنوب والمعاصي، فتصبح المعصية عند الإنسان لا شيء؛ لأنه لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه. يقول عبد الله بن مسعود : (إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يوشك أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار) رواه الترمذي وصححه الألباني. يستهين بالمعصية، لا يرى لها شدّة المؤمن الذي يخشى الله سبحانه وتعالى، ويخاف من عقوبته، ويفكر فيما أعده الله تعالى للعصاة.
أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، قال بعض الصالحين: "إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بمراقبة الله سبحانه وتعالى، وأن الله يراك ومطلع عليك، فإن لم ترتدع عن المعصية فذكرها بالفضيحة، فإن لم ترتدع فذكرها بأخلاق الرجال، فإن لم ترتدع فاعلم أنك قد انقلبت في تلك الساعة إلى حمار". إذا لم يردع الإنسان خوف الله ومراقبته ولم تردعه الفضيحة ولم تردعه أخلاق الرجال فما الفرق بينه وبين البهيمة؟! ما الفرق بينه وبين العجماوات؟!
هكذا يحذرنا المولى عز وجل من هذه المصيبة، من هذه الآفة التي ابتلي بها كثير من الناس، حذرنا المولى عز وجل من اتباع الهوى لأن اتباع الهوى يقود صاحبه إلى النار والعياذ بالله تعالى، يقول النبي : ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) رواه مسلم. فكل الشهوات التي تشتهيها النفس الأمارة بالسوء هي قائدة إلى النار والعياذ بالله، وأما الجنة فهي محفوفة بما تكره النفس، فإن المسلم يجاهد نفسه في هذه الحياة الدنيا وينهاها عن الهوى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
إنّ اتباع الهوى ـ يا عباد الله ـ له صور كثيرة، وله مجالات عدة، ينبغي أن يتنبه لها المسلم حتى لا يقع في اتّباع الهوى من حيث لا يشعر، فيكون ممن سخط الله عليه والعياذ بالله.
من ذلك أن يلهث وراء لذة عاجلة من الحرام دون أن يبحث عن الحكم الشرعي في ذلك، أن يبحث عن اللذة العاجلة من الحرام من شهوة مال أو فرج أو منصب أو دنيا أو نحو ذلك دون أن يبحث عن الحكم الشرعي، وإنما همه أن يشبع رغبته، أن يشبع هوى نفسه، أن يشبع شهوته، سواء كان ذلك حلالاً أو حرامًا. يقول النبي : ((تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة؛ إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش)) رواه البخاري. فسمى النبي من يسعى وراء الدرهم والدينار بدون أن يسأل عن الحكم الشرعي في هذه المسألة بأنه عابد له، ((تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم)).
ومن صور اتباع الهوى ـ يا عباد الله ـ أن يكون الإنسان المتّبع لهواه فاقدًا للغيرة، فلا غيرة عنده أبدًا، يرى الحرام فلا يتحرك، يرى المنكرات فلا يتمعر وجهه. الغيرة من صفات الإيمان، إن الله يغار، وغيرة الله أن تنتهك حرماته. كان النبي لا يغضب لنفسه أبدًا، فإذا انتهكت حرمات الله غضب لله، غضب لحرمات الله أن تنتهك. قال : ((لا يدخل الجنة ديّوث)) ، قيل: من الدّيوث يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يبالي من دخل على أهله)) أو كما قال النبي ، رواه عبد الرزاق في مصنفه والطبراني في الكبير قال الهيثمي في المجمع: "فيه مساتير وليس فيهم من قيل: إنه ضعيف".
فالرجل المتّبع لهواه لا غيرة عنده، ثبت في الحديث الصحيح أن شابًا دخل على النبيّ فقال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا، فأوشك الصحابة أن يقعوا فيه وأن ينالوا منه، فقال النبي : ((دعوه)) ، ثم قال: ((ادنوا أيها الشاب)) ، فأدناه إليه بأبي هو وأمي ، فقال: ((أيّها الشاب، هل ترضى الزّنا لأمك؟!)) ، قال: لا، جعلني الله فداك، قال: ((فكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم)) ، قال: ((أترضاه لأختك؟!)) ، قال: لا، جعلني الله فداك، قال: ((فكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم)) ، وما زال النبي يسأله: ((أترضاه لعمتك؟! أترضاه لخالتك؟!)) ، وهو يقول: لا يا رسول الله، عند هذا وضع النبي يده على صدره وقال: ((اللهم اغفر ذنبه، وحصن فرجه، وطهر قلبه)) ، قال: فوالله، لقد خرجت وما من شيء أبغض إلى في الدنيا من الزنا. رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
لقد فهم من هذا الحديث أن أصحاب الهوى يرضون الزنا لأمهاتهم ولأخواتهم وخالاتهم ولعماتهم، بينما المؤمن الذي لا يتبع هواه يغار ولا يرضى الهوى ولا يرضى الخنا ولا يرضى الزّنا، ولا يرضى الجرائم لأهله وأقاربه، لا يرضاه للمسلمين كلّهم.
من صوَر اتباع الهوى ـ يا عباد الله ـ أن صاحب الهوى عنده استعداد أن يبيع دينه من أجل لذة عاجلة من متاع الدنيا، فهو لا يجد غضاضة أن يسرق أو يزني أو أن يشهد الزور أو أن يفعل الحرام من أجل لذة عابرة، من أجل أن يشبع هوى نفسه والعياذ بالله.
ذكر ابن الجوزي في كتاب ذم الهوى أن مؤذنًا في بغداد، وأنصتوا ـ يا رعاكم الله ـ لهذه القصة المؤثرة التي تبين عاقبة اتباع الهوى أعاذنا الله وإياكم منه، أن مؤذنًا في بغداد كان يسمّى صالح المؤذن، يؤذن أكثر من أربعين سنة، فصعد ذات ليلة على مئذنة المسجد، فنظر في بيت مجاور فرأى امرأة فهوِيها، فلم يكمل الأذان والعياذ بالله، فنزل إلى تلك الدار وطرق بابه، فخرجت تلك الفتاة، فقال: أريد أن أتزوجك، قالت: لا يحل لك ذلك، قال: ولم؟ قالت: لأنك مسلم وأنا نصرانية، قال: أدع ديني وأدخل في النصرانية، وترك دينه. قالت: إنك إذا وصلت إلى رغبتك تركتني، ولكن لا بد أن أتوثّق منك، قال: بم؟ قالت: هذا لحم الخنزير فكل منه، وهذا الخمر فاشربه، فأكل لحم الخنزير وشرب الخمر، قالت له: إن أبي غائب فاصعد إلى سطح الدار حتى يأتي أبي فيكمل الأمر، فصعد وبينما هو صاعد على السلم أخذت به نشوة الخمر فترنح فسقط فمات والعياذ بالله. مات نصرانيًا بعد أن كان يؤذن أكثر من أربعين سنة، فلما بلغ شأنه للمسلمين ألقوه في زبالة هناك فأكلته الحيوانات والكلاب، والعياذ بالله من سوء الخاتمة.
أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]. عندما يجعل الإنسان هواه قائدًا لا يدري قد يفاجئه ملك الموت وهو في تلك اللذة العابرة، وهو في تلك الشهوة والعياذ بالله، فليتصور كل إنسان أن ملك الموت ربما ينزل به في أي لحظة، فلا تدعوه نفسه الأمارة بالسوء لشهوة عابرة والعياذ بالله، وينسى جنة عرضها السماوات والأرض.
من صور اتباع الهوى ـ يا عباد الله ـ أن يحرص العبد على الدنيا وعلى المال وعلى الربح بدون أن يبحث عن الحكم الشرعي في ذلك، يقول : ((أيما جسد نما من سحت فالنار أولى به)) رواه الطبراني وأبو نعيم في الحلية وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.
إن الذين يبحثون عن المال بدون أن يبحثوا عن الحكم الشرعي في ذلك هم الرأسماليون أعداء الله الذين همهم الدرهم والدينار، والذين عناهم النبي بقوله: ((تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم)).
إن من يبحث عن الربح بدون أن يبحث عن الحكم الشرعي فهو متبع لهواه؛ لذا ـ يا عباد الله ـ ينبغي أن ننتبه لهذه القضية حتى لا نكون عبادًا للهوى من حيث لا نشعر. كم هي المشاريع الربحية التي تخرج بين الناس في كل يوم، ومنها ما هو مخالف لشرع الله، سواء في البيع والشراء أو في صور من صور الاستثمار الجديدة التي بدأت تغزو أسواقنا، وبدأت تغزو منتدياتنا. من منا قبل أن يساهم في مؤسسة ما أو في اكتتاب معين أو في بيع سلعة معينة سأل أهل العلم: هل يجوز لي ذلك؟! هل بيع هذه السلعة موافق لشرع الله أم لا؟! هل المساهمة في هذه المؤسسة أو في هذه الشركة موافق لشرع الله أم لا؟! أم كان هم الإنسان الدرهم والدينار، همه الريال، همه الربح، فيكون عبدًا للدرهم وعبدًا للدينار والعياذ بالله تعالى. هذه من صور الحرام، ومن صور اتباع الهوى والعياذ بالله.
ومن صور اتباع الهوى ـ يا عباد الله ـ سقوط العالم وطالب العلم عندما يبيع دينه بسبب منصب أو وظيفة، أو بسبب اتباع شيء من متاع الدنيا الزائل والعياذ بالله. وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [الأعراف:175، 176]. كم من الناس عندهم علم ولكنهم يتبعون أهواءهم والعياذ بالله، من أجل دنيا زائلة والعياذ بالله.
مر أبو حنيفة رحمه الله ذات يوم بغلام يلعب في الطين، فقال له: يا بني، انتبه لا تسقط في الطين، فأجرى الله الحق على لسان هذا الفتى الصغير، فقال له: بل أنت ـ يا إمام ـ انتبه لا تسقط؛ فإن سقوط العَالِم سقوط للعَالَم. هكذا يجري الله الحق على لسان فتى صغير. يقول له: بل أنت ـ أيها العَالِم ـ انتبه لا تسقط فإن سقوطك سقوط للأمة كلها، سقوط للعالم. فكان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعد ذلك لا يفتي في أي مسألة حتى يستشير أصحابة ويستشير أهل العلم خشية أن يقع فيما يسخط الله سبحانه وتعالى.
ومن صور اتباع الهوى ـ يا عباد الله ـ الجور في الحكم؛ أن يحكم الإنسان بغير شرع الله تعالى، يقول الله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا [النساء:135]. فمن يحكم بغير شرع الله فقد اتبع الهوى، واتبع النفس الأمارة بالسوء، واتبع المصلحة والعياذ بالله تعالى. من يجور في الحكم وهو يعلم أنه مخالف لحكم الله فهو متبع لهواه، رضي بذلك أم لم يرض.
تحاكم علي بن أبي طالب هو ورجل من اليهود سرق درعه، تحاكما إلى شريح القاضي، فقال القاضي شريح لعلي بن أبي طالب : اجلس ها هنا يا أبا الحسن، وقال لليهودي: اجلس ها هنا يا فلان، فغضب علي غضبًا شديدًا، وقال: يا شريح، لقد أخطأت في الحكم، قال: ولم؟ قال: فضلتني على خصمي كنيتني وقلت: يا أبا الحسن، وفضلتني عليه وناديته باسمه. ثم طلب من كل منهما أن يبين حجته وبينته، فعلي لم يكن عنده بينة، واليهودي لم يكن عنده بينة، قال: يا علي، هل عندك شهود؟ قال: نعم يشهد معي ابني الحسن أن هذا درعي اشتريته بمالي ـ الحسن بن علي المشهود له بالجنة ـ قال: لا أرضى شهادة الابن لأبيه، لا أقر شهادة الابن لأبيه، هل معك شهادة أخرى؟ قال: لا، فحكم القاضي بالدرع لذلك اليهودي، عند هذا قال ذلك اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، أمير المؤمنين يحاكمني إلى قاضيه!! فيحكم قاضيه عليه، والله، ما هذا بدين بشر أبدًا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، لقد ظهر لنا خطر اتباع الهوى، وأن الهوى إله يعبد من دون الله تعالى، وأن من وقع في عبادة الهوى فهو على شفا جرف هار، ما عليه إلا أن يراجع نفسه، وأن يعود إلى ربه عز وجل، وأن لا يكون ممن أضلهم الشيطان من حيث لا يشعر. إن ثمة أمورًا ذكرها العلماء رحمهم الله تعالى تحول بين الإنسان وبين اتباع الهوى.
فمن ذلك أن يتأمل الإنسان في العاقبة، في عاقبة هذه الحياة وفي نهايتها، ويتأمل في الآخرة وما أعد الله فيها للمحسنين، وما أعد فيها للعصاة والعياذ بالله، وأن هذه الدنيا لا تسوى شيئًا أمام الآخرة التي فيها كل شيء، وأمام الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، مهما ملك الإنسان من أموال ومهما ملك من متاع فإنه شيء يسير في جنب ما أعده الله تعالى للمؤمنين. ثبت في صحيح مسلم أن النبي قال: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا ـ ممن تبع هواه ـ من أهل النار فيغمس فيها غمسة واحدة، فيقال له بعد ذلك: يا ابن آدم، هل مر بك نعيم قط؟ هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول: لا يارب، ـ هذا أنعم أهل الدنيا، لما غمس في النار غمسة واحدة نسي ذلك النعيم ـ، ويؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة ـ ممن لم يعرف نعيمًا قط، ولكنه من الصالحين ـ فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقال له بعد ذلك: يا ابن آدم، هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت شقاءً قط؟ فيقول: لا يارب)). لقد أنسته تلك الغمسة كل شيء، الجنة والنار ينبغي أن يتفكر فيهما المسلم فينسيه ذلك عن اتباع الهوى.
من ذلك أن يتأمل في فضيلة الصبر، وأن الجنة حفت بالمكاره، وأن النار حفت بالشهوات، وأن الصبر هو عاقبة المتعففين، فماذا كان يوسف عليه السلام، ماذا كان سيكون لو أنه اتبع هواه؟! لكن لما خالف هواه واتبع منهج الله تعالى كان إمامًا للمتعففين، كان إمامًا للصابرين، كان إمامًا للمتبعين لمنهج الله تعالى، قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33]. هكذا ينبغي أن يفكر الإنسان في الآخرة.
من ذلك ـ يا عباد الله ـ أن يتأمل المسلم أن الهوى لا يدخل في شيء إلا أفسده، فلا يدخل في عبادة إلا أفسدها وأبطلها وأخرج الإخلاص منها وأدخل الرياء فيها، ولا يدخل في مال إلا أدخل فيه الحرام، ولا يدخل في علم إلا أدخل فيه الجهل، ولا يدخل في شيء إلا أفسده، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "فصاحب الهوى لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه".
وأخيرًا: ينبغي أن نفهم ـ يا عباد الله ـ أنه لا يستقيم إيمان العبد حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به النبي ، كما روي في الحديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) رواه ابن أبي عاصم في السنة وابن بطة في الإبانة وضعفه الألباني في تخريج كتاب السنة. فهوى المؤمن متبع لشرع النبي ولما جاء به النبي ، لا يستقيم إيمان العبد حتى يكون هواه تبعًا لما جاء به النبي يكفينا ذلك.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله، عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية أصحاب محمد أجمعين، وعن التابعين وتابع التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
(1/4042)
أهمية الصلاة وشيء من أسرارها
فقه
الصلاة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الصلاة ومنزلتها وقيام الأنبياء بها. 2- عقاب من ضيع الصلاة. 3- الحكمة من فرض الصلاة. 4- ارتباط الدعاء بالصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن الإسلام قد عني بأمر الصلاة, وشدّد كل التشديد في طلبها، وقضى بالوجوب في أدائها في بيوت الله مع الجماعة حيث ينادى بهن، وحذر أعظم التحذير من تركها أو التهاون بها، وجعلها عمود الدين ومفتاح الجنة وخير الأعمال وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وأمر بها جميع الأنبياء والمرسلين وأتباعهم.
فهذا إبراهيم الخليل يقول: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء [إبراهيم:40]، ومدح الله بها إسماعيل بقوله: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55]، وأمر بها كليمه موسى في ساعات الوحي الأولى بقوله: وَأَنَا ?خْتَرْتُكَ فَ?سْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِى أَنَا ?للَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلا أَنَاْ فَ?عْبُدْنِى وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:13، 14]، وأنطق بها المسيح عيسى ابن مريم في مهده: وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، وأمر بها خاتم أنبيائه محمد بقوله: ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
وبها وصف الله عباده المؤمنين في كثير من الآيات: وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ [المؤمنون:9]، ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]. ومن أجل بيان أهميتها أكد لنا سبحانه وتعالى المحافظة عليها في الحضر والسفر والأمن والخوف السلم والحرب وفي الصحة والمرض، مشاة أو راكبين، حتى بغير ركوع ولا سجود: فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، حتى إنه جل شأنه لم يشترط لها استقبال القبلة في حال الضرورة فقال: وَلِلَّهِ ?لْمَشْرِقُ وَ?لْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ?للَّهِ [البقرة:115].
عباد الله، من أجل هذه المكانة العظيمة السامية الرفيعة العالية للصلاة ثاني أركان الإسلام أنذر الله بالويل والهلاك والضياع كلَّ من يسهو عنها فيضيع وقتها: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، ودمغ بالذم واستحقاق الغي كل من أضاعها فقال الله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59].
أما النبي عليه أفضل الصلاة والسلام فقد بين لنا أن الصلاة هي الدليل الأول الساطع على التزام عقد الإيمان، وأنها الشعار الفاصل بين الكفر والإسلام، فقال: ((بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة)) [1] ، وفي رواية عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) [2] ، وذكر الصلاة يومًا فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)). إنها ـ يا عباد الله ـ لمزايا حميدة وصفات عظيمة وفوز كبير.
وقد قال العلماء رحمهم الله في توجيه هذا الحديث النبوي الشريف: "من شغله ماله عن الصلاة فهو مع قارون، ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله عنها رياسته ووزارته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف"، عافانا الله من ذلك.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على هذا الركن العظيم، جعلني الله وإياكم من المحافظين عليها المؤدين لها في أوقاتها في بيوت الله مع الجماعة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] رواه مسلم في الإيمان، باب: بيان إطلاق الكفر على من ترك الصلاة (82) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما.
[2] رواه الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في ترك الصلاة (2623)، والنسائي في الصلاة (1/231)، باب: الحكم في تارك الصلاة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم فصل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن الهدف الأساس من كل العبادات هو امتثال أمر الله تبارك وتعالى وأداء حقه وشكر نعمائه التي لا تعد ولا تحصى، وأن الله غني عن عباده كل الغنى، وأن ما يتعبدنا به فإنما هو لصلاح أنفسنا، ويعود علينا بالخير في حياتنا الروحية والمادية، الفردية والجماعية، والدنيوية والأخروية، غير أن الإنسان القاصر المحدود قد يخفى عليه كثير من حكمة الله جل وعلا، ولكن يبقى شعار المؤمن دومًا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ?لْمَصِيرُ [البقرة:285].
عباد الله، إن الحكمة الأولى من الصلاة هي تذكير العبد بخالقه الذي أوجده من العدم وأبرزه إلى حيز الوجود المشاهد، فقال تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:14].
والحكمة الثانية: أن الله جل وعلا كرر الصلاة خمس مرات في اليوم لتكون للمسلم زادًا روحيًا يتطهر بها من غفلات قلبه وأدران خطاياه، وقد مثل النبي هذا المعنى بقوله: ((أرأيتم لو أن نهرًا على باب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، فهل يبقى على بدنه من درنه شيء؟)) قالوا: لا، قال: ((كذلك مثل الصوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا)) [1].
ومن حكمة الصلاة أيضًا أنها تمدّ المؤمن بقوة روحية نفسية تعينه على مواجهة متاعب الحياة ومصائب الدنيا وما ينتابه من كدر ومكابدة ونصب ووصب، فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153].
ومن ثمار هذه الفريضة العظيمة القدر والمكانة أنها تمدّ المؤمن بقوة كبيرة وهمة عظيمة تقويه على فعل الخير وترك الشر ومجانبة الفحشاء والمنكر، فقال تعالى: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
عباد الله، هذا غيض من فيض وقليل من كثير من حِكم وثمار هذه الفريضة الجليلة، وأما ما نراه من بعض المصلين من ضَعف في أخلاقهم وانحراف في سلوكهم فإن دل على شيء فإنما يدلّ أن صلاتهم جثة بلا روح، وحركاتهم حركات جسم بلا حضور عقل ولا خشوع قلب، فأنى لهؤلاء أن يقطفوا الثمار وقد توعدهم الله بقوله: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ ?لَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ وَيَمْنَعُونَ ?لْمَاعُونَ [الماعون:4-7]؟!
أعاذني الله وإياكم من ذلك، وجعلنا من عباده المؤمنين الذين هم في صلاتهم خاشعون، فإنهم هم الناجحون الناجون المفلحون، قال الله تعالى: إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45].
وعلى العبد المسلم أن يعلم يقينًا أنه في صلاته يقف بين يدي ربه جل وعلا، وأنه في صلاته يناجي ربه، وأنه أقرب ما يكون إلى ربه وهو ساجد، فليذكر الله خاشعًا لله، وليسأل الله وهو موقن بالإجابة، وليلح على ربه في الدعاء، وليكثر من الدعاء لنفسِه ولوالديه ولذريته بصلاح النية وصواب العمل، ويدعو الله تبارك وتعالى أن يقبل منه ويتجاوز عنه، اللهم تقبل يا كريم.
والدعاء أمره مهم في حياة المسلم، بل إن الله جل وعلا يأمر بدعائه كما قال الله تبارك وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، فإن الذين يستكبرون عن دعاء ربهم وخالقهم جل وعلا فقد خابوا وخسروا، ثم مآلهم إلى جهنم وبئس المصير.
فعليك ـ أخي المسلم ـ أن يلهج لسانك بالدعاء، وعليك اجتناب موانع الاستجابة، لما سأل الصحابي الجليل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا رسول الله، ادع الله لي أن أكون مستجاب الدعوة، أجابه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) ، فالجواب عام لجميع المسلمين بأن يطيّبوا مطعمهم حتى يستجيب الله لدعائهم.
[1] رواه البخاري في مواقيت الصلاة، باب: الصلوات الخمس كفارة (1/134)، ومسلم في المساجد، باب: المشي إلى الصلاة تمحى به الخطايا وترفع به الدرجات (667).
(1/4043)
بروا بآبائكم تبركم أبناؤكم
الأسرة والمجتمع
الوالدان
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم حق الوالدين. 2- حق الوالد المشرك. 3- ثبات سعد بن أبي وقاص. 4- عقوبة عقوق الوالدين. 5- من صور بر الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إن نفوس بني آدم جبلت على حبّ من أحسن إليها، وليس أعظم إحسانًا وتفضلاً بعد الله تبارك وتعالى من الوالدين: الأم والأب، ومن أجل هذا نجد في القرآن الكريم الربط المباشر بين بر الوالدين وعبادة الله جل شأنه، وذلك إعلانًا لقيمة هذا البر وعلو قدره وضخامة عظمه ومكانته عند الله، فقال الله تبارك وتعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [النساء:36].
فأمر بالعبادة له وحده دون سواه، وخص الوالدين بالوصية بالإحسان إليهما والبر بهما، وذلك أن رابطة الأبوة والبنوة هي أول رابطة بعد رابطة الإيمان في القوة والرفعة والأهمية والتأدب، فهي وصية قائمة على أساس قول الله تبارك وتعالى: هَلْ جَزَاء ?لإِحْسَـ?نِ إِلاَّ ?لإِحْسَـ?نُ [الرحمن:60]، فصفة الأبوة تقتضي هذا الإحسان بذاتها مطلقة من كل شرط وقيد، حتى في حالة الاختلاف في العقيدة، فإن الأمر بعدم طاعة الوالدين في هذه الحالة لا يسقِط حقَّ الوالدين في المعاملة الطيبة والصحبة الكريمة وبرهما والتودّد إليهما والإحسان إليهما ومعاملتهما بالرفق واللين والملاطفة وخفض جناح الذل من الرحمة لهما وتقديمهما على من سواهما من الأقارب والدعاء لهما، قال الله جل وعلا: وَإِن جَـ?هَدَاكَ عَلَى? أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَـ?حِبْهُمَا فِى ?لدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
فالصلة في الله جل وعلا هي الصلة الأولى، والرابطة في الله تبارك وتعالى هي العروة الوثقى، فإن كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان والدعوة إلى الدخول في الإسلام والرعاية، وأما الطاعة فتنصرف إلى الله صاحب الحق الأول في الطاعة، فقد روى الترمذي عند تفسير قول الله تعالى: وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَـ?هَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8]، فقال: إنها نزلت في سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ـ وأمه حمنة بنت أبي سفيان ـ وكان بارًا بأمه، فقالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله، لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتعيَّر بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه. ثم إنها مكثت يومًا وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه، لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسًا نفسًا ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية آمرًا بالبر والإحسان إليهما وعدم طاعتهما في الشرك [1].
هكذا الالتزام بالدين والاعتصام بالله الذي ارتضى لنا هذا الدين، فالمؤمن لا يتنازل ولا يتراجع عن دينه ولا شيء منه مهما كانت الأحوال والظروف ولو مع أمه أو أبيه، اللهم ثبتنا على دينك.
عباد الله، لقد حرم الله عقوق الوالدين، واعتبر ذلك من أكبر الكبائر المهلكة الموصلة إلى النار والعياذ بالله، ففي الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين، ألا وشهادة الزور وقول الزور)) ، وكان متكئًا وجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت [2]. كفى بالزور من إثم وضعة وخِسة ودناءة وهوان.
فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا إلى الوالدين ما أمكن لكم ذلك بكل صنوف الإحسان، وإياكم أن تظنوا أنكم تستطيعون مكافأتهم مهما أحسنتم أو خدمتم أو بذلتم لهم من المال وحسن الأدب والاحترام والتأدب والتلطف والاحترام والتوقير.
وما عليكم ـ عباد الله ـ إلا أن تذكروا تلك التضحيات الكبار التي بذلها الوالدان من رعاية وعناية ومتابعة حتى أصبحتم في أحسن تقويم، وصرتم إلى ما صرتم عليه الآن من فتوة ونعمة ومال وجاه وسلطان، فقد قضى الحق تبارك وتعالى وأمر ـ وقضاء الله لا رادّ له ولا مفرّ منه ولا محيد عنه ـ بالإحسان إلى الوالدين حتى قرن حقهما بحقه جل وعلا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: فضل سعد رضي الله عنه (1748).
[2] رواه البخاري في الأدب، باب: حقوق الوالدين من الكبائر (8/70)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (87).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد. قابل التوب غافر الذنب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، جاء بالهدى ودين الحق، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى في الوالدين، وقوموا بحقهما، فكما تدين تدان، فإنه يقال: ما من عمل إلا قد يؤجل عقوبته إلا عقوق الوالدين، فإنه يكون في الدنيا والآخرة. نسأل الله السلامة والعافية.
لقد صح من حديث رسول الله أنه قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن للخمر، والمنان بما أعطى)) [1].
فاسمعوا ـ يا عباد الله ـ كلام الله وكلام رسوله، وإياكم أن تشغلكم الأموال والزوجات والأولاد عن بر الوالدين، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون، فإنه من تاب وآمن عمل صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، فضلاً من الله تعالى ومنّة حسنة وتكرمًا ورحمة.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن من بر الوالدين النفقة عليهما؛ إذ ليس من الإحسان ولا من المصاحبة بالمعروف أن يحتاجا إلى مأكل أو مشرب أو ملبس والولد موسر ثم يبخل عليهما أو لا يقوم بذلك لهما.
ومن برهما أيضًا توقيرهما واحترامهما، فلا يدعو الابن والده باسمه، ولا يمشي أمامه، ولا يجلسه خلفه، ولا يقاطعه في حديث، ولا يقدم أحدًا عليه.
ومن برهما دعوتهما إلى الله عز وجل، فهما ألصق الناس وأحق الناس وأقرب الناس إليه، فلا بد أن يحب لهما ما أحب لنفسه من الفوز بالجنة والخلاص من النار، أجارنا الله وعامة المسلمين الموحدين منها.
ومن برهما الاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما بعدهما وقضاء وتسديد دينهما ووفاء نذرهما، لما صح من الأحاديث الكثيرة في ذلك.
ومن بر الوالدين ـ عباد الله ـ صلة أهل ودّهما، ففي الصحيح عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي)) [2] أي: بعد موته.
جعلني الله وإياكم من البررة، وجنبنا العقوق وسبيل الفجرة، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا.
[1] رواه أحمد (5/148)، والنسائي في الزكاة، باب: المنان بما أعطى (5/80)، والحاكم (4/147) وقال: "هذا حديث صحيح"، ووافقه الذهبي.
[2] رواه مسلم في البر والصلة، باب: فضل صلة أصدقاء الوالد (2552).
(1/4044)
جريمة الزنا ومقدمات الفاحشة
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزنا سبب انتشار الأمراض والأوبئة. 2- أخطار جريمة الزنا. 3- حد الزنا. 4- وسائل حماية ووقاية المجتمع من الفساد. 5- تحريم القذف وحد القاذف.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله المتفرد بكمال الذات والصفات، خلق الخلق وأرشدهم إلى طريق النجاة، وحذرهم من الزيغ والفساد، فحرم الزنا لصيانة الذريات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد امتن الله علينا بالهداية، فرضي لنا دين الإسلام، وأمرنا بالرجوع إلى دينه الحنيف الذي لم يترك خيرًا إلا ودلنا عليه، ولا شرًا إلا وحذرنا منه، وكان من جملة الشرور الفتاكة التي حذرنا منها جريمة الفاحشة النكراء، ألا وهي الزنا، فجريمة الزنا تهدد المجتمعات بالفناء والانقراض، فضلاً عن كونه من الرذائل المحقرة والكبائر الموبقة، فقال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
والزنا ـ أيها الإخوة ـ سبب مباشر في انتشار الأمراض الخطيرة التي تفتك بالأبدان، وتنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء؛ كالزهري والسيلان والقرحة، كما أنه أحد أسباب جريمة القتل إذا إن الغيرة طبيعية في الإنسان، وقلّ ما يرضى رجل كريم أو امرأة عفيفة بالزنا، مما يسوق الإنسان ليغسل العار الذي يلحقه ويلحق أهله بالدم، فيقع القتل كما هو الحال نتيجة مغبة الزنا.
ومن أخطار جريمة الزنا أنه يفسد نظام البيت، ويقطع العلاقة الزوجية، ويعرض الأولاد الأبرياء للتشرد والانحراف والجريمة، ويشتت الأسر، ويهلك الحرث والنسل، والله لا يحب الفساد.
ومن أجل هذه الآثار السيئة المدمرة فإن الإسلام قد شدد في عقوبة الزناة ليحافظ على صيانة الأعراض وحماية الأسر من التلوث، فجعل عقوبة الزاني البكر مائة جلدة ورجم الثيب حتى الموت، فقال الله تعالى: ?لزَّانِيَةُ وَ?لزَّانِى فَ?جْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
وفي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت عمر وهو على منبر رسول الله يخطب ويقول: إن الله بعث محمدًا بالحق، وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل عليه آية الرجم [1] ، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل: ما نجد آية الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنا إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان حمل أو الاعتراف. وايم الله، لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها) [2]. اللهم هيّئ من يقيم الحدود يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الإسلام قد اتخذ قبل هذه العقوبة الرادعة كل الوسائل للوقاية من اقتراف هذه الجريمة الاجتماعية، فعمل على تجنيب النفوس أسباب الإغراء والغواية وإثارة الشهوة التي كثيرًا ما تثيرها وسائل الإعلام وأفلام الفيديو والتلفاز والصحف الماجنة والمجلات الفاتنة الخليعة، وشرع آداب البيوت والاستئذان على أهلها حرصًا منه على عدم انكشاف العورات، وكذلك حرم الخلوة بالمرأة الأجنبية تجافيًا عن الإثم وتفاديًا للخطر، فحذر من الدخول على النساء فقال رسول الله : ((إياكم والدخول على النساء)) ، فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)).
وأمر بغض البصر ليقلل من فرص الاستثارة وإغلاقًا للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية وللحيلولة دون وصول السهم المسموم، فقال الله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31].
وقبل كل هذا فإن الإسلام قد رغب في الزواج المبكر، وحبّب وأرشد إليه، ويسّر مؤونته، وأمر بمعاونة الفقراء عليه، كما قال الله تعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، بل ذهب الإسلام إلى أكثر من هذا، فأباح تعدد الزوجات ليكون في الحلال مندوحة عن الحرام، ولكي لا يبقى عذر لمقترف هذه الجريمة، فيختلق الأعذار المكذوبة ويسلك الطرق الملتوية.
عباد الله، لقد سمعتم بعض ما ورد بتحريم الزنا وخطره العظيم الذي يهدد الحرث والنسل، فالله الله يا عباد الله، فحافظوا على سلامة دينكم وأنفسكم وعلى زوجاتكم وأولادكم وبناتكم وأخواتكم من التردي في هذه الشهوة البهيمية، فتجنبوا الاختلاط والرقص والصور المثيرة والغناء والموسيقى والنظر المريب وكل ما من شأنه أن يثير الغريزة أو يدعو إلى الفحش، حتى لا تتعدى عوامل الضعف إلى البيت والانحلال في الأسرة.
فالله الله أيها الناس، فكل منا على ثغر من ثغور الإسلام، فإياكم أن يؤتى الإسلام من قبلكم، أو تكون المفسدة من جهتكم، فالله الله ـ عباد الله ـ أن تهان محارم الله وتضاع حدود الله، واذكروا دومًا أن الله سبحانه وتعالى قد قرن الزنا بالشرك والقتل، فقال جل شأنه في صفة عباده المتقين: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:68-70]، وقال النبي : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل متكبر)) [3] ، فما أبشع الزنا، وما أقبحه من جريمة.
جعلني الله وإياكم ممن إذا ذكِّر بالله تذكر، وإذا زجر عن الشرّ انزجر، وإذا رغب في الخير أسرع إليه ولم يتأخر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ?لزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ?لزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذ?لِكَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:3].
[1] قال النووي في شرح مسلم: "أراد بآية الرجم: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة)، وهذا مما نسخ لفظه وبقي حكمه".
[2] أخرجه البخاري في الحدود، باب: رجم الحبلى في الزنا، وباب: الاعتراف بالزنا (8/25)، ومسلم في الحدود، باب: رجم الثيب في الزنا (1691)، وتمام اللفظ لأبي داود في الحدود، باب: في الرجم (4418).
[3] رواه مسلم في الإيمان، باب: بيان غلظ تحريم الإسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلع بالحلف (107).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم والنهج القويم، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، إن الإسلام يستهدف حماية أعراض الناس والمحافظة على سمعتهم وصيانة كرامتهم، فلهذا فهو يقطع ألسنة السوء، ويسدّ الباب على الذين يلتمسون للأبرياء العيوب ويقذفونهم بها، فمنع ضعاف النفوس من أن يجرحوا مشاعر الناس ويَلغوا في أعراضهم، وحظر أشدّ الحظر من إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، حتى تتطهر الحياة من سريان هذا الشر فيها، وشدد النكير والوعيد والتهديد والزجر في ذلك.
فكما أن ديننا الحنيف قد حرم الزنا وشدد في عقوبته التي منها الرجم وهو القتل رميًا بالحجارة حتى الموت فهو كذلك ومن أجل نفس الغرض وهو حماية الأعراض قد حرم القذف تحريمًا قاطعًا، وجعله كبيرة من كبائر الإثم والفواحش، وأوجب على القاذف ثمانين جلدة، رجلاً كان أو امرأة، كما منع من قبول شهادته، وحكم عليه بالفسق واللعن والطرد من رحمة الله واستحقاق العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فقال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَرْمُونَ ?لْمُحْصَنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَ?جْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذ?لِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:4، 5]، وقال: وَ?لَّذِينَ يَرْمُونَ ?لْمُحْصَنَـ?تِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَ?جْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذ?لِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النحل:19]، وقال النبي : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) [1].
فليتق الله امرؤ ـ خالط الإيمان بشاشة قلبه ـ في نفسه وفي أعراض الآخرين، وليتجنب الاختلاط المحرم، وليبعد عن المنكرات، وليترفع عن مواطن العطب والشك والريبة والفساد، وليحفظ نفسه وأهله، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، وكما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول)).
فما أعظمه من ضياع للأخلاق والأعراض والدين، يتمادى الأمر ببعض الناس ويترك الزوجة أو البنت تذهب مع السائق، وما أكثر السوقَة والذين دخلوا علينا من كل حدب وصوب، ويذهبن إلى الأسواق دون محرم ولا حاجة ملحّة، يغشين المعارض ويذرعن الأسواق بدعوى باطلة وحجة واهية؛ أنّ لهن خصوصيات لا يقوم بها ولا تنطق بطلب شرائها حتى لزوجها، وهذا من منتهى الكذب والتحايل وسلوك الطرق الملتوية.
فلنتق الله تعالى في نسائنا، فلنتق الله تعالى في فتياتنا، فلنتق الله تعالى في أمهات الأولاد ومربيات الأجيال، إن الأمر في غاية الخطورة، خطورة وشيكة التحول، وما أسرع أمر الله جل وعلا، فالله تعالى يغار على محارمه، ولا أغير من الله، فله الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، فالله الله بالبعد عن محارم الله عز وجل، فلا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك، فإنه تبارك وتعالى يرانا حيث كنا وأينما نكون، وهو جل وعلا يعلم السر وأخفى، وبه المستعان، حسبنا الله ونعم الوكيل.
[1] رواه البخاري في الحدود، باب: رمي المحصنات (8/32)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها (89).
(1/4045)
حدود الله وأثرها في حياة الأمم
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحدود, محاسن الشريعة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من فرض الحدود. 2- حد جريمة الزنا والسرقة وشرب الخمر والإفساد في الأرض. 3- النهي عن الشفاعة في حدود الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله اتقوا الله، واعلموا أن من طبيعة البشر التي خلقهم الله عليها تفاوت نزعاتهم وتباين إرادتهم، فمنهم من ينزع إلى الحق والخير، ومنهم من ينزع إلى الشر والباطل، فتارة يسمو ويرتفع، وتارة يتردى في حمأة الرذيلة فيهبط وينحطّ ويصل إلى الحضيض، كما قال تعالى: هُوَ ?لَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ [التغابن:2]، وقال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:7-10].
ولما كانت النفوس النازعة إلى الشر والفساد بحاجة إلى ما يكبح جماحها ويخفف من حدة الشر فيها حتى تقلع عن غيّها وتثوب إلى رشدها فقد فرض ربّ العالمين العليم الحكيم الرحيم الخبير حدودًا وعقوبات متنوعة بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتصلح الفساد، وتكفر عن المجرم جريمته فينجو في الآخرة؛ لأن الله لا يجمع له بين عقوبتي الدنيا والآخرة، ذلك تقدير العزيز العليم.
ولما كانت الحدود في الشرع عقوبة مقررة لأجل حقّ الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ فَلاَ ?لا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187] فكذلك فهي لا تقبل الإسقاط لا من الأفراد ولا من الجماعات، وإنما هي مقررة لصالح الجماعة وحماية للنظام العام، ويخرج من هذا التعزيرُ لعدم تقديره، وفرَض أمرَه لرأي الحاكم، وكذلك يخرج القصاص لأنه حقّ الآدمي متعلق أداؤه بأولياء الدم.
ومن هذه الجرائم التي فرض الله لها عقوبات محدّدة جريمة الزنا، والتي هي من أفحش الجرائم وأبشعها، فهي عدوان على الشرف والكرامة، ومقوّضة لنظام الأسر والبيوت، وضياع للأنساب وانتهاك للأعراض، وتذهب بكيان الأمة، وقد قرر الشارع لهذه الجريمة النكراء عقوبة الجلد للبكر والرجم للثيب من الرجال والنساء.
ومن هذه الجرائم أيضًا جريمة القذف للمحصنين والمحصنات، وهي من الجرائم التي تحل روابط الأسر، وتفرق بين الرجل وزوجه، وتهدم أركان البيت، فقرر الشرع عقوبة القاذف ثمانين جلدة بعد عجزه عن الإتيان بأربعة شهداء، وذلك كي لا تخدش كرامة إنسان أو يجرح في سمعته، فالشرع يحافظ على سمعة المسلم وعدم إهانة كرامته.
وأما السرقة والتي هي اعتداء على أموال الناس وهي من أحب الأشياء إلى النفوس فقد قرر الشرع لهذه الجريمة عقوبة القطع حتى يكون عبرة لغيره بالكف عن اقتراف هذه الجريمة، فيطمئن كل فرد في المجتمع على ماله ونفسه وأهله.
والخمر جريمة تفقد الشارب عقلَه ورشده، وتحمله على ارتكاب كل حماقة وفحش قبيح ومنكر، وكفى بها أنها أم الخبائث، ولذا كانت عقوبته الجلد والضرب بالنعال ليكون ذلك رادعًا له ولغيره من اقتراف مثل هذه الجريمة المفسدة للدين والأخلاق، تصل بصاحبها ومتعاطيها إلى التخنث والدياثة، وكفى بها من ضعة وهوان.
وكذلك المحاربون الساعون في الأرض بالفساد المضرمون لنيران الفتن والمثيرون للاضطرابات العاملون على قلب نظام الحكم القائم بأمر الله، ولذلك كانت عقوبة هذه الجريمة أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض كما قال الله تعالى: إِنَّمَا جَزَاء ?لَّذِينَ يُحَارِبُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـ?فٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ?لأرْضِ الآية [المائدة:33].
أيها المسلمون، هذه الحدود والعقوبات جعلها الله مناسبة لجرائمها، وقد شرعها الله رحمة بالعباد، ليتحقق لكل فرد من أفراد المجتمع الأمن على نفسه وعرضه وماله وسمعته وحريته وكرامته، وإن كل عمل من شأنه أن يعطل أو يؤخر إقامة الحدود فهو تعطيل لأحكام الله ومحاربة له؛ لأن ذلك من شأنه إقرار المنكر وإشاعة الشر والفساد وتقتيل البشر لعدم إقامة الحدود وفوات للحقوق وضياع للأوامر الشرعية.
فاتقوا الله يا عباد الله، وتغلبوا على عواطفكم الجامحة بإخضاعها لأمر الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وحذار من الشفاعة لإسقاط حد من حدود الله، ففي ذلك سخط الله، وترفعوا ـ أيها المسلمون ـ عن إيذاء الناس، واسألوا الله العصمة من كبائر الإثم والفواحش، قال الله تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من دعا إلى الخلق الفاضل والنهج القويم، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله، صح الحديث عن الصادق المصدوق من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن قريشًا أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها رسول الله إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ، فكلمه أسامة، فقال رسول الله : ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) ثم قام فاختطب ثم قال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذ سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) [1].
فالله أكبر أيها المسلمون، هكذا يكون الحق، فلا نامت أعين الجبناء، وأين الثرى من الثريا بين هذا وبين ما عليه الناس اليوم من المماطلات في إقامة الحدود والتعليلات السخيفة والمحاولات الباطلة لمنع إقامة الحدود؟! ونبي الله يقسم وهو البار بقطع يد أشرف نساء الأرض وسيدة نساء أهل الجنة لو أنها ارتكبت جريمة السرقة، وحاشاها من ذلك رضي الله عنها وأرضاها.
وقد قال رسول الله مبينًا خطورة الشفاعة في حدود الله: ((من حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعال فقد ضاد الله عز وجل، ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع، ومن قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال [2] حتى يخرج مما قال)) [3] ، أعاذنا الله من ذلك.
وقد يحدث ـ أيها الناس ـ أن يغفل الإنسان عن الجريمة المرتكبة، وينظر إلى العقوبة الواقعة على الجاني، فيرقّ قلبه ويعطف عليه، ومن أجل هذا يقرر القرآن الكريم أن ذلك مما يتنافى مع الإيمان الذي يتطلب دومًا الطهر والتنزه عن الجرائم والسمو بالفرد والجماعة إلى الأدب العالي والخلق المتين، يقول الله سبحانه وتعالى: ?لزَّانِيَةُ وَ?لزَّانِى فَ?جْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لاْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإسلام ليس مجرّد القول باللسان، ولكنه الاستسلام والإذعان الشامل الكامل لكل ما جاء في الإسلام من فروض وحدود وأحكام وفضائل، دون اتباع للهوى في الأخذ والترك وفي المنشط والمكره، أو الضياع للآخرين أو محاباة للأقارب ومن كان له جاه أو مال أو وساطة، يقول الله تعالى: فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى? يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65].
فالمؤمن يتقبل هذا الأمر بصدر رحب ونفس مؤمنة، لا يخالجه في ذلك أدنى شكّ ولا ريب، ويلازم ذلك التقبل بالاستسلام الكلّي لا الجزئي، ثم الرضا والقناعة التامّة والمضي قدمًا ودومًا وأبدًا في التحاكم إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل كبيرة وصغيرة، وذلك في معاملاته مع الخلق أجمعين، وذلك يشمل التعامل بين الحاكم والمحكوم، الأمير والمأمور، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والفقير والغني، والكبير والصغير، وفي كل ما نأتي ونذر، فإذا حققنا ذلك سدنا العالم وأصبحنا قمة الأمم وقادة الشعوب، اللهم حقق فينا ذلك.
ونحن نعيش في هذه البلاد وقد أعلن حكامها التزامهم شرع الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن المحاكم الشرعية في هذه البلاد قامت على كتاب الله جل وعلا وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كل شؤون الدولة، فنسأل الله تعالى أن يعينهم على ما التزموا بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفق الله الجميع لذلك، وحقق للجميع الآمال والخيرية والله المستعان، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] أخرجه البخاري في الحدود، باب: إقامة الحدود على الشريف والوضيع (8/16)، ومسلم في الحدود، باب: قطع السارق الشريف وغيره (1688).
[2] أي: عصارة أهل النار.
[3] رواه أحمد (2/70)، وأبو داود في الأقضية، باب: فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها (3597)، والحاكم (2/27) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
(1/4046)
حفظ اللسان والتحذير من خطورة الكلام
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد. 2- صور من آفات اللسان. 3- البعد عن اللغو من أركان السلامة. 4- بعض الكلام يدخل النار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله، واحفظوا ألسنتكم، فمن أراد أن يتكلم فليقل خيرًا أو ليصمت، لا يستهوينه الشيطان فيغويه ويوقعه في حمأة الرذيلة بكلمة نابية تصدر منه، فإن عثرات اللسان وسقطاته تورد المرء موارد الهلاك، ولذا كان اهتمام الإسلام بموضوع الكلام وأسلوب أدائه عظيمًا، فقال الله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه عن النبي أنه قال: ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفّر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) [1].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم محاسبون عن كل كلمة تخرج من أفواهكم، فإذا أردتم الكلام في شيء فتذكروا دومًا قول الله تبارك وتعالى: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وتذكروا أيضًا وصية معلم البشرية لمعاذ بن جبل رضي الله عنه في الحديث الطويل حيث أخذ رسول الله بلسانه وقال: ((كف عليك هذا)) ، قال: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) [2].
أيها المسلمون، إن عثرات اللسان لا تنحصر في حدّ معين، وإنما هي أنواع كثيرة، فمنها ما يؤدي إلى الكفر كالاستهزاء بدين الله وكتبه ورسله أو شيء من شرعه، ومنها ما هو دون ذلك كالغيبة والنميمة والكذب وشهادة الزور وما شابه ذلك، وكلها من كبائر الذنوب.
وإنه لمن المؤسف جدًا أن الكثير من الناس يرسلون ألسنتهم ويتكلمون الكلام على عواهنه ليضحكوا به الناس، فيستهزئون بالمسلمين وأصحاب اللّحى وذي اللباس القصير، ويتقوّلون النوادر الكاذبة، فيستهزئون بالمصلين وبالدين ليدخلوا السرور على الناس المتعاظمين، فيقعون في غضب رب العالمين، سواء كانوا في ذلك جادين أو هازلين، فيكذب نسأل الله السلامة والعافية، وتخرج من فيه كلمة كبيرة تورده العطب والهلاك كما قال تعالى: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5]، كما أنه جل وعلا أخبرنا عن مصير مثل هؤلاء الذين يطلقون ألسنتهم باللغو واللغط ويعتذرون قائلين: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66].
عباد الله، إن البعد عن اللغو من أركان السلامة ودلائل الاكتمال، ولذلك ذكره الله في القرآن الكريم بين فريضتين من فرائض الإسلام المحكمة، وهما الصلاة والزكاة، فقال سبحانه وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَو?ةِ فَـ?عِلُونَ [المؤمنون:1-4].
وفي آية أخرى اعتبر الله سبحانه وتعالى البعد عن اللغو وعدم الاشتباك مع السفهاء والعمل على مداراتهم من أوائل الصفات التي يتحلى بها عباد الرحمن فقال: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا [الفرقان:63]، وقال أيضًا: وَإِذَا سَمِعُواْ ?للَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَا أَعْمَـ?لُنَا وَلَكُمْ أَعْمَـ?لُكُمْ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى ?لْجَـ?هِلِينَ [القصص:55].
ومن أجل هذا كان رسول الله يحاسن السفيه بالكلام ويداريه إن لم يكن من ذلك بد، حتى لا تسمع أذناه ما يتنزه عنه من الكلام الفاحش البذيء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رجل على رسول الله ، فلما رآه قال: ((بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة)) ، فلما جلس تطلق النبي في وجهه، وانبسط إليه، فلما انطلق قلت: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له: كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه! فقال: ((يا عائشة، متى عهدتيني فحاشًا؟! إن من شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره)) ، وفي رواية: ((اتقاء فحشه)) ، وفي وراية ثالثة: ((إن من شرار الناس الذين يُكرَمون اتقاء ألسنتهم)) [3].
عباد الله، ونزهوا ألسنتكم عن كل ما يغضب الله، ولا تقولوا إلا الكلام الحسن الطيب، فإنه يحفظ مودة الأصدقاء ويستديم محبتهم وصداقتهم، كما أنه يطفئ من خصومات الأعداء ويكسر حدتهم ويوقف عوامل الشر عندهم، والكلام الطيب الحسن يعود على صاحبه بالنفع والأجر والمثوبة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الإسراء:53]، وقال تعالى: ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في حفظ اللسان (2409)، وهو في صحيح الجامع (348).
[2] رواه أحمد (5/237)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2619)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
[3] رواه البخاري في الأدب، باب: لم يكن النبي فاحشًا ولا متفحشًا (7/80)، ومسلم في البر والصلة، باب: مداراة من يتقي فحشه (2591)، والرواية الثانية والثالثة عند أبي داود في الأدب، باب: في حسن العشرة (791، 792).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الجليل الشأن، الواسع السلطان، الآمر عباده بحفظ اللسان، القائل: ?لرَّحْمَـ?نُ عَلَّمَ ?لْقُرْءانَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ عَلَّمَهُ ?لبَيَانَ [الرحمن:1-4]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وجعلنا الله منهم ومعهم أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم))، وفي رواية: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)) [1].
عباد الله، إذا كانت الكلمة التي لا يلقي لها الإنسان بالاً قد ترفعه إلى الجنة أو تهوي به في نار جهنم فما بالكم بالكلمة المقصودة التي يتكلم بها في أمور وهمية وظنون كاذبة؟! أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
فالحذر الحذر ـ عباد الله ـ من خطر الكلمة وزلات اللسان، فعلى الإنسان أن يكبح جماح نفسه عن الكلام، ويسائل نفسه قبل التفوه بالكلمة: هل هي مما يرضي الله أم مما يسخطه؟ فإن كانت من رضوان الله تعالى كذكر الله وقراءة القرآن وبذل النصيحة أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر وغير ذلك من أبواب الخير فليتكلم، وإلا فالصمت أولى، والله عز وجل يقول: لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ الآية [النساء:114]، ورسول الله قال: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو ذكر الله)) [2] ، وقال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت)) [3].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
فاذكروا الله على نعمه، واشكروه على آلائه، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.
والمسلم يلتزم الصدق قولاً باللسان وعملاً بالأركان، ويعلم يقينًا أنه مسؤول ومحاسب عن كل ما يصدر عنه، يروى عن بعض السلف الصالح أنه كان حتى إذا خاطب بعض الحيوانات وهي لا تعرف الكلام تكلم عليها بقوله: أصلحك الله، فلما سئل عن ذلك قال: أريد أن أعوِّد لساني على الكلام الطيّب، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصفات الذميمة التي ليست من صفات المسلم فقال: ((ليس المسلم باللعان ولا بالصخاب ولا بالفاحش البذيء)) ، كما أخبر الله جل وعلا عن عباده حيث قال تبارك وتعالى: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا [الفرقان:63]، وصلّى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] رواه البخاري في الرقاق، باب: حفظ اللسان (7/184)، ومسلم في الزهد، باب: التكلم بالكلمة يهوي بها في النار (2988).
[2] رواه الترمذي في الزهد (2414).
[3] رواه البخاري في الرقاق، باب: حفظ اللسان (7/184)، ومسلم في اللقطة، باب: الضيافة ونحوها (48) عن أبي شريح الخزاعي رضي اله عنه.
(1/4047)
حقوق القرآن الكريم علينا
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منّة الله على البشر بنزول القرآن. 2- قراءة القرآن وحفظه وتدبره. 3- تعلم القرآن وتعليمه. 4- العمل بالقرآن من أهم حقه علينا. 5- أجر قراءة القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي أنزل على عبده القرآن، وجعله مصدقًا لما بين يديه من الكتب ومهيمنًا عليها، وتكفل بحفظه من التحريف والضياع، أحمده سبحانه وتعالى على نعمائه وأشكره على تفضله وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين لهم إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن من أعظم نعم الله علينا إنزال القرآن الكريم على عبده محمد ليكون للأمة دستورًا تسير على نهجه؛ ليحقِّق لها السعادة في الدنيا والآخرة، ينير لها الطريق ويرشدها إلى الخير والفلاح.
فيوم أن كانت أمتنا أمة القرآن تعتصم به وتستمسك بشريعته وتقيم حضارتها على هديه رفعها الله إلى الذروة وكانت لها الرفعة والسؤدد والقوة والمنعة والسلطة وقمة المجد، وبمقدار ما تخلت عنه بقدر ما تخلى الله عنها، وهذا مصداق قول الرسول : ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين)) [1] ، اللهم ارفعنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
فيا أيها المؤمنون، يا أمة القرآن الكريم، إن لهذا الكتاب حقوقًا علينا لا بد من معرفتها والعمل بمقتضاها والتحاكم إليه في كل صغيرة وكبيرة.
فمن حقوق القرآن علينا قراءته وحفظه، فالقراءة هي سبيل المعرفة وأداة التعليم، والقرآن هو كلام الله غير مخلوق، فعلى مائدته يجد الإنسان ضالته، فهو أساس الدين وعماد الشريعة وجلاء البصيرة، ولا عذر لأحد في الإحجام عن قراءته، فإنه إن شق عليه القراءة لثقل في نطقه أو ضعف في حفظه كان له أجران: أجر المشقة وأجر القراءة، قال عليه الصلاة والسلام: ((الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)) [2]. فالكل من المسلمين مطالب بأن بتعبد الله بتلاوة القرآن.
وحفظ القرآن صنو القراءة، ولو خصص الإنسان لنفسه كل يوم وردًا قرآنيًا سهل عليه حفظه، وبذلك يعمر القلب بنور هداية الكتاب المبين، قال : ((إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب)) [3]. حقيقةً، إن الذي في جوفه شيء من القرآن هو حي حياة عظيمة لا مثيل لها، أما الذي ليس في جوفه شيء من القرآن فجوفه مظلم ظلمة حالكة، دمار وخراب.
ومن حق القرآن علينا تدبر معانيه والعمل بما فيه، قال تعالى: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29]، وقد ذمّ الله تعالى أولئك الذين أعرضوا عن القرآن ولم يتدبروا آياته فقال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ?لْقُرْءانَ أَمْ عَلَى? قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
ومن حقه علينا تعاهده، وذلك بالمواظبة على تلاوته وقراءة ما حفظناه حتى لا يتفلت منا وتضيع تلك الثروة العظيمة الكريمة من حفظه، وبذلك يكون الضياع والخسران، قال رسول الله : ((تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها)) [4] , ولا سيما قراءة سورة الإخلاص: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ ، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه من قرأها في يومه وليلته عشر مرات بنى الله له قصرًا في الجنة، وقراءتها والمعوذتين دبر كل صلاة، وثلاث مرات دبر المغرب والفجر، وقراءة مائة آية قبل النوم، وقراءة سورة الكهف في يوم الجمعة وليلته.
ومن الحقوق لهذا الكتاب الكريم تعليمه لأجيال الأمة، لأولادنا وبناتنا وتحفيظهم إياه، فهذا الكتاب ضمن الله حفظه بقوله جل شأنه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، وإنما يحفظ القرآن بحفظ الأمة وتعاهدهم له، فكان لزامًا علينا تعلمه وتعليمه لأبنائنا جيلاً بعد جيل، فهو نبراس حياتنا وسبيل عزنا ومناط سعادتنا، قال : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) [5] ، فهو مصدر عزنا، وفيه نجاحنا وفلاحنا.
عباد الله، جميل أن نقرأ القرآن وأن نحفظه، وأجمل من هذا تفهمه وتدبر معانيه وتعلمه وتعليمه، ولكن الأجمل من هذا كله العمل بما فيه، فهذا من أعظم حقوق كتاب الله علينا، وينبغي الاعتصام به والتحاكم إليه في كل ما نأتي ونذر، فإن الله لم ينزله إلا ليكون دستورًا للحياة البشرية عقيدة وعبادة وسلوكًا، وقد كان أسلافنا رضوان الله عليهم يقرؤون اليسير، ويقفون عنده حتى يعملوا به، وبذلك توارثوا القرآن علمًا وعملاً، تلاوة وترتيلاً وفهمًا وتفسيرًا وتدبرًا، فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا) [6]. تلكم هي الفطر الصافية الطاهرة النظيفة.
فمن المؤسف جدًا ـ أيها الناس ـ أن القرآن الكريم أصبح في كثير من ديار الإسلام لا وظيفة له ولا مهمة سوى أن يملأ فراغًا من وقت الإذاعة، أو يرتله القراء في المآتم، أو يستجدون به على أضرحة الموتى، أو يعلقونه تمائم ورقى، إلى غير ذلك من البدع المنكرة التي ينهى عنها القرآن.
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بحق كتاب الله عليكم، واحذروا أن يكون حجة عليكم لا لكم، ولا تكونوا ممن لا يعرف للقرآن قدره إلا عبر المذياع أو يستفتحون به المحافل والمهرجانات وما شابه ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في صلاة المسافرين، باب: فضل من يقوم بالقرآن وتعليمه (817).
[2] رواه البخاري في تفسير سورة عبس (6/79)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتعتع فيه (797).
[3] رواه الترمذي في ثواب القرآن (2914)، والحاكم (1/454) وصححه، ولكن تعقبه الذهبي بأن فيه قابوس وهو لين، وضعفه الألباني في تخريج المشكاة (2135).
[4] رواه البخاري في فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعاهده (6/109)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الأمر بتعهد القرآن (791).
[5] رواه البخاري في فضائل القرأن، باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه (6/108).
[6] رواه عبدالرزاق في مسنده عن معمر عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: أيها المسلمون، لقد صح من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه قال: خرج علينا رسول الله ونحن في الصفة، فقال: ((أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطحان ـ أو قال: إلى العقيق ـ فيأتي منه بناقتين كوماوين [1] في غير إثم ولا قطيعة رحم؟)) فقلنا: نحب ذلك، قال: ((أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم ـ أو يقرأ ـ آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل)) [2] ، فقراءة كتاب الله جل وعلا نور للعبد في الدنيا وذخر له في السماء، يقرأ ويرتل ويرقى في درجات الجنة، اللهم إنا نسألك من فضلك.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)) [3].
فعليكم ـ عباد الله ـ بملازمة قراءة القرآن الكريم في بيوت الله تعلمًا وتعليمًا، فهو خير صاحب تحصل من صحبته بركات كثيرة في الدنيا والآخرة. فاعتصموا ـ أيها الناس ـ بكتاب الله، وتمسكوا بشريعته عقيدة وعبادة وسلوكًا.
اللهم ارفعنا بالقرآن الكريم، وأعزنا وانصرنا به، واجعله حجة لنا لا حجة علينا، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.
إن القرآن الكريم حبل الله المتين وصراطه المستقيم، فيه العزة وفيه القوة والنصر السؤدد، فيه الفلاح والنجاح، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، من حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن قال به صدق، فيه خبر ما قبلكم، وحكم ما بينكم، ونبأ ما بعدكم، من ابتغى العزة في غير القرآن أذله الله، وكما قال رسول الله صلى عليه وآله وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلنا ممن يتعلم القرآن ويعلِّمه، وأن يعلمنا منه ما جهلنا، وأن يرزقنا حلاوته وطلاوته، وأن يذكرنا منه ما نسِّينا، وأن يرزقنا حفظه وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيه عنا...
[1] الناقة الكوماء: الناقة العظيمة السنام، وكوماوان تثنية لها.
[2] رواه مسلم في صلاة المسافرين، باب: فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه (803).
[3] رواه الترمذي في ثواب القرآن، باب: ما جاء فيمن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر (2912).
(1/4048)
الأيتام
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
أحمد بن عبد العزيز الشاوي
بريدة
جامع المنتزه الشرقي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- هل اليتم هو بوفاة الوالدين أو أحدهما فقط؟ 2- التفريط بحقوق الأبناء أشد من اليتم الحقيقي. 3- السلبيات والأمراض الناتجة عن تفريط الآباء في تربية أبنائهم. 4- تجريم الإسلام للآباء والمسؤولين غير المراعين لحقوق الأبناء. 5- أسباب هذه الظاهرة وعلاجها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا ربكم يا مسلمون، وإن تتّقوا الله يجعل لكم فرقانا، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم، والله ذو الفضل العظيم.
إذا كان الموت ضحاياه أيتام فقدوا حنان الأبوة فإن هؤلاء سيلقون من أمهاتهم وأقاربهم من يكفلهم ويرعاهم، وإذا كانت الجريمة الخُلقية ومقدّماتها تثمر أيتامًا مجهولي النسب بلا أم ولا أب فإن أولئك سيجدون من أهل الخير والإحسان من يحتضنهم ويهتمّ بأمرهم، لكن حينما يكون اليتم من أنواع أُخر فإن تلك ـ ورب ـ لإحدى الكبر، أيتام هذا النوع ليسوا ضحية وفاة ولا نتاج فاحشة، ولكنهم ضحايا لآباء وأمهات لم يدركوا أسباب الهداية ولم يركبوا سفينة النجاة.
أيتام هذا النوع من ضحايا آباء قد شُغِلوا وأمهات تخلَّين عن القيام بالمسؤولية، فأسندت التربية للخادمات والمتابعة للسائقين، وذاك ـ وربي ـ هو اليتيم بعينه.
ليس اليتيم من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلاً
فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما وبحسن تربية الزمان بديلاً
إنّ اليتيم هو الذي تلقى له أمًّا تخَلّت أو أبًا مشغولاً
أيتام هذا النوع ضحايا لحالات الطلاق يوم أن يكون الولد ضحية للعناء والتغيب والمهاترات، ويوم أن يبقى الولد مشفقًا بين أب مشغول بزوجة جديدة وأم مشغولة ببعل جديد. أيتام هذا النوع ضحايا الفهم الخاطئ لتعدد الزوجات، حينما يكون همُّ الزوج قضاء الوطر وإشباع الغريزة دون أن يرى في حاجات الأبناء ومتطلبات التربية. أيتام هذا النوع ضحية تسلط الزوجة الثانية حينما تكون ممن لا يخشى الله ولا يتقيه، حينما تكون سببًا في إيغار صدر الأب على أولاده وإشغاله عن واجباته. أيتام هذا النوع هم ضحايا السلبية المفرطة يوم أن تخلى الآباء عن واجب التربية، وشغلوا بجمع الحطام أو السهر مع الرفاق.
اليتم هذا ولَّد جيلاً منحرفًا يتلقّى قدواتِه من السافلين والسافلات ممن صنع منهم الإعلام أبطالاً ونجومًا. هذا اليتم ولّد شبابًا تائهًا في دروب الانحراف والرذيلة، لا يلقى موجها ولا يجد محاسبًا ولا معاتبًا. هذا اليتم ضحاياه بنات في عمر الزهور وقعن في شراك المعاكسات، وانتهى بهن المطاف إلى نهاية أليمة وعواقب وخيمة. هذا اليتم ضحاياه شباب صغار أدمنوا التدخين، وتورّطوا في انحرافات خُلقية؛ لأنهم فقدوا من يسأل عنهم وهو حيّ. هذا اليتم ضحاياه جيل من شباب الأمة غرق في وحل المخدرات ومستنقع الشهوات. ضحايا هذا اليتم أبناء أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ لأنهم لم يظفروا بالولي الذي يخاطبهم قائلاً: يا بنيَّ أقم الصلاة. ضحايا هذا اليتم شباب تجدهم مع كثبان الرمال، يمارسون أعمالاً تأنف منها الرجولة وتتنافى مع الحياة والمروءة. ضحايا هذا اليتم طلاب فاشلون في حياتهم الدراسية والعملية. هذا اليتم صنعه الآباء يوم أن شغلوا عن بيوتهم، وأصبحت الاستراحات مكان أنسهم ومتعتهم.
إنّ هناك أناسًا شغِلوا عن بيوتهم بكسب المال، فترى الواحد منهم يكدح طوال النهار وطرفًا من الليل، ولا يعود إلى داره إلا مكدود الجسم مهدود القوى، قد استنفد طاقته حتى لم يعد لديه استعداد لحديث ولا مؤانسة لأهله وولده، قد يكسب من ورائه مالاً ومتاعًا، ولكنه يعرض نفسه لخسران الحياة الزوجية وضياع الأولاد والذرية.
وأسوأ من هؤلاء أناس شغلوا عن بيوتهم بمعاشرة الأصدقاء والسمر في الاستراحات وحضور الحفلات والسهرات والاشتراك في الرحلات، فترى الواحد منهم بعيدا عن بيته وأهله معظم الأوقات، وإن لم يذهب من الدار جاء هؤلاء الأصدقاء إليه. إن هذا الإنسان قد يكسب ود عدو من الأصدقاء، وقد يكسب سمعة اجتماعية جيدة، ولكنه يعرض نفسه إلى خسران السعادة البيتية.
وهناك أناس شغلوا عن أولادهم بأمور محمودة، فتراهم في ذكر وعبادة ونصح للناس ودعوة. إن هؤلاء جميعًا قد فقدوا القدرة على الموازنة بين الحقوق المقدمة، وفقدان القدرة على هذه الموازنة يورث خللاً واضطرابًا في الحياة الداخلية للفرد منهم في حياته مع زوجته وأولاده.
إن الأهل والذرية ـ أيها المسلمون ـ من أحق الناس بالعناية وبأن توجه الدعوة إليهم. إن الواحد من هؤلاء الذين فقدوا القدرة على تلك الموازنة لا يلبث أن يستيقظ من غفلته فإذا هو في وادٍ وزوجته وأولاده في وادٍ آخر، أفكاره غير أفكارهم، ومواقفه تختلف عن مواقفهم، وسلوكه في الحياة بعيد عن سلوكهم، وذلك لأنه ترك أهله وأولاده خاضعين لمؤثرات أخرى من وسائل الإعلام بأنواعها والبيئة والعلاقات والقرابات، وربما كان كثير منها لا يتفق مع اتجاهه في الحياة. ومن أصعب الأمور على النفس أن يرى المرء زوجه وأولاده يسيرون في طريق الزيغ والانحراف والضلال.
التفكك الأسري بكافة أشكاله سواء تمخّض عن إهمال أو سوء تربية أو افتراق بين الزوجية أو انشغال عن الأهل والأولاد، كل هذه الأشكال من أسباب انحراف الأحداث وتربة خصبة في نفسية الولد لاستقبال بُذور الجريمة، وترعرع هذه النبتة في هذا الجو الملوث.
إن الطفل بحاجة ملحة إلى التغذية النفسية، وهذه الأجواء تحرمه من هذا الغذاء، فلا يسعد بالحنو الكافي، وكيف يرجى أن يستقبل الأب دنيا الناس بالشر وقد عبثت بحقه معاول الإهمال والضياع؟! والذي أضاع حقه من الرعاية والعناية هو الذي دفع به إلى هوة التشرد ومستنقع الأشرار.
وإذا اجتمع مع انشغال الآباء انشغال الأمهات بالوظائف والأعمال كان الأمر أسوأ حينما تُوكَلُ الأمور إلى الخادمات ومؤثرات أخرى، فهذا الجيل الغربي من التائهين والضائعين المحطّمي الأعصاب المبلبلي الأفكار القلقي النفوس، وهذه النسبة الآخذة في الارتفاع حسب إحصاء الغربيين أنفسهم للانحراف والشذوذ بكل صوره وألوانه، هذه الظواهر والآثار كلها هي من آثار التجربة التي خاضها الغرب في المرأة؛ لأن هؤلاء جميعًا هم أبناء العاملات والموظفات الذين عانوا من إرهاق أمهاتهم وهم في بطونهن، ثم تعرضوا لإهمالهن بعد أن وضعنهن، وماذا يبتغي الناس من تجربة فاشلة كهذه؟! أفلا يتدبرون؟!
لذلك اعتبر الإسلام إهمال الأطفال والانشغال عنهم جرمًا كبيرًا وشرًا مستطيرًا، وفي الحديث: ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت)) ، وقال لقاسي الفؤاد الذي يبخل مع طفلة بالقبلة الحانية: ((أوَأملك أن ينزع الله من قلبك الرحمة؟!)) ، واعتبر كلا من الزوجين متحملاً أمانة التربية والرعاية: ((وكل مسؤول عن رعيته)).
وشرع الدين وسائل عدة للتقارب الزوجي إذا انفجرت براكين الخلاف مخافة أن ينفرط عقد التلاحم الأسري، ولم يشرع الطلاق إلا عند تعذر الوفاق. كل هذا وذاك حماية للناشئين من الضياع والتشرد، ورغبة في إيجاد نشء سوي لا يعتريه النقص النفسي، ولا يتأرجح في سلوكه المستقبلي.
أيها المسلمون، إن هؤلاء الذين يشتغلون عن أهليهم يَجْنون بعد حينٍ المصاب والعلقم، ويتجرّعون غصص العناء والشقاء، والحياة اليوم معقّدة الجوانب مترعة بأسباب التأثير.
أخي رعاك الله، لا أدعوك لكي تكون حبيس منزلك، مؤثِرًا العزلة، قابضًا يدك عن التعاون مع بني جنسك، قاطعًا علاقاتك بالناس، تاركًا الدعوة إلى الله والسعي في طلب الرزق، وإنما هي دعوة للتوازن وإعطاء كل ذي حق حقه قدر الإمكان، فوازنْ بين الحقوق، وليكن لك مع أهلك وأولادك وقت تملؤه بالمؤانسة العذبة والحديث الجذاب، وأشرق عليهم بعطفك ولطفك وحنانك؛ ذلك من أجل أن لا ينشأ أولادنا أيتامًا ونحن أحياء، وحتى نسعد بالولد الصالح والذرية المباركة.
أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأسوأ الأيتام حالاً أيتام العلم والأدب، من يعيش بين أبوين لا يدركان من معاني الأبوة والأمومة وحقوقها إلا جلب الطعام والشراب وتأمين وسائل الترفيه وتحقيق طلبات الأبناء دون قيود أو ضوابط شرعية، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، ومن هؤلاء من زرعوا بذور الفساد والإفساد في بيوتهم، يوم أن نصبوا فيها أجهزة تبث الرذيلة وتحارب الفضيلة وتقتل الحياء وتسلب الصفاء والنبل من الأبناء، أجهزة أثبتت الأحداث والوقائع أنها هزت أخلاق الأمة وخلخلت ثوابتها ونزعت معالم الدين وتعظيم الشعائر من قلوب الناس، أجهزة ساهمت في صد الناس عن ذكر الله وعن الصلاة، وجرَّأت الشباب على الجرائم والسلوكيات الخاطئة، وعلمت الفتيات فنون التمرد على القيم والآداب والأخلاق، وفي كل يوم يظهر للعيان من شأنها شان، فَمَا لِهَؤُلاء ?لْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [النساء:78].
إن بيتًا فيه هذه الأجهزة أبناؤه أيتام ولو كانوا بين أبوين يغدقان عليهم صنوف اللباس والطعام والشراب، إن أبًا يجلب هذه الأجهزة لبيته لهو أب يصنع معالم اليتم وأمارات الحرمان، ويداه أوكتا وفوه نفخ.
إن مثل هذا الأب هو من عنته تلك الفتاة حينما قالت:
ألبستنا ثوب الرذيلة ضافيا وتركتنا نَختال فيه ونرفل
إنِّي ليحزنني بأنك يا أبِي يوم القيامة عن صناعي تُسأل
أيها المسلمون، إن الله سائل كل راع عما استرعاه: حفظ ذلك أم ضيعه، و((ما من عبد يسترعيه الله رعيه يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) ، و((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت))، بهذا صحت الأخبار عن النبي المصطفى المختار.
قال ابن القيم رحمه الله: "فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم، فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا".
أيها الآباء الكرام، لكي نرفع عن أبنائنا اليتم الأقسى والأمَرّ ولكي لا نجعل من أبنائنا يتامى ونحن أحياء، لكي نسعد بصلاحهم وبرّهم في الحياة ونقرّ بدعائهم بعد الممات، فإن في هدي الإسلام وتعاليمه الدواء والغذاء.
أيها الأب المبارك، ابدأ بنفسك ثم بمن تعول، فقوِّمْ نفسك تستقِمْ لك ذريتك، إذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟! وانظر كيف حفظ الله اليتيمَين بصلاح والدهم، قال تعالى: وَأَمَّا ?لْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـ?مَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى ?لْمَدِينَةِ الآية [الكهف:82].
اجعل من هدي رسول الله لك منهجًا وقدوة، فهو النبي الذي لم تشغله هموم الأمة وتكاليف الرسالة عن القيام بحقوق الأهل والذرية، واقرأ في سيرته وقصصه مع أبنائه وأبناء بناته تجد صورًا تعجز الكلمات عن وصف دلائلها.
الانشغال عن الأهل والولد تفريط في حقّ الرجل والأسرة وظلم بيِّن، وإن أحقّ الناس بتوجيهك أولادك وزوجك الذين معهم تعيش وبهم تُعرَف، وشرهم وخيرهم مقرون بك، فكن لهم معاشرًا، ولا تتركهم نهبًا للوساوس والخطرات وعرضة للوحشة والأزمات وفريسة للمغريات والمفسدات.
اغرس في أولادك بذور الفضيلة، وجنبهم خوارمها، وراقب تصرفاتهم، وتعرف على جلسائهم، واربطهم بالصحبة الصالحة والمجالس الإيمانية، ونمْ بعدها قرير العين، لا نومة غافل متساهل، ولكن نومة من ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا، فهو يقظان نائم.
حَصِّنْ أفكار أولادك بنين وبنات من الأفكار الرذيلة والدعوات المنحرفة والدعايات المضللة، وغذِّ عقولهم بالعلم النافع والغذاء الفكري الهادف. أشركْ شريكة حياتك وأولادك الكبار في مهمة رعاية الأسرة وتنشئة أفرادها على الخير والفضيلة.
وبعد أن تبذر البذرة وتغرس الفسيلة ارفع يدك إلى مَنْ قلوبُ العباد بين أصبعين من أصابعه وقل: يا رب، هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً [آل عمران:83]، وقل: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74]، كما قال عباد الرحمن، وردّد: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ [النمل:19]، وإنك بعدها ستسعد بإذن الله بأبناء بررة وذرية صالحة ترفع رأسك في حياتك، وتدعو لك بعد مماتك، ويوم أن تُغفِل ذلك فأبناؤك يتامى ولو كنت فوق أطباق الثرى، فإن اليتيم حقًا يتيم العلم والأدب، ويوم أن تفعل ذلك سيسعد أبناؤك بتربيتك وعلمك ولو حرموا من روحك وجسمك. وإذا فعلت السبب ولم يتحقق لك الطلب فاعلم أن ذلك ابتلاء من الله، والله يختص برحمته من يشاء، ولك في نبي الله نوح مع ابنه أسوة، وحسبك أنك قمت بالرسالة وأديت الأمانة، فبرئت ذمتك ورفعت عنك الملامة.
أقرَّ الله عينك بصلاح أهلِك وولدك، وأسعدك بهداية فلذةِ كبدك، إنه على كل شيء قدير.
اللهم صلِّ وسلم على خير البشر ومَنْ بَشَّر وأنذَر نبينا محمد وعلى آله وصحبه...
(1/4049)
رمضان وأحوال الأمة
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
أحمد بن عبد العزيز الشاوي
بريدة
1/9/1422
جامع المنتزه الشرقي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفتن والابتلاء الذي حلّ بالأمة. 2- الغزو للأنظمة والقوانين من الكفرة على أمة الإسلام. 3- الفساد الداخلي للأفراد والمجتمعات سبب نكستنا. 4- الحل هو الفرار إلى الله سبحانه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: في كل مجتمع مسلم لقاء بين زائر وَمزور، لقاء يتجدّد كلَّ عام، تحفّه الخيرات والمكارم والإنعام، أمّا المَزور فكل مسلم رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبخير الأنام محمد نبيًا ورسولاً وكل مؤمن يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، أما الزائر فضيف عزيز كريم يحل علينا كل عام يحمل معه المكارم والبشائر، ويفيض على الأمة من سحائب الجود الإلهي والكرم الرباني.
يحل علينا كل عام، فتستقبله الأمة بالوجوه الباسمة والنفوس السامية والهمم العالية، لكن في هذا العام قد زارنا ونعم الزائر هو، فاستقبلته الوجوه البائسة والهمم الباردة.
خاطب الضيف العزيز مضيفه فتكلم وافد المسلمين قائلاً:
مرحبا أهلاً وسهلاً بالصيام يا حبيبًا زارنا في كل عام
عذركم شهرنا عما ترى إنّ أرض المسلمين اليوم تضام
أيها الشهر المعظم، عذرًا فنحن والله لا نعرف أفضالك ولا ندرك جلالك ولا نستشعر نفحاتك ولا نستقي من بركاتك. عذرًا أيها الشهر المعظم، قد حللت علينا هذا العام ونحن نصارع طوفانًا من الفتن هائجًا وموجًا من الهموم عاتيًا، تحل علينا هذا العام وأمة الإسلام قد رمتها أمم الكفر عن قوس، وتكالب علينا الأعداء يهوديُّهم ونصرانيُّهم، شيوعيُّهم وهندوسيُّهم، بوذيُّهم ورافضيُّهم منافقُهم وعلمانيُّهم، وأمة الإسلام ما بين مظلوم تُداس كرامته ويهجَّر من بلده ويُحال بينه وبين شريعة ربه، وما بين متخاذل خذل إخوانه في موقف أهينت فيه كرامته، وانتقص فيه عرضه، وما بين ضعيف لا يملك حولاً ولا طولاً ولا قوة.
يا شهر الله المعظم، نحن المسلمين قد أوذينا في ديننا وعقيدتنا ودمائنا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا. يا شهر الله المعظم، تحل علينا هذا العام وقد أطلت الفتن بأعناقها وأصبح الحليم حيرانًا، تذبذبٌ في الآراء والمواقف، نكوصٌ على الأعقاب، انهزامية نفسية، تناقض في الأحكام والفتاوى، فأصبحت الأمة تعيش فراغًا تبحث فيه عن مرجعية ولمّا تجد.
يا أيها الشهر المعظم، عذرًا على الجفاء وضعف الاحتفاء فأنت تحل علينا ضيفًا عزيزًا في زمن ظهرت فيه خفافيش الظلام وهم المنافقون الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وبرز فيه أصحاب الشهوات الذين يريدون أن تميل الأمة ميلاً عظيمًا، ظهروا في زمن انشغلت فيه الأمة بمصائبها، وهكذا هم لا يظهرون إلا في الأزمات، يظهرون ليبثوا سمومهم ولينشروا أفكارهم العفنة ودعواتهم المنحرفة والتي تهدف إلى إفساد أخلاق المجتمع ونبذ الأحكام الشرعية التي تكفل قيام مجتمع محافظ تسود فيه الفضيلة.
لقد استغلوا انشغال الأمة رعاة ورعيّة بالأحداث الجارية، فبدؤوا في بثّ سمومهم، فسمعنا عن دعواتهم لإصدار بطاقات للمرأة تحمل صورتها بل قد فعَلوا، وقرأنا عن دعواتهم لتغيير المناهج لأنها ـ بزعمهم الكاذب ـ تخلق جيلاً يحمل مبادئ الإرهاب والتطرف وتغذي روح العدوانية، ونسوا بل تناسوا أن المناهج الإسلامية التعليمة في بلدنا هي السبب بعد الله في ترابط المجتمع وتربية أفراده على الانتماء للدين والأمة، وأنها هي التي تربي الناشئة على طاعة الله وطاعة رسوله والسمع والطاعة لمن ولاهم الله أمر الأمة، وأنها هي التي تصنع جيلاً مسلمًا معتزًا بدينه مفتخرًا بانتمائه إلى بلد المقدسات، جيلاً قادرًا على الدفاع عن بلده وأمته إذا اشتدت الأزمات، أما المناهج التي يريدها المنافقون فمناهجُ تغذي في الناشئة روح الولاء لأعداء الله، وتضعف جانب التميز والشعور بالعزة الإسلامية، مناهج تربي الشباب على الميوعة في المبادئ والأفكار، فينشأ جيل ضعيف الانتماء لدينه ووطنه.
يا أيها الشهر المعظم، معذرة على هذا الجفاء، فنحن نستقبلك والأمة تعيش أحداثًا أبرزت الحقائق وأظهرت الخلل في عقيدة الولاء والبراء عند المسلمين، فأصبحنا نسمع من يدعو لنصرة الكفار، ونقرأ لكتاب يسخرون من الإسلام والمنتسبين إليه، وأصبحنا نسمع من يدعو إلى الله أن يرفع عن الكفار الجمرة الخبيثة، وآخر يفر من المساجد التي يُقنت فيها للمسلمين، وصدق الله: مَّا كَانَ ?للَّهُ لِيَذَرَ ?لْمُؤْمِنِينَ عَلَى? مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].
يا شهر الله المعظم، نحن نستقبلك وأمة الإسلام تعيش حربًا ظالمة، يُقتل فيها الأبرياء، وتهدم البيوت، وتسفك فيها دماء الضعفاء من الأطفال والشيوخ والعجائز والنساء، حرب صليبية تحت غطاء محاربة الإرهاب، وتحت هذا الغطاء يُجَرُّ المسلمون إلى استعداء إخوانهم وزرع بذور الحقد والغلّ بين المسلمين.
يا أيها الشهر الذي زارنا، تحلّ علينا هذا العام وقد حصحص الحق، واتضحت الحقائق، وانكشف المغطى، وبرزت نتائج الحرب الصليبية التي يسمونها الحرب ضد الإرهاب. لقد تبين أخيرًا أن الإرهاب الذي يُحارَب هو إعفاء اللحى وارتداء الحجاب والترفع عن الغناء والموسيقى، وأن الإرهاب هو التوحيد الخالص وهدم المظاهر الشركية.
لقد بدت الحملة الصليبية لمكافحة الإرهاب، فحلق الناس لحاهم، وتسابقت النساء لنزع الحجاب، وفتحت المزارات والأضرحة لزوّارها، وصدحت في وسائل الإعلام أصوات الموسيقى، وصدق الله: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
ألا ليت الحالقين للحلى، ويا ليت المتبرجات من النساء، ويا ليت السامعين للغناء، يا ليت هؤلاء يدركون أنهم بأفعالهم تلك يحققون أهداف الحملة الصليبية على الأمة الإسلامية من حيث لا يشعرون.
ويا أيها الرجال المتجمّلون باللحى، ويا أيتها النساء المتحشّمات، ويا أهل الصلاح والاستقامة، هنيئًا لكم وصف الإرهاب بمفهومه الغَربي الكفريّ، هنيئًا لكم عداوة الكفار لكم وعداوتكم لهم.
يا أيها الشهر الكريم، لقد استعدت لك الأمة وتهيأت لاستقبالك، فالإعلانات التجارية والزحام في الأسواق ينبئك عن حال فئة من الناس لا ترى فيك إلا موسمًا لملء البطون والتنافس في كثرة الصحون، ووسائل الإعلام جعلت منك موسمًا للهو والترفيه غير البريء، عبر الفوازير والمسلسلات الساقطة مما طاش به عقل الحليم، وما طاش إلا لما فيها من السفه والسقوط الوخيم.
يا أيها الشهر المعظم، حللْتَ علينا واليهود والنصارى عبر وسائل إعلامهم الفاسدة المفسدة تشن حربًا إعلامية جائرة على بلادنا، واصفة إياها بتبني الإرهاب والإفساد، ولعمرو الله إنها تعلم أن بلادنا لم تعتد على أحد، ولا ترضى أن يعتَدَى على أحد، لكنهم يعنون بالإرهاب أننا دولة تحكم بالإسلام، وتقيم شعائره، وتعلم مبادئه، وتنشر تعاليمه في العالم عبر المراكز الإسلامية والجمعيات الخيرية، وصدق الله وهذا يؤكد الحقيقة الآية: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وإذا كان هذا إرهابًا فليشهد العالم أننا إرهابيون وأننا متطرّفون وأننا مستعدون لتحمل تبعات هذا الإرهاب وتكاليفه.
أما النساء فيرين فيك فرحة للهروب إلى الأسواق والتجوال فيها قرب السحر، حيث يوأد الحياء وتقتل المروءة والشهامة، حيث ينصب الشيطان راية للشباب. قد تهيئوا لك بتجهيز الاستراحات وتهيئة الملاعب، هؤلاء هم الناس الذين يستقبلونك، فعذرًا أيها الشهر المبارك.
يا ضيفنا، يا شهر الله المعظم، حينما تحلّ علينا يغدو إلى المساجد أناس تعرف منهم وتنكر، ما هم بجن ولا ملائكة، كل ما نعرفه عنهم أنهم مسلمون، ويسمعون نداء الله يجلجل في بيوتهم طوال العام، لكنهم لا يعرفون طريقًا إلى بيت الله إلا حينما تحلّ علينا، وحتى حينما تحلّ علينا فهم يَكثُرون عند المغرب والفجر، وينامون عن الصلاة في الظهر والعصر، فبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان.
يا شهر الله العظيم، هذه بعض حالنا، وهذا خبر ما عندنا، وهذا هو عذرنا حينما استقبلناك بالفتور وضعف العزيمة، فيا ترى ما خبر ما عندك؟!
قال الضيف العزيز: أما خبر ما عندنا فسوف أنبئك به بعد أن تستريح وتريحَ قليلاً، وبعد أن تستغفروا ربّكم كثيرًا، فأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الودود.
_________
الخطبة الثانية
_________
لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فبعد أن قال وافد المسلمين قوله ووصف حالهم أجاب الزائر الكريم شهر رمضان المعظَّم بلسان الحال فقال: قد تسمّعتُ ـ يا وافد المسلمين ـ إلى مقالك وتألّمت لحالك، وآلمني أن تكونوا آيسين قَنِطين، أوَما علمتم أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون؟!
لِمَ اليأس ووعد الله لن يُخلَف وكلمته لا تتبدل وسنته في الأمم لا تتغير؟! وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، إن أوذيتم في دينكم وعقيدتكم فـ عَسَى? رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِى ?لأرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:129]، وإن تسلط المنافقون فأظهروا كيدَهم ومكرهم وتَبَينَ مسارعتهم خلف العدو فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِينَ [المائدة:52]. ثم إنه لا تصيب الأمةَ مصيبةٌ إلا بما كسبت أيديهم، وكيد المنافقين لا يُواجَه بالتشاكي ولا بالتباكي، وإنما الحلّ بأيديكم أنتم أيها المسلمون. إن كيد المنافقين يواجَه باستنكاره والرفع إلى من بيده الأمر، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
كيد المنافقين يواجه بزرع بذور الإيمان في الأسرة وتربية النساء والناشئة على رفض كل ما يخدش بالحياء أو يجرح الكرامة أو يخالف أمرًا شرعيًا وتربيتهم على الاعتزاز بالدين والحشمة والحياة.
كيد المنافقين يواجه بتكثيف الدعوة والإصلاح في الناس وبثّ الخير وإيصال كلمة الحق إلى كل بيت وكل فرد في المجتمع، أما أن ينشغل المصلحون فيما بينهم بنقاشات وردود وانتصار للنفس فذلك مما يفتح الثغرات للمنافقين ويضعف أثر الصالحين، وما نجح منافق إلا بما قصّر مصلح.
أما ما ذكرتَ من كيد الأعداء وحربهم على المسلمين وقلبهم للحقائق وتلاعبهم بالمصطلحات فذاك أمر قد علمناه في كتاب ربّنا، وقد نبأكم الله من أخبارهم: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [آل عمران:119].
أما ما تشكوه من حال فئة من الناس لا يرون في الحياة الدنيا إلا فرصة للمآكل والمشارب والملاهي والملاعب فتلكم حال أهل الهمم الضعيفة الذين لا يرون في الحياة إلا أنها لهو ولعب وزينة وتفاخر، ونسوا أنه في الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان.
لكنني أذكّرك:
إنَّ للَّه عِبادًا فُطَنا طلّقوا الدّنيا وخافوا الفِتَنا
جَرّبوا الدّنيا فلمّا عَرفوا أنَّها ليست لِحيّ سَكنًا
جعلوها لُجَّة واتَّخذوا صالحَ الأعمال فيها سُفنا
فكما أنّ في الناس من يريد الدنيا فمنهم من يريد الآخرة، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـ?هُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ ?لسُّجُودِ [الفتح:29]، تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]. فهؤلاء وأولئك سيلقي كل منهم ما عمل، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
يا وافد المسلمين، إن من ذكرتهم بأنهم لا يعرفون بيت الله إلا في رمضان وكأنهم يستكثرون على الله زيارة بيته والنيل من فضله ثم هم يهجرون المساجد ويتركون الصلاة بعد رمضان، هؤلاء يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون. بلِّغ هؤلاء أن الله غني عن عبادتهم، وأن دين الله وأحكامه لا يقبل التلاعب والمخادعة، وأن الأمر بالعبادة لا يحدّ بزمان أو مكان، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، ((اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها)). قل لأولئك: فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ [التوبة:74]، فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَ?عْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ ?تَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مّنَ ?للَّهِ [القصص:50].
يا وافد المسلمين، اسمع مني وبلغ مَنْ وراءك: إني شهر شرّفه الله وعظّمه، فيّ تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران، وإني ميدان للتنافس والمسارعة إلى الخيرات، فتزوّدوا مني، فإني إذا مضيت لا أعود.
يا وافد المسلمين، بلغ مَن وراءك أني أحلّ عليكم وأنتم تنعمون بأمن في الوطن وصحة في البدن ورغد في العيش وسعة في الرزق، وإنني أفد على آخرين وهم يقضون أيامي في حالة لا يعلمها إلا الله جل جلاله؛ خوف وجوع ومسغبة وبرد قارس، لا مأوى ولا سكن، ولا أمن في الوطن، يقضون أيامه تحت أزيز الطائرات المهاجمة وزئير الدبابات وأصوات الطلقات، قد حيل بين الأب وأبنائه والزوجة وزوجها.
أقدم على قوم على الأسرَّة البيضاء يتمنّون أن يصوموا مع الصائمين ويقوموا مع القائمين، بلّغوا من وراءكم أنكم قد بلغتموني وأدركتموني، بينما اخترم الموت أناسًا كانوا مثلكم، لهم من الآمال ما لكم، وعندهم من القوة ومن الغنى ما عندكم، لكنهم اليوم في بطون الألحاد صرعى، ويتمنون لله ركعة أو سجدة أو صياما، ولكن حيل بينهم وبين ما يشتهون. فهؤلاء وأولئك سيلقى كل منهم ما عمل، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
يا وافد المسلمين، بلغ من وراءك أن الجنة حفت بالمكاره، وأن سلعة الله الجنة غالية، لا تنال بالتشهي ولا بالتمني، وأن رحمة الله التي يعلّق عليه البطّالون آمالهم دون عمل لا يستحقها إلا أهلها، وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، ومغفرة الله لا ينالها إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى.
يا وافد المسلمين، بلغ مَنْ وراءك في شهري المعارك الحاسمة والانتصارات الرائعة، وأن من نصر رسوله على المشركين في بدر سينصرهم على الصليبيين اليوم، وأن من فتح مكة لرسوله سيفتح على المسلمين اليوم فتحًا مبينًا، وأن من أذل التتار في عين جالوت سيذل أحزاب الكفر، وإياكم والقنوط، إنكم قوم تستعجلون.
يا وافد المسلمين، أنا شهر قبول الدعوات وإغاثة اللهفات وكشف الكربات، فبلغ مَنْ وراءك أن للصائم دعوة لا ترد، وله عند السحر والفطر دعوة مستجابة، فادعوا ربكم تضرعًا وخفية إنه لا يحب المعتدين.
وصلوا وسلموا على خير المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه بإحسان إلى يوم الدين...
(1/4050)
عاشوراء
الإيمان, فقه
الصوم, الولاء والبراء
أحمد بن عبد العزيز الشاوي
بريدة
جامع المنتزه الشرقي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل صيام يوم عاشوراء. 2- ترك إفراد عاشوراء بالصوم مخالفة لليهود فيه تأكيد على تميز المسلمين في جميع شؤون حياتهم. 3- المؤمنون حزب واحد مهما تباعدت بينهم الأمكنة وطالت الأزمنة. 4- شكر الله تعالى مبني على خمس قواعد. 5- تعويد الصغار على فعل الخير سبيل استقامتهم عليه في الكبر. 6- التحذير من بدع الرافضة في يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، فتقوى الله خير وأبقى، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى.
وهكذا تتوالى منن الرحمن ومنحه لهذه الأمة، فلا تكاد القلوب تصدأ والذنوب تتراكم حتى يمنّ علام الغيوب بستر العيوب ويتوب على من يتوب.
يأتي اليوم العاشر من المحرم وهو يوم من أيام الإيمان، ومناسبة تستحق الشكر والعرفان، بما شرع الله، لا بما يهوى البشر.
وفي غمرة الشعور باليأس والإحباط الذي أصاب المسلمين اليوم من جراء تتابع النكبات والشدائد، يأتي يوم عاشوراء ليذكر الأمة أنه لا تقف أمام قوة الله أي قوة، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: كن فيكون.
أيها المسلمون، نتفيأ هذه الأيام ظلال يوم مبارك، فنتذكر فيه قوة الحق وإن قلّ أتباعه، وانهزام الباطل وإن قويت شوكة أصحابه.
عباد الله، ما المناسبات الإسلامية إلا اصطفاء من الله تعالى لبعض الأزمان، وتخصيص لها بعبادات ووظائف، تأتي تلك المناسبات الكريمة، فتحرك الشعور الإسلامي في أهله ليقبلوا على الله عز وجل، فيزدادوا طهرًا وصفاءً ونقاء، يُقْبل شهر الله المحرم فيدعو المسلمين للصيام، حيث يقول : ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم)) رواه مسلم.
وفي الوقت الذي يذكرنا فيه هذا الشهر بهجرة المصطفى وهي بداية ظهور الدعوة وقيام دولة الإسلام نجد كذلك فيه يومًا يذكرنا بانتصار نبي آخر هو موسى عليه الصلاة والسلام، وذلك هو يوم عاشوراء العاشر من المحرم.
ولقد حبا الله هذا اليوم فضلاً وضاعف فيه أجر الصيام، ثم كان للناس فيه طرائق، فأدخلوا فيه وأحدثوا وزادوا إما رغبة في الخير أو مجاراةً للناس، وإما اتباعًا للهوى وزهدًا في السنة. فماذا يعني لنا نحن المسلمين يوم عاشوراء؟ ذلك ما نعرفه من خلال هذه الوقفات.
الوقفة الأولى: جاء في فضل عاشوراء أنه يوم نجّى الله فيه نبيه موسى عليه الصلاة والسلام والمؤمنين معه، وأغرق فيه فرعون وحزبه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قدم المدينة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله : ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) فقالوا: هذا يوم عظيم نجّى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم))، فصامه رسول الله وأمر بصيامه. رواه البخاري ومسلم.
وجاء في فضل صيامه أن النبي سئل عن صيام عاشوراء فقال: ((يكفر السنة الماضية)) رواه مسلم، وفي حديث آخر: ((من صام عاشوراء غفر له سنة)) صححه الألباني. قال البيهقي: "وهذا فيمن صادف صومه وله سيئات يحتاج إلى ما يكفرها، فإن صادف صومه وقد كفرت سيئاته بغيره انقلبت زيادة في درجاته".
ويصور ابن عباس حرص النبي على صيامه فيقول: ما رأيت النبي يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر يعني شهر رمضان. متفق عليه. ولِما عرف من فضله فقد كان للسلف حرص كبير على إدراكه، حتى كان بعضهم يصومه في السفر خشية فواته.
الوقفة الثانية: مخالفة الكفار من أبرز مظاهر تحقيق البراء من الكافرين، والذي لا يتم الإيمان إلا به، وقد شدد الشارع الحكيم على المتشبهين بهم، حتى قال النبي : ((من تشبه بقوم فهو منهم)) رواه أبو داود. وقد ذكر ابن تيمية أن هذا أقل أحواله التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم.
ولقد كان النبي يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، حتى أُمر بمخالفتهم ونُهي عن موافقتهم، فعزم على أن لا يصوم عاشوراء مفردًا، فكانت مخالفته لهم في ترك إفراد عاشوراء بالصوم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله : ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع)) رواه مسلم، والمراد أنه عزم على صوم التاسع مع العاشر، وقال: لم يعثر عليه بهذا اللفظ.
وفي ترك إفراد عاشوراء بالصوم درس عظيم، فإنه مع فضل صوم ذلك اليوم وحثِّ النبي على صومه وكونه كفارة سنة ماضية إلا أن النبي أمر بمخالفة اليهود فيه، وعزم على ضم التاسع إليه، فوقعت المخالفة في صفة ذلك العمل مع أن صوم عاشوراء مشروع في الشريعتين، فكيف بما كان دون ذلك من المباح أو المحرم وما كان من شعائر دينهم؟! لا شك في أن ذلك فيه من المفاسد ما لا يظهر أكثره لأكثر الخلق.
وديننا يأمرنا بالتميز في سلوكنا ومظاهرنا وفي عباداتنا، وأن تكون لنا ـ نحن المسلمين ـ الشخصية المتميزة المبنية على الشعور بالعزة الإيمانية.
والإسلام منهج وسط في الاتباع، فحاديه دائما الحق المجرد، ففعل المشركين لحقٍ لا يسوغ ترك هذا الحق بدعوى مخالفتهم، كما أن فعلهم لباطل لا يسوغ متابعتهم فيه بدعوى موافقتهم لتأليف قلوبهم، وعليه تنفى الدوافع المتوهمة للإيجاب ممالأة أي مبطل أو متابعته في باطله أو ترك حق لأنه فعله، إذ مقياس القبول هو توافقها مع الشرع، وميزان المخالفة ما كان من خصائص ملتهم وشعائر دينهم.
الوقفة الثالثة: علل اليهود صيامهم عاشوراء بمتابعتهم موسى عليه السلام حين صامه شكرًا لله على إنجائه له من فرعون، وصومهم لا يكفي دليلاً لكونهم أولى بموسى عليه السلام أبدًا، إذ الحكم في ذلك بحسب تمام المتابعة والتزام المنهج إِنَّ أَوْلَى ?لنَّاسِ بِإِبْر?هِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]، ولذا كان نبي هذه الأمة وأتباعه أولى بنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام من المغضوب عليهم، فقال: ((نحن أحق وأولى بموسى منكم)).
وهكذا تتوحّد المشاعر وترتبط القلوب مع طول العهد الزماني والتباعد المكاني، فيكون المؤمنون حزبًا واحدًا، هو حزب الله عز وجل، فهم أمة واحدة من وراء الأجيال والقرون ومن وراء المكان والأوطان، لا يحول دون الانتماء إليها أصل الإنسان أو لونه أو لغته أو طبقته، إنما هو شرط واحد لا يتبدل، وهو تحقيق الإيمان، فإذا ما وجد كان صاحبه هو الأولى والأحق بالولاية، دون القريب الذي افتقد الشرط، إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92]، هكذا يجب أن تكون مشاعر المسلمين مع إخوانهم آلامًا وآمالاً أفراحًا وأحزانًا، وبذلك تتحقق الأخوة وتظهر العزة.
الوقفة الرابعة: كانت نجاة موسى عليه الصلاة والسلام وقومه من فرعون منّة كبرى، أعقبها موسى عليه السلام بصيام ذلك اليوم، فكان بذلك وغيره من العبادات شاكرًا لله تعالى، إذ العمل الصالح شكر لله كبير ?عْمَلُواْ ءالَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ?لشَّكُورُ [سبأ:13].
وأساس الشكر مبني على خمس قواعد: الخضوع للمنعم، وحبه، والاعتراف بنعمته، والثناء عليه بها، وأن لا تصرف النعمة فيما يكره المنعم، والبشر مهما بالغوا في الشكر قاصرون عن الوفاء، فكيف إذا قصروا وغفلوا عن الشكر من الأساس؟!
وأمر العبادة قائم على الاتباع، فلا يجوز إحداث عبادات لم تشرع، كما لا يجوز تخصيص عاشوراء ولا غيره من الأزمان الفاضلة بعبادات لم ينصّ عليها الشارع في ذلك الزمن، والنهج على آثار الأنبياء والاهتداء بهديهم والاجتهاد في تطبيق سنتهم هو الشكر بعينه.
الوقفة الخامسة: عن الرُّبيِّع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: ((من كان صائمًا فليتمَّ صومه، ومن كان أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه)) ، فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد ونصنع لهم اللعبة من العِهْن، فنذهب به معنا، فإذا سألوا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يُتموا صومهم. رواه مسلم.
وهكذا بلغ بالصحابة الحرص على تعويد صغارهم الصيام أن احتالوا عليهم في تمرينهم عليه حتى يتموه، فصنعوا لهم اللعب يتلهون بها عن طلب الطعام، وذلك لكون تعويد الصغير على فعل الخير مكمن قوة في استقامته عليه في الكبر، لأنها تصير هينة راسخة في نفسه تعسر زعزعتها، واليوم لدينا من وسائل التلهية المباحة بقدر ما لدينا من أصناف الطعام وأشكاله، وإذا اقتنع المربي بواجب لم تعيه الحلية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنه لا يمر يوم عاشوراء دون أن نتذكر ما جرى لنبي الله موسى عليه السلام من مواقف وأحداث في طريق دعوته، وما واجه من تحديات وعقبات انتهت بانتصار المؤمنين وهزيمة الطغاة والمفسدين، بعدما بلغ الكرب بالمؤمنين نهايته، فالبحر أمامهم والعدو خلفهم، فَلَمَّا تَرَاءا ?لْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61].
إنها ملحمة من ملاحم الدعوة تؤكد أن نور الله غالب مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الصراع مهما امتد أجله والفتن مهما استحكمت حلقاتها، فإن العاقبة للمتقين، لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة، قَالَ مُوسَى? لِقَوْمِهِ ?سْتَعِينُواْ بِ?للَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
أجل فلا ينبغي أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد الله، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرّهم تقلب الذين كفروا فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر المبين للمؤمنين.
وقصة موسى تؤكد أن الأمة المستضعفة ـ ولو بلغت في الضعف ما بلغت ـ لا ينبغي أن يستولي عليها الكسل عن السعي في حقوقها، فقد استنقذ الله أمة بني إسرائيل على ضعفها واستعبادها من فرعون وملئه ومكنهم في الأرض وملكهم بلادهم. وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ [يوسف:21]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
أيها المسلمون، لقد ارتبط يوم عاشوراء وللأسف بما يفعله مجوس هذه الأمة من ضلالات وخرافات قائمة على البدع والأوهام، إن يوم عاشوراء مناسبة للذكر والشكر وسبب من أسباب التأمل في قصص القرآن وزيادة الإيمان، وأنى هذا مما يفعله الرافضة من ممارسات خاطئة تُلطم بها الخدود وتخدش بها الوجوه ويجتمع فيها البكاء والعويل، وربما سالت منها الدماء واختلط فيها الرجال والنساء وكانت سببًا في الفحشاء.
قال ابن رجب عن يوم عاشوراء: "وأما اتخاذه مأتمًا كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه فهو من عمل من ضل سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعًا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتمًا، فكيف بمن دونهم؟!".
إننا لا ننازع في فضل الحسين رضي الله عنه ومناقبه، فهو من علماء الصحابة ومن سادات المسلمين في الدنيا والآخرة الذين عرفوا بالعبادة والشجاعة والسخاء، وهو ابن بنت قدوتنا وحبيبنا أشرف الخلق ، والتي هي أفضل بناته، وما وقع من قتله فأمر منكر شنيع يحزن كل مسلم، وقد انتقم الله عز وجل من قتلته، فأهانهم في الدنيا وجعلهم عبرة.
ولا ننازع في محبته ومحبة آل بيت رسول الله ، ونشهد الله على حبهم وموالاتهم، بل ونصلي عليهم في صلواتنا، كيف لا وقد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا؟!
لكن الذي ينبغي عند ذكر مصيبة الحسين وأمثالها هو الصبر والرضا بقضاء الله وقدره، وأنه تعالى يختار لعبده ما هو خير، ثم احتساب أجرها عند الله تعالى، وليس اتخاذ المآتم من هدي دين الإسلام، بل هو أشبه بفعل أهل الجاهلية.
والملاحظ أن مآتم مجوس هذه الأمة في عاشوراء لم ترتبط بأصل إسلامي من قريب أو بعيد، إذ لا علاقة لها بنجاة موسى عليه السلام ولا بصيام النبي ، بل الواقع أنهم حولوا المناسبة إلى اتجاه آخر، وهذا من جنس تبديل دين الله عز وجل.
إننا ـ نحن المسلمين ـ نحمد الله أن هدانا للصراط المستقيم ووفقنا للمنهج القويم ولاتباع النبي الكريم ، ونحن نتعامل مع المصائب والأحزان من مبدأ شعاره: ((إن أمر المؤمن كله له خير)) ، وليست الأحداث المحزنة تقعدنا عن العمل الجاد المثمر، أو تدفعنا للجلوس في مآتم جنونية، تسحق فيها العقول، وتهدر فيها كرامة المسلم، وتشوه فيها سمعة الإسلام.
إن يوم عاشوراء لنا ـ نحن المسلمين ـ يوم عز ونصر وفرح وبشر؛ لأنه يوم تدفعنا مآثره إلى استشعار العزة والشعور بالأمل والترقب للنصر، هو يوم يقول عنه تعالى: إِنَّ ?لْعَـ?قِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الأنعام:135].
اللهم كما أنجيت موسى وقومه فأنجِ المسلمين المستضعفين في كل مكان من فراعنة هذا الزمان، يا رحيم يا رحمان.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد وعلى صحابة محمد، وخص منهم أبا بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة أجمعين...
(1/4051)
عقوق الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
أحمد بن عبد العزيز الشاوي
بريدة
4/8/1420
جامع المنتزه الشرقي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة عقوق الوالدين في زماننا. 2- العقوق خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة. 3- ثمرة برّ الوالدين وكيفية البر. 4- تربية الشباب على بر الوالدين. 5- صور من بر الأبناء بالآباء. 6- البر بالوالدين بعد موتهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الذين آمنوا، وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَ?لأَرْحَامَ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أمة الإسلام، في عصرنا الحاضر جحود بالفضل ونكران للجميل وانغماس في الشهوات وقمع بالباطل وفرار من معاني الروح وتسابق إلى أحضان المادة. في مجتمعنا الحالي عقوق للآباء وبغض للأقرباء وحسد بين الجيران وغدر بالأصحاب وخيانة للأمانة وغش في المعاملات، فإلى أين تسير؟! قف ـ أيها الغافل ـ قليلاً كي نبين الطريق ونحدّد الغاية وإلا فالنهاية الخاسرة تنتظرنا إن لم نعمد إلى نفوسنا فنقومها، وأخلاقنا فنحسنها، وطباعنا فنهذبها، ومعاملاتنا فنصلحها. ولنبدأ بالنفس فننير لها السبيل ونحدّد ما لها من حقوق وما عليها من واجبات، فإذا استقامت رسخت دعائم المجتمع قوية متماسكة، تستقيم النفس بالتربية، والتربية مصدرها الأول الوالدان، وهما موضوع حديثنا.
والحديث عنهما عبارات حديث عن حق لا ينسى، وأنى للعبارات عن الوالدين أن توفيهما حقهما؟! إنه حديث عن الأمّ التي تحملت ما يفوق الوصف عن آلام الحمل والولادة وهموم الرضاع، سهر بالليل ونصب بالنهار في سبيل الرعاية والحماية لوليدها. إنها الأم التي تذبل لذبول وليدها، وتغيب بسمتها إن غابت ضحكته، وتذرف دموعها إن اشتد توعكه، وتحرم نفسها الطعام والشراب من أجله، وتلقي نفسها في النار لتنقذه، وتتحمل من الذل والشقاء أمثال الجبال كي يحيا ويسعد.
إنها الأم التي يرقص قلبها إذا ضحك الوليد، ولا تسعها الدنيا نشوة إذا حبا أو مشى، وتسمع نغم الدنيا في كلمته، وترى الحياة كلها نورًا وجمالاً وهي تراه مع الصبيان يلعب أو إلى المدرسة يذهب.
إنها الأم التي طعامك درها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، تحيطك وترعاك، وتجوع لتشبعك أنت، وتسهر لتنام أنت، فهي بك رحيمة وعليك شفيقة.
إنها الأم التي تعيش لولدها ومعه، وهي تنتظر الأيام الحاسمة في حياتها وحياته حين ينجح ويكسب ويتزوج هل يكون لها في ولدها نصب أم كل جهودها وتضحياتها وآمالها تذهب أدراج الرياح؟!
وهو حديث عن الأب الذي من أجلك يكدّ ويشقى لراحتك، يروح ويسعى ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار يجوب الفيافي والقفار ويتحمّل الأخطار بحثًا عن لقمة العيش.
يا شباب الإسلام، إن البرّ بالوالدين والإحسان إليهما عام مطلق ينضوي تحته ما يرضى الابن وما لا يرضى من غير امتناع ولا جدل ولا مناقشة ولا ضجر، ذلك أن كثيرًا من الأبناء يحسبون أن البر فيما يروق لهم ويحقق رغباتهم وفيما تهواه نفوسهم، والحق أن البر لا يكون إلا فيما يخالف أهواءهم وميولهم ولو كان فيما يوافقها لما سمي برًا.
أيها المسلمون، إن العار والشنار والويل والثبور أن يفاجأ الوالدان بإنكار للجميل، كانا يتطلعان إلى الإحسان ويؤملان الصلة بالمعروف، فإذا بهذا المخذول قد تناسى ضعفه وطفولته، وأعجب بشبابه وفتوته، وغره تعليمه وثقافته، وترفع بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفف والذم، ويجاهرهما بالسوء وسيّئ القول، يقهرهما وينهرهما.
فيا أيها المخذول، هل حينما كبرا فاحتاجا إليك جعلتهما أهون الأشياء عليك؟! قدمت غيرهما بالإحسان، وقابلت جميلهما بالنسيان، شق عليك أمرهما، وطال عمرهما، أما علمت أن من برَّ بوالديه برّ به بنوه، ومن عقهما عقوه، ولسوف تكون محتاجًا إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدَّخَر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) ، وإن من أكبر الكبائر عقوق الوالدين بعد الشرك.
يا أبناء الإسلام، بِرُّ الوالدين خلق الأنبياء وشيمة الأوفياء، فقد قال ربنا عن عيسى عليه السلام أنه قال: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، وقال عن يحيى عليه السلام: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، وإسماعيل عليه السلام ضرب المثل الأعلى في البر حينما استسلم لأمر الله، ثم لأمر أبيه، ولم تقف به نفسه العالية عند هذا الحد، بل أعان أباه على الطاعة وشجعه على تنفيذ أمر ربه فقال: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، فأين هذا من أبناء هذا الزمان الذين فسدت أذواقهم، وماتت مشاعرهم، واضمحلت عزتهم؟! لا ينفذ أحدهم أمر أمّه إلا إذا دعت عليه وبلغت صيحاتها ودعواتها أقصى الحي، ولا يلبي طلب أبيه إلا إذا عبس في وجهه وقطب وانهال عليه سبًا، وقلما تجد ولدًا يكتفي بإشارة ويفهم بنظرة ويتعظ بتأديب حسن.
يا شباب الإسلام، لقد قال ربكم في شأن الوالدين: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]. فبهذه العبارات الندية والصور الموحية يستحث القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات، وكما تمتص النباتية الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات، كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما في شيخوخة ـ إن أمهلهما الأجل ـ وهما مع ذلك سعيدان.
فأما الأولاد فسرعان ما ينسَون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام، إلى الزوجات والذرية، وهكذا تندفع الحياة، ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء، إنما يحتاج الأبناء إلى استجاشة وجدانهم بقوة، ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف، وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله سبحانه، يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر بعبادة البر الرحيم سبحانه.
يا أبناء الإسلام، رضا الوالدين وبرهما سبب في حلول الفَرَج إذا بلغت الشدة غايتها وتسهيل العسير وتحقق الأماني، وقصة أصحاب الغار برهان على ذلك. الولد البار ـ يا أبناء الإسلام ـ يهنأ بعمره ويطمئن في عمله، وتحفه السعادة من كل جانب، وفي الحديث: ((من بر والديه طوبى له، زاد الله في عمره)) ضعفه الألباني، فما أحلى الحياة إذا طال فيها العمر وانبسط فيها المال وغمرتها السعادة، وما أهنأ العيش إذا رافقته طمأنينة النفس وراحة الضمير ومحبة الناس.
أيها المسلمون، ولنتفيأ وأنتم ظلال المواقف المشوقة والصور الرائعة للبر عند سلفنا الصالح، لكي نأخذ منها العبر ونجعل منها لنا مثلاً، قال : ((دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان)) ، فقال النبي : ((كذلك البر، كذلك البر)) وكان برًا بأبيه.
وعن محمد بن سيرين قال: بلغت النخلة في عهد عثمان رضي الله عنه ألف درهم، فعهد أسامة بن زيد إلى نخلة فَعَرَقَها، فأخرج جُمّارَها فأطعمه، فقالوا: ما يحملك على هذا وأنت ترى النخلة قد بلغت ألف درهم والجُمّار لا يساوي درهما؟! قال: إن أمي سألتنيه، ولا تسألني شيئًا أقدر عليه إلا أعطيتها.
وكان حَيوة بن شُريح ـ وهو أحد أئمة المسلمين ـ يقعد في حلقته يعلم الناس فتقول له أمه: قم يا حيوة، فألقِ الشعير للدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
قال المأمون، لم أرَ أحدا أبرّ من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من بره أن يحيى كان لا يتوضأ إلا بماء مسخن وهما في السّجن، فمنع السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى إناء كان يسخّن فيه الماء فملأه ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزل قائما وهو في يده حتى أصبح، فمنعه السجان من تسخين الماء بالمصباح، فعمد الفضل إلى الإناء فأخذه في فراشه وألصقه بأحشائه حتى أصبح وقد فتر الماء.
يا شباب الإسلام، أوجّه لكم هذا النداء الذي وجهه أحد الدعاة فهو يقول: يا معشر الأولاد من بنين وبنات، ويا فلذة الأكباد، يا من أصبحتم أو ستصبحون بإذن الله آباء وأمهات، منذ سنين خلت كنت ابنًا مثلكم، وكان لي أم وأب يحنوان عليّ ويريان الدنيا جميلة بي حلوة بوجودي، وكنت سعيدًا بقربهما، فلما فقدت أبي فقدت شطرًا من السعادة وجزءًا كبيرًا من النعيم، وجرح قلبي موته، فبقيت سنين أبكي، ثم انحصر بعده نعيم الحياة ولذاتها في أمي، وكانت والله أمًا طيبة، بقيت ترعاني بدموع عينيها، والتمست سعادتي بشقائها وراحتي بتعبها، وكنت أجد منها حنانها وعطفَ أبي، وأعدّها رأس مالي في الدنيا وزادي إلى الآخرة، ثم حلّ بها الأجل، فلحقت بأبي، فتصدع شرخ شبابي وهو يوقد على أشده، وتضعضعت أرجاء حياتي وهي بالغة قوتها، ووهب الله لي البنين والبنات، فلم ألمس فيهم لذة الأبوة ومحبتها؛ لأني كنت أسعد بشقاء والديّ ويسعد اليوم أولادي بشقائي، وأستريح بتعبهما ويستريحون بتعبي، وكانا يبكيان لألمي وأبكي اليوم لألمهم، فشتان بين تجارتين، لقد كنت بارًا بهما في حياتهما، أؤثرهما على نفسي، وأعمل ما يرضيهما، وأقبل أيديهما صباحًا ومساءً، احترامًا لهما واعترافًا بفضلهما، ولا والله ما وجدت ألين منها.
وكم من الأنوف رغمت ودسّت في التراب عندما تدنست بالعقوق، فهل من آذان صاغية وقلوب واعية تعي هذا الحديث؟! ويا ليت أهل العقوق يقفون على أحوال من سبقهم ليطلعوا على النكال الذي حلَّ بهم والعذاب الذي نزل بهم والضيق الذي ألمّ بهم، فلم يجدوا في ذلك ردعًا لهم ووقاية لهم وإيقاظًا لغفلتهم.
إنه في خضم هذا الزمن الذي قست فيه القلوب وطغت فيه المادة وضعف فيه الوازع الديني وتلاشت فيه معاني المروءة ومكارم الأخلاق فإننا نخشى من نشوء جيل القطيعة الذي لا يعرف لوالد حقًا، ولا يحفظ لهم معروفًا، ولا يقدر لهم جهدًا، وما لم نتدارك ذلك بالتربية الحسنة وزرع بذرة الدين في قلوب أبنائنا وتنشئتهم على معالي الأمور وما لم تَقُمْ محاضن التربية بدورها في ذلك فإن جيل القطيعة قادم لا محالة، والله يتولى الصالحين، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا شباب الصحوة المباركة، أيها الشباب الملتزم، إن النقطة السوداء لا تظهر إلاّ على الثياب البيضاء، وإنكم لستم كغيركم، فإن كان الناس لا يستغربون صور العقوق ومظاهره من المنحرفين وأنهم يفتقدون الوازع الديني والرادع الإيماني فإنهم ـ ولهم الحق ـ يستنكرون أدنى صورة من صور العقوق أن تصور فيكم.
يا أيها الشباب، إنه إن رضينا من غيركم بأدنى درجات البر فلا نرضى منكم إلا بالصور العالية والمظاهر المشرفة والمواقف المشرقة من مواقف البر والوفاء.
عجبًا لشابّ ملتزم يحفظ كتاب الله ثم هو مع هذا أبعد الناس عن والديه، وكثيرًا ما يتباطأ عن القيام بحقوقهما، ويسافر بغير إذنهما، ويغضب عليهما إذا لم ينفذا له طلبًا أو يحققا له رغبة، وربما تجد من يرفع صوته عليهما أو يسخر من هيئتهما، فأين حقيقة الالتزام؟!
يا شباب الصّحوة، لا نرضى منكم إلا أن تكونوا ملازمين لوالديكم ومراعين لمشاعرهم، فهذا من مقتضيات الدين ومستلزمات الالتزام.
إنه حديث عن حقّهما مقرون بعبادة الله، أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ [لقمان:14]، وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [الإسراء:23].
أيها المسلمون، من أرضى الوالدين فقد أرضى الله، ومن أسخطهما فقد أسخطه، ومن برّ بهما وأحسن إليهما فقد شكر ربّه، ومن أساء إليهما فقد كفَر بنعمته، وهما الباب الموصل إلى الجنة، فمن برّ بهما وصل، ومن عقّهما مُنع، ولم يذكر الإسلام أنواع البر بهما ليحددها ويفصلها، فإن ذلك أمر لا يخضع للتفصيل والتعيين، إنما يخضع للظروف والأحوال والحاجة والقدرة والذوق الإنساني والعرف الاجتماعي والشعور الحيّ لدى الأبناء.
يا أبناء الإسلام، إن حقّ والديك ليس كحقّ أحد من الناس، فإن أيّ كلمة أو إشارة تفيد تضجرًا منهما أو من أحدهما تعتبر معصية ولو كانت كلمة (أف)، وإنّ الله لا يرضى عن الأبناء إلاّ أن يذلّوا أنفسهم لآبائهم وأمهاتهم خصوصًا عند الكبر، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وهو ذل للوالدين ليس سببه القهر والغلبة، ولكن سببه الحبّ والرحمة.
يا فتى الإسلام، مهما أذللت نفسك لأبويك فإن الله يحبك ويرضى عنك، والناس يكبرونك ويمدحونك ويجعلونك بينهم مثلاً طيبًا، وهذا عكس من يذل نفسه للناس، فإن كرام الناس ينفرون منه.
قيل لبعض السلف رحمه الله: كيف كان بر ابنك بك؟ قال: ما مشينا نهارًا قط إلا مشى خلفي، ولا مشى أمامي ولا رقَا سطحًا وأنا تحته. وعن ابن عون أن أمه نادته فأجابها، فَعَلا صوته صوتَها، فأعتق رقبتين. وقيل لعلي بن الحسين رضي الله عنهما: أنت من أبر الناس ولا تأكل مع أمك؟! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها.
وهكذا فإن البر لا يكون في الكلام، وإنما هو اطمئنان في النفس واعتراف بالفضل ونكران للذات، عرف رحمه الله أن البر بالأم أن يشعر الولد بشعورها ويدرك بحَدسِه ما يجول في نفسها ويفهم من نظراتها مرادها، فإذا فقد هذه المعاني فقد حقيقة البر.
مرّ ابن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف برجل يماني يطوف بالبيت، وتَرَحَّلَ أمه على ظهره وهو يقول:
إني لها بعيرها المذلّل إن ذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟! قال: لا، ولا بزفرة واحدة.
ولما ماتت أم إياس بن معاوية جعل يبكي فقيل: ما يبكيك؟ قال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، وغلق أحدهما. أما بعد موتهما فلا أنساهما يوميًا من صدقة ولا من الدعاء كل صلاة، وأحب من كان يحبان، وأصل أهل ودهما.
وأنتم ـ أيها الأبناء ـ من كان له أبوان فليهنأ بهما، وليحرص عليهما، وليسعَ جهده في إرضائهما، لأنه أوتي سعادة الدنيا والآخرة، والوالدان تاج لا يراه إلا الأيتام، ومن فقد أحدهما فقد خسر نصف السعادة، فليحرص على نصفها الآخر قبل أن يزول، ومن فجعه الدهر بهما كما فجعني فلا ينساهما من صلاته ودعواته، ومن أصبح منكم أبًا يدرك هذا، ومن لم يصبح فعمَّا قريب، وبروا آباءكم تبركم أبناؤكم، والحياة دين ووفاء، ونعوذ بالله من العقوق والجفاء، ويوم تبلى السرائر ويبعثر ما في القبور ويحصّل ما في الصدور، حينها سيرى أهل العقوق غِبَّ عقوقهم، وسيرى أهل البر حسن العاقبة، وطوبى لمن لقي الله ووالداه عنه راضيان.
هذا وصلوا وسلموا على نبينا محمد وعلى آله وصحبه...
(1/4052)
محمد صلى الله عليه وسلم
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, الشمائل
ناصر بن عمر العمر
المدينة المنورة
جامع جابر الأحمدي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحديث عن العظماء. 2- النبي من الولادة إلا النبوة. 3- نزول الوحي عليه. 4- دعوته إلى دين الله تعالى. 5- صفاته الخِلقية والخُلقية. 6- خصائصه. 6- فضائل الأمة المحمدية. 7- من معجزاته. 8- مرضه ووفاته. 9- حب النبي واتباع سنته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يحلو الحديث عن الرجال العظماء من الناس، ولكن الحديث عن هذا الرجل العظيم لا يجاريه أي حديث في روعته وحلاوته والطرب به والشوق إليه، رجل ملأ حبه القلوب، واصطفاه الله على الناس، فجعله أكرمهم وأحبهم إليه، وكان خليل الله، إنه رسول الله.
حديث اليوم عن الحبيب الذي تشتاق إليه النفوس، وبذكره ترق وتلين القلوب، وعند الحديث عنه تطمع النفوس المؤمنة إلى رؤيته والالتقاء به في الجنان، والموعد حوضه الشريف حيث ينتظر المؤمنين، يأتون إليه غرًا محجلين عن باقي الأمم كي يشربوا من حوضه الشريف شربه هنيئة لا يظمؤون بعدها أبدا.
محمد بن عبد الله بن عبد المطلب من بني هاشم من قريش، أعز الناس نسبًا، وأشرفهم مكانة، ولد في بطاح مكة، فرأت أمه نورًا أضاءت له قصور الشام، نشأ حين نشأ يتيمًا، فكفله جده ثم عمه، واسترضع في ديار بني سعد، أرضعته حليمة السعدية، فكانت أسعد الناس به، نزلت الملائكة من السماء فشقت صدره وغسلت قلبه، فنشأ نشأة طهر وعفاف في مجتمع جاهلي يعج بالشرك والظلم والمنكرات، لم يتجه يومًا بقلبه إلى صنم، ولم يعاقر خمرًا، ولم يتسابق كغيره إلى النساء. صادق اللسان، لم يجرب عليه قومه كذبةً واحدة، أمين وأي أمين.
تزوج في شبابه وقبل مبعثه بأكرم النساء وأحصنهم وأعفهم وأرجحهم عقلاً أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، فأنجب منها جل أبنائه وبناته. حبب الله إليه الخلوة والتعبد لربه بعدما كره بفطرته السليمة ما كان عليه قومه من عبادة الأصنام، فكان يصعد إلى غار حراء، فيمكث به الليالي ذوات العدد ناظرًا للكعبة الشريفة والسماء.
بشر بقدومه الأنبياء من قبله، وهتفت الجن ببعثته، وامتلأت السماء حرسًا شديدًا وشهبًا. بعثه الله للناس على رأس أربعين سنة، فلما اقتربت طلوع شمسه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سمع من يقول له: السلام عليك يا رسول الله، فيلتفت فلا يرى إلا الحجر والشجر، فلما كان ذات ليلة على عادته في الغار وإذا بجبريل عليه السلام يأتيه رسول مرسل من ربه بـ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:1، 2]، فرجع بها إلى بيته خائفًا يرجف منها فؤاده قائلاً: ((زمّلوني زملوني)) ، فسكبت عليه خديجة رضي الله عنها أعذب الكلام وأروعه حتى هدأت نفسه: كلا والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصِل الرحم وتحمل الكلَّ وتكسب المعدوم وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحقّ.
ثم تتابع الوحي عليه من ربّه آمرًا له بالدعوة إلى الله، فخرج يدعو سرًّا من كان يرجو قبول الحق، فلما تكاثر المؤمنون من حوله أتاه الأمر: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ [الحجر:94]، فلقي منذ ذلك الوقت صنوف الأذى والسخرية والاستهزاء، وتحمل هو ومن معه من المؤمنين الذين كانوا يزدادون يومًا بعد يوم الشدائد لتمسكهم بالإسلام والمحافظة على هذا الدين العظيم، فلما رأى من قومه الصدود والإعراض بدأ بإخراج دعوته خارج مكة، فوصل الطائف ولاقى من أهلها أكثر مما لاقاه من قومه في مكة، فأخذ يعرض دعوته على القبائل حتى هيأ الله له نفرًا من أهل المدينة قدموا مكة في الموسم، فعرض دعوته عليهم، فأوقع الله في قلوبهم الإيمان، فاتفق معهم على الهجرة للمدينة وأن ينصروه ويمنعوه مما يمنعون أبناءهم وأهليهم، فكانت تلك الهجرة العظيمة وذلك الحدث التاريخي الذي قلب الأمور على الأرض رأسًا على عقب، وانطلقت دولة الإسلام من المدينة، وبدأ الجهاد لما توافرت أسبابه، فجاهد رسول الله هو وأصحابه بأموالهم وأنفسهم حتى فتح الله له القرى وأمها، ودانت له جزيرة العرب، وهابته الأعاجم في ديارها، فكان من آخر أمره حجه بالناس، فنصح وبلغ رسالة ربه حتى حانت ساعة وفاته عليه الصلاة والسلام التي نقف عندها بعد أن نقف على شيءٍ يسير من صفاته وشمائله وخصائصه التي خصه الله بها في الدنيا والآخرة.
فإن سألت عن شكل خِلقته: كيف كان؟ فإنك تسأل القمر ليلة تمامه، فكان أجمل الناس وأبهاهم منظرًا، أبيض مشربًا بحمرة، ربعة من الناس، فليس بالطويل ولا بالقصير، عظيم الهامة، واسع الجبين، مقوس الحواجب في غير اقتران، طويل الأنف مع صغر أرنبته، له نور يعلوه، كث اللحية، واسع الفم، مفلوج الأسنان، ليس بالنحيف ولا بالسمين، مستوي البطن والصدر، عريض الصدر، بعيد ما بين المنكبين، أشعر الذراعين والمنكبين والصدر، لين الملمس كأن يده الحرير.
يمشي وكأن مشيته في منحدر، إذا التفت التفت بكل جسمه، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، يمشي وأصحابه أمامه، طويل السكوت، دائم الفكرة، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح كلامه ويختمه باسم الله تعالى، يتكلم بجوامع الكلم، ولا يضحك إلا تبسمًا، لا يتكلم فيما لا يعنيه، يؤلف الناس ولا ينفرهم، يتفقد أصحابه ويسأل عنهم، يحلم على الجاهل والسفيه، ويصبر على من يحادثه حتى يكون محدثه هو المنصرف عنه، من سأله حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور جميل من القول، قد وسع الناس بسطه وخلقه فصار لهم أبًا.
مجلسه مجلس علم وحياء وأدب، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تذاع فلتاته، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بصخاب ولا فحاش ولا عياب. يبيع ويشتري، يضحك مما يضحك له الناس، ويتعجب مما يتعجبون.
بين كتفيه خاتم النبوة، وهي غدة حمراء بها شعرات مجتمعات، كان شعره إلى أنصاف أذنيه، وعدت شعيراته البيضاء فبلغت عشرين شعرة، وقال عنها: ((شيبتني هود وأخواتها)). يحسبه الرائي له أنه يخضب بالحناء شعره، ولكنه كان وبيص الطيب الذي يضعه، يحب الطيب وأمر بأن لا يرد.
عاش عيشة الزهد، فلم يشبع من خبز الشعير قط، يمر على بيوته الهلال ثم الهلال ثم الهلال ولا يوقد في بيوت آل محمدٍ نار، ربما وضع حجرين على بطنه ليسكت جوع بطنه. كان يأكل بأصابعه الثلاث ويلعقها إذا انتهى بأدب. أحب من الطعام الدباء والحلوى والعسل، وكان لا يذم طعامًا قط.
قسم وقته داخل بيته ثلاثة، فقسم لله، وقسم لأهله، وقسم لنفسه، وقسم الذي لنفسه ما بينه وبين الناس. كان يمازح أصحابه ولا يقول إلا حقًا، كان يسمر مع نسائه ويحدثهن ويحدثونه فيستمع إلى أحاديث النساء.
كان راجح العقل، صادق الفراسة، ثابتًا في الشدائد، صابرًا في البأساء والضراء وحين البأس، حليمًا وقورًا وفيًا للعهد والناس، يصفح ويعفو عمن أساء له، فعفا عمن سحره، وعفا عمن دس له السم، وصفح عن أهل مكة. كان وسطًا يحب الاعتدال، كريمًا سخيًا كالريح المرسلة.
أيها المؤمنون، لقد انفرد نبيكم عن إخوانه من الرسل والأنبياء والناس أجمعين بخصائص في الدنيا والآخرة لم تكن لغيره كرامة وتشريفًا لهذا النبي الكريم.
منها أن الله أخذ العهد والميثاق على الأنبياء من قبله على الإيمان به ونصرته والبشارة به، ومنها أن رسالته كانت للناس كافة وكانت رسالة من قبله من الأنبياء لأقوامهم خاصة، ومنها أنه خاتم الأنبياء والمرسلين وكانت رسالته رحمة للعالمين، ومنها أنه النبي الوحيد الذي خاطبه الله بوصف النبوة والرسالة، فكان القرآن ينزل بـ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ويَا أَيُّهَا الرَّسُولُ ، ونادى بقية الأنبياء بأسمائهم.
ومن خصائصه عليه الصلاة والسلام أن جعل الله له ولأمته الأرض مسجدًا وطهورًا، ونصر على أعدائه بالرعب، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. كانت معجزات الأنبياء من قبله وقتيةً تنتهي بموتهم وكانت معجزته خالدة إلى يوم الدين: القرآن الكريم.
تفرد عن بقية الأنبياء بالإسراء والمعراج حتى أدناه الله منه في سدرة المنتهى.
خصه الله يوم القيامة فأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والمقام المحمود، وهو مقام الشفاعة العظمى للخلائق عند ربهم حتى يفصل فيهم، ويشفع لأمته حتى يبلغوا ثلثي أهل الجنة.
أكرم الله أمته كرامة له، فكانت خير الأمم أخرجت للناس، وأحل الله لها الغنائم، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على من قبلهم، وتجاوز عنهم الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وحفظ هذه الأمة من الهلاك والاستئصال، وجعلها أمة لا تجتمع على ضلالة، وأعطاهم الله الأجر العظيم على العمل القليل، ويأتون يوم القيامة غرًا محجلين من أثر الوضوء، ويسبقون الأمم إلى الجنة.
أظهر الله على يديه من المعجزات ما يبهر العقول، ففلق له القمر فلقتين، وتكلمت الحيوانات بحضرته، وسبح الطعام بين يديه، وسلم عليه الحجر والشجر، وتكاثر له الطعام والشراب كرامة، وأخبر بالمغيبات، فما زالت تتحقق في حياته وبعد وفاته.
فاللهم اجز نبينا عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأوفره، اللهم وآته الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، وأوقفه المقام المحمود الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد.
عباد الله، استغفروا ربكم يغفر لكم، إن ربكم لغفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتق الله أيها المسلم، واعلم أن الدنيا ليست بدار قرار.
أيها المسلمون، عاش نبيكم ثلاثا وستين سنة، قضى منها ثلاثا وعشرين في النبوة والرسالة والبلاغ والإنذار والجهاد، فلما أتم الله الدين وكملت الرسالة بدأت الإشارات بدنو ساعة رحيل الحبيب ، فكان أول هذه الإشارات نزول قول الله عز وجل: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وقول الحق تبارك وتعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1]، وكان يقول في حجة الوداع: ((خذوا عني مناسككم؛ لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) ، وكان يخبر الناس بعد حجة الوداع: ((إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين لقاء ربه فاختار لقاء ربه)).
في العام الحادي عشر من الهجرة الشريفة وفي غرة شهر ربيع الأول رجع النبي من البقيع فدخل بيته ووجد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تشتكي رأسها وتقول: وارأساه، فيقول لها النبي : ((بل أنا وارأساه يا عائشة)) ، فكان بداية مرضه وجعا في رأسه الشريف، ثم بدأت به الحمى، وأخذت تشتد عليه حتى بلغت منه مبلغًا عظيمًا، فكان يصب عليه من سبع قرب من الماء ليبرد، وكانت توضع على جسده الشريف القطيفة فيجد اللامس حرارته من فوقها، وكان من شدتها بعد ذلك أن كان يغمى عليه المرة تلو المرة وهو يحاول القيام للصلاة بالناس فلا يستطيع، فيأمر صاحبه في الغار أن يصلي بالناس، فلما روجع في اختياره لأبي بكر لرقة أبي بكر في الصلاة أصر عليه الصلاة والسلام على إمامته للناس. واستأذن في أثناء ذلك من جميع زوجاته أن يبيت ويمرض في بيت عائشة فأذنَّ له.
صلى الناس في أحد أيام مرضه الظهر فوجد رسول الله خفة فخرج للمسجد، وكاد الناس أن يفتنوا في صلاتهم حينما رأوا نبيهم وحبيبهم يخرج إليهم، فتأخر أبو بكر وتقدم رسول الله ليكمل الصلاة بالناس، فكان يصلي جالسًا وأبو بكر يقتدي به والناس يقتدون بأبي بكر.
واشتد المرض عليه، وكان يقول: ((ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري من ذلك السم)) ، وكان يدخل عليه العارفون بالطب فلم يجدوا له علاجا، وكانت عائشة تأخذ يده الشريفة لتضعها بالماء ثم تضعها على وجهه الشريف رجاء بركتها.
وفي مرض موته عليه الصلاة والسلام كان يوصي بآخر وصاياه للأمة من بعده، فأوصى الأمة بالصلاة، وأوصى الرجال خيرًا بالنساء، وأوصى أن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، وأن لا تتخذ القبور مساجد.
في صلاة الفجر من يوم الاثنين الذي مات فيه يكشف الستار الذي على الحجرة فينظر إلى جموع المسلمين من أمته صفوفًا خلف أبي بكر، فتقر عينه بهذا المنظر الذي كان ثمرة ثلاث وعشرين سنة من الدعوة والجهاد.
وفي ساعته الأخيرة يدخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما وفي يده سواك، فجعل النبي يطيل النظر إلى السواك ولا يستطيع الحديث، فتفهم عائشة رضي الله عنها مراده وتأخذ السواك من أخيها فتلينه له ثم أعطته إياه، فجعل يستاك به كأحسن ما يكون لآخر مرة في حياته، وكان يشتد عليه الألم فيقول: ((لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات)) ، ثم سمعت منه عائشة رضي الله عنها وهو واضع رأسه الشريف على صدرها وهو يقول: ((بل الرفيق الأعلى)) ، فكان آخر ما نطق به وخرجت روحه الشريفة الطاهرة إلى روح وريحان وربٍ راضٍ غير غضبان، يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر:27-30].
ومات نبي الله، ومات رسول الله، وبموته انقطع الوحي من السماء، وما إن علم الناس حتى طاشت منهم العقول، وتراهم سكارى وما هم بسكارى ولكن موت رسول الله شديد. يخرج عمر رضي الله عنه يهدد ويتوعد كل من يقول: رسول الله مات، رافضًا وجدانه تصديق خبر موته، ووصل أبو بكر الصديق وكان في ناحية من المدينة، ودخل حجرة عائشة حيث رسول الله مسجى، فكشف عنه وبكى وقبله قائلاً: أما الموتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، والله لن يجمع الله عليك موتتين أبدًا، ثم خرج للناس وهم في هياج وحيرة، فحاول إسكات عمر فلم يستطع، فتوجه بكلامه للناس، كلامًا لا يصدر إلا من أبي بكر في مثل هذه المواقف: (أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت)، ثم تلا على مسامعهم قول الحق تبارك وتعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، يقول عمر بعد ذلك: وكأني أسمع هذه الآية لأول مرة.
ودفن عليه الصلاة والسلام في المكان الذي توفي فيه في حجرة عائشة، وهكذا تدفن الأنبياء، وأخذ الناس يدخلون عليه جماعات يصلون عليه، تقول فاطمة بنت محمد لأنس بن مالك بعدما فرغوا من دفنه عليه الصلاة والسلام: (يا أنس، أطابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله ؟!).
أيها المسلمون، تلكم لمحة عن الحبيب المصطفى، ألا وإن في القلوب لهيب الشوق إليه، لا يطفئه إلا لقاؤه على الموعد في جنات عدن، فنسأ الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن لا يحرمنا رؤيته ولقاءه والشرب من حوضه يا رب العالمين.
أيها المسلم، يا محب رسول الله ، أبشّرك بقول حبيبك : ((المرء يحشر مع من أحب)) ، ولكن ذلك الحب وحده لا يكفي، وتلك العاطفة وحدها لا تبلّغك المقصود، ولكن هذا الحبّ يجب أن يترجم إلى تعظيم لسنة الحبيب والعمل بها واتخاذه أسوة حسنة في أقوالنا وأفعالنا، في غدونا ورواحنا، في يسرنا وعسرنا، في منشطنا ومكرهنا، في رضانا وغضبنا.
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/4053)
لماذا تستعجلون شهواتكم أيها الشباب؟
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأبناء, الفتن, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
2/2/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطر الشهوة. 2- الشهوةُ الجنسية غريزة جُبلتْ عليها النفسُ البشرية. 3- الآثار المترتبة على الشهوة إذا تسعَّر نارُها ولم تُلجَم بلجامِ التقوى. 4- أسباب الانحرافِ في الشهوة. 5- سبل الوقاية من شر الشهوات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن بعد الحياة مماتا، وبعد الممات سؤالا، وبعد السؤال إما جنة أو نار، يقول الله الذي إليه المرجع والمآب: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا ربكم حقَّ التقوى، وتمسكوا بالعروةِ الوثقى.
الشهوة ـ عباد الله ـ أساسُ كلِّ قضية ومنبعُ كل رزيَّة، إنَّها المستنقعُ الذي تتولدُ فيه قاذورات الخطايا، وهي البُركان الذي تتقاذفُ منهُ رحم البلايا، إنَّها داءُ الشبابِ، بل وغير الشباب، وهي القضيةُ الكبرى للشباب، ما من جريمةٍ إلاّ هي منبعُها، وما من كبيرةٍ إلا وهي مبدؤُها، إنَّها قضيةُ الشبابِ الكبرى، الزنا، واللواط، والعادةُ السريةِ، والغناءُ، والمعاكساتِ الهاتفية، جرائمُ الاغتصابِ والاختطاف، والعشقُ والإعجاب، إدمانُ النظرِ المحرمِ، السهرِ والسفر، كلّ هذهِ الأدواءِ صدى لهذه القضية، واستجابة لسعارها، إنَّها حجابٌ حُفت به النار، من اخترقهُ دخلها، هي ابتلاءٌ من اللهِ وامتحانٌ لعباده، ليعلمَ الصادقين والصابرين، ويبلو أخبارهم.
إنَّها ـ أيّها المسلمون ـ قضيةُ الشبابِ والشهوةِ، ولستُ أعني بها كلَّ شهوة، لكنني أردتُ بها شهوة الفرجِ، أو ما يُسمى بالمصطلحِ المعاصر: "شهوة الجنس". وهل داءُ الشبابِ إلاَّ الميل الجنسي الذي يملأُ نُفوسهم ويُسيطرُ على أرواحهم ويتراءى لهم في كلِّ جميلٍ في الكون شيطانًا لعينًا يقودُ إلى الهاويةِ وإبليسًا من أبالسةِ الرذيلةِ يدعو إلى دينِ الهوى وشرعِ الشهوات؟! كم من شابٍ كانت الشهوةُ له عائقًا من سلوكِ الهدايةِ، وكم من كانت السبب في انحرافهِ وضلاله. والله المستعان.
إنَّ الانسياقَ وراءَ الشهوةِ يُدمرُ إرادةَ الإنسان، ويُحطمُ كيانَ الإنسانيةِ، ويَفقدها وعيها وإرادتها، ويقُودُها على نغمِ القطيعِ الذي يرقُصُ على إيقاعِ نزواته، فيعبدُ شهواتهِ، ويظلُّ يُمارسُ هذهِ العبوديةِ، ويُسخِّر كلَّ طاقاتهِ للشهوةِ والهوى، إنَّها من أشدِّ الشهواتِ وأخطرِها على الشبابِ خاصةً في هذا الزمنِ، قال : ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضرّ على الرجالِ من النساء)) ، وقال: ((مَن يضمنُ لي ما بينَ لحييهِ وما بين رجليه أضمن له الجنة)) ، وسُئل عن أكثرِ ما يُدخلُ الناسَ النار فقال: ((الفمُ والفرج)). لمن هذا الحديث؟ إنَّهُ لكُلِّ الشباب، ولكُلِّ من يُعاني ما يعانيهِ الشباب من طوفانِ الشهواتِ العارم، إنَّهُ خطابٌ لكلِّ من يُريدُ أن يتسامى بروحهِ، وأن يبقى لهُ دينهُ، ويصان عرضهُ وشرفه.
يا معشرَ الشبابَ ويا غيرَ الشباب، الشهوةُ الجنسيةُ غريزةٌ، جُبلتْ عليها النفسُ البشرية، فقد جعلَ اللهُ سبحانهُ هذا الميلَ الغريزي في كلٍّ من الرجلِ والمرأة؛ لتحقيقِ هدفٍ سام وهو بقاءُ النوعِ الإنساني، فلولا هذا الدافعُ الجنسي لما كان التناسلُ والتكاثر الذي عمرَ وجه الأرض جيلاً بعد جيل، وقد حمى الإسلامُ هذه الشهوة من الانحراف بما شرعه من ضوابط وأحكام؛ فشرعَ الزواجَ وحضَّ عليه، ويسَّر سُبله وأسبابه، ليَكُون الطريق الشرعي لتصريفِ هذه الشهوة بما يحققُ السعادةَ والسكنَ النفسي والطمأنينةَ لكلا الزوجين، وبما يُطهِّرُ النفسَ من أدرانها ويَحفظها من الآفات، ولكنَّ الهوى المستحكم في النفوسِ يصرفُ الإنسانَ عن طريقِ الحلالِ ليوقعهُ في الحرام، ويزينُ لهُ الباطلَ فيصبحُ العقلُ أسيرًا لذلك الهوى، مُنقادًا وراءهُ حتى يؤدي ذلك إلى طُغيانِ الشهوةِ وتدسيةُ النفسِ، ليكونَ صاحبُها كالبهائم. وفي ذلكَ يقولُ الإمامُ ابن القيم رحمهُ الله: "أمَّا مشهدُ الحيوانيةِ وقضاءُ الشهوةِ فمشهدُ الجُهَّالِ الذين لا فرقَ بينهم وبينَ سائرِ الحيواناتِ إلاَّ في اعتدالِ القامةِ ونطقِ اللسانِ، ليس همهم إلاَّ مجردَ نيل الشهوةِ بأيِّ طريقٍ أفضت إليها، فهؤلاءِ نُفوسُهم نفوسٌ حيوانية، لم تترقَ عنهُ إلى درجةِ الإنسانيةِ فضلاً عن درجةِ الملائكة، وهم في أحوالهم متفاوتونَ، بحسبِ تفاوتِ الحيواناتِ التي هم على أخلاقها وطباعها".
يا معشرَ الشباب، إنَّ الشهواتِ إذا تسعَّرت نارُها واشتدَّ سُعارها ولم تُلجَم بلجامِ التقوى والخوفِ من الله فإنَّهُ حينئذٍ تورثُ انحرافًا في الغريزةِ، وهذا الانحرافُ له آثار إنسانية وإيمانية واجتماعية وسلوكية ونفسية ومرضية، له آثار إنسانية حينما ينحطُ الإنسانُ بانحرافِ غريزتهِ إلى الحيوانية، بل إلى ما هو أحطُّ منها، فمُنذُ تلكَ اللحظةِ التي يقطعُ بها الإنسانُ صلتهُ باللهِ يغدو حيوانًا يعيشُ بغرائزهِ ويحيا لنزواتهِ، وبها تتعطلُ فيه نوازعُ الخير وتصبحُ الشهواتُ أكبرَ همهِ والدنيا مبلغَ علمهِ، فبانحرافِ الغريزةِ الجنسيةِ ينحطُ الإنسانُ من أحسنِ تقويمٍ إلى أضلّ سبيل، ذلك هوَ الخسرانُ المبين.
ولهُ آثارٌ إيمانية بأن يُسلب من المؤُمنِ إيمانه، فَيُرفَعُ من قلبه عندما ينحرف، وتستعبدهُ شهوتهُ، فلا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن.
كم كانتِ الشهواتُ سببًا في الحورِ بعد الكور، وكانت الخطوةُ الأولى نحو الردةِ والكفر، واقرؤُوا إن شئتم تفسير قوله تعالى: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16]. ألم تسمعوا حكايةَ ذلكَ الرجلِ الذي ابتُلي بعشقِ المردان، فعشقَ شابًا اسمهُ أسلم، واشتدَّ كلفهُ به، وتمكّن حبهُ من قلبهِ، فمرضَ بسببه، ولزمَ الفراشَ، ولم يزل يزدادُ مرضُه حتى قاربَ الوفاة، فلامهُ جلساؤُهُ، لكنَّهُ ختمَ حياتهُ بقولهِ:
أسلمُ يا راحةَ العليل ويا شفاءَ الْمدنفِ النحيل
لقياكَ أشهى إلى فؤادي من رحمةِ الخالقِ الجليل
وربما وجدتَ عابدًا زاهدًا فارقَ الدنيا كافرًا، كانت بدايةُ انحرافهِ نظرة، والنظراتُ تورثُ الحسرات، أولم تسمعوا عن حافظٍ للقرآن تنصر، وآخرَ كان مؤُذنًا فتركَ الآذانَ وارتد؟! لماذا؟ لقد كان السببُ نظرةً أُولى، وهكذا فإنَّ التهاونَ في وقايةِ شهوةِ الفرجِ والانحرافِ ولو كان يسيرًا سيؤدي شيئًا فشيئًا إلى ما هو أخطر، حتى يقعَ المرءُ فريسةَ طغيانِ الشهوةِ التي يصعُبُ التخلصُ من شُرورها، وتُؤدي في النهايةِ إلى طمسِ قلبِ صاحبها وانسلاخهِ من الأخلاقِ الفاضلة، هذا بالإضافةِ إلى ما يُصيبهُ من الأمراضِ النفسيةِ من قلقٍ واضطراب وذبولِ أحاسيس ومشاعرِ الغيرةِ والعرضِ والشرفِ والحياء والرجولة، وما يعتريه من الأمراضِ الجسديةِ التي يعوز علاجُها ويستعصي على أهلِ الطبِ دواؤُها.
يا معشرَ الشباب، إنَّ بدايةَ الانحرافِ في هذه الشهوةِ سببهُ الأساسي مرضُ القلبِ وعدمُ رسوخِ الإيمانِ فيه، فإذا ما عُرضَ لهُ شيءٌ من الفتنةِ مالَ إليها وتأثرَ بها، فازدادَ مرضًا على مرض. وفي ذلكَ يقولُ ابنُ تيمية رحمه الله في قولهِ تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]: هو مرضُ الشهوةِ؛ فإنَّ القلبَ الصحيحِ لو تعرضت له المرأةُ لم يلتفت إليها، بخلافِ القلبِ المريض بالشهوةِ، فإنَّهُ لضعفِهِ يَميلُ إلى ما يعرضُ له من ذلكَ بحسبِ قوةِ المرضِ وضعفه، فإذا خضعنَ بالقولِ طمعَ الذي في قلبهِ مرض، إنَّ القلبَ الذي تذوقَ حلاوةَ الإيمانِ لا يُمكنُهُ أن ينصاعَ لوساوسِ الشيطان، أو يفتنَ بما يُعرضُ لهُ من الشهواتِ والمغريات؛ لأنَّ نورَ الإيمانِ إذا استقرَّ في القلبِ طردَ عنهُ الظُلمات، وما قصةُ يوسفُ عليه السلام إلاَّ خيرُ مثال.
إنَّ الشهوةَ الجنسيةِ وقُودُها النظرُ إلى الحرام، بل هو الخطوةُ الأولى، نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلام فموعدٌ فلقاءُ. إنَّ النظرةَ الأولى تُجرئُ على ما بعدها، والعينُ مرآةُ القلبِ، فإذا غضَّ العبدُ بصرهُ غضَّ القلبُ شهوتَهُ وإرادته، والنظرةُ تفعلُ في القلبِ ما يفعلُ السهمُ في الرميةِ، فإن لم تقتُلهُ جرحتهُ، وهي بمنزلةِ الشرارةِ من النارِ، تُرمى في الحشيشِ اليابسِ، فإن لم تُحرقهُ كلهُ أحرقت بعضهُ:
كلّ الْحوادثِ مبدؤها من النظرِ ومعظمُ النارِ من مستصغرِ الشررِ
كم نظرةٍ فتكت فِي قلبِ صاحبِها فتكَ السهامِ بلا قوسٍ ولا وترِ
والمرءُ ما دامَ ذا عيْنٍ يُقلبُها في أعينِ الغيرِ موقوفٌ على الخطرِ
ولخطورةِ النظرِ وعلمِ النبيِّ بعظيمِ أثرهِ حذَّرَ أصحابهُ منهُ بل مما يفضي إليه في قولهِ: ((إياكم والجلوسِ في الطرقات)) ، ثُمَّ قال: ((فإذا أبيتم إلا المجالسَ فأعطوا الطريق حقها)) ، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((غضُّ البصرِ، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌّ عن المنكر)). هذا مع أنَّ طُرقاتِ المدينةِ لم تكن كطُرقاتِ المسلمين اليوم مليئةً بالتبرجِ والسفور ومظاهر الإغراءِ والفتنةِ، وإنَّما كانَ النظرُ بهذهِ الدرجةِ من الخُطورةِ لأنَّهُ يتبعهُ ما بعده، فحين ينظُرُ المرءُ نظرةً محرمة ترتسمُ الصورةُ في قلبه ويُزينُها الشيطانُ له، فيُثيرُها في كلِّ موقف، وحين يخلُو بنفسهِ ويأوي إلى فراشهِ يعيدُ الشيطانُ الصورةَ في ذهنهِ فيتذكرُها، ويُفكرُ فيها ويطولُ معهُ التفكيرُ حتى يُصبحُ له ديدنًا وشأنًا، وحين يطولُ التفكيرُ بصاحبهِ، ويستولي عليهِ، فقد يتطورُ به الأمرُ إلى التفكيرِ بالفعلِ والممارسةِ، وتبدأُ المسألةُ من كونها مجرد أفكارٍ إلى أن تتحولَ إلى نيةٍ، ثُمَّ إلى تخطيطٍ وعزيمةٍ، ثمَُّ إلى الوقوعِ ربما في الفاحشةِ والفساد، فإن لم يكن كذلكَ فقد يؤدي به إلى ممارسةِ العادةِ السرية، والوقايةُ خيرٌ من العلاج.
يا معشر الشباب، إنَّ الشهوةَ نارٌ لا يشتدُّ أوارها إلا بالتساهلِ في أسبابها ومُوقداتها، فكيف يسلمُ من داءِ الشهوةِ من يتساهلُ في مُشاهدةِ الأفلامِ والمسلسلات أو متابعةِ القنواتِ بحُجةِ الأخبارِ والمناظرات؟! وكيفَ ينجو من نارِ الشهوةِ من يسمعُ الغناءَ أو يرتادُ تجمعاتِ النساء؟! وكيفَ يسلمُ من داءِ الشهوةِ من يُقلبُ المجلاتِ الهابطة أو يُشاهدُ القنواتِ الساقطة؟!
يا معشرَ الشباب، لا تغتروا بالتزامكُم، ولا تُعجبوا بأعمالكم، ولا تأَمنوا مكرَ الله، فأولُ داءٍ يسري إلى نُفوسِ الصالحين هو العجبُ والغرورُ بالطاعةِ، فإذا استحكمَ هذا الداءُ فهو علامةٌ على تسلطِ شهوةِ حبِ النفسِ، ونذيرُ خطرٍ بأنَّ هذهِ الشهوةِ الخفيةُ تُمهدُ الطريقَ لتسَلطِ الشهواتِ الأخرى.
لقد تساهلَ شبابٌ صالحون بالنظرِ إلى النساءِ عبرَ القنواتِ الفضائية، وتساهلَ آخرونَ في مُشَاهدةِ مواقعَ الإنترنت الفاضحة، وتساهلَ فئةٌ في قراءةِ صحفٍ ومجلاتٍ ساقطة، كلُّ ذلك اعتمادًا على قاعدةِ الالتزام، ولعمرُو اللهِ، ذاكَ بابٌ خطير ومزلقٌ عظيم، تساقطَ فيه أخيارٌ، وزلَّ فيه عُبادٌ أطهار، إنَّهُ لا يأمنُ مكرَ اللهِ إلاَّ القومُ الخاسرون، ومن حامَ حولَ الحمى يُوشكُ أن يقعَ فيه.
تلك ـ معاشرَ الشبابِ ـ لفتةٌ سريعةٌ إلى الداءِ الأعظم والمشكلةِ الكبرى، قد صورت لكم الداءَ ومصدره، ويبقى الأهمُّ وهو السبيلُ للخلاصِ والطريقُ لمواجهةِ هذه الشهوةِ وللسلامةِ من آثارِها وأخطارها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي يسر لنا سبل الهدى والتقى والعفاف، ونجانا بفضله مما يحذر المرء منه ويخاف، وأكرمنا بجوده الذي ليس على أحد بخاف، وجعلنا بكرمه ومنته من المسلمين الأحناف، أحمده سبحانه وأشكره أن شرع لأمة الإسلام من الحدود ما يحفظ بها عليها أمنها الأخلاقي والاجتماعي والمالي. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: يا معشرَ الشباب، أُدركُ أنكم في زمنٍ تواجهون فيه تيارًا جارفًا وطوفانًا هادرًا من الشهوات، يلاحقُكم أينَما كنتم وحيثما حللتم، حتى ليقولُ القائل: وماذا تُجدي المواعظُ والخطب؟! إنَّكم تقولون للشبابِ: كُن صينًا وعفيفًا وهو يخرجُ فيسمعُ إبليسَ يخطبُ بلغةِ الطبيعةِ الثائرةِ في السوقِ على لسانِ حالِ المرأةِ المتبرجة وفي الحدائقِ وعلى السواحلِ على لسانِ النساءِ السافرات وفي القنواتِ الإعلامية على لسانِ المناظرِ المتهتكةِ المثيرة وفي المكتبةِ بل والبقالةِ على لسانِ الجرائدِ والمجلاتِ المصورة والرواياتِ الغراميةِ الماجنة وفي المدارسِ والشارعِ على لسانِ أصحابهِ المستهترين بل وفي جوارِ بيتِ الله حيثُ النساءِ اللاتي لم يأتينَ يبغينَ حجةً ولا عُمرةً ولكن ليفتنَّ الشبابَ المغفل!!
إنَّ الشبابَ تتعبدهُ الشهوةُ فيخضعُ لها؛ لأنَّ سهامها تَنصَبُّ عليه من كلِّ جانب، فلا يطيقُ أن يتقيها، فيُصورُها لهُ خيالهُ عالمًا مسحورًا عجيبًا وجنةً فتانةً، فيتمنى دخولَها، فلا يجدُ من دونها حجابًا، بل يجدُ من يسوقهُ إليها ويُحفِزُهُ عليها، فلا يخرجُ منها أبدًا، ولا عليه إن ماتتِ الأمةُ أو عاشت، فهل من علاجٍ لهذا الداء؟!
يا معشر الشباب، إنَّ العلاجَ هينٌ ميسور والعقاقيرُ دانية، لا ينقُصها إلا يدٌ تمتدُ إليها، فتأخُذُها لتكونَ سببًا في الشفاءِ بإذنِ ربِّ الأرضِ والسماء.
إنَّ أقوى علاجٍ لشهوةِ الجنسِ ولكلِّ الشهواتِ قوةُ الإيمانِ باللهِ تبارك وتعالى؛ فالإيمانُ سلاحُ المؤمنِ في مواجهةِ ما يُضلهُ من الشهواتِ والشبهات، فلا بُدَّ من تربيةِ النفسِ على الخوفِ من الله ومراقبتهِ في السرِّ والعلانية.
إنَّ المؤمنَ إذا تربى على الإيمانِ بالله سُبحانهُ وتعالى ومراقبتهِ في السرِّ والعلانيةِ وخشيتهِ في المنُقلبِ والمثوى فإنَّهُ يُصبحُ إنسانًا سويًا وينشأُ شابًا تقيًا، لا تستهويهِ مادةٌ، ولا تستعبدهُ شهوةٌ، ولا يتسلطُ عليه شيطانٌ، ولا تعتلجُ في أعماقهِ وساوسُ النفسِ الأمارةِ، فإذا دعتهُ امرأة ذات منصبٍ وجمال قال: إنِّي أخافُ اللهَ ربَّ العالمين، وإذا وسوسَ لهُ شيطانٌ قال: ليس لكَ عليَّ سلطان، وإذا زينَّ لهُ قُرناءَ السُوءِ طريقَ الفحشاءِ والمنكرِ قال: لا أبتغي الجاهلين.
أخي الشاب، حينما تُغلق عليك بابكَ ولا يراكَ أحدٌ وتتحركُ كوامن الشهوةِ في نفسكَ فتبحثُ لها عن متنفسٍ غير شرعي تذكر حينها أنَّ اللهَ عز وجل في تلكَ الساعةِ يراكَ، ويعلمُ ما في نفسكَ وما تُخفي في صدرك، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19].
وإذا خلوتَ بريبةٍ فِي ظلمةٍ والنفسُ داعية إلَى الطغيانِ
فاستحيِ من نظرِ الإلهِ وقُل لها إنَّ الذي خلقَ الظلامَ يراني
أخي الشاب، ولكي تأمنَ غوائلَ الشهوةِ تذكر يومَ وقُوفكَ بين يدي اللهِ تباركَ وتعالى، وأنكَ ستلقى اللهَ يومَ تُبلى السرائر، يومَ لا يخفى من الناسِ خافية، تذكر شهادة الملائكةِ عليكَ بما فعلت، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12] , وتذكر شهادة جوارحك، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [فصلت:20]، وتذكر شهادة الأرضِ بما عليها قد فعلتَ، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]. إنَّ من يتذكرُ ذلك ويُوقنُ به فلن تحدثهُ نفسُهُ أو تسوِّلُ لهُ بعملٍ يُسخطُ ربهُ وشهوةٍ محرمةٍ تُغضبُ خالقه.
أخي الشاب، إذا حدثتكَ نفسُكَ باقترافِ شهوةٍ فتذكر أنَّها لذةُ ساعةٍ ثمَّ تنقضي، وتعقُبُها الحسراتُ والزفراتُ. قال ابنُ الجوزي: إنَّ الهوى يَحولُ بين المرءِ وبين الفَهمِ للحال، فلا يرى إلاَّ قضاءَ شهوتهِ، ولو ميَّزَ العاقلُ بين قضاءِ وطرهِ لحظةً وانقضاءِ باقي العُمرِ بالحسرةِ على قضاءِ ذلكَ الوطرِ لما قربَ منهُ ولو أُعطي الدنيا، غيرَ أنَّ سكرةَ الهوى تحولُ بينهُ وبين ذلك. آهٍ كم من معصيةٍ مضت في ساعتها كأنَّها لم تكُن، ثمَّ بقيت آثَارُها، وأقلُّهَا ما لا يَبرحُ ولا يَزولُ من المرارةِ في الندمِ والهزيمةِ، أمَّا الشهوةُ:
تفنى اللذاذاتُ ممن نالَ صفوتَها من الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ
تبقى عواقبُ سُوءٍ فِي مغبتِها لا خيرَ في لذةٍ من بعدها النارُ
أخي الشاب، أغلقِ البابَ الذي تُشمُ فيهِ روائحَ الشرِّ بالبعدِ عن المثيراتِ، فالصورِ ومشاهدةُ الأفلامِ والبحثُ عن المواقعِ الهابطةِ والتساهلُ في قضايا مُشاهدة الصورِ والمحادثاتِ وتبادل الرسائل الإلكترونيةِ وغيرها هي من أبوابِ الشرِّ، والبعدُ عنها وقايةٌ للنفسِ من غوائلِ الشهوةِ وشرورِها.
يا أخي الشاب، إذا علمتَ أنَّ قرينَ السُوءِ هو المُزيِّنُ للشهوةِ والمُسَهِلُ للفاحشةِ فهل فكرتَ بجدٍ ـ وأنتَ تُريدُ طاعةَ اللهِ ـ أن يكونَ لكَ قرينُ خيرٍ، يبقى لكَ ودُّهُ ونفعُهُ دنيا وأُخرى؟! الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
يا أملَ الأمةِ، إذا حدثتكَ نفسُكَ أن تُذهبَ دِينَك وتُرِيقَ ماءَ حياتِك وعفتِكَ بلذةٍ مُحرمةٍ فتذكرْ أنَّكَ بذلكَ تحرم نفسكَ ما هو خيرٌ وأبقى وأتقى وأنقى، إنَّهُنَّ الحورُ العين اللاتي لو اطلعت إحدَاهُنَّ على أهلِّ الأرضِ لملأت ما بينهما ريحًا ونورًا، ولَنَصِيفُها على رأسها خيرٌ من الدُنيا وما فيها. إنَّ ثَمنَ العِفةِ وجزاء الصبرِ على المغرياتِ جنةٌ فيها ما لا عينٌ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطرَ على قلبِ بشر، وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]. أفتستبدلونَ الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! لمَّا ذكرَ اللهُ شهواتِ الدُنيا وزينتها قالَ بعده ذلك: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]. فحصنوا أنفسكم شباب الإسلام، وانتظروا حور العين في الجنة ـ إن شاء الله ـ ولا تستعجلوا.
يا معشرَ الشباب، احذروا الاستهانةَ بالذنبِ ولو صَغُر، فلا صغيرَ مع إصرار. والنظرةُ المُحرمةُ تورثُ الحسراتِ والزفرات، والعينُ تزني وزناها النظر. ومن هُنا أقولُ للشبابِ الملتزمِ: كم نُخَادِعُ أنفسَنَا حينما نُبيحُ لها في السفرِ ما نعتبرُهُ نَحنُ عندَ غَيرِنا إحدى الكبر. ما الذي يُبيحُ لنا مُشاهدةِ الدُشوشِ ونحنُ نُحذِّرُ منها؟! أفي أمنٍ نَحنُ من مكرِ الله؟! أوَنظُنُّ أنَّ عقوبةَ الذنبِ هي خَسُفٌ ومسخٌ فقط؟! أوَليسَ في قُسوةِ قُلوبِنَا وحرمانِنَا من لذةِ الطاعاتِ أعظمُ عقوبةً؟! فلا تأمنْ غبَّ الذنبِ ولو بَعدَ حين.
يا معشرَ الشباب، الشهوةُ تَبدَأُ بخاطِرةٍ، فَدَافعها قَبلَ أن تُصبِحَ فكرةً، فإن صارت فكرةً فدافعها قبلَ أن تصيرَ إرادةً، فإنَّ صارتْ إرادةً فدافعها قبلَ أن تُصبحَ همةً، فإن صارت همةً فدافعها قبلَ أن تُصبحَ فعلاً، فإن أصبحتْ فعلاً فدافعها قبلَ أن تُصبحَ عادةً مُستحكمة يصعُبُ فِراقُها.
وأخيرًا يا شبابَ الإسلام، إنَّ من يعرفُ الداءَ لا يُعجِزَهُ البحثُ عن الدواء إذا تسلحَ بالإرادةِ القويةِ والعزيمةِ الصادقة، وإذا أحسَّ بخطورةِ هذا الداءِ وسعى إلى دوائهِ، وإذا التجأَ إلى اللهِ ودعاهُ كما دعاهُ الصالحون المستغفرون، وإذا عمرَ وقتهُ بالمفيدِ، وشغلَ نفسهُ بكلِّ عملٍ صالح، حينها يَسلمُ لهُ دينهُ، ويبقى لهُ شَرفهُ وقَدرَهُ، وتسمُو رُوحَهُ وتزكو نفسُهُ، ويَحظى برضا خالِقهِ وتوفيقه.
معاشرَ المسلمين، إنَّ الحديثَ إلى الشبابِ لا يَعني أننا نُطالِبُهم أن يَكُونوا ملائكةً مقربين أو أنبياءَ معصومين، فهم بشرٌ يقعُ منهمُ الخطأُ والجنوحُ عن الحقِّ، مَثَلُهُم كمثلِ بقيةِ فئاتِ المُجتمعِ، وكلُّ ابن آدمَ خطاء، وخيرُ الخطائين التوابون، لكنِ المطلوبُ أن يكونَ الشبابُ في الموقعِ الصحيح، فإنْ أخطأَ حاسبَ نفسهُ وحاكمَ تَصرُفهِ، وتاب إلى ربهِ وعادَ إلى رُشدِهِ، وقبِلَ حُكمَ اللهِ ورسولهِ على فعالهِ. وفي ذاتِ الوقتِ يجبُ على أبناءِ المجتمعِ أن يعلموا أنَّ الشبابَ إذا أخطأ أو صدرت منهُ هفوةٌ أو وقعَ مِنهُ ذنبٌ لا يعني أنَّهُ مغموسٌ في الإثمِ وميئُوسٌ من حياتهِ ومستقبله ما دامَ غير َمُصرٍ على عملهِ ولم يستمر في انحرافهِ، كما أنَّ الحديثَ إلى الشبابِ لا يعني براءةَ غيرهم، كما لا يَعني العُموم والشُمول والإحاطة واليأس، ففي الأمةِ شبابٌ مستقيمٌ نجا ـ بفضلِ اللهِ ورعايتهِ ـ من غوائلِ الشهوةِ وشُرُورِها، إنَّهم نماذجُ فذَّة، وفتيةٌ آمنوا بربهم وزادهم هُدى. واللهُ وحدَهُ المُؤمَلُ والمسؤولُ أن يُحَبب لنا ولشبابِنا الإيمانَ ويُزَيِّنهُ في قُلوبنا، ويُكَرِهَ لنا ولهم الكُفرَ والفسوقَ والعصيان، وأن يجعلنا وإيَّاهم من الراشدين.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على البشير النذير والسراج المنير، كما أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/4054)
يوم النصر العظيم وفضل يوم عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الصحابة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
9/1/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البلاء وحِكمه. 2- قصة موسى عليه السلام مع فرعون. 3- دروس وعبر مستفادة من قصة موسى مع فرعون. 4- مشروعية صيام يوم عاشوراء. 5- فضل صيام يوم عاشوراء، وفضل شهر الله المحرم. 6- بدع ومخالفات تقع في يوم عاشوراء. 7- مذهب أهل السنة والجماعة في الصحابة رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، ثقوا بنصر الله إذا توفرت أسبابه، من الصدق والإخلاص والاستقامة على شرعه والتضرع بين يديه ورجائه والخوف منه وحده دون سواه.
أيها المسلمون، عاشوراء يوم النصر العظيم، ويوم الصراع بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، قديم قدم البشرية ذاتها، ولن يزال مستعرًا مشبوبًا إلى قيام الساعة، وهذه سنة الله في خلقه، وهي مقتضى حكمته ورحمته، قال الله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، وقال تعالى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ [محمد:4]. فالله تعالى قادر على أن يهلك الظالمين في لحظة، ويأخذهم على حين غرة، ولكنه ابتلى بهم عباده المؤمنين ليكشف معادنهم، ويمتحن صدقهم وصبرهم وجهادهم وبذلهم. فبالابتلاء يتميز المؤمن الصادق من الدعي المنافق, ويتبين المجاهد العامل من القاعد الخامل. ولقد قصَّ الله لنا فصولاً كثيرة من هذا الصراع بين المؤمنين والكافرين.
عباد الله، ومن هذه القصص العظيمة قصة موسى عليه الصلاة والسلام مع فرعون مصر في عهده، والتي تكرر ذكرها في القرآن فيما يقارب ثلاثين موضعًا، وهي أكثر القَصص القرآني تكرارًا؛ وذلك لمشابهتها لما كان يعانيه الرسول من صناديد قريش وفراعين هذه الأمة, ولما فيها من التسلية له وللمؤمنين حينما يشتد عليهم أذى الكفار والمنافقين، ولما اشتملت عليه من العظات البالغة والدروس والحكم الباهرة والحجج والآيات القاطعة.
وتبدأ قصة موسى مع فرعون منذ أن كان موسى حملاً في بطن أمه، فقد قيل لفرعون: إن مولودًا من بني إسرائيل سيولد، وسيكون على يديه هلاكك وزوال ملكك. وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وقد نزح إسرائيل وأولاده من الشام إلى مصر في عهد يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وكان عددهم آنذاك ثمانين شخصًا، ثم لم يزل عددهم ينمو ونسلهم يتكاثر حتى بلغوا في عهد فرعون الطاغية ستمائة ألف إنسان.
وعندما أخبِر فرعون أن زوال ملكه سيكون على يد غلام من بني إسرائيل، أصدر أوامره بقتل أبنائهم واستحياء نسائهم، حذرًا من وجود هذا الغلام، ولن يغني حذر من قدر، وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21]. واحترز فرعون كل الاحتراز أن لا يوجد هذا الغلام، حتى جعل رجالاً وقابلات يدورون على النساء الحوامل، ويعلمون ميقات وضعهن، فلا تلد امرأة ذكرًا إلا ذبحه من ساعته. وكان هارون عليه السلام قد ولد قبل بدء هذه المحنة، فأنجاه الله من كيد فرعون، وأما موسى عليه السلام فإنه لما حملت به أمه حرصت على إخفاء حملها خوفًا عليه من القتل، وكان خوفها عليه يزداد مع مرور الأيام وقرب وقت المخاض، ولما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، وركبها من الهمّ والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان خوفها عليه أضعاف أضعاف فرحها بقدومه، ولكن الله جل وعلا ألهمها بما يثبّت به فؤادها، كما قال تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، فاستجابت أم موسى لهذا الإلهام، وصنعت لابنها صندوقًا وألقته في نهر النيل، حيث كانت دارها مجاورة له، ألقته في النهر وكأنما ألقت معه عقلها وقلبها، فأصبح صدرها خاليًا من الطّمأنينة، خاليًا من الرّاحة والاستقرار، ولولا أنّ الله ربط على قلبها بالإيمان وشدّ عزمها باليقين، لكشفت السر وأفسدت التدبير، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]، ويمضي الموج بالوليد الضعيف داخل الصندوق، يحفه الله بعنايته، ويكلؤه بحفظه ورعايته، حتى بلغ قصر فرعون، فالتقطه آل فرعون، ولما فتحوا التابوت وجدوا فيه ذلك الغلام الضعيف، ولكن رب الأرباب ومالك القلوب والألباب يلقي في قلب آسية زوجة فرعون فيضًا من الرحمة والرأفة والحنان على هذا الطفل الرضيع، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [القصص:9]، وكانت آسيا عاقرًا لا تلد، وقوله تعالى: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أي: كدناهم هذا الكيد وجعلناهم يلتقطون موسى ليكون لهم عدوًا وحزنا وهم لا يشعرون.
وقد أنالها الله ما رجت منه من النفع والخير, فهداها الله بسببه، وجعلها من أهل جواره وجنته، ولكن هذا الطفل المحفوف بعناية الله يفاجئهم بأنه لا يقبل ثدي امرأة ليرضع، فحاروا في أمره، واجتهدوا في تغذيته بكل ممكن، وهو لا يزيدهم إلا عنتًا وحيرة ورفضًا واستعصاءً، وبينما هم كذلك إذا بأخته تقبل عليهم، وكانت أمها قد أمرتها بأن تتابع أخاها وهو في الصندوق، وأن تقفو أثره، لتعلم مستقره وتستطلع خبره، وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:11، 12]، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا، وذهبوا معها إلى منزلهم، فلما رأته أمه ما كادت تصدق عينيها، فأخذته وضمته إلى صدرها وألقمته ثديها، فأخذ يرضع بنَهَم شديد، وهم في غاية الدهشة والسرور. وهكذا يأبى الله عز وجل إلا أن يحمل آل فرعون هذا الوليد إلى أمه التي خافت عليه منهم، ثم يعطوها مع ذلك أجرة إرضاعها له، ويتعهدوا وليدها بالتربية والرعاية، قال الله تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:13].
وما زالت الأيام تمضي والأعوام تترى، وكبر موسى وبلغ أشده، وآتاه الله حكمًا وعلمًا، فصار يأمر وينهى، ويقول فيسمع، ويشفع فيشفع، ولا غرو فهو ابن فرعون بالتبني، وهو ربيبه وواحد من أهل بيته، قال الله تعالى: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [القصص:14].
وبعد حين وقع في محنة عظيمة، حيث قتل رجلاً من قوم فرعون ما كان يريد قتله، وتخوف من الطلب، ففر هاربًا إلى أرض مدين، ولبث فيهم عشر سنين، تزوج في أثنائها، ثم عاد إلى أرض مصر مع أهله، وفي الطريق إليها أكرمه الله برسالته، وأوحى إليه بوحيه، وكلمه من غير واسطة ولا ترجمان، وأرسله إلى فرعون بالآيات القاطعات والسلطان المبين، ولكن فرعون عاند وكابر، فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:21-24]، وادعى أن ما جاء به موسى سحر، وأن عنده من السحر ما يبطله، وجمع السحرة من جميع أنحاء مملكته، فألقوا ما عندهم من السحر، فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]، فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الشعراء:4]، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:118-122]، ولما انقطعت حجة فرعون وخاب كيده، وانكشف باطله وزيفه لجأ إلى القوة والبطش والتعذيب والتنكيل والملاحقة والتشريد وإرهاب الناس بالنار والحديد. إنه منطق الطغيان العاتي، كلما أعوزته الحجة وخذله البرهان وخاف أن يظهر الحق ويتمكن أهله ورواده.
ثم أرسل الله عز وجل على فرعون وقومه آيات عجيبة وعقوبات متنوعة، من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31]، ولكنها ـ والعياذ بالله ـ لم تزدهم إلا عنادًا واستكبارًا وظلمًا وعدوانًا، يقول الله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ [الأعراف:133]، ولما تمادى فرعون في طغيانه وإيذائه لموسى ومن معه أوحى الله إلى موسى أن يخرج بالمسلمين من أرض مصر ليلاً، فخرجوا قاصدين بلاد الشام، فلما علم فرعون بخروجهم جمع جيشه وجند جنوده من شتى أنحاء مملكته ليلحقهم ويمحقهم في زعمه، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [الشعراء:53-56].
فخرج فرعون وجنوده في أثرهم، حتى أدركهم عند البحر الأحمر، فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُون [الشعراء:61]، فالبحر أمامهم، والعدو خلفهم، فأجابهم موسى بلسان المؤمن الواثق بأن الله معه ولن يضيعه، وقال لهم بكل ثقة وثبات: كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر، فضربه وهو يتلاطم بأمواجه، فانفلق ـ بإذن الله ـ اثني عشر طريقًا يابسًا، وصار هذا الماء السيال وتلك الأمواج العاتيات كأطواد الجبال الراسيات، فانحدروا فيه مسرعين مستبشرين، ودخل فرعون وجنوده في أثرهم لاهثين سادرين، فلما جاوزه موسى وقومه وتكاملوا خارجين وتكامل فرعون وقومه داخلين أطبقه الله عليهم وأغرقهم أجمعين، وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى [طه:77-79]، وهذا هو مصير أعداء الله في كل حين، وتلك هي عاقبة المكذبين الضالين، وما ربك بظلام للعبيد، يقول الله تعالى: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
ويستفاد من هذه القصة أن العاقبة للمتقين والنصر حليفهم متى ما تمسكوا بدينهم، واستنزلوا النصر من ربهم، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:51، 52].
ويستفاد منها كذلك أن الباطل مهما انتفخ وانتفش وتجبر وتغطرس وظن أنه لا يمكن لأحد أن ينازعه أو يرد كيده وباطله أو يهزم جنده وجحافله فإن مصيره إلى الهلاك وعاقبته هي الذلة والهوان، فهذا فرعون الطاغية بلغ به التكبر والغرور أن يدعي الألوهية، وأن يعلن للناس بكل جرأة وصفاقة: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وأن يقول بملء فيه من غير حياء ولا مواربة: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، ثم يفتخر بقوته وسلطانه فيقول: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51]، ثم يحتقر موسى عليه السلام وهو النبي الصالح والداعية الناصح فيقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، ولكنه حين حل به العذاب لم يغن عنه ملكه وسلطانه، ولا جنده وأعوانه، ولا تبجحه وادعاؤه، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:25، 26].
فيا ترى متى وقع هذا الحدث العظيم وتحقق هذا النصر المبين؟! لقد كان ذلك في اليوم العاشر من هذا الشهر الكريم شهر الله المحرم، فقد روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم رسول الله المدينة فرأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرَّق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم)) ، فصامه رسول الله وأمر بصيامه. وقد كان صيام يوم عاشوراء واجبًا قبل أن يفرض صيام رمضان، فلما فرض صيام رمضان أصبح صيام عاشوراء سنة مؤكدة.
تقول حفصة رضي الله عنها: أربع لم يكن رسول الله يدعهن: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتان قبل الفجر. رواه أحمد والنسائي وصححه الألباني. وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن صيام عاشوراء فقال: ما علمت أن رسول الله صام يومًا يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم. متفق عليه.
وبين النبي عليه الصلاة والسلام أن صيام هذا اليوم يكفر ذنوب سنة كاملة فقال: ((صيام عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) رواه مسلم. وروى مسلم أيضًا عن ابن عباس قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال: ((فإذا كان العام القابل إن شاء الله صمت التاسع)) ، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ، وفي صحيح مسلم أيضًا: ((خالفوا اليهود، صوموا يومًا قبله أو يومًا بعده)).
قال ابن القيم: "فمراتب صومه ثلاث، أكملها أن يصام قبله يوم وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم". وبناءً عليه فإن إفراد العاشر وحده بالصوم جائز، وبه يحصل الأجر المذكور في تلك الأحاديث، والأكمل صيام التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، حتى تحصل المخالفة لأهل الكتاب، وإن صمت يومًا قبله ويومًا بعده فهذا أحسن وأتم، حتى تستيقن صيام اليوم العاشر، خصوصًا إذا كان مشكوكًا في وقت دخول الشهر، ولأن السنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، كما أن الصيام في شهر المحرم له خصوصية ومزية على ما سواه، فقد روى الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)). وإن وافق عاشوراء يوم الجمعة أو السبت فلا بأس بصيامه في أحدهما؛ لأن النهي عن إفراد الجمعة أو السبت بالصيام إنما هو لمن صام من أجل أنه الجمعة أو السبت، أما إذا كان للصيام في أحدهما سبب شرعي يقتضيه كأن يوافق يوم عاشوراء أو يوم عرفة فلا حرج في الصيام حينئذ.
فاحتسبوا ـ أيها المؤمنون ـ وارغبوا في صيام عاشوراء رجاء أن تشملكم رحمة الله ومغفرته، وجددوا لله تعالى التوبة في كل حين. اللهم تب علينا واعف عنا وتجاوز عن خطيئاتنا، اللهم اغفر لنا ذنبنا كله، دقه وجله، علانيته وسره، أوله وآخره، ما علمنا منه وما لم نعلم. كما نسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى، ونسأله أن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يتقبل منا ويجعلنا من المتقين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن لله سبحانه يختص بفضله من يشاء من عباده، وله سبحانه أن يفضل بعض الأزمان على بعض، وأن يخصها بمزيد عناية وكرم، ومن ذلك ما اختص به شهر محرم، فهو شهر عظيم مبارك، وهو أول شهور السنّة الهجرية، وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّم?و?ت وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذ?لِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ [التوبة:36].
أيها المسلمون، لقد أنصتّم في الخطبة الأولى قصة موسى والطاغية فرعون، وكذلك فضل اليوم العاشر من شهر الله المحرم الذي وقعت فيه تلك الحادثة العظيمة.
ثم اعلموا أن من المفارقات العجيبة ما حصل في هذا اليوم المبارك أيضًا من قتل سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن أبيه وأمه وآل بيته، حيث قتل في فتنة عظيمة بين فئتين من المسلمين، وهي فتنة طهر الله منها أيدينا فلا نخوض فيها بألسنتنا، ولكن الذي ينبغي التنبيه إليه هو أن ما يفعله بعض الشيعة في هذا اليوم من البكاء والنواح على قتل الحسين وما يقومون به من تعذيب أنفسهم وإسالة الدماء من وجوههم وصدورهم وظهورهم والتقرب إلى الله بضرب أبدانهم بالسلاسل والسكاكين ولطم خدودهم ونتف شعورهم ليس من الإسلام في شيء، وهو من البدع المحدثة والمنكرات الظاهرة ومن كبائر الذنوب ـ يا عباد الله ـ التي تبرأ رسول الله من مرتكبيها فقال: ((ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)) متفق عليه، وعن أبي موسى أن رسول الله برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. متفق عليه. والصالقة هي التي ترفع صوتها بالنياحة والندب، والحالقة هي التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة هي التي تشق ثوبها، فكل عمل يدل على الجزع والتسخط وعدم الرضا بقدر الله فإنه محرم. ويضاف إلى ذلك ما في هذه الأعمال البدعية المؤذية للأبدان من حماقة وسفاهة وتشويه لصورة الإسلام وتنفير لغير المسلمين من الدخول فيه، وقد رأينا بعض وسائل الإعلام العالمية المعادية تحرص على نشر هذه الأعمال البدعية بالصوت والصورة، زاعمة بأن هذا هو الإسلام، وأن هذا ما يفعله المسلمون في هذا اليوم من كل عام.
وأشنع من هذا ما يفعله بعض هؤلاء المبتدعة من لعن للصحابة الأبرار وإعلان للبراءة منهم، وهذا ـ لعمرو الله ـ من أعظم الضلال وأنكر المنكرات، ويقابل هؤلاء فرقة أخرى ناصبوا الحسين العداوة والبغضاء، فيتخذون هذا اليوم عيدًا، ويظهرون فيه الفرح والسرور، ويلبسون الجديد، ويتبادلون الهدايا، ويصنعون أطعمة غير معتادة. وهذا كله من البدع المحدثة والضلالات المنكرة، والبدعة لا تعالج بالبدعة، والخطأ لا يصحح بالخطأ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقوم يستحبون الاكتحال والاغتسال والتوسعة على العيال واتخاذ أطعمة غير معتادة، وأصلها من المتعصبين بالباطل على الحسين ، وكل بدعة ضلالة، ولم يستحب ذلك أحد من الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا عند من استحب ذلك حجة شرعية، بل المستحب يوم عاشوراء الصيام عند جمهور أهل العلم".
فاتق الله أيها المسلم، وعليك بالسنة والجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، ولتعلم بأن منهج أهل السنة في الصحابة الكرام من آل البيت وغيرهم هو اعتقاد عدالتهم جميعًا، وأنهم أفضل هذه الأمة بعد رسولها ؛ ولهذا اختارهم الله تعالى لصحبته ونصرته وتبليغ هديه وسنته، ويدينون لله عز وجل بمحبتهم كلهم والترضي عن جميعهم، ويسكتون عما شجر بينهم وحصل لهم من الفتن والمحن، ويعتقدون أنهم جميعًا مجتهدون مريدون للحق، فمن أصاب منهم فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد وخطؤه مغفور، وإن أخطاءهم مهما عظمت فإنها مغمورة في بحور حسناتهم التي من أعظمها صحبتهم لرسول الله وجهادهم معه، رضي الله عنهم أجمعين، وجمعنا بهم في جنات النعيم.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على النبي الكريم، كما أمركم بذلك المولى العزيز الرحيم، فقال تعالى قولاً كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم أنا نسألك أن تنصرنا على أعدائنا حتى نسعد ونسر بظهور دينك...
(1/4055)
اجتماع الكلمة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
16/1/1426
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية اجتماع الكلمة ووحدة الصف. 2- أسباب الفرقة والاختلاف. 3- مقومات الاتفاق والاختلاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون، اجتماع الكلمة ووحدة الصف من الأمور المهمة التي حث عليها الدين، وأمرت بها الأدلة من كتاب الله عز وجل ومن سنة نبيه ، يقول تبارك وتعالى آمرا عباده المسلمين: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج، قبيلتان من القبائل التي أسلمت في عهد النبي ، وكان بينهم حروب طاحنة، لما اسلموا صاروا كما قال الله تعالى: بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا. حاول يهودي ـ كعادة اليهود ـ أن يفرق بينهم، لما رآهم متفقين متآلفين ساءه ذلك، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم بما كان بينهم من حروب، وهذا شأن اليهود، يحاولون دائما التفريق بين المسلمين، ويعملون جاهدين على تمزيق وحدتهم. فانظروا ماذا فعل هذا الخبيث، أرسل رجلا ـ واليوم اليهود قد يفعلون ذلك، يفعلونه من خلال قنواتهم، أو من خلال وسائل إعلامهم، أو حتى عن طريق أذنابهم من بني جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا، الذين يلجؤون إليهم ويتلقونهم بالأحضان، ليستعملوهم من أجل تفريق المسلمين ـ فأثر ذلك الخبيث حتى حميت نفوس القوم، وغضب بعضهم على بعض، فثاروا وحملوا السلاح، وتواعدوا الحرة، فعلم النبي ، فأخذ يسكنهم ويقول: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!)) وتلا عليهم الآية، فندموا واصطلحوا وتعانقوا رضي الله عنهم وأرضاهم.
أيها الإخوة المؤمنون، وأما اجتماع الكلمة في السنة ففي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أنه قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثا، ويسخط لكم ثلاثا. يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم. ويسخط لكم ثلاثا قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)).
فاجتماع الكلمة ـ أيها الإخوة ـ من الأمور المهمة التي يجب وينبغي أن تكون بين المسلمين، ولهذا حرم الله عز وجل كل أمر من شأنه التفريق.
الله عز وجل ـ أيها الإخوة ـ يحب أن يكون المسلمون إخوة ليس بينهم فرقة، يحب جل جلاله أن يكون المؤمنون على مستوى من المحبة وعلى درجة عالية من الألفة والترابط، ولهذا يقول جل جلاله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، ويقول النبي : ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث)) متفق عليه.
أيها الإخوة المؤمنون، ولكي ندرك اهتمام الدين بوحدة الكلمة والحرص على عدم الفرقة والتحذير من الاختلاف نتأمل هذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحنا، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا)). فمغفرة الله عز وجل للعبد السالم من الشرك لا تكون إلا لمن اصطلح مع إخوانه، وقضى على ما بينه وبينهم من شحناء وبغضاء.
فلنتق الله يا عباد الله، ولنحذر الفرقة، ولنعمل على توحيد الكلمة ووحدة الصف؛ لأن التفرق يشل حركة المجتمع ويوهن البناء ويضعف الشوكة. ولنحذر ـ أيها الإخوة ـ الأهواء، ولنحرص على الحب والإخاء؛ لأن اتباع الأهواء يفرق، والحب والإخاء يجمع.
أسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة المؤمنون، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن الله عز وجل حذرنا وحرم علينا أمورا تسبب الفرقة، وتورث النزاع والاختلاف، هذه الأمور يجب على المسلم أن يحذرها وأن يعمل على اجتنابها والبعد عنها، وهي كثيرة، ولكن يجمعها البعد عن تعاليم القرآن والسنة، ولهذا قال الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، ويقول النبي : ((كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض)). ولا يؤلف ـ أيها الإخوة ـ بين القلوب فيجعلها متآلفة متآخية متحابة إلا التمسك بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه.
والله الذي لا إله غيره، لا يجتمع الناس ولا تتآلف قلوبهم إلا إذا عملوا بكتاب الله عز وجل وتمسكوا بسنة نبيه ، يقول تبارك وتعالى: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63]، وخطب النبي الأنصار فقال: ((يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟!)).
فالاستقامة على أمر الله وعلى أمر رسوله بها ومن خلالها نكون إخوة متحابين متآلفين، أما إذا كان الناس على خلاف ذلك فليبشروا بالفرقة والتشتت في هذه الدنيا وبالنار يوم القيامة، يقول النبي : ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدةٌ في الجنة، والذي نفسُ محمدٍ بيده، لتفترقنّ أُمتي ـ يعني نحن ـ على ثلاث وسبعين فرقةً؛ فواحدةٌ في الجنةِ واثنتان وسبعون في النار)) والحديث في السلسلة الصحيحة.
فحري بالمسلم أن يحرص على أن يكون من الفرقة الناجية، أن يكون من الفرقة السالمة من جهنم، وقد سأل النبي عن هذه الفرقة فقال: ((هم الذين على ما أنا عليه اليوم وأصحابي)) ، أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم منهم.
ألا وصلوا على البشير النذير والسراج المنير، فقد أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال جل من قائل عليما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
فاللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين...
(1/4056)
بين عامين
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, التوبة
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
2/1/1426
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفكر في تصرم الأيام من علامات أولي الألباب. 2- العاقل من يتعظ بأمسه ويجتهد في يومه ويستعد لغده. 3- الوصية بالتوبة قبل حلول الندم. 4- وفقة محاسبة مع النفس في آخر العام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، يقول ربكم جل جلاله وتقدست أسماؤه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]. فاعملوا بوصية ربكم، اعملوا بوصية ربكم بفعل أوامره واجتناب ما نهاكم عنه، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين. أيها الإخوة المؤمنون، يقول الله عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَاب [آل عمران:190]. ومن أولو الألباب؟ أي: أصحاب العقول الذين تعمل عقولهم على الوجه المطلوب، على الشكل الصحيح، فهؤلاء هم الذين يدركون الأمور على حقائقها، أما الذين أجَّروا عقولهم فلا يستفيدون من هذه الآيات. يقول ابن كثير في تفسيره: لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ : "أي: لأصحاب العقول، ليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون الذين قال الله فيهم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105]". فحري بالمسلم أن يراجع وظائف عقله؛ ليرى ـ أيها الإخوة ـ هل هو من أولي الألباب أم والعياذ بالله من الذين يمرون على الآيات، وتمر بهم وهم عنها في إعراض، كالصم البكم الذين لا يعقلون. أيها الإخوة المؤمنون، إننا في هذه الأيام نبدأ عاما جديدا بعد توديعنا لعام قبله، مضى ذلك العام من أعمارنا، وهذه سنة الحياة؛ أعوام تمضي، وأزمنة تنقضي، وفي ذلك آيات لأولي الألباب، في ذلك آيات لأصحاب العقول الذين يعتبرون بمرور الأيام، ويعظهم تعاقب الأعوام، فيكون ذلك دافعا لهم للنشاط في العبادة والإكثار من الطاعة والبعد عن المعصية، تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان:61، 62]. أيها الإخوة المؤمنون، قليل من الناس من تكون له نهاية العام موعظة وعبرة، والكثرة ـ أكثر الناس ـ من لا يكترث بمرور أعوامه وانصرام أيامه، وبعضهم من لا يعرف العام إلا من أجل مصلحة دنيوية أو منفعة ذاتية؛ فالسجين يفرح بانقضاء عامه ليخرج من سجنه، وآخر يفرح بانقضاء عامه ليقبض أجرة مسكن أجَّره أو لحلول دين أجله، وآخر يفرح بانقضاء عامه من أجل ترقية في وظيفة أو لزواج أو تخرّج، ولكن الفرح في مثل هذه الأمور مع الغفلة عن النفس وعدم الاعتبار بمرور الأعوام هو في الحقيقة غبن ظاهر. إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني منَ الأجل فاعمل لنفسِك قبل الْموت مُجتهدا فإنما الربح والخسران في العمل إن العاقل ـ أيها الإخوة ـ هو من يتعظ بأمسه ويجتهد في يومه ويستعد لغده. أيها الإخوة المؤمنون، إنه ينبغي للعاقل أن يتدارك أوقاته، وأن يحفظها ويستغلها بما يكون خيرا له لا بما يكون وبالا عليه، فالعمر قليل والأجل قريب، ومهما عاش فإنه لا بد له من الموت. سُئل نوح عليه السلام وقد لبث في قومه داعيا إلى الله عز وجل ألف سنة إلا خمسين عاما، قيل: كيف رأيت هذه الدنيا؟ قال: كداخل من باب وخارج من آخر. أكثر من تسعمائة وخمسين سنة وكأنه داخل من باب وخارج من آخر، فكيف بنا وأعمارنا من الستين إلى السبعين؟! نعم أيها الأخوة، هذا مقدار أعمارنا، فنحن لسنا كنوح نعيش مئات السنين، المعمر فينا من يبلغ مائة سنة، وفي الحديث عن النبي قال: ((أعمار أمتي ـ يعني: نحن وأمثالنا ـ ما بين الستين والسبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)). يعني الكثرة هم الذين يموتون قبل السبعين، فالذي يعيش حتى يتجاوز السبعين فهذا من القليل وحالة نادرة. سبحان الله أيها الإخوة، ما أقسى قلوبنا وما أشد غفلتها، الأمر واضح وبين، فأكثر الناس من يوافيه الأجل بين الستين والسبعين، ومنهم من يوافيه قبل ذلك، والقلة ـ نعم القلة ـ هم الذين يتجاوزون سن السبعين، ثم أيضا يوافيهم أجلهم ويموتون. أيها الإخوة المؤمنون، إن مرور الأعوام على الإنسان قد يكون نعمة وقد يكون نقمة؛ فطول العمر أحيانا يكون شرا ووبالا على صاحبه، فمثلا العصاة كثرة أعوامهم إذا لم يبادروا بالتوبة شر ووبال عليهم، فكلما طال عمر أحدهم استكثر من حجج الله عليه، ففي الحديث يقول النبي : ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله)). يا من ضيعت عمرك فيما لا ينفع، ألم تعلم بأنك تستكثر من الذنوب في كل عام؟! أما علمت بأن هذا العمر وهذه الأعوام التي مرت بك شاهدة عليك؟! إذًا بادر بتوبة، تب إلى الله. إن العاقل ـ أيها الإخوة ـ لا ينغرّ ولا ينخدع بإمهال الله له، ولا بما أعطاه الله، يقول عز وجل: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]. أخي المسلم، يا من أمضيت عددا من السنين، اعلم بأن هذا العمر الذي أمضيت سوف تسأل عنه وتحاسب عليه، ففي الحديث عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة عند الله حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين أكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟)). فأعد للسؤال جوابا، وللجواب صوابا. اللهم أيقظنا من رقدة الغافلين، وأغثنا بالإيمان واليقين، واجعلنا من عبادك الصالحين، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن هذه الدنيا فانية زائلة لا محالة، وتيقنوا بأنها منتهية راحلة، وما مرور الأعوام والأيام إلا دليل على ذلك، وهذه الدنيا جعلها الله دار ابتلاء واختبار ومزرعة للآخرة ومتجرا لدار الخلد والبقاء والقرار، فالسعيد من تنبه لها، وأعطاها قدرها، ولم يفرط في لحظاتها فضلا عن أيامها، ولم ينشغل في مباحاتها فضلا عن محرماتها. فالله الله أيها الإخوة، اغتنموا فرصة وجودكم في هذه الحياة، استبقوا أوقاتها، وتحينوا فرصها، واستفيدوا من مناسباتها، وتذكروا قول نبيكم : ((اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)). أيها الإخوة المؤمنون، مع بداية هذا العام وقفة محاسبة لهذه النفس، ماذا عملت؟ وماذا قدمت؟ سل نفسك يا عبد الله، حاسبها: ما حالها مع الواجبات؟ هل قامت بها؟ وما حالها مع المحرمات؟ هل ارتكبت شيئا منها؟ سلها عن حقوق الناس الأرحام والأقارب والجيران، سلها عن هذه الأموال التي بين يديك: من أين جمعتها؟ وفيم أنفقتها؟ سل نفسك ـ يا عبد الله ـ عن هذه النعم التي تتقلب فيها: هل أديت شكرها؟ خمس ـ أيها الإخوة ـ ينبغي لكل واحد منا أن يجلس مع نفسه ويحاسبها عليها: أولا: الواجبات، ثانيا: المحرمات، ثالثا: حقوق الناس، رابعا: المال، خامسا: النعم.
أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الذين طالت أعمارهم وحسنت أعمالهم، إنه سميع مجيب.
اللهم إنا نسألك صلاح قلوبنا وأعمالنا ونياتنا وذرياتنا...
(1/4057)
فلسطين
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
29/1/1423
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النصوص الشرعية الواردة في فضل فلسطين. 2- فضل بيت المقدس. 3- فضل الشام. 4- بطولات قدمها قادة المسلمين من أجل بيت المقدس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون، سبق الحديث عن عداوة اليهود، وذلك بمناسبة ما يفعله إخوان القردة والخنازير في المسلمين في فلسطين، وأما حديثنا ـ في هذا اليوم ـ فهو عن فلسطين نفسها مسرى نبينا ، يقول جل جلاله: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى? الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1].
والمسجد الأقصى في فلسطين اختاره الله مسرى لنبيه ومنطلقا لمعراجه، يقول عن رحلة الإسراء والمعراج: ((أُتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم عرج بي إلى السماء)) والحديث رواه مسلم.
كثير من الناس ـ أيها الإخوة ـ ينظر إلى فلسطين على أنها دولة عربية أو إسلامية فقط، ويتحمس لها من هذا الجانب، ويجهل ما لفلسطين من مكانة شرعية، ففلسطين مسرى النبي ومنطلق معراجه.
وأرض فلسطين ـ أيها الإخوة ـ أرض مباركة، جعلها الله كذلك، ووصفها بذلك في كتابه، والآيات التي تدل على أن أرض فلسطين أرض مباركة كثيرة جدا، منها قول الله تعالى: إِلَى? الْمَسْجِدِ الأقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، يقول ابن سعدي في تفسيره عند تفسيره لهذه الآية: الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ : "أي: بكثرة الأشجار والأنهار والخصب الدائم، ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة، وأنه يطلب شد الرحال إليه للعبادة والصلاة فيه، وأن الله اختصه محلا لكثير من أنبيائه وأصفيائه".
ومن الآيات التي تدل على بركة أرض فلسطين قول الله تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:71]، يعني نبي الله وخليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقد خرج من أرض العراق مهاجرا إلى الشام، فكانت مهاجره، وكان فيها مماته عليه الصلاة والسلام.
ومنها قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ:18]، قال ابن عباس: (القرى التي باركنا فيها هي بيت المقدس).
ففلسطين أرض مباركة، وكذلك هي أرض مقدسة، لها مكانة عند المسلمين، ولها منزلة سامية، سماها الله بالأرض المقدسة بنص القرآن، فقال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام وقومه: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة:21]، يقول الزجاج: "المقدسة الطاهرة؛ سماها مقدسة لأنها طهرت من الشرك وجعلت مسكنا للأنبياء والمؤمنين".
أيها الإخوة المؤمنون، إننا عندما نبكي على فلسطين ليس من أجل ترابها، فعندنا الصحاري الواسعة، وليس من أجل جبالها، فعندنا الجبال الشاهقة، إنما هو من أجل مكانتها ومنزلتها في ديننا، فالاعتداء عليها هو اعتداء على ديننا، والإساءة لها هي إساءة إلى مقدساتنا.
أيها الإخوة، على أرض فلسطين عاش كثير من الأنبياء والمرسلين، فعلى أرضها عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وداود وسليمان وصالح وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وغيرهم الكثير ممن لم تذكر أسماؤهم من أنبياء بني إسرائيل.
وفي فلسطين بيت المقدس أحد المساجد التي تشد لها الرحال، قال : ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) رواه البخاري ومسلم.
فالمسجد الأقصى ثالث المساجد في شد الرحال وفي فضل الصلاة، وللصلاة فيه فضل عظيم؛ ففي الحديث عن عبد الله بن عمرو أنه سمع النبي يقول: ((لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثًا: حكمًا يصادف حكمه، وملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وأن لا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ، فقال النبي : ((أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
ومما يدل على مكانة فلسطين أن الملائكة تبسط عليها أجنحتها، كما في الحديث الذي صححه الألباني عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله يقول: ((يا طوبى للشام، يا طوبى للشام)) ، قالوا: يا رسول الله، وبم ذلك؟ قال: ((تلك الملائكة باسطة أجنحتها على الشام)). فهذه ميزة، ميزة للشام ومنها فلسطين.
وعلى أرض فلسطين يكون المحشر والمنشر، فقد روى الإمام أحمد بسنده عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي ، قالت: يا نبي الله، أفتنا في بيت المقدس، قال: ((أرض المحشر والمنشر)).
وفلسطين موئل الطائفة المنصورة الثابتة على الحق، فعن أبي أمامه عن النبي قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لعدوهم قاهرين، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)) ، قيل: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس، وأكناف بيت المقدس)) والحديث في مسند الإمام أحمد.
وفي فلسطين يصرع الدجال ويقتل، حيث يلقاه عيسى عليه السلام عند باب لُدّ، فيذوب كما يذوب الملح في الماء، فيقول له: إن لي فيك ضربة لن تفوتني، فيضربه فيقتله.
وفي فلسطين موطن الكثير من صحابة رسول الله ، منهم عبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأسامة بن زيد بن حارثة وواثلة بن الأسقع وفيروز الديلمي ودحية الكلبي وعبد الرحمن بن غنم الأشعري وأوس بن الصامت ومسعود بن أوس وزنباع بن روح الجذامي وغيرهم من الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
إنها فلسطين موطن الآلاف من أعلام الأمة وعلمائها الذي أضاؤوا في سمائها بدورا ولمعوا فيها نجوما، ومن هؤلاء مالك بن دينار والأوزاعي وروح بن زنباع وسفيان الثوري وابن شهاب الزهري والشافعي وابن قدامة المقدسي.
أسأل الله عز وجل أن يطهرها من أدران اليهود، اللهم طهر فلسطين من إخوة القردة والخنازير، اللهم حرر المسجد الأقصى من اليهود الغاصبين، إنك قوي عزيز.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، ومن أجل فلسطين سار عمر بن الخطاب على بعير يعتقبه مع غلام له، فلما وصل بيت المقدس صلى في محراب داوود عليه السلام، وترنم بسورة الإسراء.
ومن أجل فلسطين امتنع الملك نور الدين زنكي عن التبسم، وقال: "أستحي من الله أن أتبسم وبيت المقدس في الأسر".
ومن أجل فلسطين شمخ صلاح الدين برأسه وشحذ سيفه وأعد عدته؛ ليخرج الصليبيين من أرض الأقصى. كان في بيت المقدس نحو من ستين ألف مقاتل صليبي، كلهم يرى الموت أهون عليه من تسليمها، فجهز صلاح الدين جيشه الذي لا يزيد على اثني عشر ألف مقاتل، وجابه به جيوش الفرنجة، وحصر المسلمون الصليبيين وأحرقوا الحشائش الجافة من حولهم ومن تحتهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح، فقتلوا منهم ثلاثين ألفا وأسروا ثلاثين ألفا، وبيع الأسير الصليبي يومئذ بدرهم، بل باع مسلم أسيرا صليبيا بنعلين، فقيل له: ما أردت بذلك؟ قال: أردت أن يكتب التاريخ هوانهم وأن أحدهم بيع بنعلين.
نعم، هذه هي فلسطين بعبقها وتاريخها، بخيراتها وبركاتها وفضائلها، بشموخها وكبريائها. هذه هي فلسطين بجمالها الساحر وحسنها الفتان.
أقول والقلب يشدو في خمائلها هذا الجمال إلى الفردوس ينتسب
يا للجبال إذا ما زينت وعلى سفوحها غرد الزيتون والعنب
يا للرّبى والمروج الخضر مصبحة والورد من كل لون منظر عجب
هنا السموات بالأرض التقَيْن وقد عمّ السرور جميع الكون والطرب
هذي فلسطين يا من ليس يعرفها كأن أحجارها القدسية الشهبُ
أيها المسلمون، ومهما أخذت فلسطين فإنها سوف تعود للإسلام والمسلمين، واجتماع اليهود في فلسطين هو بداية النهاية لإخوان القردة والخنازير، يقول النبي : ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود)).
أسأل الله عز وجل أن يقر عيونكم بهلاك اليهود المعتدين، وبهيمنة الإسلام والمسلمين، ونصرة عباد الله المؤمنين. اللهم إنا نسألك أن تنصر عبادك المؤمنين، وأن تذل الشرك والمشركين، اللهم عليك باليهود المعتدين، والنصارى الحاقدين...
(1/4058)
الحرب الصليبية الجديدة
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, محاسن الشريعة, معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/8/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف أهل الكتاب من دعوة النبي. 2- صور من عدل المسلمين مع أهل الكتاب. 3- تاريخ أهل الكتاب الأسود مع المسلمين. 4- ما جاء في القرآن من كشف حقائق اليهود والنصارى. 5- موجز تاريخ الحروب الصليبية. 6- الآثار الإيجابية للحروب الصليبية على الأمة الإسلامية. 7- حلف الأطلسي واستمرار الحروب الصليبية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد أشرقت شمس الرسالة على أهل الأرض ببعثة محمد ، فكانت لهم سراجًا منيرًا، فأنعم الله بها عليهم نعمة لا يستطيعون لها شكورًا، وأهل الكتاب وقتئذ مترقبون ينتظرون، فلما أشرقت من مكة ببعثة محمد بن عبد الله الهاشمي كفروا بها وجحدوها إلا قليلاً منهم، وكانوا هم أولى باتباع النبي ؛ لما يجدونه مكتوبًا عندهم في كتبهم، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ [الأعراف:157].
وخص الله سبحانه أهل الكتاب من اليهود والنصارى بدعوة خاصة فقال تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16]، فناداهم بـ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تشريفًا وتكريمًا، وليكون ذلك أدعى لقبول ما جاء به محمد ، فكان منهم من أسلم فسِلم، وآمن فأمِن، وكُتب له الأجر مرتين، وكان منهم من أخذه الكبر والحسد فكفر وجحد، ومع ذلك أقرّهم الإسلام على دينهم، وأذن للمسلمين في الإحسان إليهم، وعصم دماءهم وأموالهم، وحفظ لهم حقوقهم، وأبقاهم بين المسلمين؛ رجاء الخير لهم بإسلامهم وإيمانهم. فكان الإسلام عليهم نعمة والمسلمون لهم رحمة، ما ظنّكم ـ أيها المسلمون ـ بدين يُفتي علماؤه ويقرّرون بأن من كان معه ماء لوضوئه ووجد مضطرًا من أهل الكتاب أو من دوابهم المعصومة وجب عليه أن يعدِل إلى التيمم، وأن يسقي ذلك المضطر أو تلك الدابة، إنه مصداق قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
أيها المسلمون، إن أهل الكتاب ما نعموا بعدل ولا سعدوا بأمن إلا تحت حكم المسلمين، وشواهد التاريخ على ذلك كثيرة، من ذلك أنه لما انسحب أبو عبيدة بن الجراح من حمص بعد أن فرض عليها الجزية بكى النصارى في حمص، وقالوا: يا معشر المسلمين، أنتم أحب إلينا من الروم وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى لنا، وأرأف بنا، وأكفّ عن ظلمنا، وأحسن ولاية علينا، ولكنهم ـ أي: الروم ـ غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا. هكذا كان الإسلام لهم، وهكذا أَمَرَ الله ورسوله المسلمين أن يكونوا لهم.
وفي مقابل هذا البر والإحسان والرحمة والإنعام كيف كان أهل الكتاب للمسلمين؟ إن تاريخ النصارى في التعامل مع المسلمين تاريخ أسود كله، إنهم يكيدون لنا كيدًا ليردونا عن ديننا فردًا فردًا، سلكوا في ذلك جميع السبل والوسائل، ونفّذوا من أجله مخططات الأواخر والأوائل، فمرّة مكر وخديعة في ثوب الناصح الأمين، ومرّة غصب واستعمار تحت ستار الإعانة والتأمين، وها هو التبشير والتنصير قد أنشب أظفاره وكشر أنيابه، وهو نتيجة من نتائج التعصب الصليبي المسلح، ومولود من مواليد القوة الطاغية التي تُسمّي كل ما تَرضى عنه من الأعمال المنكرة حرية دين أو حرية فكر أو حرية رأي، وتُسمّي كل ما لا ترضى عنه من المطالبة بالحقوق المغصوبة وغير ذلك، تسميه إرهابًا وعنفًا وأصولية وتشدّدًا.
أيها المسلمون، إنه لا عجب في أن يكذِّب النصارى بالقرآن الكريم، ولكن العجب كل العجب فيمن يقول من الغافلين والخائنين من المسلمين: إن النصارى إخوان لنا راضون عنا! وهو يقرأ قول الله عز وجل: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]. العجب كل العجب فيمن يزعم أنه يؤمن بالقرآن الكريم ثم هو يقول: إن النصارى يحبوننا ولا يكنّون لنا العداوة والبغضاء! والله تعالى يقول: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]. العجب كل العجب فيمن يقول من المتخاذلين والمخذولين من المسلمين: إن النصارى يحترمون ديننا ويعظمونه ويقرّوننا عليه! والله تعالى يقول: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109].
إن عداوة أهل الكتاب للمسلمين قضية مقرّرة محسومة، وعقيدة راسخة معلومة، بيّنها الله في القرآن الكريم، وشهد بها التاريخ والواقع الأليم، فمن لم يقنع ببينة القرآن ولم يكفه شاهد العيان فلا حيلة إليه.
إننا لم ننسَ الجرائم الشنيعة والعظائم الفظيعة التي ارتكبها النصارى في حق مسلمي الأندلس، أجبروهم على التنصر، وحوّلوا مساجدهم إلى كنائس، وأتلفوا كتبهم ومصاحفهم، واعتبروا أطفالهم نصارى، فعمّدوهم بالقوة، ومحوا شعائرهم وشعاراتهم، ومنعوا تقاليدهم وعاداتهم، ونكثوا العهود والمواثيق التي أخذت منهم أن لا يتعرضوا للمسلمين، فقَتلوا وعذبوا ونكَّلوا وشرَّدوا.
ثم جاءت الحروب الصليبية الكبرى التي شنها النصارى على الشرق الإسلامي طيلة قرنين من الزمان تحت مسمى "الحرب من أجل تحرير القبر المقدس". لقد شنّ النصارى سلسلة من الحروب على العالم الإسلامي دافعه ديني صليبي، من أبشع ما عرفته البشرية من حروب.
كانت الحرب الصليبية الأولى عام (489هـ) بقيادة بطرس الناسك بتحريض من رجال الدين لاحتلال بيت المقدس، ثم جاءت الحرب الصليبية الثانية عام (541هـ) بقيادة ملك ألمانيا، والثالثة كانت عام (585هـ) بقيادة ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا وفيليب ملك فرنسا بحجة استعادة بيت المقدس بعد الانتصارات التي حققها البطل المجاهد صلاح الدين الأيوبي، ثم كانت الحرب الصليبية الرابعة عام (594هـ) بقيادة أمراء فرنسيين انتهت بالفشل، أما الحرب الصليبية الخامسة فكانت عام (615هـ)، ثم السادسة عام (625هـ) بقيادة ملك ألمانيا انتهت بتسليم بيت المقدس إلى الصليبيين، والحرب الصليبية السابعة كانت عام (637هـ)، أما الحرب الصليبية الثامنة فهي الهجمة الصليبية مع بداية القرن المنصرم، والتي من خلالها تم تدمير الخلافة الإسلامية وتفكيك العالم الإسلامي إلى دويلات متفرقة وجثوم الصليبيين على قلب العالم الإسلامي، ومن ثَمّ تسليم فلسطين لأحفاد القردة والخنازير، وفيها ركل القائد الإنجليزي قبر صلاح الدين وقال قولته المشهورة: "ها قد عدنا يا صلاح الدين"، قالها بعد سبعمائة سنه من آخر حملة.
وقد ذكر بعض المؤرخين المعاصرين أن الحرب الصليبية التاسعة والتي كانت عام (1422هـ) هي الهجوم على بلاد الأفغان، وهناك من يقول بأن العاشرة قد دقّت طبولها، وأن الحروب الصليبية لم تنته بعد.
أيها المسلمون، كم ارتكب النصارى في هذه الحروب من مذابح بقيت شامة عار في جباههم، ففي الحملة الأولى فقط أبادوا أهل أنطاكية، وذبحوا في القدس أكثر من سبعين ألفًا من المسلمين، وخربوا حمص وبعلبك وحماة وعسقلان وطبرية وغيرها من البلاد، وهجَّروا أهلها منها، وفعلوا الأفاعيل العظيمة التي استحى حكماؤهم ومؤرخوهم منها.
وفي التاريخ القريب، ماذا فعل الاستعمار الصليبي في بلاد المسلمين من قتل وتشريد وفساد وإفساد وتخريب ودمار ونهب للأموال والممتلكات وحرمان المسلمين من أدنى الحقوق التي لا تحرم منها الدواب والبهائم؟! وليست مذابح البوسنة والهرسك ومجازر كوسوفا منّا ببعيد. فاعرفوا ـ أيها المسلمون ـ أعداءكم، وإياكم ثم إياكم من زخارف القول.
إن الدول الغربية تفتعل أي سبب لكي تضرب أية دولة أو لتشن حربًا صليبية جديدة، حالهم في ذلك حال ذلك الذئب الذي كان يشرب من أحد الأنهار، فأبصر حملاً فطمع في افتراسه، ولكنه أراد أن يراعي شريعة الغاب حتى يكون افتراسه موافقًا لقرارات الأمم المتحدة، فيبدأ بتقديم مسوّغ لافتراس ذلك الحمل يقنع به باقي الوحوش، فما إن رأى الحمل يجتر بفمه حتى بادره قائلاً: أتهزأ بي لا أبا لك؟! قال الحمل: أبدًا، إنما أجتر بعض الطعام، قال: فلماذا كدّرت عليّ ماء النهر أثناء شربي؟! قال الحمل: وكيف وأنت أعلى النهر وأنا أسفله؟! قال: إذًا أنت الذي قتلت أبي في العام الماضي؟! قال الحمل: أبدًا، فلم أولد إلا قبل أشهر! قال: فأبوك إذًا هو الذي قتله؟! ثم هجم عليه وافترسه. هكذا يتعامل الغرب اليوم مع الشعوب المسلمة؛ لكي يغطوا عورة الحرب الصليبية الجديدة.
أيها المسلمون، إننا نرجو من الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الحملات الصليبية من المحن المحملة بالمنح، وأن يصدق فيها قول الله تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، ولعلها تكون كذلك من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن تكون موقظة للأمة من غفلتها، فإن الأمة تعاني من أمراض عظيمة، من حب الدنيا وكراهة الموت والابتعاد عن الشرع والخلود إلى الأرض، فأعجزها ذلك عن الحراك، وسلط عليها الكفار من كل جنس، وعلاجها ـ والله أعلم ـ لا يكون إلا بصدمات قوية متتابعة بقوة ما هي عليه من مرض، فلعل هذه الحملات الصليبية تحمل بين أظهرها علاج هذه الأمة، فتجعلها تفيق من غفلتها وتنهض من كبوتها. وقد رأينا كيف كان الاجتياح الشيوعي الأحمر لأفغانستان قبل أكثر من عشرين سنة من أعظم أسباب إحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله بين المسلمين في العصر الحاضر، وما يدريك أن حملة بني الأصفر الحالية على المنطقة أن تحيي الجهاد في هذه المنطقة أيضًا، ويحصل ما كان يخشاه الغرب، وتوقظ قلوب المسلمين، وتكون طريقًا لإظهار الإسلام على الدين كله ولو كره الكافرون، وما ذلك على الله بعزيز.
الناحية الثانية: أن تكون طريقًا لنهاية بعض الدول التي تُسمى بالدول العظمى، إنها تمر الآن بأزمات اقتصادية متتابعة خانقة، ولو تورّطوا بحملة صليبية جديدة فإن ذلك يحتاج إلى ميزانية ضخمة، بالإضافة إلى ما يسببه الاعتداء على مناطق النفط من أزمات عالمية ستتضرر منها هذه الدول، وهذا يُؤذن بأفول نجم هذه الدولة بحول الله وقوته، إذ إن قوامها قائم على الاقتصاد، والتاريخ الحديث فضلاً عن القديم يشهد لذلك، فأين هي الاتحاد السوفيتي الآن بعدما تورطت في دخولها بلاد الأفعان؟!
أما نحن المسلمون، فإننا مأمورون أيام الفتن بتقوى الله سبحانه والرجوع إليه، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، والاهتمام بأصل الدين ولبّه توحيد الله، وتعلّمه وتعليمه ودعوة الناس إليه، وهجر الشرك كله صغيره وكبيره وتحذير الناس منه، والتمسك بالسنة واتباعها والحذر من البدع وأهلها والمعاصي والتحذير منها، والبراءة من الكفر وأهله، فإن هذه الأمور من أعظم أسباب النصر، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
وعلى المسلمين جميعًا أن يعدوا العدة للجهاد في سبيل الله، وأن يتهيؤوا للقتال، فإن الأيام حُبلى، وقد أعلنوها حملة صليبية صريحة، والمؤمن كيّس فَطِن، وقد قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [الأنفال:60].
نسأل الله سبحانه أن يهلك عدوّنا، وأن يعزّ الإسلام وأهله، وأن يعجّل بنصر المجاهدين في سبيله في كل مكان، وأن يرد كيد المنافقين إلى نحورهم، وأن يكفي المسلمين شرورهم، وأن يجعلنا من أنصار دينه، وأن يرزقنا الشهادة في سبيله مقبلين غير مدبرين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن أوروبا لم تشبع بعد من دماء المسلمين، ولم تكفها سبع أو ثمان حملات في القرون الوسطى لشفاء غليلها من المسلمين الموحدين، ولم تشفها الحملات المعاصرة قبل وبعد الحربين الكونيتين في النصف الأول من هذا القرن، بدليل أن صيحاتهم باتت تصم الآذان مبشرة ومنذرة بقيام المزيد من الحروب الصليبية بين العالم الإسلامي والعالم النصراني، فالحروب الصليبية لم تنته بعد.
أيها المسلمون، في الثاني والعشرين من إبريل عام (1993م) لم يكن مضى على استلام الرئيس الأمريكي "بل كلينتون" للحكم أكثر من ثلاثة أشهر حين أقام احتفالاً في العاصمة الأمريكية بمناسبة افتتاح متحف المحرقة اليهودية وبحضور عدد من رؤساء أوروبا بشرقها وغربها، وقف رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك "رابين" في ذلك الحفل خطيبًا وقال: "إننا لسنا متأكدين بعدُ من أن الرئيس كلينتون وفريقه يدركان تمامًا خطر الأصولية الإسلامية، والدور الحاسم لإسرائيل في محاربتها، إن مقاومتنا ضد الإرهابيين المسلمين القتلة مقصود منها إيقاظ العالم الذي يرقد في سبات عميق على حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد السلام العالمي".
ولو رجعنا قليلاً إلى الوراء إلى بُعَيد الحرب العالمية الثانية حيث ما يسمّى بحلف شمال الأطلسي "الناتو" كان هدف إنشاء هذا الحلف في بداية أمره ليكون وسيلة دفاعية ضد ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي، وكانت دول أوروبا وحلفاؤها تشعر بالقلق تجاه السياسة السوفييتية التوسعية، وازدادت المخاوف عندما فرض السوفييت أشكالاً من الحكومات الشيوعية على العديد من دول وسط أوروبا وشرقها، ونتيجة لذلك سعت الحكومات الغربية إلى تحالف جديد لفترة ما بعد الحرب العالمية لتأمين الدفاعات الأوربية ضد احتمالات التهديد السوفييتي، فنشأ ما يُسمّى بحلف الناتو.
دكّ مجاهدو أفغانستان تلكم الإمبراطورية ولم يعد للاتحاد السوفييتي وجود الآن، فلماذا بقي الحلف موجودًا والهدف الأساسي الذي من أجله أُقيم قد زال؟! بل السؤال الأهم: لماذا التوسع الآن في هذا الحلف؟! الجواب في كلمة مختصرة: إن هدف الحلف تحوّل الآن ضد التيار الإسلامي. هذه هي حقيقة القصة والقصة الحقيقية.
إن أي حلف يوجد على وجه الأرض لا بد أن يكون له عدو، وإلا ما كان لوجوده أي فائدة، والإسلام للغرب النصراني عدو دائم، وليس عدوًا جديدًا، وهو الخطر القادم بعد زوال الشيوعية كما يصرحون هم بذلك، فالمسلمون اليوم لا يواجهون حلفًا من ست عشرة دولة أول ما قام حلف الناتو، ولكننا نواجه حلفًا يتكون من أربع وأربعين دولة بعد التوسع، وهو يعتبر أكبر تحالف في التاريخ، فإن ثمة مجلسًا ظهر يسمى "المجلس الأوروبي للتعاون الأطلسي"، وقد عقدت اجتماعاته عقب قمة مدريد بحضور الدول الست عشرة المعلنة وثمان وعشرين دولة أخرى وقّعت مع الحلف ميثاقًا خاصًا، ومن بينها كل دول الاتحاد السوفييتي السابق. وعلى هذا فالمسلمون أمام أربع وأربعين دولة مجهزة بأحدث الأسلحة وتتحكم في 70 بالمائة من إنتاج العالم بزعامة حلف الأطلسي، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
فهل نحن مدركون لهذا الواقع؟! وهل نحن على وعي تام لما يراد بنا ولنا؟! وهل نحن على مستوى هذه التحالفات؟!
أسأل الله تعال أن يعجّل بفرج أمة محمد...
(1/4059)
الحروب الصليبية
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, معارك وأحداث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مؤتمر الشراكة المتوسطية وذكرى الحروب الصليبية. 2- تجدد الحروب الصليبية في العصر الحديث. 3- المذابح التي تعرض لها المسلمون في القدس على يد الصليبيين. 4- حلف اليهود مع النصارى في الحرب ضد الإسلام. 5- صور مختصرة لما فعله النصارى بالمسلمين خلال القرن المنصرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: في يوم 27 نوفمبر من عام 1995م اختارت الدول الأوروبية الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط هذا اليوم ليكون موعدًا لانعقاد مؤتمر موسّع في برشلونة بإسبانيا، يضم 15 دولة أوربية و12 دولة متوسطية، من بينها 8 دول عربية، إضافة إلى تركيا وقبرص ومالطة ودولة العدو الصهيوني. ما مناسبة هذا المؤتمر؟ ولماذا عقد؟ وهل جاء هذا الموعد في زمانه ومكانه محض مصادفة؟
الجواب: إن كل هذا الترتيب وفي هذا الموعد بالذات لم يكن مصادفة، إن هذا الموعد يوافق بالتمام والكمال ذكرى مرور 900 سنة على بدء الحروب الصليبية، ففي مثل ذلك اليوم من ذلك الشهر في عام 1095م أطلق بابا النصارى أوربان الثاني دعوته لبدء الحملات الصليبية على البلدان الإسلامية الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط؛ بغرض الاستيلاء على بيت المقدس.
وكان مما قيل في ذلك المؤتمر ما صرح به ويلي كلاوس حيث قال: "إن الأصولية خطيرة كما كانت الشيوعية، ونرجوكم أن لا تقللوا من شأن هذا الخطر"، وقال أيضًا: "إن الخطر الأصولي الإسلامي هو من أهم التحديات التي تواجه الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية، ومن واجبنا أن نتعاون مع الدول التي تواجه ذلك النوع من الصعوبات".
فهل كان هذا المؤتمر تحضيرًا لحروب صليبية جديدة؟! ألم تنته الحروب الصليبية بعد؟! ألم يقل القائد اللنبي بعد استيلاء الإنجليز على القدس في الحرب العالمية الثانية وهو واقف على قبر صلاح الدين: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، هل كان مخطئًا؟ يبدو ذلك، بل بالتأكيد كان مخطئًا، هذا إن أحسنّا به الظنّ، ولم يكن يعلم أن النصرانية لم تشبع بعد من دماء المسلمين، ولم تكفها سبع أو ثمان حملات في القرون الوسطى لإشفاء غليلها من المسلمين الموحدين، ولم تشفها الحملات المعاصرة قبل وبعد الحربين الكونيتين في النصف الأول من هذا القرن، بدليل أن صيحاتهم باتت تصم الآذان منذرة بقيام المزيد من الحروب الصليبية بين العالم الإسلامي والعالم النصراني، وأنها لم تنته بعد، صرّح بذلك مؤخرًا كبيرهم الذي علمهم السحر، إن القائد اللنبي قال: "إن الحروب الصليبية انتهت باستيلاء النصارى على القدس في القرن العشرين"، ولكن جاء الصرب وافتتحوا حملات جديدة، حتى قال وزير إعلامهم بالحرف الواحد في إعلان شهير له: "إن الصرب في معاركهم في البلقان إنما يمثلون طليعة الحرب الصليبية الأخيرة لاستئصال شأفة الإسلام". إن العالم قد رأى بعينيه الصلبان تحفر على صدور ورقاب المسلمين في البوسنة، فهل تستحق هذه الحرب وصفًا آخر غير الحرب الصليبية؟!
أيها المسلمون، لقد فرغ النصارى من أمر أكثر الدول والأنظمة في العالم العربي والإسلامي تقريبًا، ثم أقبلوا الآن على الشعوب المسلمة ذاتها؛ ليناصبوا كل من بقي على الوفاء للدين العداء، والأصولية أو الإرهاب التي نصبوها عدوًا بديلاً بعد سقوط الشيوعية ما هي إلاّ تعبير عن رغبة قطاعات عريضة من الشعوب الإسلامية في العودة لأصول الدين. هذه الأصولية بهذا المعنى هي المستهدفة بالحرب الشعواء التي بشّر الغرب بقيامها، ثم باشر البدء فيها فعلاً، أحيانًا بالقوة العسكرية، وأحيانًا بالمحاصرة الاقتصادية، وفي أحايين أخرى بالتسلط الدولي تحت مسمى الشرعية الدولية. ومهما حاول الصليبيون الجدد ستر أغراضهم وأحقادهم الدينية بالأقنعة السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية أو محاربة الإرهاب فإن تلك الأقنعة تسقط، ويظهر الوجه الحقيقي للصراع، وأنها حرب صليبية، قال الله تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، وقال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، وقال تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وقال تعالى: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
أيها المسلمون، إن القرآن لم يحدثنا عن الأطماع الاقتصادية أو الأهداف السياسية والعسكرية أو الحضارية للنصارى واليهود، ولكنه ركّز على الأغراض الدينية لهم، أما الأغراض الأخرى فتأتي بالتبع. لقد كانت هتافات الجنود النصارى الزاحفين على بيت القدس أيام الحروب الصليبية الأولى: "أمر الله، أمر الله، إنها إرادة الله"، وباسم هذا الإله المُدّعى ذبح النصارى المسلمين العُزّل وقت دخولهم القدس في الحملة الصليبية الأولى، حتى بلغ عدد القتلى من المسلمين في ساحات الأقصى وطرقات المدينة نحو سبعين ألفًا، وهذا ما يريده النصارى الجدد في حربهم الصليبية القادمة التي أعلنوا عنها. وتخبرنا الروايات الصليبية نفسها بأطراف من المأساة، فيقول أحدهم وهو ريمون داجيل في رواية موثقة لدى أدعياء المسيحية السمحة طرفًا من الحدث، فيقول: "وقعنا على مشاهد لم يسبق لها مثيل، فقد قتل عدد كبير من أبناء المدينة، فكانوا يُرمون بالنبال أو يجبرون على القفز جماعات من فوق الأسوار، كما عُذّب بعضهم قبل أن يرموا في النار، شوارع المدينة كانت مليئة بالرؤوس والأيدي والأرجل، وكان الجنود في كل مكان يسيرون فوق الجثث، لقد كانت مجزرة رهيبة، بعدها كنا نسير في بحيرات من الدم، لقد نهب الصليبيون حتى ارتووا"، وقال نصراني آخر: "إن النساء كن يقتلن طعنًا بالسيوف والحراب، والأطفال الرّضّع يُختطفون بأرجلهم من أثداء أمهاتهم، ويُقذف بهم من فوق الأسوار أو تهشّم رؤوسهم".
ولماذا نذهب بعيدًا؟! فقد رصد التاريخ الإسلامي الحدث ذاته بكثير من التفصيل والدقة، سردها ابن الأثير رحمه الله في كتابه الكامل (1/194)، وذكر أن المذبحة استمرت طوال يوم الدخول وليلته، واقتحم النصارى المسجد الأقصى في صباح اليوم التالي، وأجهزوا على من احتموا فيه، وصبغت ساحات المسجد بدماء العباد والزهاد الركع السجود، وتوجه قائد الحملة في الضحى لدخول ساحة المسجد متلمسًا طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته، وكان النظر لا يقع إلا على أكوام من الرؤوس والأيدي والأقدام المقطعة في الطرقات والساحات، ونهب النصارى جميع الأمتعة، وخربوا أثاث المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ونهبوا القناديل التي بلغت نيفًا وأربعين قنديلاً، كل قنديل وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا نيفًا وعشرين قنديلاً من ذهب، وأبادوا أهل أنطاكية، وخربوا حمص وبعلبك وحماة وعسقلان وقِنّسرين وطبرية وغيرها من البلاد، وهجَّروا أهلها منها، وفعلوا الأفاعيل العظيمة التي استحى حكماؤهم ومؤرخوهم منها.
أيها المسلمون، إن هذا، بل وأكثر ليس بغريب أن يفعله النصارى لو تمكنوا من رقابنا، بل لماذا نذهب بعيدًا؟! ففي خلال الأعوام الماضية القريبة كم قُتل من مسلمي البوسنة وطاجاكستان وألبانيا والشيشان؟! بل كم قتل من شعب الصومال والسودان والعراق على أيدي النصارى الصليبيين؟! وإلى الآن لم يرتووا، ولو حصل لهم فرصة أخرى لأحرقوا الأخضر واليابس.
أعود لتاريخ المؤتمر في أول الخطبة، إنه اليوم الذي أرادوا أن يكون عيدًا يحتفلون به على أنقاض أرض الأندلس الضائعة، بل ليتهم أرادوا الاحتفال بالذكرى فحسب، بل أرادوا أن يجعلوها بداية انطلاق لبدء رحلة جديدة من الحروب الصليبية، وقبل ذلك بالتعاون مع العدو القديم اليهود الذين أصبحوا اليوم أعزّ أصدقاء النصارى الصليبيين، وأخلص معاونيهم، حتى إن الغرب النصراني كله قد أجمع على تحويل الأرض المقدسة إلى ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية والكيمائية والجرثومية الموجّهة إلى صدور كل شعوب المنطقة الإسلامية، وإن دولة اليهود إسرائيل هي الفرس الذي يعتليه النصارى ويوجّهونه، واليهود يعرفون دورهم هذا تمامًا، وهم يعلمون أن النصارى يدخرونهم ليوم معلوم قد يحاول المسلمون فيه استعادة كرامتهم ومقدساتهم. ولهذا فإن المراقب المسلم لا يمكنه أن يتجاهل الدور اليهودي في التبشير بالصراع القادم ودقّ الطبول للحرب المرتقبة، وتصريحاتهم القديمة في ذلك كثيرة ومتواترة، ولا يزال قادتهم يردّدون وبقوة أشد التحذيرات والصيحات والنذر من خطورة عودة الروح إلى الإسلام على يد دعاة الأصولية.
أيها المسلمون، إن النصارى الجدد يريدون أن يستمروا في إراقة الدماء، ولو كانت دماء شيوخ ونساء وأطفال، المهم أنهم مسلمون، وقد يخترعون مسرحية أم شمّاعة يعلّقون عليها أهدافهم. إنها حرب صليبية، ولا تفسير لها إلا ذلك.
أيها المسلمون، إن الإسلام هو دين الله عز وجل، فلا خوف على الإسلام من الحرب الصليبية الجديدة، إنما الخوف على موقفي أنا وأنت من هذه الحرب التي قد دُقّت طبولها، ماذا قدمنا؟! وماذا سنقدم؟! وما الدور الذي يجب أن يقفه كل مسلم؟! أما الإسلام فهو كتلك الحبة التي تبقى في باطن الأرض عشرات السنين، فإذا نزل المطر نبتت من جديد، وهذا الأمر واقع في الدنيا كلها، فلقد عمل أعداء الإسلام للقضاء على دين الله بكل الوسائل: أباحوا المحرمات، حاربوا التعليم الإسلامي، همّشوا لغة القرآن، ألغوا تطبيق الأحكام الشرعية، شجّعوا كل أنواع الملاهي المفسدة للشباب، جعلوا من وسائل الإعلام ـ وفي مقدمتها التلفزة ـ معاول لهدم الأخلاق، نشروا الصحف والكتب التي تشكك حتى في الإيمان بالله، ومع ذلك فهل تم القضاء على الإسلام؟!
لقد انتشر الإسلام على يد الأتراك العثمانيين في مقدونيا وألبانيا وكوسوفا والسنجق والبوسنة والهرسك، وأصبحت المآذن في كل هذه الأرجاء تردد صباح مساء نداء: الله أكبر، ومنذ عام 1912م والمخططات تعمل للقضاء على الإسلام في تلك الأنحاء، فالحكم الشيوعي حارب الإسلام حربًا لا هوادة فيها، حتى وصل الأمر في ألبانيا إلى منع الأسماء الإسلامية، وفي مقدمتها اسم: محمد، ونشأت أجيال تحت الحكم الإلحادي الكافر القاضي بقهره وسفكه لدم كل من يظهر شيئًا من الإسلام، حتى ظن أعداء الإسلام أنهم قد قضوا تمامًا على أي وجود إسلامي، لكنهم فوجئوا كما فوجئ الغرب بنور الإسلام يشعّ في تلك الأرجاء، بمجرد انحسار الحكم الشيوعي، فما إن سقطت الأنظمة الشيوعية حتى ارتفعت المآذن، وامتلأت المساجد، وظهر الشباب الحافظ لكتاب الله، والمتقن للغة العربية، وتيقن أعداء الإسلام أن نور الله لا ينطفئ أبدًا، كيف ينطفئ وقد قال الله عز وجل: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
أيها المسلمون، لقد ارتكب النصارى جرائم وحشية في حق مسلمي الأندلس، أجبروهم على التنصر، وحوّلوا مساجدهم إلى كنائس، وأتلفوا كتبهم ومصاحفهم، واعتبروا أطفالهم نصارى، فعمّدوهم بالقوة، ومحوا شعائرهم وشعاراتهم، ومنعوا تقاليدهم وعاداتهم، ونكثوا العهود والمواثيق، فقتلوا وعذبوا ونكَّلوا وشرَّدوا.
وفي القرن المنصرم فعل الاستعمار الصليبي في بلاد المسلمين من قتل وتشريد وفساد وإفساد وتخريب ودمار ونهب للأموال والممتلكات ما تقشعر له الأبدان، وحرم المسلمين من أدنى الحقوق التي لا تحرم منها الدواب والبهائم، وليست مذابح البوسنة والهرسك ومجازر كوسوفا منّا ببعيد.
وها هم اليوم يتغنون كذبًا وزورًا بالأمن والسلام والوحدة والوئام، فهذا مجلس الأمن، وذاك مبعوث السلام، وهذه خطة أمن، وتلك صلاة سلام، فبالله عليكم، متى علمتم الوحوش الضارية استأنست؟! ثم هل تلد الوحوش غير الوحوش؟! والأعجب أن المسلمين لا يعتبرون من التاريخ، وما يزال البعض يثق بالنصارى، ويصدق بأنهم عادلون منصفون يرعون حقوق الإنسان، وصدق الله العظيم: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، لقد بدأت محاولات الغزو الصليبي الحديث منذ القرن العاشر الهجري الموافق للقرن السادس عشر الميلادي بعد أن طَرد الأوروبيون الإسلام من الأندلس، بعد معارك وحشية طويلة، بارك البابا الانتصار الصليبي، وشجع الصليبيين على متابعة المسلمين لطردهم من بقية بلاد الإسلام، يدفع إلى ذلك حقدهم الدفين على الإسلام والمسلمين، ثم تبعتها الرحلات الاستكشافية تحت غطاء العلم؛ لأن المقصود من تلك الرحلات هو تطويق العالم الإسلامي آنذاك. وقد صرح بذلك الرحالة فاسكوداجاما الذي استعان بالبحّارة المسلم ابن ماجد الذي أَمَدّه بالمعلومات والخرائط، وقاد معه سفينته نحو جُزر الهند الشرقية، فلما وصل قال ذلك الصليبي الحاقد بعد إتمام الرحلة: "الآن طوقنا رقبة الإسلام، ولم يبق إلا جذب الحبل فيختنق ويموت". ثم تتابعت الرحلات الأخرى التي قام بها الصليبيون في العالم الإسلامي يدرسون مداخله ومخارجه، هذه الرحلات التي نُدرِّسها لطلابنا على أنها من أعظم الرحلات، وأنها كانت رحلات علمية.
أما اليوم فها هو التبشير والتنصير قد أنشب أظفاره، وكشر أنيابه، وهو نتيجة من نتائج التعصب الصليبي المسلح، ومولود من مواليد القوة الطاغية التي تسمي كل ما ترضى عنه من الأعمال المنكرة حرية دين أو حرية فكر أو حرية رأي، وتسمي كل ما لا ترضى عنه من المطالبة بالحقوق المغصوبة وغير ذلك تسميه إرهابًا وعنفًا وأصولية وتشددًا.
أيها المسلمون، إن عداوة أهل الكتاب للمسلمين قضية مقررة محسومة، وعقيدة راسخة معلومة، بينها الله في القرآن الكريم، وشهد بها التاريخ والواقع الأليم، فمن لم يقنع ببينة القرآن ولم يكفه شاهد العيان فلا حيلة إليه.
لقد غزت أوربا النصرانية بلاد المسلمين بجيوش جرارة لأحقاد دفينة ترفضها جميع الأديان السماوية، وأرادوا تحقيق أغراض توسعية لمصلحة الكنائس الغربية، واستغلالاً لخيرات بلاد المسلمين. إن الدافع الأول من أهداف الحروب الصليبية القديمة والجديدة هو الدافع الديني، ومن أشهر من تبنَّى الدعوة إلى الحروب الصليبية هو البابا نفسه، والذي يعتبر المسؤول الأول عن الترويج لحرب المسلمين، وقد وعد البابا الجموع المشاركين في الحرب برفع العقوبات عن المذنبين منهم، وإن كانت حملاتهم لا تخلو من مآرب اقتصادية لاستغلال خيرات العالم الإسلامي. فهل توقفت الحملات الصليبية الآن؟! أنّى لها أن تتوقف وأحقاد القوم لا يطفئها إلا الانتقام وإراقة الدماء. الحروب الصليبية لم تتوقف أبدًا منذ مطلع الدعوة الإسلامية وحتى عصرنا الحاضر، قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، قال الله تعالى: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
يعود تاريخ الحروب الصليبية إلى بداية المواجهة ضد النصارى في غزوة مؤتة، واستمر هذا الصراع مع حملة الصليب عبر الأندلس وصقلية وفلسطين وسواحل بلاد الشام. غزوة مؤتة كانت مثالاً للصراع المبكّر بين المسلمين والنصارى في السنة الثامنة من الهجرة، وكان الصليب هو شعار الروم آنذاك، واستمر الصراع فجاءت معركة اليرموك بقيادة كبار الصحابة، ورفعت رايات الإسلام على بلاد الشام خفاقة مشرقة، ودخل الإسلام أرض الكنانة.
ومن المعارك الفاصلة في تاريخ الصراع الصليبي مع المسلمين موقعة ملاذ كرد، انهزم فيها النصارى هزيمة ساحقة، وامتلأت الأرض في آسيا الصغرى بجثث القتلى، وأسر الإمبراطور نفسه على يد القائد المسلم ألب أرسلان.
ثم جاءت الحروب الصليبية الشهيرة، واستمرت قرنين من الزمان، وكانت الحملات فيها تتوالى من الغرب الصليبي على بلاد المسلمين كالأمواج المتلاطمة، وكان الصليب فيها شعارهم، فكانت عدوانًا صارخًا حاقدًا ليس له نظير في تاريخ الحروب العالمية، إذ خلّفت الخراب والدمار، وكانت سمتها المجازر الوحشية مما يعتبر وصمة عار في تاريخ العالم النصراني. وكل حملة من هذه الحملات كانت توجه لبقعة من أراضي المسلمين، فجاءت الأولى نحو بيت المقدس، ثم الثانية ثم الثالثة وهكذا، حتى جاءت السابعة بقيادة ملك فرنسا موجهة إلى مصر، فتصدى لهم المجاهدون قرب المنصورة، وألحقوا بهم هزيمة ساحقة، بلغ فيها عدد القتلى من الصليبيين ثلاثين ألفًا، أما الأسرى فحدث ولا حرج والحمد لله. والحملة الثامنة توجهت نحو المغرب، ونزلت في تونس، وبعد أربعة أشهر نزل وباء قضى على أكثر الجيش الصليبي والحمد لله.
أما الدولة العثمانية فتاريخها مع الحروب الصليبية النصرانية تاريخ عريق، فلم تنس أوربا النصرانية هزيمتها أمام الدولة العثمانية، والتي أحرز فيها العثمانيون نصرًا مؤزرًا، فقد قتل من النصارى الكثير، وغرق آلاف منهم في نهر الدانوب والحمد لله. ولن تنسى أوربا النصرانية سقوط القسطنطينية بيد السلطان محمد الفاتح رحمه الله، ومنذ ذلك التاريخ وقادة أوربا النصرانية يضعون الخطط للإجهاز على الدولة العثمانية واقتسام تركتها، واستمر القوم يتآمرون ويتعاونون مع جمعيات الماسون السرية التي كانت تضم المجرمين من اليهود والصرب واليونان حتى تمكنوا من عزل السلطان عبد الحميد وإسقاط الخلافة ليتحكم فيها جماعة الاتحاد والترقي، ومعظم قادتها وأعضائها من يهود الدونمة، فتمكن الاستعمار الخبيث من القضاء نهائيًا على الخلافة واصطناع الحدود بين أقطارها عن طريق اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة عام 1915م، وتم إلغاء الخلافة الإسلامية وطَرد الخليفة خارج الحدود ومصادرة أمواله، وإعلان علمانية الدولة وإلغاء الشريعة الإسلامية. ولم تكتف الصليبية النصرانية بكل هذا، بل استمروا في حربهم الصليبية ضد المسلمين، واستغلوا خيرات بلاد المسلمين من المغرب العربي إلى مصر وبلاد الشام، فلم تسلم دولة إسلامية من ذلك حتى باكستان وأندونيسيا.
وها هم اليوم يعلنونها حربًا صليبية جديدة، نسأل الله تعالى أن يحقن فيها دماء المسلمين العُزّل الذين لا ذنب لهم إلاّ أنهم قالوا: ربنا الله.
(1/4060)
الحياء ومكانته في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/4/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الأخلاق في الإسلام. 2- أحاديث في الحث على الحياء. 3- حقيقة الحياء ودرجاته. 4- ثمرات الحياء. 5- الآثار النكدة لغياب الحياء بين كثير من الناس. 6- الحياء الممدوح والحياء المذموم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تبارك وتعالى واشكروه على ما هداكم للإسلام، وجعلكم من أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام، راقبوه ولا تعصوه، واعلموا أنكم لديه محضرون، وعلى أعمالكم محاسبون، وعلى تفريطكم نادمون.
عباد الله، الآداب والأخلاق عنوان صلاح الأمم والمجتمعات، ومعيار فلاح الشعوب والأفراد، ولها الصلة العظمى بعقيدة الأمة ومبادئها، بل إنها التجسيد العملي لقيم الأمة ومثلها، وعنوان تمسكها بعقيدتها، ودليل التزامها بالمنهج السليم والصراط المستقيم، ولا يتم التحلي بالأخلاق العالية والآداب السامية إلا بترويض النفوس على نبيل الصفات وكريم السجايا والعادات، تعليمًا وتهذيبًا واقتداءً وتقويمًا.
ومن شمولية هذا الدين وعظمته أنه دين الأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة والصفات النبيلة، جاءت تعاليمه وقِيَمه بالأمر بالمحافظة على الأخلاق الحسنة في كل أحوال المسلمين، صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، أفرادًا ومجتمعات، وأسرًا وجماعات، ويكفي لبيان ذلك أن حصَرَ النبي مهمة بعثته وهدف رسالته في إصلاح الأخلاق وتهذيبها بقوله: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أيها المسلمون، وقد جعل الإسلام للأبواب الواسعة من الأخلاق الفاضلة والسجايا الحميدة والخصال الحسنة جعل لها مفتاحًا واحدًا وعنوانًا واضحًا ودليلاً ظاهرًا، به يقاس معيار الخلق جميله أو قبيحه، ذلك ـ يا معاشر المسلمين ـ هو خلق الحياء، الحياء من الله والحياء من الناس. بذلك جاءت وصايا الرسول الكريم لأمته في كثير من أقواله وتوجيهاته التربوية، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء، أي: ينهاه عن كثرة الحياء، فقال رسول الله : ((دعه؛ فإن الحياء من الإيمان)) ، وعن عمران بن حصين قال: قال رسول الله : ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) ، وفي رواية لمسلم: ((الحياء خير كله)) أو قال: ((الحياء كله خير)) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أو بضع وستون شعبة، أفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) ، وعن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه عرفناه في وجهه.
ما هو الحياء؟ ما هو تعريف الحياء؟ الحياء ـ عباد الله ـ هو خلق الإسلام الفاضل الذي يحمل على ترك القبيح من الصفات والأفعال والأقوال، ويمنع من التقصير في حق ذي الحق سبحانه وتعالى، وذلك عندما يرى العبد آلاء الله ونعمه عليه، ويرى تقصيره في شكرها والقيام بحقها، وعبودية الله تعالى على الوجه الذي شرعه سبحانه دون تفريط أو إفراط. الحياء هو امتناع النفس عن فعل ما يعاب، وانقباضها من فعل شيء أو تركه مخافة ما يعقبه من ذم ولوم. والدعوة إلى التخلق بالحياء وملازمته إنما هي دعوة إلى الامتناع عن كل معصية وشر، فالحياء خلة من خلال الخير، وشعبة من شعب الإيمان، وعليه مدار كثير من أحكام الإسلام. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "من علامات الشقوة القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمد".
عباد الله، الحياء أصل الخير والعقل، وتركه أصل الشر والجهل، فالحياء يدل على كمال عقل صاحبه، فمتى وجد في الإنسان الحياء وجد فيه الخير كله، ومتى فارقه الحياء قادته نفسه وشيطانه إلى الهلاك المحتوم، وأرداه موارد الفساد.
إذا قل ماء الوجه قل حياؤه فلا خير في وجه إذا قل ماؤه
حياؤك فاحفظه عليك فإنما يدل على وجه الكريم حياؤه
بالهيبة والحياء ـ عباد الله ـ تعمر القلوب، وتزكو النفوس، فإذا ذهبا من القلب لم يبق فيه خير، وعلى قدر حياة القلب تكون قوة الحياء، وقلة الحياء من موت القلب والروح.
إذا لَم تَخش عاقبة الليالِي ولَم تستح فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
يعيش المرء ما استحيا بخير ويبقى العود ما بقي اللّحاء
من قوي حياؤه صان عرضه، ودفن مساوئه، ونشر محاسنه، وكان ذكره عند الناس محمودًا وعند الله مرفوعًا. ومن ذهب حياؤه ذهب سروره، وظهرت مساوئه، ودفنت محاسنه، وكان عند الناس مهانًا وعند الله ممقوتًا. الحياء والإيمان قُرنا جميعًا، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر. إن الله تعالى إذا أبغض عبدًا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا بغيضًا مبغضًا.
عباد الله، وكما يستحيي المسلم من الخَلق فلا يكشف لهم عورة ولا يقصر لهم في حقّ ولا ينكر لهم معروفًا فإن عليه أن يستحيي من الخالق سبحانه، فلا يقصّر في طاعته، ولا في شكر نعمته، لما يرى من قدرة الله عليه وعلمه به، فالله أحق أن يستحيى منه، ومن استحيى من الله حق الحياء حفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وذكر الموت والبلى، وترك زينة الحياة الدنيا، وشكر نعمة الله تعالى عليه، وأدرك عظمته واطلاعه عليه وإحاطته بعباده وقربه منهم وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، ثم رجع على نفسه فحاسبها على التقصير، فلا يراه الله حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره، قال عمر : (من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وُقِيَ).
عباد الله، ومن ثمرات الحياء العفة والوفاء، فمن اتصف بالحياء صار عفيفًا وفيًا بعيدًا عن كل منقصة، قريبًا من كل فضيلة. قال الأحنف بن قيس رحمه الله: (اثنتان لا تجتمعان أبدًا في بشر: الكذب والمروءة، ومن ثمرات المروءة الصدق والوفاء والعفة والحياء).
أيها المسلمون، وإذا فُقِد الحياء من المرء فقل: عليه السلام، فقد هبط إلى ميدان الرذيلة، وهوى في دركات الحماقة والوقاحة، ولم تزل خطواته تقوده من سيئة إلى أخرى حتى يصير بذيًا جافيًا، فيه قبائح الأفعال وسيّئ الأقوال. إن الله عز وجل إذا أراد بعبده هلاكًا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتًا، فإذا كان كذلك نزع منه الأمانة فلم تلقه إلا خائنًا، فإذا كان خائنًا نزع منه الرحمة فلم تلقه إلا فظًا غليظًا، فإذا كان فظًا غليظًا نزع ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزع ربقة الإيمان من عنقه لم تلقه إلا شيطانًا لعينًا. وعند البخاري من حديث أبي مسعود الأنصاري أنه قال: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
الحياء ـ يا عباد الله ـ سراج منيع وحصن حصين من الوقوع في المعاصي والمحرمات، فمن ذهب حياؤه ذهبت مروءته، ومن ذهبت مروءته قل إحساسه، فلم يدر عيب الناس وانتقاصهم.
ورُبّ قبيحة ما حال بينِي وبيْن ركوبِها إلا الحياء
فكان هو الدواء لها ولكن إذا ذهب الحياء فلا دواء
وما عانت المجتمعات ـ يا عباد الله ـ من المحن وانتشرت فيها الإحن وتتابعت عليها الفتن إلا يوم ضاع الحياء، فاستبيحت المحرمات، وعانق الناس الرذيلة، وأقصيت الفضيلة بدعوى الحضارة والتمدن.
هل ضُيّعت الصلوات وعُطّلت أحكام الدين إلا يوم قل الحياء من الله وابتعد الناس عن الدين؟! وهل وقع في المعصية من وقع إلا يوم قل حياؤه من الله تعالى فاستهان بالله سبحانه حتى جعله أهون الناظرين إليه؟! وهل ظهر الاختلاط بين الرجال والنساء وانتشرت المعاكسات وعم الفساد إلا حين كسرت المرأة حجابها ودفقت ماء حيائها وضاع من وجهها العفاف فخرجت إلى المنتديات وتسكعت في الأسواق والطرقات وأغرت ضعاف النفوس وعديمي الحياء والمروءة وأدمت قلوبهم فوقعوا في الجرائم والفواحش؟! وهل فُقِدت الغيرة من الرجال فسمحوا لنسائهم بمشاهدة الأفلام الماجنة والمسلسلات الخليعة والوقوع في المحرمات من اختلاط بالخدم والباعة والخروج مع السائقين والسفلة إلا حين ضاع منهم الحياء وفشت فيهم الرذيلة؟! أعاذنا الله وإياكم منها.
نعم يا عباد الله، أين الحياء ممن شغفوا بالأغاني الماجنة ومزامير الشيطان فأزعجوا بها الناس في طرقاتهم ومنازلهم؟! بل وأين الحياء ممن ضيعوا أبناءهم في الشوارع يخالطون قرناء السوء ويصاحبون ذوي الأخلاق الرديئة؟! وأين الحياء من المدخن الذي ينفث الدخان من فمه في وجوه جلسائه ومن حوله دون مبالاة بشعورهم؟! وأين الحياء من الموظف الذي يستهتر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه ويتعامل مع المراجعين بكل صلف ورعونة؟! وأين الحياء من التاجر الذي يخدع الناس ويغش في السلع ويكذب في المعاملة؟! إن الذي حمل هؤلاء وغيرهم على النزول إلى هذه المستويات الهابطة من الأخلاق والتعامل هو ذهاب الحياء، وصدق المصطفى حين قال: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمًا وعويلاً
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واهدنا لأقوم الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه إذا كان الحياء محمودًا والوقاحة مذمومة فإنه لا حياء في الدين، بمعنى أن خلق الحياء في المسلم غير مانع له من قول الحق أو طلب العلم أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. تقول عائشة رضي الله عنها: يرحم الله نساء الأنصار؛ لم يمنعهن الحياء أن يتعلمن أمور دينهن. وقد شفع أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله وابن حِبّه في المرأة التي سرقت فلم يمنع الحياء رسول الله أن يقول لأسامة في غضب: ((أتشفع في حد من حدود الله؟! والذي نفسي بيده، لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها)). ولم يمنع الحياء أم سُلَيم الأنصارية رضي الله عنها أن تقول: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول الله : ((نعم، إذا رأت الماء)).
فاتقوا الله رحمكم الله، واعلموا أن الحياء الممدوح هو الذي يكفّ صاحبه عن مساوئ الأخلاق، ويحمله على فعل ما يجمله ويزينه، أما الحياء الذي يمنع صاحبه من السعي فيما ينفعه دنيا وأخرى فإنه حياء مذموم، وتخذيل من الشيطان.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحرصوا على خلق الحياء سلوكًا ومنهجًا وتربية وواقعًا تعيشون عليه، فالحياء خير كله.
ثم صلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله عليه أفضل صلاة وأزكى تحية...
(1/4061)
الزواج
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الكبائر والمعاصي, النكاح, قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
8/2/1421
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الزواج وأثره على الفرد والمجتمع. 2- ما جاء في الوحيين من الحث على الزواج. 3- موانع الزواج وعوائقه. 4- خطورة إهمال الغريزة الجنسية. 5- من منكرات الأفراح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، يهدف الإسلام الذي شرفنا الله به ورضيه لنا دينًا إلى حفظ النسب والنسل، ويدعو إلى حفظ الفروج وصيانة الأعراض، ويرغب في عمارة الكون وإصلاح الأرض وما يحقق للمجتمع الإسلامي الاستمرار والبقاء، ولا يتأتى ذلك إلا باتباع ما شرع الله من التزاوج والتناسل.
الزواج ـ عباد الله ـ وسيلة إلى تحقيق أمور عظيمة عقدها الشارع الحكيم وحبّب للناس القيام بها، بل هو ضرورة من ضرورات الحياة؛ لما يحقّقه من آثار طيبة وثمرات مباركة تعود على الفرد نفسه ومجتمعه وأمته بالخير العميم والنفع العظيم.
في الزواج ـ عباد الله ـ جمع الشمل والتئام الشعث وطمأنينة النفس وراحة الضمير وحصول الولد وعمارة الأُسر، فيه المودة والرحمة وقمة الأنس وتمام النعمة، فيه غضٌ للبصر وحفظ للفرج وحرث للنسل ومتاع للحياة وإحصان للجوارح، وفيه الخير كل الخير لمن وفقه الله عز وجل، ولهذه المنافع الجمّة والحكم العظيمة المحبّبة للنفوس البشرية ولما ركبه المولى جل وعلا في الإنسان من الغريزة والشهوة كان لا بد للرجل والمرأة من الزواج، سكنًا ولباسًا ومودة ورحمة، وقد امتن الباري جل في علاه على خلقه بهذه النعمة، وجعلها آية من آياته توجب التفكر والشكر، فقال جل جلاله: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]، بل جاءت نصوص الكتاب والسنة القاطعة والأوامر الصريحة بالنكاح وبيان آثاره، قال الله تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3]، ويقول سبحانه: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، وقد كان الزواج ملة الأنبياء وسنة المرسلين، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
وسنة المصطفى القولية والفعلية تحثّ على ذلك وترغب فيه، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) ، وقال منكرًا على من رغب عن الزواج ونحوه مما أحل الله: ((لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه، وفي صحيح مسلم: ((الدنيا متاع، وخير متاعها الزوجة الصالحة)).
أيها المسلمون، لقد كان الزواج سنة سلف هذه الأمة رحمهم الله، قال الصديق : (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)، وقال ابن مسعود : (التمسوا الغنى في النكاح)، وقرأ قوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]. وقال : (لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام وأعلم أني أموت في آخرها يومًا ولي طَوْلٌ على النكاح فيهن لتزوجت مخافة الفتنة). وقال إبراهيم بن ميسرة: قال لي طاووس: لتنكحنّ أو لأقولنّ لك ما قال عمر لأبي الزوائد: (ما يمنعك عن النكاح إلا عجزٌ أو فجور). وقال الإمام أحمد رحمه الله: "ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير التزوج دعاك إلى غير الإسلام". وفي الاختيارات لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والإعراض عن الأهل والأولاد ليس مما يحبه الله ورسوله، ولا هو دين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام".
أيها المسلمون، ما الذي يمنع عن الزواج والمبادرة إليه وتيسير طرقه وتذليل الصعاب أمام الراغبين فيه وقد عُلمت منافعه وآثاره وقَرعت أدلته النقلية والعقلية الأسماع؟! أيمنع منه عجزٌ وتقصير؟! أيمنع منه تساهل وعدم مبالاة بالعواقب، أو انسياقٌ وراء الناعقين من أعداء الشريعة الذين تقُضّ مضاجعهم كثرة المسلمين وزيادة عددهم، أو انجرافٌ في سيل عادات جاهلية وتقاليد اجتماعية مخالفة لمنهج الكتاب والسنة، أو انسياق وراء مظاهر خادعة وتكاليف باهظة هي آصار وأغلال ما أنزل بها من سلطان؟!
بحقٍّ أيها الأحبة، كان الله في عون الضعيف الذي لا يقدر على تكاليف الزواج، ما ذنب هؤلاء؟! وما جريرة آلاف الفتيات اللاتي مُنعن الأزواج وأُبعدن عما خُلقن له، وحيل بينهنّ وبين أن يكنّ زوجات وأمهات ومربيات أجيال ودعائم أُسر؟! كفى بأولياء أمور هؤلاء البنات جشعًا وشراهة وجهلاً وتفاهة أن يعضلوهنّ ويجعلوهنّ سلعةً معروضةً للمساومة، أين هؤلاء من قوله : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) ؟! أجهل هؤلاء أنه عند توفر الدين والخلق والأمانة تتلاشى الماديات وتذوب ألوان التفاخر والمباهاة؟! أنسي هؤلاء الحمقى أن صفوة الخلق وقدوة العالم عليه الصلاة والسلام زوّج رجلاً بما معه من القرآن، وقال للآخر: ((التمس ولو خاتمًا من حديد)) ؟! ولم يُذكر عن أحد من سلف هذه الأمة أنه غالى في مهر أو أسرف في نفقة أو باهى بشيءٍ مما عليه الناس اليوم، إذًا فلماذا يصرّ كثير من سفهاء الأحلام وضِعاف البصيرة في الانسياق وراء هذه المظاهر الخادعة والشكليات التافهة؟! إنهم بصنيعهم هذا يعرّضون الأمة بأسرها للفساد والانحلال.
أتدرون ـ معاشر المسلمين ـ ماذا يجرّه الواقع المؤلم من تعقيد أمر الزواج ورد الأكفاء ووضع العقبات في سبيله؟! إنه يعني فتح الباب على مصراعيه للفساد الخلقي والانحلال والتفسخ والإباحية، إنها دعوة مبطنة للزنا واللواط والاستمناء ووضع الشهوة في غير الطريق المشروع واستشراء الجرائم الخلقية المدمرة. بماذا نفسر ظواهر الزنا والاختطاف والمعاكسات والمغازلات وهروب كثير ممّن اكتوَوا بنار الشهوة واصطلَوا بلَظاها إلى بقاع تروج بها سِلع الفساد وتسهل فيها طرقه؟!
إن الغريزة الجنسية ـ عباد الله ـ إذا أثيرت لا تعرف التوسّط والاعتدال، إنها تقذف بصاحبها في وادٍ من الرذيلة سحيق، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، ونحن في عصر ضعف فيه الإيمان، وقست فيه القلوب، وعميت فيه البصائر، وفسدت فيه الهمم إلا من عصم الله، وكثر الفساد، وعمّت وسائل الباطل، وقادت موجات الفسق التي تضرب على وتر الجنس والأغاني، هذه الصور الخليعة وهذه الأفلام الماجنة وهذه المظاهر السيئة التي تودي بالإنسان ـ إن لم يحصن نفسه بالزواج ـ إلى هاوية الفساد، وبالمجتمع إلى أقصى مراتب الانحدار والتقهقر. هل نرضى أن تموج أمواج الفساد لتُغرق شبابنا وفتياتنا ونحن نتفرج؟!
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم أن هذا الأمر مسؤولية المجتمع بأسره، وأن المسؤولية تقع أول ما تقع على عاتق الوجهاء والعلماء والعقلاء وأهل الحلّ والعقد والمكانة، فليكونوا قدوة للمجتمع في هذا الشأن.
فإننا ننادي باسم الشباب الهائم على وجهه والحائر في أمره، وباسم الفتيات اللاتي غُلِبن على أمرهنّ، فإننا جميعًا ندعو ونخاطب العقلاء والوجهاء لدراسة موضوع الزواج وإزالة العقبات حوله، فإنه ـ والله الذي لا إله إلا هو ـ لا صلاح للأمة إلاّ بصلاح شبابها وفتياتها، ومن أعظم طرق الصلاح وأهم أسبابه النكاح الشرعي والزواج الإسلامي، ولا تبرأ الذمة ـ وقد بلغ السيل الزُّبى وطفحت المقالات وعمّت الكتابات وكثرت المناداة ـ إلا بعلاج هذا الأمر، ولكن هل من مجيب؟! ونسيان هذا الأمر والتساهل فيه يعرض المجتمع للفتنة والعذاب الأليم، وينحدر بالمجتمع الإسلامي إلى ما لا تحمد عقباه.
هذا، ونسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهيّئ لنا من أمرنا رشدًا، وأن يصلح حالنا، وأن يكبت كيد أعدائنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما هيأ لكم من الحلال الطيب، وبادروا بطاعة ربكم وامتثال أمره فيما أمركم به من النكاح، وإنه ليسُرّ كل مسلم ما يشاهد في الغالب وبعد انتهاء الدراسة وبداية الإجازة الصيفية من كثرة حفلات الزواج وإقبال أعدادٍ من الشباب على هذا الخير، لكن مما يؤسف له تجاوز بعض العوائل المشروع والدخول في المحرمات الواضحة والمجاهرة بالمنكر في حفلات زواجهم، تباهيًا وتفاخرًا ليتحدث الناس بذلك.
وإن مما أزعج كثيرًا من الصالحين والغيورين والعقلاء وأصحاب الفطر السليمة ما نشر حول إقامة زواج عندنا بالملايين، وقد دعي لهذا الزواج مغنّيات من الخارج وبعضهنّ نصرانيات، واستمر الرقص والغناء المحرم وما صاحب ذلك من منكرات أخرى حتى التاسعة صباحًا، وتم وضع جنيهات الذهب في بعض المأكولات، وأعطيت بعض المغنيات مبلغ 350 ألف ريال، ومجاهرةً بالمنكر نشر الخبر في بعض الصحف. وبعد أقل من شهر أقامت عائلة أخرى زواجًا لهم، وأرادوا منافسة من سبقهم، وأيضًا أحضروا مغنيات من الخارج، وفعلوا وأسرفوا أكثر ممن سبقهم تفاخرًا وتباهيًا، وزيادة دخولٍ في أبواب من الحرام، والعياذ بالله.
أيها الأحبة، متى عرفت مجتمعاتنا المحافظة مثل هذه الصور من حفلات الزواج؟! منذ متى أصبحنا نأتي بمغنيات فاسقات فاجرات وبعضهن نصرانيات إلى جزيرة العرب التي أمر النبي بإخراج المشركين منها؟! وكلما تأتي أسرة ثرية تريد أن تنافس من سبقها فتفعل ما لم تفعله الأولى. إن الثراء والمال قد يكون شؤمًا على صاحبه في بعض الأحيان، وسوء التربية يسيء للرجل حتى بعد وفاته، فأحيانًا يكون صاحب المال مشغولاً عن أولاده وبناته بتجاراته وشركاته وأمواله، ويترك أولادًا سفهاء وبعضهم فسقة، يسيئون إليه بعد وفاته، فيعبثون بهذا المال دون نظرٍ إلى حلال أو حرام، لذا تشاهد وتسمع إقامة مثل هذه النوعية من حفلات الزواج، والذي يصل فيه المنكر غايته والفسق نهايته. ففكر ـ أيها الغنيّ ـ في هذه القضية قبل الموت، وانتبه لعبث الأولاد بعدك إن لم يتربوا على الدين والخلق، فربما يلحقك من آثامهم وأنت في قبرك.
أيها المسلمون، لا يجوز حضور مثل هذه الحفلات، ولا يجوز المشاركة فيها، بل الواجب الإنكار على مثل هذه العوائل والتشهير بهم؛ لكيلا يكونوا قدوةً سيئةً لغيرهم، ولكيلا يشجعوا من كان مستحييًا أن يفعل شيئًا من هذا فيتقوى بفعلهم.
ثم كيف يريد هؤلاء البركة والتوفيق في حياتهم الزوجية وقد بدؤوها بمعصية الله، بل وبمنكرات عظيمة تعد من الكبائر ودعوا الناس إليها، ليحملوا أوزارهم وأوزار من حضر لعرسهم؟!
أيها المسلمون، ألم يئن الأوان للتعقل والرشد؟! إلى متى تستمر مظاهر البذخ والإسراف والتبذير؟! إلى متى والنساء هنّ اللاتي يتحكّمن في حفلات الزواج والرجال على الهامش ثم تحصل مثل هذه السخافات، والنساء بنص المصطفى : ((ناقصات عقل ودين)) ؟! هذا الذي يظهر من خلفيات في هذين العرسين، إنّ وراء الموضوع النساء، وإلاّ فالرجال أكثر تعقلاً ورشدًا.
أيها المسلمون، لا بد من التغلب على العادات الجاهلية والأعراف المنافية للإسلام، لا بد أن يكون في كل أسرة وقبيلة من أصحاب المكانة والنفوذ من يهتم بهذا الأمر لتجنب وقوع المخالفات وتعريض الأسر المحافظة والعوائل المحتشمة لأمور محرمة منافية للخلق والدين، ولا بد أن يدرك الأثرياء وغيرهم وندرك نحن جميعًا أن المال ليس كل شيء، أيظن هؤلاء أنهم بالمال بإمكانهم أن يفعلوا كل شيء، وأن يخالفوا تعاليم الدين، وأن يتحدوا الأعراف، وأن يكسروا بوابة الخلق والعفة؟! أولاً: المال ليس كل شيء، وثانيًا: المال لن يبقى معك دائمًا، فالذي أغناك قد يسلبك كل هذا الثراء في ليلة.
اللهم اغفر لنا وارحمنا...
(1/4062)
الصلاة (1)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة في الإسلام وأثرها على الأمة. 2- انقسام الناس في الصلاة إلى ثلاثة أقسام. 3- الأدلة على كفر تارك الصلاة. 4- بيان عقوبة الكفار يوم القيامة. 5- خطورة تأخير الصلاة عن وقتها وما جاء من النصوص في ذلك. 6- أحوال السلف في المحافظة على الصلاة في أوقاتها. 7- ما جاء من الوعيد في النوم عن صلاتي الفجر والعصر. 8- بيان وجوب صلاة الجماعة والأدلة على ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلون، ففي أعقاب معركة اليرموك الشهيرة وقف ملك الروم يُسائل فلولَ جيشه المهزوم، وقف يُسائلهم والمرارة تعتصر قلبه، والغيظ يملأ صدره، والحنق يكاد يُذهب عقله: ويلكم، أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟! قالوا: بلى أيها الملك، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم في كل موطن، قال: فما بالكم إذًا تنهزمون؟! ما بالكم تنهزمون؟! فأجابه شيخ من عظمائهم: إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل، ويصومون النهار، ويوفون بالعهد، ويتناصحون بينهم.
صدق والله وهو كذوب، فهذه السجايا الكريمة وهذه الخصال العظيمة كانت هي أسباب تلك العزة وذلكم المجد التليد، كانت هي الأسباب التي صنعت ملحمة الجهاد الكبرى، ورسمت أقواس النصر الباهرة، وأقامت حضارة الإسلام العالمية، ومكنت القومَ من رقاب عدوهم، حتى دانت لهم الأرضُ وأهلُها، وأتتهم الدنيا وهي راغمة. هذه الخصال الرفيعة هي التي انتقلت بأسلافنا تلك النقلة الضخمة من عتبات اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى إلى منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، حيث الأرواح المتطلعةُ إلى السماء والنفوسُ السابحةُ في العلياء.
ولكن، ولكن يا لفرحة لم تستمر! ويا لبهجة لم تكتمل! فقد تغيرت الأحوال، وهوت الأمة من عليائها لتستقر في غبرائها، وأصبحنا نحن الذين نتساءل اليوم: لماذا نهوي ويرتفع خصومنا؟ الجواب، الجواب أيها الأحبة في الله: كيف لا يكون ذلك وقد ضاعت تلك الخصال الرفيعة والقيم السامية، وليت الأمر توقف عند ذلك، ليت الأمر توقف عند قيام الليل الذي أضعناه، وصيام النهار الذي افتقدناه، لهان الأمر وما هو بهيّن وربّ الكعبة، ولكننا أضعنا ما هو أكبر من ذلك بكثير، فالصلاة المفروضة عماد الدين وركنه الركين أصبحت اليوم محلّ استخفاف البعض وسخريتِهِم واستهزائهم وتندّرِهِم، فهي ضائعةٌ مهملةٌ لدى الكثيرين، منسيةٌ مؤخرةٌ لدى آخرين، وتُفعل في غير الجماعة لدى الباقين، وما أشد خوفي أن يكون بعضنا قد اقترب من وعيد الجبار جل جلاله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، وإذا كنا جادين أيها الأحبة الكرام، إذا كنا جادين في محاولة إصلاح الأمة وبعث عزتها من جديد فنحن مدعوون اليوم إلى بحث هذا الموضوع الشائك، ومناقشة هذا الأمر الجلل، ومعالجة هذه المسألة المهمة، لكونها من كبريات القضايا وأمهات المسائل، وذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
أيها المسلمون، ولو استعرضنا أحوال الناس ومواقفهم من الصلاة لوجدناهم أصنافًا وأحزابًا، كل حزبٍ بما لديهم فرحون:
فأما صنف من الناس فقد غرتهم أنفسهم، وغرتهم الحياةِ الدنيا، وظنوا أنهم إلى ربهم لا يرجعون، هؤلاء لا يعرفون للصلاة قيمةً ولا وزنًا، فلا يصلونها بالمرّة أو يصلونها أحيانًا، أو عند المناسبات فقط، فهم بحاجة والله ماسَّة إلى تصحيح أصل الإيمان في قلوبهم، هم بحاجة إلى دعوتهم إلى الإسلام، ومحاولة إقناعهم به كغيرهم من الكفار الخارجين عن دائرة الإسلام وإطاره المحدود، ومهما كان الحكم قاسيًا فهي حقيقة لا تحتمل الجدال أو المناقشة، فالذي حكم بكفرهم هو الله ورسوله، فأما الله جل جلاله فيقول: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [التوبة:11]، ومفهوم الآية واضح، ويعني باختصار شديد: إن لم يقيموا الصلاة فليسوا إخوة لنا في الدين، أي: أنهم مرتدون خارجون عن الإسلام وأهله. أفهمتم يا من تتركون الصلاة وتحسبونه هيّنًا وهو عند الله عظيم؟! وفي القرآن الكريم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:42-48]، وما حِرْمانهم من الشفاعة إلا دليل واضح على كفرهم وردّتهم وخسارتهم للدنيا والآخرة، ذلك هو الخُسران المبين.
وأما رسولنا فقد أعلنها صريحة لا تقبل التأويل، فقال : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) ، وقال أيضًا: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) ، وأما عبد الله بن شقيق فينقل موقف صحابة النبي ، ينقل موقفهم من تارك الصلاة فيقول: ما كان أصحاب النبي يعدون شيئًا تركه كفر إلا الصلاة. وهو كما ترى ـ أخي المسلم ـ موقف صارم لا ميوعةَ فيه ولا تردد، فترك الصلاة أيها الناس، ترك الصلاة كفرٌ وردّة وسفهٌ وجنون.
وأما الذين لا يعرفون الكفر وما معناه فالكفر جحيم لا ينقضي، وعذاب لا ينتهي، الكفر بؤس وعناء ودماء وأشلاء، الكفر زفرات وآهات، دموع وعبرات، هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22]، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:36، 37].
إن ترك الصلاةِ والاستخفاف بها خطأ فادح بكل المقاييس، وجناية مخزية بكل المعايير، لا ينفع معها ندم ولا اعتذار عند الوقوف بين يدي الواحد القهار. إننا ندعو هؤلاء بكل شفقة وإخلاص، ندعوهم والألم يعتصر قلوبنا خوفًا عليهم ورأفة بهم، ندعوهم إلى إعادة النظر في واقعهم ومجريات حياتهم، ندعوهم إلى مراجعة أنفسهم، وتأمّل أوضاعهم قبل فوات الأوان، إننا ننصحهم بأن لا تخدعهم المظاهر، ولا يغرّهم ما هم فيه من الصحة والعافية والشباب والقوة، فما هي إلا سراب بقيعة يحسبهُ الظمآن ماءً، أو كبرقٍ خُلَّب سرعان ما يتلاشى وينطفئ ويزول، فالصحة سيعقبها السقم، والشباب يلاحقه الهرم، والقوة آيلة إلى الضعف، ولكن أكثر الناس لا يتفكرون.
ليتذكر تاركو الصلاة أنهم سائرون إلى قبورٍ موحشة وحفرٍ مظلمة، إنه لا ينفعهم ساعتها مالٌ ولا بنون، ولا صديقٌ ولا صاحب، ليعلم تارك الصلاة أن أصحابه الذين غرّوه، غرّوه في ترك الصلاة وإضاعة فريضة الله، وزينوا له محاكاتهم وتقليدهم، ليعلم جيدًا أنه حين يفارقهم فلن يذرفوا عليه سوى دموع التماسيح، يعودون بعدها إلى مزاميرهم وطربهم وأُنسِهِم، غير مكترثين به ولا بألفٍ من أمثاله، إنهم أنانيّو الطباع، ميّتو الإحساس، لا هَمّ لهم إلا أنفسهم وملذاتهم ولو فقدوا الآباء والأمهات، فضلاً عن الأصحاب والخلان. فاستيقظ يا هذا من غفلتك، وتنبّه من نومتك، فالحياةُ قصيرةٌ وإن طالت، والفرحةُ ذاهبةٌ وإن دامت، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6، 7]، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].
الإسلام ـ يا هؤلاء ـ ليس بالأسماء والصور، وليس بالدعاوى والأماني، ولكنه قول واعتقاد وعمل. وأما الدعاوى فستذهب أدراج الرياح هباءً منثورًا، لا تزيد صاحبها إلا حسرةً وثبورًا. هذا هو الصنف الأول.
وصنفٌ آخر يؤخرون الصلاة عن وقتها، فهم يؤدونها حسب أهوائهم وتبعًا لأمزجتهم ووفقًا لظروفهم، فإذا كانوا نائمين أدّوها عند الاستيقاظ، وإذا كانوا مشغولين أدّوها عند الفراغ، فالصلاةُ أمرٌ ثانويٌ في حياتهم، وشيءٌ ساذجٌ في أذهانهم، وما يدرى هؤلاء أنهم المعنيون بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، قال مسروق رحمه الله: "أي: لا يفعلون الصلاة في وقتها المشروع"، وعند البخاري عن الزهري قال: دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: لا أعرفُ شيئًا مما أدركتُ إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضُيّعت. يعني: أُخّرت عن وقتها.
فتأمل رعاك الله، تأمل مشهد صاحب رسول الله وعيناه تذرفان ألمًا وحسرة حين أخذ بنو أمية يؤخّرون الصلاة عن وقتها، مما أدمى قلوبَ الغيورين على الصلاة، وأجرى دموعهم، وأثارَ حفيظتهم. ومع ذلك كله فقد حرص الأسلاف على أدائها في وقتها المشروع، وإن عرَّضوا أنفسهم لبطشِ بني أمية وانتقامهم، فعند عبد الرزاق عن عطاء أنه قال: أخّر الوليد بن عبد الملك الجمعة حتى أمسى، فجئت فصليت الظهر قبل أن أجلس، ثم صليتُ العصر وأنا جالسٌ إيماءً وهو يخطب. وأخرج أبو نعيم من طريق محمد بن أبي إسماعيل قال: كنت بمنى وصحفٌ تقرأ للوليد، فأخّروا الصلاة، فنظرت إلى سعيد بن جبير وعطاء يومئان إيماءً وهما قاعدان. كما أخرج عن ابن عمر أنه كان يصلي مع الحجاج، فلما أخّر الحجاج الصلاة ترك الصلاة معه. وهذه آثارٌ عن السلف تبيّنُ شدة حرصهم على أداء الصلاة في وقتها بالرغم من شدةِ بطش الوليد والحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان يسفك الدم الحرامَ بمجرد الشبهة.
فالحالة النشاز التي كان يصنعها بنو أمية لم تجعل فقهاء السلف وعلماءهم، لم تجعلهم يوافقونهم في شذوذهم ذاك، ولكنهم حرصوا كل الحرص واجتهدوا غاية الاجتهاد في حفظ صلواتهم وصيانتها ورعايتها، مع أن حرصهم ذاك كان سيكلفهم حياتهم وأرواحهم، فأين المؤخرون اليوم لصلاتهم؟! أين هم عن تلك القمم السامقة والقدوات النادرة؟! بل أين هم عن غيرة عمر يوم الخندق يوم جاءَ مغضبًا حزينًا مهمومًا مغمومًا يسب المشركين، ويقول: يا رسول الله، ما كدت أُصلي العصر حتى غربت الشمس؟! أين هؤلاء من غيرة عمرَ هذه؟! أما يسأل الواحد نفسه: تُرى ما الذي أهمّه؟ ما الذي أغمّه؟ ما الذي أضاق صدره وكدّر خاطره وأحزن قلبهُ وألهب فؤاده؟! ثم ما الذي جعله يؤخر الصلاة عن وقتها؟! ألأنه مشغولٌ بسقي حديقة منزله، أم لأنه مشغولٌ بإصلاح عطل في سيارته، أم لأنه مشغولٌ محرجٌ بضيفٍ ثقيلٍ يتناول الشاي في مجلسه؟! والجواب: حاشا لله أن تحول أمورٌ تافهة كهذه بين الفاروق وبين أدائهِ الصلاة في وقتها المعلوم المشروع، ولكن شغلُه الذي شغله هو جهاده في سبيل الله ودفاعه عن مدينة رسول الله، ومع ذلك فهو مغضبٌ محزون مهمومٌ مغموم، فقد كان حبُّ الصلاةِ وحرصه عليها يجري في دمِهِ وينبض مع عروقِه، أليس هو الذي يُطعن بخنجرِ أبي لؤلؤةِ المسموم فيُحملُ إلى بيته بين الحياة والموت فيقولون: يا أمير المؤمنين، الصلاة الصلاة، فيقول: (نعم، الصلاة، لا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة)، لم ينس المسلمون الصلاة، ولم ينسها عمر مع شدة الكرب وهول الفجيعة.
وإن تعجب ـ أخي المسلم ـ من مواقف عمر هذه فاعجب من موقف ابن الزبير والحجاج محاصرٌ لهُ في البيت الحرام، ويتخلى عنه أكثر أعوانه، فلا يمنعه ذلك من النهوض إلى مصلاه في كل وقت، غير مكترثٍ ولا مبالٍ بعدوهِ الحقود الذي كان يطلبُ حياته بأي ثمن، حتى لو أُحرقت الكعبة، وسالت أروقة المسجدِ الحرامِ دمًا زكيًا، ولعمرو الحق ما ترك ابن الزبير صلاة واحدة في وقتها طيلةَ حصارِ الحجاج له، حتى هوت عليه قذيفةٌ ألزمته الأرضَ بعد ذلك، لقد كانوا يقدرون الصلاة حقَ قدرِها، ويرعونها حقَ رعايتِها، ويؤدونها في أوقاتها مهما ادلهمّ الخطب وتأزّمت المواقف.
ولماذا لا يؤدونها في أوقاتها وصوتُ رسول الله يجلجل في آذانهم ويصولُ في قلوبهم وهو يقول كما عند البخاري من حديث بريدة: ((من ترك صلاة العصرِ فقد حبط عمله)) ؟! فرحماك يا إلهي، من ترك صلاة واحدة حبط عمله، فكيف بمن ترك صلاتين أو ثلاث أو خمس صلوات كل يوم؟!
فاتقوا الله يا من تؤخرون الصلاة عن وقتها، وتحسبونه هيّنًا وهو عند الله عظيم، فاستيقظوا من سباتكم يا هؤلاء، وأفيقوا من أحلامكم، وأعتقوا رقابكم من غضب الله وناره وجحيمهِ ونكالِه.
وأما النائمون عن صلاة الفجر والعصر خاصة فعند البخاري وأحمد من حديث سمرة قال في حديث الرؤية الطويل: ((أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، فانطلقت معهما، وإنَّا أتينا على رجلٍ مضطجع، وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه فيثلغ رأسه، ثم يتبع الحجر فيأخُذه فلا يرجع إليه، حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعودُ عليه فيفعل به مثل ما فعل المرةِ الأولى)) ، وفي آخر الحديث أُوِّلَ لرسول الله هذا الذي يُضربُ رأسهُ بالصخرة، فقيل له: ((هو الرجلُ يأخذُ القرآنُ فيرفضُه، ثم ينام عن الصلاةِ المكتوبة)).
أرأيت يا من تنام عن الفجر، ويا من تنام عن العصر؟! أرأيت ماذا ينتظرك من العذاب وأنت غافلٌ لاه لا تدري ماذا يرادُ بك وماذا يهيّأ لك؟! فاتقِ الله، وألقِ عن نفسك الكسل والخمول، فالمسألة ليست أحاديث صبيان، ولا ألاعيب مراهقين، ولكنها جدٌ وربِ الكعبة، وإن غدًا لناظرهِ لقريب.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما في كتابه وسنة نبيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقولُ ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يعطي ويمنع، ويخفِضُ ويرفع، ويضرُ وينفع، ألا إلى الله تصيرُ الأمور، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.
أما بعد: أيها الناس، فأما الصنفُ الثالث من الناس فهم حريصون كل الحرصِ على أداء الصلوات في أوقاتها في كل حماسٍ وإصرار، ولكن حماسهم يخبو وإصرارهم يضعُف عن أداء الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد، فإبراءً للذمّة وإخلاءً للعهدة أمام الله تبارك وتعالى نسوقُ إليهم هذه الأدلة الثابتة والحجج الراسخة التي تؤكد وجوب صلاة الجماعة في المساجد، وأن من يظن غير هذا فهو يعيشُ وهمًا كبيرًا، ويرتكبُ خطأً فادحًا.
وفي مقدمة تلك الأدلةِ وأبلغها أثرًا ما أوجبه الله تعالى على المجاهدين وهم يخوضون غمارَ المعركة في أحلك ساعات النزال، ما أوجبه الله تعالى عليهم من لزوم الجماعة، فهو القائل جل وعلا: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، أرأيت أيها المبارك، أرأيت كيف فرض الله الجماعة في أحلك الظروف وأحرج المواقف؟! طائفةٌ تصلي وأخرى تحرس، ثم تتغير المواقف، فالتي كانت في الصلاة تنتقلُ للحراسة، والتي كانت في الحراسة تنتظمُ للصلاة جماعة، كل ذلك والعدو متربصٌ متحفز قد أقبلَ بخيلِهِ ورجلِه وقضّهِ وقضيضِه. تأمل ـ أيها الأخُ الكريم ـ بعين الإنصافِ والتجرد كيف أوجب الله الجماعة في تلك الظروفِ العجيبة، حيثُ تخضبت السيوفِ بدمائِها، وتطايرت الرؤوسُ عن أعناقِها، فكيف يكون الحال إذًا في الآمنين في بيوتهم المطمئنين بين نسائهم وذراريهم؟! ندعُ الإجابة لك أيها الحبيب، فما نحسبُك إلا منصفًا تقول الحق ولو على نفسك.
أما الحديث المتفق على صحته ففيهِ يقول : ((لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلقُ معي برجالٍ معهم حزمٌ من حطب إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة ـ يعني: لا يشهدون الجماعة ـ فأُحرِّق عليهم بيوتهم بالنار)) ، وجاء بصيغةِ ((أُحرِّق)) لإفادة التكثير والمبالغة. يا سبحان الله! رسول الله الذي وصفهُ ربّه بأنه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم يهمُّ بإحراق البيوتِ على أهلها حين تَخَلّوا عن الجماعة، فأي شيءٍ يدلُ عليه ذلك إلا أنها واجبة متعيّنة في المسجد، وأن أداءها في البيوت ذنبٌ عظيمٌ وجرمٌ خطير وخطأٌ فادحٌ بكل المقاييس؟! كيف لا وقد جاءَ عن ابن عباس مرفوعًا: ((من سمع النداء فلم يأتهِ فلا صلاة له إلا من عذر)) رواه الحاكم وقال: "صحيح على شرط الشيخين" ووافقه الذهبي، وعند أبي داود وابن حبان قالوا: يا رسول الله، وما العذرُ؟ قال: ((خوفٌ أو مرض)). إذًا فليس من العذرِ في تركِ الجماعة ـ يا مسلمون ـ حبّ الراحة والاسترخاء أو شربُ القهوةِ أو الشاي أو مطالعةُ الصحف والمجلات أو استقبال الضيوفِ أو تودعيهم، بل ليس من العذرِ في ترك الجماعة قراءة القرآن أو الطواف بالبيت الحرام، وأي عذرٍ لهؤلاء وقد جاء الأعمى إلى رسول الله ، جاء يشكو بُعدَ دارِه ووعورة طريقه وفقدانهِ لقائدٍ يلائمه، ويسألُ رخصةً أن يصلي في بيته، فيقول له الرؤوف الرحيم عليه الصلاة السلام: ((أتسمع النداء؟!)) قال: نعم، قال: ((أجب، فإني لا أجدُ لك رخصة)) ، أفتكونُ الرخصةُ إذًا لذوي السمع القوي والبصر الحاد؟! أفتكون الرخصة لمن أحاطت بهم المساجد من كل جانب وذُللت لهم الطرق وعُبدت لهم الشوارع؟! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم.
فاتقوا الله أيها الزاهدون في الجماعة، وتذكروا حال أسلافكم كيف كانوا شديدي الاهتمام بها، عظيمي الخوف عليها، تذكروا موقف الخليفة الشهيد عثمان بن عفان وقد حاصره السبَئيون في المدينة يطلبون دمه، ويمنعونه من إمامة الناس، فلا يمنعه حصارهُم إياه وظلمهم له وخروجهُم عليه من الصلاة خلفهم حرصًا على الجماعة وإبراءً للذّمّة، فعند البخاري من حديث عبيد الله بن عدي أنه دخلَ على عثمان وهو محصورٌ فقال له: يا إمام، إنك إمامُ عامّه، ونزلَ بنا ما ترى، ويصلي لنا إمامُ فتنة، فنتحرّج، فقال : (الصلاةُ أحسنُ ما يعملُ الناس، فإذا أحسن الناس فأحسنوا، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم).
أيها المسلمون، لقد آن الأوان أن نُعيد النظر في أوضاعنا، ونصحح مفاهيمنا وأخطاءنا، ونُقوّمَ سلوكنا وتصرفاتِنا، فنحن أمةٌ خلقت لتكون قائدة، ووجدت لتكون رائدة، ألا إنها دعوة إلى عمارة بيوت الله بالذكر والتسبيح وصلاة الجماعة، ألا إنها دعوة إلى الجنة فوقَ مراكبَ من التُقى والعمل الصالح والتوبة النصوح، والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/4063)
الصلاة (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر الصلاة على حياة المسلم. 2- أهمية الخشوع في الصلاة. 3- صور من خشوع السلف. 4- نصوص في الخشوع وفضله. 5- شُبه تاركي الصلاة والجواب عنها. 6- شُبه من يؤخرون الصلاة والجواب عنها. 7- شُبه المتخلّفين عن صلاة الجماعة والجواب عنها. 8- نصائح مهمة حول الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فكنا قد تحدثنا في الخطبة الماضية عن فريضة الله العظمى وشعيرة الله الكبرى، فتحدثنا عن الصلاة وأحوال الناس معها، وفصّلنا القول، وضربنا الأمثلة، ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد.
ونستأذنكم اليوم ـ أيها الأحبة ـ لاستكمال الحديث وإتمام الفائدة وإقامة الحجة والإعذار أمام الله جل جلاله.
فأما الصنف الرابع من الناس، وتذكيرًا: فقد فصّلنا القول في الجمعة الماضية في ثلاثة أصناف من الناس الأول: التاركين للصلاة، الصنف الثاني: من يؤخرونها عن أوقاتها، الصنف الثالث: من يصلونها في بيوتهم ولا يشهدون المساجد، وأما الصنف الرابع من الناس فهم أُناسٌ فضلاء وقومٌ عقلاء، أدركوا أهمية الصلاة وآمنوا بوجوبها ولزومِها، فحافظوا عليها في أوقاتها مع جماعة المسلمين بكلِ قناعةٍ وإقبال، ولكنهم ـ وللأسفِ الشديد ـ يفتقدون الخشوع في صلاتهم فيؤدونها بطريقةٍ آلية، دون استشعار لروحها أو تذوقٍ لجمالها أو إدراكٍ لمراميها أو استحضار لهيبة الموقف بين يدي الله جل جلاله. فلا غرو إذًا والحالة هذه أن تجد التناقضَ صارخًا في تصرفاتهم والأثر الإيجابي محدودًا في حياتهم، فلربما جاهرَ بعضهم بذنوبه، واستعلن بأخطائه، وعاقر شيئًا من الكبائر. وهنا تبرزُ علامات استفهام مُحيرة.
تُرَى ألم يقل الباري جل جلاله: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؟! فما بال هؤلاء لم تنههم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر؟! ما بالهم على سبيل المثال يعقّون والديهم، ويقطعون أرحامهم، ويظلمون أزواجهم، ويسيئون الجوار؟! ما بالهم يغشّون في بيعهم وشرائهم، ويكتمون عيوب السلعة، ويخفون زيفها ونقصها؟! ما بالهم يثلبون أعراض الناس، ويمارسون الغيبة والنميمة والكذب؟! ما بال هؤلاء جميعًا لم تنههم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر؟! أليس الله يقول: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]؟! أين مكمن الخلل يا تُرى؟! والجواب أيها المسلمون: إن الصلاة التي قصدها الله وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ليست هي الصلاة التي يصليها هؤلاء المذنبون المصرّون على منكراتهم وفواحشهم ومعاصيهم.
الصلاة التي أرادها ربنا ليست هي التي يصليها كثيرٌ من الناس اليوم، والتي لا تعدو أن تكون مجرد حركات وتنقلات وتمتمات، لا روحَ فيها ولا حياة ولا طمأنينة ولا خشوع ولا سكينة ولا خضوع، فالذهنُ في شرود، والقلبُ في غفلة، والنفسُ في حيرة، والبصرُ في جولة، والجوارحُ في عبث، يقفُ أحدُنا في صلاته لا يدري كيف وقف، ولماذا وقف، وبين يدي من يقف، يدخلُ أحدُنا صلاته فيتذكر كل شيءٍ إلا الصلاة، ويعي كل شيءٍ إلا الصلاة، ويُفكّرُ في كل شيءٍ إلا الصلاة، فقل لي بربك: ما قيمةُ صلاةٍ كهذه؟! وأي أثرٍ يُرجى من ورائها؟! وكيف يمكنُ أن تنهى صلاة كهذه عن الفحشاء والمنكر والإثم والبغي والعدوان؟! أجيبوا أيها المصلون.
أيها المسلمون، إن الصلاة التي أرادها الله وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر تختلف كثيرًا وكثيرًا عن صلاتنا هذه، الصلاة التي أرادها الله هي الصلاةُ الخاشعةُ الخاضعةُ التامةُ الكاملة التي يقدرها المصلي حق قدرها، ويحسبُ لها ألف حساب، ويحملُ لها في قلبهِ أعظمَ مكانة، ويبدأ استعداده لها واهتمامه بها من حين دخولِ وقتها وشروعهِ في التطهرِ لها. إنها الصلاة التي يستجمعُ فيها المصلي قلبه وقالبه وإحساسهُ وشعوره، ويعرفُ بين يدي من يقف، ومن يناجي ويخاطب، ولمن يركع ويسجد. إن الصلاة التي أرادها الله هي صلاة محمد وأصحابه الأماجِد وأتباعهِ الأفاضل، ففي الأثرِ عن عائشة رضي الله عنها: كان يباسطنا ويمازحنا ويحدثنا، حتى إذا حانت الصلاة فكأنهُ لم يعرفنا ولم نعرفه، وليس أحدٌ أعرفَ بالله من رسوله ونبيه، وقال مطرف بن عبد الله عن أبيه: رأيت رسول الله يصلي وفي صدره أزيزٌ كأزيز المرجلِ من البكاء. رواه أبو داود والنسائي وغيرهما وقال ابن حجر: "إسناده قوي". وكان أبو بكر إذا قام إلى صلاته كأنه وتدٌ من الخشوع، وكان إذا جهر فيها بالقراءة خنقته عبرته من البكاء. وأما عمر ـ وما أدراك من عمر ـ لم يكد يُسمِع مَن خلفهُ من الشهيق والبكاء، فعند البخاري عن عبد الله بن شدادٍ قال: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86]، وكان علي إذا حانت الصلاة يضطربُ ويتغير، فإذا سئُل عن ذلك: ما بالك يا إمام؟! قال: (لقد آن أوان أمانةٍ عرضَها الله على السموات والأرضِ والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملتها أنا)، وكان علي بن الحسن العابد الزاهد إذا توضّأ تغيّر لونه، فقيل له في ذلك، فقال: "أتدرون بين يدي من أُريدُ أن أقف؟!"، وكان عطاء بن أبي رباح إذا أراد أن يقوم إلى صلاته فيقرأ مائة آيةٍ من سورة البقرة لا يزولُ منهُ شيءٌ أو يتحرك.
هكذا كانت صلاةُ القوم، فهل تشبهها صلاتنا اليوم؟! يأتي أحدنا المسجد وقلبهُ مشحونٌ بمشاكل الدنيا وهمومها وزخرُفها وبهرجها وفتنتها وزينتها، فيصطف خلف الإمام، فلا يدري ماذا يقول هو أو ماذا يقول الإمام، فلا يشعر إلا وقد انقضت الصلاة وانتهت المناجاة، فيخرجُ كما دخل، ويدخلُ كما خرج، فلا نفسٌ اطمأنت، ولا قلبٌ خشع.
أيها المسلمون، إن قضيةَ الخشوع في الصلاة قضيةٌ بالغةُ الأثر عظيمةُ الشأن، فحين ذكر الله أوصاف المؤمنين كان الخاشعون على رأس القائمةِ ومقدمة الصفوف، واقرأ إن شئتَ: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، أما الحديث الصحيح الذي رواه الحاكم ففيه ما يحرّك النفوس ويؤجّج الحماس إلى طلبِ الخشوع بأي ثمن، فعن عقبةَ مرفوعًا: ((ما من مسلمٍ يتوضّأ فيُسبغ الوضوء ثم يقوم في صلاته فيعي ما يقول ـ أي: يعي ويتدبر ـ إلا انفتل كيومِ ولدته أُمه)) أي: خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضلِ العظيم.
ولقد شدد أسلافنا في الإنكار على أولئك النقارين الذين ينقرون صلاتهم، ويعبثون بجوارحهم، ويجرحون فريضتهم، فقد أنكر حذيفة على رجلٍ لا يخشع في صلاته ولا يتم ركوعها وسجودها، فقال: (يا هذا، لو مت على هذه الصلاة لمتّ على غير الفطرة) رواه البخاري، وكان عمر يقول: (إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أتم لله صلاة)، قيل: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟! قال: (لا يتم خشوعها وخضوعها)، وأما نبينا عليه الصلاة السلام فحسبُك قوله : ((إنما يكتبُ للعبد من الصلاة ما عقل منها)).
أيها المسلمون، لقد تحدثنا فيما مضى عن ثلاثة أصنافٍ من الناس: أما الصنف الأول: فهم تاركو الصلاة، وأما الصنف الثاني: فهم المؤخرون لها عن وقتها، وأما الصنف الثالث: فهم الذين لا يشهدون الجماعة، وذكرنا اليوم الذين لا يخشعون في صلاتهم، فتم لنا أربعة أصنافٍ من الناس، ولكل منهم شُبَهٌ يتشبّثُ بها وحُجج يتعصبُ لها؛ لينصر وجهته ويؤيد طريقته، ونحن نعرض شُبهَ كل فريق، ونبين الحق إن شاء الله تعالى.
فأما التاركون للصلاة فقد زين لهم الشيطان أعمالهم، وصدهم عن السبيل، وقذف في قلوبهم الشبهة تلو الشبهة حتى صوّر لهم الصلاة بأنها مظهرٌ من مظاهر التخلف والرجعية والبلاهة والسذاجة، ونسي هؤلاء المساكين ـ وللأسف الشديد ـ أن أكثر دول العالم حضارةً ومدنية قد أخذت تنتشر فيها المساجد، وترتفعُ فيها المآذن كل يوم، حتى بلغت آلاف المساجد والجوامع في أوربا وأمريكا وغيرها، بل وحتى المطارات الدولية بدأت تفتتح فيها المساجد بشكل رسمي وتحت رعاية الدولة، ولا توجد عاصمة من عواصم أوروبا شرقيها وغربيها إلا والمساجد قد ارتفعت مآذنها وشُرِّعَت أبوابها وأخذت تشهد إقبالاً يفوق الوصف من الأوربيين وغيرهم، وحسبك أن تعلم ـ أخي الكريم ـ أن جامع مدينة لندن على سبيل المثال تقام فيه صلاة العيد عدة مرات مع كِبَرِ مساحته وتعددِ طوابقه؛ لكثرة الزحام وشدة الإقبال، فأي شيءٍ يعني هذا الكلام؟! وأي شيءٍ يعنيه إقبال تلك الدول المتحضرة على الصلاة؟! فلماذا السباحة عكس التيار؟! ألا قليلاً من الموضوعية؟! ألا قليلاً من الإنصاف؟! أصلح الله قلوبكم.
ومن حججهم الغريبة في ترك الصلاة أن يحتج أحدهم بأنه ما يزال شابًا والفرصة متاحة والأيام قادمة، يجيبك بهذا المنطق الأعوج بلسان حاله أو بلسان مقاله، فالصلاة في نظره شأن العجائز والشيوخ، فيا حسرةً على العباد! فقد نسي هؤلاء المغترون بشبابهم أن الموت لا يعرف الاستئذان، ولا يفرق بين صغير ولا كبير، ولا يترك بيت وبرٍ ولا مدرٍ إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل، ولو سألنا كل واحدٍ منا عن الشباب الذين يعرفهم ممن اختطفهم الموت وحل بساحتهم الأجل لنبأنا من ذلك نبأً ولقص علينا منه قصصًا، فاتقوا الله أيها الشباب، ولا يغُرنَّكم سوادُ شعوركم ونضارة وجوهكم، فإن أجل الله آتٍ طال الزمانُ أم قصُر، والسعيد من وعظ بغيره.
أيها المسلمون، وقريبٌ من هؤلاء صنفٌ آخر يسوّفون الصلاة، ويماطلون في التوبة، ويقول قائلهم: سأصلي ابتداءً من الجمعة القادمة؛ لأنه يومٌ فضيل، أو مع بداية رمضان؛ لأنه شهر الخير والبركة، أو مع مطلع السنة الجديدة؛ لأفتح صفحةً بيضاء، ونحو تلك المواعيد العجيبة، ويا سبحان الله! ألهذا الحد تلاعب بك الشيطان أيها الإنسان؟! ألهذا الحد بلغ بك طول الأمل؟! من أعطاك ضمانًا أنك ستعيشُ إلى الجمعة القادمة أو إلى رمضان أو إلى العام الجديد؟! وهل هذه عبارة عقلاء أو منطق فطناء؟! ألم تسمع إلى قول مولاك وهو يحذرك أمثال تلك الأوهام ويعلنها صريحة مدوية: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34]؟!
ومن شبه هؤلاء أن يقول قائلهم: إن لدي بعض المعاصي، وفعلُ الصلاة لن ينفعني، أو كيف أصلي وأنا متلبسٌ ببعض الكبائر؟! والجوابُ: يا هذا، إن الخطأ لا يُصلحُ بخطأ مثله، فليس هناك معصومٌ عن الخطأ إلا من عصمه الله من النبيين والمرسلين، وإلا فكل الناس لهم ذنوبٌ وخطايا، ولو كان لا يصلي إلا من سلم من الذنوب لما صلى أحدٌ سوى الأنبياء، فعل الصلاة والمداومة عليها هي الطريقة المثلى للتقلل من الذنوب وحصرها في أضيقِ نطاق، وهي السبيل الأقوم لتخفيف السيئات وأثرها المشؤوم، بل والقضاء عليها تمامًا مع التوبة والاستغفار، قال الله جل جلاله: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:104]، وقال : ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، ثم لِمَ كل هذا اليأس من رحمة الله وهو يناديك وإياي فيقول: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم [الزمر:53]؟! فتب إلى الله يسامحك الله، وبادر إلى الصلاة يوفقك الله، واعلم أن كل هذه الحجج من كيد الشيطان ووسوسته، فاستعذ بالله، إنه هو السميع العليم.
أيها المسلمون، وأما الذين يؤخّرون الصلاة عن وقتها فأكثرُ ما يدفعهم إلى ذلك هو الكسل والهوى والاستخفاف بشأنها وعدمُ المبالاةِ بأمرها، وهم مع ذلك يتحجّجون بحجج داحضه وأعذارٍ واهية، فقد يحتجون بالنوم أحيانًا وخصوصًا المتأخرون عن صلاة الفجر، ويرددون حديث: ((رُفِع القلمُ عن ثلاثة)) ، وذكر منهم: ((والنائم حتى يستيقظ)) ، والنوم ـ أيها المسلمون ـ ليس بعذر إلا لرجلٍ بذل الأسباب وهيّأ السبل كي يقوم للصلاة فغلبته عيناه يومًا من الدهر، أما أن يعتاد النوم عن الصلاة كل يوم ويظن نفسه معذورًا فهو يعيش وهمًا كبيرًا وكبيرًا ويخادع نفسه، فالله جل جلاله أجلّ وأعظم أن يخدَع من أمثال هذا. فاتقوا الله أيها النائمون، ودعوا عنكم أحلامكم الفارغة وأمانيكم الباطلة، فإن الله يمهل ولا يهمل، وإذا أخذ فإن أخذهُ أليمٌ شديد.
ومن أعذارهم في تأخير الصلاة اعتذارهم بالوعكة والمرض، فما إن يقع أحدهم مريضًا إلا ويمنح نفسهُ إعفاءً ذاتيًا من الصلاة وإجازةً مفتوحةً إلى حين الشفاء، وهذا خطأٌ كبير وجرمٌ خطير، فحرامٌ حرامٌ أن يدع المريضُ صلاته مادام له عقلٌ يعقلُ به وشعورٌ يشعرُ به، وواجبٌ عليه أداء الصلاة لوقتها حسب استطاعته وقدرته، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، وفي الحديث الصحيح قال لعمران: ((صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)).
أيها المسلمون، ومن أعذارهم في تأخير الصلاة الاعتذار بالسفر، خصوصًا عندما يركبون الطائرة في رحلاتٍ طويلة، فيندر أن ترى من يقومُ إلى الصلاة، وما منعهم من ذلك إلا الحياء أو اللامبالاة، وغاب عن هؤلاء المصلين حتمية أداء الصلاة لوقتها، سواءً ركبوا البحر أم صعدوا الفضاء، ولئن شُرع الجمع بين الصلاتين في وقتِ إحداهما فذلك من فضل الله، ولكن الكارثة والمصيبة في تفويت كلا الوقتين، وتلك ـ والله ـ قاصمة الظهر.
وأما المفرطون في الجماعة فلهم حُججهم أيضًا، ولكنها لا تُسمنُ ولا تغني من جوع، فمن ذلك احتجاجهم بالإنهاك والتعب، خصوصًا حين يأتون من أعمالهم ظهرًا أو قبيل العصرِ بقليل، فيدخلون بيوتهم دون مبالاةٍ بصلاة الجماعة التي قد أُقيمت أو كادت أن تُقام، وعجيبٌ حال هؤلاء، لا مانع لديهم من مكابدة العمل طيلة ساعات النهار، ثم تأتي الصلاة بدقائقها الخمس تخورُ قواهم وتنهارُ عزائمهم، فأين العدل يا مسلمون؟! سبحانك ربي ما أحلمك.
ومن أعذارهم في ترك الجماعة الاحتجاج بحديث: ((صلاة الرجلِ في جماعة تزيدُ على صلاته في بيته وسوقه خمسًا وعشرين درجة)) ، فيقولون: المسألة مسألة أفضلية، وليست مسألة وجوب، ونسي هؤلاء الواهمون أن ذكر الأفضلية لا يعني سقوط الجماعة، فضلاً عن كونِ الحديث محمولاً على من تخلف عن الجماعة لعذرٍ؛ كأن ينام عن الصلاة بلا تفريطٍ أيضًا، قال : ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)) ، أو كان في طريقه إلى الجماعة فوجدهم خارجين فعاد فصلاها في بيتهِ أو سوقه، ثم أين هؤلاء من عشرات الأدلة التي توجب الجماعة وتؤكد حتميتها فيضربون بها عرض الحائط، ويتشبثون بحديثٍ كهذا له ألف تأويلٍ وتأويل؟!
ومن أعذارهم في ترك الجماعة اعتذارهم بمشاغل البيت ومطالبِ الوالدين وحاجات الأهلِ والأسرة، وربما ردد بعضهم قوله : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) ، والجواب: إن القيام بحاجات البيت وحقوق الوالدين من أعظم المعروفِ وأفضلِ البر، لكن ليس على حساب صلاة الجماعة، فعند البخاري من حديث الأسود قال: سألت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـ يعني في خدمتهم ـ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. فحاجات البيت ـ أيها المسلمون ـ لها وقتها وفريضة الله لها وقتها أيضًا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما في كتابه وسنة نبيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقولُ ما تسمعون، وأستغفرِ الله لي ولكم فاستغفروه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، يعطي ويمنع، ويخفِضُ ويرفع، ويضرُ وينفع، ألا إلى الله تصيرُ الأمور.
أما بعد: أيها المسلمون، فهذه نصائح عاجلة ومواعظ سريعة، علّها تجدُ آذانًا صاغية وقلوبًا واعية لمن يهمه الأمر:
النصيحة الأولى: للآباء الأفاضل، اهتموا ـ بارك الله فيكم ـ بأولادكم، ومروهم بالصلاة، ولا تيأسوا من روح الله، ثم يجب أن نتجاوز ـ يرحمكم الله ـ مرحلة: "صلّوا يا أولاد" ونحنُ سائرون إلى المسجد، إلى مرحلة الدعوة والإقناع وجهًا لوجه، وإلى مرحلة الحوار الهادئ والنقاش الموضوعي الجاد، فإن نفَعَ ذلك وإلا فهجرٌ جميل.
النصيحة الثانية: إلى لاعبي الكرة في الحارات، اعلموا ـ وفقكم الله ـ أن ممارسة الرياضة أمر لا بأس به ما دام خاليًا من المحاذير الشرعية، لكن استمرار اللعب إلى أذان المغرب تمامًا قد يحرمكم من إدراكِ الجماعة في المسجد؛ نظرًا لحاجتكم أحيانًا لتغيير ملابسكم وتجديد وضوئكم، فيا حبذا لو توقفتم قبيل الأذان بوقتٍ كافٍ لتدركوا الجماعة مطمئنين.
النصيحة الثالثة: لمن يهمه الأمر، اعلم ـ بارك الله فيك ـ أن تارك الصلاة كافرٌ مرتد يجب استتابته وإلا قتل، فلا يتزوج بمسلمة، وإذا مات لا يغسَّل ولا يكفَّن ولا يُصلّى عليه ولا يُدفن مع المسلمين ولا يُدعى له بالرحمة ولا تحلّ ذبيحته ولا يرثُ ولا يورث ولا ولايةً لهُ على أحدٍ من بناته ولا حضانة له على أحدٍ من أولاده.
النصيحة الرابعة: لمن يهمه الأمر أيضًا، اعلم ـ بارك الله فيك ـ أن للصلاة شروطًا لا يجوزُ الإخلالُ بها، وبناءً عليه فإن لبسَ الثوب الشفاف المظهر للفخذين مبطلٌ للصلاة، والصلاة لغير القبلة مع عدم التحري مبطلٌ لها أيضًا، والصلاة قبل الوقت مبطلٌ لها كذلك، وعدم إتمام الطهارة مبطلٌ للصلاةِ أيضًا.
النصيحة الخامسة: إلى المرأة المسلمة، والتي يجبُ عليها أداء الصلاة في وقتها حتى ولو كانت في السوق، وتأخيرها للصلاة عن وقتها المشروع بدعوى أدائها في البيت أمرٌ بالغ الخطورة، فلتنتبه ولينتبه قبلها ولي أمرها لكي ينبهها على ذلك كلما نزلت للسوق.
النصيحة السادسة: إلى الذين يشتكون من عدم الخشوع، اعلموا أن خير وسيلةٍ لتحقيق الخشوع هو في تصويب البصر إلى موضع السجود، واستحضار الموقف بين يدي المولى جل جلاله، وسؤاله العون والسداد، والاستعاذة من شر الشيطان ووسوسته.
النصيحة السابعة: لمن يهمه الأمر، لا نريد منك ـ أيها المسدّد ـ أن تكون انفعالاتك وقتيّة واستجابتك سطحيّة، سريعة الحضور سريعة الانصراف، ولكن نريد قناعات راسخة وعزائم أكيدة وتوبةً نصوحًا وإصرارًا على الاستقامة والثبات، نريد أن تتبوأ الصلاة مكانة في قلبك ومنزلةً في أعماقِ ضميرك، فلا تغيبُ عن بالك، ولا تتخلفُ عن إحساسك وشعورك.
وأخيرًا ـ أيها المسلمون ـ يجبُ علينا أن نتعاون في إحياء هذه الشعيرة العظيمة وأمر الناس بها وحثهم عليها، وأن ننتقل بهم سريعًا من مرحلة: "أرحنا منها" إلى مرحلة: ((أرحنا بها يا بلال)) ، وأن تكون الصلاة هي قرة العين وسكون النفس وطمأنينة القلب، يومها سيعودُ للأمة مجدُها وعزُّها، وسيقفُ ملك الروم يسائلُ جيشهُ مرةً أخرى: ويلكم، ويلكم، مالكم تنهزمون؟!
اللهم إنا نسألك رحمةً تهدي بها قلوبنا، وتلمّ بها شعثنا، وتذهب بها الفتن عنا.
اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا...
(1/4064)
طوفان آسيا
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله على عباده. 2- شكر النعم. 3- الحكم من الحوادث والكوارث. 4- ما حصل من جراء تحرك البحر في المحيط بسبب زلزال فيه. 5- رد على من يزعم بأن هذه الزلازل ظواهر طبيعية لها أسباب معروفة لا علاقة بها بأفعال الناس ومعاصيهم. 6- حال مجتمعاتنا اليوم. 7- وفقات مع طوفان آسيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، أسأل الله جل وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ بلاد المسلمين من الزلازل والطوفان والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، كما أسأله عز وجل أن يجعل ما نرى وما نسمع عبره لنا ولغيرنا.
عباد الله ، إن هذه الأرض التي نعيش عليها من نعم الله علينا، فإن الله سبحانه وتعالى قد مكننا من هذه الأرض، نعيش على ظهرها، وندفن موتانا في باطنها، كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25، 26]، وقال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55].
ومن رحمته جل وعز أن أودع في هذه الأرض كل ما يحتاجه الناس، فبارك فيها وقدر فيها أقواتها، ثم جعلها سبحانه وتعالى ثابتة مستقرة لا تتحرك وأرساها بالجبال، حتى نتمكن من البناء عليها والعيش على ظهرها، ومع كل هذا فهذه الأرض قد تتحرك وتمتد ويحصل بسببها الزلازل المدمرة؛ تخويفًا للعباد وتأديبًا للبعض الآخر. والبحر كذلك، هذا البحر الهادئ الجميل قد يأمره الله جل وتعالى فيتحرك ويهيج، فيُغرق ويُدمّر، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
إننا ـ معاشر الأحبة ـ في نعمة من الله تامة، أمن في أوطاننا، وصحة في أبداننا، ووفرة في أموالنا، وبصيرة في ديننا، فماذا أدينا من شكر الله الواجب علينا؟! فإن الله وعد من شكره بالمزيد، وتوعد من كفر بنعمته بالعذاب الشديد: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
إن الله سبحانه وتعالى يُري عباده من آياته ليعتبروا ويتوبوا، فالسعيد من تنبه وتاب، والشقي من غفل واستمر على المعاصي ولم ينتفع بالآيات. كم نسمع من الحوادث ونشاهد من العبر، حروب في البلاد المجاورة أتلفت أممًا كثيرة، وشردت البقية عن ديارهم، يتمت أطفالاً ورمّلت نساءً، وأفقرت أغنياء وأذلت أعزاء، ولا تزال تتوقد نارها ويتطاير شرارها على من حولهم، وغير الحروب، هناك كوارث ينزلها الله بالناس، كالعواصف والأعاصير التي تجتاح الأقاليم والمراكب في البحار، والفيضانات التي تغرق القرى والزروع، وهناك حوادث السير في البر والبحر والجو، والتي ينجم عنها موت الجماعات من الناس في لحظة واحدة، وهناك الأمراض الفتاكة المستعصية التي تهدد البشر، وهناك الزلازل، كل ذلك يخوف الله به عباده، ويريهم بعض قوته وقدرته عليهم، ويعرفهم بضعفهم، ويذكرهم بذنوبهم، فهل اعتبرنا؟! هل تذكرنا؟! هل غيرنا من أحوالنا؟! هل تاب المتكاسل عن الصلاة فحافظ على الجمع والجماعات؟! وهل تاب المرابي والمرتشي والذي يغش في المعاملات؟! هل أصلحنا أنفسنا وطهرنا بيوتا من المفاسد والفضائيات؟! إن كل شيء من هذه الأحوال لم يتغير إلا ما شاء الله، بل إن الشر يزيد، وإننا نخشى من العقوبة المهلكة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإن الله تعالى يقول: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:52، 53].
إن الله سبحانه توعد الذين لا يتعظون بالمصائب ولا تؤثر فيهم النوازل فيتوبون من ذنوبهم، توعدهم بأن يستدرجهم بالنعم ثم يأخذهم على غرة ويقطع دابرهم، كما قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:42-45]. إنه ـ والله ـ يُخشى علينا اليوم الوقوع في مثل هذا، معاصينا تزيد، ونعم الله تتكاثر علينا. فاتقوا الله عباد الله، واحذروا نقمة الله التي حلت بمن قبلكم ومن حولكم أن تحل بكم، الدنيا لدينا معمورة، والمساجد مهجورة، ليس لدينا تقصير في الدنيا، لكن التقصير في الدين.
أيها المسلمون، لقد ضج العالم كله بما حصل في الأيام الماضية من تحرك البحر في المحيط بسبب زلزال فيه، تحرك الماء بسببه فحصل ما حصل. تحرك قاع المحيط وفاضت المياه بطوفان جرف الأخضر واليابس في ثمان دول على الأقل، أفاق الناس ورواد المنتجعات على كارثة تعادل في مأساويتها الحروب الكبرى، فموجات المد البحري ابتلعت قرى بأكملها، وحتى قمم الجبال وأسطح المنازل لم تعصم الضحايا من الماء، رائحة الموت امتدت لمسافات كبيرة، وانشغلت فرق الإنقاذ بانتشال الجثث التي تحلل معظمها قبل العثور عليها، واختلطت الأشلاء البشرية بجيف الحيوانات، وتحولت المستشفيات لمراكز تجمع القتلى. أما ملايين المشردين فيواجهون خطر الموت إما جوعًا أو من الأوبئة الفتاكة، ولم يبق أمامهم سوى انتظار مساعدات الدول الأخرى؛ لعجز دولهم عن إنقاذهم والنحيب على قتلاهم.
إن ما جرى في آسيا من الطوفان العظيم لهو آيةٌ من آيات الله، وجنديٌ من جنوده، يرسلهُ الله على من يشاء من عباده، ويصرفهُ عمن يشاء، دمر به مدنًا كاملة، أهلك به الزرع والضرع، وأباد به الحرث والنسل، لقد تغيرت خارطة العالم. كان الناس يعيشون في هدوءٍ سياحي وأجواءٍ هادئة، لم ينذرهم الفلكيون، ولا الكهنةُ ولا العرافون، وفجأةً جاء بأسُ الله، فأخذهم ضحًى وهم يلعبون، وجاءهم بياتًا وهم نائمون، فخرجوا من بيوتهم يهرعون، وفي الطرقات يجأرون، لا يلوون على شيء، ينظرون عن أيمانهم فلا يرون إلا المباني المتهاوية، وينظرون عن شمائلهم فلا يرون إلا الجثث والقتلى، وينظرون خلفهم فلا يرون إلا الفيضانات، وينظرون تلقاء وجوههم فلا يرون إلا الموت، أين يذهبون؟! بل أين يهربون؟! وإلى أين يفرون؟! أظلم عليهم النهار، وفرق جمعهم الدمار، خر عليهم السقفُ من فوقهم، وتفجرت الأرضُ من تحت أقدامهم، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون. عواصف بحرية، وهزةٌ أرضيه، وإن شئت فقل: عقوبةٌ إلهية.
حصيلة القتلى ـ إلى الآن ـ قرابة الثمانين ألف شخص. وآسيا تشهد أكبر عمليات إغاثة في التاريخ البشري. والمشرّدون بالملايين، والقتلى من السواح بالآلاف مما أدى إلى مأتم عالمي كبير. وفي أندونيسا أكدت الحكومة مقتل 40 ألف شخص مع اكتشاف مزيد من الضحايا في غرب جزيرة سومطرا، حيث دمر الطوفان قرى بأكملها، فلا إله إلا الله. وفي سريلانكا بلغ عدد القتلى نحو 22 ألفا على الأقل، وشبّه الناجون موجات المد بحوائط وصل ارتفاعها إلى نحو عشرة أمتار، جرفت في طريقها الأخضر واليابس. أما في الهند فقد تجاوزت حصيلة الطوفان 9000 قتيل، وما زال الآلاف مفقودين، ولا تزال عمليات انتشال الجثث مستمرة. إن أكثر من ثلثي الضحايا من الأطفال الذين جرفتهم المياه رغم محاولات ذويهم حملهم بعيدا عن البحر. وما زالت فرق الإنقاذ تسابق الزمن لانتشال جميع جثث القتلى لمنع انتشار الأوبئة الفتاكة. إن روائح الجثث المتعفنة تنتشر في محيط القرى المنكوبة. وقد ذكر المتخصصون أن هذا الزلزال يعادل في قوته قوة مائة وخمس وسبعين قنبلة ذرية، فلا إله إلا الله.
لقد رأى العالم مناظر مفزعة، لا يتحمل أن ينظر إليها، صور المئات من الناس والمياه يدخل عليهم في بيوتهم وتأخذ الصغير والكبير، فنادق ضخمة على تلكم السواحل كنسها البحر وأغرق كل من فيها. الأم ترمي بطفلها لكي تنجو بنفسها، ومناظر مروعة لا يمكن وصفها.
ومن رحمة الله على البشرية وعلى العالم أن هذا الزلزال حدث في البحر، ولو قدّر حدوثه على اليابسة لفاقت أثاره التدميرية بعشرات المرات.
أيها المسلمون، وهذا الذي حصل لا شك أنه عقوبة من الله على ما يرتكبه العباد من الكفر والمعاصي والمخالفات. إن تلك السواحل التي أغرقها البحر سواحل معروفة بالفساد والعهر والدعارة، ونسبة غير قليلة من الذين أهلكهم الله تعالى من السواح الأجانب من أوربا وأمريكا ومن غيرها قد جعلوا من تلك المناطق مواخير للفساد.
وقد سمعنا من يقول من الجغرافيين والعلمانيين: إن هذه الزلازل ظواهر طبيعية، لها أسباب معروفة لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم، كما جرى ذلك على ألسنة بعض الصحفيين والإعلاميين، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها ولا يعتبرون بها، كما قال أشباههم من قبل عندما أصابهم الكوارث والنكبات: قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ [الأعراف: 95]، فيعتبرون ذلك حالة طبيعية وليست عقوبات لهم، فيستمرون على غيهم وبغيهم، ولا يتوبون من ذنوبهم.
إن الكتاب والسنة ـ يا عباد الله ـ يدلان على أن هذه الزلازل والفيضانات كغيرها من الكوارث، إنما تصيب العباد بسبب ذنوبهم، وكونها تقع لأسباب معروفة لا يخرجها عن كونها مقدّرة من الله سبحانه على العباد لذنوبهم، فهو مسبب الأسباب وخالق السبب والمسبب، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الزمر:62، 63]. فإذا أراد الله شيئًا أوجد سببه ورتب عليه نتيجته، كما قال تعالى: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما يجري حولكم وبينكم، وتوبوا إلى ربكم، وتذكروا قول الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:65-67].
لقد أخبر النبي أن الزلازل ستكثر في آخر الزمان، وأنه بسبب ذنوب الناس ومعاصيهم، فقد روى الإمام أحمد والبخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ويتقارب الزمان وتكثر الزلازل وتظهر الفتن ويكثر الهرج)) ، فاللهم سلم.
لما حدث الخسف بقارون لم يكن السبب أن القشرة الأرضية كانت لينة وهينة، بل السبب أنه عصى الله ورسوله، كما قال الله عنه: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81].
وعندما أخبر النبي أن هذه الأمة سيكون فيها خسف ومسخ وقذف لم يذكر أن السبب هو تصدع سطح الأرض وانشقاقها، إنما السبب هو المعاصي، فقال: ((سيكون في هذه الأمة خسف ومسخ وقذف؛ إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور)). وعندما أخبر عن الرجل الذي خُسف به لم يقل: إن السبب في الخسف هزة أرضية، بل خسف به بسبب تكبره وتجبره، فقال : ((بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة)). وعندما وقع زلزال في المدينة على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فجاء إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وسألها، فماذا قالت له؟! قالت: كثرت الذنوب في المدينة، فماذا قال ؟! جمع الناس وقال لهم: (والله، ما رجفت المدينة إلا بذنب أحدثته أو أحدثتموه، والله لئن عادت لا أساكنكم فيها أبدًا).
أيها المسلمون، لقد جرت سنته تعالى في خلقه أن يعامل عباده حسب ما عملوا؛ إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. وشؤم هذه الذنوب والمعاصي والتي يعاقَب الناس بسببها لا يصيب المباشرين لها فقط، بل يصل حتى للصالحين والمؤمنين، فقد سألت أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها، سألت رسول الله فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)). والخبث كل معصية عُصي الله تعالى بها في البر أو البحر أو في الليل أو النهار، لذلك كان من الواجب علينا جميعًا أن نحذر من ذلك، وأن لا نأمن مكر الله خاصة مع ارتكاب المعاصي، قال الله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
ومن سنته تعالى أنه قد يمهل أقوامًا ويرجئ عذابهم إلى وقت آخر، ويمدّهم مع ذلك بالأموال والبنين، ويوسع عليهم في حياتهم، ويسهل لهم الصعاب، ويمهد لهم سبل المعاش، فيظن الجهال منهم بسنة الله أنهم على خير، وأنهم ناجون غير معاقبين، والحقيقة أن الله يستدرجهم ويملي لهم من حيث لا يتصوّرون، حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]. ووجود الأموال والأولاد وكل ما في الدنيا من مغريات، كل ذلك لا قيمة له عند الله إذا ما كان أصحابها يعصون ربهم، وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى? إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا [سبأ:37]. نعم، إلا من آمن وعمل صالحًا، فالله سبحانه لا يعتبر أحدًا لعظيم جاهه ورئاسته، ولا لغناه وثروته، ولا لحسبه ونسبه، ولا لجميل منظره وصورته وبهائه، إنما المعتبر عنده سبحانه المؤمن الذي يخضع له، كما قال سبحانه: قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77] أي: ما يبالي بكم ولا لكم عنده قدر ولا قيمة لولا دعاؤكم، أي: لولا إيمانكم وعبادتكم.
ولقد أهلك الله عز وجل أممًا وأقوامًا وقرونًا وأجيالاً كانوا أشد منا قوة وأطول أعمارًا وأرغد عيشًا وأكثر أموالاً، فاستأصلهم وأبادهم، ولم يَبق لهم ذكرٌ ولا أثر، وتركوا وراءهم قصورًا مشيدة وآبارًا معطلة وأراضيَ خالية وزروعًا مثمرة ونعمة كانوا فيها فاكهين، فأورث كل ذلك قومًا آخرين، فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالأرْضُ وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ [الدخان:29]، وفي هذا يقول سبحانه: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مَّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6].
ما الذي أغرق قوم نوح بالطوفان؟! وقوم عاد لماذا أرسل عليهم الريح فأصبحوا عبرة للمعتبرين؟! وقوم ثمود لماذا أهلكهم الله بالصحية فماتوا على بكرة أبيهم؟! وقوم لوط لماذا أمر الله جبريل عليه السلام برفع مدنهم إلى أعلى الفضاء ثم جعل عاليها سافلها مع رجمهم بالحجارة من سجيل؟! ولماذا أغرق الله فرعون وقومه في البحر؟! فالأجساد غرقى، والأرواح حرقى، والنار يعرضون عليها صباحًا ومساءً، فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ [القصص:40، 41]، وهكذا باقي الأمم السابقة كقوم شعيب وقارون وقوم تبع وغيرهم، قال جل وعلا: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
إن الله جل وتعالى عاقب كل هؤلاء بسبب الكفر والشرك والذنوب والمعاصي. والمتأمل في أحوال المسلمين اليوم يجد أن لديهم من الشرك والبدع وسائر المعاصي ما الله به عليم. لقد فشا في كثير من مجتمعات المسلمين الربا والزنا، وشربت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات، كثر أكل الحرام وتنوعت الحيل؛ شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات في البنين والبنات، حورب الدين وأهله، وسيم الدعاة والمصلحون أشدّ العذاب والنكال، سُخر منهم واستهزئ بهم، ونال سفلة القوم الترحيب والرفعة وصُدّروا في المجالس، وأصبح قدوة الشباب الفنان فلان والمطرب فلان واللاعب فلان، حين ابتعد الناس عن الطريق المستقيم كثر الكفر والفسوق، وقل الشكر وإرجاع الحقوق، كذب وتزوير، خيانة وخداع، أمر بالمنكر ونهي عن المعروف، وإصرار على الذنوب وعدم التوبة، تبرج وسفور، منع للخير، وإغلاق للمؤسسات الخيرية، وآفة الآفات الحكم بغير شرع الله والتحاكم إليه، والظلم والجور، إلى غير ذلك من الذنوب والآثام التي تؤذن بعذاب الله وعقابه، وكان حقا على الله أن يعاقب من فعل بعض هذه المنكرات، فكيف بها جميعا؟!
إن الأمة حين تغفل عن سنن الله تغرق في شهواتها، وتضل طريقها حتى تقع في مصارع السوء. إنها سنة الله حين تفشو المنكرات وتقوم الحياة على الذنوب والآثام والانحلال الخلقي وفشوّ الدعارة وسلوك مسالك اللهو والترف، حينها ينزل الله العذاب والعقاب.
وإذا كانت كل هذه المصائب تحدث في بلاد المسلمين إلا من رحم الله فهل تستغرب بعد ذلك أن يعاني المسلمون هذه الأيام من الهزائم الحربية على أيدي أعدائهم؟! وهل تستغرب حصول المصائب الأخرى كالفقر والمرض والتخلف والتعرض للفيضانات والسيول والزلازل والخسف وغير ذلك؟! لا تستغرب أبدًا، وصدق الله: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فنسأل الله تعالى أن يرحم ضعفنا، وأن يغفر ذنبنا، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وتوبوا إليه من ذنوبكم قبل أن يحل بكم ما حل بغيركم من العقوبات.
إن ما يحدث في الأرض اليوم من الزلازل المدمرة والفيضانات المروعة والأعاصير القاصفة والحروب الطاحنة والمجاعات المهلكة والأمراض الفتاكة وحوادث المراكب البرية والبحرية والجوية التي يذهب فيها الأعداد الكبيرة من البشر وتسلط قطاع الطرق ومختطفي الطائرات وسطو اللصوص والتفجيرات كل ذلك يحدث بسبب الذنوب والمعاصي، كما قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال تعالى: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأنعام:129].
وإنه يحدث منا من الذنوب والمعاصي ما لا يحصى، مما نتخوف منه نزول العقوبة صباحًا ومساءً، كما قال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النحل:45، 46]. وختامًا فهذه بعض الوقفات مع طوفان آسيا:
الوقفة الأولى: عدم توقع الناس لحدوث هذا الطوفان الذي فاجأ العالم بغتة، لا خبراء الأرصاد، ولا الأجهزة الحساسة، ولا الفلكيون، وفي هذا إشارة إلى ضعف الإنسان وقصور علمه مهما بلغ، وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76].
الوقفة الثانية: أن هذه الدول والتي تسمي نفسها بالدول العظمى والكبرى، والتي منها أمريكا وبعض دول أوربا وإسرائيل، ممن يغترون بقوتهم العسكرية والتقنية والاقتصادية، مما جعلهم يتسلطون على غيرهم ظلمًا وعدوانًا، كما هو حاصل الآن في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من البلاد، كل هؤلاء لو أراد الله جل وتعالى لأهلكهم في لحظات، إما بالأمواج أو بالرياح أو بالأعاصير أو بغيرها من جنود الله عز وجل، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31].
الوقفة الثالثة: أن هذا الزلزال لا يعدّ شيئًا أمام زلزال الآخرة، فماذا يعمل الإنسان هناك؟! وكيف يكون حاله؟! إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [سورة الزلزلة].
إذا كان هذا الزلزال جعل أعدادًا من الناس يخرجون من بيوتهم، لاذوا بالفرار، وتركوا أمهاتهم وآباءهم وأزواجهم وأبناءهم، كل يقول: نفسي نفسي، فانتقل ـ أخي ـ بحسك وشعورك إلى مشهد يوم القيامة في قوله تعالى: فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ امْرِئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس:33- 42].
فنسأل الله جل وتعالى أن يهدينا سواء السبيل...
(1/4065)
وداع رمضان والحث على زكاة الفطر
فقه
الزكاة والصدقة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموفقون والمحرومون في رمضان. 2- دعوة لاغتنام ما بقي من الشهر. 3- يوم العيد يوم فرح وسرور. 4- الحكمة من مشروعية زكاة الفطر. 5- أحكام زكاة الفطر ومقاديرها.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، نحمده سبحانه وتعالى على ما منّ علينا من إعانتنا على أداء الواجبات، ونسأله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يتقبل صيامنا وقيامنا وسائر العبادات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير الدعاة ومرشدهم إلى طريق النجاة, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن نهج نهجهم واقتفى أثرهم إلى أن نلقى رب البريات.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى واعلموا أن شهر رمضان المبارك قد آذن بالرحيل، ولم يبق منه إلا أيام معدودة، مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
ويا سعادة وفوز من اتخذ من رمضان موسمًا لطاعة الله تعالى، فصام نهاره وأحسن صيامه وصانه، وقام ليله فأحسن قيامه، وبتلاوة القرآن زانه، وشكر نعم الله تعالى عليه فلم ينس إخوانه من الضعفاء والمحرومين، فبذل لهم ماله.
ويا لشقاوة من لم ينتفع برمضان، فلم يستفد من صيامه ولا قيامه، وإنما كان شغله الشاغل ما يملأ المعدة من أصناف المطعومات، وما يطفئ روح النفس من الطيش والسباب، وأطلق فيما حرم الله عليه لسانه، وشتان شتان ـ رحمكم الله ـ بين من حظه من رمضان القبول والتوبة الصادقة والغفران ومن كان حظه فيه الخيبة والندامة التعب والخسران.
واسمعوا معي ـ عباد الله ـ ما قاله الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه قال: صعد رسول الله المنبر فقال: ((آمين آمين آمين)) ، فقيل له: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين آمين آمين! فقال : ((أتاني جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد، رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له، قل: آمين، فقلت آمين، ثم قال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت آمين، ثم قال: رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين، فقلت: آمين)). صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فيا عباد الله، أوصي نفسي وإياكم أن نتدارك أنفسنا وخاصة في هذه الأيام القليلة الباقية المحدودة، فعسى أن تكون فيها ليلة القدر، الليلة المباركة التي يكون العمل فيها خيرًا من ألف شهر، وعسى أن تكون التوبة والإقلاع والندم ترقع من الصيام ما انخرق، وعسى للمنقطعين عن ركب المقبولين أن يفوزوا باللحاق، وعسى برحمة من الله أن من استوجب النار أن يعتق من النار فرحمة الله وسعت كل شيء.
فلا تقنطوا ـ عباد الله ـ من رحمة الله تعالى، وبادروا بالتوبة الصادقة النصوح والأعمال الصالحة، واستبشروا بقول نبي الرحمة : ((من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) [1].
وأخلصوا ـ عباد الله ـ في الدعاء، وألحوا عليه جل وعلا وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، فنسأل الله عز وجل أن يختم لنا بصالح الأعمال المرضية، وأن يصلح لنا النية والذرية.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في صلاة التراويح، باب: فضل من قام رمضان وباب: فضل ليلة القدر (2/3251)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (759).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن يوم العيد يوم فرح وسرور بنعمة الله تعالى، فينبغي تعميم السرور على كل أبناء المجتمع المسلم، ولن يفرح المسكين ويسر إذا رأى الآخرين يأكلون ما لذ وطاب وهو لا يجد قوت يومه في يوم عيد المسلمين.
ولحكمة بالغة من الله ولتطهير الصائم اقتضت حكمة الشارع أن يفرض للفقراء والمساكين ما يغنيهم عن الحاجة وذلّ السؤال في يوم الفرح والسرور، مما يؤدي إلى إشاعة المحبة والمودة والسرور في المجتمع الإسلامي وخاصة المساكين وأهل الحاجة.
وإلى جانب هذا الأمر العظيم فهناك حكمة أخرى سامية وهي تتعلق بالصائمين في شهر رمضان، وما عساهم أن يكونوا قد ارتكبوا من ذنب أو وقعوا في إثم من لغو القول ورفث الكلام وصغار الذنوب، فجاءت هذه الزكاة في ختام الشهر لتجبر ما كان فيه من قصور وتستر ما وقع فيه من خلل، ولذا جاء في الحديث عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات [1].
واعلموا ـ رحمكم الله تعالى ـ أن زكاة الفطر لا يشترط فيها ما يشترط في الزكوات الأخرى، فتلك زكاة الأموال، أما هذه فزكاة الأشخاص، لذا فهي واجبة على الذكر والأنثى والحر والعبد والصغير والكبير، كما جاء في الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على الحر والعبد والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، وأن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة [2]. وقال بعض أهل العلم يستحب إخراجها عن الحمل.
ووقت زكاة الفطر يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل يوم عيد بيوم أو يومين أو ثلاثة لما ورد أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. وهي صاع من القوت الغالب في البلد، وتدفع إلى الفقراء والمساكين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لاْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَ?لضَّرَّاء وَ?لْكَـ?ظِمِينَ ?لْغَيْظَ وَ?لْعَـ?فِينَ عَنِ ?لنَّاسِ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
فاللهم نسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تتقبل منا طاعتنا، وأن تعيد علينا هذا الشهر ونحن في عافية في ديننا ودنيانا، وأن تجعلنا من عتقائك من النار يا أرحم الراحمين.
[1] رواه أبو داود في الزكاة، باب: زكاة الفطر (1609)، وابن ماجه في الزكاة باب: صدقة الفطر (1827)، وصححه الألباني في إرواء الغليل (843).
[2] رواه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (2/138)، ومسلم في الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984).
(1/4066)
شهر الله المحرم وصوم عاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وداع عام واستقبال آخر. 2- دعوة لاغتنام العمر قبل انصرامه. 3- فضل صيام عاشوراء وبعض أحكامه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وتحلوا بالعبودية الخالصة لله سبحانه وتعالى، واعلموا أنكم قد استقبلتم عامًا جديدًا وشهرًا مفضلاً عظيمًا، وقد افتتحت لأعمالكم سنة جديدة تحصى عليكم فيها أعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فلتكن أعمالكم في عامكم الجديد مفتتحة بالتقوى والصلاح، ثم الندم والتوبة على زمن انصرم وانقضى في غير طاعة الله ولم نفز فيه بالرضوان.
فليخلص كل منا ـ رحمكم الله ـ نواياه، ولنعزم العزم على أن يكون حظنا في العام الجديد خيرًا من ماضيه بالتقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحات إن شاء الله تعالى، فمن أحسن فليزدَد إحسانًا، ومن أساء فليتب إلى الله تعالى وليزدد عملاً صالحًا وتقوى الله تعالى، وليكرس كل منا جُل جهوده للباقيات الصالحات عند الرب تبارك وتعالى الذي قال في محكم التنزيل: وَكُلَّ إِنْسَـ?نٍ أَلْزَمْنَـ?هُ طَئِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كِتَابًا يَلْقَـ?هُ مَنْشُورًا ?قْرَأْ كَتَـ?بَكَ كَفَى? بِنَفْسِكَ ?لْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَّنِ ?هْتَدَى? فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حَتَّى? نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء:13-15].
فيا عباد الله، تزودوا من العمل الصالح الخالص لوجه الله تعالى قبل أن يختم الكتاب وأنتم عنه لاهون، قد غرتكم الحياة الدنيا فتعلقتم بها ونسيتم أن ابن آدم مهما عاش فقلّ أن يجاوز الثمانين أو التسعين، وقد بين رسول الله أن أعمار أمته ما بين الستين والسبعين، ومهما بلغت من العمر ـ يا ابن آدم ـ من مدة فما أقصرها بالنسبة لعمر الأيام، وبالنسبة لأيام الله التي يعدل فيها كل يوم ألف سنة مما تعدون، فالحياة قصيرة والموت قريب، والله المستعان.
فليغتنم كل منا ـ عباد الله ـ هذه الفرصة المتبقية من حياتنا القصيرة، والتي لا ندري متى يكون ختامها، ولنغتنم هذا الشهر العظيم من العام الجديد بالتوبة واستصلاح أغلاط الماضي والتوبة الصادقة النصوح والعزم على عدم العودة إلى فعل القبيح والندم على فعل المنكرات والإقلاع عما اقترفناه من الذنوب والآثام، فإننا لا ندري هل سنعيش للعام القابل أم أن أسماءنا مع الموتى في الديوان، فالله المستعان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ ?للَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ?لسَّاعَةِ وَيُنَزّلُ ?لْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى ?لأرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ ?للَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الواحد القهار، مدبّر الأمور مصرف الأحوال، رب المشارق والمغارب العزيز الغفار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى الناس كافة بالهدى والرحمة والأنوار، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد: عباد الله، فقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ وأي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: ((أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل, أفضل الصيام بعد شهر رمضان صيام شهر الله المحرم)) [1].
ومن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما قدم رسول الله المدينة رأى اليهود تصوم عاشوراء فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم صالح، نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من عدوهم، وغرق فيه فرعون وقومه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال رسول الله : ((فنحن أحق وأولى بموسى منكم)) ، فصامه رسول الله وأمر بصيامه [2]. وفي رواية قال: حين صام رسول الله يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله : ((فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع)) ، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله [3].
وقد ذكر العلماء أن صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب:
1- صوم ثلاثة أيام: التاسع والعاشر والحادي عشر.
2- صوم التاسع والعاشر.
3- صوم العاشر وحده أو مع إضافة يوم بعده.
والقصد في كل المراتب التقرب لله تعالى والشكر له جل وعلا على نعمة وفضل هذا اليوم العظيم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه، وبصومه التاسع قبله أو الحادي عشر بعده مخالفة لليهود والنصارى كما وردت بعض النصوص في مخالفتهم وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بمخالفتهم، والأمر يقتضي الوجوب والالتزام، مثل قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((قصوا الشوارب وأعفوا اللحى)) ، وفي رواية: ((خالفوا اليهود والنصارى، حفوا الشوارب ووفروا اللحى)). والأمر هنا يقتضي الوجوب والإلزام، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورد عنه في بعض الروايات منها قوله: ((أمرني ربي بإعفاء لحيتي وقص الشارب)). وقد قال بعض أهل العلم بفسق حالق اللحية وأنه لا يؤمّ المصلين إلا إذا كانوا مثله، والله المستعان. وأشد من ذلك وأنكى مَن حلَقَ لحيته وأطال شاربه، فقد خالف مخالفة صريحة تستدعي توبته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فاذكروا الله على نعمه، واشكروه على آلائه، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[1] رواه مسلم في الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163).
[2] رواه البخاري في الصوم، باب: صيام يوم عائشوراء (2/250)، ومسلم في الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء (1130).
[3] رواه مسلم في الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1134).
(1/4067)
صلاة الجماعة
فقه
الصلاة, المساجد
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب صلاة الجماعة على المسلم. 2- الحكمة من صلاة الجماعة وفوائدها. 3- تعويد الصغار على الذهاب للمساجد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الإسلام لم يكتف من المسلم أن يؤدي صلاته منفردًا في عزلة عن المجتمع الإسلامي الذي يعيش فيه، وإنما أوجب عليه إلى جانب فرضية الصلاة أداءها في جماعة المسلمين في بيوت الله حيث ينادى للصلاة والفلاح: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هذه الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، وحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف) [1].
وكان بعض السلف رحمهم الله تعالى يقول: "إذا تخلف أحد منا عن صلاة العشاء أو الفجر اتهمناه بالنفاق".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أتى رسول الله رجل أعمى فقال: يا رسول الله، إني ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله أن يرخص له، فرخص له، فلما ولى دعاه فقال: ((هل تسمع النداء بالصلاة؟)) قال: نعم، قال: ((فأجب)) [2] ، ليس له عذر، فالأمر ما منه بُدّ رغم هذه الأعذار، فويل لأهل زماننا ممن لا يؤديها مع الجماعة تبعًا للراحة والرفاهية والدَعَة، وقد همَّ الرسول أن يحرق على قوم بيوتهم لأنهم يتخلفون عن الجماعات، فليس الأمر من البساطة بمكان، فالتوعد بالإحراق أمر عظيم.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على الصلوات في أوقاتها مع الجماعة في المساجد لتفوزوا بالأجر العظيم المعد لمن حافظ عليها، وتسلموا من الإثم والوزر والخسران المعد لمن ضيعها وأهملها.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الإسلام لم يشرع الصلاة جماعة في المساجد إلا لحِكم بالغة وفوائد جمّة:
منها أن المسجد يضم أهل الحي في كل يوم خمس مرات، فتتلاصق الأبدان، وتتعارف الوجوه، وتتصافح الأيدي، وتتآلف القلوب، وتغفر الذنوب وتتضاعف الحسنات.
ومنها تلك المساواة التي نراها في الصفوف المتراصة في المسجد، الأمير إلى جانب الفقير، والسيد إلى جانب العامل، والخادم إلى جانب الموظف الكبير وهكذا، فليس في جماعة المسجد لائحة تخصص الصف الأول للملوك والأمراء، والثاني لموظفي الدرجة الأولى، وإنما الجميع سواسية، ويفوز بفضل الصفوف الأولى المبكرون الحريصون على الفضل أيًا كانت منزلتهم أو أعمالهم.
ومن تلك الفوائد العظيمة للجماعة أيضًا ما يتعلمه المصلون من طاعة الأمر والانقياد للنظام الشرعي واحترام صاحب الأمر المتمثل هنا بالإمام، فلا ركوع إلا مع الإمام، ولا سجود كذلك، والإنصات أثناء القراءة، وعدم سبقه بالسلام، وقد توعّد النبي من يخرج عن هذا النظام بالخروج عن إنسانيته فقال : ((ألا يخشى من إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار؟!)) أو كما قال.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على أداء الصلاة مع الجماعة في بيوت الله عز وجل التي ذكرها في محكم كتابه حيث قال: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ [النور:36]، والتي قال فيها رسول الله : ((صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة)) [3].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ [البقرة:45].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في المساجد، باب: صلاة الجماعة من سنن الهدى (654).
[2] رواه مسلم في المساجد، باب: يجب إتيان المساجد على من سمع النداء (653).
[3] رواه البخاري في الجماعة، باب: فضل صلاة الجماعة (1/158)، ومسلم في المساجد، باب: فضل صلاة الجماعة (650).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، من يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، إن من علامة إخلاص المرء لدينه دعوته الناس لإقامة الصلاة، وخاصة أهله وأبناؤه ومن استرعاه الله فيهم وسيسأله عنهم، والأخذ على يد المفرط فيها، واستصحاب الأولاد ممن أمر الشارع الحكيم بأمرهم بالصلاة في السن السابعة من السنوات إلى المساجد، لينشؤوا تنشئة صالحة على حب المساجد، فإن الله قد استرعانا إياهم، وهو سائلنا عنهم يوم القيامة، بل هم أنفسهم سيتعلقون بنا يوم لا ينفع مال ولا بنون ويقولون: يا رب، سل هذا: لم ضيعنا؟ ورعايتهم الصحيحة بأمرهم بالاستقامة على دين الله تعالى.
فاتق الله أخي المسلم، واحذر وقوفك بين يدي الله وخصومة الولد والبنت والزوجة إياك، فلا تدع لهم عذرًا في ترك الصلاة أو التهاون بها ومساءلتهم عن أدائها ومتى وأين ومحاسبتهم على ذلك.
واعلم أنك مأمور بذلك بأمر متحتم عليك مِن الذي أوجدك من العدم وأبرزك إلى حيز الوجود المشاهد، وعليك الأخذ على أيديهم بحكمة وشدة وحزم، وتذكر قول الله تبارك وتعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132]، وتذكر أيضًا قول معلم البشرية ومربيها : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) [1].
فاتقوا الله عباد الله، واهتدوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم، ففي ذلك الضمان بالمغفرة والفوز بالرضوان، فكما قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: مفروضًا في الأوقات، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)). وهنا يحرص القارئ والمستمع أن اللفظة المستعملة في الحديث تفيد الأمر، لا كما يقال من بعض الناس: علموا أبناءكم، فلفظ الحديث: ((مروا)).
وليأتمر في نفسه حتى يكون قدوة لأولاده وأهل بيته، وليحثهم على ذلك، ولنحرص على التفريق بينهم في المضاجع، فالأمر يقتضي الوجوب والإلزام والالتزام، فحذار ـ أخي المسلم ـ من مغبة التهاون أو عدم الأخذ بأمر رسول الله ، فتجرّ على نفسك العار والندامة والخسران المبين.
[1] رواه أحمد (2/180، 187)، وأبو داود في الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ (495) من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في الإرواء (247).
(1/4068)
عظم حق الجار
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصية الله ورسوله بالجار. 2- حقوق الجار. 3- الوعيد لمن آذى جاره.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي أمرنا بالبر والصلة والإحسان، أحمده سبحانه وتعالى جعل للجار حقًا على جاره حتى وإن كان من أهل الكفر والفسوق والعصيان، وذلك بدعوة الكافر إلى عبادة الملك الديان، والنصيحة للمسلم بقدر الإمكان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الهادي إلى صراط الله المستقيم بأحسن بيان، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الدين ليس مجرد زعم قائل أو متقوِّل بقوله عقيدة تستقر في ضميره ويخالفها العمل، ولا شعائر تقام دون أن يكون لذلك كله أثره في سلوك الإنسان في كل أعماله وتصرفاته ومجالات حياته، فقد أقام الإسلام قواعد ثابتة للتنظيم العائلي والاجتماعي تحدد علاقات الناس بعضهم ببعض، وترسم لكل فرد في المجتمع حقوقًا وواجبات منبثقة من العقيدة الأساسية التي ينبثق منها كل صالح وصواب في العبادات والتصورات والعلاقات بكل صورها وأشكالها.
ومن جملة تلك الحقوق العظيمة حقوق الجار التي أمر الله بها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، جاءت مؤكدة بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ [النساء:36]، فاسمعوا وعُوا وتدبروا والتزموا.
ويقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) [1] ، إنه لحق عظيم.
ويقسم رسول الله على عدم كمال إيمان من لا يأمن جاره دواهيه وشروره، فيقول: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) [2]. كفى به إثمًا عظيما وحوبًا كبيرًا، نسأل الله السلامة والعافية.
وقال أيضًا: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره )) ، وفي رواية: ((فليحسن إلى جاره)).
اللهم وفقنا إلى الإحسان إلى جيراننا، ونعوذ بك اللهم من أذية الجار والإساءة إليه، وارزقنا اللهم الصبر وعدم التململ إذا بدر علينا من جيراننا شيء، واجعلنا اللهم ممن يكافئ السيّئ بالحسن.
وإن مجال الإحسان إلى الجار ـ يا عباد الله ـ واسع وعظيم يشمل أمورًا عديدة، منها إكرامه والتودد بالهدية والقول اللطيف، ولهذا أوصى رسول الله الصحابي الجليل أبا ذر فقال له: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك منها)) [3]. إنها لوصية عظيمة لها مدلولها وأثرها.
وأوصى نساء المسلمين عامة فقال: ((يا نساء المؤمنات، لا تحقرن جارة لجارتها، ولو فرسن شاة)) [4] أي: ظلفها، فما أقله من عمل، وما أعظمه من أجر.
ومن الإحسان إلى الجار ـ أيها الناس ـ كف الأذى عنه بأي حال من الأحوال، كالنظر إلى أهله، أو التجسس إلى أحاديثه في بيته، أو اقتطاع جزء من أرضه، أو تحريض الأبناء على أبنائه للإضرار بهم، أو رفع المذياع وقت الراحة من النهار أو الليل، أو غير ذلك من أنواع الضرر، فمن فعل شيئًا من ذلك وأمثاله فقد دخل في توعّد رسول الله : ((والله لا يؤمن ـ ثلاثًا ـ من لا يأمن جاره بوائقه)).
ومن الإحسان إلى الجار أن تؤدي حقوقه عليك، ومن تلك الحقوق أن تسلم عليه إذا لقيته، وأن تعوده إذا مرض، وأن تشيعه إذا مات، وتكون لأولاده بعد وفاته كما كان لهم في حياته، كما قال الله تعالى: وَلْيَخْشَ ?لَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضِعَـ?فًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ ?للَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا [النساء:9]، وأن تقف إلى جانبه في السراء والضراء، فإن هذه الحقوق وإن كانت واجبة عليك ـ أيها المسلم ـ تجاه كل الجيران بصفة خاصة وبصفة عامة تجاه كل المسلمين فإنها بحق جيرانك أوجب، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله: خيرهم لجاره)) [5] ، فكن خير جار أخي المسلم.
وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربهما منك بابًا)) [6]. إنه توجيه سام وإرشاد حكيم وعظيم.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على تنفيذ وصية الرسول الكريم بمراعاة حقوق الجيران، وترفعوا عن كل ما يؤذي الجيران ويضرهم، واعلموا أن من السعادة أن يكون الجار صالحًا، فكونوا ذلك الجار الذي يحقق السعادة لجيرانه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاوة: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق)).
اللهم اجعلنا صالحين، وارزقنا جيرانًا صالحين، فالله الله ـ يا عباد الله ـ في حسن الجوار، فالأمر عظيم، والحق كبير، والسعادة في الجار الصالح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ [النساء:36].
وفقنا الله إلى أداء حقوق الجار، وعصمنا الله من أذية الجار، ونفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، وأقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الأدب، باب: الوصية بالجار (7/78)، ومسلم في البر والصلة، باب: الوصية بالجار (2625).
[2] رواه البخاري في الأدب، باب: إثم من لا يأمن جاره بوائقه (7/78)، ومسلم في الإيمان، باب: بيان تحريم إيذاء الجار (16).
[3] رواه مسلم في البر والصلة، باب: الوصية بالجار والإحسان إليه (2625).
[4] رواه البخاري في الأدب، باب: لا تحقرن جارة لجارتها (7/78)، ومسلم في الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بقليل (1030).
[5] أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في حق الجوار (1945) وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وهو في السلسلة الصحيحة (1030).
[6] رواه البخاري في الأدب، باب: حق الجوار في قرب الأبواب (7/79).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه والتابعين وسلم تسليمًا.
أما بعد: فحقوق الجار قد عظم الله من شأنها وعظم من شأنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والموفق من وفق للقيام بحقوق الجار، والمحروم من أخفق في حقوق الجار.
فيا عباد الله، لقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله يشكو جاره، فقال: ((اذهب فاصبر)) ، فأتاه مرتين أو ثلاثًا فقال: ((اذهب فاطرح متاعك بالطريق)) ، ففعل، فجعل الناس يمرون ويسألونه، ويخبرهم خبر جاره، فجعلوا يلعنونه: فعل الله به وفعل، وبعضهم يدعو عليه، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع فإنك لن ترى مني شيئًا تكرهه. إنه رأي من لا ينطق عن الهوى صلوات الله وسلامه عليه.
وإن في هذا الحديث ـ عباد الله ـ درسًا واضحًا يصوّر للمسلم الوعيد الشديد في حق كل جار يؤذي جاره أو يسبب له أي أذى أو مضرة، بطريق أو بيع أو معاملة، فإن من أصول الدين الإسلامي الحنيف أن لا ضرر ولا ضرار.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإْحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
فاذكروا الله على نعمه، واشكروه على آلائه، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون، وأحسنوا إلى جيرانكم، وترفعوا عن الإساءة إليهم، واغرسوا ذلك في نفوس أولادكم، وألزموه زوجاتكم، وحذار من الدخول مع الجيران في دعوى أو خصومة أو مراء أو كلام هراء أو ترهات، والتزم وصية رسول الله صلى الله عليه آله وسلم وما ذكره عن جبريل عليه السلام، والله المستعان.
(1/4069)
عناصر القوة في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, القتال والجهاد
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بأخذ أسباب القوة. 2- قوة العقيدة والعتاد والإعداد. 3- الاستعلاء الإيماني والصدع بالحق. 4- ضرورة تصحيح أخطاء حياتنا. 5- المؤمن القوي خير وأحب على الله من المؤمن الضعيف. 6- التوكل والعزم والتفويض سلاح المؤمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، إن من أهم أسباب المحافظة على العزة التي كتبها الله لعباده المؤمنين الأخذ بعناصر القوة في أشكالها المتعددة، وذلك استجابة لأمر الله القائل في كتابه الكريم: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ [الأنفال:60].
ومن عناصر القوة قوة العقيدة ورسوخ الإيمان بالله جل وعلا وبكل ما جاء عن الله تبارك وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والانقياد الكلي لله ولرسوله في كل ما نأتي ونذر، فإن المسلم إذا تغلغل الإيمان في قلبه أكسبه نشاطًا وحماسًا على تحمل الصعاب ومواجهة الأخطار دون تهَيب، وكما أن العقيدة القوية تضفي على صاحبها قوة تنطبع في سلوكه كله وفي عبادته ومعاملاته وأخلاقه وفي شأنه كله، فإذا تكلم كان واثقًا من قوله، وإذا عمل كان راسخًا في عمله، وإذا توجه كان واضحًا في هدفه، وقلّ ما يعرف التردد أو اليأس إلى نفس المؤمن سبيلاً.
فعليكم ـ يا عباد الله ـ بتقوية الإيمان في نفوسكم ونفوس أبنائكم؛ لتضمنوا العزة التي كتبها لكم ربكم إن كنتم مؤمنين، فالعقيدة الصحيحة هي أساس الفلاح في الدنيا والآخرة والنجاح في الأمور كلها والعاقبة الحميدة والله المستعان.
ومن عناصر القوة ـ أيها الناس ـ قوّة العدة والعتاد والتدريب على فنون الجهاد باللسان والمال والعتاد والأنفس والتدرب على السلاح والرماية بالطرق المشروعة، وبذلك نرضي الرب تبارك وتعالى، ونذُبُّ عن ديننا، ونحمي أنفسنا وأهلينا وديارنا، وبذلك نضمن العز والنصر في معركة الحق مع الباطل، قال تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله وهو على المنبر يقول: (( وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي)) [1]. والرمي هذا يشمل كل رمي في كل زمان ومكان بحسبه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أطلق الرمي ولم يعين ما يرمى به، فيتحرك المسلم حسب ما يقتضيه الحال والمكان.
فاتقوا الله عباد الله، وامتثلوا لأمر الله ورسوله بإعداد القوة اللازمة لرد كيد أعداء الإسلام في نحورهم، ولتعلموا أن الإسلام ليس ترفًا ورخاوة أو لذة أو جمعًا لحطام الدنيا، وإنما الإسلام دين ودولة ومصحف وسيف ومحراب وميدان للجهاد في سبيل الله بكل وسائل القوة بعد التوكل والاعتماد على الله جل وعلا وإخلاص النية لله رب العالمين.
ومن عناصر القوة ـ أيها المسلمون ـ أن يكون المسلم صريحًا جريئًا يواجه الناس بقلب مفتوح ومبادئ واضحة، فلا يصانع على حساب الحق بما يغضّ من كرامته وكرامة إخوانه المسلمين، فلا يوهن فيهم ولا يفتُّ في عضدهم ولا يهين كرامتهم ولا يحطم معنوياتهم ولا يحطّ من قدرهم ولا يحيد عن هذه الصراحة أبدًا، فقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنبثق من هذا المبدأ، فعلى المسلم أن لا يتهيب كبيرًا ولا يستحي من قريب أو بعيد ولا تأخذه في الله لومة لائم.
ولذلك كره الإسلام أن يضعف الإنسان أمام العصاة من الكبراء فيناديهم بألفاظ التكريم، قال رسول الله : ((إذا قال الرجل للمنافق: يا سيد فقد أغضب ربه)) [2].
فمن الجريمة ـ عباد الله ـ أن تنتهك حرمات الإسلام ثم لا يجد من ينتهكها من يحقِّره، بل يجد من يمتدحه ويبجله، قال الله تعالى: وَمَن يُهِنِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ?للَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء [الحج:18].
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا بكل أسباب القوة لتتحقق لكم الحياة الطيبة العزيزة الكريمة في الدنيا وفي الآخرة، واعلموا أن الظفر بالعزة ليس حلمًا معسولا نصبو إليه ونحن نعيش حياة الترف والخلاعة والفجور، نضيع نهارنا في ذرع الأسواق وغشيان المعارض والرفاهية الزائفة، ونسهر ليلنا عكوفًا على الأفلام الخليعة من فيديو وتلفزيون وسينما، وإنما الظفر بالعزة يكون بالهدف الأسمى للمسلم، وذلك يتطلب تضحيات جسيمة لا يقدر عليها إلا الرجال من المؤمنين الصادقين المتوكلين على ربهم بعد توفيق الله لهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَءاخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فِى سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:59، 60]، وقال أيضًا: ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ [هود:52].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه (1917).
[2] أخرجه الحاكم في المستدرك (4/311) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على محمد النبي الأمي، وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء لا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) [1] ، يعني: توكل عليه واجعل تفويض الأمور كلها إليه جل وعلا.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإسلام يكره للمسلم أن يكون ضعيفًا عاجزًا كسولاً مترددًا في أموره حائرًا في فكره تائهًا في اتجاهه، وبين لنا رسول الله أن ذلك من إيحاء الشيطان في النفس ليجعلها في يأس وقنوط على ما فات، فيذكرها دومًا بالهزائم والأحزان، وتَكرار كلمة (لو) و(ليت) ـ كما بين لنا ـ ليس من خلُق الإنسان المسلم، فالمسلم يجب أن يكون دائمًا وثيق العزم، والله يثني على أولى العزم من الرسل.
وليكن المسلم مستجمع النية على إدراك أهدافه بالوسائل الصحيحة، باذلاً كل جهوده في بلوغ مأربه، متوكلاً على الله حقّ التوكل، معتقدًا أن النتائج من عند الله تعالى، وأن الأسباب ليست وحدها كافية في إحراز النتائج، ثم إن قدر الله له تحقيق ما أراد فيقوم بالشكر لله تعالى ويكون ذلك خيرًا له، وإن قدر له غير ذلك فيصبر ويحتسب الأجر من الله تعالى ويعلم أن لله من الحكمة ما لا تدركه العقول ولا يخطر ببال، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ الآية [يوسف:21].
ويعقل المؤمن قول الله تعالى: وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ بَصِيرٌ بِ?لْعِبَادِ [غافر:44]، ويعقل كما قال الله تعالى عن نبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حسبي الله، قال الله تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
وفقني الله وإياكم وجميع المسلمين للعمل بمقتضى كتابه وسنة نبيه ، ونعوذ بالله من الهم والحزن، ومن العجز والكسل، ومن الجبن والبخل، ومن غلبة الدين وقهر الرجال. وصلّ اللهم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] رواه مسلم في القدر، باب: في الأمر بالقوة وترك العجز (2664).
(1/4070)
فتنة المال
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كسب المال من طرق خبيثة. 2- التحذير من تعلق القلب بالمال وجمعه. 3- الحرص والطمع من صفات الإنسان. 4- زهد النبي. 5- طالب المال منهوم لا يشبع.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الملك الكريم الرزاق، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، ويمتحن بالمال والأولاد. سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم، أحمده وأشكره على نعمائه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن، احذروا ـ يا عباد الله ـ كل ما يصدكم عن الله من مال وأهل وولد، واذكروا دومًا قول الله تبارك وتعالى: وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:28].
فالمال والأولاد ـ عباد الله ـ اختبار وابتلاء من الله سبحانه وتعالى لعباده، وليس المال كما يعتقد البعض مقياس السعادة والنجاح، وليس عنوان الوجاهة والفلاح، كما أنه ليس غاية، فليس كل من أعطي المال سعيدًا، ولا كل من حرمه شقيًا.
فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن فتنة المال من الفتن الكبيرة التي ابتلي بها كثير من الناس، وقلَّ من يسلم منها، بل قلَّ من يتحرى في أسباب الحصول على المال أمن حرام هو أم من الحلال، وذلك مصداق ما أخبر به رسول الله حيث قال: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه من المال: أمن الحلال، أم من الحرام)) [1].
فيا عباد الله، إن مما يندى له الجبين ويبعث أشد الأسى في قلوب المؤمنين ما يرى ويشاهد من المشاكل والنزاع الذي يؤدي أغلب الأحيان إلى السب والشتم والاقتتال بين المسلم وأخيه المسلم، ورسول الله يقول: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) الحديث، وكل ذلك بسبب عرض زائل ودنيا فانية تعلقت بها القلوب في أيام طغت فيها المادة على كل القيم، فأصبح همُّ الإنسان كسب المال بأي وجه من الوجوه متخذًا وسيلة الغش والحيَل والطرق الملتوية والكذب والرشوة للحصول على المال، وكأنه خلق للمال والدنيا فقط، متناسيًا الغاية التي خلق من أجلها، وإن المال وسيلة وليس غاية، كما أنه بداية وليس نهاية، فالمال مال الله، والحساب غدًا عند الله.
فالحذر الحذر ـ عباد الله ـ من الانزلاق في فتنة المال الحرام وشبه الحرام، فتصرفوا عمركم في جمعه، فيوردكم أتعس الموارد المهلكة، فتخسرون دينكم من أجل دنياكم كما أخبر رسول الله حيث قال: ((بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)) [2] ، عياذًا بك يا رب.
إنها فتن مظلمة تعمي الأبصار والقلوب، لا نور فيها، تؤثر في عقيدة الإنسان تأثيرًا بالغًا ما بين عشية وضحاها، فاحذروا ـ عباد الله ـ المال الحرام وحبّ الدنيا وسيطرة المادة على النفوس، فإنها أشد فتكًا بالذمم والأعراض والكرامة وسائر القيم الإسلامية، فكم نشاهد من فضيلة ضاعت بسبب المال، وكم من كرامة ديست وخلق مثالي قد وضع على حطام الدنيا الزائل.
وقد شبه رسولنا الكريم الحرص على المال والشرف بأنه يفسد الدين أكثر مما يفسد الذئب الجائع إذا أرسل في قطيع الغنم فقال: ((ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)) [3].
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن كسب المال بالحلال والتمتع بطيبات الدنيا التي أحلها الله ليس ذلك بحرام، بل إن طلب المعيشة فرض على العباد من أجل التقوي على طاعة الله تعالى، ولكن ذلك يصبح حرامًا إذا كان شاغلاً عن طاعة الله والالتزام بسنة رسوله والاستعداد للدار الأخرى.
فإن الحرص طبيعة في الإنسان كما قال رسول الله في الحديث الصحيح من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يهرم ابن آدم وتشبّ معه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر)) [4] ، اللهم ثبتنا على الحق وألحقنا بالصالحين.
وقال رسول الله : ((لو أن لابن آدم مثل واد من ذهب مالاً لأحب أن يكون إليه مثله، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)) [5] ، اللهم تب علينا أجمعين وتوفنا مسلمين.
فيا أيها الناس، رويدكم في الدنيا، فإن حب المال رأس كل خطيئة، والتكالب على الدنيا أساس كل بلية، وما سميت هذه الدنيا إلا لأنها دنية، فاجعلوا ـ عباد الله ـ جل همكم الدار الآخرة، ولا تنسوا نصيبكم من الدنيا، واعلموا أن أرزاقكم مقسومة، وآجالكم محتومة، وأن ربكم جل شأنه طلب منكم في كتابه الكريم بقوله تعالى: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لاْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا [القصص:77]، كما بين لنا قيمة المال عنده فقال: وَمَا أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ بِ?لَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى? إِلاَّ مَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء ?لضّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى ?لْغُرُفَـ?تِ ءامِنُونَ [سبأ:37].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في البيوع، باب: من لم يبال من حيث كسب المال (3/6).
[2] رواه مسلم في الإيمان، باب: الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (118).
[3] رواه أحمد (3/460)، والترمذي في الزهد، باب: حرص المرء على المال والشرف لدينه (2377).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر (7/171)، ومسلم في الزكاة، باب: الحرص على الدنيا (1047).
[5] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: ما يتقى من فتنة المال (7/175)، ومسلم في الزكاة، باب: لو أن لابن آدم واديان لابتغى ثالثًا (1049).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ما شبع آل محمد من طعام ثلاثة أيام تباعًا حتى قبض [1] أي: رسول الله. وكانت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها تقول لعروة: والله يا ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقد في أبيات رسول الله نار، قال: قلت: يا خالة، فما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء [2]. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله يبيت وأهله الليالي المتتابعة طاوين لا يجدون العشاء [3].
فيا أيها الناس، هكذا كان نبيكم ومرشدكم يعيش زاهدًا في الدنيا لم يشبع منها، وليس ذلك لعدم مقدرته وعجزه، فقد كان باستطاعته عليه الصلاة والسلام أن يكون من أغنى الأغنياء، ويضاهي بل ويفوق ويعلو في دنياه ملك كسرى وقيصر، ولكنه لم يكن يريد ذلك رغبة منه، لا لعدم قدرته على ذلك، ولا أدل على ما أقول من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها المتقدم أن رسول الله وأهل بيته كان عيشهم الأسودان التمر والماء، فصلوات الله وسلامه عليه.
فيا عباد الله، اتقوا الله، وازهدوا في الدنيا الفانية متأسين بنبيكم وصحابته، كما ورد: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس)) ، واعلموا أن طالب المال كشارب ماء البحر، كلما زاد شربًا منه زاد عطشًا حتى يقتله ويهلكه.
وهذا مثل من يأخذ المال بغير حقه بأيّ وجه من الوجوه المحرمة، فلا يقنع منه بقليل ولا كثير، فيصاب بالظمأ الدائم إليه، ويستمرئ الحرام حتى يقع فيه، ويقول رسول الله : ((إن روح القدس نفث في روعي أن لا تموت نفس حتى تستوفي رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)) ، وفي رواية: ((فإن رزق الله لا يطلب بالحرام)) ، فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.
وفيما ورد عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال في أبياته:
إنّ لله عبادًا فطنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيّ وطنا
جعلوها لُجة واتَّخذوا صالِح الأعمال فيها سفنا
ويقول الإمام الذهبي صاحب كتاب الكبائر رحمه الله:
أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما هجدوا وناموا
لقد خلقوا لأمر لو رأيتهم عيون قلوبهم ماتوا وهاموا
مَمات ثُمّ قبْر ثُمّ حشر وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مَخافته وصاموا
ونَحن إذا أمرنا أو نهينا كأهل الكهف أيقاظ نيام
اللهم صل وبارك على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا، اللهم وفقنا للقناعة بالحلال القليل من هذه الدنيا، وجنبنا الحرام، وارزقنا التقوى والاستعداد ليوم الرحيل...
[1] رواه البخاري في الأطعمة، باب: ما كان النبي وأصحابه يأكلون (6/204)، ومسلم في الزهد (2976).
[2] رواه البخاري في الرقاق، باب: كيف كان عيش النبي وأصحابه وتخليهم عن الدنيا؟ (7/179)، ومسلم في الزهد (2970).
[3] رواه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في معيشة النبي (2361)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
(1/4071)
مكارم الأخلاق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الشريعة بتنمية الأخلاق الحسنة. 2- ارتباط الأخلاق بالإيمان. 3- التهاون في المعاملة مع الناس سبب الهلاك والإفلاس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الغاية من العبادات كلها هي توحيد الله جل وعلا وإفراده بالعبادة وحده لا شريك له، توحيد الله الذي دعت إليه جميع الأنبياء والرسل، وكذلك تهذيب سلوك الإنسان وخلقه تهذيبًا كريمًا يصون الحياة البشرية ويعلي من شأنها، فالصلاة عندما أمر الله بها أبان لنا الحكمة من إقامتها فقال: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، فحقيقة الصلاة ـ يا عباد الله ـ الإبعاد عن الرذائل، والتطهر من سوء القول وسوء العمل.
وكذلك الزكاة من أهدافها السامية غرس مشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد الإلفة والمحبة بين أفراد المجتمع، والوصول به إلى الطهارة في النفس والمال والمجتمع، كما قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
وكذلك الصوم من أهدافه النبيلة تهذيب النفس وتخليصها من شهوتها ونزواتها وترك جميع الطبائع السيئة، ولهذا المعنى أشار النبي : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [1] ، وقال أيضًا: ((الصيام جنة ـ أي: وقاية ـ ، فإذا كان أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم)) [2].
أما الحج فهو رحلة طيبة مليئة بالمعاني الخلُقية، فهناك لا يجوز في الحج رفث ولا فسوق ولا جدال، وإنما تزوّد بالأعمال الصالحة والخلق القويم والتقوى، كما قال سبحانه وتعالى: ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:197].
وهكذا كل العبادات، وأعمال الإنسان كلها عبادة ـ يا عباد الله ـ إذا قصد بها الإنسان وجه الله تبارك وتعالى وكانت موافقة لسنة النبي ، ولذلك بين لنا رسول الله كثيرًا من الأعمال التي تنمُّ عن سلوك وخلق طيب ورغّب فيها واعتبرها صدقة من الصدقات حيث قال: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وإماطتك الأذى والشوك والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة، وبصرك للرجل الرديء البصر لك صدقة)) [3] ، أعمال جليلة نسأل الله تعالى أن يوفقنا لها.
وهكذا ـ عباد الله ـ تلاحظون معي ارتباط الأخلاق الحميدة والمزايا الرفيعة بالعبادات الصحيحة ارتباطًا وثيقًا، بل هو أساس الصلاح في الدنيا والنجاة في الآخرة، فإن الإيمان القوي ينشئ عند صاحبه خلقًا قويًا، كما أن ضعف الأخلاق وانهيارها دليل قاطع على ضعف الإيمان، ولهذا أشار رسول الله بقوله: ((إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون)) [4]. وكان يقول: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) [5]. اللهم ارزقنا ووفقنا إلى حسن الخلق، اللهم جنبنا الفحش والكلام البذيء.
فاتقوا الله عباد الله، واستقيموا على نهج الهدى، فمدار السعادة في الدارين دين قويم وخلق متين، ولهذا كانت الغاية من بعثته إتمام مكارم الأخلاق كما روى مالك بن أنس رحمه الله أنه بلغه أن رسول الله قال: ((بعثت لأتمم حسن الأخلاق)) [6]. فعلى المسلم الذي ينشد الفضيلة أن يترفع عن ترهات الكلام وسفاسف الأمور، ويتحلى بحسن الخلق، ويجالس الأخيار، فالمرء يعرف من جليسه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، تِلْكَ ?لدَّارُ ?لآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى ?لأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الصوم، باب: من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (2/228).
[2] رواه البخاري في الصوم، باب: هل يقول إني صائم إذا شتم؟ (2/228)، ومسلم في الصيام، باب: حفظ اللسان للصائم (1151).
[3] رواه الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في صنائع المعروف (1957).
[4] رواه الترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في معاني الأخلاق (2019).
[5] رواه أبو داود في الأدب، باب: حسن الخلق (4799)، والترمذي في البر والصلة، باب: ما جاء في حسن الخلق (2003).
[6] الموطأ (2/904).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى محاسن الأخلاق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من دعا إلى الاستقامة والهدى بأقواله وأفعاله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد صح في الحديث أن رسول الله سأل أصحابه يومًا فقال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: ((إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم يطرح في النار)) [1].
ذلكم ـ يا عباد الله ـ المفلس الحقيقي، من يأتي ربه يوم القيامة وقد صلى وصام وزكى وأدى ما عليه من العبادات المطلوبة، وقد ظهر أمام الناس بحرصه على أدائها، ولكنه لم يرع حقوقها، وارتكب أعمالاً يأباها الخلُق الكريم والإيمان الحق، وفاتته الغاية الأساسية من أداء تلك العبادات ألا وهي تزكية نفسه ونقاوتها وتهذيب صلته ومسلكه بالله ثم الناس، وإلا فما قيمة عبادة بلا خلق؟! وما قيمة الانتساب إلى الإسلام مع الإفساد في الأرض؟! ولهذا لما قيل لرسول الله : إن فلانة تذكر من كثرة صلاتها وصيامها صدقتها غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: ((هي في النار)) [2].
ومن أجل تقرير هذه المبادئ الواضحة من صلة الإيمان بالخلق القويم ومتانة الأواصر التي تربط الأخلاق بالدين يقول النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه: ((ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وحج واعتمر وقال إني مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان)) [3].
أعاذني الله وإياكم من سوء الأخلاق، وجعلنا من عباده المؤمنين الذين يحافظون على مكارم الأخلاق.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت, وجنبنا سيئ الأخلاق لا يجنب سيئها إلا أنت، اللهم كما زينت خَلقَنا فزين خُلُقنا، اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص والصواب في القول والاعتقاد والعمل، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم...
[1] رواه مسلم في البر، باب: تحريم الظلم (2581).
[2] رواه أحمد (2/440) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال أحمد شاكر: "سنده صحيح".
[3] رواه مسلم في الإيمان، باب: بيان خصال المنافق (59).
(1/4072)
من أسرار شهر رمضان
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الصوم, محاسن الشريعة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرائض الله كلها حِكم وفوائد. 2- فوائد الصوم وحكمه. 3- التحذير من التفريط في شهر رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله بديع السموات والأرض، يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وهو على كل شيء قدير، رفع من شأن بعض الأزمنة على بعض، وفاوت فيما بينها للحصول على الخير والثواب والأجر، واقتضت إرادته وحكمته جل شأنه تكريم النوع البشري لحكمة أرادها الله جل وعلا، وسخر الكائنات له، وجعله خليفة في الأرض ليعمرها بطاعته، وميزه بالعقل، وطلب منه التدبر في ملكوت السماوات والأرض ليهتدي إلى خالق الكائنات، الرزاق الذي يُطعِم ولا يطعم، وهو العليم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له السميع البصير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المصير.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله جل وعلا، واعلموا أن الله فرض علينا ـ معشر المسلمين ـ صيام شهر رمضان لحكم بالغة نعرف منها ما نعرف، ونجهل منها ما نجهل، فعلينا أن نتأمل حكمة الله من وراء هذا الجوع العطش والحرمان طيلة النهار في شهر رمضان المبارك، لنحقق بذلك الهدف الذي فرض علينا الصيام من أجله في تلك العبادة السنوية، قال الله تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185].
عباد الله، إن من بعض أسرار فرض الصيام علينا أن نتحرّر من سلطان الغريزة، ونتغلب على نزعة الشهوات، فننطلق من سجن الجسد حتى نسمو بروحنا البشرية إلى حيث أراد الله جل وعلا لنا رحمة ومغفرة واستجابة دعاء ومضاعفة الحسنات ومحو السيئات.
ومن أسرار الصوم تقوية الإرادة بالصبر، فالصائم يجوع وأمامه أشهى الغذاء، ويعطش وبين يديه بارد الشراب والماء، ويعفّ وبجانبه زوجته بلا رقيب عليه إلا الله تعالى، وهكذا يكون إعداد المؤمن الصابر المرابط المجاهد الذي يتحمل الشظف والجوع والحرمان المؤقت لنيل المثوبة والأجر والغفران.
ومن حكم الصوم أيضًا أنه يعرف المرء مقدار نعم الله تعالى عليه، لأن الإنسان إذا تكررت عليه النعم قلّ شعوره بها، ولذلك قيل: وبضدها تتميز الأشياء، وبمعرفة هذه النعم نشعر بجوع الجائعين وبؤس البائسين الذين لا يجدون ما يسدون به جوعة بطون صغارهم.
وفي الصوم ـ قبل كل هذا ـ تحقيق كمال العبودية لرب الخلق أجمعين وحده لا شريك له، وهذه الحكمة السامية عامل مشترك في كل العبادات، وهي الهدف الأسمى من خلق الإنسان كما قال الله جل ذكره: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
ومظهر العبودية في الصوم يظهر جليًا باستسلام المرء لأمر الله، فهو يجوع ويظمأ ويمتنع عن زوجته والأسباب متوفرة أمامه لا يمنعه منها إلا حب الله والرغبة في رضاه، ولهذا نسب الله الصيام إليه، وتولى جزاء الصائمين جزاء يفوق العد والحصر، إذ لا يعلم قدر جزاء الصوم إلا الذي فرضه كما يروي رسول الله عن ربه تعالى، فقال في الحديث القدسي: ((كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به)) [1] ، وفي رواية أخرى ((والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، فالصيام لي، وأنا أجزي به)) [2].
ذلكم ـ يا عباد الله ـ هو الصوم في الإسلام، لم يشرعه الله تعذيبًا للبشر ولا انتقامًا، بل كيف يكون ذلك وقد ختَم جل شأنه آية الصوم بقوله: يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185]، وحقيقة الصيام رحمة بالعباد ولطف بهم وعدل فيهم.
فيا عباد الله، تلكم بعض من حِكم الصيام، ينبغي علينا أن نرعاها حقّ رعايتها، وأن نضعها نصب أعيننا في صومنا؛ حتى يكون صومًا يحقّق مراد الله ويفي بالغرض المقصود منه، وهو الشعور والإحساس بالخوف والوجل من الله تعالى كما قال الله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الصوم، باب: فضل الصوم (2/226)، ومسلم في الصيام، باب: جامع الصيام (1151).
[2] رواه مالك في الصيام، باب: جامع الصيام (1/310).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتفضل على عباده بالنعم والخيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن من أعظم المصائب على الإنسان تضييع أوقاته في معصية الله تعالى في أيام وليالي شهر رمضان، وأن تفوت أوقاته فتذهب بلا فائدة، لأن ضياع الوقت لا يوازيه شيء آخر مهما كان، فكل شيء يمكن تعويضه بالنصيحة والرشد والدلالة والحيلة إلا الوقت، فإذا ذهبت ساعة من العمر دون أن يكتسب الإنسان فيها فائدة فإنه لا يتمكن من استردادها مهما حاول، ولو بذل من أجل ذلك كل التضحيات، ومن أجل هذا قال معلم البشرية وقائدها : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [1] ، وقال أيضًا: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع))، وذكر منها: ((عن عمره: فيم أفناه؟)) ، وفي رواية أخرى من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس)) ، وذكر منها: ((عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟)).
فيا عباد الله، هذا شهر رمضان قد أخذ في الرحيل والنقصان فانتصف، فمن منكم حاسب نفسه وأنصف؟! من منكم أعد الجواب غدًا للموقف؟!
فبادروا ـ رحمكم الله ـ إلى اغتنام هذا الباقي من الوقت الثمين بالتقرب إلى المولى الكريم بصالح الأعمال وتلاوة القرآن وأداء الفرائض وملازمة السنن والإخلاص لله في القول والعمل، حتى إذا ما جاءت لحظة الرحيل كنا على خير حال والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل، اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدًا.
[1] أخرجه الحاكم عنهما (4/306) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الجامع (1088).
(1/4073)
من أسرار مناسك الحج
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحج والعمرة, محاسن الشريعة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج خامس أركان الإسلام. 2- مكة بلد الله الحرام الأمين. 3- المساواة بين المسلمين في جنبات المشاعر. 4- الوحدة الإسلامية في الحج. 5- تبادل المنافع في الحج. 6- اغتنام الأيام العشر من ذي الحجة. 7- فضل يوم عرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، نصب أعلام هذا الدين، فمن تمسك به صادقًا مخلصًا أعزه الله ورفعه، ومن حاد عنه أذله وأخزاه ووضعه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وجعلنا الله من أتباعهم، إنه على كل شيء قدير، فهو نعم المولى ونعم النصير.
أما بعد: عباد الله، إنكم تعيشون الآن في أشهر الحج التي قال الله تعالى فيها: ?لْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـ?تٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ?للَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:197].
والحج ـ عباد الله ـ هو أحد أركان الإسلام الخمسة الأساسية التي بني عليها الإسلام، وهو من أوضح العبادات أثرًا في حياة المسلمين أفرادًا وشعوبًا، وكيف لا يكون كذلك والله سبحانه وتعالى يقول: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ [الحج:27، 28]؟!
ليشهد الناس منافع لهم في بلد المقدسات ومتنزَّل الرحمات ومهبط الوحي، بلد أمين آمن عظّم الله من شأنه وحمى حماه، وأقسم به تبارك وتعالى، ولله أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، أما المخلوق فليس له أن يقسم إلا بالله جل وعلا، وهو البلد الأمين الذي أقسم الله به في القرآن الكريم، وأضفى عليه الأمن وحمى حماه، وجعل فيه بيته المعظم لإقامة شعائر الدين، وليكون قبلة المسلمين إلى يوم الدين، كما قال الله تعالى: وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
هذا البلد الأمين يلتقي فيه المسلمون من مختلف الأقطار وشتى الطبقات، وقد ساوى الإسلام بينهم بالحج، فتذوب بذلك كل الفوارق، وتضمحل الشخصيات، فلا يشمخ شريف بشرفه، ولا يتعالى زعيم بزعامته، والكل يلبس ذلك اللباس البسيط الموحد الذي هو أشبه ما يكون بأكفان الموتى، يلبسه الملك والأمير، كما يلبسه الغني والفقير، قد وحدتهم رابطة العقيدة في الشعائر والهدف الواحد، فلا إقليمية، ولا عنصرية، ولا قبلية، ولا قومية، ولا عصبية للونٍ أو جنس أو طبقة، الكل يعيش في أمان وسلام فريد من نوعه، حتى إنه شمل الطير في الجو والصيد في البر والنبات في الأرض، ما دام في بلد الله الحرام الذي جعله الله تعالى مثابة للناس وأمنا، وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِنًا [آل عمران:97]، أمان كامل من كل شيء.
ومن أجل تحقيق هذه الوحدة الإسلامية العظيمة السامية الرفيعة والتي تذوب فيها كل الفوارق وقف رسول الله في أيام التشريق يخطب الناس ويقول: ((يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى)) [1] ، ويقول الله تبارك وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، فالمفاضلة والتفاضل بالتقوى وحدها.
عباد الله، هذه ثمرة من ثمار الحج، والثمرة الأخرى تظهر بذلك التجمع الكبير في مؤتمر عالمي يضم أناسًا شتى، من شتى بقاع الأرض وقارات الدنيا الخمس، فيلتقي رجال العلم والسياسة والإصلاح والدعوة والخاصة والعامة مع بعضهم على هدف واحد، ولو أنهم عقلوا هذا المعنى جيدًا لبلغوا الأهداف وحققوا الآمال بالتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله.
ومن الثمار العظيمة للحج ـ يا عباد الله ـ فرصة تبادل المنافع التجارية على نطاق واسع بين المسلمين، وقد كان بعض المسلمين يتحرج من الاتجار في موسم الحج، فسألوا رسول الله عن ذلك، فنزل قول الله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ [البقرة:198].
عباد الله، هذه بعض الثمار التي يجنيها المسلم في موسم الحج العظيم إلى جانب المقصد الأول من العبادات كلها، ألا وهو توحيد الله عز وجل والامتثال لله جل وعلا والوفاء بحقه تبارك وتعالى، ولتعلموا ـ أيها الإخوة المسلمون ـ أن كل تجمعات الدنيا مهما بلغت في سمو الأهداف وكثرة العدد لن تبلغ هدف هذا المؤتمر العالمي الإسلامي، فواجب على كل من سعد بحضور هذا المؤتمر أن يشكر الله على فضله، ويثوب إلى رشده، ويقلع عن غيه، فيتوب إلى الله توبة نصوحًا خالية من التسويف والتأويلات والطرق الملتويات، ويفتح صفحات جديدة في عقيدة سليمة ليخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته)) [2]. الله أكبر يا عباد الله، إنها ـ والله ـ لفرصة ثمينة وعظيمة، نسأل الله جل وعلا أن يرزقنا بفضله ذلك.
أقول هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
[1] رواه أحمد (5/411).
[2] رواه البخاري في الحج، باب: وجوب العمرة وفضلها (2/198)، ومسلم في الحج، باب: فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، صاحب المقام المحمود والقدر العظيم، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، فإن من رحمة الله تعالى ومنَّته على عباده أن جعل لنا موسم العشر من ذي الحجة ليشترك به كل الناس من حاجٍّ ومقيم، فمن عجز عن الحج انكبّ في العشر على عمل صالح يعمله في بيته يكون له به فضل أكثر من الجهاد الذي هو أفضل من الحج، فقد روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام))، فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) [1].
عباد الله، اتقوا الله وأكثروا من العبادات كلها في أيام العشر من ذي الحجة، كذكر الله عز وجل والصلاة والصيام والصدقة، فإن السلف رضوان الله عليهم كان يعظمون ثلاثة أعشار: عشر ذي الحجة، والعشر الأواخر من رمضان، والعشر الأول من شهر الله المحرم.
ومن أيام العشر ـ عباد الله ـ يوم عرفة، وهو عيد أهل الموقف، وفيه أكمل الله عز وجل للمسلمين دينهم فنزلت الآية الكريمة: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
ويوم عرفة يوم شرفه الله وعرفه وجعله الله جل وعلا يوم مغفرة للذنوب والتجاوز عنها والعتق من النار والمباهاة بأهل الموقف، يتجلى فيه الله تبارك وتعالى ويقول: انصرفوا قد رضيت عنكم وأرضيتكم، فيستحب صيامه لأهل الأمصار، كما يستحب الإفطار لأهل الموقف، فهم ضيوف الرحمن؛ لأن النبي وصحبه في حجة الوداع لم يصوموا، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه بعد الظهر يوم عرفة كان مستقبلاً القبلة على ناقته القصواء يذكر الله جل وعلا ويدعو حتى غربت الشمس، وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((خير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) ، فما رآه الصحابة اشتغل بأكل ولا شرب ولا نوم حتى ظنوا أنه صائم، فرفعوا إليه بأبي وأمي صلى الله عليه وآله وسلم إناء فيه ماء فشرب. فليكن لك ـ أيها الحاج ـ القدوة من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال المصطفى : ((صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي بعده والسنة التي قبله)) [2].
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، وأقم الصلاة.
[1] رواه البخاري في العيدين،باب: فضل العمل أيام التشريق (2/7).
[2] أخرجه مسلم في الصيام، باب: استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة (1162).
(1/4074)
من هدي خطبة حجة الوداع
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص خطبة حجة الوداع. 2- اشتمال هذه الخطبة على قواعد الدين وأسس المجتمع الإسلامي. 3- حرمة الدماء والأموال والأعراض. 4- إبطال الربا. 5- الوصية بالنساء. 6- الاعتصام بهدي الكتاب والسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، لقد صح عن رسول الله أنه خطب الناس خطبته المشهورة في حجة الوداع فقال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعًا في بني سعد فقتلته هذيل ـ، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع رِبانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلّوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قائلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت، فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ، ثلاث مرات [1].
عباد الله، تلك هي الخطبة العظيمة السامية رفيعة المستوى عظيمة القدر الكريمة التي خطبها رسول الله يوم النحر في حجة الوداع، فقرر فيها قواعد الدين ومبادئ الإسلام، واستشهد صحابته على البلاغ فشهدوا بذلك، وهم بلغوا رسالته من بعده، وما علينا ونحن نسمع ذلك إلا أن نشهد بأن رسول الله قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وكذلك صحابته من بعده، ولم يبق علينا سوى أن نتابع الطريق على هديهم بتبليغ الرسالة وأداء الأمانة إلى أن تنضوي البشرية كلها تحت لواء الإسلام مذعنة طائعة إن شاء الله، وما ذلك على الله بعزيز، وهو على كل شيء قدير.
عباد الله، لقد قرر رسول الله في هذه الخطبة موعظة العمر، حدد فيها الحرمات التي تعتبر بحق حلم البشرية على مدار التاريخ في الوصول إلى حياة آمنة سعيدة ينعم فيها المرء بالطمأنينة والرخاء والسعادة والأمان والحرية والمساواة في ظل كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
فقرر حرمة الدماء، ومَن مِن الناس يهنأ له عيش إلا إذا كان آمنًا على روحه وبدنه، لا يخشى الاعتداء عليها، ولهذا كان القصاص في النفس والأطراف كما قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لْقِصَاصُ فِي ?لْقَتْلَى ?لْحُرُّ بِالْحُرّ وَ?لْعَبْدُ بِ?لْعَبْدِ وَ?لأنثَى? بِ?لاْنْثَى [البقرة:178].
وقرر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الخطبة حرمة الأموال التي يكدح المرء ليجمعها وليستمتع بالحلال من الطيبات من الرزق، ويصون نفسه ومن يعول عن مذلة السؤال وخدش الوجه، وصيانة لحرمة المال قال الله تعالى: وَ?لسَّارِقُ وَ?لسَّارِقَةُ فَ?قْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَـ?لاً مّنَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38].
وقرر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيضًا حرمة الأعراض، الأعراض التي ينشأ في ظلها النسل الطاهر النظيف، ليكون دعامة صالحة في مجتمع صالح، وصيانة للأعراض قال الله تعالى: ?لزَّانِيَةُ وَ?لزَّانِى فَ?جْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ ?للَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ [النور:2]، هذا بالنسبة لغير المحصن، أما المحصن فجعل عقوبته الرجم حتى الموت.
وقرر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إبطال ربا الجاهلية الذي يقوم على أساس الحصول على المال بأي وسيلة حتى ولو كانت سحق البشرية لمصلحة المرابي، ومن أجل هذا آذن الله المرابين بحرب منه ومن رسوله فقال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279].
وفي هذه الخطبة الكريمة استوصى رسول الله بالنساء خيرًا، فبين ما لهن وما عليهن من الحقوق بما يتلاءم مع وظيفتهن وفطرتهن، فلهن الإكرام والاحترام والمعاشرة بالمعروف والنفقة اللازمة من الطعام والكسوة والمسكن دون إسراف ولا تقتير، وعليهن السمع والطاعة وتهيئة المناخ الأسري الطيب في البيت ليجد الرجل سكنه النفسي وراحة البال والطمأنينة ورعاية الأولاد والحفاظ على الأعراض والأموال، فتحفظه في ماله وشرفه، وتراعي شعوره، فلا تدخل بيته أحدًا إلا بإذنه ولو كان محرمًا، ولا تخرج هي الأخرى من بيته إلا بإذنه مسبقًا، ولا تكن من النساء المذمومات الخراجات الولاجات، فالله جل وعلا يقول: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33].
فإذا حصل النشوز والعصيان والانحراف فلا بد وقتها من التأديب بالتدريج الذي يناسب رأب الصدع وحفظ الود، التأديب الذي ليس فيه إهانة ولا إذلال، وإنما هو تأديب بكل ما في الكلمة من معنى، التأديب الذي ينشد الإصلاح ولا يستهدف التعذيب، قال الله تعالى: وَ?للَّـ?تِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ?هْجُرُوهُنَّ فِى ?لْمَضَاجِعِ وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
أيها المؤمنون، هذا رسول الله قد قرر قواعد الدين، وهدم قواعد الشرك والجاهلية وأبطلها، وكان قدوة عملية للمسلمين ليتأسّوا به، فبدأ بإبطال ما كان في أقرب أقربائه من عمومته وأبناء عمومته، وهكذا يجب أن يكون كل الدعاة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر قدوة لغيرهم، فيبدأ كل منهم بنفسه وأهله أولاً ليكون للموعظة التأثير في النفوس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ ?للَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وأقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الحج، باب: حجة النبي (1218).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الولي العظيم، أحمده سبحانه وتعالى ذو الطول والخير العميم، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الهادي بهداية الله إلى الصراط المستقيم، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد بين لنا رسول الله في خطبة الوداع ما فيه عصمتنا من الضلال والغي، وأرشدنا لما فيه فلاحنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة، فقال: ((وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله)) ، فكتاب الله هو الحبل المتين والذكر الحكيم وصراط الله المستقيم الذي أنزله على رسوله وبينه لصحابته، وأمر المسلمين بالتمسك به وبسنته فقال: ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)) [1].
فاتقوا الله عباد الله، واعتصموا بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، واعلموا أن الأمة لا تزال بخير ما استمسكت بهما واعتصمت بحبلهما وعملت بشريعتهما، ولا يحيد عنهما إلا هالك ضال، خسر دنياه وأخراه.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن هذا آخر ما عهد به إلينا رسول الله قبل لحوقه بالرفيق الأعلى، وقد أشهد أمته على ذلك مرة بعد مرة، ثم لا ننسى وصايته صلى الله عليه وآله وسلم عند احتضاره ومفارقته الدنيا بقوله: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، ووصايته بالنساء خيرًا، وبهذا على الرجل أخذ هذه الوصاة بالسمع والطاعة وبعين الاعتبار والالتزام بها، وعلى النساء كف الأذى عن الأزواج واحترام الزوج وتقديره والنزول عند رغبته وعدم تعمد معارضته في رأيه وحديثه وسائر كلامه، بل عليها الإصغاء إليه حين يتكلم وتنفيذ ما يأمرها به والانقياد والسمع والطاعة بالمعروف، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد أحد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) ، فالأمر عظيم، فلتتق الله امرأة خافت ربها، ولتطع زوجها، فإن طاعتها له من طاعة لله تعالى، ولا تسترسل معه في الخصومات، ولا تفشي له سرًا، فالبيوت أسرار، والمرأة سكن الرجل، والدخول منها في معارضته له تأثير كبير على الأولاد، بل ضرره على الأم أكبر، وإثمها أعظم.
فاللهَ اللهَ يا أمةَ الله في رعاية حق الزوج، واللهَ اللهَ في السمع والطاعة، كيف والسجود الذي لا يجوز مطلقًا إلا لله وحده لا شريك له لو يجوز لأمرَ به من لا ينطق عن الهوى ـ بأبي وأمي صلى الله عليه وآله وسلم ـ للزوج لعظم حقه، فحذار ـ أيتها المصلية الصائمة ـ من الاستخفاف بحق الزوج، ولا يستهوينك الشيطان بالاستهانة به، فاتقي الله، وأطيعي زوجك، وأْتمري بأمره، واعلمي أنك مسؤولة أمام الله جل وعلا عن ذلك كله، والله المستعان.
وها نحن نشهد أن رسول الله قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة، ونشهد أن صحابته من بعده قد بلغوا وأدوا الأمانة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للتبليغ وأداء الأمانة إنه سميع مجيب.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، كما صليت وباركت على إبراهيم إنك حميد مجيد...
[1] أخرجه الحاكم (3/148) من حديث أبي هريرة، وهو في السلسلة الصحيحة (1761) وفي صحيح الجامع (2934).
(1/4075)
هديه في مناسك الحج
فقه
الحج والعمرة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج خامس أركان الإسلام. 2- ضرورة التأسي بالنبي في سائر العبادات ومنها الحج. 3- صفة حج النبي. 4- الحج المبرور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، في هذه الأيام من كل عام تتجدد فريضة العمر وأحد أركان الإسلام، ألا وهي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، دَين الله على كل مستطيع من الناس لقوله تعالى: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران:97]، وقوله : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً)) [1].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن وسيلة قبولِ العمل أن يكون خالصًا لله تعالى ومطابقًا لسنة رسول الله ، فما علينا ـ أيها الإخوة ـ إلا أن نعرف مناسك الحج على ضوء الكتاب والسنة قبل المباشرة بأعمال الحج، ليكون عملنا إن شاء الله تامًا وصحيحًا ومقبولاً.
وقد صح عنه أنه قال: ((خذوا عني مناسككم)) [2] ، وقد صح عنه أنه مكث تسع سنين لم يحجّ، ثم أذن في الناس في العاشرة، فقدم المدينة بشَر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله ، فلما أتى ذا الحليفة صلى في المسجد ثم ركب القصواء ورفع صوته مهلاً بالتوحيد: ((لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) ، وورد: ((لبيك إله الحق)).
وكان بعض السلف رحمهم الله يقول: "لبيك ذا النعماء، لبيك ذا التواصل، لبيك لا شريك لك لبيك، لك الحمد والملك".
ولما وصل مكة وأتى البيت استلم الركن فرَمَل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: وَ?تَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْر?هِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فجعل المقام بينه وبين البيت، وكان مضطبعًا أي: واضعًا طرف ردائه الأيمن تحت إبطه الأيمن، والطرف الثاني على عاتقه الأيسر.
وهنا ملاحظة هامة وهي تغطية الكتفين قبل الصلاة، حيث ذكر بعض أهل العلم أنه لم ير رسول الله يصلي إلا وهو مغطّ كتفيه.
ثم رجع إلى الركن فاستلمه، وقد قال بعض أهل العلم: إن الملتزَم هو ما بين باب الكعبة والحجر الأسود، ثم خرج من الباب إلى الصفا، لما دنا من الصفا قرأ: إِنَّ ?لصَّفَا وَ?لْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ ?للَّهِ [البقرة:158] وقال: ((أبدأ بما بدأ الله به)) ، فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعى أي: أسرع قريبًا من الهرولة، وذلك للرجل دون النساء، وذلك سبعة أشواط، من الصفا إلى المروة شوط، ومن المروة إلى الصفا شوط، يبدأ بالصفا وينتهي بالمروة، حتى إذا أتى المروة فعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر طوافه على المروة أمر الناس أن يحلوا ويجعلوها عمرة إلا من كان معه هدي. فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي ومن كان معه هدي أو ساق الهدي مهلاً بما أهلّ به رسول الله.
فلما كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة توجه إلى منى مُهلاً بالحج، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر قصرًا لا جمعًا، ولما طلعت شمس اليوم التاسع أمر بقبة فضربت له بنمرة، فسار رسول الله حتى جاوز المزدلفة ولم يقف بها، حتى أتى عرفة حيث ضربت القبة بنمرة فنزل بها، وصلى بها الظهر والعصر قصرًا وجمعًا وخطب خطبته المشهورة التي بين فيها معالم الدين وحطم عصبيات الجاهلية ونزعاتها، ثم ركب ناقته القصواء حتى أتى الموقف فاستقبل القبلة، ولم يزل واقفًا يهلل ويكبر ويدعو حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلاً.
ثم دفع رسول الله من عرفة حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئًا. ثم اضطجع رسول الله حتى طلع الفجر فصلاه بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعا الله وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًا.
ثم دفع رسول الله قبل أن تطلع الشمس من مزدلفة إلى منى، ورمى الجمرة الكبرى مخالفًا الطريق الذي أتى منه، حتى أتى الجمرة فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف، ثم انصرف إلى المنحر فنحر، ثم أمر ببعض اللحم فطبخ، فأكل من لحمه وشرب من مرقه، وأرخص للناس بالأكل والتزود، والتكبير المشروع: بسم الله، الله أكبر.
وأقام رسول الله بمنى يوم النحر مع الناس، فما سئل عن شيء قدم قبل شيء إلا قال: ((لا حرج، لا حرج)) ، قال له رجل: حلقت قبل أن أنحر؟ قال: ((لا حرج)) ، ثم جاء رجل آخر فقال: حلقت قبل أن أرمي قال: ((لا حرج)) ، ثم جاءه رجل آخر فقال: طفت قبل أن أرمي قال: ((لا حرج)) ، وقال آخر: طفت قبل أن أذبح قال: ((اذبح ولا حرج)) ، ثم جاءه آخر فقال: إني نحرت قبل أن أرمي قال: ((ارم)). ثم قال نبي الله : ((قد نحرت ها هنا، ومنى كلها منحر)).
ثم ركب رسول الله فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة المكرمة الظهر وشرب من ماء زمزم، ثم رجع إلى منى وأقام بها ثلاثة أيام بعد يوم العيد يرمي الجمار الثلاث كل يوم بعد الزوال لا قبله, مبتدئًا بالجمرة التي تلي مسجد الخيف الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم الكبرى، يدعو بعد أن يتنحى قليلاً بعد الجمرة الأولى والوسطى أما جمرة العقبة فينصرف بعد رميها مباشرةً.
فهذه ـ يا عباد الله ـ سنة نبيكم في حجه، فاتقوا الله، واحرصوا كل الحرص على الاقتداء به لتحوزوا القبول وتفوزوا برضا الله جل وعلا، وحتى يكون حجكم مبرورًا لا بد أن يكون مطابقًا لحجة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وعملاً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى ?لدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ?لآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ وَ?للَّهُ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [البقرة:200-202].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الإيمان، باب: قول النبي : ((بني الإسلام على خمس)) (1/7)، ومسلم في الإيمان، باب: أركان الإسلام (16).
[2] رواه مسلم في الحج، باب: استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر (1297).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا لدين الإسلام، وجعل القلوب المؤمنة تهفو إلى بلد الله الحرام، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير معلم وإمام، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الكرام، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، إن من كمال الحج أن يكون مبرورًا، فقد سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ فقال: ((حج مبرور)) [1] ، وقال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [2].
وبرّ الحج ـ عباد الله ـ يشتمل على عدة أمور، منها تقوى الله تبارك وتعالى، ومنها التكبير والإكثار من ذكر الله جل وعلا، ومنها الإحسان إلى الناس بجميع وجوه الإحسان بالدعوة والإرشاد والقول والفعل، فقد سئل رسول الله عن البر فقال: ((حسن الخلق)) [3].
ومن البر الإكثار من فعل الطاعات والمحافظة على صلاة الجماعة وإيتاء الزكاة، فأركان الإسلام مرتبط بعضها ببعض.
ومن أعظم أنواع البر أيضًا ـ عباد الله ـ كثرة ذكر الله تعالى لقوله : ((أفضل الحج العج والثج)) [4]. والعجّ ـ عباد الله ـ هو رفع الصوت بالتلبية والذكر، والثجّ إراقة دماء الهدايا والنسك، ويتخير الحاج الهدي الطيب البالغ السن المشروعة في الهدي والأضاحي في الفقه.
ومن البر في الحج أن يطيب العبد نفقته، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ويختار الزاد الحلال، ولينفق مما آتاه الله تعالى.
ومن بر الحج كذلك ـ عباد الله ـ أن لا يقصد العبد بحجه سمعة ولا رياءً ولا مباهاة ولا نزهة، نسأل الله السلامة والعافية، فيخشع لربه ويتواضع بحجه ويتضرع إلى الله تعالى ويدعوه ويلح عليه في الدعاء.
وأخيرًا، اعلموا ـ عباد الله ـ أن من البر في الحج اجتناب أفعال الإثم كلها من الرفث والفسوق والجدال وكل المعاصي، فكل تلك الأفعال نهى الله تعالى عنها وممقوت صاحبها، بل وينتقص من أجر حجه، فالحاج الذي يريد وجه الله والدار الآخرة يترفّع عن الترهات وسقط الكلام ويشغل نفسه بذكر الله والعبادات والصلاة والدعوة إلى الله عز وجل، وليغتنم الحاجّ فرصة لقائه بإخوانه الحجاج الذين قدموا من أنحاء المعمورة، فيتذاكر معهم ويفيدهم ويستفيد منهم ويحصل بذلك التعارف والتآلف والتعاون على البر والتقوى، فإن اجتماعات الدنيا مهما كانت وأين كانت لن تبلغ الهدف الذي يجتمع فيه الحجاج في عرفات، فاللباس موحد، والهدف واحد، يتوجهون إلى ربهم تبارك وتعالى بقلوب ملؤها الإيمان، وهناك يحرص كل حاج على تحقيق وإقامة أساس الإيمان، ألا وهو توحيد الله جل وعلا الواحد الأحد الفرد الصمد الذي خلقنا وأوجدنا من العدم وأبرزنا إلى حيز الوجود المشاهد، فهو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، كما هو عنوان كل حاج في تلبيته، ولا يرجع من حجه إلا وهو قد حصل على رصيد كبير، ألا وهو توحيد الله والإخلاص له في العبادة، لقول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]، ولقوله : ((من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) [5].
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وجعل الله حجّنا مبرورًا خالصًا لوجهه الكريم لا رياء فيه ولا سمعة، إنه جواد كريم.
[1] أخرجه البخاري في الحج، باب: فضل الحج المبرور (2/141).
[2] رواه البخاري في الحج، باب: وجوب العمرة وفضلها (2/198)، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349).
[3] رواه مسلم في البر والصلة، باب: تفسير البر والإثم (2553).
[4] أخرجه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة آل عمران (3001)، وابن ماجه في المناسك، باب: ما يوجب الحج (2896)، وهو في السلسلة الصحيحة (500).
[5] رواه البخاري في الحج، باب: وجوب العمرة وفضلها (2/198)، ومسلم في الحج، باب: في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (1349).
(1/4076)
الصحابة رضي الله عنهم بين الإجلال والإخلال
قضايا في الاعتقاد
الصحابة
نايف بن أحمد الحمد
غير محدد
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة العناية بالسنة النبوية. 2- أهمية معرفة نقلة السنة. 3- فضل الصحابة رضي الله عنهم. 4- تعريف الصحابي. 5- ما ورد في فضل الصحابة في القرآن والسنة. 6- التحذير من سب الصحابة وبغضهم. 7- تعظيم السلف للصحابة رضي الله عنهم. 8- فضل الصحابة مقرر في كتب العقائد.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فإن أولى ما نظر فيه الطالب وعني به العالم بعد كتاب الله عز وجل سنن رسوله صلى لله عليه وآله وسلم، فهي المبيِّنة لمراد الله عز وجل من مجملات كتابه، والدالة على حدوده، والمفسرة له، والهادية إلى الصراط المستقيم صراط الله، مَن اتبعها اهتدى، ومن سُلِبها ضلّ وغوى وولاّه الله ما تولى.
ومِن أَوكد آلات السنن المعينة عليها والمؤدية إلى حفظها معرفة الذين نقلوها عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة، وحفظوها عليه، وبلغوها عنه، وهم صحابته الحواريون الذين وعوها وأدوها ناصحين محسنين حتى أكمل بما نقلوه الدين، وثبت بهم حجة الله تعالى على المسلمين، فهم خير القرون، وخير أمة أخرجت للناس، ثبتت عدالة جميعهم بثناء الله عز وجل عليهم وثناء رسوله عليه السلام، ولا أعدل ممن ارتضاه الله لصحبة نبيه ونصرته، ولا تزكية أفضل من ذلك، ولا تعديل أكمل منه، قال الله تعالى ذكره: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُود [الفتح:29].
والصحابة أبرّ هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلّفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا، اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، كما قاله ابن مسعود. فحبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والاقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة.
وهم صفوة خلق الله تعالى بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام، روى الطبري (20/2) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله عز وجل: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى [النمل:59] قال: (أصحاب محمد )، وروى سعيد بن منصور (5/435) عن سفيان في قوله عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد:28] قال: "هم أصحاب محمد "، وروى عبد بن حميد وابن المنذر عن وهب بن منبه رحمه الله في قوله تعالى: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ [عبس:15، 16] قال: "هم أصحاب محمد "، وقال قتادة في قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِه [البقرة:121]: "هم أصحاب محمد ، آمنوا بكتاب الله، وعملوا بما فيه"، وروى أحمد (1/379) والطيالسي (246) بإسناد حسن عن ابن مسعود قال: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوبَ أصحابهِ خيرَ قلوبِ العبادِ، فجعلهم وزراءَ نبيهِ يُقاتِلون على دينه).
والصحابي هنا هو مَن لقي النبيَّ مؤمنًا به ومات على ذلك. فقد جاء في حديث قَيلَة العنبرية رضي الله عنها: خرجت أبتغي الصَّحابةَ إلى رسول الله. رواه ابن سعد (1/318) والطبراني (25/8) قال الهيثمي في المجمع (6/12): "رجاله ثقات".
وقد ورد في فضلهم آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]، وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]، وفي آيات عديدة ذكرهم الله تعالى وترضّى عنهم.
ومما جاء في السنة: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدَّ أحدهم ولا نصيفه)) رواه البخاري (3470) ومسلم (2540) واللفظ له.
وسبب تفضيل نفقتهم أنها كانت في وقت الضرورة وضيق الحال بخلاف غيرهم، ولأن إنفاقهم كان في نصرته وحمايته وذلك معدوم بعده، وكذا جهادهم وسائر طاعاتهم، وقد قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10]، وهذا كله مع ما كان فيهم في أنفسهم من الشفقة والتودد والخشوع والتواضع والإيثار والجهاد في الله حق جهاده، وفضيلة الصحبة ولو لحظة لا يوازيها عمل ولا تُنال درجتها بشيء، والفضائل لا تؤخَذ بقياس، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وقال البيضاوي رحمه الله تعالى كما في فتح الباري (7/34): "معنى الحديث لا ينال أحدكم بإنفاق مثل أحدٍ ذهبًا من الفضل والأجر ما ينال أحدُهم بإنفاق مدّ طعام أو نصيفه، وسبب التفاوت ما يقارن الأفضل من مزيد الإخلاص وصدق النية"، مع ما كانوا عليه من القلة وكثرة الحاجة والضرورة.
وقيل: السبب في ذلك أن تلك النفقة أثمرت في فتح الإسلام وإعلاء كلمة الله ما لا يثمر غيرها، وكذلك الجهاد بالنفوس لا يصل المتأخّرون فيه إلى فضل المتقدمين لقلة عدَد المتقدمين وقلة أنصارهم، فكان جهادهم أفضل، ولأن بذل النفس مع النصرة ورجاء الحياة ليس كبذلها مع عدمها.
ومما جاء في فضلهم رضي الله عنهم حديث ابن مسعود عن النبي قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) رواه البخاري (2509) ومسلم (2533). وإنما صار أول هذه الأمة خير القرون لأنهم آمنوا به حين كفر الناس، وصدقوه حين كذبه الناس، وعزروه ونصروه وآووه وواسوه بأموالهم وأنفسهم، وقاتلوا غيرهم على كفرهم حتى أدخلوهم في الإسلام.
ومما جاء في فضلهم ما رواه أبو بردة قال: قال رسول الله : ((النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعَدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) رواه مسلم (2531). وهو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة من طمس السنن وظهور البدع وفشو الفجور في أقطار الأرض.
وها هو أمير المؤمنين علي يصف حال الصحابة، فعن أبي أراكة قال: صليت خلف علي صلاة الفجر، فلما سلم انفلت عن يمينه ثم مكث كأن عليه الكآبة، حتى إذا كانت الشمس على حائط المسجد قيد رمح قال: لقد رأيت أصحابَ محمد ، فما أرى اليوم شيئا يشبههم، كانوا يصبحون ضُمرا شُعثًا غبرا، بين أعينهم أمثال ركب المعزى، قد باتوا لله سجَّدا وقياما، يتلون كتاب الله، ويراوحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا ذكروا الله، مادوا كما تميد الشجر في يوم الريح، فهملت أعينهم حتى تبتل ثيابهم. رواه أبو نعيم في الحلية (1/76) وابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل (272) والخطيب في الموضح (2/330) وابن عساكر في تاريخ دمشق (42/492).
ومن الوعيد الشديد فيمن آذى أصحاب النبي ما رواه أحمد (5/54) والترمذي (3862) والبيهقي في الشعب (2/191) عن عبد الله بن مغفل المزني قال: قال رسول الله : ((الله الله في أصحابي، الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه)).
قال المناوي رحمه الله تعالى في الفيض (2/98): " ((الله الله في)) حق ((أصحابي)) أي: اتقوا الله فيهم، ولا تلمزوهم بسوء، أو اذكروا الله فيهم وفي تعظيمهم وتوقيرهم، وكرره إيذانا بمزيد الحثّ على الكف عن التعرض لهم بمنقص. ((لا تتخذوهم غرضا)) هدفا ترموهم بقبيح الكلام كما يرمَى الهدف بالسهام، هو تشبيه بليغ، ((بعدي)) أي: بعد وفاتي".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مَن سب أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) ) رواه الطبراني في الكبير (12/142) وله شواهد ولذا حسنة الألباني رحمه الله في الصحيحة (2340).
ولقد عرف السلف الصالح فضل الصحابة الكرام، وبيَّنوا ذلك، وردوا على كل من أراد انتقاصهم رضي الله عنهم، قال ابن عمر رضي الله عنهما: (لا تسبوا أصحاب محمد ، فلمقام أحدهم ساعة خير من عمل أحدكم عُمره) رواه أحمد في الفضائل (1/57) وابن أبي شيبة (6/405) وابن ماجه (162) وابن أبي عاصم في السنة (2/484) وصححه البوصيري في الزوائد: (1/24).
وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك وسأله: أمعاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز؟ فقال: "لتُراب في منخرَي معاوية مع رسول الله خير وأفضل من عمر بن عبد العزيز" رواه ابن عساكر (59/208).
وجاء رجل إلى الإمام أبي زرعة الرازي رحمه الله فقال: يا أبا زرعة، أنا أبغِض معاوية، قال: لِمَ؟ قال: لأنه قاتَل عليّا، فقال أبو زرعة: إنّ ربَّ معاوية ربٌّ رحيم، وخصم معاوية خصمٌ كريم، فما دخولك أنت بينهما رضي الله عنهم أجمعين. رواه ابن عساكر (59/141).
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "إذا رأيت رجلا يذكر أصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على الإسلام" رواه اللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (7/1252).
وقال رحمه الله تعالى: "لا يجوز لأحد أن يذكر شيئا من مساويهم، ولا يطعن على أحد منهم بعيب ولا نقص، فمن فعل ذلك فقد وجب على السلطان تأديبه وعقوبته، ليس له أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب قبل منه، وإن ثبت أعاد عليه العقوبة وخلّده الحبس حتى يموت أو يراجع".
وقال بشر بن الحارث رحمه الله تعالى: "مَن شتم أصحاب رسول الله فهو كافر وإن صام وصلى وزعم أنه من المسلمين" رواه ابن بطة في الإبانة.
ولعل كثيرا من الكتّاب ممن في قلوبهم مرض الذين ينتقصون أصحاب رسول الله في الصحف وغيرها يرون أن الوقت لم يحن بعد لانتقاص القرآن والسنة، فرأوا أن تقليل شأن الصحابة الكرام عند الناس هو من أخصَر الطرق لردّ الكتاب والسنة، كما قال أبو زرعة رحمه الله تعالى: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول حقّ والقرآن حقّ، وإنما أدّى إلينا هذا القرآن والسنة أصحابُ رسول الله ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليُبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة".
وقال السرخسي رحمه الله تعالى في أصوله (2/134): "فمن طعن فيهم فهو ملحد منابذ للإسلام، دواؤه السيف إن لم يتب".
وقال الإمام محمد بن صُبيح بن السماك رحمه الله تعالى لمن انتقص الصحابة: "علمتَ أن اليهود لا يسبون أصحاب موسى عليه السلام، وأن النصارى لا يسبون أصحاب عيسى عليه السلام، فما بالك ـ يا جاهل ـ سببت أصحاب محمد ؟! وقد علمتُ من أين أوتيتَ؛ لم يَشغَلك ذنبك، أما لو شغلك ذنبك لخِفت ربَّك، ولقد كان في ذنبك شغل عن المسيئين، فكيف لم يشغلك عن المحسنين؟! أما لو كنت من المحسنين لما تناولت المسيئين، ولرجوت لهم أرحم الراحمين، ولكنك من المسيئين، فمِن ثَمَّ عِبت الشهداء والصالحين. أيها العائب لأصحاب محمد ، لو نمتَ ليلك وأفطرت نهارك لكان خيرًا لك من قيام ليلك وصوم نهارك مع سوء قولك في أصحاب رسول الله ، فويحك، لا قيامَ ليل، ولا صوم نهار، وأنت تتناول الأخيار، فأبشر بما ليس فيه البشرى إن لم تتب مما تسمع وترى، وبم تحتج ـ يا جاهل ـ إلا بالجاهلين؟! وشر الخلف خلفٌ شتَم السلف، لواحد من السلف خير من ألف من الخلف" رواه المعافي في الجليس الصالح (2/392).
وقال ابن الصلاح رحمه الله تعالى في مقدمته (428): "إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة, ومَن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يُعتد بهم في الإجماع".
وقد ذكروا فضلهم في كتب العقائد رفعًا لشأنهم وعلوًّا لمنزلتهم، فقال الطحاوي رحمه الله تعالى: "ونحب أصحاب رسول الله ، ولا نُفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبّهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
وذكر الحميدي رحمه الله تعالى أن من السنة الترحم على أصحاب محمد كلهم، فإن الله عز وجل قال: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]، فلم نؤمر إلا بالاستغفار لهم، فمن سبهم أو تنقصهم أو أحدا منهم فليس على السنة، وليس له في الفيء حق، أخبرنا غير واحد عن مالك بن أنس. ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في العقيدة الواسطية: "ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون... ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر عنهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم ؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات مما ليس لمن بعدهم... ثم القَدْر الذي يُنكر من فعل بعضهم قليل نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما منَّ الله عليهم به من الفضائل علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله".
وفي الختام لا نقول إلا كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
اللهم ارض عن أصحاب نبيك أجمعين، واحشرنا وإياهم في زمرة سيد المرسلين...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4077)
أمانة الأبناء والبنات
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, المرأة, النكاح
نامي بن عوض الشريف
جدة
20/3/1426
السيدة آمنة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الأولاد. 2- تربية الوالدين للأولاد. 3- رحمة النبي بالأولاد. 4- حالنا مع الأولاد. 5- صفات الأسرة المسلمة. 6- ضرورة التحري في تزويج البنات. 7- إنكار إجبار البنت على الزواج ممن لا ترغب فيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي نبينا محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: أيها الإخوة المسلمون، حديثي إليكم حديث القلب إلى القلب، حديثي إليكم حديث الروح إلى الروح، حديثٌ ذو شجون، حديث تختلط فيه آلام وآمال، تختلط فيه مشاعر الحزن والأسَى من قضايا أسرية ومشكلات اجتماعية يندَى لها الجبين.
حديثي إليك أنت أيها الأب الكريم، أيها الأب الحنون، أيها الأب الرحيم، أيها الأب العطوف، لقد حباك الله تعالى بصفاتٍ عظيمة، وأكرمك الله بما أكرمك به من صحة ومال وعافية تدوم بإذن الله تعالى، رزقك الله تعالى البنين والبنات وحُرمَهم آخرون، فأكرمك الله تعالى بهم، وجعل هؤلاء أمانة في عنقك، تنشّئهم وتربّيهم تربيةً حسنة وتربيةً صالحة، وهو وحده الذي يجازيك على حسن صنيعك وحسن تربيتك.
فمنذ أن تلدَ المرأةُ طفلَها فأوّلُ ما يسمع ذكر الله تعالى، فَيُأَذَّنُ في أذنه، ويَستقبلُ حياتهُ بذكر الله تعالى، بالتوحيد لله لا شريك له.
ويبدأ الأبُ والأمُّ رعاية هذا الطفل ذكرًا كان أو أنثى، فالأمُّ تبدأُ المشوار بعد أن عانت آلامَ حملٍ ووضعٍ وإرضاعٍ وحضانة، ثم بعد ذلك ينشأ على تربية حسنة تربية تُستقى من منهل النبوة الصافي وعلى ما كان النبيّ يربي أبناءه، فهذا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال كان رسول الله يخطب، فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يَعثران ويقومان، فنزل فأخذَهما فوضعَهما بين يديه ثم قال: ((صدق الله ورسوله: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15] ، رأيتُ ولديّ هذين فلم أصبر حتى نزلت فأخذتُهما)) ، ثم أخذ في خطبته.
وعن أبي قتادة أن رسول الله كان يصلي وهو حاملٌ أمامةَ بنت زينب بنت رسول الله ، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها. هذه الرّحمة الحقّة والشفقة الصادقة، يرحم ويُشفق يعطف ويحنو.
وهذا أخٌ لأنسِ بن مالك كناه أبا عمير ويقول له : ((يا أبا عمير، ما فعل النغير؟)). وهذا الحسن بن علي رضي الله عنه يحمله النبي على عاتقه وهو يقول: ((اللهم إني أحبه فأحبه)) ، وعن يعلى بن مرّة أنه قال: خرجنا مع النبي ودُعِينا إلى طعام فإذا حسين يلعبُ في الطريق، فأسرع النبي أمام القوم، ثم بسط يديه فجعل الغلام يفرّ ها هنا وها هنا ويضاحكه النبي حتى أخذه فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه، ثم اعتنقه، ثم قال النبي : ((حسين مني، وأنا من حسين، أحبَّ الله من أحبَّ حسينا، الحسين سبط من الأسباط)).
ما أجملَ هذا النزول، وما أروعَ هذا التواضع، نبي عظيم ينزلُ ويداعب، يمازحُ ولا يقول إلا حقًا، فأين نحن من هديه ؟! تجد الرجل منا يكون له ولدٌ صغيرٌ أو بنتٌ صغيرةٌ فلا يمازحُهَا ولا يقبلُها، بلِ البعدُ والجفاءُ طبيعتُه، والغلظةُ والقسوةُ طريقتُه، وما علم أن نبينا وحبيبنا كان من هديه الحنانُ والعطفُ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أقبلت فاطمةُ تمشي كأن مشيَتَها مشية النبي ، فقال النبي : ((مرحبا بابنتي)) ، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله. فهذا ترحيب منه لابنته وعطف منه عليها.
وربما بدرت من الصغير حركاتٌ بريئة فيُعامله والدهُ معاملةً قاسية؛ ضربٌ وشتمٌ وصُراخٌ، بل تخويفٌ وتهديدٌ ووعيدٌ. في ظنّكم كيف سينشأُ هذا الطفلُ وحياتُه معقّدةٌ محطّمة؟! ويكبر المسكينُ على ذلك وحياتُه آلامٌ وأحزانٌ. لماذا لا نحنو على أبنائنا؟! لماذا لا تتّسعُ صدورنُا لأبنائنا؟! أبعد أن نفقدهم؟! أبعد أن نخسرهم؟! أبعد أن نراهم سلكوا طريقًا سيّئًا بعيدين كلّ البعدِ عن القيمِ الفاضلة والأخلاقِ الحسنة؟! فعندئذ لا ينفع الندم.
وفي حياة الأبناء ذكورًا وإناثًا يقوم الأب بتوجيه أبنائه إلى الصلاة والحثّ عليها، وكذا بناته، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]. وكذا دور الأمّ مع بناتها، فهي ترحمهم وتعطف عليهم، لا تحابي الصغيرة على الكبيرة، ولا تجامل أحدًا على أحدٍ، بل هم سواء في الحبّ والعطف والحنان، وكذا الأب يعدل بين أبنائه ذكورًا وإناثًا، لا يحابي، ولا يجامل، بل هم سواء، عن النعمان بن بشير قال: انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، أَشهد أني قد نحلتُ النعمان كذا وكذا من مالي، فقال : ((أكلَّ بنيك قد نحلتَ مثل ما نحلتَ النعمان؟)) قال: لا، قال: ((فأشهدْ على هذا غيري)) ، ثم قال: ((أيسرُّك أن يكونوا إليك في البرّ سواء؟)) قال: بلى، قال: ((فلا إذا)) ، وفي رواية أن رسول الله قال: ((ألك بنون سواه؟)) قال: نعم، قال: ((فكلّهم أعطيت مثل هذا؟)) قال: لا، قال: ((فلا أشهد على جور)).
عباد الله، الأسرة المسلمة تكون في غاية الحبّ والعطف والسموّ، وتنالُ منالها عندما يحترمُ الصغيرُ الكبير ويعطفُ الكبيرُ على الصغير، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال : ((ليس من أمتي من لم يُجلّ كبيرنَا ويرحم صغيرنا)). عندما يعطف الشاب على أخته وترحم الفتاة أخاها هم إخوةٌ متحابّون متعاطفون، المحبةُ شعارهم، والعطفُ منهجهم، والشفقةُ طريقهم، أمانيُهم واحدة، إذا اشتكى أحدُهم أو مرض واحد منهم قاموا له جميعًا يواسونه يخفّفون عنه؛ علّهم يصلون به إلى غايتهِ وبغيتهِِ، يفرحون لفرحِه ويحزنون لحزنه.
أبناءٌ بارّون لآبائهم، وآباءٌ مشفِقون على أبنائهم، يعطفون عليهم، يرحمونهم، يبحثون عما يخفّف أحزانهم؛ لأنهم فلذات أكبادهم، إنهم والله أسرة عظيمة، أبُّ وأمُّ قائدان عظيمان يقودان مركبة عظيمة، يقودانها إلى بر الأمان، إنها الأسرة الصالحة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله يقول: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها)) إلى أن قال: ((فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)).
أبٌ وأمٌ لا يفكران في نفسيهما، لا ينظران إلى حياتهما بقدر ما ينظران إلى حياة أبنائهم وسعادتهم، يَسعَون ويَتعَبُون ليروا أبناءهم فرحين سعداء قد مُلئت حياتُهم بهجة وسرورًا.
فمن الآباء أبٌ يحرص على بناته، فعندما يطرقُ بابَه خاطبٌ يريد ابنتَه ماذا عليه أن يفعل؟ إنه الاختبار الصعب، إنه الاختبار الأقوى، لمن؟ لمن سيكون زوجًا لابنته، لفلذةِ كبده، لمن هي قطعةٌ منه، يريبه ما يريبها، لمن هي أمانة في عنقه، لمن هي رعيّة استرعاه الله عليها.
عباد الله، إن الواجب على الأب الصالح أن يجتهد كلّ الاجتهاد في البحث والسؤال والتحرّي بكل وسيلة ممكنة، يسأل هذا، ويسأل ذاك، يسأل عن صلاحه وصلاته وأخلاقه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) ، يسأل عن أخلاقه، يسأل عن عقيدته، لا سيما الآفاقيون الذين لا تربطهم به علاقة.
أيّها الأب الكريم يا رعاك الله، إن التي تدفعُها إليه ما هي إلا ابنتك فلذةُ كبدك، ربيتها صغيرةً وكبيرةً، وأحسنت تربيتَها، وأصلحت تنشئتها، وقد عرفتْ لك أبوّتَك وحقَك، وحفظت لك عرضك، فاعرف لها حقّها، واحفظ لها كرامتها وبرّها.
ومن الآباء من يقتصر على مجرّدُ سؤالٍ عابر، وكأن ابنته حِملٌ يريد أن يُلقيَه عن ظهره، يريد الخلاص منها بشكل أو آخر، يريد أن لا يُبقيَها أمامه. آهٍ من قلوب تحجّرت، ما أقساه من قلب أبٍ لا يعرفُ للبنوّة حقها، ولا للرحمة طريقها، أين تذهبُ من الله تعالى عندما تقفُ بين يديه ويسألك عن هذه المسكينة الضعيفة؟! ماذا ستجيب؟!
أيها الأب الحبيب، حذار أن تضيّع ما استرعاك الله من رعية، وأن تخون ما ائتمنك الله عليه من أمانة، حذار أن يقال لك يوم القيامة: تأخر، ويقال لابنتك: تقدمي واقتصي.
أيها الإخوة الكرام، نسأل الله تعالى أن يمنّ على بناتنا بالصالحين الطاهرين الذين يقدّرون سعادة بناتنا ويكرمونهن، وأن يرزق أبناءنا الصالحات العفيفات الذين يحفظونهم في الغيب والشهادة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آل بيته الطيبين والطاهرين، وعلى الصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، يرد إلينا من المشكلات الاجتماعية والقضايا الأسرية الشيء الكثير، فهذا أبٌ يجبر ابنته ويكرهها على الزواج من ابن أخيه أو قريبه وهي ترفض وترفض ولكن لا حياة لمن تنادي، فتُغمضُ المسكينة عينيها وتقول: يريد أبي لي الخير والسعادة، وما دَرتِ المسكينة أنه يريد أن يُمضيَ أعرافًا وتقاليد بالية قد عفا عليها الزمن من سقمها وبعدها عن منهج ربها، فعاداتٌ ما أنزل الله بها من سلطان، تُجبرُ وتكرِه على الزواج، ولسان حاله يقول: ماذا أقول لهم؟! ماذا أردُ عليهم؟! لقد أعطيتُهم كلمة، هذا إن شاورها وإلا تكون الموافقة من عنده حالاً. أعرافٌ سيَّرتهُ إلى هذا الطريق المظلم، وكأن المسكينة دميةٌ لا أحاسيس لها ولا مشاعر، فالمهم أن يُمضي كلامَه وأن تتزوج ابنته بما وعد به، ولا ينظرُ إلى النتيجة أتدوم الحياةُ أم لا؟ أتسعد البنتُ أم لا؟ أتهنأُ المرأة أم لا؟ المهم ما وعدتُ به ينفَّذ، أين القلوب الرحيمة؟! أين القلوب العطوفة؟! أين القلوب الشفيقة؟! أين الآباءُ الصالحون الذين يَحرِصون على سعادة بناتهم؟! أين الأولياء الذين يسعون لغرس الفرحة والسعادة والبهجة والسرور في نفوس بناتهم؟!
وهذا أخٌ يُكرهُ أختَهُ بعد موتِ أبيهم، يجبرها أن تتزوج من صاحبه وصديقه، ولربما كان هذا الزوج تاركًا للصلاةِ أو صاحبَ عقيدة فاسدة أو مذهب منحرف، فتلك عنده أمور لا يُسأَل عنها ولكن لا بد أن يتمّ الزواج، ثبت عنه أنه قال: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)). وماذا بعد ذلك؟ تذهب المسكينة إلى بيت زوجها وهي أسيرةٌ كارهةٌ مجبرة لا حول لها ولا قوة، فالأصوات تنتهِرها، والأعين ترتقبها لإبداء الموافقة، ويبدأُ مسلسلُ الحياةِ القاسية، لماذا؟ لأنه لا يخافُ الله تعالى ولا يُحسنُ عشرتَها.
أيها الإخوة الكرام، يرد إلينا مَن هذه حالها، فالضرب والشتم والإهانة حياتُها، وأخذُ مالها إن كانت عامِلة وبشكل فظيعٍ مقزّز تقشعرُ منه القلوب، ما الذي أوصلها إلى هذه الحالة؟! من الذي زفّها إلى زوجها؟! إنه أنت أيها الولي، أين الغيرة على بناتنا؟! أين الحرقة على أخواتنا؟! أريق ماءُ وجهنا، أين القلوب العالية؟! أين القلوب السامية؟! يا ويلنا ماذا أصابنا؟! تذكَّر ـ يا رعاك الله ـ قول المصطفى : ((ما من رجل يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيّته إلا حرم الله عليه الجنة)).
أخي الحبيب يا رعاك الله، ألا يحركُ هذا الحديثُ قلوبَنا؟! ألا يهزُ مشاعرنا؟! ألا تستيقظُ أحاسيسُنَا؟! أين الرحمة من قلوبنا تجاه فلذات أكبادنا؟! ثبت عنه أنه قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) ، وعن جرير عن النبي قال: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس)) ، وعن أبي سعيد عن النبي قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم)).
فالغش ـ أخي الحبيب ـ يكون في عدم التحري وعدم السؤال وعدم التدقيق والتفتيش، ما ضرّنا لو أننا بحثنا لبناتنا الصالحين الطاهرين ليكونوا أزواجًا لبناتِنا، قال البخاري في صحيحه: "بابُ: عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير"، ثم قال: إن عمر بن الخطاب حين تأيَّمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب رسول الله فتوفي بالمدينة فقال عمر بن الخطاب: أتيت عثمانَ بن عفان فعرضت عليه حفصة فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق فقلت: إن شئتَ زوجتُك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إليّ شيئا، فلبثتُ ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: قلت: نعم، قال أبو بكر: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضتَ علي إلا أني كنت علمتُ أن رسول الله قد ذكَرها فلم أكن لأفشيَ سرَّ رسول الله ، ولو تركها رسول الله قبِلتها.
أيها الإخوة الكرام، وسيكون لنا خطبة قادمة بإذن الله تعالى حول المشاكل الأسريّة والخلافات الزوجية وما يترتب عليها من طلاق، وما هو موقف الزوجين والأبوين والأبناء منه، وهل كلّ طلاق يعدّ عذابًا أم قد يكون رحمة، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ [النساء:130].
عباد الله، صلّوا وسلّموا على الهادي الأمين، فقد أمركم بذلك حيث قال في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم ارض عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين...
(1/4078)
تغيير الواقع
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, المسلمون في العالم, قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
10/8/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البشر هم الذين يرسمون الخطوط العامة لمعالم التاريخ. 2- متى حصل التغيّر في هذه الأمة؟ 3- التغيير السليم والتغيير الفاسد. 4- بعض معالم التغيير الصحيح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن البشر هم الذين يرسمون الخطوط العامة لمعالم التاريخ، وإن البشر هم الذين يغيرون وجه التاريخ بحسب المنهج الذي معهم وبحسب التصورات التي يحملونها، فإن كان في تصوراتهم غبش وفي منهجهم انحراف يكون التغيير الذي يحدثونه تغييرًا سيئًا مخالفا لما أراد الله عز وجل، وبالعكس إذا كان ما يحملون من تصورات موافقا لمنهج أهل السنة والجماعة فأبشر بمجتمع طالما اشتاقت لها النفوس المؤمنة.
أيها المسلمون، إن الواحد منا وهو يقلب النظر في حالة هذه الأمة وما بُليت به لتهفو نفسه وتتطلع إلى رؤية ذلك المجتمع الأول الذي كان بالفعل يمثل القمة الشامخة في تاريخ الإنسانية. ذلك المجتمع الذي عاش بين ظهرانيه رسول الله ، القدوة الأولى لهذه الأمة، ثم بدأت نقطة التحول الأولى من اللحظة التي اختار فيه النبي الكريم ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ لقاء ربه على هذه الدنيا الفانية، يوم عبّر عن ذلك الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه بقوله: (وإنا لفي الدفن حتى أنكرنا قلوبنا).
ولكن هذا التحول لم يكن ليستمر مع وجود النخبة المصطفاة الذين رباهم النبي على عينيه، فكانت الخلافة الراشدة، الزمام الذي حفظ الله به لهذه الأمة استقامتها على ذلك المنهج القرآني الفريد.
وفي أواخر عهد الخلفاء الراشدين حصل شيء من التغيير، حيث أصيبت وحدة العقيدة بصدع عظيم من جراء ظهور البدع، فظهرت الخوارج والمرجئة والقدرية والرافضة، فكادت هذه الفرق أن تشتت وحدة الأمة لولا أن الله جل وتعالى قيض لهؤلاء المبتدعة من يصد شرهم ويفند أباطيلهم، ويظهر راية السنة منشورة شامخة.
وبعد انقضاء القرون الثلاثة التي شهد لها النبي بالفضل دخلت الأمة مرحلة أخرى من التغيير، دخلت في مرحلة أقل في الفضل بكثير من سابقتها، غير أنه لم يزل الخير غالبًا فيها، إذ يسر الله لها من الخلفاء العظام من اجتهد أن يعيدها سيرتها الأولى، حتى بلغت مرحلة من السيادة كانت فيها حديث العالم أجمع، حيث كان في الخلفاء قوة وتمسك بالحق وعناية بالجهاد واهتمام بالعلم ومناصرة السنة وقمع البدعة، فاستغلّوا خيرات البلاد وثرواتها في الفتوح والدعوة إلى سبيل الله، حتى اتسعت رقعة العالم الإسلامي، فوصلت الفتوحات في عهد الخلافة العثمانية إلى إيطاليا والمجر وألبانيا، فهزت جيوش المسلمين عروش ملوك أوربا، وفتحت القسطنطينية، واستولت على كثير من جزر البحر الأبيض المتوسط، وسيطرت على الملاحة البحرية فيها، ولم يبق من هذا المجد إلا الذكرى الذي عبر عنه الشاعر وهو يقول:
يا من ينوح فؤادي خلف موكبه ومن ترفرف روحي حول مغناه
ماذا تركت بقلبي بعدما نسجت كف الخريف له حرّى بلاياه
هلا ذكرت زمانًا ظل يسعدنا نقضى حياة المنى فِي ظل دنياه
تسعى إلينا الأماني في ظلاله وتستخف بنا أحلام دنياه
ما زلت أذكره في كل آونة رغم الصدود وأنت اليوم تنساه
ثم كان ما كان، يوم سقطت الخلافة، أو قل: أُسقطت الخلافة، وانتفشت العلمانية، وحورب الدين، وتمزق العالم الإسلامي إلى دويلات، كل حزب بما لديهم فرحون، ثم سادت النظريات الإلحادية، ووزعت ثروات الأمة وخيراتها على غير أبنائها، وحصل للأمة ما يعلم كل أحد من خلال دراسة التاريخ، نكبات، دويلات وخيانات، حتى أصبح الضعف والتخلف سمة من السمات المميزة للأمة في الوقت الحاضر، وصار يطلق غيرها عليها: الدول النامية والعالم الثالث، وغيرها من الألقاب التي يجب أن تؤثر فيها ولا ترضى بها وتسعى جاهدة في تغييرها.
أيها المسلمون، بعد هذه المقدمة القصيرة نصل إلى قناعة، إلى أن الواقع يحتاج إلى تغيير، وأن هذا التغيير لا يقوم إلا بجهد، وهذا الجهد لا يكون إلا بالبشر أنفسهم، ومن قلب هذه الأمة لا من خارجها، فهم الذين يباشرون التغيير وذلك بعد مشيئة الله عز وجل، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
إن كل مجتمع لا بد له من قيادة، وكل جيل لا بد له من موجهين ومنظرين، هناك فئة هم أصحاب التأثير في كل وسط، وعليك أن تتخيل ـ أخي المسلم ـ حالة مجتمع أصحاب التأثير فيه والموجهون فيه والرموز التي ينظر إليها الناس ويعجبون بهم هم الرياضيون ولاعبو الكرة، هل يمكن لهذا الوسط أو لهذا المجتمع أن يقدم خيرًا لأمته، أو أن يغير واقعًا، أو أن يدفع ظلمًا لحق ببعض أبنائه في أرض البلقان أو أرض الأفعان أو أرض الصومال أو غيرها من أراضي الله الواسعة؟! أو عليك أن تتخيل مجتمعًا أو وسطا أصحاب التأثير فيه هم زمرة من الشهوانيين، لا يفكرون إلا في الكأس والمرأة سافرة متبرجة، إما خلف مقود سيارة أو على مدرجات الملاعب أو خلف طاولات العمل، تستقبل الناس في فندق أو مستشفى أو غيرها من الأماكن، كيف يكون حال هذا المجتمع؟! وإلى أي مستوى من التغيير يمكن أن يصل؟! هل تتصور أن هذا الوسط الذي هذه قيادته وهؤلاء أصحاب النفوذ فيه أن يقدّم خيرًا لأمته، أو أن يغير واقعًا، أو أن يساهم في إقامة مصنع، أو تنشيط تجارة على الأقل، فضلاً عن التفكير في أصعب الأمور والعمل لأجلها لرفع مستوى البلد ثقافيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا؟!
لا شك أن القيادة والتوجيه ومن بيده اتخاذ القرار لو كان من هذه الفئة وهي فئة الشهوانيين أيًا كان اتجاه هذه الشهوة فإنك سترى المنكر علنًا في ذلك الوسط، وسترى التميّع والتخنث في الشوارع والأسواق والشواطئ، وسترى قلة الحياء، ولا يُستغرب إذا رأيت بعد فترة كتل اللحم أمام ناظريك، لحم الأرجل والسيقان والظهور، وسيصل إلى الصدور والنحور إذا لم يتغمد الله عز وجل ذلك المجتمع برحمته.
وستسمع وسترى عبر وسائل الإعلام في ذلك المجتمع الطرب واللهو والغناء الفاحش، وكل ما يزيد من سعار الشهوة ويلهب من وهجها؛ لأن الذي يعدّ البرامج والذي يفكر ويخطّط لهذه الوسائل رجل الشهوة، فكيف بعد كل هذا يتربى الناس؟! وعلى ماذا يكبرون؟! وما الثقافة التي ستصل إلى أدمغتهم؟! إنك قليلاً ما تشاهد أو تسمع في مجتمع الشهوة برنامجًا جادًا أو حلقة علمية نافعة، حتى بعض الفقرات النافعة أو الجادة في تلك البرامج لا بد من إقحام العنصر النسوي فيها، فالسؤال الآن: هل يمكن لمجتمعٍ أصحابُ القرار فيه هم رجال الشهوة أن يقدم هؤلاء خيرًا للأمة؟!
أوْ عليك أن تتخيّل مجتمعًا أو وسطًا ما أصحاب النفوذ وأصحاب التأثير فيه ومفكروها أناس أبغض ما لديهم الدين، وأكثر ما يزعجهم أحكام الشريعة، يحاولون جادين في إبعاد الدين عن واقع الحياة، ويحاولون إقناع الناس بأن الدين عبارة عن علاقة بين الإنسان وربه، أما الأمور الأخرى، أما العلاقات والقضايا الاجتماعية والحياة الأسرية، فضلاً عن الوظيفة والتجارة، فهذه لا بأس أن تأخذ من أية فكرة أو أي تصور يراه المجتمع صالحًا ونافعًا. كيف يكون حال هذا الوسط؟! وإلى أي درجة سيصل هذا المجتمع؟!
سوف ينتشر بين الناس التفكير المادي والنظرة المادية؛ لأن العناصر القيادية في ذلك المجتمع سيسخِّر إعلامه لإقناع الناس بهذا النمط من التفكير، ولا شك أن الناس سوف تتأثر تدريجيًا، فتقسو القلوب؛ لأنها لا تسمع وعظًا ولا تذكيرًا، بل حتى المُسلَّمات الغيبية عن الناس يأتي من يشكّك فيها، فلا يُستغرب في ذلك المجتمع التي هذه قيادته أن تقرأ في بعض صحفها السيارة أو مجلاتها الأنيقة من يكتب مقالاً حول قضية شرعية عقدية لا نقاش فيها ولا جدال، وغالبًا المقالات الأولى من هذا النوع تكون مقالات عامة وملتوية وبعيدة عن الوضوح، وتكون عبارة عن جسّ نبض الفئة الصالحة في ذلك الوسط، وعبارة عن تجربة لمدى تقبّل الناس في ذلك المجتمع لمثل هذه الكتابات أو هذا الكلام، لو كانت مقابلة شخصية مع أحد رموز هذا التيار.
فإذا لم يظهر رد على هذا المقال ولم تحصل بلبلة فهذا مؤشر إلى تهيؤ المجتمع لمثل هذه الكتابات أو لبثّ هذه الأفكار، فيأتي المقال الثاني لكن بجرعة أكبر، ويزاد فيها نسبة السم، هكذا فالسؤال الآن: هل لهذا الوسط الذي أصحاب التفكير فيه بهذا الاتجاه أن يشارك في تقديم نفع لأمته؟! هل لمجتمعٍ أصحابُ التأثير فيه مُتفلِّتون من تكاليف الدين أن يشارك في آلام الأمة، أو أن يقدم يدَ المساعدة والعون ليتيمٍ أو أرملة في بقاع الله الواسعة لمجرد أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟! هل يتأثر؟! بالتأكيد أنه لا يتأثر؛ لأنه لو بيده لسحق كلّ من يتلفظ بهذه الكلمة، لكن أنَّى لمثل هؤلاء المرتَزقة أن يحقّقوا مآربهم، والله جل وتعالى سيفضحهم، ويخيب آمالهم، وسيعلو دين الله عز وجل، رضي من رضي، وسخط من سخط.
أيها المسلمون، نريد أن نصل بعد هذا كله إلى أن المجتمع الذي يظهر فيه شيء مما ذكر فإن واقع ذلك المجتمع يحتاج إلى تغيير، وليعلم بأن التغيير مرتبط بمقدار الجهد المبذول، فإذا تحرك أصحاب التصور السليم كان التغيير سليمًا، وإذا تحرك بعض أصحاب المبادئ التي ذكرت قبل قليل كان التغيير لصالحهم، كما قال تعالى: كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:20].
فنسأل الله عز وجل أن يهيئَ لهذه الأمة من يأخذ بيدها إلى برّ الأمان، وأن يعجّل فرَجَها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، قال الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
أخي المسلم، بعدما سمعت الخطبة الأولى أظنّك أدركت ضرورة التغيير وواجب الإصلاح وتقديم كل ما بإمكانك أن تقدمه لدينك وأمتك.
أيها الأحبة في الله، إنني أخاطب بهذه الكلمات كل مسلم في هذه الأمة، وكلّ منا بمقدوره أن يقدم الكثير تجاه هذا الواقع المرّ، وها أنا أرسم لك بعض معالم هذه الخطوات:
فأولاً: لو أتيحَت لك فرصة في مركز قياديّ فلا تتردد، وظيفة أو عمل أو تكليف أو غيره، اعلم جيدًا أنك لو فوّتَّ الفرصة وتخلّيت عن الدور فسيحلّ مكانك إما رجل شهواني أو مغرور أو صاحب أفكار منحرفة، فوجودك أنت في هذا المنصب أولى وأفضل، وبإمكانك من خلاله أن تخدم الأمة وتنفع الناس وتقدم الأفضل.
بعض الناس لو عرضت عليه بعض الأدوار تنحّى جانبًا بحجة التواضع أو ازدراء النفس أو الزهد في الدنيا. يا أخي، هذا ليس مجال تواضع أو زهد، بل هو مجال تنافس وتصارع بين قوى الخير والشر، والأمر لا يهمك أنت شخصيًا، بل يهم الإسلام، بهذا المنظار يجب عليك أن تنظر للأمور.
ثم عليك ـ ثانيًا ـ بالاعتناء بالعلم الشرعي، لا نريد ممن يسعى للتغيير ويطمح لإصلاح الأوضاع أن تكون قراءته قراءَة ثقافة في أوقات الفراغ، هذا لا يصلح، وليس هذا صفات عناصر التغيير في المجتمع، بل نطالب هؤلاء الشباب بثني الركب في حلق العلم، وطلب العلم من مظانه، والصبر على المطولات، والاطلاع بعمق، وغربلة كتب السلف، وتكوين قاعدة صلبة وفق منهج أهل السنة والجماعة، وتأصيل القضايا الشرعية.
ثالثًا: علينا استغلال الملكات والقدرات، ومن المؤسف جدًا أننا نملك الكثير من القدرات والطاقات، والتي لا تقوم إلا بأقل القليل مما يفترض أن تقوم به وبإمكانها أن تقوم به.
إننا نملك الوقت ونملك الفراغ والصحة والشباب والأمن والخيرات، كل هذه القدرات لا بد أن تستغل استغلالاً طيبًا موفقًا من أجل التغيير والإصلاح، ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
وبمناسبة استغلال القدرات، يذكَر أن اليابان كانت قبل قرن من الزمان تعيش في عزلة وتخلف، ثم أصبحت في مصاف الدول الصناعية الكبرى، وفي عداد الدول المتقدمة، مع أنها لا دِينَ لها، فكيف حصل ذلك؟! حصل بنوع من الجد الصارم والعزيمة القوية في استخدام الطاقات واستغلال الجهود واستهلاك الوقت في البناء والإصلاح، فإذا كانت هذه الأمة الضالة قد استطاعت أن تفيق من ذلك السبات العميق، فكيف بأمة القرآن ذات المنهج والسيادة والتاريخ؟!
رابعًا: على الموجّهين والذين يهمّهم التغيير تربية الشباب على الجدية والشجاعة والبناء واستغلال الوقت واستثماره في الصلاح وغرس هذه القضية لديهم.
خامسًا: على كل عناصر التغيير بجميع مستوياتها أن تجعل هذا من أساس منهجها في التغيير، وهو أن تغيير النفوس وإصلاح القلوب أولاً وتوجيه الأعمال وتنظيف الأفكار وتطهير الأدران كل ذلك لا يحصل بضغط زر من الأزرار، وإنما الأمر يحتاج إلى مجاهدة ومجالدة وكبد، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، فالهداية والاستقامة لا تأتي فلتة عارضة من السماء، بل هي متعلقة بالمجاهدة، وأعظم الناس هداية أكثرهم مجاهدة لنفسه، وحتى المهتدين وحتى الأخيار والصالحين والأبرار في حاجة لما هو أفضل وأزكى، وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد:17].
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
(1/4079)
المؤمن كخامة الزرع
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الفتن
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/7/1417
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح قول : ((المؤمن كخامة الزرع)). 2- تكفير ذنوب المؤمن بالبلاء والمصائب. 3- فوائد مستخرجة من الحديث. 4- الدعاء سبب عظيم في تخفيف المصائب ورفع الكروب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفّأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء)) واللفظ للبخاري (5644).
أيها المسلمون، لقد صدق رسول الله في قوله: ((أوتيت جوامع الكلم)). كلمات قليلة يقولها عليه الصلاة والسلام تحمل من المعاني والفوائد الشيء الكثير. وهذا من جوامع كلمه عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع، من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت تكفّأ بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء)).
عباد الله، إن النبي ضرب مثل الريح في هذا الحديث العظيم بالبلاء الذي يصيب الناس، المصائب والمحن والشدائد التي تواجه كل إنسان، المؤمن والكافر والبار والفاجر.
وشبه الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمن في هذا الحديث بخامة الزرع، وهي الرطبة من النبات الذي يكون لينًا تحركه وتهزه أدنى ريح، فهو يتحرك معها يمنة ويسرة، ومثل المنافق والفاجر بالأرزة، وهي الشجرة العظيمة التي لا تحركها الرياح ولا تزعزعها، حتى يرسل الله عليها ريحًا عاصفًا فتقلعها من الأرض دفعة واحدة.
هل أدركتم ـ أيها الإخوة ـ مراد الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث؟ يبين عليه الصلاة والسلام بهذا الحديث فضيلة عظيمة للمؤمن بابتلائه في الدنيا، وأن المحن والشدائد والمصائب تصيب المسلمين والمؤمنين أكثر من الفجرة والكافرين، فالمؤمن تعرض له في هذه الدنيا أنواع من البلاء، في جسده وفي أهله، وفي ماله وفي دينه، وشبه الرسول كثرة ما يتعرض له المؤمن من البلاء بهذه الرياح التي تلعب بالزرع الصغير ((خامة الزرع)) يمنة ويسره، أما الفاجر والمنافق والكافر فلا يصيبه البلاء حتى يموت، ولذا فهو كالأرزة، وهي الشجرة العظيمة، وهذا تمثيل بعدم تعرض الكفار عمومًا للبلاء حتى الموت، فيلقون الله عز وجل بذنوبهم كلها، فيستحقون العقوبة عليها، بخلاف المؤمن الذي تكون هذه المحن في حقه بمثابة المطهر والمزيل لذنوبه.
((مثل المؤمن كمثل خامة الزرع، من حيث أتتها الريح كفأتها، فإذا اعتدلت كفأتها بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة، حتى يقصمها الله إذا شاء)).
أيها المسلمون، وردت نصوص كثيرة في تكفير ذنوب المؤمن بالبلاء والمصائب، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفرّ الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها)) ، وفيهما أيضًا عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما يصيب المؤمن بلاء ولا نصب ولا وصب ولا هم ولا حزنٌ ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) ، وفيهما أيضًا عن ابن مسعود عن النبي قال: ((ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حت عنه خطاياه كما يحت ورق الشجر)) ، وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي قال: ((ما يزال البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة)) ، وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) ، وفي سنن أبي داود عن عامر قال: جلست إلى النبي نذكر الأسقام فقال: ((إن المؤمن إذا أصابه السّقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفى كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدر لِمَ عقلوه ولِمَ أرسلوه)) ، فقال رجل ممن حوله: يا رسول الله، ما الأسقام؟ والله ما مرضت قط، قال : ((قم عنا فلستَ منا)) ، وهذا كما قال للذي سأله عن الحمى فلم يعرفها، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا)) ، فجعل عليه الصلاة والسلام الفرق بين أهل الجنة وأهل النار في الحديث السابق إصابة البلاء والمصائب، كما جعل ذلك فرقًا بين المؤمنين وبين الفجار المنافقين.
فهذه الأسقام والبلايا كلها ـ يا عباد الله ـ كفارات للذنوب الماضية ومواعظ للمؤمنين، حتى يتعظوا ويرجعوا إلى الله، كما قال الفضيل رحمه الله تعالى: "إنما جعلت العلل ليؤدب بها العباد، وليس كل من مرض مات"، ويقول الحسن رحمه الله: "إنما أنتم بمنزلة الغرض يرمى به كل يوم، ليس من مرضه إلا أصابتكم فيه رمية، عقل من عقل، وجهل من جهل، حتى يجيء الرمية التي لا تخطئ".
أيها المسلمون، إن تمثيل الرسول المؤمن بخامة الزرع وتمثيل المنافق والفاجر بالشجر العظام يشتمل على فوائد جليلة، فنذكر منها ونقف مع بعضها:
أن الزرع ضعيف مستضعف، والشجر قوي مستكبر متعاظم، فنلاحظ بأن الشجر لا يتأثر من حر ولا برد، والزرع بخلاف ذلك، وهذا هو الفرق بين المؤمنين والكافرين، وبين أهل الجنة وأهل النار. ورد في الصحيحين عن حارثة بن وهب عن النبي قال: ((ألا أخبركم بأهل الجنة وأهل النار؟ أهل الجنة كل ضعيف مستضعف، لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟)) ، قالوا: بلى، قال: ((كل شديد جعظري، هم الذين لا يألمون رؤوسهم)) ، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((تحاجت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟! وقالت النار: ما لي لا يدخلني إلا الجبارون المتكبرون؟!)).
وقد وصف الله المنافقين في كتابه بالخشب المسندة، فقال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4]، أما المؤمنون فبعكس هذه الصفات، حالهم مستضعفون في ظاهر أجسامهم وكلامهم؛ لأنهم اشتغلوا بعمارة قلوبهم وأرواحهم عن عمارة أجسامهم، وبواطنهم قوية ثابتة عامرة، فيكابدون بها الأعمال الشاقة في طاعة الله من الجهاد والعبادات وتعلم العلم مما لا يستطيع المنافق مكابدته لضعف قلبه، فالإيمان الذي في قلبه مثله كمثل شجرة طيبة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، فيعيش على الإيمان، ويموت ويبعث عليه، وإنما الرياح ـ وهي بلايا الدنيا ـ تقلب جسمه يمنة ويسرة، أما قلبه فلا تصل إليه الرياح؛ لأنه محروس بالإيمان، أما الكافر والمنافق والفاجر فبعكس ذلك، جسمه قوي، لا تقلبه رياح الدنيا، وأما قلبه فإنه ضعيف تتلاعب به الأهواء المضلة فتقلبه يمنة ويسرة، فكذلك كان مثل قلبه كشجرة خبيثة، اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.
ومن فوائد هذا الحديث أيضًا أن المؤمن يمشي مع البلاء كيفما مشى به فليكن له، فيقلبه يمنة ويسرة، فكلما أداره استدار معه، فتكون عاقبته العافية من البلاء وحسن الخاتمة، ويوقى ميتة السوء، وفي هذا لفتة للمؤمنين الذين يقاومون رياح الفساد والعلمنة أن لا يتصلبوا في كل مواقفهم فربما يُقتلعوا وهم لا يشعرون، وقد تضرهم بعض لفحات هذه الرياح، لذا لا بد من التلاين مع هذه الرياح دون تنازل في محرّم في بعض الفترات، وهذه من كياسة وفطنة المؤمن. أما الفاجر فلقوته وتعاظمه يتقاوى على الأقدار، ويستعصي عليها كالشجرة القوية التي تستعصي على الرياح ولا تتطامن معها، فيسلط عليه ريح عاصف لا يقوى عليها فتقلعه من أصله بعروقه، كما حكى الله عن عاد في قوله تعالى: فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ [فصلت:15، 16]. فمن تواضع لعظمة الله وصبر على بلائه كانت عاقبته الجنة، وسلم في الدنيا والآخرة من البلاء، ومن تقاوى على أقدار الله عجل الله عقوبته، وسلط عليه بلاء يستأصله ولا يقدر عليه، كالشجر العظام التي تقلعها الرياح بعروقها.
وصدق الشاعر إذ يقول:
إن الرياح إذا عصفن فإنما تولي الأذية شامخ الأغصان
وقال آخر:
من أخمل النفس أحياها وروحها ولم يبت طاويًا منها على ضجر
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها فليس ترمي سوى العالي من الشجر
الوقفة الثالثة: ومن فوائد الحديث أيضًا أن الزرع يُنتفع به حصاده بخلاف الشجر؛ فإن خامة الزرع يحصده أربابه ثم يبقى منه بعد حصاده ما يلتقطه المساكين وترعاه البهائم، وهكذا مثل المؤمن، يموت ويخلف ما ينتفع به من علم نافع أو صدقة جارية أو ولد صالح يدعو له، وأما الفاجر فإذا اقتلع من الأرض لم يبق فيه نفع، ربما أثر ضررًا فهو كالشجرة المنجعفة، لا تصلح إلا لوقيد النار، نسأل الله السلامة والعافية.
فحاول ـ أخي المؤمن ـ أن تكون كخامة الزرع تنفع في كل حال، وتنفع في كل وقت، ويكون نفعك لأغلب فئات المجتمع ولكل الناس؛ ليبقى لك أثر حتى بعد وفاتك.
نسأل الله عز وجل أن يحسن خاتمتنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الوقفة الرابعة: ومن فوائد هذا الحديث أيضًا وهذه فائدة لا بد من تدبرها أيها الإخوة، هو أن الزرع وإن كان له طاقة ضعيفة إلا أنه يتقوى بما يخرج معه وحوله، يعتضد به، بخلاف الشجر العظام، فإن بعضها لا يشد بعضا.
وقد ضرب الله تعالى مثل النبي وأصحابه بالزرع لهذا المعنى، فقال تعالى: وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [الفتح:29]، فقوله تعالى: أَخْرَجَ شَطْأَهُ أي: فراخه، فَآزَرَهُ أي: ساواه وصار مثل الأم وقوي به، فَاسْتَغْلَظَ أي: غلظ وقوي، فالزرع مثل النبي إذا خرج وحده، فأمده الله بأصحابه وهم شطأ الزرع كما قويت الطاقة من الزرع بما نبت فيها، حتى غلظت واستحكمت، فاستوى على سوقه. فهذا يدل ـ أيها الإخوة ـ أن المؤمن وإن كان ضعيفًا بنفسه في بعض الأحيان أو في بعض الأماكن أو المواقف فهو قوي بإخوانه، كخامة الزرع التي تتقوى بما يخرج حولها من زرع آخر، ولهذا قال الله تعالى في حقهم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. بينما قال الله تعالى في المقابل في حق المنافقين: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ [التوبة:67] أي: أن بعضهم من جنس بعض في الكفر والنفاق، وقال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر:14]. ويوضح هذا المعنى ما ورد في الصحيحين عن النبي أنه قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا)) وشبك بين أصابعه، وفيهما أيضًا عن النبي : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائره بالحمى والسهر)).
أيها المسلمون، إن المؤمن يصيبه من الشرور والمحن والأذى أكثر مما يصيب الكفار، والواقع شاهد بذلك، ولكن مصائب المؤمن مقابَلَة بالرضا والاحتساب، وذلك يخفف عليه ثقل البلاء، أما الكافر فلا رضا عنده ولا احتساب، وإن صبر على الأذى فكصبر البهائم، وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].
وأيضًا ـ أيها الإخوة ـ فإن ابتلاء المؤمن كالدواء له، يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته أو نقصت ثوابه وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء، ويستعد به لتمام الأجر، وهذا ـ لا شك ـ فيه خير للمؤمن، يقول عليه الصلاة والسلام: ((عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن)).
عباد الله، إن المؤمن معرض في هذه الدنيا الزائلة أن يصيبه أي شيء، وقد تأتيه البلية من حيث لا يشعر، ولكن ـ أيها الإخوة ـ هناك سلاح عند المؤمن لو أحسن استخدامه لخفف عنه كثيرًا من الأذى والشرور، ألا وهو سلاح الدعاء الذي غفل عنه كثير من الناس، يعتمد أغلب الناس على أمور مادية في دفع المصائب، وما علموا أن الدعاء أنفع وأقوى.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وتنبهوا لمثل هذه الأمور التي تعينكم في دنياكم وأخراكم، وصدق من يقول وهو يصف نفسه في حال بلاء وكيف أنه هُدي إلى هذا السلاح فتوجه إلى ربه قائلاً:
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا وقمت أشكو إلى مولاي ما أجِد
وقلت: يا أملي فِي كل نائبة ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أمورًا أنت تعلمها ما لي على حَملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً إليك يا خير من مُدَّت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة ونَهر جودك يروي كل من يرد
(1/4080)
حريق المدينة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/4/1414
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الإيمان بكل ما أخبر به الرسول من أشراط الساعة. 2- حادثة خروج نار بالمدينة. 3- حادثة إغراق بغداد بالمياه. 4- جواب عن سؤال مشكل وهو: هل كل ما يصيبنا هو بسبب ذنوبنا وبسبب معاصينا وأفعالنا؟ 5- كيف تساهم في نصرة إخوانك المظلومين؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الرسول قد أخبرنا في غير ما حديث أنه لا تقوم الساعة حتى يحصل كذا، أو لا تقوم الساعة حتى يخرج كذا، أو لا تقوم الساعة إلا على كذا. وهذا الذي أخبر به النبي غيب وحق يجب التصديق به، إذا ثبت النص عن رسول الله عن مثل هذه الأمور الغيبية فيجب اعتقاد حصوله، وهذا جزء من عقيدة المسلم وإيمانه بالغيب.
وهذا الذي أخبر به الرسول الله منه ما حصل وانتهى، ومنه ما هو واقع وحاصل الآن، ومنه ما لم يقع وسيحصل في المستقبل. فمما حصل وانتهى قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز تضيء أعناقَ الإبل ببُصرى)). ومما هو حاصل الآن قوله : ((لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد)) ، وقوله: ((لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان؛ فتكون السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كالضرمةِ بالنار)). ومما لا يقع بعد وسيقع بكل تأكيد قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيغلبهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الفرقد فإنه من شجر اليهود)) ، وقوله: ((لا تقوم الساعة حتى لا يحجّ البيت)) ، وقوله: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قومًا صغار الأعين عراض الوجوه، كأن أعينهم حدق الجراد، كأن وجوههم المجان المطرقة، ينتعلون الشعر ويتخذون الدرق حتى يرتبطوا خيولهم بالنخل)).
أيها الأحبة في الله، موضوع خطبتنا هذه الجمعة ما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لاتقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى)).
أيها المسلمون، هذا مما أخبر عنه المصطفى ووقع، وهو أمر غريب حقًّا، أن تخرج نار من الحجاز يُشاهد ضوؤها في أرض الشام من قوّتها وعظمها، إنها آية من آيات الله جل وتعالى. وقد حصل هذا في جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة في مدينة رسول الله ، وقد ذكر القصة بتمامها الحافظ ابن كثير رحمه الله في تاريخه البداية والنهاية، وذكرها أيضًا شهاب الدين عبد الرحمن بن إسماعيل الملقب بأبي شامة في تاريخه، وهو ممن كانت في عصره ووقته.
وخلاصة القصة أن المدينة زلزلت، وصار الناس يشعرون بتحرك الأرض من تحتهم، وبدؤوا في سماع أصوات مزعجة من منتصف الأسبوع وبالتحديد يوم الاثنين، وخمسة أيام وهم على هذه الحالة، ارتجت وارتجفت الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب، يقول أبو شامة: فارتجت الأرض مرة ونحن داخل مسجد رسول الله حول حجرته، حتى اضطرب المنبر، وسمعنا صوت الحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، وبدأ الخوف والرعب في قلوب الناس، لا يدرون ماذا يفعلون، يخافون من الخروج ويخافون من البقاء، ثم صار مع الزلزال أصوات شديدة يشبه صوت الرعد، وأقام الناس على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الأربعاء تعقّب الصوت الذي كان يُسمع زلزال، واستمر الوضع على هذا الحال حتى ضحى يوم الجمعة الخامس من شهر جمادى الآخرة لسنة أربع وخمسين وستمائة، حتى تفجرت الأرض، وخرجت نار عظيمة بحجم مدينة عظيمة شرق المدينة من ناحية وادي شظا تلقاء أحد، فخاف الناس خوفًا شديدًا، ومن قوة تلك النار سال الصخر، وذابت الحجارة حتى صارت مثل الآنك، ثم صارت كالفحم الأسود، والنار ترمي بشرَر عظيم، حتى سال من شدة هذه النار الوادي، يسيل صخرًا وحجارة مذابة، حتى ملأ واديًا مقداره أربع فراسخ وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض، فإذا جمد صار أسود، وقبل جموده وهو يسير كان لونه أحمر، ثم صارت النار تخرج دخانًا عظيمًا ينعقد في السماء حتى يبقى كالسحاب الأبيض، ثم ظهرت للنار ألسن تصعد في الهواء حمراء كأنها القلعة العظيمة. عندها فزع الناس ودخلوا مسجد رسول الله وتجمع الناس حول الحجرة الشريفة واستجاروا إلى الله، وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى، وأتى الناس إلى المسجد من كل فج ومن النخل وتركوا مزارعهم، وخرج النساء من البيوت وكذلك الصبيان، واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله، وغطت حمرة النار السماء كلها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر وبقيت السماء كالعلقة، وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب، وبات الناس تلك الليلة بين مصلٍ وتال للقرآن وراكع وساجد وداع إلى الله عز وجل ومتنصل من ذنوبه ومستغفر وتائب، ولزمت الناس مكانها، ولم تدخل النار المدينة، ثم صار يخرج من النار حصى يصعد إلى السماء ويهوي على الأرض، ويخرج منها كالجبل العظيم نار ترمى كالرعد.
فما وصل الحال إلى هذا الحد والناس هذا يومهم الخامس وهم على هذه الحالة، عندها قام قاضي المدينة وذهب إلى الأمير ودخل عليه وصار يعظه، وقال له: قد أحاط بنا العذاب، ارجع إلى الله تعالى، فأعتق الأمير كل مماليكه، وردَّ على جماعة أموالهم كان قد أخذها ظلمًا، وطرح المكوس وهي الضرائب التي كان قد فرضها على الناس، فقال له القاضي: اهبط هذه الساعة معنا، فنزل معهم الأمير، ودخل معهم المسجد النبوي، وباتوا في المسجد تلك الليلة جميعًا مع النساء والأولاد، وكانت ليلة السبت. ثم سال من الوادي المذاب نهر من نار، وسد بعض الطرق الداخلة إلى المدينة لكنه توقف، ثم بدأت الأوضاع تهدأ قليلاً قليلاً، إلى أن زالت، لكن بقيت آثارها على الأرض يشاهدها الناس، وتاب جميع أهل المدينة، ولا بقي يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، وعلم الناس أن الذي أصابهم كان بسبب ذنوبهم، وشوهدت ضوء تلك النار ببصرى بأرض الشام، ورأوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار، وتحقق ما أخبر به الرسول الله ، وقال بعضهم أبياتًا من الشعر في هذه الحادثة العظيمة، فيقول قائلهم:
يا كاشف الضر صفحًا عن جرائمنا لقد أحاطت بنا يا ربّ بأساءُ
نشكو إليك خطوبًا لا نطيق لها حَملاً ونَحن بِها حقًّا أحِقّاءُ
زلازل تخشع الصم الصلاب لَها وكيف يقوى على الزلزال صماء
أقام سبعًا يرج الأرض فانصدعت عن منظرٍ فيه عين الشمس عشواء
بَحر من النار تجري فوقه سفن من الهضاب لَها فِي الأرض إرساء
كأنَّما فوقه الأجبال طافيةٌ موجٌ عليه لفرط البهج وعثاء
ترمي لها شررًا كالقصر طائشة كأنَّها ديمةٌ تنصبُ هطلاء
تنشقّ منها قلوب الصخر إن زفرت رعبًا وترعد مثل الشعب أضواء
منها تكاثف فِي الجو الدخان إلى أن عادت الشمس منه وهي دهماء
قد أثرت سفعةً في البدر لفحتها فليلة التم بعد النور ليلاء
تحدث النيران السبع ألسنها بِما يلاقي بِها تحت الثرى الماء
وقد أحاط لظاها بالبروج إلَى أن كاد يلحقها بالأرض أهواء
فيا لَها آيةٌ من معجزات رسو ـل الله يعقلها القوم الألباء
إلى آخر تلك القصيدة الطويلة.
ومن عجيب قدرة الله جل وتعالى أنه في نفس السنة وفي نفس الشهر أيضًا أغرق الله تعالى بغداد بالعراق، فقد أصابها غرق عظيم حتى طفح الماء من أعلى أسوار بغداد، وغرق كثير من الناس، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلاثمائة وثمانون دارًا كلها تهدمت على بكرة أبيها، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك وفسد من خزانة السلاح الشيء الكثير، وأشرف الناس على الهلاك، وصار الناس يدخلون بالسفن وسط البلدة وفي أزقة بغداد.
ومما نظمه بعض الشعراء قوله:
سبحان من أصبحت مشيئته جارية فِي الورى بمقدار
أغرق بغداد بالمياه كما أحرق أرض الحجاز بالنار
فنسألك اللهم أن ترحمنا برحمتك، اللهم لا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: هناك مسألة مهمة جدًا تتعلق بما مضى سرده في الخطبة الأولى، تشكل على بعض الناس، وهذه المسألة هي: هل كل ما يصيبنا هو بسبب ذنوبنا وبسبب معاصينا وأفعالنا؟ فالجواب أن في المسألة تفصيلا وهو: أنه ينبغي أن نفرق بين ما يصيب الناس كأفراد، وما يصيب الناس بشكل عام.
أما ما يصيب الناس عمومًا وما يحل بالمجتمعات والدول والحضارات فهذا لا شك أنه بسبب ذنوبهم، وبسبب بعدهم عن منهج الله، وبسبب المعاصي والكبائر والفواحش الموجودة عندهم، فينزل العقاب العام والدمار الشامل على ذلك المجتمع أو تلك الدولة أو هاتيك الحضارة، ويعم الصالح والطالح، الطيب والخبيث، ثم يبعث الناس بعد ذلك على نياتهم. قالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) ، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16].
وأما ما يصيب الأفراد كأفراد فلا يستلزم أن يكون بسبب الذنوب والمعاصي، قد تكون الذنوب سببًا، وقد تكون ابتلاءً من الله جل وعلا، فالعبد قد يكون صالحًا تقيًا نقيًا، من أهل الصلاح والاستقامة، فحلت به مصيبة، فلا يكون بسبب ذنوبه، إنما هو ابتلاء من الله لهذا العبد، لرفع درجاته، أو تطهيره من أشياء سابقة ونحوها، لكن العقاب العام هذا لا يكون إلا بسبب الذنوب. فما يصيب الأمة الآن، هذه الهجمات التي توجه على الأمة صباح مساء، هذه الجراحات التي تنزف في كل مكان، هذا الاضطهاد وهذا التقتيل وهذا الإجرام الذي ينزل بالمسلمين في شتى بقاع الدنيا، فإن كل هذا بسبب ذنوبنا ومعاصينا وبعد المسلمين عن الله اعتقادًا وقولاً وعملاً وحكمًا وتحاكمًا.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، هل تعلم ـ أيها العبد أنت أيها الفرد ـ أنك بكل ذنب ترتكبه وبكل معصية تفعلها وبكل تقصير في حق الله، أنك تساهم وتزيد مصاب الأمة، وأنك مشارك في جراحات المسلمين؟! هل تعلم هذا؟!
جاءني رجل في يوم من الأيام، وسألني عما يحصل للمسلمين الآن على أرض البوسنة، ثم صار يلتمس الأعذار ويبحث عن المبررات لنفسه أنه ليس بإمكانه أن يقدم شيئًا، فهو رجل بسيط عادي نكرة في هذا المجتمع كما يتصور هو، وليس لديه أموال لكي يساهم في مساعدة المسلمين هناك، وليس بإمكانه الذهاب بنفسه للمشاركة في القتال هناك. فقلت له وأقولها لكم جميعًا أيها الأخوة: يكفينا منك أن تكف عن المعاصي وتتخلص من الذنوب والمنكرات التي أنت واقع بها، وهذه تعتبر أكبر مساعدة منك لإخوانك في البوسنة وغيرها من بلاد الله، احتسب عند الله تعالى أنك تُطهر نفسك، لكي لا تكون سببًا في مُصاب المسلمين في كل مكان. والله لو أدرك الناس هذه الحقيقة وامتثلوا لهذا الأمر وتخلص كل منا عما هو واقع فيه، المرابي ترك الربا، والغاش ترك الغش، والظالم رد المظالم، وطهر الناس بيوتهم مما تعجّ فيها من المنكرات والطامات، لصلحت أحوال الناس، والتأمت جراحات الأمة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتق الله يا عبد الله، لا تكن سببًا في قتل المسلمين هنا أو هناك، لا تكن سببًا في هتك أعراض المسلمات العفيفات الشريفات، لا تتسبب في تشريد العجائز عن ديارهم، وفي هدم المساجد فوق رؤوس المصلين، وفي تقطيع الأطفال أمام أعين آبائهم وأمهاتهم، لا تكن سببًا ومشاركًا بسبب مخالفاتك هنا ماذا يدريك أن تنقلب الآية ويأتيك الدور أنت، فيفعل بك ما فعل بغيرك.
فاتقوا الله أيها المسلمون، تمسكوا بدينكم، حافظوا على صلواتكم حيث ينادى لها، زكوا أموالكم، طهروا بيوتكم من اللهو ومزامير الشيطان والصور، استروا نساءكم ولا يخرجن سافرات متبرجات، اتركوا الحرام في معاملاتكم، أدوا الأمانات إلى أهلها، ردوا المظالم إلى أصحابها، من كان متلبسًا بمعصية فليتب، ومن كان مرتكبًا المنكر فليدع، ومن كان شاربًا للخمر فلينته، ومن كان مبتلى بالزنا فليستغفر، ومن كان شاربًا للدخان فليترك، وكل من كان سالكًا لغير الطريق الذي رسمه رسول الله فليرجع إلى الجادة، وعليه بالمحجة، فالزائغ عنها هالك خاسر في الدنيا والآخرة.
اللهم لا إله إلا أنت، الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يلد، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى أن تجنبنا شرور أنفسنا وأن تجنبنا شر الشيطان وشركه، اللهم أصلح بواطنا وظواهرنا وسرنا وعلانيتنا.
اللهم اغفر لكل مسلم ومسلمة ميت وميتة، اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين...
(1/4081)
عيد الفطر1420هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/10/1420
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختلاف البلدان في دخول شهر شوال لا يضر. 2- عظم الصلاة في الإسلام. 3- التحذير من جملة من المعاصي والموبقات. 4- الوصية ببعض الأعمال الصالحة والقربات. 5- وصايا عامة للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن يومكم هذا يوم عظيم وعيد كريم، فأقول لكم: كل عام وأنتم بخير، تقبل الله مني ومنكم، أسأل الله جل وتعالى أن يجعلني وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من المقبولين، ممن تقبل الله صيامهم وقيامهم وكانوا من عتقائه من النار.
اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه قد ثبت دخول شهر شوال هذا اليوم ثبوتًا شرعيًا، وأن اختلاف البلدان في دخول الشهر لا يضر؛ وذلك لأن مطالع القمر تختلف بحسب البلدان بإجماع أهل المعرفة في ذلك.
أيها المسلمون، إن هذا اليوم يوم عظيم من أيام المسلمين، يوم كله بر وإحسان، خرج المسلمون إلى مصليات الأعياد متطهرين مكبرين شكرًا لله تعالى على إتمام شهر الصيام وعونه على القيام. لقد حضر المسلمون وقصدوا مصلاهم وقد أدوا زكاة فطرهم للفقراء والمساكين، فرحين مكبرين مهللين: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر والله الحمد.
أيها المسلمون، لقد رحل عنّا رمضان، وطويت سجلاته ودفاتره، وكل منّا أدرى بما قدم، لكن هل يدركنا رمضان القادم؟! هل يمنّ المولى علينا وندرك رمضان القادم، أم نكون من الذين ترحّم عليهم؟!
فيا شهر الصيام فدتك نفسي تَمهّل بالرحيل والانتقال
فما أدري إذا ما الحول ولّى وعدت بقابل فِي خير حال
أتلقانِي مع الأحياء حيًّا أو أنك تلقني في اللحد بالي
يا خسارة من لم يغفر له في رمضان، ويا خسارة من لم يعتق من النار في رمضان، ويا خسارة من حرم من فيض الرحيم الرحمن.
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي المقصرة بوصية رسول الله ، إذ جعل يقول وهو يجود بنفسه: ((الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) ؛ وذلك لأن الصلاة عمود الإسلام وثاني أركانه وآخر ما يبقى منه، لقد كنتم من المصلين ومن روّاد المساجد طيلة شهر رمضان فواصلوا هذا الخير، الصلاة هي الناهية عن الفحشاء والمنكر، ولا دين ولا إسلام لمن تركها، أقيموها جماعة في بيوت الله وفي أوقاتها التي كتبها الله، وعلى الصورة والهيئة التي سنها رسول الله ، فالصلاة شأنها عظيم في هذا الدين، وقد حكم الله ورسوله على تاركها ومضيعها بأنه كافر مشرك، وأن له الويل في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31]، وقال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، وقال رسول الله : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).
عباد الله، احذروا من الشرك بالله فإنه محبط للأعمال، والجنة حرام على صاحبه، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. والشرك نوعان: أكبر وأصغر، فالأكبر أن تشرك مع الله في عبادته غيره، ويدخل فيه الذبح والنذر لغير الله والاستعاذة بغير الله والتبرك بشجر أو حجر، ومنه صرف الدعاء لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، قال الله تعالى: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس:106]، وأما الأصغر: فالحلف بغير الله والرياء وإرادة الإنسان بعمله الدنيا، قال الله تعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
وإياكم وعقوق الوالدين؛ فإنه من كبائر الذنوب، قال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وفي الصحيحين قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) الحديث.
وإياكم وقطيعة الأرحام، فإن الله تبارك وتعالى لعن قاطعي الأرحام، فقال عز من قائل: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25]، وقال جل ذكره: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
واجتنبوا الظلم، فإنه ظلمات يوم القيامة، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ [إبراهيم:42]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)).
وغضوا أبصاركم عن محارم الله، فإن النظرة سهم من سهام إبليس، ولا تقربوا الزنا فإن فيه خصالا قبيحة ماحقة ومهلكة في الدنيا والآخرة، وقد نهى الله تعالى من الاقتراب منه فكيف بالوقوع فيه؟! وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32].
واحذروا اللواط فإنه يغضب الرب، وعار ونار وشنار على صاحبه في الدنيا والآخرة، قال : ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) قالها ثلاثًا صلوات ربي وسلامه عليه.
وحذار ثم حذار من جماع الإثم ومفتاح الشر الخمر؛ فإنها تذهب العقل والغيرة على الدين والمحارم، وتورث الخزي والندم والفضيحة، ولو لم يكن من رذائلها إلا أنها لا تجتمع هي وخمر الجنة في جوف عبد لكفت، ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة)) قاله المصطفى.
وإياكم ثم إياكم والربا أكلاً وتعاملاً، فإنه حرام حرام بنص كلام ربنا: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وانتبهوا من بعض معاملات البنوك فإنها تحارب الله جهارًا نهارًا، ففيها عين الربا.
واجتنبوا الغيبة والنميمة وقول الزور والعمل به، وإياكم والوقوع في أعراض الناس؛ فإن القصاص سيكون يوم القيامة من الحسنات. وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء:35]، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ [الشعراء:183].
واحذروا المعاصي بجميع أشكالها وألوانها، ومن ذلك المجلات الخليعة التي أظهرت المرأة معبودًا وصنمًا، فافْتَتَن بها شباب الإسلام، زنَت أبصارهم قبل فروجهم إلا من رحم الله. ومن المعاصي التي أحذركم منها الغناء والموسيقى الذي ملأ البيوت إلا بيوت من رحم الله، من أصوات المغنين والمغنيات والماجنين والماجنات الأحياء منهم والأموات، فإنها تتنافى مع الدين والرجولة.
وقوموا بحق الجوار لمن جاوركم، قال : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)).
برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم، وصِلوا أرحامكم تكثر أموالكم وتطُل أعماركم، ففي الصحيحين قال رسول الله : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)).
وأحسنوا إلى من أساء إليكم، ذلكم خير لكم وأزكى وأطهر، قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وإياكم وتركه مع القدرة عليه، وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، وإنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.
وأقيموا أولادكم على طاعة الله، ألزموهم أداء الصلوات المفروضة في المساجد، واستروا نساءكم ومحارمكم، واقسروهن على الستر والتستر، ولا تطيعوهنّ فيما يضر دينكم ودنياكم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
طهورا منازلكم من الصور المجسمة وغير المجسمة إلا ما لا بدّ منه، وحِسابه على من سَنّه، قال رسول الله : ((لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة)).
عظموا شعائر الله وتعاليم دينه، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.
أذكركم جميعًا وأحثكم على صيام ستة أيام من شوال، ففي الحديث الصحيح: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)).
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله كبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، تذكروا بجمعكم هذا يوم الجمع الأكبر حين تقومون من قبوركم، حافيةً أقدامكم، عاريةً أجسامكم، شاخصةً أبصاركم، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، يوم تفرّق الصحف ذات اليمين وذات الشمال، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:7- 12].
أيها المسلمون، قالوا: إن من أراد أن يعرف أخلاق الأمة فليراقبها في أعيادها؛ إذ تنطلق فيه السجايا على فطرتها، وتبرز العواطف والميول والعادات على حقيقتها، والمجتمع السعيد الصالح هو الذي تسمو أخلاقه في العيد إلى أرفع ذروة، ولقد رأى أحد السلف قومًا يعبثون في يوم العيد بما لا يرضي الله فقال: "إن كان هؤلاء تُقُبِّل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يُتقَبّل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين".
فنسأل الله جل وتعالى أن يرحمنا برحمته، وأن يتجاوز عنا، كما نسأله جل وتعالى أن يجعلنا من الذين قبلهم في رمضان، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
نفعني الله وإياكم بهد كتابه واتباع سنة نبينا محمد ، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المفضّل على جميع العباد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليما كثيرا.
الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيتها الأخوات الحاضرات معنا في هذا المشهد العظيم، الممتثلات أمر رسول الله في شهود الخير ودعوة المسلمين، أسأل الله جل شأنه بكل اسم هو له أن يجعلنا وإياكنّ ممن قال فيهم سبحانه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
أذكركنّ أن رسول الله بعد أن خطب الرجال في مثل هذا اليوم الأغرّ مشى متوكئًا على بلال ، وخطب النساء، وكان من خطبته أنه تلا عليهنّ آية مبايعة النساء في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:12]، فلما فرغ من الآية قال: ((أنتنّ على ذلك؟)) فقالت امرأة واحدة ولم تجبه غيرها: نعم يا رسول الله. ثم أمرهنّ بالصدقة وقال لهنّ: ((تصدّقن؛ فإن أكثركنّ حطب جهنم)) ، فقالت امرأة من وسط النساء: لماذا يا رسول الله؟ فقال: ((لأنكنّ تكثرن الشكاية وتكفرن العشير)) ، فجعلن رضي الله عنهنّ يلقين من قروطهنّ وخواتيمهنّ وقلائدهنّ في ثوب بلال صدقةً لله.
فيا أيتها الأخوات والأمهات، اتقين الله تعالى، وكنّ خير خلف لخير سلف.
أيتها النساء، إن عليكنّ أن تتقين الله في أنفسكنّ، وأن تحفظن حدوده وترعين حقوق الأزواج والأولاد، فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34].
أيتها الأخوات والأمهات، أصغين جيدًا لهذه الأحاديث من كلام رسول الله والتي رواها البخاري في صحيحه، قال النبي : ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، ـ وذكر ـ نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رؤوسهنّ كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها)) ، وعن ابن عباس قال: قال النبي : ((أرِيتُ النار فإذا أكثر أهلها النساء؛ يكفرن)) ، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: ((يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيت منك خيرًا قط)) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد كان رسول الله يصلي الفجر فيشهد معه نساءٌ من المؤمنات متلفعات في مروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحدٌ، وعن عمران بن حصين عن النبي قال: ((اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء، واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء)) ، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((استوصوا بالنساء؛ فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج)) ، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((خير نساء ركبن الإبل صالح نساء قريش؛ أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده)) ، وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي قال: ((ما تركت بعدي فتنةً أضرّ على الرجال من النساء)) ، وعن عقبة بن عامر أن رسول الله قال: ((إياكم والدخول على النساء)) ، فقال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيتَ الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) ، وعن ابن عباس قال: لعن النبي المترجلات من النساء.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعلنا من الذين قبلت منهم رمضان وأعتقتهم من النيران، اللهم اجعلنا ممن صام رمضان إيمانا واحتسابا فغفرت له ما تقدم من ذنبه...
(1/4082)
عيد الفطر 1422هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/10/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختلاف البلدان في دخول شهر شوال لا يضر. 2- أحوال بعض الناس بعد رمضان. 3- ذنوب توعدّ صاحبها بالنار وأخرى متحقق دخول صاحبها النار. 4- وقفة محاسبة. 5- وصف النار. 6- وصايا عامة للنساء. 7- الحضّ على صيام ست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن يومكم هذا يوم عظيم وعيد كريم، فكل عام وأنتم بخير، تقبل الله مني ومنكم. أسأل الله جل وتعالى أن يجعلني وإياكم وجميع إخواننا المسلمين من المقبولين، ممن تقبل الله صيامهم وقيامهم وكانوا من عتقائه من النار.
اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أنه قد ثبت دخول شهر شوال هذا اليوم ثبوتًا شرعيًا، وأن اختلاف البلدان في دخول الشهر لا يضر؛ وذلك لأن مطالع القمر تختلف بحسب البلدان بإجماع أهل المعرفة في ذلك.
أيها المسلمون، إن هذا اليوم يوم عظيم من أيام المسلمين، يوم كله بر وإحسان، خرج المسلمون إلى مصليات الأعياد متطهرين مكبرين شكرًا لله تعالى على إتمام شهر الصيام وعونه على القيام. لقد حضر المسلمون وقصدوا مصلاهم، وقد أدوا زكاة فطرهم للفقراء والمساكين فرحين مكبرين مهللين: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر والله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
أيها المسلمون، لقد أُطلق أسر الشيطان اليوم وفكّ قيده، وسيهجم اليوم علينا بخيله ورجله هجومًا عنيفًا، وسيحمل علينا حملة شعواء بهدف أن يفسد ما جمعنا في رمضان وأن يجعلنا من أهل النار، عافانا الله وإياكم منها.
معظم الناس يعودون لحالهم قبل رمضان، وهذا أمر خطير أن يرجع العبد عن طاعات استمر عليها في رمضان، فالحذر الحذر ـ معاشر الأحبة ـ من سلوك طرق قد توعد الله صاحبها بالنار.
إن هناك ذنوبًا متوعّدا صاحبها بالنار، وهناك ما هو متحقق دخوله نار جهنم والعياذ بالله، نُذَكّر ببعضها في يوم انطلق فيه شياطين الإنس والجن لكي نَحذَرها ونُحَذِّر منها.
أولها وفي مقدمتها الكفر والشرك بالله جل وعلا، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39]، وقال جل وعز عن الشرك: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
ومن الأعمال النفاق، وقد توعد الله المنافقين بالنار، وهو وعيد قطعه المولى على نفسه لا يخلفه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمْ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة:68]، وأخبر أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وهو أشدها حرًا وأكثرها إيلامًا.
ومن الأعمال أيضًا الكبر، وهذه صفة يتصف بها عامة أهل النار، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الأعراف:36]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتُلٍّ جوَّاظ مستكبر)).
ومن الأعمال أيضًا عدم القيام بالتكاليف الشرعية مع التكذيب بيوم الدين وترك الالتزام بالضوابط الشرعية، قال الله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:42- 47].
ومن الأعمال التي قد توجب دخول النار طاعة رؤساء الضلال وزعماء الكفر فيما قرروه من مبادئ الضلال وخطوات الكفر التي تصدّ عن دين الله ومتابعة المرسلين، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب:64- 67].
ومن الذنوب والكبائر المتوعد صاحبها بالنار ـ وهي بلية هذا الزمان ومصيبتها العظمى ـ الربا، وما أدراكم ما الربا، قال الله تعالى في الذين يأكلونه بعد أن بلغهم تحريم الله له: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [آل عمران:130، 131].
ومن الذنوب أيضًا أكل أموال الناس بالباطل، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30].
ومن الذنوب عدم دفع الزكاة، وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34، 35].
ومما قد يُدخِل النار:الغفلة عن الآخرة والرضا والاطمئنان بالدنيا، إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7، 8]، وقال جل شأنه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
ومما توعد الله صاحبه بالنار أيضًا الركون والميل إلى الظلمة، فقال سبحانه: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:113].
الإجرام بكل صوره وأشكاله من الذنوب المتوعد صاحبها بالنار، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ [إبراهيم:49، 50]، وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53]، وقال سبحانه: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:47، 48]. فليفكر كل مجرم في حاله، وليتذكر هذه الآيات خصوصًا إذا كان إجرامه في حق غيره.
ومما قد يدخل النار استبدال نعمة الله بالكفر، بل وإلزام الآخرين بذلك، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَى إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم:28-30].
ومما قد يوجب النار الفسق بكل أنواعه ودرجاته، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة:18-20].
وأيضًا مما توعد الله صاحبه بالنار معصية الله ورسوله، قال الله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [الجن:23]، وقال تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ [النساء:14]، وأين الذي لا يعصي؟! رحماك ثم رحماك يا رب.
ومما قد يدخل النار ـ والعياذ بالله ـ إضاعة الصلوات وعدم الاهتمام بها، وهذا لا يكون إلا عن طريق اتباع الشهوات، قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].
ومن الذنوب التي يستحق فاعلها النار الذي يقطع شجرة السدر التي يستظل بها الناس، فعن عبد الله بن حبيش قال: قال رسول الله : ((من قطع سدرة صَوّب الله رأسه في النار)) رواه أبو داود. هذا الذي يقطع ظل شجرة ينتفع الناسُ بها، فكيف بالذي يقطع ظل الشريعة؟!
ومن الأمور ـ أيضًا ـ المتوعد صاحبها بأن يعذب بسببه في نار جهنم عدم الإخلاص في طلب العلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها. رواه أبو داود والحاكم.
أيها المسلمون، النار موعود بها مدمِن الخمر وقاطع الرحم والمصدّق بالسحر والمنان والنمام، وما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار، ومن أشد الناس عذابا طائفتان: المصورون الذين يضاهئون خلق الله، والذين يعذبون الناس في الدنيا.
هذه أخبار صدق عن جهنم ولظى، وأنباء حق عن السعير والحُطمة، والله لتُملأن، قال الله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13].
فويل لكل مشرك ومشركة، وويل لكل خبيث وخبيثة، ممن طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا، ولم يؤمن بيوم الحساب، يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ [الرحمن:41]، حَلاَّفٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم:10-14] ، لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:33، 34]، لم يكُ من المصلين، ولم يكُ يطعم المسكين، يخوض مع الخائضين، ويكذب بيوم الدين، هؤلاء هم أصحاب الجحيم عياذًا بالله.
وأصناف من القضاة في النار، ومن غش رعيته فهو في النار، ومن اقتطع مال أخيه بيمين فاجرة فليتبوأ مقعده من النار، والذي يشرب في آنية الذهب والفضة فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم، والذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، وكل جسد نبت من السحت فالنار أولى به، وصنفان من أهل النار: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، والمكر والخداع في النار، والفجور يهدي إلى النار، وشر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه، وويل للذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة.
ومن الأعمال التي قد توجب النار أيضًا ـ إضافة إلى ما سبق ـ الحسد والخيانة والظلم والفواحش والغدر وقطيعة الرحم والجبن عن الجهاد والبخل واختلاف السر والعلانية واليأس من روح الله والأمن من مكر الله والجزع عند المصائب والبطر عند النعم وترك فرائض الله والاعتداء على حدود الله وانتهاك حرمات الله وخوف المخلوق دون الخالق والعمل رياء وسمعه ومخالفة الكتاب والسنة اعتقادًا وعملاً وطاعة المخلوق في معصية الخالق والتعصب للباطل والاستهزاء بالدين أو بأهله الصالحين والاستمرار على ارتكاب المعاصي والمحرمات كمشاهدة أفلام المجون والخلاعة وشرب المسكرات والزنا واللواط والسحر وعقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل مال اليتيم والفرار من الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات والتصوير وتقليد أعداء الدين وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأعمال التي قد تدخل صاحبها في النار والعياذ بالله.
أيها المسلمون، إن الخوف وحده لا ينجي أحدًا من النار، فإن القدر الواجب من الخوف ما حَمَلَ على أداء الفرائض واجتناب المحارم.
تأمل ـ يا عبد الله ـ إذا جيء بجهنم إلى الموقف، تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قال الله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:23- 26]، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) رواه مسلم.
كل نفس لا تحمل إلا حملها، ولا تكسب إلا عليها، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، ولسوف تأتي كل نفس تجادل عن نفسها.
أهلكت كثيرًا من الناس الأماني، إيمان بلا أثر، وقول بلا عمل، ترى فيهم رجالا ولا ترى عقولا، وتسمع حسيسًا ولا ترى أنيسًا، عرفوا ثم أنكروا، وحرّموا ثم استحلّوا.
لا يدخل الجنة إلا من يرجوها، ولا يسلم من النار إلا من يخافها، وورود النار متيقن، قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، ولكن هل الخروج منها متيقن؟! الله أعلم.
إنها دار موحشة مظلمة، شديد حرّها، بعيد قعرها، لهيب سمومها، عظيم شررها، أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى احمرّت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودّت، فهي سوداء مظلمة. ظللٌ من النار بعضها فوق بعض، ضوعفت عن نار الدنيا بتسعةٍ وستين جزءًا، الغمسة فيها تُنسي كل نعيم عاشت به النفس، فكيف بالمكوث فيها وملازمة عذابها؟! قال : ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا ـ والله ـ يا رب)) أخرجه مسلم.
تلك الدار التي يخوّف الله بها عباده ليتقوه ويطيعوه، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:13- 16].
ما ظنك بعذاب دار أهون أهلها عذابًا من كان له نعلان يغلي منهما دماغه، ما يرى أحدًا أشد منه عذابًا، وإنه لأهونهم، أما حال أهلها فشر حال، وهوانهم أعظم هوان، وعذابهم أشد عذاب. وما ظنك بقوم قاموا على أقدامهم خمسين ألف سنة لم يأكلوا فيها أكلة ولم يشربوا فيها شربة، حتى انقطعت أعناقهم عطشًا، واحترقت أكبادهم جوعًا، ثم انصُرف بهم إلى النار، فيسقون من عين آنية قد آذى حرها واشتد نضجها، فلو رأيتهم وقد أُسكنوا دارًا ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، قد شدت أقدامهم إلى النواصي، واسودت وجوههم من ظلمة المعاصي، يسحبون فيها على وجوههم مغلولين، النار من فوقهم، والنار من تحتهم، والنار عن أيمانهم، والنار عن شمائلهم، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأعراف:41]. أسأل الله جل وتعالى أن يعصمنا وإياكم من النار، وأن يجنبنا مواضع سخطه.
فالحذر الحذر ـ عباد الله ـ بعد رمضان، فمعظم الناس يعودون ويرجعون إلى سالف عهدهم، فلا تكونوا مثلهم، وإلاّ فنار جهنم بالمرصاد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا معاشر الأخوات الحاضرات معنا في هذا المشهد العظيم، اعلموا أنكن من أكثر حطب جهنم، قَالَ النبي : ((أرِيتُ النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن)) ، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: ((يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط)).
أيتها الأخوات، لقد توعد الله بالنار أهل التبرج والسفور، والنساء ناقصات عقلٍ ودينٍ، ولا يجوز للمرأة أن تسافر ثلاثة أيامٍ إلا مع ذي محرمٍ.
أيتها الأخوات، لقد لعن النبي الواشمة والمستوشمة، ولعن النبي الواصلة والمستوصلة، ولعن النبي المتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله، ولعن رسول الله زوّارات القبور، ولعن رسول الله المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن النبي المترجلات من النساء، ولعن رسول الله النائحة والمستمعة، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن النائحة إذا لم تتب تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب.
فالحذر الحذر، فإن كل ما ورد فيه اللعن فصاحبه على خطر، أجارنا الله وإياكن من نار جهنم.
أيها المسلمون والمسلمات، أنصح الجميع رجالاً ونساءً بصيام ستة أيام من شوال؛ ففيها أجر عظيم، فعن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) رواه مسلم.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تجعلنا من الذين قبلتهم في رمضان وأعتقتهم من النيران، اللهم اجعلنا ممن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا فغفرت له ما تقدم من ذنبه...
(1/4083)
دروس من غزوة تبوك
سيرة وتاريخ
غزوات
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
3/2/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة دوام الصراع بين الحق والباطل. 2- غزوة تبوك: تاريخها وسببها وأحداثها. 3- دروس وعبر من غزوة تبوك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اعلموا أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في صراع دائم وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمنذ بزغ هذا الدين وأعداؤه من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]. والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك، أنى لهم أن يفلحوا ما تمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا ؟!
أيها المسلمون، يوم يقلب المرء صفحات الماضي المجيد ويتدبر القرآن الكريم ثم ينظر لواقعنا ويقارنه بذلك الماضي يتحسر يوم يجد البون شاسعا والفرق كبيرًا، يتحسر يوم يرى تلك الأمة التي كانت قائدة قد أصبحت تابعة حينما ابتعدت عن شرع ربها ونهج نبيها، فعودًا سريعا إلى الماضي المجيد لنستلهم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عودًا لسيرة من لم يطرق العالم دعوةٌ كدعوته، ولم يؤرخ التاريخ عن مصلح أعظم منه، ولم تسمع أذن عن داعية أكرم منه، وما أحرانا ونحن في هذه الأيام العصيبة أن تتجاوز المدة الزمنية كي نعيش يوما من أيام محمد لنأخذ العبر والدروس.
نعود بكم إلى شهر رجب سنة تسعٍ من الهجرة لنعيش وإياكم أحداث غزوة تبوك وجيش العسرة التي تساقط فيها المنافقون وثبت فيها المؤمنون وذل فيها الكافرون وعز فيها الصادقون.
بلغ النبي أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد دولته، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم، فعند ذلك أعلن النبي لأول مرة عن مقصده وعن تجهيز الجيش، فتجهز أقوام وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل، باعوا أنفسهم إلى الله نصرة لله ورسوله، وتساقط المنافقون، فها هو أحدهم يقول له رسول الله كما روى ابن هشام: ((هل لك في جلاد بني الأصفر؟)) أي: الروم، فيقول: يا رسول الله، ائذن لي ولا تَفْتنَّي، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عُجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه ، ولكن الله جل وعلا فضحه في قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [التوبة:49].
وتحدثت الآيات في القرآن عمن نكص كذلك من هذه المعركة وتحجج بحجج واهية حين آثروا ظل القعود في بيوتهم وحقولهم على حر الصحراء ووعثاء السفر: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81].
وتجلت في الإعداد لهذا الجيش طوايا النفوس ومقدار ما استودعت من قبل من إخلاص ونشاط، فهناك أغنياء أخرجوا ثرواتهم ليجهزوا الجيش من الرواحل والسلاح والخيل، منهم عثمان بن عفان، سبق في بذله سبقا بعيدا حتى إن رسول الله عجب من كثرة ما أنفق، تصدق بمائتي بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتي أوقية، ثم تصدق بمائة بعير بأقتابها وأحلاسها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجر النبي ، فقال النبي : ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)) رواه الحاكم بسند صحيح.
وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله ولم يترك لأهله إلا الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ما يملك، وجاء العباس بمال كثير، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مدًا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها. وبعثت النساء ما قدرن عليه من خلاخل وخواتم وذهب.
ومنهم الفقراء الذين لم يجدوا زادا ولا راحلة، فأتوا رسول الله يقولون: يا رسول الله، لا زاد ولا راحلة، فيبحث لهم عن زاد وراحلة فلا يجد ما يحملهم عليه، فيرجعون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون، إنهم البكاؤون، لم يبكوا على فقد متاع أو فقد دنيا، بل يبكون على فقد جهاد وقتال في ساعةٍ عسيرة، قد تذهب أرواحهم فداء لهذا الدين الذي آمنوا به، روي عن علي بن يزيد: أنه قام من الليل يصلي فتهجد ما شاء الله ثم بكى، وقال: (اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يدي رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو حد أو عرض)، وأصبح الرجل على عادته مع الناس فقال رسول الله: ((أين المتصدق هذه الليلة؟)) ، فلم يقم أحد، ثم قال: ((أين المتصدق هذه الليلة؟ فليقم)) ، فقام إليه فأخبره، فقال له رسول الله : ((أبشر، فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة)).
ويخرج ويستخلف على المدينة عليا ، ويخيم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفا، ويأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم وإرجافهم على مر الأيام، يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون، ويتندرون ويسخرون، سخر الله منهم، ويستهزئون به، الله يستهزئ بهم، يأتون إلى عليّ ويقولون له: ما خلفك رسول الله إلا استثقالا لك، فتأثر بذلك ولبس درعه وشهر سيفه يريد الجهاد في سبيل الله، ويصل إلى النبي ويقول له زعمهم، فيجيبه ويقول: ((كذبوا يا عليّ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! إلا أنه لا نبي بعدي)) ، وعاد إلى المدينة راضيا.
ويتوجه إلى تبوك، فيمر بديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطلة، وأشجارهم مقطعة، فاستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله : ((لا تشربوا من مائها، ولا تتوضؤوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئًا)) ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح عليه السلام. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: لما مر النبي بالحجر قال: ((لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم؛ أن يصيبكم ما أصابهم، إلاّ أن تكونوا باكين)) ، ثم قنع رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي.
واستمر في طريقه إلى تبوك، وقد بلغ به الجوع والتعب مبلغا عظيما، ومع السَّحَر ينام من التعب على دابته حتى يكاد يسقط كما في صحيح مسلم، فيقرب منه أبو قتادة فيدعمه بيده حتى يعتدل، ثم يميل أخرى فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل ميلة أخرى أشد حتى كاد يسقط فيدعمه أبو قتادة بيده، فيرفع رأسه ويقول: ((من هذا؟)) ، قال: أنا أبو قتادة، فقال له : ((حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة)). يقول المؤرخون: "فما زال أبو قتادة محفوظا بحفظ الله في أهله وذريته، ما أصابهم سوء حتى ماتوا". درس عظيم لمن حفظ أولياء الله فإن الله يحفظه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.
عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا؟ فقال: ((أوَتحب ذلك؟)) قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء، فلم يرجعهما حتى أذنت السماء بالمطر، فأطلت ثم سكبت فملؤوا ما معهم. قال: ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت المعسكر.
ويتأخر عن الجيش أبو ذر ببعيره الهزيل، فماذا فعل يا ترى؟! لقد ترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره، وينزل في أحد المنازل على الطريق، وينظر أحد المسلمين، ويقول: يا رسول الله، رجل يمشي إلى الطريق وحده متاعه على ظهره، فقال عليه الصلاة والسلام: ((كن أبا ذر، كن أبا ذر)) ، فإذا هو أبو ذر، فأخبروا النبي بذلك فقال: ((رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)). وتمضي الأيام والأعوام ويُنفى أبو ذر إلى الرّبذة، ويحضره الموت هناك، وليس معه إلاّ امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما أن يغسلاه ويكفناه ويضعاه على الطريق، وأول ركب يمر بهم يقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه، فيفعلان ذلك، ويأتي عبد الله بن مسعود ومعه رهط مسافرون، فما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، فأخبرهم غلامه فاندفع عبد الله بن مسعود باكيا، يقول صدق رسول الله: ((تمشي وحدك، وتموت وحدك)) ، ثم دفنوه رضي الله عنه وأرضاه.
أيها المسلمون، وينتهي المسير برسول الله إلى تبوك، فعسكر هناك وهو مستعدّ للقاء العدو، فقام فيهم خطيبًا، فخطب خطبة بليغة، أتى بجوامع الكلم، وحضّ على خيري الدنيا والآخرة، فحذّر وأنذر، وبشّر وأبشر، حتى ارتفعت معنويات الصحابة رضي الله عنهم، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من قلّة الزاد والمؤونة. فأقام بها بضع عشرة ليلة، فلم يجدوا بها كيدا أو يواجهوا عدوّا، ولكنهم بذلك أرهبوا الروم وحلفاءهم، وفرضوا عليهم الجزية.
وحصلت بعض الأحداث أثناء بقائه عليه الصلاة والسلام فيها، منها ما حدث به عبد الله بن مسعود قال: نمنا ليلة متعبين في تبوك، وانتبهت في وسط الليل، فالتفتّ إلى فراش النبي فلم أجده، وإلى فراش أبي بكر وعمر فلم أجدهما، وإذا بنار وسط اللّيل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعهما فإذا رسول الله حفَر قبرا، ومعه أبو بكر وعمر، وعنده سراج بيده قد نزل وسط القبر، فقلت: يا رسول الله، من الميّت؟ قال: هذا أخوك عبد لله ذو البجادين، إنه أحد الصحابة الكرام، أسلم وكان تاجرا، فأخذ أهلُه وقومُه مالَه كلّه حتى لباسه، فذهب فما وجد لباسا غير شملةٍ قطعها إلى بجادين، وفرّ بدينه يريد الله والدار الآخرة، وأخبر بخبره، فقال عليه الصلاة والسلام: ((تركتَ مالكَ لله ولرسوله، أبدلك الله ببجاديك إزارًا ورداءً في الجنة، أنت ذو البجادين)) ، فلقب بذلك. يقول عبد الله بن مسعود: وأنزله إلى القبر، فوالذي لا إله إلا هو ما نسيت قوله وهو في القبر، وقد مدّ ذراعيه لذي البجادين، وهو يقول لأبي بكر وعمر: ((أدنِيا إليَّ أخاكما)) ، فدلّياه في القبر، وهو يبكي ودموعه تتساقط على الكفن، ثم وقف عليه الصلاة والسلام لما وضعه في القبر رافعا يديه مستقبلا القبلة، وهو يقول: ((اللّهمّ إني أمسيت عنه راضيًا فارضَ عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه)) ، يقول عبد الله بن مسعود: فوالله، ما تمنيت إلاّ أن أكون صاحب الحفرة لأنال دعاءه.
ورجع النبي عائدا إلى المدينة موفورا منصورا، حتى قدم إلى المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد فقال: ((هذه طابة، وهذا أُحدٌ يحبّنا ونحبه)) ، وتسامع الناس بمقدَمه، وفرح النساء والصبيان، فخرجوا لاستقباله وهم يردّدون:
طلع البدر علينا من ثنيّات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبًا يا خير داع
وقوبل جيش العسرة بحفاوة بالغة، ولم ينس النبي في ذهابه وإيابه أصحاب القلوب الكبيرة الذين صعب عليهم أن يجاهدوا معه فتخلفوا راغمين والعبرات تملأ عيونهم. روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: ( (إن في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم)) ، فقالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟! قال: ((وهم بالمدينة؛ حبسهم العذر)). بهذه المواساة الرقيقة كرّم النبي الرجال الذين شيّعوه بقلوبهم وهو ينطلق إلى الروم، فأصلح بالهم، وأراح همًّا ثقيلا عن أفئدتهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التوبة:38، 39].
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، ها قد عشتم بعض أحداث غزوة تبوك التي انتهت بنصر المؤمنين، ولئن انتهت أحداثها فما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عظة وعبرة، وحذار أن يكون نصيبنا منها تغنّيًا بالماضي وسردَ الحديث الغابر، فإن هذا لا يجدي شيئا وقد آلت الأمة إلى ما آلت إليه وتداعى الأكلة إليها.
وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة، ومتى ما تركت الجهاد ضربت عليها الذلة والمسكنة، ولذلك فقد رأينا حياة النبي جهادا في جهاد، فإذا فرغ من جهاد المشركين رجع إلى جهاد ومقاومة المنافقين ثم جهاد الروم.
وثاني هذه الدروس: أن الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة متى ما صدَقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية، فتهزمه وتنتصر عليه، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40].
ومن الدروس: أن العدو ما تسلل إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قبل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47].
ومن الدروس: أن مواجهة الأعداء لا يشترط فيها تكافؤ القوة، بل يكفي المؤمنين أن يعدوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة ثم يتقوا الله ويصبروا، وعندها يُنصروا، فها هو عبد الله بن رواحة يقول: (والله، ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به).
ومن الدروس: أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وترهب أعداءه، لا يكفي حق بلا قوة.
دعا المصطفى دهرًا بِمكة لَم يُجَبْ وقد لان منه جانب وخطاب
فلما دعا والسيف بالكف مسلّط له أسلموا واستسلموا وأنابوا
ومن الدروس العظيمة من هذه الغزوة: أن تمكن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعَتاد، وقضى الله أن الأمة متى ما غَفلَت عن عقيدتها وتعلقت بغيرها تقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها. والأمة اليوم بعيدة كل البعد عن العقيدة الصحيحة إلا من رحم الله.
هل تريدون مثالاً حيًا قريبًا على أن فئات كثيرة من الأمة لا تعرف معنى لا إله إلا الله إلى الآن؟! ومن هذه الفئات من هم محسوبون على العلماء وطلبة العلم، أحداث تكسير الأصنام القريبة، مسألة واضحة لا يختلف فيها موحدان، أصنام الشرك والكفر بالله عز وجل تُكسّر وتُهدم، ثم يأتي من يأتي من المسلمين ويستنكر هذا الأمر، ويطنطن بعض من هم محسوبون على أهل العلم في الإذاعات والفضائيات، ويكتب من يكتب في الصحف والمجلات بحجة أنها آثار، فأين التوحيد؟ وأين هي العقيدة؟ وأين لا إله إلا الله؟ إذا كانت الأمة إلى الآن تختلف في أصنام الشرك والكفر فماذا بقي من عقيدتها وتوحيدها؟!
فعلى الدعاة والمصلحين والمربين ممن يمثلون منهج أهل السنة والجماعة أن يركزوا في دعوتهم على مسألة التوحيد درسًا وشرحًا وعملاً وتطبيقًا، وأن لا يغتروا بغيرهم ممن يخالفهم في هذه المسألة، فلا صلاح ولا فلاح إلا إذا صحّت عقائد الناس واتضحت لهم معالم وأصول هذه العقيدة.
أيها المسلمون، هذه غزوة تبوك غزوة العسرة، وهذه بعض دروسها، فاعتبروا بها وتدبروها.
(1/4084)
رجال الحسبة
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
6/4/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل رجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- الرد على أقلام جائرة ومقالات موبوءة ضد الهيئة ورجالها. 3- وجوب الاهتمام بتوسعة فروع الهيئات وإكرام رجالها. 4- وصايا عامة لرجال الهيئات. 5- الحذر من إيذاء المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إنهم الأعين الساهرة والأم الرؤوم والأب العطوف، الأم الرؤوم التي يحز في نفسها أن ترى أبناءها يتجرعون السم من أيدي ضعاف النفوس، ويكدر نفسها أن تضيع زهرات أعمار شبابنا فيما لا يفيد، ويضيق صدرها وهي ترى الصلاة تقام ورجل واقف مكانه لا يتجه للمسجد، وتثير غيرتها على الأعراض رؤيتها لبنات المسلمين بلباسهن المتبرج في مركز تجاري أو مطعم في وقت غير مناسب أو بلا محرم أو بلا أدب بل بتبرج فاضح، وتثير حميتها رؤية الشباب المستهتر وتهافتهم على المعاكسات والنيل من أعراض نساء المسلمين، وتتحرك أشجانهم عندما يرون أبناء المسلمين ضحايا المسكرات والمخدرات.
نعم يا عباد الله، إنهم رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنهم أسود الحسبة، إنهم أبطال مراكز الهيئات.
يا هيئة الإرشاد وجهك مشرق والمكرمات روائحٌ وغوادي
أمر بِمعروف ونَهيٌ صادقٌ عن منكرٍ وتَحللٍ وفسادِ
إنها هيئة التقويم والإصلاح، هذه الهيئة عندما وضعت سفينة النجاة شعارًا لها لم تكن تمزح ولم تكن أهدافها فراغًا، بل كانت وما زالت كالقائد الذي يقود دفة الأمة إلى بر النجاة وأكرم به من بر، وشاطئ الأمان وأعظم به من شاطئ، حيث الأعراض مُصانة، والخمور مراقة، والمعاكس ينصَح، والأمن مستتب. يقول النبي : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أمسكوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)) رواه البخاري.
اسألوا ـ أيها المسلمون ـ من وقع في أيديهم من الفتيات وهن على حالة منكرة، كيف انتشلوهن من بحور الظلمات، كيف صانوا أعراضهن، كيف أنقذوهن من براثن الكلاب المسعورة التي لا ترحم. لم يكن مَنْعُهن من التبرج في الأسواق تعديًا على حريتهن الشخصية أو تحكمًا بهن، بل صيانة لهن وحفاظًا عليهن.
واسألوا الشباب كم تائبٍ تاب على أيديهم، وكم ضائع اهتدى بسببهم بعد الله، وكم حائر أخذوا بيده إلى الطريق القويم، كم مدمن للخمر انتشلوه حفاظا على دينه وصحته، وكم من تارك للصلاة أرجعوه إلى دائرة الدين، كم من معاكس أوقفوه عند حده ومنعوه من اللعب بأعراض الناس، وكم من متشبه قوّموه وأرشدوه، كم من فرد كان على شفا الوقوع في الفاحشة والهاوية ووجدَ رجال الهيئة يبصرونه بما ينفعه ويحذرونه مما يضره، كم مروج للأشرطة الفاضحة والسموم المهلكة وقع في أيديهم فمنعوا شره عن المسلمين، كم وكم، ألا ترونهم في الأسواق وفي أماكن التجمعات آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر؟! أهم ينتظرون مكافأة أو جزاء؟! تكفيهم المكافأة التي وعدهم بها الله سبحانه: وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [التوبة:88]، والمكافأة التي وعدهم بها رسول الله : ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)).
يا خيرنا يا ذخرنا يا فخرنا حقٌ عليَّ بمثلكم أن أفخرا
كم من فتاةٍ قد حفظتم عرضها توصونها باللّين أن تتستّرا
كم غافلٍ أرشدتُموه إلى الهدى إذ عاد من بعد الضلالة مُبصرا
هذه هي الهيئة، وهؤلاء هم رجالها، ومع كل أسف استغلّ بعض مرضى القلوب ممن يتصيّدون في الماء العكر ـ في الأيام الماضية ـ بعض الأحداث، فظهرت كتابات عفنة ومقالات موبوءة، أقحموا فيها الهيئة، فانكشف ـ والحمد لله ـ عند الكثيرين أمرهم، وظهر غباؤهم، لقد انطلقوا يهذون بما لا يدرون، ويهرفون بما لا يعرفون، يقلد بعضهم بعضا، ويتحاكون تحاكي الببّغاء.
إذ ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده بالتوهّم
فهذه الأقلام الجائرة والأفهام الحائرة يصدق عليها قول الأول:
إن يسمعوا سبّةً طاروا بها فرحًا هذا وما سمعوه من صالح دفَنوا
وكل ينفق مما عنده، وكل إناء بما فيه ينضح، نفوس جبلت على المقت والبغضاء والكراهية والشحناء.
والأمر ـ أيها المسلمون ـ لا يحتاج إلى تفكير طويل، ولا إلى ذهن ثاقب في حل هذا اللغز، لماذا يهاجم هؤلاء الأفاكون رجالَ الحسبة المصلحين من غير ذنب فعلوه ولا جرم ارتكبوه؟! وإذا أردت أن تعرف سبب ذلك فاسأل متعاطي المخدرات ومروجيها عن جهاز مكافحة المخدرات وعن تقويمهم له، ماذا سيقولون؟! إنهم قطعًا سيكررون نفس المسرحية، وسيكيلون الشتائم لهذا الجهاز، واسأل اللصوص وقطاع الطرق عن رجال الأمن الذين يأخذون على أيديهم ويمنعونهم من ممارسة مهنتهم القذرة وهوايتهم الدنيئة، فماذا تظن أن يقولوا؟! وهكذا هؤلاء الموتورون حين تسنح لهم الفرصة لينقضّوا على جهاز الإصلاح الحسبة الذي منعهم من شهواتهم المحرمة وحال دون تنفيذ مشاريعهم المشبوهة.
ونصيحة من قلب صادق ناصح لهؤلاء المستهترين، عجبًا لكم! أما وجدتم ما تفترون وتستهزئون به إلا رجال الحسبة؟! هؤلاء الرجال الأبطال والجنود المجهولون الذين واصلوا سهر الليل بكلل النهار، وأبت عليهم هموم الأمة ومصائب المجتمع وحراسة الفضيلة التمتع بما يتمتع به غيرهم من إجازات صيفية وسياحة برية ورحلات صيديه، بل وصلوات رمضانية وتهجدات ليلية، قلوبهم تتقطع حسرة وهم يرون الوفود تتجه في العشر الأواخر من رمضان إلى بيوت الله مصلية عاكفة داعية، وهم يجوبون الأسواق والمجمّعات يحفظون أعراض المسلمين، ثم يأتي متكئ على أريكته يتنعم بنعمة الأمن التي حفظها الله علينا ودفع ضدها بفضله ثم بجهود أولئك الأخيار، فلا يجد له عملاً ولا شغلاً إلا التندّر برجال الحسبة.
فكفّوا شرّكم، ووفّروا حسناتكم إن كان لكم منها بقية، واعلموا أن الله يغار لهؤلاء ويدافع عنهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((يا أبا بكر، إن كنت أغضبتَهم فقد أغضبت الله)) يعني: ضعفة المسلمين، هذا وهو أبو بكر ! ويقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ [آل عمران:21، 22].
أيها المسلمون، وحتى تعلموا فضل هذه الرئاسة المباركة وجهودها الجبارة في المحافظة على أمن المجتمع وسلامة أعراض الناس وأديانهم إليكم بعض الأرقام، وهي لعام واحد فقط: بلغت عدد القضايا التي تتعلق بالتخلف عن صلاة الجماعة والتأخر في إغلاق المحلات التجارية بعد الأذان والإفطار في نهار رمضان والقمار أكثر من مائتين وثمانية وثلاثين ألف قضية، كل هذا في عام واحد. كم يحتاج هذا الجهد من وقت ورجال لولا فضل الله تعالى ثم هذه الجهود المخلصة؟!
أما القضايا الأخلاقية وتشمل بيوت الدعارة وعمل قوم لوط ومحاولة اغتصاب الأحداث والزنا ومعاكسات النساء والخلوة المحرمة وملاحقة ما يسمى بالجنس الثالث ومظاهره فقد بلغ عددها أكثر من إحدى وأربعين ألف حالة ضبطت من قبل رجال الهيئة.
فضلاً عن قضايا المسكرات وتشمل المسكر وحيازته وترويجه وتصنيعه والتعاون على الترويج والتصنيع وشم الروائح المسكرة، وقضايا المطبوعات وتشمل الصور الخليعة والصور المجسمة ومطبوعات الأفكار الهدامة والأشرطة الجنسية، ناهيك عن قضايا المخدرات وتشمل استعمالها أو حيازتها أو ترويجها أو التعاون على ذلك، كل هذه القضايا ضبطت بالآلاف.
أيها المسلمون، ولو أن المصيبة وقعت على واحد من هؤلاء الحاقدين المتقولين، فتعرَّض فاسِدٌ لبنتِه أو أخته لأدرَك حينها أهمّيّة هذا الجهاز وعظمة رجاله، وكم حانق حاقد عليهم لم يرعه في هدأة الليل إلا وجرس هاتفه يقرع عليه وهو غارق في بحرِ نومه أو لهوه، ويُطلَب من قبل الهيئة ليستلّم ابنتَه أو أخته وربما أمّه سالمة مسلَّمة مستورة بعد تخليصها من براثن ذئب عادٍ، فانطلق لسانه لاهجًا داعيًا شاكرًا معترِفًا بفضلِهم، وأصبح عنهم من المدافعين.
هذا جزء يسير من جهود الهيئة، ويحق لنا أن نتساءل: كم ـ يا ترى ـ عدد الذين عملوا كل هذه الأعمال الجليلة وحققوا هذه الإنجازات الباهرة وكفوا المجتمع من شرور كانت ستحصل ومفاسد كادت تقع؟ ستستغرب لو أخبرتك بأن عدد أعضاء الهيئة أقل من ثلاثة آلاف في كل أنحاء البلاد المترامية، بإمكانيات محدودة جدًا، ومع كل هذا استطاعوا أن يحقّقوا ما لم يحققه من أعطِي كافة الخدمات، وما ذاك إلا بسبب أنهم يعملون بصمت وإخلاص، ويحملون هموم المجتمع، ووقتهم متاح للجميع ولكل من يستنجد بهم.
أبَعدَ هذا يُسمع قول واشٍ فيهم؟! أبعد هذا يستمرّ أناس في الأكل من لحومهم والانتقاص من قدرهم والله تعالى يقول: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]؟! فكيف بلحوم المصلحين والدعاة العاملين، فلحومهم مسمومة، وسنة الله في منتقصِهم معلومة.
يا من إذا نِمنا بثوبِ أمانِنا فتحوا العيون النّاعساتِ لتسهرَا
هيئاتُنا تاجٌ على هاماتنا أخشى بدونِهم بأن لا نُمطرا
أيها المسلمون، ومع هذا كله فإننا لا ندعي لهم العصمة، ولا ننفي الخطأ عنهم، فالخطأ طبيعة ابن آدم، لكن لا سواء بين خطيئة مصرّ ومستكبر، وبين خطأ غير مقصود وقع سهوًا وعفوًا من مجتهد أقلّ أحواله أنه مأجور على خطئه كما أخبر النبي بذلك، وهو على خطئه من أكثر الناس تحسرًا وأسفًا، والوقوع في الخطأ حصل لأكمل جيل وأفضل رعيل، ومع ذلك قابلهم رسول الله المربي الأعظم بالصفح والعفو، بل والاستغفار والاعتذار، ألم يُسرِّب حاطب بن أبي بلتعة سرًا من أسرار رسول الله العسكرية الحربية إلى أعداءه؟! فماذا قال رسول الله لما أراد الصحابة رضي الله عنهم به بطشًا وقتلاً واتهموه بالنفاق؟! قال: ((اتركوه؛ إنه قد شهد بدرًا)) ، وهذا خالد بن الوليد كان في سيفه شيء من الرّهق من شدّة غيرته، فقتل أنفسًا مسلمة لا تستحق القتل، ومع ذلك دافع عنه رسول الله وسط الأصوات المطالبة بعزله، واعتذر له، ولم يجرده من ألقابه، ولم يسلبه وسام سيف الله المسلول، ولم يعزله عن القيادة، علمًا أن رجال الهيئة لم يتعرضوا لأحد بقتل، وإنما تعرضوا هم للقتل من قبل أهل الفجور، فهل جزاؤهم إذا اجتهدوا وأخطؤوا أن يُسجنوا أو تشكّل لجان للتحقيق معهم أو نقلهم نقلاً تأديبيًا؟! يقول الله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: قد فعلت.
أيها المسلمون، إنا لنعجب ـ والله ـ بعد هذا لمن يتناول رجال الهيئات سبًا وتأثيمًا، ويتعرض لهم قذفًا وتلفيقًا، وحسبه من الإثم أن يقف في طريق من يأمر بحدود الله وينهى عن محارمه، وإن ترخص أناس في الكلام فيهم لأنهم ـ كما يزعم هؤلاء ـ يتعدون على خصوصيات الناس وحرياتهم الشخصية، فنقول: أي حرية في التعدي على حدود الله ومحارمه؟! أي حرية في التعرض لأعراض المسلمين؟! أي حرية في العبث بفتيات الأمة؟! أي حرية في شرب الخمر والمتاجرة بها؟! أي حرية في التبرج والسفور وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين؟! أي حرية في التشبه بالنساء وإضاعة حقوق الله والتعدي على محارمه؟! نعم، أي حرية هذه؟!
إن الحرية الشخصية لها حدود مقيدة بالكتاب والسنة، ونحن نقرأ قوله : ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)) ، ولهذا وذاك كان واجبًا أن يتصدى من الأمة من يقوم بهذا الدور المهم، والضرب على أيدي المفسدين، وثني الضالين عن ضلالاتهم. نعم، إذا خلا أحدهم بنفسه وبين أسوار بيته فليمارس ما شاء من حرية شخصية، والله تعالى له بالمرصاد، لا تخفى عليه خافية، ولن يتسلق على بيته أحد، أما أن يخرج إلى الشارع أو تخرج المرأة إلى السوق والمطاعم والميادين والتجمعات بكل هذه الفواحش والقبائح والرذائل فكلاّ وألف كلا، هذه فوضى وليست من الحرية في شيء، ولك أن تتصوّر كيف يتحول حال الأمة إذا تصرف كل فرد فيها على هواه وأتى من المحارم ما أراد ومتى شاء، كم من الأعراض ستنتهك؟! وكم من الأمانات ستضيع؟! وكم طاقات للشباب ستستنزف؟! وكم يبلغ الوقت المهدر من عمر هذه الأمة؟! ولك أن ترى حال بعض الدول التي ظلمت نفسها بتركها هذا الواجب وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إما جهلاً أو تجاهلاً، وانظروا كيف يعانون، ومن تحت الأنقاض يصرخون، ويطالبون بالأمن ولا أمن، يطالبون بصون الأعراض، يطالبون بوقف نزيف تضييع الدين، ولكن لا فائدة، فالحمد لله الذي قيض لنا تحقيق هذا الواجب وألهم رجالاً مقتدرين على حمله بأمانة، ففي كل وقت تراهم يجوبون الأحياء بحثًا عن معروف يأمرون به ومعصية ينهون عنها.
يا رب زلزل من يريد بجمعهم سوءًا وشُلَّ يمينه والمنخرا
هم للورى ركبُ النجاةِ تقدّمًا وبدونهم تمضي الركاب إلى الورا
فجزاكم الله خيرًا يا رجال الحسبة، وجزاكم الله خيرًا يا أبطال الهيئة، وبارك الله في جهودكم وأوقاتكم.
أيها المحتسبون من رجال الهيئة، اصبروا وصابروا ورابطوا، واحتسبوا الأجر عند الله، فحسبكم دعوة أمٍّ لكم بالسداد بعد أن أنقذتم ابنتها من غائلة الانحلال، ودعوة أب أنقذتم ابنه من براثن الفساد، ودعوات أسرة سرتم بأبيهم إلى بر النجاة وأنقذتموه من التشرد والضياع، فكنتم وما زلتم كالأب الذي يتابع أبناءه فيقوّم من يخطئ ويرشد من ينحرف، وكالأم التي يؤلمها أن يصيبَ فلذات أبنائها الشرّ، قد يقابلكم البعض بالنكران والجحود، وقد يتهمكم البعض بالقسوة والجمود، ولكن حسبكم من عملكم دعوة صالحة ـ كما أسلفت ـ وأجركم على الله، ولا تسمحوا لمن يثنيكم عن عملكم أن ينال منكم، سيروا والله يوفقكم ويرعاكم ويسدد على طريق الحق خطاكم، يقول الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان:17].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ألا تستحق رئاسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد هذه الجهود الضخمة الجبارة التي عملوها أن تتحول إلى وزارة، خاصة مع حاجة المجتمع إليها، وأن بعض أهل العلم عدوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنًا سادسًا من أركان الإسلام؟! ألا يستحق هذا الركن أن يوضع له مكان يليق بشرفه وأهميته؟! أترى السياحة أهم منها والأصوات متكاثرة والدعوات متتابعة والجهود متوافرة لتحويل هذه الأخيرة إلى وزارة؟! فيا ليت شعري أيتهما أهم وأقدم؟!
ومع توسع المدن وأحيائها وزيادة أعداد المراكز التجارية والصروح المختلفة وقوة التيار الخارجي المنحرف المحرق عبر وسائل الإعلام المختلفة كان لزامًا على المسؤولين أن يوسّعوا ويزيدوا من فروع الهيئات ورجالها وما يحتاجون إليه حتى يكون في كل بقعة مركز إشعاع يشع نورًا وهدًى وحقًا، وتعطى الهيئات الوظائف والمراتب العالية التي تدفع طلاب العلم إلى الالتحاق بها، وأن يكون لهم من الاهتمام مثل غيرهم من موظفي الدولة، من حيث الرواتب والمكافآت والبدلات وغيرها من الحوافر؛ لأنهم يعانون في عملهم أكثر من غيرهم، نظرًا لاحتكاكهم بالجمهور وعلاقتهم بالقضايا الأمنية التي قد يدفع الإنسان نفسه في سبيلها.
كلمة أخيرة أوجهها لكل عضو من أعضاء الهيئة حفظهم الله: مهمة الإصلاح ليست هينة، وتذكروا أن الله معكم، وتذكروا أن قلوبنا معكم، فلتسر قافلتكم الإصلاحية تقود المجتمع إلى بر الأمان، ولتبق الأصوات النشاز تنطلق، فهي عما قريب ستكون من الماضي بمشيئة الله.
يا رجال الحسبة، إن القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مهمة جسيمة ذات أعباء لا يقدر عليها إلا الكُمّل من الرجال وأنتم كذلك، هي مهمة الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، مهمة تصطدم بشهوات الناس ونزواتِهم وغرورِهم وكبريائِهم وهبوط السفلة منهم، ولا بد أن ينالكم شيء من الاعتداء والأذى، فصبرًا صبرًا يا رجال الحسبة، فقد أوذي إمامكم وقائدكم خاتم الأنبياء وإمام الحنفاء محمد فصبر وصابر حتى نصره الله، وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ [الأنعام:34]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
إن إيذاء المصلحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أو الاعتداء عليهم أو الطعن فيهم أو تضخيم أخطائهم أو بث الإشاعات الكاذبة عنهم جرم عظيم وذنب كبير، تصيب المرء مغبته ومعرّته ولو بعد حين، يقول جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) رواه البخاري.
فاحذروا من الانخداع بمقالات الجاهلين أو الانسياق وراء أكاذيب الحاقدين وما يدور على ألسنة المغرضين المنافقين، يقول جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:69-71].
اللهم عليك بدعاة الفساد الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، اللهم عليك بهم وبمن يؤيدهم، اللهم وأنزل عليهم بلاء يشغلهم وفتنة تفتك بهم، اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، أسعد المؤمنين وأفرحهم بهلاك الظالمين المفسدين، اللهم طهر البلاد من رجس المنافقين والكافرين والشهوانيين...
(1/4085)
ركن الزكاة
الأسرة والمجتمع, فقه
الزكاة والصدقة, قضايا المجتمع
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/9/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الزكاة في الإسلام. 2- عقوبات تحل عند منع الزكاة. 3- الزكاة ودورها في التكافل الاجتماعي. 4- مصارف الزكاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: صح عن رسول الله أنه قال: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)).
أيها المسلمون، إن شرعية الزكاة ثابت في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله ، وأجمع المسلمون على ذلك، فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، وأدوا زكاة أموالكم، فإن الزكاة قرينة الصلاة في كتاب الله؛ من جحد وجوبها كفر، ومن منعها بخلاً وتهاونًا كان من فسّاق هذه الأمة، وحكمه في الآخرة أنه تحت المشيئة، إن شاء الله عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عز وجل عذبه بالنار بقدر فسقه ثم أدخله الجنة، ومن أداها معتقدًا وجوبها راجيًا ثوابها فليبشر بالخير الكثير والخلف العاجل والبركة، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39]، وقال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
أيها المسلمون، أدوا ما أوجب الله عليكم في أموالكم التي رزقكم الله تعالى، لقد أخرجكم الله من بطون أمهاتكم، لا تعلمون شيئًا، ولا تملكون لأنفسكم نفعًا ولا ضرًا، ثم يسر الله لكم الرزق، وأعطاكم ما ليس في حسابكم، فقوموا ـ أيها المسلمون ـ بشكره، وأدوا ما أوجب عليكم؛ لِتُبْرئوا ذممكم وتطهروا أموالكم، واحذروا الشح والبخل بالتساهل في شأن الزكاة، فإنّ ذلك هلاككم ونزع بركة أموالكم.
أيها المسلمون المؤمنون، إن هؤلاء الذين بخلوا على الله عز وجل ولم يؤدوا هذا المقدار البسيط الذي أوجبه الله عليهم في أموالهم، ألم يقرؤوا الوعيد بالنيران في كتاب الله عز وجل لمن بخل بما آتاه الله، قال الله عز وجل: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، وقال النبي في تفسير الآية الأولى: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مُثّل له شجاعًا أقرع ـ وهي الحية الخالي رأسها من الشعر لكثرة سمها ـ مُثّل له شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوقه يوم القيامة، يأخذ بشدقيه، يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) رواه البخاري، وقال في تفسير الآية الثانية: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ : ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي فيها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فتكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد)) رواه مسلم.
فاتقوا الله أيها المسلمون، يا من تتهاونون في دفع زكاة أموالكم، فوالله لا يحمى على الذهب والفضة في نار كنار الدنيا، إنما يحمى عليها في نار أعظم من نار الدنيا بتسعة وستين جزءًا، إنه إذا أحمي عليها لا يكوى بها طرف من الجسم فقط، وإنما يكوى بها الجسم من كل ناحية، الجباه من الأمام، والجنوب من الجوانب، والظهور من الخلف. إن هذا العذاب ليس في يوم ولا شهر ولا في سنة، ولكن في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، يا من صدّقوا بالقرآن وصدقوا بالسنة، ما قيمة الأموال التي تبخلون بزكاتها؟! وما فائدتها؟! إنها تكون نقمة عليكم، وثمرتها لغيركم، إنكم لا تطيقون الصبر على وهج الحر أيام الصيف، فكيف تصبرون على نار جهنم؟! فاتقوا الله عباد الله، أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم، تنجون من عذاب ربكم.
فبادروا بزكاة الْمال إن بِها للنفس والمال تطهيرًا وتحصينًا
ألَم تروا أن أهل الْمال فِي وجل يخشون مصرعهم إلا المزكّينا
فهل تظنون أن الله أورثكم مالاً لتشقوا به جَمعًا وتَخزينًا
أو تقصروه على مرضاة أنفسكم وتَحرموا منه معدمًا ومسكينًا
ما أنتم غير أقوام سيسألكم إلهكم عن حساب المستحقينا
ولن تنالوا نصيبًا من خلافته إلا بأن تنفقوا مِمَّا تحبّونا
فأدوا الزكاة ـ عباد الله ـ قبل أن تفقدوا المال مرتحلين عنه أو مرتحلا عنكم، فإنما أنتم في الدنيا غرباء مسافرون، والمال وديعة بين أيديكم لا تدرون متى تعدِمون.
ولم يقف الشرع ـ عباد الله ـ عن حد الوعيد بالعقاب الأخروي، بل هدد بالعقوبة الدنيوية كل من يبخل بحق الله عز وجل، قال الله تعالى: إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [ن:17- 33].
فمانع الزكاة مهدد في الدنيا كذلك بزوال ماله، قال : ((ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين)) ، وقال : ((ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)) ، مانعو الزكاة سماهم الله في كتابه مشركين، فقال سبحانه: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:6، 7].
فيا من آتاه الله مالاً ولم يؤد زكاة هذا المال، اتق الله، فبسببك وأمثالك منع الناس القطر من السماء. والله الذي لا إله إلا هو، لو أخرج الأغنياء زكاة أموالهم لما رأينا فقيرًا ولا مسكينًا ولا جائعًا ولا عاريًا ولا محرومًا، وهذا ما حدث في عصر الخليفة العادل الإمام الزاهد عمر بن عبد العزيز ، يوم أن أقام العدل في الأمة، ويوم أن عرف الأغنياء حق الله في أموالهم، جُمعت الزكاة في عصر عمر بن عبد العزيز، وأراد عمر أن يوزعها فلم يجد فقيرًا واحدًا في أنحاء الأمة، عقمت أرحام الدولة العمرية أن تلد فقيرًا أو مسكينًا، وكان عمر بن عبد العزيز يحكم أمة تمتد حدودها من الصين شرقًا إلى باريس غربًا، ومن حدود سيبيريا شمالاً إلى المحيط الهندي جنوبًا، ومع ذلك جمع عمر بن عبد العزيز الزكاة فلم يجد مسكينًا واحدًا يأخذ الزكاة، وفاض المال في بيت مال المسلمين، فأصدر عمر بن عبد العزيز أمرًا بأداء الديون وقال: "اقضوا عن الغارمين"، فقُضي ديون الناس وما زال المال فائضًا، فأصدر أمرًا بإعتاق العبيد من بيت مال المسلمين، فأُعتق العبيد وما زال المال فائضًا في خزينة الدولة، فأصدر أمرًا بتزويج الشباب وقال: "أيما شاب أراد أن يتزوج فزواجه على حساب بيت مال المسلمين"، تزوج الشباب وبقي المال.
فيا من أراد أن يُخلف الله عليه وأن يبارك له في رزقه وفي دخله، أنفق على الفقراء والمساكين، وتفقد الأرامل واليتامى والمحرومين، وأنفق من أموالك في أوجه الخير والبر.
فقدموا لأنفسكم ـ يا عباد الله ـ شيئًا تلقونه هناك، قدموا للقبر، قدموا للصراط، قدموا ليوم الفضائح والكربات، واعلموا أن من قدم خيرًا فإنما يقدم لنفسه، وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ [المزمل:20]، وقال الله تعالى: منْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهو الركن الذي لا يصبح الإنسان مسلمًا حقًّا إلا إذا أداه، فهي واسطة العِقد، وهي الرابطة بين صحة الاعتقاد والعبادة، فالصلاة والصيام والحج عبادات بدنية، والزكاة تمثل جسر الإيمان الذي يربط بين ظواهر ومؤشرات ودلائل الاعتقاد وواقع الحياة؛ حيث يتحقق التلازم بين الاعتقاد والعبادة من جانب والتكافل الاقتصادي لأفراد المجتمع من جانب آخر، فيتحقق مفهوم الإسلام الذي يقوم على أساس أن الدين لا ينفصل عن واقع الحياة، وأنه يعمد إلى إسعاد الناس في حياتهم الدنيا كما يسعدهم في حياتهم الآخرة.
إن دور الزكاة في تحقيق التوازن الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي دور مهم، لكن واقع المجتمعات الإسلامية في هذا العصر لا يعطي لهذا الأمر أهمية، فتُرك الأمر للأفراد في تأدية الزكاة، وغُيِّر وجهها في كثير من الدول، واستبدلت الضرائب وغيرها من وسائل الجباية بالزكوات، وأصبحت التنظيمات المالية الحالية لا تعطي أهمية لدور الزكاة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والتكافل الاجتماعي وتحقيق ما ينادي به الاقتصاديون المعاصرون من إقامة دولة الرفاهية، فحلت الأنظمة المالية القائمة على النظام الربوي محل النظام المالي الإسلامي الذي يقوم على منهج مغاير للفكر الفلسفي الذي تقوم عليه التنظيمات المالية المطبقة حاليًا والمقتبسة من النظام الغربي.
إن المفهوم السائد لدى كثير من الناس عن الزكاة أنها نوع من التصدق، لا علاقة لها بتنظيم شؤون الدولة المالية، وليست جزءًا من التنظيم الاجتماعي، وبالتالي فإن الزكاة هي جزء من التراث الأخلاقي الذي لا يمكن أن يقوم عليه البناء المالي للمجتمع، هذا المفهوم الخاطئ يرجع في أساسه إلى عدم فهم حقيقة الزكاة والجهل التام بالتراث الفقهي المالي، مما ينتج عنه هذا المفهوم القاصر لدور الزكاة في المجتمعات الإسلامية.
إن الزكاة هي التنظيم المالي الوحيد في التشريعات المالية التي عرفها البشر المخصصة للإنفاق على احتياجات الأفراد الذين لا يجدون كفايتهم، ولم تقتصر الزكاة على نوع معين من الدخل، بل شملت كل مصادر الدخل، كما أنها تميزت بشمولية المشاركين في دفعها، حيث ظلت الحد الأدنى الذي إذا بلغه المال وجبت فيه الزكاة، مع ملاحظة طبيعة المال، فربطت وجوب الزكاة في بعضه على مرور الحول، مثل النقدين والتجارة والأنعام، وبعضه الآخر في تاريخ تحققه مثل الزروع أو الركاز أو المعادن.
إن من المفاهيم الأساس للزكاة التي ينبغي إدراكها ومعرفتها أن الزكاة من أهم المقومات التي يتميز بها المجتمع المسلم، وتعطيل الزكاة والتهرب من أدائها علامة من علامات انحراف المجتمع وبروز النفاق، ويؤكد القرآن هذا المفهوم في قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:17]، أما المنافقون فهم أولئك القابضون على أيديهم، فهم لا ينفقون، مخالفين لكل ما فيه خير وصلاح، يقول الله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّنْ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفَاسِقُونَ [التوبة:67 ].
أيها المسلمون، إن الزكاة لا تنفع ولا تبرأ بها الذمة حتى يخرجها الإنسان على الوجه المشروع، وحتى توضع في الموضع الذي وضعها الله فيه، وهم الأصناف الثمانية التي ذكرها الله في كتابه في قوله تعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، فهؤلاء ثمانية أصناف:
الأول: الفقراء، وهم الذين لا يجدون من كفايتهم إلا شيئًا قليلاً دون النصف، فإذا كان الإنسان لا يجد ما ينفق على نفسه وعائلته نصف سنه فهو فقير، فيعطى ما يكفيه وعائلته سنة.
الثاني: المساكين، وهم الذين يجدون من كفايتهم النصف فأكثر، ولكن لا يجدون ما يكفيهم سنة كاملة، فيكمل لهم نفقة السنة.
الثالث: العاملون عليها، وهم الذين يوكلهم الحاكم العام للدولة بجبايتها من أهلها وتصريفها إلى مستحقيها وحفظها ونحو ذلك، فيعطون من الزكاة بقدر عملهم وإن كانوا أغنياء.
الرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم رؤساء العشائر الذين ليس في إيمانهم قوة، فيعطون من الزكاة ليقوى إيمانهم، فيكونوا دعاة للإسلام وقدوة صالحة في قبائلهم.
الخامس: الرقاب، ويدخل فيها شراء الرقيق من الزكاة وإعتاقه ومعاونة المكاتبين وفك الأسرى من المسلمين.
السادس: الغارمون، وهم المدينون إذا لم يكن لهم ما يمكن أن يوفوا منه ديونهم، فهؤلاء يعطون من الزكاة ما يوفون به ديونهم.
السابع: في سبيل الله، وهو الجهاد في سبيل الله، فيعطى المجاهدون من الزكاة ما يكفيهم لجهادهم.
الثامن: ابن السبيل، وهو المسافر الذي انقطع به السفر، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده.
فهؤلاء هم أهل الزكاة.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا...
(1/4086)
شهر المحرم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
8/1/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل شهر الله المحرم. 2- فضل صيام يوم عاشوراء وسببه. 3- وقفات مع شهر المحرم. 4- بدع ومخالفات تقع في يوم عاشوراء. 5- دروس وعبر مأخوذة من قصة موسى منذ ولد حتى يوم الملحمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نعيش هذه الأيام أيامًا جميلة، إنها أيام شهر الله المحرم، أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، وعن أبي بكرة عن النبي : ((السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)) رواه البخاري. هذه الأشهر الحُرُم الذنب فيهن أعظم من غيرها من الشهور، والعمل الصالح والأجر أيضًا أعظم.
أيها المسلمون، في شهر المحرم صيام يوم عاشوراء، قال النبي : ((صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) ، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قدم النبي المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: ((ما هذا؟)) ، قالوا: هذا يومٌ صالحٌ، هذا يومٌ نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: ((فأنا أحق بموسى منكم)) ، فصامه وأمر بصيامه. رواه البخاري.
فها هنا عدة وقفات:
الوقفة الأولى: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء، فإن الله اصطفى صفايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ـ رحمني الله وإياكم ـ ما عظم الله، فإن تعظيم ما عظّم الله من صفات أهل الإيمان.
الوقفة الثانية: أن نعرف فضل الله تعالى علينا في أن جعل لنا مواسم نتوب فيها ونرجع إلى الله فيكفر عنا الخطايا، ولكن مع ذلك لا بد أن نعلم أن الخطايا التي تكفر إنما هي الصغائر، فليحذر الكثير من الناس الذين يرتكبون الموبقات ويتركون الفرائض وينتهكون الحرمات ويظنون أن ذلك يكفر بصيام هذا اليوم، وينسون أن أمر الكبائر يحتاج إلى توبة وعزم على عدم الرجوع. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وتكفير الطّهارة والصّلاة وصيام رمضان وعرفة وعاشوراء للصّغائر فقط"، وقال ابن القيم رحمه الله: "لم يدرِ هذا المغتر أن صوم رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجل من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفّر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر، فرمضان إلى رمضان والجمعة إلى الجمعة لا يقويان على تكفير الصغائر إلا مع انضمام ترك الكبائر إليها، فيقوى مجموع الأمرين على تكفير الصغائر".
الوقفة الثالثة: نأخذ من قول النبي : ((نحن أحق بموسى منكم)) أن هذه الأمة المباركة هي امتداد للأنبياء والصالحين، وأن كل نبي وكل صالح من الأمم السابقة فإنما هو تابع لهذه الأمة، ونحن أحق بكل نبي من قومه الذين كذبوه وعصوه، وأن الأنبياء عليهم السلام امتداد لتاريخنا، وقد قال الله تعالى بعد أن ذكر قصص الأنبياء: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]. هذه أمتكم أمة الأنبياء، أمة واحدة، تدين بعقيدة واحدة، وتتجه اتجاها واحدا، هو الاتجاه إلى الله وحده دون سواه.
وللأسف ـ أيها الإخوة ـ فإن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى قد علموا هذه الحقيقة، وعرفوا كيف أن المسلمين يحترمون الأنبياء السابقين، فأرادوا بمكر منهم وخبث ودهاء أن يستغلوا هذه الحقيقة لتمييع المسلمين وكسر تميزهم ومحاولة تحطيم اعتزازهم بهذا الدين، وهذا الأمر هو الحدث المهم الذي يجري الآن على الساحة دون أن يتفطن له كثير من المسلمين، فالمنظّرين في الغرب يعملون الآن بجد بالتعاون مع اليهود لهدم التميز الإسلامي، من خلال عقد المؤتمرات لبحث وحدة الأديان والمحاولات الجادة لتقريب وجهات النظر بين أصحاب الأديان الثلاثة، وإغراء عدد من علماء السوء وكثير ممن يسمونهم بالمفكرين الإسلاميين بتقديم تنازلات في العقيدة لدمج الأديان الثلاثة، حتى ظهرت الدعوة الجديدة التي تدعو إلى العودة إلى دين إبراهيم، وأصبحت هناك منتديات مشتركة يحترم كل واحد فيها عقيدة الآخر، ويقر فيها المسلم بعقائد الشرك وطقوس الوثنية، والأدهى من ذلك أن يؤخذ طلبة المدارس الإسلامية لزيارة الكنائس والمعابد والمشاركة في الصلوات الشركية، وهذا الأمر أمر خطير جدا ينبغي على كل مسلم الحذر من مكائد ما يبثه أولئك الماكرون والكافرون، ولنحذر من الكافرين مرة، ولنحذر من المنافقين ألف مرة.
الوقفة الرابعة: نأخذ من أمر النبي بمخالفة اليهود والأحاديث التي جاءت في النهي عن التشبه بالكفار في كل شيء كثيرة جدًا ومنها قوله في عاشوراء: ((لئن عشتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسع)) ، يقول هذا عليه الصلاة والسلام مع أن صيام اليهود كان صياما صحيحا على شرع موسى عليه السلام، ولكنه التأكيد على المخالفة التي طالما أظهر تأكيدها النبي ، حتى قال اليهود: ما يُرِيدُ هذا الرَّجلُ أن يَدَعَ من أَمْرِنَا شيئا إلا خالفنا فيه.
لقد كان الرسول يريد لنا الرفعة عن مشابهة الكفار، ويريد لنا العزة، ويريد لنا التميز، فلماذا نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! نحن أمة مرفوعة، فلم نكون خاضعين؟! نحن أمة متبوعة، فلم نكون تابعين؟! نحن أمة الجهاد، فلم نخاف الأذلة الصاغرين الذين غضب الله عليهم وضرب عليهم الذلة والمسكنة؟!
يا من دانت لكم الدنيا وأنتم جياع, كيف استعبدكم هؤلاء وأنتم شباع؟! قد حزتم أموال الدنيا وتربعتم على أسباب الحياة. يا من قصمتم القياصرة وكسرتم الأكاسرة وحطمتم الجبابرة، كيف جبنتم عن ملاقاة ثلة ضائعة حائرة من أحفاد القردة والخنازي؟!
عجبا أيها المسلمون، أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! كيف رضيتم بالدنيا وتركتم الجهاد؟! وقد سمى الله ترك الجهاد وموالاة اليهود والنصارى ردة، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54]، نعوذ بالله أن نكون ممن قال الله فيهم: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [التوبة:87]. فإذا لم تتيسر أسباب الجهاد فليس هناك أقل من أن تبغض الكفار وتتجنب طريقهم وتحذر مكائدهم، ونحذر منهم أهلينا ومن لنا ولاية عليه، مع العلم بأن الجهاد يكون بالسنان وباللسان ويكون بالنفس وبالمال، ويكون بكل وسيلة مشروعة، ويكون للكفار والمنافقين، والله تعالى يحرض نبيه فيقول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة:73].
الوقفة الخامسة: يجب علينا أن نحمد الله سبحانه بأن جعلنا من أتباع السنة المطهرة، وأن نجانا من اتباع طريق أهل البدع الذين اتخذوا ضرب أنفسهم وتسويد وجوههم دينا يدينون الله تعالى به، وجعلوا اللعن وسب أصحاب النبي قربة يتقربون بها إلى الله، وهي في الحقيقة تقربهم إلى جهنم وبئس المصير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن ذكر مقتل الحسين وماذا فعل الناس بسبب ذلك: "فصارت طائفة جاهلة ظالمة ـ إما ملحدة منافقة وإما ضالة غاوية ـ تظهر موالاته وموالاة أهل بيته؛ تتخذ يوم عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة، وتظهر فيه شعار الجاهليّة من لطم الخدود وشق الجيوب والتَّعزي بعزاء الجاهلية وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصّدق فيها ليس فيه إلاّ تجديد الحزن والتعصب وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتّوسل بذلك إلى سبِّ السَّابقين الأولين، وشرُّ هؤلاء وضررهم على أهل الإسلام لا يحصيه الرّجل الفصيح في الكلام" انتهى.
أهل السنة لا يفرحون بمقتل الحسين ولا بمقتل أي رجل من المسلمين، ولكن ذلك لا يخرجهم إلى حد الغلو والابتداع في الدين، ولو جاز لهم فعل شيء من ذلك لكانت وفاة رسول الله أعظم مصيبة من قتل الحسين ، ولو أن هؤلاء المبتدعة يحبون الحسين حقا لاتبعوه واهتدوا بهديه في هذا اليوم، ولكانوا صياما كما كان صائما رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وفي شهر المحرم حصلت الملحمة العظيمة التي وقعت في اليوم العاشر من هذا الشهر، وهو نهاية فرعون ونجاة موسى وقومه، فنجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى عليه السلام، فقال النبي : ((فأنا أحقُّ بموسى منكم)) ، فصامه وأمر بصيامه.
أيها المسلمون، ومن بداية قصة موسى منذ ولد حتى يوم الملحمة عدد من الدروس والعبر المهمة:
أولاً: أن نور الله مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثروا في عقول الدهماء فترة من الزمن، واستمالوهم بالمنح والعطايا، فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، وتأملوا في حال فرعون وسحرته، وكم وعِدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه، واستهانوا بما وعد به حين أبصروا دلائل الإيمان ولاذوا بحمى الملك الديان، فكانوا أول النهار سحرة وآخره شهداء بررة، وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:113-122].
إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية، هذا الموقف بين فرعون وملئه والمؤمنين من السحرة السابقين، وإنه موقف حاسم ينتهي بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان. وليس هذا أول خرق في سفينة فرعون، فقد كان في بيته مؤمنون، ومع ضعف النساء فقد تحدت آسية امرأة فرعون زوجها وشمخت بإيمانها ولم تفتنها الدنيا ومباهجها، وضرب الله بها مثلا للمؤمنين، وقالت: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم:11]. ووجد في آل فرعون مؤمنون ناصحون رغم العنت والأذى، وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ [غافر:28].
ثانيًا: عاش المسلمون في أيام فرعون ظروفا عصيبة ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر أن يسروا بصلاتهم ويتخذوا المساجد في بيوتهم، قال الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87]، وفى ظل هذه الظروف العصيبة أُمر المسلمون بالصبر عليها والاستعانة بالله على تجاوزها بالوسائل التالية: بالصبر: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128]، وبالإيمان بالله والتوكل عليه: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84]، وبالدعاء وصدق اللجوء إليه: وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]. وهكذا كلما مرت ظروف صعبة بأمة فإن وسائل تجاوزها يكون بالصبر والتوكل والدعاء.
ثالثًا: إن الصراع مهما امتد أجله والفتنة مهما استحكمت حلقاتها فإن العاقبة للمتقين، لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، أجل فلا ينبغي أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد الله، ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل ثم يكون الفرج والنصر المبين للمؤمنين.
نأخذ من يوم عاشوراء عبرة عظيمة حيث نصر الله تعالى فيه موسى على الطاغية فرعون، فإن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، والمسلم يعلم أن النصر قادم، وأنه ليس عليه إلا أن يستعين بالله ويفعل ما أمر به ثم يصبر لحكم الله تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف:128، 129].
إنها رؤية النبي لحقيقة الألوهية وإشراقها في قلبه، رؤية النبي لحقيقة الواقع الكوني والقوى التي تعمل فيه، ولحقيقة السنة الإلهية وما يرجوه منها الصابرون. إنه ليس لأصحاب الدعوة إلى رب العالمين إلا ملاذ واحد وهو الملاذ الحصين الأمين، وليس لهم إلا ولي واحد وهو الولي القوي المتين، وعليهم أن يصبروا حتى يأذن الولي بالنصرة في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه، وأن لا يعجلوا فهم لا يطلعون الغيب ولا يعلمون الخير، وإن الأرض لله، وما الفراعنة وطواغيت الأرض إلا نزلاء فيها، والله يورثها من يشاء من عباده وفق سنته وحكمته، فلا ينظر الدعاة إلى شيء من ظواهر الأمور التي تخيل للناظرين أن الطاغوت مكين في الأرض غير مزحزح عنها، فصاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يطردهم منها.
ويحس المسلمون برباط العقيدة مهما كانت فواصل الزمن، وكما تجاوز المؤمنون من قوم موسى عليه السلام المحنة كذلك ينبغي أن يتجاوزها المسلمون في كل عصر وملة، وكما صام موسى يوم عاشوراء من شهر الله المحرم شكرًا لله على النصر للمؤمنين صامه محمد والمؤمنون، ولا يزال المسلمون يتواصون بسنة محمد بصيام هذا اليوم ويرجون بره وفضله، وقد قال عليه السلام بشأنه: ((وصوم عاشوراء يكفر السنة الماضية)) ، وفي لفظ: ((وصيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)).
فقدروا لهذا اليوم قدره، وسارعوا فيه إلى الطاعة، واطلبوا المغفرة، وخالفوا اليهود، وصوموا تطوعًا لله يومًا قبله أو يومًا بعده.
(1/4087)
الإمام أحمد بن حنبل
سيرة وتاريخ
تراجم
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
23/1/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمة الإسلامية أمة أمجادٍ وحضارة وتاريخ وأصالة. 2- فضل العلماء العاملين. 3- مولد الإمام أحمد وصفاته ونشأته وطلبه للعلم وفضله. 4- دروس وعبر مستفادة من حياة الإمام أحمد.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:282].
عباد الله، إن في تاريخ العظماء لخبرا، وإن في سير العلماء لعبرا، وإن في أحوال النبلاء لمدّكرا، وأمتنا الإسلامية أمة أمجادٍ وحضارة وتاريخ وأصالة، وقد ازدان سجلها الحافل عبر التاريخ بكوكبة من الأئمة العظام والعلماء الأفذاذ الكرام، مثلوا عقد جيدها وتاج رأسها ودري كواكبها، كانوا في الفضل شموسًا ساطعة، وفي العلم نجومًا لامعة، فعدّوا بحقٍ أنوار هدى ومصابيح دجى وشموعًا تضيء بمنهجها المتلألئ وعلمها المشرق الوضاء غياهب الظُلَم، وتبددها بأنوارِ العلوم والحكم.
إخوة الإيمان، في تاريخ الإسلام علماء ربانيون وأعلامٌ عاملون وأئمة مهديون، هم من منة الله على هذه الأمة، قاموا بالإسلام وللإسلام، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويرشدون به من ضل منهم إلى الهدى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، يقتبسون من نور الوحي، ويسيرون على مشكاة النبوة عقيدة وعلمًا وعملاً ومنهجًا ودعوة، فكم نفع الله بهم البلاد، وكم هدى بهم من العباد.
وإن ارتباط الأجيال اللاحقة والناشئة المعاصرة بسلفهم من العلماء الأفذاذ ـ ينتفعون بسيرتهم ويسيرون على منهجهم ويقتبسون من نور علمهم وفضلهم ـ لهو من أهم الأمور التي ينبغي أن نعنى بها، لا سيما العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله ورجال الحسبة والإصلاح، كيف ونحن نعيش في أعقاب الزمن حيث كثرت الفتن وطمت المحن واستحكمت الأزمات وعمت الخلافات وتباينت المشكلات والمعضلات؟! ولا مخلص منها إلا الاعتصام بالكتاب والسنة والسير على منهج علماء سلف هذه الأمة رحمهم الله الذين يعَدّون أمثلة حية ونماذج فريدة تمثل التطبيق الحي السليم والمنهج العملي الصحيح للإسلام عقيدة وسلوكًا؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: سِيَر الرجال أحب إلينا من كثيرٍ من الفقه، غير أن لا عصمة لأحدٍ من سائر الناس، والتعصب للرجال مذموم، وخير الهدي هدي من لا ينطق عن الهوى: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
أمة الإسلام، وكان من أجل هؤلاء الأئمة وأفضل هؤلاء العلماء عالمٌ لا كالعلماء، وعلَمٌ لا كالأعلام، جبلٌ أشمّ وبدرٌ أتم وحبرٌ بحر وطودٌ شامخ، يعدّ بجدارة إمام القرن الثالث الهجري، فريد عصره ونادرة دهره، قَلَ أن يجود الزمن بمثله، إنه أئمة في شخص إمام وأمة في رجل.
قال عنه الإمام الشافعي رحمه الله: "خرجت من العراق فما خلفت فيها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أتقى لله منه"، وقال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: "عالم العصر، وزاهد الدهر، ومحدث الدنيا، وعَلَمُ السنة، وباذل نفسه في المحنة، قَلَّ أن ترى العيون مثله، كان رأسًا في العلم والعمل والتمسّك بالأثر، ذا عقلٍ رزين وصدقٍ متين وإخلاصٍ مكين، انتهت إليه الإمامة في الفقه والحديث والإخلاص والورع، وهو أجل من أنه يمدح بكلِمِي أو أن أفوه بذكره بفمي".
أتدرون ـ يا رعاكم الله ـ من تعطّرون أسماعكم بذكر سيرته؟! إنه إمام أهل السنة الإمام الفذ والعالم الجهبذ الإمام المفضل والعالم المبجل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، من عرفته الدنيا وذاع ذكره وشاع صيته في الآفاق، إمامًا عالمًا فقيهًا محدثًا مجاهدًا صابرًا لا يخاف في الله لومة لائم، يتحمل المحن في سبيل الله والذب عن سنة رسول الله، ويقارع الباطل بحكمة نادرة، لا تزعزعه الأهواء، ولا تميد به العواصف، حتى عدّ قمة عصره وما بعد عصره، وأجمع على جلالته وقدره، إلا عند من لم يعبأ بهم، قال عنه يحيى بن معين: "أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد، لا ـ والله ـ ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ولا على طريقة أحمد ".
أيّها الإخوة في الله، على ثرى بغداد ولد الإمام ونشأ وترعرع، ومن أصلٍ عربيٍ أصيلٍ انحدر نسبه رحمه الله، وعلى عصامية اليتم تربى ودرج في صباه مما ساعد على سمو نفسه وعلو همته ونمو مداركه وتعرفه على أحوال مجتمعه، وكانت بغداد آنذاك ليست كما هي في عقب الزمان والله المستعان، حيث كانت حاضرة العالم الإسلامي ومهد العلوم والحضارة، تموج بأنواع الفنون والمعارف، وتزخر بشتى الأفكار والعلوم، وعصره عصر نضوج الفقه وظهور الفقهاء، واشتداد الجدل الفكري بين العلماء، ومع عدم استقرار الحالة السياسية وكثرة الفتن مما ساعد على حسن توجه الإمام رحمه الله، فاتجه إلى تحصيل العلم ولزوم السنة، فلم يحرض على فتنة، ولم يواجه ذا سلطان، مع قوة في الحق وحبٍ للخلق وذبٍ عن السنة وتحذيرٍ من البدعة.
معاشر المسلمين، لقد أقبل الإمام الرقيق النحيل الربعة من الرجال والطوال ذو اللون الأسمر والتواضع الجم ينهل من العلم، فحفظ القرآن وأقبل على الحديث والأثر حتى حفظ مئات الألوف من الأحاديث، وما كتابه المسند إلا دليلٌ على طول باعه في علم السنة في مجال الرواية، وقد جمعه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف، واستغرق في جمعه أكثر من خمس عشرة سنة، أما الدراية فهو ابن بجدتها والصيد في جوف الفرى، ملتزمًا بفقه السنة، والعناية بالدليل والأثر، والأخذ بفتاوى الصحابة رضي الله عنهم.
رحل في طلب العلم إلى كثيرٍ من البلدان، حتى قال عنه ابن كثير: "لقد طاف في البلاد والآفاق ليسمع من المشايخ، وكانت له همة عالية في الطلب والتحصيل، فما ترك لحظة من لحظات شبابه وكهولته إلا حرص فيها على سماع حديث أو تصحيح رواية، وما قصته في سماعه من عبد الرزاق بن همام الصنعاني في مكة وسفره معه إلى بلاده مع بعد الشقة وانقطاع النفقة إلاّ دليلٌ على علو الهمة ومضاء العزيمة، حتى عد حافظ زمانه"، وقال ابن المديني : "ليس في أصحابنا أحفظ منه"، وقيل لأبي زرعة: من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟ قال: أحمد بن حنبل؛ حزرت كتبه في اليوم الذي مات فيه فبلغت اثني عشر جملاً وأكثر، كلها يحفظها عن ظهر قلب.
ومع هذا العلم الجمّ فقد خاف الإمام على نفسه البروز والشهرة والتصدر، فلم يجلس للتدريس إلا بعد الأربعين من عمره، كما قال ابن الجوزي رحمه الله؛ وما ذاك إلا مراعاة لسن النضج والاستيثاق من العلم.
وكان من شدة ورعه رحمه الله أنه لا يحدث إلا في كتاب خشية الزلل، مع قوة حافظته وشدة عارضته، ولا يسمح بتدوين فتاواه، ولا يرى تأليف الكتب تقوًى وورعًا منه عليه رحمة الله، قيل: إنه لسعة علمه أجاب عن ستين ألف مسألة بـ"قال الله وقال رسوله" وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم.
إخوة العقيدة، ومن أهمّ حياة الإمام أبي عبد الله رحمه الله منهجه في العقيدة والتزامه نهج الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة في التوحيد والصفات ونزول القرآن، حتى أوذي وامتحن، فصبر وصابر ولم يتزحزح عن قول الحق، حتى ربط موقفه في محنته بموقف الصديق ، يقول علي بن المديني: "لقد أعز الإسلام برجلين: بأبي بكر يوم الفتنة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة".
ولم يكن الإمام بمعزلٍ عن الأمة والمجتمع، بل كان عالمًا عاملاً مصلحًا مجاهدًا آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر، لكنه مع ذلك يلتزم مسالك الرفق والحكمة، ملتزمٌ بالطاعة، موافقٌ للجماعة، بعيد النظر في الإصلاح، يقول ابن عمه حنبل بن إسحاق بن حنبل رحمه الله فيما أخرجه الخلال في كتاب السنة: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله ـ يعني: الإمام أحمد رحمه الله ـ وقالوا له: يا أبا عبد الله، إن الأمر قد تفاقم وفشا ـ يعنون: إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك ـ ولا نرضى بإمارته وسلطانه، فناظرهم في ذلك، وقال: عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، لا تشقّوا عصا المسلمين، ولا تسفِكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح ضَرٌ ويُستراح من فاجر، وقال: ليس هذا صوابًا ـ أي: نزع اليد من الطاعة ـ هذا خلاف الآثار.
وفي ذلك عبرة على مدى التاريخ أن سلطان العلم لا بد له من منهجٍ سليمٍ يتَّخذ مع سلطان الحكم، تحقيقًا للمصالح ودرءًا للمفاسد وتجنيبًا للأمة غوائل الشرور وعاليات الفتن.
الله أكبر، ما أعظم العلم، وما أهم الفقه، وما أجل مكانة العالم إذا ثبت على السنة، لم تستمله العواطف، ونظر بعين الحكمة في مصالح الأمة.
أمة الإسلام، ولقد ضرب الإمام أروع الأمثلة في الثبات على المبدأ والصبر أمام الفتن، لقد أوذي وسجن، وضرب وأهين، فلم تلِن له قناة، وبذل مهجته في سبيل الله، ولم يتزحزح عن حقٍّ يراه ولو كلفه حياته، وهذه دروسٌ للعلماء والدعاة في كل زمانٍ ومكان.
لقد سخر بالأهوال التي حاطت به والمخاطر التي حفت به والمؤامرات التي أحيكت ضده، وهزأ بالسياط التي تلهب ظهره، ولم يبالِ بالحديد الذي كبل فيه والسجن الذي أودع به، وبالتالي ثبت أمام المغريات، كل ذلك هين ما دام في سبيل الله وصيانة كتابه من عبث العابثين وحفظه من اعتقادات المخالفين.
أيها الأحبة، صفحة أخرى في حياة هذا الإمام الهمام، صفحة العبادة وتصفية الروح وتزكية النفس بالصلاة والذكر والدعاء والتلاوة، وكذلك صفحة الخلق الرفيع والسجايا الحميدة، زهدٌ وحياء، تواضعٌ وورع، تعففٌ وجود، بذلٌ وكرم، حبٌ للفقراء والمساكين، بعدٌ عن الشهرة والأضواء وحب الظهور وكثرة الجماهير، مجانبة للرياء وضعف الإخلاص. قال ابنه عبد الله: "كان أبي أحرص الناس على الوحدة، لم يره أحدٌ إلا في المسجد أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق، ولا يدع أحدًا يتبعه". وتلك ـ والله ـ مقامات العظماء ومناهج العلماء الأتقياء.
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله يا دعاة الإسلام ويا طلاب العلم ويا أرباب الإصلاح، وليت الأمة اليوم وليت شبابها يتوجهون بعقولهم إلى علماء سلفهم؛ ليتذكروا القدوة الصالحة والأسوة الحسنة، حتى تحيي في أنفسهم سيرة سلفهم الصالح رحمهم الله، وسيرتهم خير طريقٍ لسعادة الدنيا والآخرة، وضمانة من الفتن، وبعدٌ عن المحن، والله المستعان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:23،24].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين وبسير سلفنا الصالحين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الأمة إذا لم تعتز بماضيها وسير علمائها والاستفادة من تاريخها ضيعت حاضرها ومستقلبها، واضطربت مكانتها، وتخبط أجيالها. وسِيَر سلفنا الصالح رحمهم الله شموعٌ على طريق العلم والدعوة والإصلاح، بهم يستفاد تصحيح المسار وتوجيه المسيرة وتوازن الخطى.
ولقد ضلّ أقوامٌ زهّدوا بسير سلفهم، والتفتوا يمنة ويسرة، يخبطون في شتى المذاهب، ويتذبذبون بين جديد المشارب، وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلاً [النساء:83].
أيها الإخوة في الله، وحينما نقلب صفحة أخرى من حياة هذا الإمام نرى العجب العجاب، إنه الجانب الأسري وتربية الأولاد، فلم تشغله هموم العلم والدعوة والإصلاح والجهاد عن أسرته وحسن العشرة لأهله وزوجه، يقول الإمام أحمد رحمه الله: تزوجت أم صالح فأقامت معي ثلاثين سنة، فما اختلفت أنا وهي في كلمة واحدة.
أيها الإخوة في الله، وثمة صفحة أخرى من سجل هذا الإمام الخالد، هي إنصافه للمخالف وسلامة صدره للمسلمين وتقديره لأهل العلم وإن اختلف معهم، ولما عتب عليه بعضهم وأرادوا إثارة الخلاف بينه وبين الشافعي قال: مه، ما رأت عيناي مثل الشافعي، وقال: إني لأدعُو الله للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة.
وإذا أردنا أن نقلب صفحات حياة هذا الإمام كلها لطال المقام، ولكن حسبنا الإشارة والتذكير وفاءً لعلمائنا، وأداءً لبعض حقهم علينا، وربطًا للناس بسيرهم التي ورثوها من المنهج النبوي واستقوها من معين الكتاب والسنة في بعدٍ عن التعصب المذهبي والمسلك التحزبي، وفي مجانبة لمسالك الغلو في الأئمة والجفاء لهم والحط من مكانتهم.
وبعد حياة حافلة بالخير بجميع جوانبه قدّم فيها أبو عبد الله جهده وجهاده وأيقظ في الأمة الاعتزاز في الإسلام وشدة التمسك بالسنة والمنهج الصحيح، بعدها مرض بالحمّى، يقول ابنه عبد الله: لما حضرت أبي الوفاة جلست عنده، فجعل يغشى عليه ثم يفيق ثم يفتح عينيه ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، لا بعد، ثلاث مرات، ففعل هذا مرة ثانية وثالثة، فلما كانت الثالثة قلت له: يا أبتِ، إنك قلت كذا وكذا، فقال: ما تدري، هذا إبليس قائم حذائي عاضٌّ على أنامله يقول: فُتَّني يا أحمد، وأنا أقول: لا بعد حتى أموت. قال صالح: فجعل أبي يحرك لسانه بالشهادة حتى توفي رحمه الله وله سبعٌ وسبعون سنة وأيام. وقد شهدت جنازته ـ كما تقول كتب السير ـ جمعًا لم يُشهد مثله، حتى قيل: إن غير المسلمين أسلموا ذلك اليوم، وكان رحمه الله يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، وأوصى رحمه الله عند موته لأهله وذريته وللمسلمين خيرًا.
تلك صفحاتٌ ناصعة، وذلك غيضٌ من فيض لا يوفيه حقه، وكم من معانٍ يعجز اللسان عن تصويرها، وحياة الإمام كلها معانٍ ومواقف، وحسبه إنه إمام السنة في علمه وعمله ودعوته وجهاده، وأنه حربٌ على الجهل والانحراف والبدعة، وقد خلف للأمة تراثًا علميًا ومذهبًا فقيهًا، له من المزايا والخصائص ما ليس لغيره، فرحمه الله رحمة واسعة، ورفع منزلته في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وثمة تنبيه أخير، وهو أنه ليس الحديث عن عالم حطًّا من مكانة غيره من العلماء، فأبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله وسائر الأئمة لهم حظهم الوافر في خدمة الإسلام وأهله، فرحمهم الله ورضي عنهم.
هذا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على خير الورى، على النبي المصطفى والحبيب المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم جلَّ وعلا فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/4088)
توضيح العباد في مساهمة بنك البلاد
فقه
قضايا فقهية معاصرة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
16/1/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة تهافت الناس على المكاسب والأرباح. 2- انتشار المعاملات والمكاسب المحرمة بين الناس وتلبيسها لباس الحلال. 3- فتوى لفضيلة الشيخ ابن عثيمين في حكم المساهمة في البنوك. 4- فتوى اللجنة الشرعية لبنك البلاد. 5- حفظ المال من الضروريات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية بها. 6- حرمة استحلال الحرام بأدنى الحِيل.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي أباح لنا من المكاسب أحلّها وأزكاها وأقومها بمصالح العباد وأولاها، وحرم علينا كل كسب مبني على ظلم النفوس وهواها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخليقة وبراها، وبين لها طرق رشدها وهداها، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أزكى الخليقة عبادة ومعاملة وأتقاها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليما.
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل وكثرة حمده على آلائه إليكم ونعمائه عليكم وبلائه لديكم، فكم خصكم بنعمة، وأزال عنكم نقمة، وتدارككم برحمة، أُعوِزتم له فستَركم، وتعرّضتم لأخذه فأمهَلكم، فإن تتوّلوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم.
عبادَ الله، إنّ تنافسَ الناس في نيلِ مطامعِ الدّنيا لهو الدَّيدَن المعهود في غابِرِ الأزمان وحاضِرها، وإنِّه ليزدَاد هذا التنافُس معَ الطّمَع كلّما ازداد اللّهَث وراءَ المكنون من زينتِها ومفاتنها، حتى إنَّ النفسَ المغامرة لتشرئبّ أمامَ السّرابِ في القيعةِ تحسَبه ماءً وليس بماءٍ، وما ذلك إلاَّ مِن شدَّة ولع النّاس بالدنيا وزخرفها. وإنَّ على رأس هذهِ المفاتن المالَ، المال الذي أودَعه الله بين عباده، يتناقلونه فيما بينهم، يبيع بعضهم لبعض، ويرابِح بعضهم لبَعض. يجِد الناس في هذا المالِ طاقاتٍ متفتّقةً بين الحين والآخر في إذكاءِ المضاربات والمرابحات، حتّى يصبِح التنافس والتهافُت سِمةُ مِن سماتِ مغامرات الناسِ ومخاطراتهم، وكأنهم بذلك يفرّون من فقرٍ محقَّق يدَعّون إليه دَعًّا، حتى وقَعوا فيما حذَّر منه النبيّ بقوله: ((فوالله، لا الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدّنيا كما بسِطَت على مَن كان قبلكم، فتنافَسوها كما تنافَسوها، وتهلِكَكم كما أهلَكتهُم)) رواه البخاريّ ومسلم. ثمّ إنَّ هذا التنافسَ المحمومَ لم يسلم التعامل به من الكذب والظّلمِ والبُهتان والكيدِ والحسَد وأكلِ أموالِ الناس بالباطل؛ إذ ما مِن تَنافسٍ يخرجُ عن إطارِ الاعتدالِ والتوسُّط إلاَّ وتكون العواقبُ فيه وخيمة، والآفات المتكاثِرة عليه أليمة. ومِن هنا تنشأ الفِتنة بين النّاس، فيبغِي بعضهم على بعض، ويلعَن بعضهم بعضًا، وهذِه النتيجةُ إنما هِي مصداقٌ لقولِ المصطفى : ((إنّ لكلِّ أمّةٍ فِتنةً، وفتنة أمّتي المال)) رواه الترمذي.
أيّها الناس، جاءَ في مسند أحمدَ أنّ النبيَّ ذكر أنّ الساعةَ لا تقوم حتى يفيضَ المال، وإنّ من المقرَّر المشاهَد في هذا الزّمن ـ عباد الله ـ كثرةَ المال وتنوّعَ موارده، وامتلاءَ الساحة بالأطروحات الاستثماريّة والمساهماتِ الربحية؛ ما جعل الناس يتهافتون إليها تهافُت الفراشِ على النِّبراس، حتى إنّها لم تدَع بيتًا إلاَّ وأصابته بدخَنها. وليس هذا هو العجبَ عباد الله، فإنّ النبي قد أخبرنا بهذا التنافس، وإنما العجَب حينما يكون هذا الانكبابُ والانغماس في حمأة الطّفرَة الماليّة، لدى المستثمِرين عاريًا عن الأناةِ والوضوح والفَرز بين ما أحلَّه الله وبين ما حرّمه، وهذا ناتج من قلة العِلم وضَعف الحرص على استجلابِ المال من طُرُقه الواضحة البيّنة من حيث الحِلّ والحرمةُ. وما نشاهِده اليومَ من عروضٍ استثماريّة متنوِّعة يعتريها شبَهٌ وشكوك، بل يعترِيها ظنٌّ راجح بأنها ملتاثةٌ بشيءٍ من الطّرق المحرَّمة في المعاملات، إنّما هو يذكِّرنا بقول النبيِّ : ((ليأتيَنَّ على الناسِ زمانٌ لا يبالي المرءُ بما أخذَ من المال بحلالٍ أو بحرام)) رواه أحمد.
وإن من أخطر الأمور تهافت الناس على الدنيا وأخذها من حلها ومن غير حلها، وأصبح همّ الواحد الحصول على المال، لا يبالي أمن حلال هو أم من حرام، همّه أن يكون من الأثرياء، فضلّ بذلك عن الهدى واتبع الهوى، أَفَمَن يَمْشِى مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى? أَمَّن يَمْشِى سَوِيًّا عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ [الملك:22]، ويقول الرسول : ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه. والذي نفسي بيده، لا يُسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه، ولا يؤمن حتى يأمَن جاره بوائقه)) ، قالوا: وما بوائقه يا نبي الله؟ قال: ((غشمه وظلمه. ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبل منه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)) أخرجه الإمام أحمد في المسند. إن في هذا الحديث لعبرة وعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولقد أصبح هم كثير من الناس جمع المال من أي طريق سواء كان حلالاً أو حرامًا، وهذا تصديق لحديث الرسول الذي قال فيه: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي الرجل من أين اكتسب ماله؛ من الحلال أم من الحرام)) ، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((يأتي على الناس زمان لا يبقى بيت إلا ويدخله الربا، وإن لم يدخله نالهم من غباره)).
وهذا الواقع المؤلم في مجتمعات المسلمين مؤذن بحلول غضب الله ونقمته التي سوف تعمّ الصالح والطالح، حيث قال سبحانه وتعالى محذرًا ومنذرًا من شؤم المعاصي والذنوب: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]. فهمُّ كثير من الناس اليوم هو جمع المال واستغلال حاجة بعضهم بعضًا؛ لنهب ما في أيديهم وإثقالهم وتحميلهم الديون بالحيل الموقعة في المعاملات الربوية، والاحتيال على شرع الله، ومشابهة اليهود الذين يرتكبون المحرمات بأدنى الحيل، وقد أصبح هذا الشبه والخلق اليهودي في مجتمعات المسلمين بما يروجه شياطين الإنس والجن من تزيين المكاسب المحرمة وتلبيسها لباس الحلال باسم البيع، حيث دخلت المعاملات الربوية تأخذ أشكال الحلال في الظاهر، ولكن القصد منها هو الوقوع في الربا والتعامل به، ولكن بطرق ملتوية ظاهرها الحِلّ وباطنها الحرمة، ظانين بأن ذلك يخفى على ربّ العزَّة والجلال إذا هو خفي على البشر.
فما أقل الورع في هذه الأيام، وما أكثر الوقوع في المحرمات وفي الشبهات التي أخبر الرسول بأن من وقع فيها فسوف يقع في الحرام لا محالة بقوله عليه الصلاة والسلام قبل نهاية الحديث: ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام)).
فكما أنه يعلن في الأسواق عن مساهمات تكون في هذه البلاد، مثل ما أعلن في هذه الأيام عن مساهمة في أحد البنوك، حتى إن الناس على جميع طبقاتهم الفقير والغني ومتوسط الحال ساهم بها، وتراهم عند البنوك جماعات وفرادى في زحام لم يشهد له مثيل، لن نراهم بهذا الحضور غير الطبيعي كمثل حضورهم في صلاة الاستسقاء يطلبون ما عند الله ويتضرعون إليه ويستغفرونه، لماذا؟ لأنّ ذلك لأجل المال وحبّ التنافس في الدنيا. فمن الناس من يسأل عن تلك المساهمة، وكثير لا يبالي بحلالها وحرامها.
يقول سماحة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله لما سئل عن المساهمة في البنوك، قال رحمه الله: "لا شك أن الأصل في المعاملات الحل حتى يقوم الدليل على التحريم، وإذا كان التحريم واضحا فإنه لا يجوز لأحد أن يشارك في مساهمة تفعل الحرام، فإذا كانت المساهمة في بيوت الربا مثل البنوك فإنه لا يحل لأحد أن يساهم فيها؛ وذلك لأنها إنما أنشئت وقامت على الربا، وما يكون فيها من المعاملات الحلال فإنها معاملات قليلة بالنسبة للربا الذي يمارسه أهل البنوك. أما إذا كانت المساهمات فيما يراد به الاتجار بزراعة أو صناعة أو ما أشبهها فإن الأصل فيها الحل، ولكن فيها شبهة؛ وذلك لأن الفائض عندهم من الدراهم يجعلونه في البنوك فيأخذون الربا عليه، وربما يأخذون من الربا وربما يأخذون من البنوك دراهم ويعطونهم الربا، فمن هذا الوجه نقول: إن الورع أن لا يساهم الإنسان في هذه الشركات، وإن الله سبحانه وتعالى سوف يرزقه إذا علم من نيته أنه إنما ترك ذلك تورّعا وخوفا من الوقوع في الشبهة، وقد قال النبي : ((الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام؛ كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)). ولكن ما الحال إذا كان الإنسان قد ساهم أو كان يريد المساهمة دون أن يسلك الطريق الأفضل وهي طريق الورع؟ فإننا نقول: الحل في هذه الحال أنه إذا قدمت الأرباح وكان فيها قائمة تبين مصادر هذه الأرباح فما كانت فما كان مصدره حلالا فإنه حلال، وما كان مصدره حراما مثل أن يصرحوا بأن هذه من الفوائد البنكية فإنه يجب على الإنسان أن يتخلص منها بالتصدق بها، لا تقربا إلى الله، ولكن تخلّصا من إثمها؛ لأنه لو نوى بها التقرب إلى الله لم تقرّبه منه؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولم يسلم من إثمها لأنه لم ينو التخلص منها، أما إذا نوى التخلص منها فإنه يسلم من إثمها وربما يؤجر على صدق نيته وتوبته. وإذا كانت هذه الأرباح ليس فيها قوائم تبين المحذور من المباح فإن الأولى والأحوط أن يخرج نصف الربح، ويبقى نصف الربح له حلالا؛ لأن المال المشتبه بغيره إذا لم يعلم قدره فإن الاحتياط أن يخرج النصف لا يَظَلِم الإنسان ولا يُظلَم".
أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم الفقه في دينه، وأن يرزقنا جميعا رزقا طيبا حلالا نستغني به عمّا حرم الله عز وجل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أنكم لم تخلقوا لكسب الأموال، ولم تخلقوا للمعاملات التي يكون فيها شبهة، وإنما خلقتم لعبادة الله، والدين أغلى ما يكون عند المرء، والدنيا وسيلة له، فلا تجعلوا الوسيلة غاية والغاية وسيلة.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تجعل لنا نصيبا في الحرام، وحُل بيننا وبينه حتى نلقاك.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفِر الله إنّه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: وأما الحكم الشرعي في هذه المساهمة فقد أفتت اللجنة الشرعية لبنك البلاد الذي طرح أسهمه في الأسواق للمساهمة في الفتوى التالية، فنذكرها لكم ـ أيها الإخوة ـ لكي يعلم الناس المتورّعين من الحرام.
أولاً: يجوز الاكتتاب في بنك البلاد؛ لأن البنك يخضع لسياسة شرعية تلزمه بعرض جميع أعماله على الهيئة الشرعية والالتزام بقراراتها ومراقبة تطبيقها من خلال إدارة الرقابة الشرعية، وتنص السياسة الشرعية للبنك على ما يأتي: بتوفيق من الله التزم بنك البلاد على نفسه منذ بداية تأسيسه تطبيق الشرع المطهر في جميع معاملاته. كما يحمل على عاتقه مراعاة مقاصد الشريعة وغايات الاقتصاد الإسلامي. ولتحقيق هذا الهدف السامي التزم في نظامه بوجود هيئة شرعية مستقلة عن جميع إدارات البنك، يعرض عليها البنك جميع أعماله؛ للتأكد من مدى موافقتها لأحكام الشريعة الإسلامية.
ثانيًا: يجوز بيع أسهم البنك وشراؤها وتداولها بعد الإذن بتداول الأسهم في السوق؛ لأنه يملك موجودات ذات قيمة معتبرة شرعًا، ومنها التراخيص الممنوحة للعمل كبنك، ووجود مبنى رئيس للإدارة العامة للبنك، وعدد من الفروع العاملة للبنك بتجهيزاتها يعمل فيها أكثر من ستمائة موظف، فضلاً عن وجود العديد من الأنظمة والأجهزة، إضافة للعلاقات التعاقدية مع مؤسسة النقد العربي السعودي، ومع أكثر من مائة بنك مراسل على مستوى العالم، ولأن التغيرات في قيمة السهم بعد بدء التداول لا ترتبط ارتباطا كليا بالتغير في قيمة الموجودات العينية للشركة أو مطلوباتها، بل يؤثر فيها عوامل أخرى كالعرض والطلب على الأسهم والمؤشر العام والحقوق المعنوية وغير ذلك.
ثالثًا: لا يجوز للمكتتب أن يستعمل اسم شخصٍ آخر في الاكتتاب، سواء أكان ذلك بعوض يدفعه لصاحب الاسم أم بغير عوض؛ لما في ذلك من تجاوز الحد المستحق له نظاما، وتعديه على حق غيره ممن التزم بالنظام، إذ إن مقتضى العدالة أن تتكافأ فرص المساهمين في الحصول على الأسهم، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يحدد لكل واحد من المكتتبين سقف أعلى لا يتجاوزه، فالمنع من استخدام الشخص اسم غيره من السياسة الشرعية التي تتفق مع مقاصد الشريعة من جعل المال دولة بين الناس كلهم فقيرهم وغنيهم، لا أن يكون محصورًا بأيدي فئة قليلة. وفضلا عن ذلك فإن هذا التصرف نوع من التدليس، وهو مظنة الخلاف والخصومة بين الأطراف.
رابعًا: يجوز للمكتتب اقتراض قيمة الاكتتاب بقرضٍ حسنٍ يرده للمقرض بمثله بدون زيادة، فإن كان القرض مشروطًا بزيادة يدفعها المقترض للمقرض فهو محرم، سواء أكانت الزيادة المشروطة نسبية أم بمبلغ مقطوع، وسواء سمي ذلك تمويلاً أم تسهيلات بنكيّة أم غير ذلك؛ لأنّه من الربا. وعوضًا عن ذلك يجوز للمكتتب الذي لا يجد ما يكفي من المال الدّخول مع صاحب المال في عقد مشاركة، وما يتحقق من ربح بعد بدء التداول يتقاسمانه بينهما بحسب اتفاقهما. ويشترط أن تكون الحصة المشروطة لكل منهما من الربح شائعة؛ كأن يقول: خذ هذا المال وما كان من ربح فيه فلك 2 بالمائة منه، ولي 8 بالمائة، أما لو حددت حصة الواحد منهما بمبلغ مقطوع فلا يجوز، كما لو قال: خذ هذا المال فاكتتب به ولك ألف ريال من الربح ولي ما زاد على ذلك؛ لأن هذا يؤدي إلى قطع المشاركة في الربح، فقد لا تربح تلك الأسهم إلا المبلغ المذكور أو أقل، أو قد تربح أرباحا كبيرة فيشعر بالغبن.
ولا يخفى أن دخول صاحب المال في عقد مشاركة مع من سيسجل السهم باسمه أقرب إلى تحقيق العدل بينهما من استئثار صاحب المال بكامل الربح، لا سيما أن هذه المشاركة لا يظهر ما يمنع منها نظامًا، فقد نص نظام الشركات على جواز أن يكون السهم مملوكًا بالاشتراك لشخصين فأكثر، على أن يكون مسجلاً باسم شخص واحد في مقابل الشركة.
أقول: وبالنسبة لشراء الأسماء فقد أفتى الشيخ عبد الله المطلق عضو هيئة كبار العلماء بعدم شرعية شراء هويات المواطنين السعوديين لشراء أسهم الاكتتاب في الشركات والبنوك، وقال الشيخ المطلق: إنه لا يجوز أيضا أخذ الهويات من المواطنين دون مقابل لشراء الأسهم؛ لأن الهوية لا يصحّ استخدامها إلا لصاحبها. وأوضح أن شروط الاكتتاب لا تجيز للإنسان أن يكتتب باسم غيره، ويلزم الاكتتاب فتح حساب لرد الفائض فيه، وأن هذا الموضوع قد حصل فيه إشكاليات كثيرة وتجاحد ونزاع وخصومة بين الناس.
يذكر أن ظاهرة شراء الهويات انتشرت خلال اليومين الماضيين وأفرزت سوقا سوداء للحصول على أكبر قدر من الأسهم عند التوزيع النهائي لها، ما يؤدي إلى حرمان صغار المساهمين من الحصول على الحد الأدنى. وارتفعت وتيرة التنافس لشراء أكبر قدر ممكن من الأسماء للدخول بها في مساهمة بنك البلاد المزمع انطلاقها غدا، وبلغ سعر الهوية أعلى معدل وهو ألف ريال. واشترط عدد من الذين طرحوا الشراء عبر لوحات إعلانية في المكاتب والطرقات ورسائل الجوال أن يكون أعداد أفراد الأسرة أكثر من خمسة أشخاص، ويتم بعد الاتفاق تسجيل وكالة شرعية لإنهاء إجراء الاكتتاب. وهذا ـ عباد الله ـ أمرٌ قلَّ من يتفطَّن له من التّجّار والمرابحين؛ لأنَّ المعاملةَ قد تحرُم بسبَب نُقصانها شرطًا من شروطِ صِحّة البيع المعلومة وإن لم تكن على صورة رِبا. فالبركة كلّ البركة في الكسب الحلال، والمحقُ كلّ المحقِ في الكسبِ الحرام.
أيها المسلمون، إن الشريعةَ الإسلامية قد جاءت موافقةً لبقيّة الشرائع السماويّة في حفظ الضرورات الخمس، وهي الدين والنفسُ والعقل والنّسل والمال. فالبيعُ والشّراء والمرابحة كلُّها تندرِج تحت ضرورةِ حِفظ المال، وانطلاقًا مِن حِفظ هذه الضّرورة فإنّ الشارعَ الحكيم لم يدَعِ الفردَ المسلم حرًّا في التصرّف المالي دون ضوابط، لئلاّ يخرج بالمال عن مَقصدِه الذي أُكرِم به بنو آدم من كونِه نِعمة ومنّة إلى كونه نِقمة على صاحبه، ووبالاً يُسأل عنه يومَ القيامة، فقد صحّ عند الترمذيّ وغيره أن النبي قال: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع)) وذكر منها: ((وعن مالِه: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)).
وعلينا ـ يا عباد الله ـ أن نبتعد عن طريق اليهود في العمل بالحيل التي لا تحل الحرام أبدًا، والتي انتشرت بين المسلمين في معاملاتهم، واتخذت أشكالاً وصورًا متعددة، وهي محرمة شرعًا مهما تحايل أصحابها المتعاملون بها، قال رسول الله فيما رواه البخاري ومسلم: ((قاتل الله اليهود؛ حرمت عليهم الشحوم، فباعوها وأكلوا ثمنها)) ، وفي رواية للجماعة قال رسول الله : ((قاتل الله اليهود؛ إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه)) أي: لما حرمت عليهم شحوم البقر والغنم التي حول المعدة والكليتين احتالوا على التحريم بِجَمْلِهَا على النار في القدور وبيعها وأكل ثمنها، كذلك الحال في احتيالهم على صيد السمك يوم السبت عندما اختبرهم الله وامتحنهم بذلك، فاحتالوا على انتهاك محارم الله بما تعاطوه من الأسباب الظاهرة التي هي في الباطن تعاطي الحرام، قال رسول الله : ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)).
وهذه الحيل تنطبق على أعداد ليست بالقليلة من المسلمين في التحايل على المعاملات الربوية التي ظاهرها البيع، ولكن حقيقتها هو استحلال الربا بتلك الطرق الملتوية، والتي أخذت أشكالاً وصورًا مختلفة، هدفها صيد الفريسة وإيقاعه في شباك الحيل، أي: صاحب الحاجة الذي أتى للشركات أو المعارض أو المصارف أو الأفراد، والذي يريد الحصول على نقود يحتاجها في زواج أو خلافه، ثم يصطاده أولئك المتربصون به وبأمثاله من الملايين، ولا أقول: العشرات أو المئات أو الألوف وعشراتها ومئاتها؛ لأن غالب الناس اليوم واقعون في تلك الديون المتراكمة عليهم منذ عشرات السنين بسبب حاجتهم الأولى لبعض النقود التي أدت نتيجتها وسلبياتها الحتمية إلى هذه المآزق التي قد لا يتخلص منها كثير من الناس في حياتهم وقبل موتهم، بل تبقى ذممهم مرهونة لتلك الديون التي لم تنفك عنهم طوال حياتهم، وذاقوا مرارة الحياة من استغلال أصحاب الأموال من الأغنياء لحاجات الفقراء والضعفاء وعامة الناس، ومن خلال استدراج المصارف المسماة بالبنوك الربوية وغيرها التي تستدرج الناس بما تنشره من دعايات لتوفير حاجاتهم وإصدار البطاقات التي يغترّ بها كثير منهم، ومن ثم يقعون في الربا خطوة خطوة، وقد أصاب الإفلاس بعض أصحاب مئات الملايين بعد تعاملهم بالربا مع تلك المصارف، فاستمراء الناس للربا وانتشاره وتسمية الأموال التي تأتي عن طريق التعامل به الفوائد والأرباح لا يغيّر من الواقع شيئًا، ولا تحوِّل تلك الأسماء المسميات من الحرام إلى الحلال أبدًا، فهي ربا صريح محرم في دين الإسلام.
فعلينا أن نتقي الله تعالى ونخشى عذابه وبطشه في الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يتخلى عنا أقرب قريب لنا، ولا يبقى إلا الحسنات والسيئات، وتأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وتوفى ما عملت في هذه الحياة الدنيا. وتذكروا دائمًا الآية القرآنية التي جاءت بعد آيات تحريم الربا والتحذير من عواقبه، وقد جاءت آيتان كريمتان بعدها مباشرة، فيهما الحلول الشافية الكافية الكفيلة ـ بإذن الله ـ بما يبعد الناس عن الربا والوقوع فيه، فلنتأمل هذه والتي بدأت بالحث على الإنفاق، ولنربط بين كل الآيات ابتداءً من الآية التي قبل آية الكرسي، ونتأمل ونتدبر كلام ربنا ونعمل به ونطبقه في حياتنا، فذلك خير لنا في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
فاتقوا الله في مكاسبكم يا عبادَ الله، وخلِّصوا أنفسَكم قبلَ لقاءِ الله، أسأل اللهَ أن يجعلَنا وإياكم من الصادِقين في القولِ والعمل.
اللهم أبرد لاعج القلب بثلج اليقين، وأطفئ جمر الأرواح بماء الإيمان. اللهم ألق على النفوس المضطربة سكينة، وأثبها فتحا قريبا. يا رب اهد حيارى البصائر إلى نورك، وضلال المناهج إلى صراطك، والزائغين عن السبيل إلى هداك...
(1/4089)
رسالة إلى مسؤول
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
9/1/1426
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الاهتمام بالأولاد. 2- أسباب انحراف الأبناء. 3- عظم مسؤولية الأبوين في تربية أولادهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وذلك بامتثال أمره واجتنابه نهيه.
فيا أيُّها الإخوة في الله، من على هذا المنبر أوجه رسالة إلى مسؤول، نعم مسؤول، ومن هو هذا المسؤول؟ أتدري من هو هذا المسؤول؟ إنه أنت يا أخي، أنت المسؤول، المسؤول الأول عن بيتك وعن أبنائك وبناتك أمام الله سبحانه وتعالى، كما قال النبي : ((كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته... والرجل راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته)). نعم كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فمن هذا المنبر أوجه لك هذه الرسالة الخاصة بتربية فئة غالية عليك جدا لا تقاس بثمن، هم فلذات الأكباد وثمرات الفؤاد، ألا وهم الأولاد.
أيها الإخوة المؤمنون، إن أولادَنا ثمراتُ قلوبنا وفلذاتُ أكبادنا وهديةُ الله إلينا وزينةُ حياتنا والأثرُ الصالح الذي نُذكَر به إذا كانوا صالحين، وهم من كسبنا، ودعاؤهم من العمل الذي لا ينقطع بموتنا، قال رسول الله : ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو لهُ)) رواه مسلم والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
فهذا رجلٌ يملك بستانًا فيه رياحينُ وأزهارُ، إذا تعاهدها صاحبها بالسقايةِ والرعايةِ ماذا سيحدث؟ ستنمُو وتينعُ كلَّ حينٍ بإذنِ الله، ولكن لو جعلها نسيًا منسيا وتركها وشأنهَا، فلم يُحطها بنُصحِه ورعايتهِ، فإنَّ الجميعَ ستتفق آراؤهم على أنَّ مآلَ هذا الرياحيِنُ والأزهارِ إلى الخسارة والبوار. وهكذا ـ أحبتي الكرام ـ هذه الرياحينُ هم أبناؤنا. روى النسائي في سننه عن الحسن عن بعض أصحاب رسول الله قال: يعني أنس بن مالك: دخلنا على رسول الله والحسن والحسين ينقلبان على بطنه، قال ويقول: ((ريحانتي من هذه الأمة)). وفلذاتُ أكبادِنا ومهجُ نفوسِنا وحباتُ قلوبنِا، هذه الرياحينُ إذا أحطتَها بنُصحك ورعايتك نلت ما ترجوهُ ـ بإذن الله تعالى ـ من برِّها وإحسانها في حياتك وبعد مماتك، وإن أهملتها وضيعتها فقد حاقَ بك الفساد، وما ربك بظلامٍ للعباد.
أيُّها الأبُ، لثقتي بحرصك الشديدِ على صلاحِ أبنائك واستقامِتهم وبرهم وإحسانهم، ولمعرفتي بخوفكَ العظيمِ من انحرافهم وضلالهم، فإنِّي أضعُ بين يديكَ بعضَ العواصفِ التي تعتري هذه الرياحين، والتي تُؤدي بطبعها إلى الميلانِ بها ذات اليمنِ وذات الشمال، وأحيانًا تجتثها من جُذورها، أضعُها بين يديك تنبيهًا وتحذيرًا، وإرشادًا وتذكيرا. وهذه العواصفُ التي هي بمثابةِ الأسباب التي تعتري أبناءَنا وتصدُهم عن الصراط السوي كثيرةٌ يصعبُ في هذه العُجالة حصرُها وتفصيلُ أجزائها، ولكن حسبي الإشارةُ، والإشارة تُغني عن العبارة، وهي ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
وأنا أذكرُ لك هذه الأسباب؛ لأنَّ معرفتها جزءٌ من العلاج، ولذلك كان حذيفةُ يسألُ رسولَ الله عن الشرِّ مخافة الوقوع فيه. وإذا عرفت الأسباب وتلك العواصفُ التي تُؤثر على سلوكِ ابنك فالواجبُ البعدُ عنها وعدمُ مواقعتِها حتى تسلم وتغنم بإذن الله تعالى، وتبرأ الذمةُ والتبعةُ عندما تقفُ بين يدي الواحدِ القهار، فيسألُك عن هؤلاءِ الرياحين: هل أحسنت رعايتَهم؟ وهل أديت الأمانةَ في توجيههم؟
ولعلمي بضخامةِ المسؤوليةِ وثقل التبعةِ كانت هذه الكلمات وهذهِ الإشارات، والتي أسألُ الله تعالى أن تكون نافعةً جامعة، كما أسألهُ سُبحانهُ أن يعينك على حُسن تربيتهم، وأن يُقرَّ عينَك بصلاحهم، والمرءُ إذا اجتهد في فعلِ الأسباب فالتوفيقُ بيد الملك الوهاب، وصلاحُ القلوبِ بيدِ علامِّ الغيوب.
أيُّها الآباءُ الكرام، أولُ هذه الأسباب: إهمالُهم في الذهابِ بهم والعودِة من مدارسهم، كلُّ ذلك رغبةً في النومِ والراحة والدعِةِ والسكون، أو الثقةِ الزائدة، فيرسلُ الأبُ ابنَهُ إمَّا مع زملائهِ الذين لا يعرفهم ولا يعرفُ أخلاقَهم، أو ثقةً بولدِ الجار أو مع السائق، فيكتسبُ الابنُ من جراءِ ذلك أخلاقَ هؤلاء، كما قال النبي : ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل)) ، وكما قيل: الصاحبُ ساحب. فيتعلمُ الابنُ عادةَ التدخيِن أو سماعَ الغناء أو غيرها من العاداتِ المحرمة، كالألفاظِ البذيئة والأفعالِ القبيحة من جراءِ ذلك.
هذا أحدُ الأبناءِ لم يحفظ درسَ القرآنِ في حلقةِ تحفيظِ القرآن الكريم، فأرسلهُ المعلمُ لإدارة التحفيظ، وبعد أن دارَ الحديثُ معه ـ وهو في الصفِّ الخامس الابتدائي ـ تبين أنَّهُ يحفظُ أغنيةً لأحد المغنين، فسألتهُ: كيف استطعت أن تحفظَ كلَّ هذه الأبياتِ ولم تستطع أن تحفظَ الجُزءَ المقررَ عليك؟! فأجابَ: كنتُ أحضرُ مع سائقِِ جارنا، وكان يُسمعنا هذه الأغنيةَ كلَّما ركبنا معهُ. أبياتٌ كلٌها سخفٌ وهُراء، حفظها الابنُ من جراءِ ذهابِهِ للمدرسةِ ورجوعِه منها مع السائق، فهل يتنبهُ الآباءُ لذلك؟!
وفي تحقيقٍ أُجري في إحدى الصُحفِ المحليةِ عن التدخين تمت مقابلاتٌ مع عددٍ من المدخنين والمدخنات، سُئلت إحداهنَّ: كيف تعلمتِ عادةَ التدخين؟ فأجابت: اعتدتُ التدخين من السائق أولاً أثناءَ خروجي للمدرسةِ ووقتَ العودة، وكنتُ أغريهِ بالمالِ لئلاَّ يُخبرَ أهلي، واستمررتُ على هذا الحال حتى أدمنتُ التدخين، ولم أستطع أن أبتعدَ عنهُ إلى آخر كلامها. فهل يتنبهُ الآباءُ الكرام إلى ذلك؟! وهل يستيقظُ البعضُ من غفلتهِ ويفيقُ من سُباته؟!
ثانيًا: ومن أسبابِ انحرافهم: غيابُ الدورِ الأبويّ في الأسرةِ، وهو بدايةُ الانهيار، وصدق القائل:
ليس اليتيمُ من انتهى أبواه مِن همّ الحياةِ وخلّفاهُ ذليلاً
إن اليتيمَ هو الذي تلقى له أُمًّا تخلّت أو أبًا مشغولاً
وغيابُ الدورِ الأبويِ إمَّا أن يكونَ غيابًا معنويًا أو حسيًا، أو غيابَ القدوةِ الصالحةِ، فغيابُهُ معنوي؛ يُصبحُ وجودُهُ كعدمه، فقط يقتصرُ دورُه على توفيرِ الحاجات وتلبيةِ الطلبات وتنفيذِ الرغبات، ويَرى أنَّهُ قد أحسن صُنعًا تجاهَ أُسرتِه وأولادِه، فلا مُناصحة للأبناء، ولا متابعةَ لهم، ولا محاسبةَ لأفعالهم.
وإمَّا أن يكون غيابُهُ حسيًا؛ فهو إمَّا أن يكون صاحبَ أسفارٍ وجولات، وإمَّا أن يكون صاحبَ مقاهٍ واستراحات أو سهراتٍ مع الأصدقاءِ لمتابعةِ القنواتِ الفاسدات، أو صاحبَ زوجةٍ ثانية، فيتخلى عن الأولى وعن متابعةِ أولاده.
أو يكون غيابَ القدوةِ الصالحةِ؛ فلا تكادُ تسمعُ منهُ إلا عبارات الشجبِ والاستنكار،ِ أو السبّ والاستحقار، يتعاطى الدُخانَ أمام أبنائهِ وبناته، يتخلفُ عن الصلاة، يُعاقرُ المحرمات، يستهينُ بالواجبات، فيا تُرى ما حالُ الأبناء المساكين مع هذا الأب؟! إذا كان محلُ القدوةِ بهذه المثابةِ فكيف سيكون الأبناء؟! إذا كان محلُ الأسوةِ بهذا السلوك كيف يستقيم الأبناء؟!! نعم الهدايةُ بيدِ الله تعالى، لكنَّ الله تعالى جعلَ لكلِّ شيءٍ سببا.
والطامةُ الكُبرى والبليةُ العُظمى حينما يحرصُ بعضُ الآباءِ ـ هداهم الله تعالى لطاعته ـ على عدمِِ صلاحِ أبنائهم، لماذا؟ حتى لا يُزعجهُ الابنُ بالمُناصحة والتذكير! فيقطعُ عليه حبلَ شهواتِه وملذاتِه، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
هذه حادثةٌ وقفتُ عليها بنفسي، وهي ـ إي وربي ـ مؤلمةٌ مبكية مُحزنة مُؤسفة. أحدُ الآباءِ عندما رأى علاماتِ الاستقامةِ والهداية ظهرت على ولده، هل حمد الله تعالى على هذه النعمة؟! هل شكرَ الله تعالى على استقامةِ ولده؟! كلا، بل قام أولاً بتحذيرهِ من الذهابِ إلى حلقةِ تحفيظ القرآن الكريم، ثُمَّ تحذيرِه من مجالسةِ أهلِها، ثُمَّ اشترى لهُ سيارة وأدخل في بيتهِ جهازَ الدش، وقد تحقق لهذا الأبُ ما يُريد، فقد انحرف الابنُ وتخلَّفَ عن الصلاة، وسيعلمُ هذا الأبُ عاقبةَ فعلِهِ وصنيعه، وما ربُك بظلامٍ للعبيد. وحتى تعلم ـ أيّها الأبُ الكريم ـ أننا لا نتكلمُ من فراغ، أو من عاطفةٍ جياشة، بل هذه هي الحقيقة، حقيقةُ خطورِة غيابِ الأب وتخليهِ عن مسؤولياتهِ، استمع إلى هذه الدراسات التالية:
أجريت دراسةٌ على المحكومِ عليهم بجرائمِ الزنا واللواط والاغتصاب وهتكِ الأعراضِ في الإصلاحياتِ المركزية بالمملكة، فتبينَ أنَّ ستةَ عشرَ بالمائةِ من الآباءِ كانوا يقومون بمهمةِ الضبطِ الاجتماعي لأبنائهم مرتكبي الجرائم، والباقي ما حالهُم؟! لقد تركوا الحبلَ على الغارب، فأصبحوا يتخبطون في لججِ الإجرام، ويخوضون في مستنقعاتِ الحرام.
وفي دراسةٍ أُخرى في إصلاحياتِ النساء بالرياضِ وجدةَ والدمام تبينَ أن ستًا وثمانين بالمائة من مرتكبات الجرائمِ من النساء يتغيب آباؤهنَّ عن المنزلِ باستمرار. فهل يعي هذا الكلامَ أولئكَ الذين يسهرون إلى بزوغِ الفجر أو قريبًا منهُ خارجَ بيوتهم؟! هل يعي هذا الكلامَ أولئك الذين يسهرون على القنواتِ في الاستراحات؟! هل يتنبهُ أصحابُ التجاراتِ والأموالِ إلى خُطورةِ الانشغالِ عن الأهلِ والأولاد؟! هل يتنبهُ المعددون المفرطونَ عاقبةََ تخليهم عن مسؤولياتِهم تجاهَ أبنائهم؟! يقول النبي : ((كلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته... والرجل راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته)) ، فهل يُقدرُ الآباءُ هذه المسؤولية، فيُراجعوا أنفسَهم؟! فست وثمانون بالمائة نسبةٌ يجبُ أن يقفَ عندها الآباءُ جيدًا، قبل أن يحلَّ الفأسُ بالرأس، وقبل أن يندمَ في ساعةٍ لا ينفعُ فيها الندم، فاللبيبُ بالإشارةِ يفهمُ، والسعيدُ من وُعظَ بغيره، والشقيُّ من وُعظَ غيرهُ به.
ثالثًا: ومن أسبابِ الانحراف أيضًا: العاطفةُ الزائدةُ التي تجعلُ الآباءَ يتغاضون عن توجهات أبنائهم، ويتساهلونَ ببداياتها، أو أنَّهم يتحرجون من مواجهتهم بالنصح والإرشاد وبيانِ الأخطاءِ التي تلاحظُ على الأبناءِ وبأسلوبٍ أبويٍّ حكيم. وهذا يُخالفُ ما كان عليه منهاجُ رسول الله في التعامل مع الصغار، خذ مثلاً عندما رأى النبي عمر بن أبي سلمة تطيشُ يدُهُ في الصحفة، فقال لهُ النبي مبادرًا لنُصحه وتوجيههِ: ((يا غلام، سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)) رواه البخاري. ولما رأى النبيُ صبيًا قد حُلق بعضُ رأسه وتُرك بعضُه لم يسكت وقال: هؤلاءِ أطفالٌ صغار، أو هؤلاءِ في سنِ المراهقة، بل نهاهم عن ذلك وقال: ((احلقوهُ كلَهُ أو اتركوه كلَه)) رواه النسائي. قارن بين هذا وبين ما عليه أبناءُ المسلمين اليوم من قصاتٍ غربية حتى وهم صغار، والذي يفعلُ ذلك بهم همُ الآباء فالله المستعان.
لمَّا أخذ الحسنُ بنُ علي رضي الله عنهما تمرةً من تمرِ الصدقة فجعلها في فيه قال النبي له: ((كخٍ كخ)) ليطرحها، ثم قال: ((أما شعرت أنَّا لا نأكلُ الصدقة؟!)) رواه البخاري. ولم تمنعهُ العاطفةُ الأبويةُ من أن يُحذِّر ولدَه من أكلِ هذه التمرةِ. فأين الذين يرون أولادَهم يُشاهدون الأفلامَ وينامون عن الصلاة؟! أين نصحُهم وإرشادُهم وتذكيرُهم بالله تعالى؟!
لما دخل ابنٌ لعمرَ بنِ الخطابِ وقد ترجَّل ولبس ثيابًا حسانًا ضربهُ عمرُ بالدرةِ حتى أبكاه، فقالت له حفصة: لم ضربتهُ؟ قال: رأيتهُ قد أعجبتهُ نفسُهُ فأحببتُ أن أُصغرها إليه. ولمَّا دخل ابنٌ لعبد ِالله بنِ مسعود وكان لابسًا لقميصٍ من حرير، قال له: من كساك هذا؟ قال: أمي، فقام فشقَّهُ نصفين، وقال له: قل لأمك: تكسوك غير هذا.
ونحنُ الآن نرى ارتداءَ بعضِِ أبنائنا ملابسَ غربية، والأبُ يُشاهدُ ابنَهُ على هذه الهيئةِ ولا يحركُ ساكنًا، حتى النصيحة والكلمة الطيبة قد تكون معدومةً، فالله المستعان.
أيُّها الآباء الكرام، إنَّ العطفَ الأبويَ على الابن يجبُ أن يكون بالقدرِ المعقول والطريقة الحكيمة، عطفٌ مقرونٌ بالحكمة، وحبٌ ممزوجٌ بالشدَّة، لا إفراطَ ولا تفريط، لا يتركُ الابن يعبثُ بما يشاء، والابنُ كذلك إذا حُرم من العطف فإنَّهُ يشذُّ كما يشذُّ إذا زاد عليه العطف، ولا يصلحهُ إلا جرعاتُ حزمٍ ورشفاتُ حنانٍ وسماتُ عطفٍ ولمساتُ توجيهٍ وتثقيف وإرشاد. قال بعضُ السلف: "إنَّ خيَر الآباءِ من لم يدعُهُ الحبُ إلى التفريط، وخيرُ الأبناء من لم يدعُهُ التقصيرُ إلى العقوق"، وصدق القائل:
فَقَسَا ليزدجِروا ومن يكُ حازمًا فليقسُ أحيانًا على من يَرحم
تلك القسوةُ الرحيمةُ أو الرحمة القاسيةُ من أسُس التربيةِ المنزليةِ التي تعتمد عليها الأسرة، أمَّا إذا تخلت الأسرةُ عن هذا الأسلوب ففرطت في العقاب أو أفرطت في الحنو اهتزت شخصيةُ الأبناءِ، واستخفوا بالمسؤولية، وقد ثبت ذلك أيضًا من جهة الدراسات، فقد أجريت دراسة في إصلاحيةِ الحائرِ بمدينة الرياض على المحكومِ عليهم بارتكاب قضايا متعددةٍ كالمخدراتِ والسُكرِ والسرقةِ والمضارباتِ والقتلِ والتزوير، ِفوجد أن نسبةَ أحدَ عشرَ بالمائة كانوا يجدون عقابًا من قبل والديهم عند ارتكابهم مخالفاتٍ غيرَ مقبولةٍ في الأسرة، بينما الغالبيةُ ذكرت أنَّهم لم يجدوا عقابًا من قبل والديهم على تصرفات سلوكيةٍ سيئة في الأسرة، مما جعلهم يتمادون في ارتكابِ مخالفاتٍ خارجَ الأسرةِ وعلى مستوى المجتمع. وأشارت تلك الدراسةُ إلى أن معاملةَ الوالدين لأبنائهم المجرمين كانت في الغالب متسامحةً وبعضها مجاملةً، مما انعكس سلبيًا على سلوكيات الأبناءِ في المستقبل.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأدوا ما عليكم من واجبات الذرية، قال الله تعالى: رَبّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرّيَتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ [إبراهيم:40، 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي منّ علينا بنعمة الأولاد، وفتح لنا من أسباب الهداية كل باب، ورغب في طريق الصلاح وحذّر من طرق الفساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الخلق بلا ارتياب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى، فتقوى الله نِعم الأمل، والإعراض عنها بِئس العمل.
أيها الإخوة الأعزاء، إن الإسلامَ يحمِّلُ الأبوين مسؤوليةَ التربيةِ لأولادهم، قال رسولُ الله : ((كل مولود يولد على الْفِطرةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) أخرجه البخاري ومسلم.
فكلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة، وعلى الإيمانِ والتوحيدِ والحقِ والخيرِ والفضيلةِ والنفورِ من الباطلِ والشرِ والرذيلةِ، فلا يولدُ أحدٌ يهودِيًا ولا نصرانيًا، ولا فاسقًا ولا منافقًا، إنما يوجهه إلى ذلك أبواه ومربوه وأهله وجيرانه وأصحابه ومعلموه.
وينشأ ناشئ الفتيانِ فينا على ما كان عوَّده أبوه
وما دان الفتى بحِجًى ولكن يعوِّدهُ التدَيُّنَ أقربوه
معاشرَ الآباء، يجب علينا أن نباشرَ تربيةَ أولادِنا مباشرةً دونَ وساطةٍ، بحيثُ نعلمُ مدخلَهم ومخرجَهم، ونعلمُ أينَ يذهبون، ومَنْ يُصاحِبُون ويُصَادِقُون، وماذا يفعلون؛ لأن الصغارَ لا يوجدُ لديهم الوعيُ الديني الكاملُ الذي يمنعهم من المنكرات والآثام، ولا توجدُ عندهم العقولُ الكاملةُ التي تمنعهم من الفساد والانحراف.
إن كثيرًا من الآباء والأمهات شُغِلُوا عن أبنائهم وبناتهم، فلم تَعُدْ لهم أوقاتٌ يجلسون فيها مع عائلاتهم يسألون عن أخلاقهم وأحوالهم، ولكنهم يهتمون في الغالب بمن يمرضُ فيداوونه، وبمن يجوعُ فيشبعونه، وغابَ عنهم أنهم في هذا الاهتمام يخدمون الجسمَ ويهملون النفسَ والقلبَ والروحَ، والحكيم يقول:
يا خادمَ الجسمِ كمْ تشقى بخدمتِهِ أتطلبُ الربحَ مما فيه خسرانُ؟!
أقبلْ على النفسِ واستكملْ فضائلَها فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ
عباد الله، إن أولادَنا أحوجُ إلى التربيةِ والتزكيةِ والرعايةِ منهم إلى الطعامِ والشرابِ والدواءِ؛ لأن الطعامَ والشرابَ والدواءَ ينفعُ البدنَ، ويدفعُ عنه الأخطارَ بمشيئة الله تعالى، أما التربيةُ والتزكيةُ فإنها تحفظُ الدينَ والعقلَ والعرضَ والنسلَ والجسمَ والمالَ، وأفضلُ هدية يقدمها الوالدان والمربون لأولادهم هي التربيةُ والتأديب، قال رسولُ الله : (( مَا نَحَلَ وَالِدٌ ولدا من نَحْلٍ أفضل من أدب حسن)) أخرجه الترمذي.
وقد كان العلماءُ والخلفاءُ والصالحون يهتمون بذلك أعظمَ الاهتمام، قال عبدُ الملك بن مروان الخليفة الأموي ينصحُ مُؤَدِّبَ ولده: "علِّمْهم الصدقَ كما تعلّمُهُمُ القرآنَ، واحملْهمْ على الأخلاقِ الجميلةِ، وجالسْ بهم أشرافَ الرجال وأهلَ العلم منهم، واضرْبهم على الكذب، فإن الكذبَ يدعو إلى الفجور، وإن الفجورَ يدعو إلى النار".
أيها المسلمون، يجبُ علينا تعهدُ أبنائنا وبناتنا وتوجيهُهم وتعويدُهم على فعلِ الطاعات وتركِ المنكرات، وتقويةُ الوازع الديني في نفوسهم، قال رسولُ الله : ((مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وَفَرِّقُوا بينهم في المضاجع)) أخرجه أبو داود والحاكم. وقد كان أصحابُ النبي يدَرِّبُون أولادَهم ويروِّضُونَهم على الصلاةِ والصيامِ والأخلاقِ الحسنةِ، ويعلمونهم سيرةَ النبي العطرةَ، قال سعدُ بنُ أبي وقاصٍ: كنا نعلِّمُ أولادَنا مَغازيَ رسولِ اللهِ كما نُعَلِّمُهُمُ السورةَ من القرآن.
وفي الختام: نصيحتي للآباء أن يهتموا بأولادهم تربيةً وتعليمًا، وأن لا يسْلموهم لأناسٍ غيرِ ثقاتٍ ولا طيبين من خدم أو معلمين، وبخاصة إذا كانوا كافرين أو فاسقين، وأن لا يتيحوا لأولادهم فُرَصَ مشاهدةِ الأفلامِ والقنواتِ والمجلاتِ والإنترنت وغيرها من الوسائل التي تدمر الخُلُق والدين. كما ينبغي حفظُهم من أصحابِ السوءِ ورفقاءِ الشر أهلِ المعاصي والفواحشِ والمنكراتِ والمسكرات والمخدرات وتضييعِ الأخلاقِ والأوقات؛ لأن الأمة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من الذل والهوان وتداعي الأمم عليها إلا بتضييع نشئها والتفريط في أبنائها وبناتها، فاحفظوهم ـ عباد الله ـ وأصلحوهم حتى يكونوا صالحين مصلحين هادين مهديين غيرَ ضالين ولا مضلين. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا، اللهم لا تَدَعْنا في غَمْرَة، ولا تَأْخُذْنا على غِرَّة، ولا تجعلْنا من الغافلين.
عباد الله، إني داع فأمنوا. اللهمَّ أصلح لنا نياتِنا وذرياتِنا، اللهمَّ اجعلهم صالحين مصلحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهمَّ اكفهم شرَّ الأشرار وكيد الفجار يا عزيزُ يا غفَّار. اللهمَّ حبب إليهم الإيمان وزينهُ في قلوبهم...
(1/4090)
عيد الأضحى 1410هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
التوبة, الذبائح والأطعمة, الموت والحشر
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
10/12/1410
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحكام الأضحية. 2- تقوى الله سبب من أسباب السعادة. 3- الاعتبار والاتعاظ بسرعة مرور الأيام وانقضاء الأعوام. 3- نصائح وتوجيهات عامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن يومكم هذا يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر، هو يوم الحج الأكبر لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسك الحج، وهو عيد الأضحى والنحر لأن الناس يضحون فيه وينحرون هداياهم، وما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة، وبكل صوفة حسنة، وهذه الأضاحي سنة أبيك إبراهيم ونبيكم محمد عليهما الصلاة والتسليم، وإنها لسنة مؤكدة، يُكره لم يقدر عليها أن يتركها. فضحوا ـ أيها المسلمون ـ عن أنفسكم وعن أهليكم متقربين بذلك إلى ربكم، متبعين لسنة نبيكم محمد حيث ضحى عنه وعن أهل بيته، ومن كان منكم لا يجد الأضحية فقد ضحى عنه النبي ، جزاه الله خيرًا عن أمته.
واعلموا ـ يا عباد الله ـ بأن الشاة تجزئ عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة، فلا يشترك شخصان في شاة واحدة ولا أكثر من سبعة في بدنة أو بقرة، ولكن للإنسان أن يشرك في ثواب الأضحية من شاء سواء كانت شاة أو سبع بدنة أو سبع بقرة.
واعلموا أن للأضحية شروطًا ثلاثة:
الأول: أن تبلغ السن المعتبر شرعًا، وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة كاملة في المعز، ونصف سنة في الضأن.
الشرط الثاني: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء، وهي أربعة عيوب: العرجاء البين ظلعها، والمريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها، والعيب الرابع: العجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها.
الشرط الثالث من شروط الأضحية: أن تقع في الوقت المحدد للتضحية شرعًا، وهو من الفراغ من صلاة العيد، والأفضل أن ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبتين وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد، فأيام الذبح أربعة: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وأفضلها يوم العيد.
ومن السنة نحر الإبل قائمة معقلة يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر موجهة إلى القبلة، ويقول كما قال رسول الله : ((بسم الله الله أكبر، اللهم هذا منك ولك)). والسنة أن يأكل منها ثلثًا ويتصدق بثلث ويهدي ثلثًا.
عباد الله، قد علم الكثير منكم أن من أراد أن يُضحي فلا يأخذ من شعره وأظفاره وبشرته من دخول عشر ذي الحجة حتى يضحي لنهي النبي عن ذلك، ولكن إذا لم يعزم أحدكم على الأضحية إلا في أثناء العشر أو بعد صلاة العيد وقد أخذ شيئًا من شعره وأظفاره وبشرته من قبل فلا بأس أن يضحي، وأضحيته تامة إن شاء الله.
ويشرع للمسلمين في جميع أقطارهم وأمصارهم التكبير عقب الصلوات الخمس من صبح يوم عرفة إلى ما بعد صلاة العصر في آخر أيام التشريق.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا اله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والإعلان والمنشط والمكره، وأُحذركم الغفلة عن ذكر الله فإنها داء خطير، والأعراض عن ذكر الله فإن عقوبته شديدة وعاجلة، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124]، وقال تعالى في قوله: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36، 37]، فأي فلاح وأي عيش لمن تخلى عنه وليه ومولاه، وتولاه عدوه ومن يريد هلاكه؟! إنه لا شيء غير حياة الخوف والهم والغم والألم، فيكون المال والولد في حقه شقاء لا سعادة، وتعبًا لا راحة، وعذابًا لا رحمة، كما قال عز وجل في قوله: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]. فالقلب لا يهدأ والعين لا تقرُّ والنفس لا تطمئن إلا بإلهها ومعبودها الذي هو الحق، وكل معبود سواه باطل.
أيها المسلمون، إن المعاصي توهن القلب والبدن، وتزيل النعم وتجلب النقم.
عباد الله، أيام قلائل وتودعون عامًا وستستقبل الأمة الإسلامية عامًا جديدا، إنها تمر الشهور بعد الشهور والأعوام بعد الأعوام ونحن في سباق غافلون، إنه عام سيطوى سجله ويختم أعماله، فهنيئًا لمن أحسن فيه واستقام، وويل لمن أساء وارتكب الإجرام، فهلم نتساءل عن هذا العام: كيف قضيناه؟ ولنفتش كتاب أعمالنا: كيف أمليناه؟ فإن كان خيرًا حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شرًا تبنا إلى الله واستغفرناه.
كم يتمنى المرء تمام شهره وهو يعلم أن ذلك ينقص من عمره، وإنها مراحل يقطعها من سفره، وصفحات يطويها من دفتره، وخطوات يمشيها إلى قبره، فهل يفرح بذلك إلا من استعد للقدوم على ربه بامتثال أمره؟! تجدد عامًا بعد عام، فأنتم تودعون عامًا شهيدًا عليكم وتستقبلون عامًا جديدًا مقبلاً إليكم، فبماذا تودعون هذا العام وتستقبلون العام الجديد؟! فليقف كل منا مع نفسه محاسبًا، محاسبًا نفسه عن فرائض الإسلام وأدائها، عن حقوق المخلوقين والتخلص منها، عن أمواله التي جمعها من أين جاءت وكيف ينفقها، حاسبوا أنفسكم يا عباد الله، فأنتم اليوم أقدر على العلاج منكم غدًا، فإنكم لا تدرون ما يأتي بعد الغد، حاسبوها في ختام عامكم وفي جميع أيامكم، فإنها خزائنكم التي تحفظ لكم أعمالكم، وعما قريب تفتح لكم فترون ما أودعتم فيها.
روي أن رسول الله خطب فقال: ((أيها الناس، إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وإن المؤمنين بين مخافتين: أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وأجل قد بقى لا يدري ما الله قاض فيه)).
فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الهرم، ومن الحياة قبل الموت. فلنتذكر ـ يا عباد الله ـ بانقضاء العام انقضاء العمر، وبسرعة مرور الأيام قرب الموت، وبتغير الأحوال زوال الدنيا وحلول الآخرة، فكم وُلد في هذا العام من مولود، وكم مات فيه من حي، وكم استغنى فيه من فقير وافتقر من غني، وكم عز فيه من ذليل وذل فيه من عزيز. فاتقوا الله عباد الله، واستدركوا ما فات بالتوبة، فأيامكم معدودة، وإقامتكم في هذه الدنيا محدودة، وأعمالكم مشهودة.
أيها المؤمنون، تذكروا بهذا الاجتماع اجتماعكم يوم العرض على الله يوم تعرضون لا تخفى منكم خافية، في ذلك الموقف ينقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:88-96].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِ الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ [الحج:34-37].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، إن الله لا يخلف الميعاد. أحمده سبحانه وأشكره على ترادف مننه وتكاثر نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الإله الحق المبين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، شرع الشرائع وسن الأعياد وقرر الملة وأشاد. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، واعبدوه حق عبادته، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله، عليكم بوصية رسول الله وهو يجود بنفسه: ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) حتى يفيض بها لسانه، ذلك لأن الصلاة عمود الإسلام وثاني أركانه، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31]، وأدوا زكاة أموالكم، وحجوا بيت الله الحرام، واحذروا الشرك فإنه محبط للأعمال، وإياكم وعقوق الوالدين فإنه من كبائر الذنوب، وإياكم والربا حيث حذركم ربكم منه والتعامل به.
عباد الله، عليكم بالتخلق بأخلاق القرآن والتأدب بآداب سيد الأنام، حسنوا أخلاقكم مع إخوانكم المؤمنين، مع أقاربكم وجيرانكم، فما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق، حسنوا أخلاقكم مع أهليكم وأزواجكم، فقد قال النبي : ((أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، وخياركم خياركم لنسائهم)).
أيتها المرأة المسلمة، اتقي الله، وحافظي على ما أوجب الله عليك في دينك وأمانتك وما استرعاك الله عليه، مري أبنائكِ بالصلاة وعوديهم على الطاعات وعلى الصدقة والأمانة ومكارم الأخلاق، حذريهم من الكذب والغيبة والنميمة وبذاءة اللسان، حافظِي على كرامتك وعرضك، لا تزاحمي الرجال في الأسواق والمتاجر والمجتمعات.
أيها المؤمنون والمؤمنات، إن الله أوجب على الأمة الإسلامية التعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح فيما بيننا واجب لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. وإن الفساد ـ يا عباد الله ـ إذا انتشر في الأمة عمّ المسيء وغيره وحلت العقوبة في الأمة كلها، وإن من أسوأ الأمور التي عمّ بها البلاء في كثير من بلاد الإسلام ما جلبه أعداء المسلمين لتمزيق شملهم وتفكيك أُسرهم وإفساد دينهم وابتزاز أموالهم وقتل مروءتهم والفتك بأجسادهم وأرواحهم، إنها المخدرات بجميع أنواعها وأشكالها والخمور وسائر المحرمات التي أفسدت الأخلاق وشتت الأسر ونكدت على الآباء والأمهات، من جراء فساد أخلاق أبنائهم وتباعدهم عن دينهم وعن أهليهم والتفافهم على أصحاب الشر والفساد وجلساء السوء.
فيا عباد الله، إنه يجب علينا جميعًا محاربة هذه الأمور وإنكارها والتحذير منها وإشاعة ضررها وتبليغ المسؤولين عن أمن هذه البلاد عما يعلمه كل فرد من المروجين والمتعاطين لها لقمع الفساد والمفسدين، فإن هذا من التعاون المطلوب من كل مسلم، ومن واجب كل مؤمن حماية لنفسه ولأبناء جنسه وقيامًا لواجبه ونصحًا لدينة وأمته، مروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، وصلوا أرحامكم، ولا تقربوا الزنا فقد نهى الله من الاقتراب منه.
عباد الله، عظموا شعائر الله وتعاليمه ودينه، وتسامحوا وانبذوا الخصام، وأكرموا المساكين والأيتام، وإياكم والظلم فإنه ظُلمات يوم القيامة، وإياكم وقول الزور والغيبة والنميمة والحسد فإنها تسخط الله تعالى، واعملوا على ما يرضيه.
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا على رسول الله خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين، نبي الهدى والرسول المجتبى، امتثالاً لقول الرب تعالى في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار، وصحابته المهاجرين منهم والأنصار، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعملون: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن العشرة المفضلين، وأهل بدر والعقبة، وعن أصحاب الشجرة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا في كل مكان يا رب العالمين...
(1/4091)
الحصانة الذاتية
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية
محمد بن عدنان السمان
الرياض
15/2/1426
جامع الجهيمي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الحصانة الذاتية. 2- تأسيس الإسلام لضوابط الحصانة الذاتية للفرد والمجتمع. 3- عوامل الحصانة الذاتية. 4- نماذج من الحصانة الذاتية التي غرسها ديننا العظيم. 5- آثار الحصانة الذاتية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين.
إخوة الإسلام، اليوم سنتحدث بإذن الله عن موضوع مهم، موضوع في غاية الأهمية، يهمك أيها المسلم، ويهم أهل بيتك، زوجتك، أبناءك وبناتك، يهم الصغير والكبير، الذكر والأنثى. موضوع تميّز به ديننا، ضبطه أيما ضبط، ورعاه أيما رعاية، وكفل لمن اتبع هدي الكتاب والسنة في بيانهما ومنهجهما الهداية التامة والصراط المستقيم.
حديثنا اليوم منهج حياة وحصن حصين في مواجهة ذلك المدّ المدلهم من الأفكار المضللة والشبهات المفسدة والشهوات المحرمة. حديثنا موجه أولاً لنا، فنحن مطالبون بهذا الأمر، كما أنه ثانيًا موجه لنا لنغرسه في أهلنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم6:]. فإذا كان الأمر كذلك فحديثنا اليوم بإذن الله عما يسمى بالحصانة الذاتية، والحصانة الذاتية تجعل الفرد المسلم قادرًا على حماية نفسه من كلّ ما يؤثر عليها سلبًا من أفكار أو شهوات أو شبهات.
أيها المسلمون، لقد أسّس الإسلام ضوابط الحصانة الذاتية للفرد والمجتمع، فجعل الله سبحانه وتعالى مراقبته من أعلى المنازل وأجلّها، وبين سبحانه مجموعة من صفاته إذا استشعرها المسلم علم أن الله مطلع عليه، يرى مكانه، ويسمع كلامه، يعلم حركاته وسكناته، لا تخفى عليه خافية، فهو سبحانه وتعالى السميع العليم البصير: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7].
وهذا المعنى الجليل ـ أعني مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والعلن ـ هو الضابط الرئيس في الحصانة الذاتية، فالمسلم المراقب لله تعالى يستشعر هذا المعنى في كل وقت وفي كل حين، أمام الناس، في معاملاته، وفي خلواته، أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ [التوبة:78].
لقد بث ديننا الإسلامي هذا المعنى في غير موضع، مرات بالتصريح، وأخرى بالتلميح الذي يفيد التصريح، فقص علينا قصة يوسف عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم، وبين ما كان منه عليه الصلاة والسلام من ثبات على الدين ومراقبة لله سبحانه وتعالى: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، فمع كل تلك المغريات إلا أن يوسف عليه السلام صمد صمود الجبال، وكانت حصانته الذاتية لنفسه خير معين بعد توفيق الله تعالى.
وهذا رسولنا يشير للشباب ـ محل فورة الشهوة وقوتها ـ بأنك ـ أيها الشاب ـ يمكنك أن تحصن نفسك بمراقبة الله تعالى وعبادته، وتحوز على أعلى المنازل يوم القيامة، فمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((شاب نشأ في عبادة ربه)) كما ثبت في الصحيح. لقد أورد هذا الحديث الإمام البخاري في باب: فضل من ترك الفواحش.
سئل بعض السلف: بم يستعين الرجل على غض بصره عن المحظورات؟ قال: "بعلمه أن رؤية الله تعالى سابقة على نظره ذلك".
كان من دعاء النبي : ((أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)). والمعنى: أن العبد يخشى الله سرًا وعلانية، ظاهرًا وباطنًا، فإن أكثر الناس قد يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن خشية الله في الغيب، إذا غاب عن أعين الناس. فقد مدح الله من خافه بالغيب. وكان بكر المزني رحمه الله يدعو لإخوانه: "زهّدَنا الله وإياكم في الحرام، زهادة من أمكنه الحرام والذنب في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه".
أخي المسلم، إن مراقبة الله تعالى هي الباب الأكبر في الحصانة الذاتية، والذي ينبغي أن نحرص على أن نتمثلها في كل وقت، ينبغي أن نحقق هذا الأمر في أبناءنا وبناتنا، ما أجمل أن تذكر أبناءك صغارًا وكبارًا باطلاع الله عليهم، وأنه إن فعل شيئًا خطأ وأنت لا تراه فإن الله يراه، إذا غُرس هذا المعنى العظيم في نفوس الأولاد بنين وبنات كان له أعظم الأثر بإذن الله في حصانتهم وحمايتهم.
أيها المسلمون، لم يكتف الإسلام بهذا الأمر العظيم في غرس الحصانة الذاتية، بل جعل لها أبوابًا أخرى نذكرها على سبيل المثال لا الحصر؛ فديننا ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه، وما ترك شرًا إلا حذر الأمة منه.
فهذا ربنا سبحانه يدل الأمة على حصانة فروجهم، ويبين لهم أن الطريق الأول لذلك هو غضّ البصر، فقد أمر رب السموات والأرض خالق هذا الكون ومدبر شؤونه، العالم بخفايا أموره، وبكل ما كان وما سيكون، أمر بغض البصر عما لا يحل، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:30، 31].
قال صاحب أضواء البيان رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أمر الله جل وعلا المؤمنين والمؤمنات بغض البصر وحفظ الفرج، ويدخل في حفظ الفرج حفظه من الزنا واللواط والمساحقة، وحفظه من الإبداء للناس والانكشاف لهم، وقد دلت آيات أخر على أن حفظه من المباشرة المدلول عليه بهذه الآية يلزم عن كل شيء إلا الزوجة والسرية، وذلك في قوله تعالى في سورة المؤمنون وسأل سائل: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [المعارج:29، 30]".
وقال الشيخ السعدي رحمه في تفسير هذه الآية: "أي: أرشِد المؤمنين وقل لهم الذين معهم إيمان يمنعهم من وقوع ما يخل بالإيمان يغضوا من أبصارهم عن النظر إلى العورات، وإلى النساء الأجنبيات، وإلى المردان الذين يخاف بالنظر إليهم الفتنة، وإلى زينة الدنيا التي تفتن وتوقع في المحذور، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ عن الوطء الحرام في قبل أو دبر أو ما دون ذلك، وعن التمكين من مسها والنظر إليها، ذلك الحفظ للأبصار والفروج أَزْكَى لَهُمْ أطهر وأطيب، وأنمى لأعمالهم، فإن من حفظ فرجه وبصره طهر من الخبث الذي يتدنس به أهل الفواحش، وزكت أعماله بسبب ترك المحرم الذي تطمع إليه النفس وتدعو إليه، فمن ترك شيئا لله عوضه الله خيرا منه، ومن غض بصره أنار الله بصيرته، ولأن العبد إذا حفظ فرجه وبصره عن الحرام ومقدماته مع دواعي الشهوة كان حفظه لغيره أبلغ، ولهذا سماه الله حفظا، فالشيء المحفوظ إن لم يجتهد حافظه في مراقبته وحفظه وعمل الأسباب الموجبة لحفظه لم ينحفظ، كذلك البصر والفرج إن لم يجتهد العبد في حفظهما أوقعاه في بلايا ومحن".
قال البخاري رحمه الله: "وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدرهن ورؤوسهن! قال: اصرف بصرك عنهن". فهل من حفظ الفروج والأبصار النظر إلى النساء الأجنبيات في القنوات والمحطات؟!
ومن أبواب الحصانة الذاتية التي غرسها الإسلام أمره بالحجاب الشرعي للمرأة، وذلك بتغطية جميع أجزاء جسمها بالملابس الفضفاضة التي لا تشف ولا تصف، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
وهنا أهمس في أذن أولياء الأمور والآباء بالحرص على حجاب بناتهم وزوجاتهم، الحجاب الشرعي الذي ليس فيه زينة ولا فتنة. وللأسف أنه قد ظهرت أنواع من العباءات فيها من الفتنة الشيء الكثير، مما يظهر للناظر من أول نظرة.
فلنتق الله، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته. وبعض النساء ـ هداهن الله ـ يرتدين تلك العباءات ليس من باب سوء القصد، ولكن من باب الموضة، ولا يعلمن أنهن بفعلهن هذا يؤثرن على من في قلبه مرض.
ومن الحصانة الذاتية التي غرسها ديننا العظيم تحريم الاختلاط بين الرجال والنساء، فهذا نبيُّنا يقول في الصّلاة فيما رواه الإمام مسلم: ((خيرُ صفوف الرجال أوّلُها وشرُّها آخرها، وخير صفوفِ النّساء آخرُها وشرّها أوّلها)) حثًّا للمرأةِ على البُعد عنِ الرجال. وكان النساءُ في عهدِ النبيّ يشهدن الصلوات، تقول عائشة رضي الله عنها: يشهَد نساءٌ مع النبيّ الصلاة، يرجِعنَ في غايةٍ من التحفُّظ، لا يعرِفُهنّ أحدٌ من حسنِ سِترهنّ وعفافِهن، متلفِّعاتٍ بمروطهِنّ، لا يُعرَفنَ من الغَلَس. أخرجه مسلم. هذا كان في عهد النبي ، في مجتمعاتٍ نظيفةً ومجتمعاتٍ طيّبة، ومع هذا حُذِّروا من كلِّ وسيلة توقِع في الشرّ والفساد.
اللهم احفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وقنا شر أنفسنا.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لى ولكم وسائر المسلمين من كل ذنب.
_________
الخطبة الثانية
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله.
عباد الله، أبواب الحصانة الذاتية كثيرة، فديننا العظيم أبان وأوضح، فها هو يحرم مصافحة المرأة الأجنبية، ويأمر بالتفريق بين الأبناء في المضاجع، ويحرم خلو المرأة الأجنبية بالرجل، ويأمر بالحياء ويحث عليه ويجعله من خصال الإيمان، إلى غير ذلك مما حصن به ديننا الإسلامي الرجل والمرأة على حد سواء.
أيها المسلمون، إن الحصانة الذاتية للفرد والمجتمع تقود الأمة إلى مجتمع طاهر نظيف، مجتمع طاهر عَفيف، لا يتأثَّر بالفواحِشِ، ولا يروج فيه سوقُ الخنا، ولا يُعَطَّل فيه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، جاء ليقيمَ المجتمع المسلمَ على أُسُس من القِيَم والأخلاق والفضائل.
ثم اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائِهِ الرّاشدين الأئِمّة المهديّين...
(1/4092)
إطعام الطعام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأعمال
رضا عبد السلامي
ابن عكنون
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص الإسلام على نشر الألفة والمحبة بين الناس. 2- إطعام الطعام من أفضل الأعمال والقربات عند الله. 3- فضل الصدقة. 4- ذم الشح والبخل. 5- أفضل الصدقة. 6- الخلف من الله تعالى للمنفق في سبيله. 7- زهده عليه السلام في الدنيا. 8- نموذج من إنفاق الصحابة رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد تبين لنا في الخطبة الماضية أن النبي كان يحرص أشد الحرص على الألفة والمحبة، وعلى بناء مجتمع تسوده المعاملة الحسنة والأخلاق الفاضلة، والدليل على ذلك أن أول ما حدّث به حين قدومه المدينة: ((يا أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام)).
وإطعام الطعام ـ عباد الله ـ من أفضل الأعمال والقربات عند الله، وقد جاءت الآيات والأحاديث متضافرة في بيان هذا الأصل العظيم، فعن ابن عمر قال: قال : ((أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم الله)).
ففي هذا الحديث يبين لنا ما لهذا العمل من تأثير عجيب في الترابط والتآخي، بل يلاحظ أنه كلما يذكر إطعام الطعام يذكر معه إفشاء السلام الذي بينا فيما سبق أهميته. وفي الحديث يقول في آخره: ((وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم الله)) أي: أن أكبر معين على الأخوة وأعظم دليل على صدقها هو إفشاء السلام وإطعام الطعام، بل هو أكبر معين على دخول الجنة، فعن عبد الله بن الحارث قال: قال : ((أطعموا الطعام وأفشوا السلام تورثوا الجنان)) ، وعن حذيفة قال: قال : ((من قال: لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها ودخل الجنة، ومن صام يومًا لوجه الله ختم له بها ودخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له بها ودخل الجنة)).
هذا العمل الذي قد نحتقره إن الملائكة يختصمون عند الله أيهم يكتب هذا العمل، فعن ابن عباس قال: قال : ((أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى على أحسن صورة، فقال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا، ثم قال: يا محمد، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم في الكفارات والدرجات، والكفارات المكث في المساجد بعد الصلوات والمشي على الأقدام إلى الطاعات وإسباغ الوضوء على المكاره، والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام)). فهم يختصمون في هذا العمل أيهم يكتبه، لعلمهم ما له من فضل عظيم عند الله؛ لأنه يعين على دخول الجنة، ويزيد في الدرجات، وهو يقي من حر جهنم نعوذ بالله.
نعم، الصدقة تقي من حر جهنم، وهي تطفئ غضب الرب، فعن عدي بن حاتم قال: قال : ((يقي أحدكم وجهه حر جهنم ولو بتمرة ولو بشق تمرة، فإن أحدكم لاقي الله وقائل له ما أقول لأحدكم: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا؟! فيقول: بلى، فيقول: ألم أجعل لك مالاً وولدًا؟! فيقول: بلى، فيقول: أين ما قدمت لنفسك؟! فينظر قدامه وبعده وعن يمينه وعن شماله، ثم لا يجد شيئًا يقي به وجهه حر جهنم، ليقي أحدكم وجهه النار ولو بشق تمرة، فإن لم يجد فبكلمة طيبة)) أي: أن إطعام الطعام أو الصدقة تقي الإنسان حر جهنم، وتكون له حجابًا من النار، كما جاء عنه في الحديث الآخر: ((اجعلوا بينكم وبين النار حجابًا ولو بشق تمرة)) أي: أن الصدقة تكون عونًا للعبد يوم القيامة من حر جهنم. هذه النار التي لا يطيقها أحد ولن يطيقها أحد، فعن ابن عباس قال: قال : ((لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!)).
وفي هذا أيضًا بيان منه أنه يجب على المسلم أن لا يحقر ما يقدمه من خير، فينفق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فعن جرير البجلي قال: قال : ((أما بعد: فإن الله أنزل في كتابه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18] ، تصدقوا قبل أن لا تصدقوا، تصدق رجل من ديناره، تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من بُرِّه، تصدق رجل من ثمره، من شعيره، لا تحقرن شيئًا من الصدقة ولو بشق تمرة)) أي: لا تحقرن من العمل ما قدمته، فالعبد مسؤول ومكلف عما يطيقه، فلو كانت عندك تمرة فقسمتها نصفين، فتصدقت بنصف وأبقيت عندك النصف الآخر، فإن هذا النصف قد ينفعك يوم القيامة، ((أفضل الصدقة جهد المقل، وابدأ بمن تعول)).
جاء عن أبي هريرة قال: قال : ((سبق درهم مائة ألف درهم؛ رجل له درهمان، أخذ أحدهما فتصدق به، ورجل له مال كثير، فأخذ من عرضة مائة ألف فتصدق بها)) وشتان بين الرجلين.
والمهم ـ عباد الله ـ أن لا نترك الخير يمر بين أيدينا ولو بالقليل، عن جابر قال: قال : ((إذا أتاكم السائل فضعوا في يده ولو ظلفًا محرقًا)) ، وفي رواية: ((فلا يصدر منكم إلا وهو راض)). والظلف هو الظفر المشقوق من البقر أو الشاة.
والمهم ـ عباد الله ـ هو البذل والإحسان وفعل المعروف، لا الشح والبخل والإمساك، هذا البخل الذي بين المولى أن من اتقاه واجتنبه فهو الفائز: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] أي: من سلم من الشح واجتنبه فقد أفلح ونجح، بل إن الشح من المهلكات المفسدات، يفسد دين المرء ودنياه، فعن ابن عمر قال: قال : ((ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات، وثلاث كفارات، وثلاث درجات، فأما المهلكات فشح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه، وأما المنجيات فالعدل في الغضب والرضا والقصد في الفقر والغنى وخشية الله في السر والعلانية، وأما الكفارات فانتظار الصلاة بعد الصلاة وإسباغ الوضوء على السبرات ونقل الأقدام إلى الجماعات، وأما الدرجات فإفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام)).
قال: ((أما المهلكات فشح مطاع)) أي: شح وبخل يجعل الإنسان عبدًا وأميرًا لماله، فيأمره بالمنكر وينهاه عن المعروف، فيهلك له دينه ودنياه وآخرته، عن أبي هريرة قال: قال : ((أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا)) أي: أفضل الصدقة وأعظمها أن تتصدق بمالك وأنت صحيح لست على فراش الموت، شحيح تأمرك النفس ويأمرك الشيطان بالشح، كما في رواية أخرى: ((وأنت صحيح حريص)) أي: حريص على إبقاء المال؛ لأن العبد أثناء صحته يمنيه الشيطان بطول العمر وبالحاجة إلى المال، كما قال تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ [البقرة:268].
وقد جاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: ((لأن يتصدق الرجل في حياته بدرهم خير له من أن يتصدق عند موته بمائة)). وقال بعض السلف عن بعض أهل الترف والأموال: "يعصون الله في أموالهم مرتين؛ يبخلون بها وهي في أيديهم في الحياة، ويسرفون فيها إذا خرجت عن أيديهم بعد الموت".
فالصدقة ـ عباد الله ـ تعين على دخول الجنة، فهي تقي العبد من حر جهنم، وهي تطفئ غضب الرب، فعن ابن عباس قال: قال : ((عليكم باصطناع المعروف؛ فإنه يمنع مصارع السوء، وعليكم بصدقة السر؛ فإنها تطفئ غضب الرب عز وجل)).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: عباد الله، فإن خير الكلام كلام الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وقد قال تعالى: وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة:272].
في هذه الآية يمدح الله تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله، وهم بذلك لا يبتغون إلا مرضاة الله، بل وعد الله ـ ووعده الحق ـ بأنه يخلف للمنفق جزاء لما أنفقه في سبيله: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] أي: مهما أنفقتم من شيء فيها أمركم به وأباحه لكم فهو يخلفه لكم بالبدل في الدنيا، وفي الآخرة بالجزاء والثواب، كما ثبت في الحديث القدسي عن أبي هريرة قال: قال : ((يقول الله تعالى: أنفق أُنِفِق عليك)) ، وعن عبد الرحمن بن عوف قال: قال : ((ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال قط من صدقة فتصدقوا)) الحديث.
وفي معرض المدح والثناء يمدح الله عباده المؤمنين: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [الإنسان:8] أي: يطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له، لم يفعلون هذا؟ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:9]. قال سعيد بن جبير: "أما والله، ما قالوه بألسنتهم، ولكن علم الله به من قلوبهم فأثنى عليهم به ليرغب في ذلك راغب".
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:10] أي: إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في يوم عبوس قمطرير.
وكذلك فإن الصادق الأمين النبي الكريم لم يكن ليخير بين الدنيا والآخرة إلا اختار الآخرة، حتى إنه ثبت عنه أنه قال كما في الصحيح: ((يا أبا ذر، أتبصر أُحُدًا؟)) ، قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله يرسلني في حاجة له، قلت: نعم، قال: ((ما أحبّ أن لي مثل أحُدٍ ذهبًا أنفقت كلّه إلا ثلاثة دنانير، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا. لا والله، لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله)).
وعن أنس قال: ما سئل رسول الله على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
ولم يكن الصحابة عن هذا ببعيد، حيث فهموا وعقلوا هذه المعاني جيدًا، كيف لا وهم تربوا وترعرعوا في مدرسة النبوة؟!
من هذا المقام ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك قال: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله : ((بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وعن ثوبان مولى رسول الله قال: قال : ((أفضل الدنانير دينار ينفقه الرجل على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله عز وجل)) ، وعن أبي هريرة قال: قال : ((أفضل الأعمال أن تدخل على أخيك سرورًا، أو تقضي عنه دينًا، أو تطعمه خبزًا)).
ولما علم الصحابة هذا كانوا أسرع الناس عملاً به وعملاً بقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، وبما قاله تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
جاء رجل إلى النبي فقال: هذه الناقة في سبيل الله، قال: ((لك بها سبعمائة ناقة مخطومة في الجنة)). سبحان الله! الادخار ليوم الجزاء، وما أعظمه من ادخار.
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11].
وعن أبي هريرة قال: قال : ((بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتًا في سحابة يقول: اسق حديقة فلان، فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة، فإذا شرجه قد استوعب ذلك الماء كله، فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، ما اسمك؟ قال: فلان ـ للاسم الذي سمع في السحابة ـ فقال له: يا عبد الله، لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إنك قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأرد فيها ثلثًا)).
وبعد: فاتق الله يا عبد الله، واتق النار، واجعل بينك وبينها حجابًا ولو بشق تمرة، ولنتذكر ذلك اليوم العظيم، لنتذكر أهوال القبور والبعث والنشور، يوم تدنو الشمس من الرؤوس، وحينها لا ظل ولا شجر ولا أي شيء إلا ظل واحد، ألا وهو ظل الله، وحيث يغرق البعض في عرقه، والآخر يتمنى ولو نسمة خفيفة تخفف عنه شدة الحر، فينادي المولى برحمته وفضله وعدله بعض الناس ليستظلوا في ظله يوم لا يظل إلا ظله، كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه قال: قال : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه)) ، فـ ((لا تحقرن من المعروف شيئًا)) ، رب عمل صغير قليل بسيط قد نحتقره لكنه عند الله عظيم، عن الزبير بن العوام قال: قال : ((من استطاع منكم أن يكون له خبء من عمل صالح فليفعل)) ، والخبء هو المدخر. أسأل الله أن يوفقنا لما فيه الخير والصلاح.
ولعلنا نختم ـ عباد الله ـ خطبتنا بحديث عظيم، ولنستمع إليه عباد الله، فعن أبي ذر الغفاري قال: قال : ((يا أبا ذر، أترى أن كثرة المال هو الغنى؟! إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له في الدنيا، وإنما يضر نفسه شحها)).
ولذلك فإنك تجد الغني الشاكر ينفق في سبيل الله وهو فرح مسرور بما يعمله، متيقن بأن ما عند الله خير وأبقى، والفقير الشاكر صابر ويحمد الله على كل حال؛ لأنه يعلم أن الآخرة خير من الأولى، فكم ممن عاش فقيرًا في الدنيا وفي ضيق من العيش والمسكن لكنه صبر وحمد الله، وانتقل إلى الدار الآخرة، فوسع له في قبره وأبدله الله بدار خير من داره، ومن الضيق إلى الرغد والجنة حيث الخلود، وكم ممن عاش في رغد من العيش وترف وسعة في المال، لكنه لم يعرف قدر تلك النعم إلا لما انتقل إلى دار الجزاء، فأبدل بذلك الوسع بالضيق ونكد العيش. فلا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق، ولو بشق تمرة، ولو بالكلمة الطيبة.
(1/4093)
شهر رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
رضا عبد السلامي
ابن عكنون
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله على عبده. 2- يجب على العبد أن يتعاهد إيمانه. 3- شرح حديث: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين)). 4- فضل شهر رمضان. 5- فضل الصيام. 6- الحث على اغتنام رمضان. 7- أجر من فطّر صائم. 8- آداب الصوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن النعم ثلاثة: نعمة حاصلة يعلم بها العبد، ونعمة منتظَرَة يرجوها، ونعمة هو فيها لا يشعر بها، فإذا أراد الله إتمام نعمته على عبده عرّفه نعمته الحاضرة وأعطاه من شكره قيدًا يقيّدها به حتى لا تشرد ـ فإنها تشرد بالمعصية وتقيّد بالشكر ـ ووفقه لعلم يستجلب به النعمة المنتظرة، وبصّره بالطرق التي تسدّها وتقطع طريقها ووفقه لاجتنابها، وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه، وعرّفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها.
يحكَى أن أعرابيًا دخل على الرشيد فقال: أمير المؤمنين، ثبت الله عليك النعم التي أنت فيها بإدامة شكرها، وحقّق لك النعم التي ترجوها بحسن الظنّ به ودوام طاعته، وعرفك النعم التي أنت فيها ولا تعرفها لتشكرَها. فأعجبه ذلك منه فقال: ما أحسن تقسيمه.
ومن هذه النعم التي قد لا يشعر بها العبد وهو فيها أن يمد الله في عمره، نعم، إذا مد الله في عمر العبد فهذه نعمة عظيمة ينبغي له أن يحمده ويشكره عليها، وأن يندم على ما فوته على نفسه من الخير، وأن يغتنم ما يكرمه الله به من المواسم والأعياد ليتقلّب القلب، يرجو بذلك الثواب والدرجات، وخاصة عند نزول النفحات، فمن عظيم نعم الله أن يبلِّغ العبدَ مواسمَ يعينه بذلك على أمر دينه وآخرته، فعن ابن عمرو قال: قال : ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم)).
قال: ((إن الإيمان ليخلق)) أي: إن الإيمان ليبلى ويخلق كما يبلى الثوب، أي: كما أن الثوب مع مرور الزمن يتلاشى ويتقطع ويتقادم، فكذلك الإيمان يخلق ويبلى ويتقادم مع مرور الزمن، فيحتاج هذا الإيمان إلى ما يجدّده من جديد، كرمضان والجمع والجمعة تتكرر لتجديد الدين وإعطائه دفعًا قويًا يرتقي به المسلم إلى أعلى المقامات والدرجات من جديد، بل روي عنه : ((إن الإيمان ليصدأ كما يصدأ الحديد)) ؛ لذلك أمرنا أن نسأل الله تعالى أن يجدد لنا الدين والإيمان.
ومن هذه المواسم ومن هذه المناسبات العظيمة شهر رمضان، هذا الشهر التي ما فتئ أهل العلم والمعرفة بهذا الشهر يطلبونه ويسألون الله أن يبلغهم رمضان، كم في هذا الشهر من الخير والرحمات والبركات، بل من عظيم شأن هذا الشهر أن الله يعين العبد وييسر ويسهل له فيه سبل الخير والطاعة.
فعن أبي هريرة قال: قال : ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أدبر)).
قال: ((إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن)) أي: سلسِلت الشياطين وشدَّت بالأغلال، وكذا مردة الجن وهم المتجرّدون للشر، وهذا أول علامة ودلالة على فضل هذا الشهر، أن الشياطين ومردة الجن يصفدون ويسلسلون، فيضعف تأثيرهم ووسوستهم على المسلم، وقد قال أهل العلم: الحكمة في تقييد الشياطين وتصفيدهم كيلا يوسوسوا في الصائمين. ولعل الأمارة والأثر يظهر إذا لاحظنا أن أكثر المنهمكين في الذنوب والمعاصي يرجعون في هذا الشهر إلى الله تعالى.
ثم قال: ((وغلقت أبواب النار)). نعم، تغلق أبواب النار فلا يفتح منها باب، وتفتح أبواب الجنة فلا يغلق منها باب، وفي هذا جاء عن حذيفة أنه قال: ((يا حذيفة، من ختِم له بصيام يوم يريد به وجه الله عز وجل أدخله الله الجنة)) رواه الأصبهاني وهو صحيح. فمن ختم له بصيام ـ أي: مات وهو صائم ـ أدخله الله الجنة بشرط أن يكون هذا الصيام لله تعالى مريدًا به وجهه عز وجل، جاء عن أبي هريرة قال: قال : ((يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجزي به)).
وفي تأويل هذا الكلام للعلماء فيه أقوال، مع أن الأعمال كلها لله وهو الذي يجزي بها، ولعل أقواها أن الصوم لا يقع فيه الرياء كما يقع في غيره عمومًا، قال أبو عبيد القاسم بن سلام في غريبه: "قد علمنا أن أعمال البر كلها لله، وهو الذي يجزي بها، فنرى أنه إنما خص الصيام لأنه ليس يظهر من ابن آدم بفعله، وإنما هو شيء في القلب". وهذا يظهر من خلال قوله : ((يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)).
قال الحافظ: "قد يفهم من هذا الحصر التنبيه على الجهة التي بها يستحق الصائم ذلك، وهو الإخلاص الخاص به، حتى لو كان ترك المذكورات لعرض آخر كالتخمة لا يحصل للصائم الفضل المذكور"، ثم قال: "وقد يدخل الرياء بالقول كمن يصوم ثم يخبر بأنه صائم، فدخول الرياء يكون بالقول، أما بقية الأعمال فإن الرياء قد يدخلها بمجرد الفعل".
وقد قال : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)) أي: صام إيمانًا بأن الله فرضه وأوجبه عليه، واحتسابًا أي: طلبًا لوجه الله وثوابه ونفسه راغبة في ثوابه، طيبة غير كارهة ولا مستثقلة لصيامه، وفي هذا يخرج من يصوم وهو كاره مستثقل لرمضان، أو من يصوم فقط لأن الناس يصومون لكن دون إيمانه بأن الله أوجبه، من جهة العادة فقط.
والمراد بقوله: ((وأنا أجزي به)) أي: أنفرد بعلم مقدار ثوابه وتضعيف حسناته، وأما غيره من العبادات فقد أطلع عليه بعض الناس، ويشهد لهذا ما رواه مسلم في صحيحه والإمام مالك في موطئه عن أبي هريرة قال: قال : ((قال الله تعالى: كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى ما شاء الله تعالى، إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به)) أي: أجازي عليه جزاء كثيرًا من غير تعيين أو تحديد لمقداره، كقوله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
فقد تبين ـ عباد الله ـ أن الله يجازي الصائم الأجر الكثير والكبير، ويكفر له بالصيام الذنوب والخطايا، فعن حذيفة قال: قال عمر: من يحفظ حديثًا عن النبي في الفتنة؟ قال حذيفة: أنا سمعته يقول: ((فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة)).
قال : ((وغلقت أبواب النار)) ، بل إن في الجنة بابًا لا يدخله إلا الصائمون، فعن سهل قال: قال : ((إن في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)) ، وفي رواية: ((من دخل شرب ومن شرب لم يظمأ أبدًا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
ثم قال : ((وينادي مناد كل ليلة: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أدبر)) أي: يا طالب العمل والثواب والخير والأجر أقبل إلى الله وطاعته بزيادة الاجتهاد في عبادته، وهو أمر من الإقبال أي: تعال، فإن هذا أوانك، وهذه فرصتك لقبول التوبة، فما أفلح وما ربح من سهلت وتيسّرت له سبل الخير والمغفرة والطاعة فما اغتنمها، خسر وخاب وهلك من خرج من رمضان ولم يغتنمه، عن أبي هريرة قال: صعد النبي المنبر فقال: ((آمين))، فقيل له: يا رسول الله، إنك صعدت المنبر فقلت: آمين؟! فقال : ((إن جبريل أتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين)).
فلنحذر ـ جميعًا ـ من التهاون في هذا الشهر، فكم من صاحب وأخ وقريب وجار لنا صام معنا العام الماضي وهو الآن تحت التراب، ويتمنى لو أن الله يردّ له روحه، من أجل ماذا؟ أمن أجل أن يطمئن على أهله وماله؟ كلا والله، بل كما جاء في الحديث أنه قال: ((ركعتين لهذا ـ أي: الميت ـ خير من الدنيا وما فيها)) ، يتمنى لو ترد إليه الروح فيركع ركعتين فقط، لأنه في دار الجزاء في دار الحساب.
((يا باغي الخير أقبل)) ، وفي رواية: ((يا باغي الخير هلم)). في مثل هذا الشهر تتجلى تلك المعاني العظيمة الزكية، ألا وهي الترابط والتآزر بين المسلمين وخاصة إطعام الطعام، وقد بينا فيما مضى ما له من الفضائل، قال : ((اجعلوا بينكم وبين النار حجابًا ـ أو ستارًا ـ ولو بشق تمرة)) ؛ لأن الصيام ـ عباد الله ـ يذكرنا بحال الأكباد الجائعة من المساكين، ولذلك جاء عن زيد بن خالد قال: قال : ((من فطر صائمًا كان له مثل أجره)).
فانظر ـ يا عبد الله ـ إلى هذا الأجر العظيم الذي يكتبه الله للصائم، فإنه يكتب لك مثل هذا الأجر. فيتذكر المسلم ويتفقد وينظر في أقاربه وفي جيرانه وفي إخوانه، فإنه حتمًا سيجد المحتاج والمسكين والفقير والمدين، بل ينبغي للمسلم أن لا يتشبه بالبخيل والشحيح فينتظر أن يقال له: أعطني أو أكرمني، بل هو يتفقد الناس كما كان خير خلق الله أجمعين النبي الكريم والصحابة الكرام، يتفقدون أحوال المسلمين فينفعونهم، وفي هذا تتجلى تلك المعاني العظيمة، ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ، ((من استطاع منكم أن ينفع فليفعل)).
((ولله عتقاء من النار)) ، يعتق الله برحمته وفضله وإحسانه وكرمه في كل ليلة من هذا الشهر العظيم عبادًا من النار، كتبوا في أهل النار والشقاء، فيعتقهم ويجعلهم من أهل الجنة، وهذا يزيدنا إيمانًا وقوة للعبادة في هذا الشهر.
((ولله عتقاء من النار)) ، ولكن ينبغي العلم بأن هذا مشروط بأن لا يتخلل الصيام ما يفسده من الغيبة والكلام الفاحش وغير ذلك مما نهانا عنه المولى، عن أبي هريرة قال: قال : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)). والمراد بقوله: ((قول الزور)) الكذب، قال ابن العربي المالكي: "مقتضى ما ذكر أن من فعل ما ذكر لا يثاب على صيامه، وأن ثواب الصيام لا يقوم في الموازنة بإثم الزور، وما ذكر معنى الجهل والغيبة وغيرهم".
روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال : ((الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم إني صائم، والذي نفسي بيده، لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي، وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها)).
ولذلك فليحذر المسلم من أن يتعب نفسه ثم لا يجد من الأجر شيئًا، عن أبي هريرة قال: قال : ((رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر)).
فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والكيس الفطن من يعمل العمل ويأمل بذلك ثواب الله، فكما أن العامل يكدح ويعمل وهو يتقن عمله حتى ينال أجرته فكذلك المسلم لا يفسد عمله حتى يلقى الله وهو عليه راض، جاء أن عمر رأى ذات يوم راهبا فبكى، فقيل له عن ذلك، فقال: تذكرت قوله تعالى: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:3، 4].
فطوبى لمن بادر عمره القصير فعمر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير قبل فوات القدرة وأعرض النصير، كان الحسن يقول: "عجبت لأقوام أمروا بالزاد ونودي فيهم بالرحيل، وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون"، وكان أبو بكر بن عياش يقول: "لو سقط من أحدكم درهم لظل يومه يقول: إنا لله ذهب درهمي، وهو يذهب عمره ولا يقول: ذهب عمري، وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات ويحفظون الساعات ويلازمونها بالطاعات".
فيا عبد الله، هلال الهدى لا يظهر في غيم الشبع، ولكن يبدو في صحو الجوع وترك الطمع، واحذر أن تميل إلى حب الدنيا فتقع، ولا تكن ممن قال: سمعت وما سمع، ولا ممن سوّف يومه بغده فمات ولا رجع، كلا ليندمن على تفريطه وما صنع، وليسألن عن تقصيره في عمله وما ضيع، فيا لها من حسرة وندامة، وغصة تجرع عند قراءة كتابه وما رأى فيه وما جمع، فبكى بكاء شديدًا فما نفع، وبقي حزونًا لما رأى نور المؤمن يسعى بين يديه وقد سمع، فلا ينفعه الحزن ولا الزفير ولا البكاء ولا الجزع.
(1/4094)
صلة الأرحام
الأسرة والمجتمع
الأرحام
رضا عبد السلامي
ابن عكنون
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جزاء الوصل وجزاء القاطع. 2- أهمية صلة الرحم. 3- التحذير من قطع الأرحام. 4- تعجيل ثواب الصلة وعقاب القطيعة. 5- آثار صلة الرحم.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:19-21].
في هذه الآيات يقول الله تعالى مخبرًا عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار، وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة.
ومن هذه الصفات عباد الله: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ أي: من صفات أولي الألباب أولي العقول السليمة الصحيحة صلة الأرحام، يصلون الأرحام لماذا؟ لأن الله أمرهم بذلك فقال: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ.
وقد أعدّ الله لمن اتصف بهذه الصفات الحميدة ـ والتي منها صلة الأرحام ـ عقبى الدار، وقد فسرها الله بقوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:23، 24].
ثم ذكر الله حال الأشقياء وصفاتهم، وذكر مآلهم في الآخرة ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون؛ لأنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا، فقال: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25]. فهؤلاء الذين استحقوا اللعنة ـ الطرد من رحمة الله ـ وسوء العاقبة والمآل من صفاتهم أنهم يقطعون أرحامهم فلا يصلونها.
ولو تدبرنا كتاب الله عز وجل لوجدنا أن الله كلما ذكر المفسدين في الأرض فإنه يقرنهم بالذين يقطعون أرحامهم كما في هذه الآية، وكما في قوله في سورة البقرة: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [البقرة:27]، وكما في قوله في سورة محمد: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22]. فذكر الإفساد في الأرض وقرن معه قطيعة الرحم، وقد توعد هؤلاء باللعنة والخزي في الحياة الدنيا، أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ.
وصلة الأرحام ـ عباد الله ـ واجب أوجبه الله وفرضه علينا، كما قال في أول سورة النساء وهي الآية التي كان يقرؤها في خطبة الحاجة: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]. قال ابن عباس وغيره: (أي: اتقوا الله واتقوا الأرحامَ أن تقطعوها، خافوا من الله أن تقطعوها، ولكن بروها وصلوها).
وقد جاء هذا التحذير أيضًا من النبي ، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال : ((اتقوا الله وصلوا أرحامكم)) ، وفي حديث آخر يوصي ويؤكد على ذلك كما جاء عن أنس قال: قال : ((أرحامكم أرحامكم)) ، قال القاضي عياض: "ولا خلاف أن صلة الرحم واجبة في الجملة، وقطيعتها معصية كبيرة".
ولقد اشتقت هذه الكلمة الرحم من اسم الله الرحمن، فعن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله يقول فيما يحكي عن ربه: ((أنا الله، وأنا الرحمن، وهي الرحم، شققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)).
فاشتقت كلمة الرحم من اسم الله الرحمن للدلالة على عظمها وقربها من الله، بل واعتصامها به، كما جاء ذلك عن أبي هريرة قال: قال : ((خلق الله الخلق فلما فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك))، ثم قال: ((اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ [محمد:22] )).
وفي الحديث فوائد، منها أن الرحم متعلقة بالله ومعتصمة به، فمن وصلها وصله الله بأن يجعله الله من المقربين، ويفتح عليه أبواب الخير والرحمة، ومن يقطعها فسيقطعه الله باللعنة والطرد من رحمته، فعن ابن عباس قال: قال : ((إن الرحم شجنة آخذة بحجزه الرحمن، تصل من وصلها، وتقطع من قطعها)) ، وفي رواية: ((لها لسان طلق ذلق يوم القيامة)).
وأصل الشجنة عروق الشجر المشتبكة، أي: أن الرحم قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، فالرحم شجنة آخذة بحجزة الرحمن، ومعنى الحجزة أي: عرش الرحمن كما يفسره حديث ابن عمرو: ((الرحم شجنة معلقة بالعرش، لها لسان طلق ذلق يوم القيامة)).
ومعنى هذا الكلام أن الرحم تأتي يوم القيامة ولها لسان طلق بليغ واضح وبين، فتتكلم بكلام مفهوم، ولأجل هذا نجد أن النبي الرحيم والرؤوف بنا ـ كما قال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] ـ نجده يحذرنا كل الحذر من التهاون بصلة الرحم، فعن أبي هريرة قال: قال : ((إياكم وسوء ذات البين، فإنها الحالقة)) أي: اتقوا الله فلا توقعوا العداوة والبغضاء والمخاصمة، فتقطعوا الرحم وتفسدوا بذلك بين الناس فإنها تحلق الدين.
ولذلك جعل الله سبحانه صلة الرحم تعجل بالثواب وقطعها يعجل بالعقوبة، فعن أبي هريرة قال: قال : ((ليس شيء أطيع الله تعالى فيه أعجل ثوابًا من صلة الرحم، وليس شيء أعجل عقابًا من البغي وقطيعة الرحم)) ، وعن أبي بكرة قال: قال : ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)) ، وفي رواية عنه: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والخيانة والكذب)).
ففي الأحاديث بيان أن أجر صلة الرحم سريع ومعجل، كما أن عقوبة قطيعة الرحم سريعة ومعجلة، وفيه جمع النبي بين قطيعة الرحم والخيانة والكذب لبيان عظمها والترهيب منها، بل إن العقوبة تصل صاحبها في الدنيا قبل الآخرة، كما جاء ذلك مبينًا عن القاسم بن عبد الرحمن مرسلاً: ((من قطع رحمًا أو حلف على يمين فاجرة رأى وباله قبل أن يموت)) أي: سيظهر ـ والله ـ له عظم ما اقترفه من ذنب في حياته قبل مماته. فهي إذًا من أحب الأعمال عند الله، فعن رجل من خثعم قال: قال : ((أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله، ثم صلة الرحم، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم)).
ومن كمال إيمان العبد صلة الرحم، أي: أن قطع الرحم نقص في الإيمان، فعن أبي هريرة قال: قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)) أي: من كان يؤمن بالله ومن كمال الإيمان بالله طاعته فيما أمر وترك ما حرمه ونهاه، ومن كمال الإيمان باليوم الآخر الاستعداد ليوم الرحيل، ومن هذه القربات صلة الرحم، والتي بفقدها ـ أي: بفقد هذا الأمر العظيم ـ فإن صاحبه معرض يوم القيامة للخطر، بل قد يحرم من دخول الجنة.
إن لم تصدق هذا أو لم تتيقن منه فاسمع ـ يا عبد الله ـ إلى هذا الحديث الصحيح المتفق على صحته الصريح الرهيب، فعن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع، لا يدخل الجنة قاطع)) ، قال سفيان الثوري: أي: لا يدخل الجنة قاطع رحم. فهو في خطر عظيم. نسأل الله السلامة والعافية.
_________
الخطبة الثانية
_________
وعن ابن عمر قال: قال : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رَحِمُهُ وَصَلَهَا)) أي: ليس الواصل الحقيقي الذي يصل من وصله، لكن الواصل الحقيقي هو الذي يصل من قطعه. وهذه هي وصية النبي لعلي قال له: ((صل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك)).
جاء رجل إلى النبي فقال له: يا رسول الله، إن قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال : ((لئن كنت كما قلت فكأنما تُسِفُّهُمْ الْمَلََََّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)) رواه مسلم.
وهذا هو الذي يستحق الأجر الأعظم والمثوبة الأكثر بصلة الرحم، يصلهم على الرغم من أنهم يتجاهلونه، بل ويسيئون إليه، وهذا الأجر في الدنيا قبل الآخرة، ويا له من أجر وفتح عظيم، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال : ((صلة الرحم تزيد في العمر، وصدقة السر تطفئ غضب الرب)) ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال : ((صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزِدنَ في الأعمار)) ، فزادت لنا فائدة أخرى أن صلة الرحم تعمر الديار. وعن أبي هريرة قال: قال : ((من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) ، ومن منا لا يحب أن يبسط له في رزقه ويمد له في أجله، بل إن هذا الأجر في الدنيا يلحق حتى بالفجرة لما لهذا العمل من شأن عظيم عند الله، فعن أبي بكرة قال: قال : ((إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونون فجرة فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا)).
فبادر ـ يا عبد الله ـ بالخير، واحذر الشيطان الرجيم الذي يريد أن يصدك عن الصراط المستقيم، ولقد علم النبي أن بناء مجتمع مترابط قوي يمرّ حتمًا بهذا العمل والذي نتساهل فيه، وفيه من العقوبة والحرمان من الخير ما قد ذكرناه سابقًا.
ومن وصايا النبي لأبي هريرة قال له: ((أطب الكلام وأفش السلام وصل الأرحام وصل بالليل والناس نيام ثم ادخل الجنة بسلام)). ولذلك فإنه حذرنا كل الحذر من ترك هذا العمل وإهماله واحتقاره، فينبغي للمسلم أن يراجع نفسه وأن يحاسبها، فينظر في أقاربه: هل يصلهم أم لا؟ وهل يعرفهم كلهم أم لا؟ عن أبي هريرة قال: قال : ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)) ، ولا يعتذر بأعذار هي أوهن من بيت العنكبوت.
(1/4095)
فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
رضا عبد السلامي
ابن عكنون
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيفية الصلاة على النبي. 2- فضل الصلاة على النبي. 3- الرد على بعض الاعتقادات الباطلة والفاسدة. 4- آثار الصلاة على النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
ولكن ما معنى الصلاة؟ وكيف نصلي عليه؟ قال البخاري: قال أبو العالية: "صلاة الله تعالى ثناؤه عند الملائكة، وصلاة الملائكة الدعاء".
والمقصود في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم ليجمع الثناء عليه من أهل العالمين: العلوي والسفلي جميعًا.
فمن هذا المنطلق وما دام أن الله أمرنا أن نصلي عليه فكيف إذًا هي هذه الصلاة؟ جاء بيان ذلك في أحاديث كثيرة منها قوله: ((إذا صليتم علي فقولوا: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد النبي الأمي كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)) ، وكقوله: ((إذا صليتم عليّ فقولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد)).
ولما كانت للنبي مكانة عظيمة عند الله، فإن الله جعل لمن يصلي على النبي ورتّب وعلق له الأجر العظيم والفضل الكثير، فعن أبي طلحة قال: قال : ((أتاني آت من عند ربي عز وجل فقال: من صلى عليك من أمتك صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له بها عشر درجات، ورد عليه مثلها)). الله أكبر! بعمل بسيط سهل وقد نحتقر، لكن الله يجزي به الأجر العظيم.
وفي حديث آخر عنه قال: قال : ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، أما يرضيك أن ربك عز وجل يقول: إنه لا يصلي عليك من أمتك أحد صلاة إلا صليت عليه بها عشرًا ولا يسلم عليك أحد من أمتك تسليمة إلا سلمت عليه عشرًا؟! فقال: بلى أي يا رب)). ففي هذه الأحاديث حث منه وترغيب على المبادرة والإكثار من الصلاة عليه.
واعلم ـ يا عبد الله ـ أن هذه الصلاة تبلغه، نعم، ما من مسلم يصلي عليه وما من مسلمة تصلي عليه في أي بقعة من الأرض إلا أبلِغ ذلك ، وطريق ذلك أن الله وكل ملكًا، جعل ملكًا عند قبره، وأعطى له القدرة على سمع العباد، فيسمع جميع من يصلي على النبي ، فيبلغه بمن صلى عليه وباسمه كاملاً، فعن أبي بكر الصديق قال: قال : ((أكثروا الصلاة علي؛ فإن الله وكل لي ملكًا عند قبري، فإذا صلى علي رجل من أمتي قال لي ذلك الملك: يا محمد، إن فلان بن فلان صلى عليك الساعة)) ، وقد ورد من حديث عمار بن ياسر قال: قال : ((إن لله تعالى ملكًا أعطاه سمع العباد، فليس من أحد يصلي علي إلا أبلغنيها، وإني سألت ربي أن لا يصلي علي عبد صلاة إلا صلى عليه عشر أمثالها)).
فيرد الله له روحه حتى يرد النبي عليه السلام، فعن أبي هريرة قال: قال : ((ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام)). نعم، يرد الله له روحه فيرد عليه السلام، وهذا في أي بقعة أو مكان من الأرض، فلا يلزم أن يكون أمام قبره أو في المدينة، بل الأمر كما قال الحسن بن علي قال : ((حيثما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني)).
إذًا من خلال هذه الأحاديث يفهم أن النبي في قبره لا يسمَع كلامنا ولا كلام أحد من الخلق إلا من صلى عليه، فإن الله وكل له ملكًا يسمَع العباد. وفي هذا رد على بعض الاعتقادات الباطلة والفاسدة، والتي تقول بأن النبي حي يسمع كلامنا ويسمع دعاءنا، فتجدهم يستغيثون ويتوسلون به: يا رسول الله فرج همي، يا رسول الله أعطني حاجتني، يا رسول الله زوجني.
ولعل الأحاديث السابقة الذكر وما جاء في القرآن الكريم من الآيات الدالة على أنه في قبره ميت لا يسمع دعاءنا ولا كلامنا كقوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34]، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] وهذه الأدلة تقطع دابرهم وتبطل معتقدهم، بل هذا عرضة للوقوع في الشرك، وقد بينا مرارًا خطورة الشرك، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].
ولما كانت الصلاة على النبي من أفضل القربات عند الله فإن وقوعها في أفضل الأيام يزيد من فضلها، فعن أبي مسعود البدري قال: قال : ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة، فإنه ليس يصلي علي أحد يوم الجمعة إلا عرضت علي صلاته)). فخص يوم الجمعة بالذكر؛ لأنه من أفضل الأيام عند الله، عن أوس بن أوس قال: قال : ((إن من أفضل أيامكم عند الله يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه الصعقة، وأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي، إن الله حرم على الأرض أن تكل أجساد الأنبياء)).
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلم ـ يا عبد الله ـ أن للصلاة على النبي آثارا عظيمة وفضائل جمة كثيرة، ترجع على العبد بالخير والبركات إن فعل ذلك، وقد ترجع عليه بالسوء والويلات إن تركها. فمن هذه الفضائل:
1- أن الصلاة على النبي سبب لشفاعته يوم القيامة، فعن أبي الدرداء قال: قال : ((من صلى علي حين يصبح عشرًا وحين يمسي عشرًا أدركته شفاعتي يوم القيامة)).
2- أن الصلاة على النبي سبب لمغفرة الذنوب وتكفير الخطايا، فعن أبي هريرة قال: قال : ((ما من رجل يصلي علي مائة مرة إلا غفر له)) ، وقد ثبت أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله، إني أصلي من الليل أفأجعل لك ثلث صلاتي؟ قال: ((ما شئت)) ، قال: شطر صلاتي؟ قال: ((ما شئت)) ، قال: أفأجعل صلاتي كلها؟ قال: ((إذًا يغفر الله لك ذنبك كله)).
3- أن الصلاة على النبي سبب لتفريج الهموم والمصائب، ومن منا ـ عباد الله ـ لا يتمنى أن يفرج عن همه وكربه، ثبت أن الرجل الذي سأل النبي عن جعل الصلاة عليه في كل قيامه قال له ـ كما في الحديث السابق ـ: أفأجعل لك صلاتي كلها؟ قال: ((إذًا يغفر الله لك ذنبك كله، ويكفيك همي الدنيا والآخرة)). قال القاري: "أي: من أمر دنياك وآخرتك؛ وذلك لأن الصلاة عليه مشتملة على ذكر الله وتعظيم الرسول والاشتغال بأداء حقه عن أداء مقاصد نفسه وإيثاره بالدعاء على نفسه، ما أعظمه من خلال جليلة الأخطار وأعمال كريمة الآثار".
4- أن الصلاة على النبي سبب لاستجابة الدعاء وتركه قد يحجبه، فعن أنس قال: قال : ((كل دعاء محجوب حتى يصلى على النبي)). وهذا للاستحباب لا الوجوب، بدليل ورود أدعية عنه وعن الصحابة وليس فيها الصلاة عليه، ولكن في الصلاة عليه عند الدعاء الفضل الكبير.
5- أن الصلاة على النبي تسلّم صاحبها، جاء عن أبي هريرة قال: قال : ((أيما قوم جلسوا فأطالوا الجلوس ثم تفرقوا قبل أن يذكروا الله تعالى ويصلوا على النبي إلا كانت عليهم ترة من الله، إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)). وهذا يدل على خطر ترك هذا العمل، حيث جعلهم تحت المشيئة بتركه.
فبادر ـ يا عبد الله ـ بالخير، وأكثر من الصلاة عليه، وصل عليه حيث سمعته يذكر، كي لا ينطبق عليك قوله: ((البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي)) ، وقوله حين صعد المنبر فقال: ((آمين)) ، فقيل له: على ما أمنت يا رسول الله؟ فقال: ((أتاني جبريل فقال: رغم أنف رجل ذكِرت عنده فلم يصل عليك، قل: آمين، فقلت: آمنين)).
وقد كان السلف قديمًا يعرفون قدر الأعمال فيعطونها حقها، فهذا إمام المدينة الإمام مالك صحّ أنه كان إذا أتاه أحد يريد أن يحدثه بحديث رسول الله قام فاغتسل أولاً، وتطيّب ولبس أحسن ثيابه، وكان يقول: "كنا ندخل على أيوب السختياني فإذا ذكرنا له حديث رسول الله بكى حتى نرحمه". أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].
(1/4096)
وجوب التوبة والاستغفار
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
رضا عبد السلامي
ابن عكنون
عباد الرحمن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال النبي في العشر الأواخر من رمضان. 2- فضل الاستغفار. 3- وجوب التوبة من الذنب. 4- أسباب المغفرة وتكفير الذنوب. 5- المداومة على الاستغفار في جميع الأوقات.
_________
الخطبة الأولى
_________
فلقد مضى أكثر رمضان ولم يبق منه إلا القليل، فطوبى ثم طوبى لمن عرف كيف يغتنم هذه الأيام، فيا فوز ويا فلاح من يخرج من رمضان وقد غفر له ما تقدم من ذنبه، طوبى لمن كان من أهل الشقاء والنار فأعتقه الله تعالى في هذا الشهر المبارك العظيم، طوبى لمن بادر عمره القصير فعمر به دار المصير، وتهيأ لحساب الناقد البصير قبل فوات القدرة وإعراض النصير.
كان النبي إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله. نعم عباد الله، كان النبي إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شد مئزره أي: اعتزل النساء وجد واجتهد أكثر في العبادة والطاعة وشمر لها. وأحيا ليله أي: سهر ليله فأحياه بالطاعة وأحيا نفسه بسهره فيه. وأيقظ أهله للصلاة، كما جاء ذلك من حديث زينب بنت أم سلمة: لم يكن النبي إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه.
ففي الحديث الحرص على مداومة القيام في العشر الأواخر من رمضان، والإكثار من الذكر والعبادة وقراءة القرآن وكثرة الاستغفار، الاستغفار الذي يعد مفتاحًا للخير ومفتاحًا للرزق ونزول الرحمات، وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3]، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]؛ لأن الذنوب والمعاصي ـ عباد الله ـ حجاب تحجب العبد عن الله تعالى، والابتعاد والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب، وإنما يتم ذلك ـ بل لا يكون ذلك ـ إلا بالعلم والندم والعزم، فإنه متى لم يعلم العبد أن الذنوب من أسباب البعد عن الله لم يندم ولم يتأثر ولم يتحسر على الذنوب ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع القلب ولم يتأثر مما يتعاطاه من الذنوب فإنه لن يرجع ولن يتوب ولن يستغفر، وقد أمرنا المولى بالتوبة والرجوع إليه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المؤمنون:31].
وهذا إرشاد وتوجيه رباني في وجوب التوبة والاستغفار، بل وأن هذا هو أصل الفلاح والنجاة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8].
وقد أمرنا النبي بهذا أيضًا فقال: ((يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)).
أن يخطئ الإنسان فهذا ليس بعيب، وإنما العيب وإنما المذموم هو إصراره على المعاصي وعدم الرجوع إلى الله، كلما أخطأ العبد وأذنب يتذكر رحمة الله وكرمه، وأنه أرحم بعباده من المرأة التي تخاف على طفلها، يتذكر الله وأنه يقول: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
نعم، هذه دعوة من الله، من الرب الغفور الودود الرحيم بعباده، والذي من سعة رحمته وفضله وكرمه يفرح بتوبة عبده ورجوعه إليه، عن أنس قال: قال : ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض مهلكة معه راحلته عليه طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ وقد ذهبت، فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت، فاستيقظ وعنده راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، فالله أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته)).
فكلما أذنب العبد بادر وسارع بالاستغفار والتوبة، وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة، وقد مدح الله عبده داود ووصفه بقوله: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، قيل: الأواب هو سريع الرجوع والاستغفار إلى الله، عن أبي ذر قال: قال : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، وعن أنس قال: قال : ((يقول الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)). ففي هذا الحديث القدسي العظيم تتجلى لنا عظمة الله وسعة رحمته ومغفرته للذنوب.
وقد بين هذا الحديث أن هذه الأسباب الثلاثة يحصل بها المغفرة وتكفير الذنوب وهي:
1- الدعاء: ((إنك ما دعوتني ورجوتني)). والدعاء مأمور به العبد موعود عليه بالإجابة، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وعد الله من دعاه بأن يستجيب له، ولكن قد تتخلف الإجابة بوجود بعض الموانع والأسباب التي تحول بينك وبين استجابة الدعاء، ومن أعظم ما يلزم في الدعاء حضور القلوب ورجاء الإجابة، عن أبي هريرة قال: قال : ((ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة)).
وقد نهي المسلم من أن يستعجل ويترك الدعاء لاستبطاء الاستجابة، يقول: دعوت فلم يستجب لي، بل هذا خطأ وخطأ عظيم، فإن رحمة الله قريب من المحسنين، وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف56].
فليلح وليكثر المسلم والمسلمة من دعاء الله ولا يمل أبدًا، فمن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له، بل من رحمة الله وفضله ورأفته بعبده أن يعوضه بخير مما دعا، فعن أبي سعيد قال: قال : ((ما من مسلم يدعو بدعوة ليس له فيها إثم أو قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يكشف عنه من السوء مثلها)) ، وقال تعالى في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
ثم قال تعالى في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك)). وهذا هو السبب الثاني من أسباب المغفرة وتكفير الذنوب، كثرة الاستغفار حتى قال تعالى: ((لو بلغت ذنوبك عنان السماء)) والعنان قيل: هو السحاب، وقيل: ما انتهى إليه البصر.
وقد ذكر الله صفة أهل الجنة فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135] أي: إذا صدر منهم ذنب أتبعوه مباشرة بالتوبة والاستغفار، ولم يتمادوا في المعاصي، بل يرجعون كلما تذكروا أن لهم ربًا رحيمًا يغفر الذنوب في كل وقت، ما دام العبد يستغفر ويندم على ما اقترفه، عن أبي موسى الأشعري قال: قال : ((إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)).
فينبغي علينا أن نعمر أوقاتنا بكثرة الذكر والتوبة والاستغفار، وخاصة في هذه الأيام العظيمة، وخاصة في ساعة من ساعات الاستجابة، كالثلث الأخير من الليل، أو بين الأذان والإقامة، أو في آخر ساعة من يوم الجمعة، أو في أي وقت من الليل والنهار، فإن العبد لا يدري لعله يدعو بدعاء ويستغفر ويتوب فيوافق ساعة الاستجابة، فقد روي عن لقمان أنه قال لابنه: (يا بني، عود لسانك: اللهم اغفر لي، فإن العبد لا يدري متى ينزل رحمة الله)، وقد جاء عن الحسن: "أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وفي طرقكم وفي مجالسكم وفي سيركم؛ فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة".
نعم، لا يدع الإكثار من الاستغفار في الصباح والمساء، في الليل والنهار، حتى تنزل مغفرة الملك الغفار، بل لعله يختم له بهذا الاستغفار فيغفر له، عن أبي هريرة مرفوعًا: ((بينما رجل مستلق إذ نظر إلى السماء وإلى النجوم فقال: إني لأعلم أن لك ربًا خالقًا، فاللهم اغفر لي، فغفر له)) ، وعن مغيث بن سمي: "بلغنا أن رجلاً خبيثًا تذكر الله فجعل يقول: اللهم اغفر لي، اللهم اغفر لي، فمات، فغفر له".
والمقصود ـ عباد الله ـ هو الاستغفار والتوبة التي تكون مصحوبة بالندم على ما فوته على نفسه من الخير، وعلى ما اقترفه وتعاطاه من الذنوب والمعاصي، والتوبة التي تكون مصحوبة بالندم والعزم على عدم الرجوع إلى المعاصي، فيعاهد المسلم نفسه بقلب صادق مخلص على أنه يتوب إلى الله، ولن يرجع إلى ما كان عليه من قبل، ويكثر من الدعاء راجيًا من الله الاستجابة، ويكثر الاستغفار والتوبة، فلو علم الله في قلبه الصدق والإخلاص فإنه سيوفقه إلى الخير ويجنبه المعاصي.
وقد كان خير خلق الله أجمعين محمد الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يكثر من الاستغفار والتوبة، فعن ابن عمر قال: إنا كنا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد: رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور.
سأل أبو بكر النبي فقال له: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ فقال: ((قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)).
ولا شك أن النبي لا يعلمه إلا ما علم النبي أن فيه صلاحه في الدنيا والآخرة؛ لأنه رؤوف بنا وحريص على إيصال الخير لنا، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
جاء عن عائشة أم المؤمنين: (طوبي لمن وجد في صحيفته استغفارًا كثيرًا)، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
والسبب الثالث من أسباب المغفرة: التوحيد، وهو السبب الأعظم، فمن فقده وضيعه ضيع وفقد المغفرة وتكفير الذنوب، ومن جاء به فقد أتى بأعظم أسباب المغفرة، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فلا بد من التوبة وكثرة الاستغفار والندم على ما ضيعه العبد من وقت في الشهوات والمعاصي، قال أبو الدرداء : (تفكّر ساعة خير من قيام ليلة).
لذلك ـ عباد الله ـ من تفكر في ذنوبه تاب ورجع، ومن تذكر قبيح عيوبه ذل وتواضع، ومن علم أن الهوى يسكن تصبر، ومن تلمح ونظر إساءته لم يتكبَّر.
(1/4097)
التحذير من اتباع الهوى
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
5/4/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغاية من الخلق. 2- أصل المخالفات. 3- حقيقة الإسلام. 4- خطورة اتباع الهوى. 5- اختلاف العقول. 6- الوحي حاكم على العقل. 7- صفات أهل الأهواء.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيّها الناس، فاتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون [آل عمران:102]. التَّقوى على الإيمانِ عَلَم، وبه تثبُت على الصراطِ القدَم.
ثم اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أصدق الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بِدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكلَّ ضلالة في النار.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، فإنَّ الله خلق الخلقَ لعبادته وحدَه والدخولِ تحت أمرِه ونهيِه، قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الجن:56]، وقال عزَّ من قائِل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]. وما أُرسِلت الرّسُل وأنزِلت الكتب وقام سوقُ الجنّة والنار إلا لأجلِ هذه الحقيقةِ العظيمة، ولإخراج العبادِ مِن داعيةِ أهوائِهم إلى عبادةِ خالِقهم ومولاهم، بتوحيدِه واتِّباع أمره واجتنابِ نهيه في كلِّ تفاصيل الحياة، والرّجوع إلى شرعِه في كلِّ الأحوال، والانقياد إلى أحكامِه على كلِّ حال، وكتابُ الله وسنّة رسوله متوافِرةٌ على هذا المَقصد؛ ليكون الإنسانُ على ما يُرضِي ربَّه سبحانه وتعالى، فإن خالف هذا المقصدَ فهو المتوعَّد بالعذاب العاجل في الدنيا والآجلِ في الآخرة: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
أيّها المسلمون، إنَّ أصلَ المخالفات هو اتّباع الهوى والانقيادُ إلى الأغراض العاجِلة والشهوات الزائلة، وقد جعل الله اتّباعَ الهوى مُضادًّا للحقّ كما في قوله سبحانه: فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]، وقال عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الجَحِيمَ هِيَ المَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى [النازعات:37-41]، وقال عن نبيِّه : وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجوم:3، 4]، فقد حصَر الأمرَ في شيئين: الوحي والهوى، فلا ثالثَ لهما.
وقد عُلِم بالتَّجاربِ والعادات كما علِمَ بالنّصّ أنَّ المصالحَ الدينيّة والدنيويّةَ لا تحصُل مع الاسترسالِ في اتِّباع الهوَى والتمشِّي مع الأغراضِ بلا ضَابطٍ؛ لما يلزم في ذلك من الفوضَى والتهارُج والتقاتُل والهلاك.
أيّها المؤمنون، ولا يتِمّ الإسلام حقيقةً إلا بإسلامِ النّفس وقيادِها لبارِيها سبحانَه كما قال عزّ شأنه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ [آل عمران:162، 163].
ذلك أنَّ حقيقةَ الإسلام هو الاستسلام لله والانقيادُ له بالطاعة، فإسلامُ القيادِ لربِّ العالمين والقبولُ والرّضا بحكمه وشرعِه في كلِّ نواحي الحياة فرضٌ لازمٌ، وهو مقتضَى الإسلام، ومَن عارض شرعَ الله برأيه فليس بمستَسلِمٍ لله؛ بل هو عبدٌ لهواه، وهو المقصود بقول الله تبارك وتعَالى: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23]، وقال سبحانه: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [القصص:50].
وإذا كان الاستِسلام لله في كلِّ الأمور هو مقتضى الإسلام فإنّه أيضًا شرطُ الإيمان، قال سبحانه: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وفي الحديث أنَّ النبيَّ قال: ((لا يؤمِن أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعًا لما جِئتُ به)) [1] ، قال النوويّ: "حديث حسن صحيح، رُوِّيناه في كتابِ الحجّة بإسناد صحيح" [2].
أيها المسلمون، ومع أنَّ الشريعة الإسلاميّة قد جاءت بمصالح الخَلق إلاَّ أنها لم توضَع على مقتضَى تشهِّي العبادِ وأغراضِهم، وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ [المؤمنون:71]. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في دَرء تعارض العقل والنقل: "إنَّ الناسَ لا يفصِل بينهم النزاعَ إلاّ كتابٌ منزَّل من السماء، ولو رُدُّوا لعقولِهم فلكلِّ واحدٍ منهم عقل" [3].
عبادَ الله، قد يضعُف إيمان مسلِمٍ فيغلِبه الشيطان على معصيةٍ لا يلبَث أن يتوبَ منها فيتوبُ الله عليه، أو يموت على غير توبَة فأمرهُ إلى الله، إن شاء عذَّبه وإن شاء غفَر له، وهذا شأنُ كثيرٍ من الخلق، وكلُّ ابن آدم خطّاء، وخير الخطَّائين التوّابون، إلا أنَّ الذي يلحَقُه الذّمّ وينطبِق عليه الوعيد هو من يكابِر ويجادِل عن معصيتِه وهواه، ويعارِض حكمَ الله وشرعَه بعقلِه ورأيه، وينصِب نفسَه لنقضِ عُرى الإسلام وحربِ كلِّ فضيلةٍ لا توافِق هواه والدّعوةِ لكلِّ ما تشتهي نفسُه وتهواه، مقتدِيًا بالفلاسِفَة القدماء في اتِّباع عقلِه فيما يحَسِّنه ويقبّحه، حتى يتيهَ في بيداءِ الهوَى وظلمةِ الضلال كالكوز مجَخِّيًا، لا يعرِف معروفًا ولا ينكِر مُنكرًا إلاَّ ما أُشرب من هواه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "واتِّباعُ الأهواء في الدِّيانات أعظمُ من اتِّباع الأهواء في الشّهوات، فإنَّ الأوّلَ حالُ الذين كفروا من أهلِ الكتاب والمشركين" [4] ، وهؤلاء هم مَن عناهم النبيُّ في حديث أبي حذيفةَ رضي الله عنه المخرّج في الصحيحين: ((دُعاةٌ على أبواب جهنّم، من أجابهم إليها قذَفوه فيها)) ، قلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: ((هم من جِلدَتِنا ويتكلَّمون بألسنتنا)) [5] ، وفي سنَن أبي داود بسندٍ حسن أنَّ النبيَّ قال: ((وإنّه سيخرج في أمَّتي أقوامٌ تجارى بهم تلك الأهواءُ كما يتجَارَى الكَلَبُ بصاحبه، لا يبقَى منه عِرق ولا مِفصلٌ إلاَّ دخَله)) [6] ، قال الشّاطبيّ: "وحاصِل ما عَوَّلوا عليه تحكِيم العقولِ المجرَّدة، فشرَّكوها مع الشرعِ في التّحسين والتقبيح، ولو وقفوا هنالِك لكانت الداهيةُ على عظمها أيسَرَ، ولكنّهم تجاوزوا هذه الحدودَ كلَّها إلى أن نصَبوا المحارَبَة لله ورسولِه باعتِراضِهم على كتاب الله وسنّة رسوله " [7].
أيّها المسلمون، إنّه لا اجتهادَ مع النص، ولا قولَ لأحدٍ مع قول الله عزّ وجلّ وقول رسوله ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، بل إنَّ كراهةَ شرعِ الله وابتغاءَ ما سِواه محبِطٌ للعمَل كما في سورةِ محمّد : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9]. قال ابن رجَب: "المعاصي تقَع من تقديم الهوَى على محبّة الله ورسولِه، والبِدَع تقع من تقديم الهوَى على الشّرع ـ وهو أخطَر ـ؛ لِذا سمِّيَ أهلُ البدع أهلَ الأهواء" [8] ، وإذا اعتادَت النّفسُ الرّضاع من الهوى فإنَّ فِطامها عسير.
عبادَ الله، لقد جَعل الله للعقولِ في إدراكها حدًّا تنتهي إليه، ولا يمكِن أن تحيطَ بكلّ شيء، فالإحاطة للباري وحدَه الذي يعلم الأشياءَ على التّمام والكمال والمآل، أما العِباد فإدراكهم قاصِر، ولا يتَّفقون في النّظريَات عادةً، لذلك تراهم يَرتضونَ اليومَ مَذهبًا ويرجعون عنه غدًا، ثم يصيرون بعد غدٍ إلى رأيٍ ثالث، ولو كانَ ما يقضِي به العقل كلُّه حقًّا لكفى في إصلاحِ مَعاش الخلقِ ومَعادهم ولم يكُن لبِعثةِ الرّسل عليهم السلام فائدة ولَكانت الرسالةُ على هذا الأصلِ تُعدّ عبثًا لا معنى له، وهذا كلُّه باطِل.
إنَّ الواجب على المسلم الحذَرُ من هذا المزلقِ الخطير، وهو ردُّ شيءٍ من شريعةِ الله أو كراهتها أو تقديمُ الهوَى والعقلِ على الوحي، ولقد اتَّفق أهل السنة على أنَّ من فعل عددًا منَ الكبائر دون الشّرك فإنّه لا يكفر، ومَن استحلَّها كفَر وإن لم يفعَلها إذا عُلِمت من الدّين بالضرورة.
ومَن أراد النّجاةَ في الدّنيا والآخرة فليَلزَم قولَ الحقِّ سبحانه: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو أهلُ التّقوى وأهل المغفِرة.
[1] أخرجه ابن أبي عاصم في السنة (15)، والخطيب في تاريخه (4/369)، والبغوي في شرح السنة (104)، وصححه النووي في الأربعين، قال ابن رجب: "تصحيح هذا الحديث بعيد جدًا"، ثم ذكر من أوجه ضعفه تفردَ نعيم بن حماد به وهو ضعيف والاختلافَ عليه فيه والانقطاعَ في سنده، وضعفه الألباني في ظلال الجنة (15).
[2] الأربعون النووية: الحديث الحادي والأربعون.
[3] درء التعارض (1/133).
[4] مجموع الفتاوى (28/132).
[5] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7084)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1847).
[6] سنن أبي داود: كتاب السنة (4597) عن معاوية رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/102) ، وابن أبي عاصم في السنة (1، 2)، والطبراني في الكبير (19/376، 377)، واللالكائي في اعتقاد أهل السنة (150)، وصححه الحاكم (443)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3843).
[7] الاعتصام (1/483).
[8] جامع العلوم والحكم (ص389-390) بتصرف.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبا مباركًا فيه كما يحبّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد: أيها المؤمنون، العقل محمودٌ في الإنسان، ولولاه لما اختُصَّ بالتكليف دون سائرِ الحيوان. وقَد خاطب الله العقلَ في آياتٍ كثيرة من كتابِه، وأمر بالتفكُّر والتعقّل؛ بل علَّل له كما في قوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، إلاَّ أنَّ الخالقَ سبحانه كما خلَق العقلَ في الإنسان فقد فاوَتَ بين الناس، وركَّب في طبائعهم الهوَى والشّهوة، وجعل الوحيَ حاكِمًا على كلِّ ذلك ابتلاءً منه سبحانه، فمن أخضَعَ ذلك لله وحدَه فهو المسلِم المستسلِم له المنقادُ لطاعته والمستحِقّ لجنَّته، ومن تمرَّد بعقلِه وأعجِبَ برأيه فهو المتوعَّد بالعِقاب.
وقد ذكَر العلماءُ رحمهم الله أوصافًا لأهل الأهواء والمقدِّمي عقولَهم القاصِرة على الشريعة الكاملة، وهي أوصافٌ انطبقت ولا زالَت تنطبق منذ القرونِ الأولى، فمنها اتِّباع المتشابِه كما قال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [آل عمران:7]، ومنها ذمُّ المتقدِّمين ممّن اشتهر علمُهم وصلاحهم واقتِداء الخلَف بهم خاصّة من الصّحابة، ويخصّ بالمَدحِ مَن يوافق هواه كالفَلاسِفَة وأهل الكلام، ومنها عَدَم تعظيم النصوصِ الشرعيّة والتهاون والتهوينُ في مخالفتها، بل يصِل الحالُ ببعضِهم إلى الاستخفافِ بها والتندُّرِ بمن تمسَّك بها وجعلِه تحت مجهَر النّقد والتثريب وإسقاطه عندَ العامّة، ومنها عدَمُ ظهورِ السنّة في عباداتهم وسلوكِهم وهيئاتهم، ومع هذا فإنَّ أحدَهم يجعل نفسَه مقارنًا لكبار علماء السنة، فهو كمن قال الله فيه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَذَابَ الحَرِيقِ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ [الحج:8-10].
اللّهمّ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلوبَنا على دينك، واهدِ اللّهمّ ضالّ المسلمين.
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ من أفضل أيّامكم يومَ الجمعة، فأكثروا من الصلاةِ والسلام على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبد اللهِ الهاشميّ القرشيّ، فإنَّ صلاتَكم معروضة، ومن صلّى عليه صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا.
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين...
(1/4098)
بشائر الانتفاضة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/10/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نهاية الدولة العثمانية بداية الاعتداء على القدس. 2- منزلة الأرض المقدسة. 3- استمرار الانتفاضة بين البشائر والآلام. 4- ما أُخِذ بالقوة لن يرجع إلا بمثلها. 5- فلسطين قضية كل المسلمين. 6- أهمية التضحية والشهادة في طريق النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن قلب المسلم ليتقطّع وهو يُتابِع أخبار المسلمين في فلسطين، فلا يكاد تغيب شمس أيّ يوم إلاّ والقتلى بالعشرات، والوحشية اليهودية تعدّت كبارَ السنّ فوصلت الأطفال والنساء، والعالم كله شرقيّه وغربيّه يتفرّج، وكأنّ الأمر لا يعنيه.
لقد انكشفت عورة الدول الغربية وبانت سوأتها عندما ادعت حماية حقوق الإنسان، وهي تتفرج على ما يحصل على أرض الإسراء والمعراج راضية بذلك، بل داعمة لكل ما يحصل من وحشية وإجرام، بل إن دولة اليهود تمارس اليوم أنواعًا من الاستفزاز, الاستفزاز لجميع المسلمين على مرأى ومسمع من العالم كله، وبمباركة من الصليبيين الغربيين، وفي مقدمتهم دولة عاد، بل والأمم المتحدة.
لقد تعرض الأقصى وعلى مدار تاريخه الطويل لعدد من حملات الغزو والغصب والاعتداء، وكان آخرها بعد انهيار الدولة الإسلامية التي كان يقوم عليها آل عثمان، وعلى وجه الخصوص بعد إقصاء السلطان عبد الحميد الثاني عن الخلافة عام 1308هـ على يد اليهود، يعاونهم الفرنسيون والإنجليز، ويساندهم الحاقدون من الصليبيين تحت سمع وبصر ما يُسمّى بالمنظمات الدولية، بداية بعُصْبة الأمم ونهاية بالأمم المتحدة ومجلس الأمن وغيرها. إذًا هذا الغصب لبيت المقدس قد حدث بعد انهيار الخلافة، ذلكم السياج الحامي للأمة الإسلامية، وفي غفلة من أبناء المسلمين بعد أن ابتعدوا عن دينهم، ونحّوا كتاب ربهم وسنة نبيهم عن حياتهم.
إن الأرض المقدسة قطعة من العالم الإسلامي، بل هي تُشكّل فلذَة كبده، وستبقى قضية هذه الأرض حيّة في نفوس أبناء هذا الدين حيثما كانوا؛ لأنها جزء من ديار المسلمين، وهي مرتبطة عندهم بالمسجد الحرام والمسجد النبوي، فهي أولى القبلتين وثالث المسجدين، وهي أرض الأنبياء عليهم السلام ومبعثهم، فعلى أرضها عاش إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف ولوط وسليمان وداود وصالح وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام. ويُسنّ شدّ الرِّحال إليه وزيارته، قال رسول الله : ((لا تشدّ الرِّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى)) رواه البخاري ومسلم. وقد أخبر أن الصلاة فيه تعدل مائتي وخمسين صلاة فيما سواه من المساجد، ومِن على هذه الأرض عُرج بالنبي إلى السماء بعد أن أُسري به إليها من البيت الحرام، قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
لقد طغى الصهاينة وعثوا وداسوا ولوّثوا، وتآمرت معهم قوى الكفر على أمة الإسلام تجزئةً وتقسيمًا وتفرقةً وتدميرًا، ولكن العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
إن قضية القدس واحتلال اليهود للأراضي المقدسة والمسجد الأقصى هي قضية العالم الإسلامي الأولى، ويجب أن تكون هي الأولى. والواقع المعاصر في معركتنا مع اليهود يشهد بأن اليهود أرادوا النفاذ إلى أعماقنا واختراق خطوط هجومنا وجهادنا وإزالة صمودنا وتحدّينا، أرادوا إماتة أرواحنا والسيطرة على نفوسنا وقتل هممنا وامتصاص ثوابتنا واجتثاث وجودنا وتركنا نفوسًا مشوّهة وكيانات معوّقة وأفرادًا قانطين يائسين محبطين، لكن هل نجحوا في ذلك؟ الجواب: إنهم لم ينجحوا، ولن ينجحوا بإذن الله، صحيح أنهم تمكنوا من النفاذ إلى أعماق وقلوب بعض منّا، فأصبحوا قانطين مستسلمين، لكنهم أفراد قلائل، أما الشعب الفلسطيني المسلم المجاهد على أرضه فإنه يزداد كل يوم صمودًا أمام اليهود وتحديًا لهم وثباتًا على إسلامه وجهاده ورفضًا للوجود اليهودي، وكلما صَعّد اليهود من بطشهم وتنكيلهم وقتلهم زاد هذا الشعب استعلاءً وتصميمًا وجهادًا.
لقد دُهِش العالم عندما فجّر أبطال فلسطين صاروخهم الأول "قسام1"، وما كاد العالم أن يستفيق من دَهْشته وإذا بصاروخ "قسام2" يدوّي على رؤوس اليهود. وإن أعظم مفاجأة للعالم كانت تلكم الانتفاضة المباركة.
ومع كل ما فعله اليهود تأتي هذه الانتفاضة وتدخل عامها الرابع، لتحمل معها بشائر كثيرة. ومع كل الآلام التي تَجَرّعها الشعب الفلسطيني طوال هذه الفترة من المعاناة والألم بفقدان أكثر من ثلاثة آلاف شهيد وآلاف الجرحى وأكثر من سبعة آلاف معتقل وتدمير كُلّي للبُنَى التحتية الاقتصادية والمدنية والأمنية وغيرها، إلا أن الخسائر لم تكن حَكْرًا فقط على الفلسطينيين، بل تعدّى ذلك إلى العدو الصهيوني، فحسب الإحصاءات الصهيونية فقد قتل ما يزيد عن ثمانمائة وستين قتيلاً، وبلغ عدد الجرحى خمسة آلاف جريح، ما بين عسكري ومدني من بداية الانتفاضة، وهو عدد يزيد عن القتلى الذين خسرتهم إسرائيل في سلسلة حروبها مع جيرانها العرب من عام (48م).
ومن بشائر الانتفاضة انخفاض مُعدّل الإنتاج العام في دولة ما يسمى بإسرائيل بنسبة 6 في المائة حسب تقرير البنك المركزي، وهذا أدّى إلى حالة من الركود والتدهور في الاقتصاد الصهيوني لم يسبق له مثيل منذ عام 1983م، فبعد سنوات من الانتعاش والازدهار والاستقرار إلى حدّ ما جاءت الانتفاضة لتعصف باقتصاد الدولة العِبْرية، وتَحمله إلى أزمة عميقة، وتدخله في ركود لم يألفه من قبل وفي حالة من الاستنفار والخشية والترقب بشكل لم يسبق له مثيل.
ومن البشائر هذه العمليات الاستشهادية التي قضت بشكل شبه تام على السياحة داخل إسرائيل، وحسب التقارير المعلنة فقد انخفضت السياحة بنسبة تفوق 60 في المائة، فضلاً عن الخسائر بمئات الملايين في شركات الطيران. وقد وصف المدير العام للجمعية الإسرائيلية لأصحاب الفنادق تأثير الانتفاضة بأنها الأزمة الأكثر والأطول زمنًا بين كل ما شهدناه، والأسوأ من ذلك أننا لا نرى لها نهاية في الأفق.
ومن البشائر أن الانتفاضة دفعت أعدادًا كبيرة من الصهاينة إلى السعي في الهجرة نهائيًا من إسرائيل إلى الدول الأوربية وأمريكا الشمالية، فقد كشفت التقارير الصهيونية أن بين سبعمائة ألف إلى مليون يهودي غادروا إسرائيل نهائيًا بسبب عدم إحساسهم بالأمن بعد انتفاضة الأقصى والعمليات الاستشهادية.
كما أكدت الصحف الصهيونية أن الانتفاضة دفعت بالمستوطنين في الضفة الغربية وقطاع غزّة إلى إخلاء المستوطنات والانتقال إلى داخل الكيان، بينما ذكرت وزارة الحرب الصهيونية بأن عشرات النقاط الاستيطانية خالية تمامًا من سكانها، وأن أفراد الجيش الصهيوني يتمركزون في هذه المناطق الخالية من السكان لحماية الممتلكات.
لقد أثبتت الانتفاضة أن عهد الازدهار الذي وفّره اتفاق "أوسلو" لنمو المشروع الاستعماري الصهيوني وتوسعه قد بدأ يخفت، بعد أن أصبح الهمّ الأساسي للمستوطنين هو البحث عن توفير الأمن الشخصي لهم تاركين خلفهم مقولتهم القديمة: "الاستيطان في كل مكان من أرض إسرائيل".
تشير الإحصاءات إلى أن 42 في المائة من الصهاينة يودّون مغادرة الكيان والإقامة في دولة أخرى أكثر أمانًا، وأن 10 في المائة بدؤوا في الإجراءات الفعلية للمغادرة.
من جهة أخرى فهناك هجرة داخلية في إسرائيل من المناطق المحاذية لما يُسمّى الخط الأخضر إلى داخل مناطق الدولة، ومن الأماكن المزدحمة إلى مناطق أقل ازدحامًا خوفًا من العمليات الفلسطينية.
ومن البشائر أن الانتفاضة أظهرت عيوب الجيش الصهيوني بشكل واضح وجلي، حيث اتضح للعالم أن هذا الجيش ليس لديه استعداد للتضحية من أجل تحقيق أهداف الصهيونية العالمية، وقد تمثّل ذلك في استخدام إسرائيل المفرط للأسلحة الفتّاكة ضد المدنيين كمروحيات الأباتشي وطائرات (إف16) والدبابات والمدرعات وكل أنواع الصواريخ، والابتعاد عن استخدام قوات المشاة تفاديًا للخسائر الناتجة عن المواجهات المباشرة كما حدث في جنين الصامدة عندما قُتِل ثلاثة وعشرون جنديًا إسرائيليًا عندما حاولوا اجتياح المخيم، فتدخّلت الطائرات والمروحيات لتقصف المخيّم وتدكّه على رؤوس أهاليه في مجزرة بشعة على مرأى من العالم.
ومن البشائر أن الانتفاضة هزّت أواصر المجتمع الصهيوني كله، حتى إن الصحافة الإسرائيلية نطقت بكلمات عجيبة مثل قول أحدهم: "العملية الاستشهادية ليست حدثًا مروّعًا في موقع بعيد عنك حتى تستطيع أن تنساه، ولكنها حقيقة تخرج وتدخل مع نَفَسِك، إنها هنا، إنها الآن، إنها مُرعِبةٌ كالجحيم"، ويقول آخر: "دعونا نأكل ونشرب فسوف نموت غدًا".
هذه الكلمات القليلة تعكس مدى اليأس والخوف الذي يحيا فيه المجتمع بسبب العمليات الاستشهادية في العمق الصهيوني التي أصبحت ضيفًا ثقيلاً على الحياة اليومية للصهاينة، فقد استطاعت هذه العمليات أن تتجاوز كونها دفاعًا عن الشعب الفلسطيني ضد ما تقوم به قوات الاحتلال من ممارسات، بل أصبحت سببًا في شيوع حالة من القلق والتوتر داخل الأسرة الصهيونية، وهو ما أدى إلى زعزعة أمن واستقرار المجتمع الصهيوني بأكمله. هل تعلم أن معظم من يقوم بهذه العمليات من المتعلّمين وأصحاب الدراسات العليا؟!
كل هذا الرعب الذي يحياه الصهاينة جاء ليتراكم همًّا فوق همّ الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمرّ بها دولة الكيان الصهيوني، والتي يرجع جزء كبير منها إلى ما تلحقه هذه العمليات من خسائر فادحة في الاقتصاد الصهيوني، وتسبب حالة من الكساد التجاري في الأسواق والمحلات والمطاعم، بل وصالات الأفراح التي أصبح لا يرتادها سوى المقربين من العريسين.
يقول أحد الكتاب اليهود: "إن الحياة داخل الكيان أصبحت غير معقولة، كل عمل بسيط لا بد أن تفكر فيه أكثر من مرة حتى تفعله، كل مشوار إلى مركز تجاري أو غيره فيه مجازفة، ندخل في يوم جديد مع خوف بأن لا يعود إلينا، وكلنا مدفوعون إلى أخذ قرارات كان المفروض أن لا نواجهها"، ويقول هذا الكاتب أيضًا: "تحولت مدارس أطفالنا إلى مركبات مصفّحة، وأصبح من العمل اليومي تفقد ساحة المدرسة مرتين قبل وبعد اليوم الدراسي للتأكد من عدم وجود قنابل، والعيش في هذا الوضع كاف بأن يسبب انهيارًا نفسيًا لأي إنسان وزرع الخوف في مستقبله".
ومن البشائر أن الانتفاضة خلّفت عادات اجتماعية وأساليب حياة جديدة زادت من تفكك المجتمع الصهيوني المنهار أصلاً، فقد أصبح مجرد الخروج من المنزل مخاطرة قد لا يُحمد عقباها، فقد يركب أحدهم في حافلة أو يمشي في طريق وفجأة يموت إثر انفجار أو طلقة نارية، وحتى الذهاب إلى نادٍ ليلي أو إلى فرح أصبح أمرًا يحتاج إلى تفكير عميق وتخطيط مسبق، وأصبحت العلاقات الاجتماعية شبه معدومة.
ومن البشائر ظاهرة ارتفاع عدد الاتصالات التليفونية بين الزوجات وأزواجهن التي أصبحت من الظواهر الملفتة للنظر في المجتمع الصهيوني، فقد أعربت وزارة الاتصالات الصهيونية عن تذمّرها بسبب الاتصالات التليفونية الكثيرة في الآونة الأخيرة بصورة كبيرة تجاوزت السِّعات الأساسية لكل سنترال، وهو ما يُشكّل عِبئًا كبيرًا على الوزارة وإمكانياتها.
ومن بشائر الانتفاضة انزعاج الشرطة الإسرائيلية من كثرة الاتصالات من المواطنين اليهود وسؤالهم عن الأماكن التي تتوقع الشرطة أن يحصل فيها شيء حتى لا يذهبوا إليها، وهل هناك حماية لهذه الأماكن من العمليات الاستشهادية؟ بلغ عدد الاتصالات عام 2001م سبعة ملايين وخمسمائة ألف اتصال، فضلاً عن الكثير من الاتصالات للتبليغ عن عملية فدائية، وما إن تصل قوات الشرطة فتجده مجرد خوف وشك من المواطن الصهيوني في قطّة أو كلب في الشارع.
ومن البشائر ارتفاع عدد الرافضين لأداء الخدمة في القطاع العسكري، وقد مُلئت السجون العسكرية برافضي الخدمة.
ومن ردود الفعل أيضًا على عمليات جيش الاحتلال الصهيوني في اجتياح المدن الفلسطينية رفض الخدمة احتجاجًا على الأعمال الوحشية التي يمارسها جيش الاحتلال ضد المواطنين المدنيين. وما تزال أصداء العريضة التي قدمها سبعة وعشرون طيارًا عسكريًا صهيونيًا لقائد سلاح الجو الصهيوني تصم الآذان، حيث أبلغوه فيها رفضهم المشاركة في عمليات الاغتيال التي ينفذها سلاح الجو، وعدم استعدادهم لأداء الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة، وأوضح الموقّعون في بيانهم أنهم يرفضون تنفيذ أوامر غير قانونية وغير أخلاقية كتنفيذ غارات جوية في مناطق يسكنها مدنيون.
ومن بشائر الانتفاضة أن زاد تعاطي المخدرات لدى الصهاينة، فهذا المكتب المركزي للإحصاء يقدم تقريرًا في زيادة نسبة تعاطي المخدرات في أوساط المجتمع الصهيوني بمقدار 4 في المائة في العام الأول للانتفاضة، وأرجعت الدراسة السبب أنه ارتفاع حالة الخوف والرعب الذي يعيشه الصهاينة من العمليات الفدائية، بل إن هذا الأمر وصل أوساط المجندين والمجندات في جيش الاحتلال فزاد لديهم تعاطي المخدرات والهيروين بنسب مرتفعة.
ومن البشائر تلك الدراسة التي قام بها أحد المعاهد في إسرائيل تفيد أن واحدًا من كل ثلاثة صهاينة يعاني من اضطراب نفسي، وأنه طرأ ارتفاع كبير على نسبة المتوجهين إلى مراكز الخدمات للصحة العامة، وأن عدد المراجعين لهذه المراكز يوميًا يصل إلى خمسة وعشرين ألف حالة، ويتوجه الكثير من المواطنين للاستفسار عن عوارض أصيبوا بها جرّاء التوتر الأمني والضغط النفسي والكآبة، وتتضح مشاعر القلق والخوف التي تصيب الصهاينة بحقيقةٍ فحواها أنهم يعيشون في ظل مشاعر الخوف من وجود خطر حقيقي يهدّد وجود دولتهم.
إننا لا نتوقع في الظروف الدولية الراهنة إزالة دولة إسرائيل، وإن كنا نتمنى ذلك، ولكن إضعاف هذا العدو هو مقدمةٌ لزواله إن شاء الله، وإذا كانت الانتفاضة تضم أصنافًا شتى من الناس، إلا أنها أوجدت تغيرات إيجابية في بنية المجتمع الفلسطيني، لقد ازدادت الألفة والمحبة بين الناس، وازداد التضامن والتكافل الاجتماعي، ونسي الناس الخصومات والمشاكل، واشتغلوا بعدو واحد، بل إنهم في الخصومات في كثير من الأحيان أصبح مرجعهم العلماء. رجع كثير من الناس إلى دينهم وامتلأت المساجد، وخاصة من الذين بقوا داخل فلسطين المحتلة منذ عام (49م) ممن لم يكونوا يعرفون عن الدين شيئًا، عادوا الآن إلى المساجد. كسرت الانتفاضة حاجز الخوف من اليهود، بل إن ما يقوم به الشباب الصغار في فلسطين يدل على شجاعة وبطولة تدعو إلى الإعجاب.
إن ما يفعله أطفال الحجارة وشباب الإسلام في فلسطين هو مرحلة من مراحل الصراع، ويجب أن تستمر هذه المرحلة ولا تذهب هدرًا، ونستطيع أن نقول: إن انتفاضة الحجارة أنجزت ما لم تنجزه البنادق الإسرائيلية، لقد أزالت الحجارة حجاب الخوف من اليهود الذي هيمن على قلوب أهل الأرض المحتلة خلال السنين الماضية. حطمت الحجارة أسطورة الجندي الإسرائيلي القادر على فعل ما يشاء ولا يزال قابعًا خلف الثكنات والمعدات، لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن ورَاءِ جُدُرٍ [الحشر:14]، فها هي الحجارة قد جَرّدت الجندي الإسرائيلي من سلاحه التقليدي، ووضعته أمام جوهر قوة الإنسان النابع من عقيدته الأخروية، والتي بانعدامها تفقد أسلحة الدنيا قوتها وفعاليتها. نقّت الحجارة القلوب من حجاب الوهن، فالإقبال على الدنيا والهروب من الموت لم يكن لينجي أهل الأرض المحتلة من الذل والهوان ولا من طغيان الاحتلال، وإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7].
بارك الله لي ولكم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عندما تنعدم الخيارات أمام المظلوم وتضيق المدائن بشعب مقهور فإن كل سلوك متوقع وكل سياسات يمكن فهمها وإن صعب تبريرها, غزارة دم يسيل وحرارة دم يغلي ليسا طرفين متكافئين، جيش احتلال مسلح ضد شعب أعزل، القتلى والضحايا في طرف، والقاتل والجلاد الذي يطلق النار في طرف آخر, قاتل ومقتول, وجلاد وضحية. إن القوة والقهر والظلم لا يمكن لها أن تنشئ حقًّا أو تقيم سلامًا, إن العدوان لا يولّد إلا العدوان, وإن مشاعر الشعوب هي معيار الضغط النفسي وهي مقياس بواعث الانفجار. وما أُخِذ بالقوة لا يرجع إلا بالقوة، وإن أصوات البنادق والمدافع لا يُسكتها المؤتمرات والخطب والبيانات، فالغزو المسلح لا يصدّه إلا الكفاح المسلح، وإن سفك دماء الأبرياء لا يوقفه مؤتمرات قمة أو مفاوضات سلام أو استنكارات وشجب.
إن أخوف ما يخافه اليهود بل كل ملل الكفر هو عودة الأمة إلى عقيدة الجهاد، إن الجهاد من السمات البارزة لهذه الأمة في تاريخها الطويل، والجهاد ليس انتفاضة ولا طفرة، وإنما تعبئة وتنظيم وتدريب وإعداد معنوي ومادي بقوة الإيمان وقوة السلاح.
القدس ليست للفلسطينيين ولا للعرب، بل هي لكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فلا يملك أحدٌ كائنًا من كان أن يتنازل عن شبر من أرضها لليهود الغاصبين، وليعلم اليهود ومن وراءهم من الدول الغربية أن القضية لن تنتهي بموافقة فئة من العملاء الذين صنعوهم على أعينهم، وأن الأرض المباركة تأبى أن يأمن فيها اليهود، وإن الأجيال القادمة هي أجيال النصر والظفر بإذن الله تعالى.
إن حياة الشعوب لا تُقاس بحياة الأفراد، وإن الشهيد الذي يموت في أول الطريق يُسهم في تعبيد طريق النصر للشهيد الذي يليه، وإن الجيل بأكمله قد يمضي، لكنه يقيم جدارًا في بناء تحرير المقدسات ترفعه من بعده الأجيال، ولذلك لا يضيره أن يمضي قبل أن تكتحل عيناه بنور النصر، فقد أدّى الواجب ونال الشهادة، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
إن هذه الأمة لم تُمكّن أصلاً إلى اليوم من مواجهة اليهود, اليهود لم يواجهوا إلى الآن أمة الجهاد، ولم يمكّن لكثير من الذين تسيل دموعهم شوقًا إلى الجهاد في سبيل الله, لم يمكّنوا من إظهار حقيقة جبن اليهود وأعوانهم, لا بد للأمة أن تعلم أن الهزائم المتكررة المعاصرة التي حصلت للمسلمين المستضعفين على يد اليهود كانت هزائم أنظمة وليست هزائم شعوب, كانت هزائم لرايات جاهلية، ولم تكن الرايات التي رُفِعت في يوم من الأيام في مواجهة دولة ما يُسمّى بإسرائيل رايات إسلامية, وإنما كانت رايات جاهلية: إما قومية أو ناصرية أو بعثية، وأحسن أحوالها أنها علمانية، وحينما تُرفع الرايات الإسلامية الصحيحة بإذن الله تعالى سينكشف حقيقة اليهود، وسيدخلون في جحورهم كما دخلت الشيوعية ودخل الروس في جحورهم عندما واجهوا رايات إسلامية صحيحة في أرض أفغانستان من قبل واليوم على أرض الشيشان الصامدة.
يَكفي الْقَوَافي وَيَكْفي حِينَ أُلْقِيهَا أَنّي إلَى ثالِثِ البَيْتَيْنِ أُهْدِيهَا
قَلبِي يَتُوقُ إلى تِلْكَ الْبِقَاعِ بِهَا صَلى الرّسُولُ وَأُسرِيَ من نَوَاحِيها
وَالْمُرْسلونَ لَهُمْ ذِكرٌ وَسَابِقَةٌ صَلّى بِهمْ مُنْقِذُ الدّنْيَا وَهَادِيهَا
كَانَتْ فِلَسْطِينُ بِالأَخْيَارِ حافِلةً وَاليَومَ أنْذَالُ صُهيونٍ تُرَدّيهَا
كَانَتْ تُعَانِقُ أَمْجَادًا إذا ذُكِرَتْ حَنّ الفُؤَادُ وَفَاضَتْ عَينُ بَاكِيهَا
وَالله لَوْ كَانَ فِينا مِثْلُ مُعْتَصِمٍ لَمَا ترَبّع شارون عَالِيهَا
وَلو رَأَى عُمَرُ الْفَارُوقُ ذِلّتَنَا لَعبّأَ الجَيْشَ يَرْعَاهَا وَيَحْمِيهَا
وَلَوْ رَآنَا صَلاحُ الدّينِ في خَوَر لَجَرّدَ السّيفَ يَفرِي مَنْ يُعَادِيهَا
مِنْ أَينَ يَهْنَؤُنَا عَيْشٌ وَعَافِيَةٌ وَفِي فِلِسْطينَ آلامٌ تُعَنّيهَا؟!!
مَعَاوِلُ الْهَدْمِ فِي أَرْجائِهَا عَمِلَتْ هَدْمًا وَنَسْفًا وَتَخْرِيبًا وتشْوِيها
حوادِثٌ يَسْتَدِرّ الدّمْعَ مَنظرُهَا وَيَصْرِفُ النّفْسَ عَنْ أَحْلى أَمانِيهَا
هَلْ مِنْ غَيُورٍ على الإسلامِ يُعْلنُهَا حَرْبًا ضرُوسًا وَقُودُ الدّين يُذْكيهَا
هَلْ من مُحبّ لأَرضِ القُدسِ يَنْثُرُ في رُبُوعِها مِنْ صُنُوفِ الْوَرْدِ زَاهِيهَا
قَدْ حَصْحَصَ الْحَقّ لا سِلمٌ ولا كَلِمٌ مَعَ اليهودِ وقدْ أبدَتْ عَوَادِيهَا
قَدْ حَصْحَصَ الْحَقّ لا قولٌ وَلا عَمَلٌ وَلا مَوَاثِيقُ صِدْقٍ عِنْدَ دَاعِيهَا
أَينَ السّلامُ الّذِي نَادَتْ مَحافِلُكُمْ أَيْنَ الشّعَارَاتُ يَا مَنْ بَاتَ يُطْرِيهَا
أَيْنَ المْوَاثيقُ بَلْ أَيْنَ الْوُعُودُ وَمَا قَالَتْهُ مَدْرِيدُ في أيّامِ مَاضِيهَا؟!
تآمُرٌ ليسَ تَخْفانَا غَوَائِلُه وَفِتنةٌ نَتوَارَى من أَفَاعِيهَا
بُشْرَاكَ يَا أَيّهَا الأقصَى بَموْعِدَةٍ قَدْ قَالَهَا المُصْطَفَى والله مُجْرِيها
بُشْرَاكَ صَحْوَتُنا شَعّتْ طَلائِعُهَا وَلاحَ في الأُفْقِ يَحْدُونَا مُنَادِيها
شبَابُنَا لأصُولِ الدّين قَدْ رَجَعوا بِعَزْمَةِ الحَقّ مَا كفّتْ غوَادِيها
أَبْصارُهُمْ نَحْوَ بََيْتِ الله شاخِصَةٌ وَقُوّةُ الدّينِ مَا اهْتَزّتْ رَوَاسيهَا
بَشّرْ زَبانِيةَ اللّيكُودِ أَنّ لَهُمْ يَوْمًا عَبُوسًا سَيَنْعي فِيهِ نَاعِيهَا
لا وَعْدُ بِلْفُورَ يَبْقَى ذِكْرُهُ أَبَدًا وَلا لَقِيطُ يَهُودٍ في مَبَانِيهَا
لَنْ تَسْتَمِرّ يَهُودٌ فِي غِوَايَتِهَا وَسَوفَ يُجْتَثّ قَاصِيهَا وَدَانِيهَا
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم واحفظ دماء المسلمين وأعراضهم في كل مكان...
(1/4099)
قصة حاطب رضي الله عنه وفوائدها
سيرة وتاريخ
القصص
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/4/1419
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سَرْد قصة حاطب. 2- وقفات مع القصة: بين الخطأ والمخطئ، أهمية التريّث والتأنّي، تقويم الرجال، حماية الله لأوليائه. 3- بيان فضل الصحابة رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: روى البخاري في صحيحه عن علي قال: بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد فقال: ((انطلقوا حتى تأتوا رَوْضَة خَاخ، فإن بها ظَعِينة معها كتاب فخذوه منها)) ، فانطلقنا حتى أتينا الرَّوْضَة فإذا نحن بالظَعِينة، قلنا لها: أخرجي الكتاب، قالت: ما معي كتاب، فقلنا: لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب، قال: فأخرجته من عِقَاصِها أي: شعرها، فأتينا به رسول الله فإذا فيه: من حاطب بن أبي بَلْتَعة إلى ناس بمكة من قريش يخبرهم ببعض أمر الرسول ، فقال رسول الله : ((يا حاطب، ما هذا؟!)) قال: يا رسول الله، لا تعجل عليّ، إني كنت امرءًا ملصقًا في قريش أي: حليفًا، ولم أكن من أنفسها، وكان مَن معك من المهاجرين مَن لهم بهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني ولا رِضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله : ((أما إنه قد صدقكم)) ، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال : ((إنه قد شهد بدرًا، وما يدريك لعلّ الله اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) ، فأنزل الله السورة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1].
إنها حادثة غريبة في تاريخ الإسلام، حدثت بأمر الله تعالى لتعطي لنا دروسًا وفوائد، ولترسم لنا شيئًا من ملامح هذا الدين العظيم، وهذه عدة وقفات مع هذه الحادثة:
الوقفة الأولى: إن الخطأ الذي اقترفه الصحابي الجليل حاطب بن أبي بَلْتَعة ليس خطأً يسيرًا، إنه يسمى في قوانين العالم الآن بالخيانة العظمى، والتي يكون عقابها الإعدام، إنه كَشْفٌ لأسرار لو صلت إلى الأعداء ربما أحدثت كارثة للصحابة رضي الله عنهم، ولكنّ الله سلّم.
وهذا الصحابي ليس من عوامّ الصحابة، بل هو من خاصّتهم ومن أولي الفضل منهم، إنه من أهل بدر، ويكفيه شرفًا أنه من أهل بدر، ومع كل هذا يخطئ حاطب هذا الخطأ الفادح؛ ليعلم الصحابة والأمة من بعدهم أن البشر كل البشر ما داموا ليسوا رسلاً معصومين من الخطأ حتى وإن كانوا من خيار الناس فإنهم معرّضون للخطأ.
وإن الإيمان كما هو معروف في عقيدة أهل الإسلام يزيد وينقص، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، فما من إنسان إلا ويتعرض إلى فترات من الضعف تمر عليه في حياته، وقد يكون الضعف بسبب ضعف اتصاله بالله أو بكتابه أو بالمؤمنين، أو بسبب زينة من زينات الدنيا تعلّق بها، أو بسبب معصية ارتكبها، إلى غير ذلك من الأسباب، ولهذا قال فيما رواه أحمد: ((كل بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون)).
إن خطأ هؤلاء القِمَم من الصحابة رحمة للأمة، حتى لا يأتي بعض الناس في زماننا هذا ويضع لبعض البشر هالة من التقديس أو الألوهية كما فعلت النصارى، وكما تفعل باقي الملل المنحرفة، وحتى الفرق المنتسبة للإسلام إذا رفعوا من مراتب أئمتهم إلى منازل لا يستحقها إلا الله جل جلاله. إن البشر لا يصلحون أن يكونوا إلا بشرًا كما خلقهم الله، وإن عدم فهم هذه القضية سبّب لنا أزمة فكرية تمثلت في طائفة من المسلمين الذين ينظرون إلى القدوات من المتديّنين وطلبة العلم الشرعي والدعاة إلى الله على أنهم معصومون من الخطأ، حتى إذا ما أخطأ أحدهم يومًا من الأيام لضعفٍ أصابه فإنهم يستعظمون ذلك الخطأ، ولا يلتمسون له عذرًا، بل إنه يسقط من أعينهم، وربما يعامل معاملة قاسية حتى بعد توبته من ذلك الخطأ، وأعظم من ذلك وأطّم أن يُعَمّم الحكم على طائفة من المستقيمين بسبب خطأ ارتكبه بعضهم.
أيها المسلمون، إن من حكمة الله تعالى أنه لم يجعل لنا قدوة مطلقة في كل شيء إلا رسول الله ، فشرع الله لا يتحمل أخطاء المنتسبين إليه، كما أن خطأ الواحد لا يتحمله غيره، إننا نسمع كثيرًا من يقدح في العلماء أو طلبة العلم أو الدعاة والمصلحين بسبب خطأ وقع فيه واحد منهم، وإن حقيقة هذا المتكلم إنما أراد أن يسِّوغ أخطاءً هو واقع فيها، فإذا ما أُمر بإصلاح وضعه تعذر بأعذار واهية، منها حال بعض الملتزمين مع تلك الأحكام التي فرّط هو فيها، فمن أمثلة ذلك أن تقول لأحد المسلمين: ارفع إزارك لأن النبي قال: ((ما أسفل الكعبين من الازار فهو في النار)) ، فيقول لك: إن جاري شخص متديّن وثوبه ليس مُسبلاً، لكنه يعامل أهله معاملة سيئة، كما أنه لا يُسلّم عليّ إذا لقيني. إن هذه الإجابة إنما هي حَيْدَة أراد بها التخلّص من الموقف، ومغالطة لا تنطلي على من يعلم السرّ وأخفى، وإلا فما علاقة استجابتك أنت بتفريط غيرك في مسألة أخرى.
كما أنه يجب علينا ـ أيها الإخوة ـ أن نفرّق بين من يخطئ ويصرّ على خطئه، وبين من يخطئ ويشعر بخطئه، ويندم عليه، ثم يصلح من نفسه. ولهذا ذكر الله تعالى من صفات المتقين الذين وعدهم بجنة عرضها السموات والأرض ما ذكره في قوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
الوقفة الثانية: إن المسلم مطلوب منه التَرُيّث قبل إصدار الأحكام، فهذا رسول الله مع أنه يُوحى إليه لم يستجعل في الحكم على حاطب ، فلما سمع من حاطب عذره علم صدقه فعفا عنه.
وإن مما ابتليت به الأمة في الأزمان المتأخرة تصدِّي بعض الجهلة لإطلاق الأحكام على الناس ورميهم بالبدعة والانحراف واتهام النيات التي استأثر الله بعلمها، فماذا سيقولون لله يوم القيامة إذا سألهم: على أي شيء استندتم في اتهام نية أخيكم المسلم أنه أراد بكلامه ما فهمتم من فهم سيئ؟ وإنه لمن المؤسف أن يعتذر هؤلاء المسيئون للظن في إخوانهم المسلمين من العلماء والدعاة والمصلحين، من المؤسف أن يعتذروا بأنهم أرادو الإصلاح أو تحذير الناس من أخطاء هؤلاء المحذَّر منهم، وإنه لمن العقل والحكمة والدين أن يرجع هؤلاء عن اتهامهم لغيرهم بغير برهان، وأن يتقوا الله في أعراض المسلمين قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الندم، علمًا بأن سوء الظن وحمل الكلام على أسوأ الاحتمالات إنما هو دليل على سوء طوية الظان وفساد قلبه، وقد قيل: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه.
نسأل الله لنا وللمسلمين العافية، وأن يجعلنا من المتقين لله في القول والعمل، إنه على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، الوقفة الثالثة: إنه من الظلم والطيش أن يُقَوَّم الرجالُ من حادثة واحدة مهما كانت الحادثة ويُترك الماضي المليء بالأحداث والمواقف، فالصحابة رضي الله عنهم ليسوا من مرتبة واحدة، وكذلك غيرهم، فالمهاجرون ليسوا كالأنصار، وأهل بدر ليسوا كأهل أحدٍ، ومن آمن قبل الفتح ليس كمن آمن بعده، والسابق للإسلام ليس كغيره، وكذلك الأعمال تتفاوت، فالمجاهد ليس كغيره، والعالم ليس كمن هو دونه في العلم، فهذا النبي يُذَكّر أصحابه بما فيهم عمر ، يُذَكّرهم بأن حاطبًا ممن شهد بدرًا.
وكذلك بالنسبة لنا في زماننا هذا، فإن الإنسان المسلم إذا اشتهر عنه شهود الجماعة في المسجد ولم يُعهد عنه انحراف ظاهر أو محاربة للدين وأهله فإنه يُلتمس له العذر قدر الإمكان، ولا يُحكَم عليه بحكم عام بسبب خطأ واحد، فإن المسلم قد يتعرض لمواقف تخرجه عن طوره، فقد يتلفّظ بألفاظ غير مناسبة، أو يتصرّف تصرّفًا غريبًا، فلا بد قبل الحكم عليه أن تُعرف سيرته وظروف الحادثة التي أخطأ فيها.
الوقفة الرابعة: إن الله عز وجل قد تكفّل بحماية أوليائه المجاهدين في سبيله في الدنيا، فضلاً عن الأجر العظيم المُدّخَر لهم في الآخرة، فهذا حاطب ينزل الوحي للرسول بالعفو عنه، فالله عز وجل هو الذي يحمي دعوته ورجال دعوته، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، فعلى الدعاة والصالحين أن يتذكروا دائمًا هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا ، وأن يتأمّلوا كيف أنقذ الله نوحًا عليه السلام ومن آمن معه في السفينة، وأغرق كل من على الأرض في طوفان لم يتكرّر في تاريخ البشرية، وكيف أنقذ الله إبراهيم عليه السلام وهو يُلقَى في النار؛ لتظهر بعد ذلك دعوة التوحيد رغم أنف الطاغية النمرود، وكيف أنقذ الله موسى عليه السلام ومن آمن معه من فرعون وجنوده، وأطبق الله عليهم البحر، ويختم السلسلة محمد الذي مُلِئت حياته عليه الصلاة والسلام بالأعاجيب التي أظهر الله فيها كيف يحمي الله نبيه، وكيف يحمي حملة دينه في كل زمان.
إنه درس لنا لنعلم أن النصر إنما هو من عند الله لمن استحقه من المسلمين، وأن الحافظ هو الله سبحانه وحده، وما الخطط والتدبير والسلاح إلا أسباب لا تنفع إلا بمشيئة الله، فعلى الدعاة والمخلصين أن يستمروا في طريقهم دون خوف ولا وجل ما داموا قد أصلحوا ما بينهم وبين ربهم، فإن ماتوا فهم شهداء، وإن حَيوا صاروا أعلامًا يرتفع عليها الحق، ويخسأ بسببها الباطل وأهل الباطل.
ولا ننسى ـ أيها الإخوة ـ أن في هذه الحادثة وغيرها من الحوادث والأحاديث النبوية والآيات القرآنية ما فيه بيان المنزلة العظيمة التي ارتضاها الله لصحابة نبيه ، فما أضلَّ قومًا طمس الله بصائرهم، فزعموا أنهم يتقربون إلى الله ببغض أصحاب النبي ، وصار في طقوس دينهم وعبارات صلواتهم سبُّ الصحابة، ولا سيما الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله عن الصحابة أجمعين، نسأل الله العفو والعافية.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/4100)
قيمة الإنسان
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
21/3/1413
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محمد نبي الرحمة. 2- حقيقة التكريم الإلهي للإنسان. 3- الإيمان هو سرّ تكريم الإنسان. 4- حقوق الإنسان في الإسلام محفوظة مكفولة. 5- كيف نال الغربي حقوقه؟ 6- أهمية الحقوق الواجبة للإنسان. 7- خطورة إهدار حقوق المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يقول الله تعالى لنبيه : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. ما معنى هذه الآية؟ إنها آية عظيمة جدًا، لو تدبّرها الإنسان وتأملها، معناها أن النبي إنما بُعث رحمة للناس كلهم، جاء بالنور والهدى، جاء بالصراط المستقيم، بُعث بالشريعة السمْحة التي ليس فيها ظلم ولا جَوْر ولا حَيْف على أحد، حتى جاء الرسول بغاية الرحمة وغاية العدل وغاية التكريم لهذا الإنسان، فلماذا يُعرِض الناس عن الرحمة؟! ولماذا لا تسعى الأمة للعدل؟! ولماذا تسعى البشرية للشقاء؟! يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ كَلاَّ [الانفطار:6-9]، وقال عز وجل: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
نعم، لقد كُرّم الإنسان أي تكريم، وأي تكريم لهذا الإنسان من أن يخلق الله أبا البشر آدم عليه السلام، يخلقه بيده، ثم ينفخ فيه من روحه، ثم يسجد له ملائكته، أي تكريم لهذا الإنسان أن يأتي ذكر كل التفاصيل التي يحتاجها في كلام رب العالمين.
لو أردت أن تدرك تكريم الله جل وعز لهذا الإنسان فتصفّح كتاب الله بتأمّل، تجد أن كل ما في القرآن يتعلق بهذا الإنسان: مِمّ خُلِق؟ وكيف خُلِق؟ ولماذا خُلِق؟ والمراحل التي يتقلّب فيها، والمآل الذي يصير إليه، ثم تجد أن الآيات تتكلم عن الإنسان حين يكون فقيرًا وحين يكون غنيًا، حين يكون صحيحًا وحين يكون مريضًا، حين يكون مؤمنًا وحين يكون كافرًا، في الدنيا والآخرة، الرجل والمرأة، الصغير والكبير، الأمير والمأمور، الحاكم والمحكوم.
فلو وجهنا سؤالاً بعد هذا عن سرّ التكريم لهذا الإنسان: ما سرّ تكريم الله جل وعز لهذا الإنسان؟ هل السرّ في ذلك أن الإنسان يملك جسدًا قويًا؟! كلا، فإن الفيل والأسد أشد قوة من الإنسان، فتكريم الله للإنسان ليس من أجل جسمه وحفظه والعناية به من كل ما يضرّه وإن كان ذلك مطلوبًا، فلهذا يجب أن ندرك خطأ تصوّر بعض الناس الذين يهتمّون بأجسادهم، ويعتبرونه هو كل شيء، فتجدهم يهتمّون بالجسم من أجل الجسم. انظر لهؤلاء الذين يشتغلون بالرياضة، ويهتمون بالجسم فقط عناية ولياقة ونحو ذلك، ولا يهتمون بجوانب أخرى، كأنهم يربّون عجولاً آدمية، فلا بد من العناية بالنفس بجانب العناية بالجسم.
وصدق الشاعر حيث يقول:
يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبتَ نفسك فيما فيه خسران
أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
إن اهتمام الناس هذه الأيام بأجسادهم فاق بكثير اهتمامهم بذواتهم وجوهرهم، خذ مثالاً على ذلك: الأطعمة، أقلّ إنسان عنده من الخلفية بأنواع الأطعمة الشيء الكثير، أسمائها وأشكالها وألوانها، ومأكولات شرقية، وهذه غربية، وتلك أكلة خليجية، ثم بعد ذلك نضيف الحلويات بألوانها وأذواقها، ولو جئت لهذا الإنسان نفسه الذي وكأنه دليل الطبخ، لو أتيت لهذا الإنسان نفسه وسألته ربما عن أبسط الأحكام المتعلقة بصلاته أو زكاته أو حجه ما عرف.
إذًا ليس السرّ في تكريم الله للإنسان هو جسمه، لكن سرّ التكريم لهذا الإنسان هو بهذا الإيمان الذي يحمله، بهذا الوحي الرباني الذي بين جنبيه، يقول ابن مسعود : (إذا سمعت في القرآن : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، فأرعها سمعك، فإنها إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه).
فالإيمان الذي يتميز به الإنسان هو سرّ تكريمه، فاحرص ـ أخي المسلم ـ على الإيمان في نفسك وأهلك وولدك كحرصك على حفظهم من الأوبئة والأمراض، أو كحرصك على توفير المآكل والمشارب والألبسة لهم، وإلا تكون قد أهدرت الكرامة التي منحك الله، يقول الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [التين:4-6]. فالإنسان بغير إيمان أسفل سافلين، أحطّ من البهائم، يقول سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
إذا كان سرّ تكريم الإنسان هي هذه العبودية لله، فلو أهدر الإنسان هذه العبودية وترك الإيمان صارت البهائم أعلى منزلة منه عند الله عز وجل؛ لأنها لم تكلف بهذه الأشياء.
أيها المسلمون، إن الله عز وجل جعل لهذا الإنسان حقوقًا يجب مراعاتها، لا يوجد دين غير الإسلام كفل حقوق الإنسان، لماذا؟ لأن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ينظر للإنسان نظرة صحيحة.
الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ما جاؤوا ولا بُعثوا إلا لتحرير هذا الإنسان من أنواع من العبوديات؛ إما عبوديات الحكام والتسلط على رقاب الناس، وإما عبوديات المال والجشع وأكل أموال الناس بالباطل، وإما عبوديات الجاه والمنصب واستغلاله في غير ما يرضي الله عز وجل، وإما عبوديات الزوجة، أو عبوديات النفس والهوى، حتى عبوديات العادة التي يحكمها الناس فيما يخالف شرع الله عز وجل، فما جاء الرسل إلا لتحرير الإنسان من هذه العبوديات.
إذًا حقوق الإنسان محفوظة في الإسلام، لا يحتاج الإنسان في الأصل تحت ظل الإسلام أن يطالب بحقوقه التي منحه الله عز وجل؛ لأنها مكفولة له أصلاً. فلا نحتاج في الإسلام كما يحصل عند الغرب، مطالبات ومظاهرات تخرج ومسيرات، يطالبون فيها بشيء من حقوقهم التي سلبها النظام الجائر عندهم.
الدول الغربية حصل فيها الإنسان على بعض حقوقه، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها، نعم، إن دول أوربا وأمريكا وغيرها حصل فيها الإنسان الذي يعيش تحت تلك الحكومات حصل فيها على بعض حقوقه، دون النظر إلى عقيدته غالبًا، حتى صارت الدول الغربية تتغنّى بما يسمى بحقوق الإنسان، ومنظمة حقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة التي تحترم حقوق الإنسان ـ زعموا ـ.
الغرب ـ أيها الإخوة ـ يجب أن نعرف أنهم لم يصلوا إلى هذا إلا بعد أن عاشوا مدة طويلة جدًا في هضم حقوق الإنسان الذي يقرأ ويطلع على تاريخ أوربا قبل عدة قرون، يرى ألوان الاضطهادات والتسلط على رقاب الناس، وما يسمى بنظام الإقطاع وغيره من ألوان الظلم، حتى وصلوا في هذه الفترة إلى ما يزعمونه الآن أنهم حققوا حقوق الإنسان، أما في ظل الدولة الإسلامية أما تحت حكم شريعة الله فإن قضية حفظ حقوق الإنسان تعتبر قضية بدهية، لا تحتاج إلى مطالبة، ولا تحتاج إلى مظاهرة، لماذا؟ لأنها جزء من الدين؛ ولذا فإنه يجب على الإنسان المسلم أن يعرف حقوقه، بحيث إنه لو جاء أحد وسلبه هذه الحقوق يكون على دراية وعلم بذلك، أما أن تُسحق حقوق الإنسان ويُستغفل المسلم فإن في هذا إهدارا لكرامة الإنسان وظلما وتعدِّيًا على حقوق الإنسان.
أيها المسلمون، هناك سُنّة إلهية لا بد من ضبطها ومعرفتها، لا بد أن تكون واضحة عندما نتحدث عن حقوق الإنسان، وهو أن كل نظام وكل مجتمع وكل دولة لا يُراعى فيها حق الإنسان كاملاً كما أمر الله عز وجل فإن هذا النظام وذلك المجتمع لا بد أن ينهار وأن يسقط إما عاجلاً وإما آجلاً؛ لأن مخالفة سنن الله عز وجل الكونية والشرعية تخالف الفطرة، وأي مخالفة للسنن الربانية لا يمكن أن تدوم، فإن الله عز وجل يمهل ولا يهمل، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين [الأنفال:30].
خذ مثالاً على ذلك: الشيوعية، كيف كانت نظرتها للإنسان؟ وكيف كانت تعامل الإنسان؟ وكيف هضمت حقوق الإنسان ومنعت عنه الملكية الفردية؟ وغير ذلك من ألوان التسلط الذي كانت تمارسه، فكانت نهايتها السقوط. إذًا أية جهة وأي نظام لا يحترم حقوق الإنسان فإنه لا بد لهذا النظام من السقوط. وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن الإنسان ـ أيها الإخوة ـ عليه حقوق وواجبات، وكذلك في المقابل له حقوق وواجبات، ولذا فيجب على الإنسان أن يعرف ما عليه من حقوق وواجبات والتزامات لغيره كي لا يقصّر فيها وكي لا يحاسَب عنها، وكذلك في المقابل يجب على الإنسان أن يعرف ما له من حقوق وما له من التزامات من غيره له كي يطالب بها ويسأل عنها.
أيها المسلمون، الدين جاء ليقول للإنسان: كما أنك مطالب بحقوق وواجبات وأشياء تجاه أهلك وجيرانك والدولة التي تعيش فيها، كذلك فإن لك حقوقًا وواجبات وأشياء على زوجتك وجيرانك والدولة التي تعيش فيها.
ومع الأسف، إن غالب الكلام الذي نسمعه الآن عن الحقوق أو عن الواجبات غالبًا ما يكون الكلام عن الحقوق التي يجب عليك أن تؤديها، فنسمع من يقول: إنه يجب عليك تجاه أهلك كذا وكذا؛ أن تعطيهم، وأن تهتم بهم، وأن وأن... ويجب عليك تجاه جيرانك كذا وكذا؛ أن لا تؤذيهم، وأن تزورهم، وأن تستر عيوبهم، وأن وأن... ويجب عليك تجاه الدولة التي تعيش فيها كذا وكذا، أن تحترم النظام الفلاني، وأن لا تخالف النظام الفلاني، وأن وأن...
وكل هذا طيب وجيد ومطلوب، لكن الأشياء والحقوق التي لي كإنسان لماذا لا يُتحدَّث عنها؟ ولماذا قَلّما نسمع من يتكلم عنها؟ ولماذا تقطع ألسنة من يثير ويبين بعض الجوانب التي للإنسان من حقوق؟
أنا مطلوب مني أن أفعل كل هذه الأمور وغيرها تجاه أهلي ولهم حق عليّ، لكن في المقابل أليست لي حقوق يجب أن توفى لي؟! فلماذا لا نتحدث عنها ونتكلم عنها ونثيرها في مجالسنا ومجتمعاتنا؟!
وكذلك الجيران، أنا مطلوب مني أن أحفظ حقوقهم، وأكون آثمًا عند الله عز وجل لو فرطت في حقوق الجيران، لكن في المقابل أليست لي حقوق يجب على جاري أن يؤديها إليّ؟! فلماذا يوجّه الحديث إليّ ولا يوجّه مثله للجار؟!
كذلك الدولة التي يعيش فيها الإنسان، نعم، مطلوب منه كفرد تحت ظل هذه الدولة أو تلك أن يرعى حقوقها، وأن يحترم أنظمتها، ولا يخالف أوامرها، لكن في المقابل أليس لهذا الإنسان حقوق عظيمة في عنق هذه الدولة أو تلك يجب أن يأخذها كاملة غير منقوصة؟! فلماذا يكون الكلام دائمًا على ما هو مطلوب من الفرد، ولا نسمع كلامًا على ما هو مطلوب وواجب على الدولة أن تقدمه للإنسان الذي يعيش تحت ظلها كإنسان؟!
لذلك أيها الإخوة، ضَمُر الإنسان، وقلّت أهميته، وصار ليس له قيمة، حتى صار عند هذا الإنسان قناعة وصار يعتبر أن كل ما يُقدّم له إنما هو هدية وإحسان لا حق له فيه، هذا ليس من حقك، إنما هو تفضّل عليك. وهذا خطأ كبير ومفهوم خاطئ يجب أن يصحح.
كذلك أيها الإخوة، لو أردت أن تعرف المجتمع الذي أنت تعيش فيه أو البلد الذي أنت تسكنه في أي بقعة في العالم، لو أردت أن تعرف هل هذا المجتمع وهذا البلد يرعى حقوق الإنسان أم لا؟ فانظر إلى نفسك، لا تنظر إلى غيرك، انظر إلى نفسك، هل تشعر أن لك قيمة في ذلك المجتمع أو ذلك البلد؟ هل أنت محترم ومقدّر لمجرّد كونك إنسان، دون النظر إلى وظيفتك أو نسبك أو مكانتك الاجتماعية أو مالك الذي تملكه؟ مجرد كونك إنسان هل أنت مقدر محترم؟ لو كان كذلك فاعلم أن مجتمعك ذاك أو بلدك ذاك يرعى حقوق الإنسان، ولو كان عكس ذلك لا تقدَّر ولا تحترم إلا لمجرد مالك أو جاهك أو نسبك فاعلم أن حقوق الإنسان ضائعة في تلك البقعة من العالم.
من الخطأ أن نتكلم عن الحقوق التي على الإنسان ولا نتكلم عن الحقوق التي للإنسان؛ لأن المشكلة ليست مشكلة فرد، بل هي مشكلة الأمة ومشكلة المجموع. تصوّر أمة كاملة تُسْلب حقوقها، وتُسْلب كرامتها، وتُسْلب ما أعطاها الله بنص الكتاب ونص السنة، ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن الأمة كلها قد سُلبت إنسانيتها، والدين كله ما جاء إلا لحفظ حقوق الإنسان، والإنسان المسلم مقدّر مكرّم، ليس من حق أحد أن يعتدي عليه بقول أو بفعل.
إن إهدار حقوق الإنسان المسلم هو هدم للأمة، في كثير من بلدان العالم الإسلامي يعيش المسلم اليوم وضعًا لا يتناسب مع إنسانيته فضلاً عن دينه، فهو مطارد في طعامه، مطارد في شرابه، مطارد في عرضه، مطارد حتى في أمنه، لا يأمن على نفسه ولا على أهله، وكل هذا يُغطّى بشعارات طالما سمعناها مثل الحرية والديموقراطية والمساواة وغيرها.
إذا كان الله عز وجل يقول في كتابه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6]، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ وهو مشرك، فكيف بحقوق المسلم المؤمن؟! ماذا تتصور حال الأمة لو فقد المسلم فيها قيمته؟! كيف تريد منه أن ينفع؟! كيف تريد منه أن ينتج؟! كيف تريد منه أن يخلص في عمله وهو لا يشعر بأن النظام الذي هو خاضع له يحترم حقوقه ويقدره كإنسان؟! فكيف نطالبه بعد ذلك بالجد والتفاني في عمله وهو يشعر أنه لا قيمة له ولا إنسانية له في الوسط الذي يعيش فيه؟! هذا الإنسان لا يكون إلا كَلاًّ على مولاه، لا يأتِي بخير. إذًا لا يستغرب الرشوة بعد ذلك، ولا يستغرب الاختلاسات، ولا يستغرب التهرب من المسؤولية على كافة المستويات، ولا يستغرب عدم الإخلاص والاستهتار في العمل، لماذا؟ لأن الفرد صار يشعر بأن النظام يستهتر به، ولشعور الإنسان وتأكده في بعض الأحيان من اختلاس النظام له قبل أن يختلس هو، فماذا على الإنسان أن يفعل؟! ليس أمامه إلا الصبر، عسى الله أن يفرّج عن هذه الأمة، وأن تعود للمسلم قيمته وكرامته التي منحه الله إياها.
هوّن عليك فكل الأمر ينقطع وخلّ عنك عَنَان الهمّ يندفع
فكل همّ له من بعده فرج وكل أمرٍ إذا ما ضاق يتسع
إن البلاء وإن طال الزمان به فالموت يقطعه أو سوف ينقطع
وقال آخر:
إن الأمور ذا انسدّت مسالكها فالصبر يفتق منها كل ما ارتَتَجا
لا تيأسن وإن طالت مطالبه إذا استعنت بصبرٍ أن ترى فرجا
أَخْلِق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومُدمِن القَرْع للأبواب أن يلجا
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا...
(1/4101)
كيف يحفظ الأمن؟
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
12/3/1415
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمن في حياة الفرد والمجتمع. 2- خطورة انفلات الأمن. 3- لماذا الحديث عن الأمن؟ 4- وسائل حفظ الأمن: إقامة الحدود، حفظ العقول، حفظ شرع الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن من أعظم نعم الله عز وجل على بني الإنسان ـ بعد نعمة الدين والإسلام ـ هي نعمة الأمن والاستقرار. إن حاجة الإنسان للأمن والاطمئنان كحاجته إلى الطعام والشراب والعافية للأبدان، كيف لا وقد جاء الأمن في القرآن والسنة مقرونًا بالطعام الذي لا حياة للإنسان ولا بقاء له بدونه؟! وقد امتن الله به على عباده، وأمرهم أن يشكروا هذه النعم بإخلاص العبادة له، فقال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف [قريش:3، 4]، وقال تعالى في الوعد بحسن الجزاء وعظيم المثوبة للمؤمنين: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
إذا عَمّ الأمنُ البلادَ وألقى بظلّه على الناس أَمِنَ الناس على دينهم، وأَمِنَ الناس على أنفسهم، وأَمِنَ الناس على عقولهم، وأمنوا على أموالهم وأعراضهم ومحارمهم. ولو كتب الله الأمن على أهل بلد من البلاد سار الناس ليلاً ونهارًا لا يخشون إلا الله. وفي رحاب الأمن وظلّه تعمّ الطمأنينة النفوس، ويسودها الهدوء، وتعمّها السعادة، قال : ((من أصبح آمنًا في سِرْبه معافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حِيزت له الدنيا بحذَافِيرها)).
إذا اجتمع الإسلام والقوت للفتَى وكان صحيحًا جسمه وهو في أمن
فقد ملك الدنيا جميعًا وحازها وحقّ عليه الشكر لله ذي المنّ
وكذلك العكس أيها الإخوة، فإذا سلب الله بعزته وقدرته وحكمته، لو سلب الأمن من بلد ما فتصوّر كيف يكون حال أهله، لو خرج ابنك إلى الشارع لا تأمن عليه، لو ذهبت بنتك إلى المدرسة خشيت أن لا ترجع إليك، لو ذهبت أنت إلى العمل جلست على مقعد العمل قلقًا على نسائك ومحارمك في المنزل، إضافة إلى سرقات البيوت وسرقة السيارات وقُطّاع الطرق في السفر وغيرها كثير. كم من البلاد الآن عاقبهم الله جل وعلا بنزع الأمن من بلادهم، فعاش أهلها في خوف وذُعر، في قلق واضطراب، ليل نهار، لا يهنؤون بطعام، ولا يتلذّذون بشراب، ولا يرتاحون بمنام، كل ينتظر حَتْفه بين لحظة وأخرى، عَمّ بلادَهم الفوضى، وانتشر الإجرام، لا ضبط ولا أمن، فنسأل الله عز وجل أن يرحمنا برحمته، وأن لا يوصلنا إلى هذه النهاية.
أيها المسلمون، عباد الله، إن الله عز وجل سَنّ سننًا في كونه، وحدّ حدودًا في شرعه، من خالفها أو تجاوزها فلا يلومنّ بعد ذلك إلا نفسه، ومن ذلك أنه سبحانه وتعالى جعل هناك حدودًا، وأمر عباده بحفظ أشياء لو ضيّعوها ولم يحفظوها كان عقابهم سَلب الأمن منهم، فلننبّه على بعض منها، فإذا كنا واقعين فيها نتدارك ذلك بتوبة نصوح، قبل أن يحل بنا ما حل بغيرنا، وإن لم نكن واقعين بها فالحمد لله، ولنحذرها ونتوقّاها.
أيها الأحبة، لا أخفيكم سِرًّا إذا قلت لكم: إن الذي دفعني إلى التحدث في هذا الموضوع ما سمعت وسمعتم مما يحصل في الآونة الأخيرة من كثرة السطو على المنازل وكثرة السرقة من المحلات التجارية وكسرها ليلاً بل وسرقة السيارات. في خلال الأسبوع الماضي لوحده أكثر من ثلاث بيوت ممن حولنا كُسرت وسُرقت. إذًا كم يكون إحصائية الأسبوع الماضي لوحده على مستوى المدينة، ثم ما حولنا من المدن، ثم على مستوى المنطقة، إلى أن نصل إلى مستوى البلاد، أتصور أنها أرقام مذهلة مروّعة.
حقًّا إن هذا الموضوع يُزعج، وإذا لم يوضع له حدّ ونهاية فإن العواقب لا تُحمد عُقباها. ليس بعد ضياع الأمن شيء. الإنسان يمكن أن يعيش وهو يعاني الفقر، الجوع، العطش، لكن لا يعيش مع الفوضى والقلاقل والاضطرابات. إذًا لا بد أن يسعى كل منا لتحقيق الأمن ودفع أسباب نزعه، منها ما هو واجب الفرد، ومنها ما هو واجب المجتمع، ومنها ما هو واجب الدولة.
وإليكم ـ أيها الأحبة ـ وسائل حفظ الأمن:
فمما يجب حفظه لكي يحفظنا الله عز وجل بأمنه أن نحفظ ونحافظ على ما شرعه تعالى من إقامة الحدود على المجرمين التي فيها زجر للناس، فالله سبحانه وتعالى قد شرع لنا وأمرنا بأن نقيم حدوده المنصوص عليها في كتابه أو في سنة رسوله ، وذلك لكي ينزجر الناس عن الجرأة على المعاصي التي نهى الله تعالى عنها، ولكي يستقر حال المجتمع، ولكي يأمن الناس على أموالهم وأعراضهم، فلو أَمِن السارق بأن يده لا تُقطع وأَمِن الزاني بأنه سوف لا يُرجم وأَمِن شارب المسكر بأنه لا يُجلد وأَمِن المرابي والغاش والمزوّر بأنه لا يُعزّر ماذا تتوقعون أن يكون حال ذلك المجتمع؟! هل يسوده أمن؟! لا والله، وإذا أقيم حدٌّ فعلى ضعيف، أو على من لا يد لديه عند فلانٍ أو فلان، تمرّ الأشهر تلو الأشهر في طول البلاد ولا نسمع ولا نرى حدودًا تقام، فهل يدل هذا على التزام الناس كلهم بشرع الله، وأن المجتمع قد خلا من الفواحش والمنكرات؟! لا نتصور ذلك ونحن نرى ونسمع كل يوم ما يشيب له الرضيع من الأهوال والمزعجات من تفسخ الناس وانحلالهم وارتكابهم لأفظع الجرائم، إلا من رحم الله.
لقد لعن الله أقوامًا كان إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ولهذا لمّا جاء ذلك الصحابي يستشفع في المرأة التي سرقت لكي لا يقيم رسول الله عليها الحد قال : ((والله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٌ يدها)).
بإقامة حدود الله عز وجل كانت تسير الضَّعِينه من شرق البلاد إلى غربها لا تخشى إلا الله والذئب على غنمها، لكن عندما صار المسلمون يعطلون إقامة حدود الله عز وجل ولا يأبهون بها بل ويستبدلونها بتشريعات من عقولهم العفنة في كثير من الأحيان وفي كثير من البلاد عاقبهم الله سبحانه بنزع الأمن منهم.
إن إقامة حدود الله تخيف الناس وتردعهم، فيثبت بذلك أركان المجتمع، أما أن يسرق ذاك الألوف المؤلفة ثم يترك، ويبلع الآخر بالملايين ولا يعرض أصلاً على حكم الله، والثالث يرتكب الزنا والفواحش والذين حوله يعلمون عنه والناس تتناقل أخباره وروائح جرمه ومنكراته بلغت كل مكان ولا يقام عليه حد، والرابع سِكّير عِرْبِيد بل قد جعل من بيته مصنعًا للخمر ثم يُتستّر عليه ويُسكت عنه، أسألكم بالله: من أين يُنزل الله أمنه؟! وكيف تريدون بعد ذلك أن يرحمنا الله بأمنه ويكلأنا برعايته إذا ضيعنا حدوده؟!
إذا أمِن الناس العقوبة استشرى فيهم الجريمة والفوضى، قال الله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [البقرة:229].
أيها المسلمون، ومما يجب علينا حفظه لو أردنا حفظ الأمن علينا أن نحفظ العقول، أن نحفظ عقول المسلمين مما يفسدها ويضرّ بها، سواء كانت مفسدات مادية أو مفسدات معنوية. يجب حفظ عقول الناس من كل مسكر ومن كل مخدّر، وكذلك المحافظة على عقول الناس من التصورات الفاسدة والأفكار المنحرفة، عقول الناس لو أصابها العَطَب وأصابها الخَدَر ماذا تكون النتيجة؟! النتيجة إقبال الناس على الشهوات وانتشار المعاصي، مما يُقلّل وازع الخوف من الله عند الناس، فيفعل كل شخص ما يريد، فيترتب عليه الفوضى وقلة الأمن.
أيها المسلمون، إن المحافظة على عقول الناس من أهمّ أسباب حفظ الأمن؛ لأن الناس لو استقامت عقولهم صاروا يفكرون فيما ينفعهم ويبتعدون عما يضرهم، لو استقامت عقول الناس لاستقامت حياتهم؛ لأنهم سوف يبحثون عما يرضي الله فيفعلونه، ويتعرفون على ما يغضب الله فيبتعدون عنه. إذًا هناك علاقة كبيرة بين المحافظة على عقول الناس وبين استقرار الأمن عندهم.
أيها المسلمون، ماذا تتوقعون من مجتمع أهمل عقول الناس، بل سعى إلى إفسادها وتخريبها ماديًا ومعنويًا؟! لم يحكم الرقابة والضبط عمّا يفسد عقول الناس ماديًا، كذلك لم يحكم الرقابة والضبط عما يفسد عقول الناس معنويًا، فإذا أتيت إلى إعلامه هالَكَ ما ترى فيه، سواءً كان إعلامًا مقروءًا أو مسموعًا أو مرئيًا، جميع أنواع المخالفات الشرعية من غناءٍ محرم وصور عارية وأخلاق رديئة وكلمات فاضحة وأفكار علمانية وحداثة حقيرة تافهة، كل هذا وغيره سيطر على عقول الناس فأفسدها، ولم يدع لها لحظة واحدة تفكر في دينها، أو تفكر في عاقبتها، أو حتى تفكر فيما ينفعها في دنياها، فصار أغلب الناس ـ إلا من رحم الله ـ يعيش في خواءٍ فكري وفراغ عقلي، لو جاءه الخطر لم يعلم عنه، ولو سُلبت خيراته ما علم عنه، بل لو استبدل حاله من أمن إلى فوضى وجريمة لربط هذا بالحضارة المعاصرة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، حافظوا على هذه النعمة نعمة العقل، لا تفسدوها بتصورات وأخلاق دخيلة على دين الإسلام، حافظوا على عقولكم من كل ما يضرها في دينها ودنياها، وحافظوا على عقول أبنائكم ذكورًا وإناثًا، خصوصًا من هذا الخطر الجديد الذي داهم علينا بيوتنا البثّ المباشر، زبالة الغرب ونتنه وسمومه، يجلس أمامه الرجال والنساء، الصغار والكبار، على أنه مسلسلات أو مسرحيات أو نحوها، وهي في حقيقتها دعوة إلى النصرانية أو دعوة إلى اللادينية، إضافة إلى ما فيها من نشرِ وبثّ الأخلاق السيئة والعادات الرذيلة التي يمجّها صاحب الفطرة السليمة. كيف نريد من شبابنا بعد ذلك أن لا يسرق؟! فأين الأمن في الأوطان والغرب قد وجّه كل قواه علينا؟! هو يقصد التغريب، ونحن تلقيناه على أنه ترفيه وتسلية.
إن الأمن لا يمكن أن يحصل إلا في ظل شريعة الله حكمًا وتحاكمًا، مع المحافظة على العقول وفق منهج الله، ولو فرطنا في تحكيم كتاب الله فبطن الأرض خير لنا من ظاهرها، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، لا أمن في الأوطان إلا بحفظ الدين، ومما أمرنا الله بحفظه حفظ الأنساب، فحرم الله الزنا، قال الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، وقال تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، فكما أن الله حرم الزنا حرم جل وعز وسائله من النظر المحرم أو الكلام المحرم والسماع المحرم.
فإذا أردنا أن يحفظ الله علينا الأمن علينا أن نمنع كل وسيلة تؤدّي إلى الزنا أو إلى أسبابه أو حتى مقدماته، وإن التساهل في مثل هذه الأمور شرّه عظيم وعاقبته معروفة، والناظر بعين البصيرة إلى مجتمعات المسلمين اليوم يرى تسيّبًا واضحًا في هذا المجال، شباب تائه على وجهه، حائر في أمره، يُسِّرَ له كل سبل الفاحشة والرذيلة، لا وازع ديني يمنعه، ولا نظام صارم يردعه، بل إن أنظمة بعض الدول الإسلامية تشجّع على الزنا وتدافع عنه وتسنّ له القوانين والأنظمة، والدول الأخرى أسباب الانحراف فيها ميسورة، اختلاط في كل مكان، وتعرٍّ في كلّ ناحية، ثم لا نريد أن يقع الناس في الشهوات المحرمة، هذا لا يمكن أبدًا.
فخلاصة القول: أن نمنع كلّ وسيلة تؤدّي إلى الزنا لو أردنا أن يحفظ الله علينا أمن بلادنا، أما أن يبقى الفساد على ما هو عليه وكل يوم في ازدياد وأن يبقى تبرج النساء في الشوارع والأسواق والشواطئ على ما هو عليه وكل يوم في ازدياد وأن يُترك دعاة التغريب والعلمنة ينشرون فسادهم وانحلالهم وكل يوم في ازدياد وتمكين، فإذا بقيت هذه الأمور على ما هي عليه فلا شكّ بأن هذا من أقوى أسباب نزع البركة والخير والأمن من البلاد.
فنسأل الله عز وجل أن يوفّقنا إلى نشر كل خير وفضيلة، ومنع كل شرر ورذيلة.
اللهم آمنّا في أوطاننا، اللهم وَلِّ علينا خيارنا...
(1/4102)
مشاعر دافئة
الأسرة والمجتمع
الوالدان
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
13/7/1423
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الإحسان إلى الوالدين. 2- الأنبياء وبرّ الوالدين. 3- برّ الوالدين من أعظم القربات. 4- نبأ أويس القرني. 5- السلف والإحسان إلى الوالدين. 6- من صور البرّ. 7- خطورة العقوق وبعض صوره. 8- استمرار البرّ بعد وفاة الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: حديثنا اليوم حديث حنان وذِكرى، حديث شوق وعِبْرة، حديث حُبّ واشتياق، إنه حديث عن أغلى وأعزّ وأكرم إنسانين لك يا أخي الحبيب، إنهما والداك.
إننا في زمن قد عظمت غُربته واشتدّت كُربته، فلم يرحم الأبناء دموع الآباء، ولم يرحم البنات شفقة الأمهات، في هذا الزمان الذي قلّ فيه البِرّ وازداد فيه العقوق والشرّ، كم نحن بحاجة إلى من يذكّرنا فيه بحقّ الوالدين وعظيم الأجر لمن برّهما؛ لذا كانت هذه الكلمات.
عباد الله، لقد أكثر الله من ذكر شأن الوالدين، وأوجب الإحسانَ إليهما لفضلهما وعظيم معروفهما، قال الله تعالى: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:215]، وقال سبحانه: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا [الأحقاف:15].
أيها المؤمنون، لما كان بِرّ الوالدين من القُرُبات العظيمة تَسَابق إليها الأتقياء من عباد الله من الأنبياء والرسل وأتباعهم، فبِرّ الوالدين منهج الأنبياء والمرسلين وعمل الكرام والصالحين، فهذا نوح عليه السلام يخص والديه بالدعاء بالمغفرة بقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28]، وكذا حال عيسى ابن مريم عليه السلام حين قال عنه الله عز وجل: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، وكذا يحيى عليه السلام قال الله عز وجل عنه: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، وأما ما كان من شأن الخليل عليه السلام مع أبيه ودعوته إياه وتحبّبه له فأمْرٌ قد بَلَغَ في البرّ غايته وفي الإحسان نهايته، قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:41-45]، ولما هدّده أبوه: لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم:46] قابَل التهديدَ بالإحسان والغِلْظَة بالأدب والاحترام: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47].
فيا معاشر الأحبة، اعلموا أن بِرّ الوالدين من خير ما تقرّب به المتقرّبون وتسابق فيه المتسابقون، وهو من أحب الأعمال إلى الله وأفضلها بعد الصلاة، سئل النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ وفي رواية: أي العمل أفضل؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((بِرّ الوالدين)) ، قيل: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) رواه البخاري ومسلم. فبر الوالدين مُقدّم حتى على الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، مما يدل على عظيم حقّهما، ولهذا جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)). وفي رواية لمسلم: أقبل رجل إلى النبي فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد؛ أبتغي الأجر من الله عز وجل، قال: ((فهل من والديك أحد حيّ؟)) قال: نعم، بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله عز وجل؟)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)).
فبِرّ الوالدين من أعظم القُرُبات وأجل الطاعات، ببرّهما تتنزّل الرحمات وتُكشف الكُربات، برّ الوالدين مفتاح كل خير ومِغْلاق كل شرّ، بِرّ الوالدين من أعظم أسباب دخول الجنان والنجاة من النيران، بِرّ الوالدين سبب في بسط الرزق وطول العمر، بِرّ الوالدين سبب في دفع المصائب وسبب في إجابة الدعاء، فأين أنت من هذه النفحات يا عبد الله؟!
هل أتاك نبأ أويس بن عامر القرني؟! ذاك رجل أنبأ النبي بظهوره، وكَشَفَ عن سَنَاء منزلته عند الله ورسوله، وأمر البَرَرَة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته وابتغاء القُربى إلى الله بها، وما كانت آيته إلا بِرّه بأمّه، وذلك الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه: كان عمر إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس بن عامر فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مُراد؟ قال: نعم، قال: كان بك بَرَص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله يقول: ((يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد اليمن من مُراد ثم من قَرن، كان به أثر برَص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدةٌ هو بارٌّ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل)) ، فاستغْفِرْ لي، فاستغَفَرَ له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟! قال: أكون في غَبْرَاء الناس أحبّ إليّ. وعن أصبغ بن زيد قال: إنما منع أويسًا أن يَقدم على النبي برّه بأمه.
فانظر ـ يا رعاك الله ـ المنزلة التي بلغها هذا البارّ بأمّه حتى كان من شأنه أن يُخبِر عنه المصطفى ، وأن يقول لعمر: ((إن استطعت أن يستغفر لك فافعل)).
ولما علم سلفنا الصالح بعظم حق الوالدين قاموا به حق قيام، فهذا محمد بن سيرين إذا كلم أمه كأنه يتضرع، وقال ابن عوف: دخل رجل على محمد بن سيرين وهو عند أمه فقال: ما شأن محمد؟! أيشتكي شيئًا؟! قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه. وهذا أبو الحسن علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهم كان من سادات التابعين، وكان كثير البرّ بأمّه حتى قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صَحْفَةٍ!! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها، فأكون قد عققتها. وهذا حَيوة بن شُريح، وهو أحد أئمة المسلمين والعلماء المشهورين، يقعد في حلقته يعلم الناس، ويأتيه الطلاب من كلّ مكان ليسمعوا عنه، فتقول له أمه وهو بين طلابه: قم يا حَيوة، فاعلف الدجاج، فيقوم ويترك التعليم.
وكان الفضل بن يحيى بارًّا بأبيه، وكان أبوه لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فقُدِّر أن سُجِنا سويًّا، فمنعه السجان من إدخال الحطب إلى السجن ليسخّن الماء لأبيه إذا قام لصلاة الفجر، فلما أخذ الأب مضجعه من النوم قام الفضل إلى إناء من النحاس مملوء بماء فأدناه من المصباح، وبقي واقفًا حتى استيقظ والده فتوضأ بالماء الساخن، ثم إن السجان منعه من تسخين الماء بالمصباح فأطفأ المصباح، فعمد الفضل إلى الإناء فأخذه في فراشه، وألصقه بأحشائه متحمّلاً برودة الماء حتى أصبح وقد فَتُر الماء. وهذا الإمام أبو حنيفة رحمه الله في بِرّه بأمه حيث كانت تأمره أن يذهب بها إلى حلقة عمر بن ذر حتى تسأله عما أشكل عليها، مع أن ابنها فقيه زمانه، وكان يذهب بها رحمه الله.
وكان منصور بن المعتمر يفلي رأس أمه. وقال محمد بن المنكدر: بات أخي عمر يصلي، وبِتُّ أغمز رجلَ أمي، وما أحبّ أن ليلتي بليلَته. وأمّا الإمام ابن عساكر محدّث الشام فقد سئل عن سبب تأخر حضوره إلى بلاد أصبهان فقال: لم تأذن لي أمي. وهذا محمد بن بشار المشهور بِبُنْدَار الإمام الحافظ راوية الإسلام جمع حديث البصرة كان يقول: "أردت الخروج ـ يعني: الرحلة لطلب العلم ـ فمنعتني أمي، فأطعتها فبورك لي فيه".
رحم الله هؤلاء الأئمة الكبار البَرَرَة الأبرار، ما أعظم شأنهم مع والديهم، هذه بعض نماذج بِرّ السلف لآبائهم وأمهاتهم، فماذا نقول نحن اليوم؟! وماذا نفعل نحن اليوم؟!
أوصيكم جميعًا ونفسي أولاً ببِرّ الوالدين، وأن نسعى لإرضائهما وإسعادهما في هذه الدنيا، أسألك بالله يا أخي: ماذا يريد منك أبوك إلاّ أن تقف معه حين يحتاجك؟! وماذا تريد منك الأم إلا كلمة حانية وعبارة صافية تحمل في طياتها الحب والإجلال؟!
ادفع عنهما الأذى فقد كانا يدفعان عنك الأذى، لا تحدثهما بغلظة أو خشونة أو رفع صوت، جنبهما كل ما يورث الضجَر، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا [الإسراء:23]، قال الحسين بن علي رضي الله عنهما: (لو علم الله شيئًا من العقوق أدنى من الأفّ لحرّمه). تخَيّر الكلمات اللطيفة والعبارات الجميلة والقول الكريم، تواضع لهما، واخفض لهما جناح الذل رحمة وعطفًا وطاعة وحسن أدب. لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم، بعد أن صرفا طاقتهما وصحتهما وأموالهما في تربيتك وإصلاحك. تأمّل ـ يا رعاك الله ـ قول ربك: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ [الإسراء:23]، إن كلمة عِندَكَ تدل على معنى التجائهما واحتمائهما وحاجتهما، فلقد أنهيا مهمتهما، وانقضى دورهما، وابتدأ دورك، وها هي مهمتك، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23].
نعم، إن حقهما عظيم، ولكن الجأ إلى الله بالدعاء لهما في حال الحياة وبعد الممات اعترافًا بالتقصير، وأملاً فيما عند الله، رَّبِّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]، ولن يستطيع الأبناء والبنات مجازاة الآباء والأمهات إلا أن يجد الولدُ الوالدَ مملوكًا فيشتريه فيعتقه، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا يجزي ولدٌ والدَه إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)).
احذر ـ أيها المسلم ـ عقوق الوالدين، فإنه من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وكيف لا يكون كذلك وقد قرن الله برّهما بالتوحيد فقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، وقال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الأنعام:151]. ((إذا ظهر في أمّة محمّد أربع عشرة خصلة فانتظروا ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتتابع كنظام قُطِع سِلكه)) ، ومن هذه الخصال: ((إذا أطاع الرجل زوجته وعقّ أمه وأدنى صديقه وأبعد أباه)) ، فلا إله إلا الله ما أكثر هذا في هذا العصر.
احذر ـ يا عبد الله ـ عقوبة الله نتيجة لعقوقك، قال النبي : ((كل الذنوب يؤخر الله تعالى ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين، فإن الله يُعجّله لصاحبه في الحياة قبل الممات)) ، وقال النبي : ((رغم أنفهن رغم أنفه، رغم أنفه)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)) ، قال مجاهد رحمه الله: "لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه"، وسئل كعب الأحبار عن العقوق فقال: "إذا أمرك والداك بشيء فلم تطعهما فقد عققتهما العقوق كله".
اعلم ـ أيّها العاقّ ـ أنك مجزيّ بعملك في الدنيا والآخرة، يقول العلماء: كل معصية تؤخَّر عقوبتُها بمشيئة الله إلى يوم القيامة إلا العقوق، فإنه يُعجّل له في الدنيا، وكما تدين تُدان، والجزاء من جنس العمل.
ذكروا أن رجلاً حمل أباه الطاعن في السنّ وذهب به إلى خِرْبة فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي؟ فقال: لأذبحك، فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحنّ أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بد فاعلاً فاذبحني هنا عند هذه الصخرة، فإني قد ذبحت أبي هنا.
عباد الله، إن لعقوق الوالدين صورًا كثيرة، من ذلك إظهار العُبُوس عند مقابلتهما، ومن صور العقوق أيضًا رفع الصوت عليهما، أو مقاطعة كلامهما بزجرهما وفرض الرأي عليهما، وهذه الطباع مما يذمها العقلاء مع الناس، فكيف إذا كان ذلك مع الوالدين؟! ومن الصور النظر إلى الوالدين شَزرًا، وذلك بإحداد النظر إليهما، وكأنه ينظر إلى أحد أبنائه لزجره، قال مجاهد رحمه الله: "ما برّ والديه من أحدّ النظر إليهما"، ومن الصور التأخّر في قضاء حاجاتهما، والتسويف بها إلى أن يسأم الوالدان من سؤاله بعد ذلك، ومن الصور القيام بحقّ الزوجة والاعتناء به في مقابل عدم الاعتناء بحق الوالدين وعدم الاكتراث له، بل وتضييعه.
عن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قالها: ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) والحديث متفق عليه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمَنّان)) أخرجه النسائي، وعن عمرو بن مُرَّة الجهني قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت الصلوات الخمس وصمت رمضان وأديت الزكاة وحججت البيت فماذا لي؟ فقال رسول الله : ((من فعل ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، إلاّ أن يَعُقّ والديه)) رواه الإمام أحمد والطبراني.
إن عقوق الأبناء تئنّ له الفضيلة، وتبكي له المروءة، وتأباه الديانة، ولا يرضى به العاقل فضلاً عن المتديّن؛ لأن فعله منكر عظيم وقبح جسيم. عقوق الوالدين جحود للفضل ونكران للجميل. كم هو عار وشَنَار أن ينسى الواحد منا ضعفه وطفولته، ويعجب ويغترّ بشبابه، ويترفّع على والديه بتعليمه وثقافته أو بشهادته ومركزه. أين الإيمان؟! وأين المروءة والوفاء؟! بل أين الرحمة والإنسانية؟! لقد قَلَبَ أولئك ظهر المِجَنّ، وقابلوا الإحسان بالإساءة، ألا بئس ما صنعوا، وتبًّا لما فعلوا.
وإنك لتأسف حين تجد من عليه مظاهر الصلاح والاشتغال بشيء من العلم والدعوة ولا يجعل لأبويه حقًّا من التقدير والرعاية والبِرّ والعناية، ومهما كان على الأبوين من تقصير فبِرّهما واجب والإحسان إليهما متعيّن، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
فللَّه كم دمعة ذرفها والد أو والدة على ما يلاقيان من الجحود والاستكبار من أولادهما، كم زفرة حَرّى انطلقت من أب مَكْلُوم أو أمّ رَؤُوم، يشتكيان الهجر والقطيعة ومن أقرب الناس إليهما. ويا لله، كم من أب وأم تمنى أن لم يُرزق بأولاد شَقِي معهم أول عمره، وها هو يشقى بهم في آخره، كم حسرة دُفِنت مع والد في قبره، وكم غُصّة ضاق بها جوف أمّ لم تحتمل ما ترى، كم من والد تمثل مع الشاعر قائلاً:
غَذَوتُك مولودًا وعُلتُك يافعًا تُعَلُّ بِما أحنِي إليك وتَنهَل
إذا ليلةٌ نابتك بالسُّقْم لَم أبِت لذكرك إلا ساهرًا أَتَمَلْمَل
كأني أنا المطروقُ دونك بالذي طُرِقتَ به دوني وعَيناي تهمل
تخاف الرّدَى نفسي عليك وإنها لتَعلم أنّ الْموت حَتمٌ مؤجل
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي إليها مدى ما كنتُ فيك أؤمِّل
جعلت جزائي غِلْظَة وفَظَاظَة كأنك أنت المُنعم المُتفَّضل
فليتك إذ لَم تَرْعَ حقّ أُبُوّتي فعلتَ كما الجارُ الْمجاوِر يفعل
فأوليتني حقّ الْجوار ولَم تكن عليّ بِمالي دونَ مالِكَ تبخل
كيف تَنْسَى أمَّك يا عبد الله؟! إنها سبب وجودك، تلك المربّية المشفِقَة، لُطْفها ملأَ جَنَانها، حملتك في أحشائها تسعة أشهر، تألمت من حملك، وكابدت آلام وضعك، حملته كُرهًا، ووضعته كُرهًا، رأت الموت بعينيها عند ولادتك، صرخت وبكت، ولما بَصُرت بك إلى جانبها سُرعان ما نسيت آلامها، وعَلّقَت فيك جميع آمالها، رأت فيك البهجة والحياة وزينتها، ثم شُغِلَت بخدمتك ليلها ونهارها، تُغذيك بصحتها، طعامك دَرُّها، وبيتك حِجْرُها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، سهرت ونمت، تألمت لألمك، سهرت لراحتك، وحملت أذاك وهي غير كارهة، وتحمّلت أذاك وهي راضية، تحيطك وترعاك، ولو خُيّرت بين حياتك وموتها لطلبت حياتك بأعلى صوتها، كم عاملتها بسوء الخلق مرارًا، فدعت لك بالتوفيق سِرًّا وجهارًا، كم كانت تجوع لتشبع أنت، وتسهر لتنام أنت، وتتعب لتستريح أنت، تترك كثيرًا مما تشتهيه خشية ضرر يعتريك، فهي بك رحيمة، وعليك شفيقة. أنسيت عندما كنت صغيرًا؟! إذا غابت عنك دعوتهَا، وإذا أعرضت عنك ناجيتَها، وإذا أصابك مكروه استغثتَ بها، تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها أو لحَظَتك بعينها، فكيف بعد ذلك تعقّها؟!
رأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً قد حمل أمه على رقبته وهو يطوف بها حول الكعبة، وقد أتى بها من بلاده، فقال: يا ابن عمر، أتُراني جازيتها؟ قال: (ولا بطلقةٍ واحدةٍ من طلقاتها، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا). الله أكبر! ما أعظم الحق، وما أشد تقصير الخلق.
ولما ماتت أم إياس القاضي المشهور بكى عليها، فقيل له في ذلك فقال: "كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة، فغلِّق أحدُهما". وكان هناك رجل من المتعبدين يُقَبّل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يومًا على أصحابه فسألوه، فقال: "كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام الأمهات".
فلله درّهنّ من أمهات مشفقات ومربيات رقيقات ووالدات حانيات، فجزاهنّ الله عنّا جنة عرضها الأرض والسموات.
لأمك حق لو علمت كبير كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي لَها من جواها أنَّةٌ وزفير
وفِي الوضع لو تدري عليك مشقة فكم غُصصٍ منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها ومن ثديها شُربٌ لديك نَمِير
وكم مرّة جاعت وأعطتك قوتَها حُنُوًّا وإشفاقًا وأنت صغير
فضيّعتها لَما أسنّت جهالة وطال عليك الأمر وهو قصير
فدونك فارغب فِي عميم دعائها فأنت لِما تدعو إليه فقير
أما أبوك فهو السبب في وجودك، إنه الأب الغالي والوالد الحاني، الموجّه القيّم والمربّي الفاضل، وأنت له مَجْبَنَةٌ مَبْخَلَةٌ، يكدّ ويسعى، ويدفع عنك صنوف الأذى، ينتقل في الأسفار ويجوب الفَيَافِي والقِفَار ويتحمّل الأخطار بحثًا عن لقمة العيش لك ولإخوانك، يُنفق عليك، ويُصلحك ويُربّيك، إذا دخلتَ عليه هَشّ، وإذا أقبلتَ إليه بَشّ، وإذا خرج تعلقت به، وإذا حضر احتضنت حِجْره وصدره، إذا غبت سأل عنك، وإذا تأخرت انتظرك، يُنشِّئ ويُنفق، ويُربّي ويُشفق، إذا رآك ابتسم مُحَيّاه وبَرَقَت ثَنَاياه، فكم يبذل لتعليمك وتربيتك وتغذيتك وتنشئتك، فجزاه الله من والد كريم وأب رحيم.
هذان هما والداك، جميلهما يربو على كل جميل، وإحسانهما يفضل كل إحسان، إنهما جنتك ونارك، بذلا من أجلك النفس والنفيس والصحة والراحة، لقد أدّيا واجبهما، وأنفقا زهرة عمرهما في رعايتك، وإذا بالسنوات تَزْدَلِف بهما، وتمضي تباعًا على عَجَل، فيعلو الشيب مَفَارِقَهما، ويدبّ الضعف إلى بدنيهما، وقد كبرت أنت وإخوانك، واستقلّ كل واحد منكم بحياته الخاصة مع شريك حياته، فيلتفت الوالد ينظر من حوله، فلا يرى عنده إلا زوجه العجوز التي لا تكاد تخدم نفسها، فضلاً عن القيام بشؤون زوجها الذي أُنهِكت قواه وضَعُفَت حركته وعَجز عن خدمة نفسه في كثير من حاجاته، وأصبح في حالٍ يحتاج فيها إلى مَن حوله، ولا سيّما أبناءه وبناته؛ ليردّوا إليه الجميل أو بعضه مما بذله في سبيلهم، وليتقربوا إلى الله تعالى بخدمة والديهم اللذين طالما تعبا ليستريحوا، واهتمّا واغتمّا لينعموا، فما هو موقفك الآن ـ يا عبد الله ـ وهما في هذه الحال؟!
إن برّ الوالدين ليس درسًا يُلقّن ولا كتابًا يؤخذ، إنما هو سلوك وتربية. برّ الوالدين إكرام وإحسان، توقير وعرفان. برّ الوالدين دعاء واستغفار، بذل وعطاء مِدْرَار. برّ الوالدين قلب ينبض بالحبّ ويد مبسوطة بالبذل وجنة طيبة بالنوال، شعور يتدفّق بالوفاء ويجري مع الدم، فينبثق له الوجه ويبشّ. لا يدعو والده باسمه، ولا يمشي أمامه، ولا يُجلسه خلفه، يمتثل أمره، يلبّي دعوته، لا يمنّ بالبرّ له، يتحاشا كل كلمة نابية أو إشارة طائشة تفيد تأفّفًا أو تضجّرًا. إذا كان على أحدهما دين مالي أدّاه أو صوم قضاه، وإذا لم يحجّا حجّ عنهما.
نسأل الله جل وتعالى أن يوفقنا لبرّ والدينا، إنه سميع قريب مجيب.
أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إنهما والداك يا عبد الله، إذا ذكرتهما ذكرت البرّ والإحسان، إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان، مضت أيامهما، وانقضى شبابهما، وبدا لك مشيبهما، وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران منك قلبًا رقيقًا وبِرًّا عظيمًا، وقفا ينتظران منك وفاءً وبِرًّا، والجنة أو النار لمن برّهما أو عقّهما، فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسئ لهما، طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما، طوبى لمن أعزهما ولم يذلهما، طوبى لمن أكرمهما ولم يهنهما، طوبى لمن نظر إليهما نظر رحمة وودّ وإحسان وتذكر ما كان منهما من برّ وعطف وحنان، طوبى لمن أسهر ليله ونصب في نهاره وأضنى جسده في حبهما، طوبى لمن شمّر عن ساعد الجد في برّهما، فما خرجا من الدنيا إلاّ وقد كتب الله له رضاهما.
فيا من أبكى أبويه، يا من أبكى أبويه وأحزنهما وأسهر ليلهما وحمّلهما أعباء الهموم وجرّعهما غُصَص الفراق ووحشة البعاد، هلاّ أحسنت إليهما وأرضيتهما وأضحكتهما، كم آذيتهما مرارًا وهما يدعوان الله سرًّا وجهارًا، ويبكيان عليك وأنت صغير إشفاقًا وحذارًا، ويبكيان منك وأنت كبير خوفًا وفرقًا، فهما أليفا حُزن وحليفا همّ وغمّ، فلما بلغت موضع الأمل ومحل الرجاء قلت: أَسِيح في الأرض أطلب كذا وكذا، فارقتهما على كبرهما باكيين، وتركتهما في وَكْرِهما محزونين، كم أطعماك حلوًا وجرّعتهما مُرًّا، فإن غاب شخصك عن عيونهما لم يغب خيالك عن قلوبهما، ولئن ذهب حديثك عن أسماعهما لم يسقط ذكرك عن أفواههما، ولطالما بكيا ولم يذوقا غَمْضًا إن تأخّرت عن الرواح في المساء، فكيف إذا أغلقا بابهما دونك، وأبصرا خُلوّ مكانك، ففقدا أنسك، ولم يجدا رائحتك، فكان ملاذهما سَحّ الدموع، فصار الولد خبرًا، وكل غريب ولدهما، وكل ميت هو لهما، وسل عن حديثهما إذا لقيا إخوانك وأبصرا أقرانك، ولم يبصراك معهم، فهنالك تُسكب العبرات وتتضاعف الحسرات. ارجع إلى والديك وجاهد فيهما، أحسن صحبتهما، الزم خدمتهما، أطع أمرهما، أدخل السرور على قلبيهما.
وإذا فقدتهما وابتليت بموتهما فإنك لا تذكر إلا حينئذ فضلهما، وتَمقُت نفسك على إساءتك لهما، وتقول: ويحي، ماتا قبل أن أبرّهما، ويا خسارتي إذ لم أقم بردّ جميلهما، ولم أشكر حسن صنيعهما، وقد رحلا قبل أن يجدا مني ما يرضي نفوسهما. قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهنّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده)).
ذُكِر أن شابًا اسمه مُنازِل كان مُكبًّا على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والدٌ صاحب دين، كثيرًا ما يعظ هذا الابن ويقول له: يا بني، احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد، وكان إذا ألَحّ عليه زاد في العقوق، ولما كان يوم من الأيام ألَحّ على ابنه بالنصح على عادته، فمدّ الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهدًا ليأتينّ بيت الله الحرام فيتعلق بأستار الكعبة ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام فتعلق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
يا مَن إليه أتى الحجّاج قد قطعوا عَرضَ المَهامِهِ من قُربٍ ومن بُعدِ
إنِّي أتيتك يا مَن لا يُخيِّبُ مَن يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمَد
هذا مُنازِلُ لا يرتدُّ من عَقَقِي فخذ بحقّيَ يا رحمن من ولدي
وشُلَّ منه بحولٍ منك جانبه يا من تقدَّس لم يولَد ولم يلِد
فقيل: إنه ما استتمّ كلامه حتى يبس شِقُّ ولده الأيمن، نعوذ بالله من العقوق.
فيا أيها الحبيب، يا من مات والداه أو أحدهما وقد قصّر ببرهما في حياتهما وندم على ما فرّط وخاف من عاقبة العقوق، اعلم أن باب الإحسان لهما مفتوح، وبإمكانك أن تدرك شيئًا ولو قليلاً من البرّ بعد موتهما، لعلّ الله تعالى أن يعفو عنك، ويُرضي عنك والديك، من ذلك الدعاء لهما بالمغفرة والرحمة، والصدقة عنهما، والحج والعمرة عنهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما، وإنفاذ عهدهما، فإن هذه الأعمال مما يَفرح به الوالدان بعد موتهما، لتخفيف ما عليهما من سيئات وزيادة في الحسنات. إنهما هناك في قبريهما يتشوّقان إلى دعوة صالحة من ولد صالح في جوف الليل، يتطلّعان إلى صدقة جارية من كسب طيب تجلب لهما الرحمة، وتدفع عنهما البلاء، ويرضى عنهما رب الأرض والسماء.
قال النبي : ((برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم)) ، واعلموا أن رضا الله في رضا الوالدين، وأن سخط الله في سخط الوالدين. لا تخرجوا من هذا المكان إلا وقد عاهد كل واحد منا نفسه أن يذهب ليُقبِّل رأس أبويه ويستسمحهما، فإن كانا ميتين أو أحدهما فليدع لهما.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على برّ والدينا، اللهم قد قصّرنا في ذلك وأخطأنا في حقهما، اللهم فاغفر لنا ما قدّمنا وما أخّرنا، وما أسررنا وما أعلنا، واملأ قلبيهما بمحبتنا، وألسنتهما بالدعاء لنا، يا ذا الجلال والإكرام. اللهم وفّق الأحياء منهما...
(1/4103)
مصعب بن عمير
سيرة وتاريخ
تراجم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
16/3/1422
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر العقيدة في صناعة الرجال. 2- إسلام مصعب خُفية. 3- حال مصعب في الجاهلية وبعد الإسلام. 4- مصعب أول سفير في الإسلام. 5- استشهاد مصعب في معركة أحد. 6- فوائد وعبر من سيرة مصعب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله سبحانه وتعالى حق التقوى، اتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يوم ينفخ في الصور، ويُبعث من في القبور، ويظهر المستور، يوم تُبلى السرائر وتُكشف الضمائر ويتميّز البرّ من الفاجر.
عباد الله، تصوغ العقيدةُ الإسلامية رجالَها صياغةً فذّة، في صورة من يرى الناس في سيرتهم مرآة صادقة عن الإسلام، يتمثل فيها عمق الإيمان بالله تعالى، وعظيم البلاء في سبيل نصرة دينه، والتضحية في سبيله بالنفس والمال والأهل والجاه.
ولقد كان صحابة رسول الله ورضي الله تعالى عنهم خير البشر على الإطلاق بعد الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أسلموا فحسن إسلامهم، وابتلوا بالسرّاء والضرّاء والشدّة والرخاء، حتى كانوا خير المؤمنين الذين حملوا لواء الدعوة إلى الله بكل إخلاص وأمانة، حتى صدق فيهم قول الحق سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]. وما زلنا في القرن الخامس عشر نترحّم عليهم ونترضّى عنهم لما بذلوه في سبيل الإسلام، ولمّا علم الله صدقهم خَلّد ذكرهم، وفي الحديث أن المصطفى قال: ((إذا أحب الله عبدًا نادى جبريل: إن الله يحبّ فلانًا فأحبّه، فيحبه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحبّ فلانًا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في أهل الأرض)).
وحين نتذكر حياة سلفنا الصالح نتذكر معهم الحياة الإيمانية الحقّة بأبهى صورها، نتذكر معهم الزهد والورع والتقوى والجهاد والبلاء والشجاعة في الحق والصبر والثبات في سبيل نشر العقيدة وحمايتها ابتغاء ما عند الله. وقد كان منهم صَحْب كرام كانوا من السابقين الأولين إلى الإسلام، فتوالى عليهم من البلاء والمحن والتعذيب ما لا يعلمه إلا الله، ولكنهم صبروا وصدقوا ما عاهدوا الله تعالى عليه، وصدق المولى القدير سبحانه وتعالى حيث قال: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
ومن هؤلاء النفر القلائل مصعب بن عُمَير، الداعية المجاهد والصحابي المناضل، سفير رسول الله إلى المدينة، وحامل لواء الدعوة إلى الأوس والخزرج قبل قدوم النبي إلى طيبة الطيبة.
معاشر المسلمين، بدأ النبي دعوته في مكة سرًّا والمشركون يتربّصون به الدوائر، كل منهم يحاول قتله وإخماد أمره ودعوته، ولكنّ الله تعالى إذا أراد أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون، ولو اجتمع البشر كلهم على خلافه ومقاومته فلن يستطيعوا، فما لأحد بالله تعالى من طاقة، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8]. واتخذ المصطفى من دار الأرقم بن أبي الأرقم ملتقى لأصحابه يلتقي فيها مع القِلّة المستضعفة الذين آمنوا به على خوفٍ من دعاة الضلالة وعبدة الأوثان أن يعلموا بهم فيكيدوا لهم كيدًا، ويستقبل فيها المسلمين الجدد الذين يريدون الدخول في هذا النور الجديد.
قدم مصعب بن عُمَير مستخفيًا إلى النبيّ في دار الأرقم بن أبي الأرقم، فأسلم وكتم إسلامه خوفًا من أمّه وقومه، وكان يختلف إلى رسول الله سرًّا، وكان إسلامه في السنوات الثلاث الأولى من الدعوة قبل أن يصدع النبي بالدعوة الجهرية.
وقد لقي السابقون إلى الإسلام من الأذى والنكال ما تنهدّ له الجبال الراسيات، ولكنهم آثروا ما عند الله تعالى على متاع هذه الحياة الفانية لمّا خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم. أُلقوا في رمضاء مكة المحرقة، ووُضِعت الحجارة القاسية على صدورهم، وضُربوا بالسياط، وشُنقوا بالحبال، وقُطعوا بالسيوف، وأُدميت جلودهم وقلوبهم على أيدي كفار مكة وسادات الشرك وعباد الأوثان. يقول خَبّاب بن الأرت : أتينا رسول الله وهو متوسّد بُردة في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فشكونا إليه فقلنا: ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو الله لنا؟! فجلس محمرًّا وجهه، فقال: ((قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، ثم يُؤتى بالمنشار فيجعل على رأسه فيجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، والله ليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب ما بين صنعاء وحضرموت ما يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
أخفى مصعب إسلامه على أمّه وأهله خوفًا على نفسه من الفتنة وكتمانًا لأمر رسول الله ، ولكن الواشين من المشركين لما علموا بإسلامه سارعوا إلى الوشاية به عند أمه وقومه نكاية فيه وصدًّا عن سبيل الله، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]. ولما علم عثمان بن طلحة بإسلام مصعب أخبر قومه فغضبوا عليه، وحبسوه وأوثقوه، فلم يزل محبوسًا حتى فرّ بدينه وهاجر إلى الحبشة مع النفر القلائل من المسلمين الذين أذن لهم النبي في الهجرة إلى الحبشة طمعًا في الأمن بجوار ملكها النجاشي الذي تواترت عنه الأخبار أنه لا يُظلم عنده أحد.
كان مصعب بن عُمَير فتى مكة شبابًا وجمالاً، وكان أبواه يحبانه حُبًّا عظيمًا، وكانت أمه من أغنى أهل مكة، تكسوه أحسن الثياب وأجمل اللباس، وكان أعطر أهل مكة، يلبس الحضرمي من النعال ـ أنفس ما يوجد ذلك الزمان ـ، وكان رسول الله يذكره ويقول: ((ما رأيت بمكة أحسن لمّة وأرقّ حلّة ولا أنعم نعمة من مصعب بن عُمَير)) ، وكانت أمه شديدة التكلّف عليه، وكان يبيت وقدح الحَيْس عند رأسه، يستيقظ فيأكل؛ لئلا تصيبه جَوْعَة، فلما أسلم انخلع من ذلك كله، وأصابه من الشدة والتعذيب والبلاء ما غيّر لونه وأذهب لحمه ونهك جسمه، حتى كان رسول الله ينظر إليه وعليه فروة قد رَقَعَها فيبكي لما كان يعرف من نعمته، وحلفت أمه حين أسلم وهاجر أن لا تأكل ولا تشرب ولا تستظل حتى يرجع إليها، فكانت تقف في الشمس حتى تسقط مغشيًا عليها، وكان بنوها يحشون فاها بالأعواد فيصبون فيه الطعام حتى لا تموت، ومع ذلك لم يغيّر ذلك من حاله.
أقبل مصعب بن عُمَير ذات يوم والنبي جالس في أصحابه، وقد ارتدى ثوبًا موصولاً بإهاب، فبكى للذي كان فيه من النعمة، ونكس أصحاب النبي رضي الله عنهم رؤوسهم رحمة له، ليس عندهم من الثياب ما يقدمونه له، فسلّم، فردّ النبي عليه، وأحسن عليه الثناء، ثم قال: ((الحمد لله الذي يَقلِب الدنيا بأهلها، لقد رأيت هذا ـ يعني مصعبًا ـ وما بمكة فتى من قريش أنعم عند أبويه نعيمًا منه، ثم أخرجه من ذلك الرغبة في الخير، في حب الله ورسوله)). وخرج مصعب بن عُمَير من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثرًا الشَّظَف والفاقة، وأصبح الغني المتأنّق المُعطّر لا يُرى إلا مرتديًا أخشن الثياب، يأكل يومًا ويجوع أيامًا، ولكن روحه المُشربة بسمو العقيدة كانت قد جعلت منه إنسانًا آخر يملأ الأعين إجلالاً والأنفس روعة وحياءً.
هذه الصفات كلها جعلت النبي يختاره لأعظم مهمة في حياة الدعوة الإسلامية، حيث اختاره ليكون سفيره إلى المدينة، فلما انصرف أهل العقبة الأولى وفشا الإسلام في دور الأنصار أرسلوا لرسول الله يطلبون منه أن يرسل لهم رجلاً يفقههم في الدين ويقرئهم القرآن، فأرسل مصعب بن عُمَير إليهم، فلما قدم المدينة نزل على أسعد بن زُرَارة، وكان يأتي الأنصار في دُورهم في عوالي المدينة فيدعوهم، فيسلم الرجل والرجلان حتى ظهر الإسلام وفشا في المدينة، فكتب إلى رسول الله يستأذنه أن يصلي الجمعة بالأنصار، فأذن له، وكتب إليه: ((أن انظر من اليوم الذي يجهر فيه اليهود لسبتهم، فإذا زالت الشمس فازدلف إلى الله فيه بركعتين، واخطب فيهم)). فصلى بهم مصعب في دار سعد بن خيثمة، وهم اثنا عشر رجلاً رضي الله عنهم أجمعين، فكان أول من جمع في الإسلام جُمعة رضي الله عنه وأرضاه.
وهاجر النبي إلى المدينة، واستبشر المسلمون في المدينة بقدومه، واستمر مصعب يدعو إلى الله، وينشر الإسلام، ويغرس العقيدة، سيفًا شهيرًا في يد النبي يوجهه حيث شاء.
ووقعت معركة أحد في العام الثالث من الهجرة النبوية، وشارك فيها مصعب بن عُمَير مشاركة الأبطال، وأبلى فيها بلاء المؤمنين الصابرين المحتسبين، وأعطاه النبي راية المسلمين، وثبت مصعب مع القلة المؤمنة التي أحاطت بالنبي ، ودافعت المشركين عنه لمّا تخلخلت صفوف المسلمين وأصبحت الجولة للمشركين، وبقي اللواء في يد مصعب يمسكه بقوة وثبات ويدافع عن النبي ، وتَدافع المشركون نحو اللواء، وأقبل ابن قَمِئة ـ عليه من الله ما يستحق ـ فشد على مصعب، فضرب يده اليمنى فقطعها، ومصعب يردّد قول الحق سبحانه وتعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، ثم أخذ اللواء بيده اليسرى حتى لا يقع، فضرب ابن قَمِئة يده اليسرى فقطعها، فحنا على اللواء وضمّه بعضديه إلى صدره، ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه إلى صدره، ووقع مصعب بن عُمَير شهيدًا مضرّجًا بدمائه، فلما انتهت المعركة وقف رسول الله على مصعب وهو مُنجَعِف على وجهه، فقرأ قوله تعالى: مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
أيها المسلمون، وهكذا سقط مصعب بن عُمَير مجاهدًا شهيدًا وهو ابن أربعين سنة، في ريعان شبابه وفتوته، مات ميتة الأبطال وهو عند الله تعالى من الشهداء الأبرار إن شاء الله، مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70]. وأشرف المصطفى على الشهداء من أصحابه رضي الله عنهم ودموعه تسيل من عينيه، فقال: ((أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يُجرح في سبيل الله إلا والله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه، اللون لون الدم، والريح ريح المسك، انظروا أكثر هؤلاء جمعًا للقرآن فاجعلوه أمام صاحبه في القبر)) ، ثم قال: ((أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فأتُوهم فزوروهم، والذي نفسي بيده، لا يُسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردّوا عليه)).
قال الصحابي الجليل خبّاب بن الأرت : هاجرنا مع رسول الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى أو ذهب لم يأكل من أجره شيئًا، كان منهم مصعب بن عُمَير، قُتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة، كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا بها رجلاه خرج رأسه، فقال لنا النبي : ((غطّوا بها رأسه، واجعلوا على رجله الإذخر)) ، أو قال: ((ألقوا على رجله من الإذخر)) ، ومنا من قد أينعت له ثمرته فهو يهدّ بها.
هذا هو مصعب بن عُمَير، ذلكم الرجل الذي كان يلبس أجمل الثياب في شبابه، ويأكل أطيب الطعام، ترمقه العيون إكبارًا وإعجابًا لحسنه وغناه ومكانته، ينسلخ من ذلك الترف والنعيم كله مبتغيًا وجه الله تعالى وما أعده لعباده المؤمنين، ثم يجاهد مع رسول الله بائعًا نفسه من الله حتى قتل شهيدًا لا يجد المسلمون عند موته غير ثوب قصير بال لا يكفي كفنًا له، فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل أعالي الفردوس مثواه، وجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله تعالى فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الجنة غالية نفيسة، حري بالمسلم أن يسعى لها سعيًا حثيثًا، وأن يقدّم الغالي والنفيس في سبيل الحصول عليها، وتلك الأمنية العظمى والمطلب الغالي الذي من فاته فقد حُرِم الخير كله، ومن فاز به فنعم الفوز ونعم الجوار، جوار رب العالمين سبحانه وتعالى.
عباد الله، هذه سيرة من سير سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، سيرة بطل جاهد في الله حق جهاده لنيل الشهادة في سبيله، فأعطاه الله ما تمنى، والحق سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. وسيرة داعية قدّم الأنفس العديدة فأدخلهم في الإسلام، وسيرة شهيد أبلى في سبيل الله البلاء الحسن، فشهد له رسول الهدى ونبي الرحمة بالجنة.
ولنا مع سيرة هذا الصحابي الداعية المجاهد وقفات وعظات:
الوقفة الأولى: أن هذا الرجل كان في الجاهلية خامل الذكر، لا يعرف إلا مع المشركين، ولا يذكر إلا مع المترفين، فلما دخل الإسلام ارتفع ذكره وعلا قدره، وكأنه قد ولد من جديد. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن للإنسان ميلادين: الميلاد الأول يوم أن يخرج الإنسان من بطن أمه وليدًا صغيرًا، وهذا يشترك فيه جميع المخلوقات، وأما الميلاد الثاني فلا يعيشه إلا المتقون الذين أنعم الله تعالى عليهم بنعمة الهداية، وهو يوم أن يدخل الإنسان في هذا الدين الحنيف، ويوم أن يخرج من ظلمات الجهل والكفر والفسوق والنفاق والغفلة إلى نور الإيمان والعبادة والطاعة. وذاك الشاعر يقول:
ولدتك أمك باكيًا مُستصرِخًا والناس حولك يضحكون سرورًا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكًا مسرورًا
الوقفة الثانية: لقد آثر هذا الصحابي الجليل الحياة الآخرة على الدنيا الفانية، إذ كان في الجاهلية يعيش حياة الغِنى والنعومة والراحة الدنيوية، لكنه ما إن علم أن الإسلام حق حتى دخل فيه راجيًا ما عند الله واثقًا بموعوده متحمّلاً القهر والتعذيب والبلاء عائشًا عيشة الفقر والفاقة والحاجة، كل ذلك حبًّا لله تعالى ورسوله، ورغبة فيما أعده الله تعالى لعباده المتقين.
الوقفة الثالثة: مات مصعب بن عُمَير شهيدًا في سبيل الله تعالى، ولم يخلّف وراءه من الدنيا شيئًا، وما وجدوا معه إلا ثوبًا مرقّعًا لم يكف لتكفينه؛ لأنه اشتغل عن جمع المال بعبادة الله الواحد القهار الرازق الوهاب، بل ترك ماله كله ودخل في دين الله تعالى يجاهد مع الرسول ، ويدعو إلى الله؛ لأنه يعلم أن من ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه، يأتي مصعب بن عُمَير يوم القيامة وفي ميزان حسناته عشرات الصحابة الكرام رضوان الله تعالى عليهم الذين أسلموا على يديه، وقد قال المصطفى لعلي بن أبي طالب : ((فوالله، لأن يهدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم)). يأتي مصعب بذلك يوم القيامة يوم يأتي كثير من أمته يحملون أوزارهم على ظهورهم أمثال الجبال لِمَا أضلّوا من الخلق وصدّوا عن سبيل الله، أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة:18-21].
أيها المسلمون، صلّوا وسلّموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه في قوله عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال : ((من صلّى علي صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد بن عبد الله صلاة وسلامًا دائمين إلى يوم الدين، وارض اللهم عن أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/4104)
عبادَ الله حجّوا
فقه
الحج والعمرة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
24/11/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة بناء إبراهيم الكعبة. 2- فضائل الحج. 3- السبيل إلى الحج المبرور. 4- دروس وعِبَر من الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لقد جاء إبراهيم عليه السلام بزوجه هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت العتيق، عند دَوْحَة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هناك ووضع عندهما ماءً وتمرًا، ثم انطلق إبراهيم، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا في هذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟! قالت ذلك مرارًا، وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يضيعنا. ثم انطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات: ربَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، وجعلت أم إسماعيل ترضع ولدها إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نَفِد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فقامت على الصفا ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ثم أتت المروة فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحدًا، فلم تر أحدًا، ففعلت ذلك سبع مرات، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا، ثم تَسَمّعَت فسمعت أيضًا، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم، فَبَحَثَ بعَقِبه حتى ظهر الماء، فجعلت تُحَوّضه بيدها، فشربت وأرضعت، فقال لها الملك: لا تخافوا الضيعة، فإن هذا البيت يبنيه هذا الغلام وأبوه. رواه البخاري.
وتمضي الأيام وتمر السنين ويبني الخليل عليه السلام وابنه البيت، ويأمر الله خليله إبراهيم بأن يؤذن في الناس بالحج إلى ذلك البيت، قال الله تعالى: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. ومنذ ذلك الحين وجموع الناس تَفِدُ إلى ذلك المكان شوقًا وحنينًا.
الحج ـ يا عباد الله ـ حثّ عليه نبينا ورغّب فيه، وذكر بأنه يهدم ما قبله من سيئ العمل، فعن عمرو بن العاص قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت رسول الله فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، فبسط فقبضتُ يدي، فقال: ((ما لك يا عمرو؟)) قلت: أشترط، قال ((تشترط ماذا؟)) قلت: أن يُغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟!)).
الحاج الذي لم يرفث ولم يفسق يخرج طاهرًا نقيًّا من الذنوب، قال : ((من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) ، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)) رواه الإمام أحمد.
للحاج دعوة مستجابة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)).
الحاج في حفظ الله تعالى، قال : ((ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازيًا في سبيل الله، ورجل خرج حاجًا)).
ومما جاء في فضل الحج حديث ابن عمر قال: قال رسول الله : ((أما خروجك من بيتك تؤُمّ البيت الحرام فإن لك بكل وطأة تطؤها راحلتك يكتب الله بها لك حسنة ويمحو عنك بها سيئة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاؤوني شُعثًا غُبرًا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالِج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوبًا غسلها الله عنك، وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجتَ من ذنوبك كيوم ولدتك أمك)) رواه الطبراني.
إن في هذه الأحاديث دعوة ونداء إلى المبادرة بالحج وغسل النفس من ذنوبها، فإن العبد لا يعلم متى موعد رحيله من هذه الدنيا، والحج أيام معدودات، من استطاع أن يلبي فيها نداء ربه ثم لم يفعل فهو المحروم. إن الحج إلى بيت الله الحرام وأجره وفضله يحرك الساكن ويهيج المشاعر والقلوب التي تطمع في مغفرة علام الغيوب.
قف بالأباطح تسري في مشارفها مواكب النور هامت بالتّقى شغفا
من كلّ فجّ أتت لله طائعة أفواجها ترتجي عفو الكريم عفا
صوب الحطيم خطت أو المقام مشت مثل الحمائم سربًا بالحمى اعتكفا
أخي الحاج، إنَّ لك في كلِّ خطوةٍ تخطوها أجرًا عند الله، وحين تنطقُ بنداءِ التوحيد: (لبيك اللهم لبيك) فإنَّ الكونَ كلَّه معك يردِّد توحيدَ الخالق ويسبِّح بحمده، تلبِّي الأحجار ويهتف المدر والأشجار، قال : ((ما من مسلمٍ يلبِّي إلاّ لبَّى ما عن يمنيه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرضُ من ها هنا وها هنا)). إذا سمع الحاجُّ حديثَ رسول الله الذي أخرجه البخاري ومسلم: ((الحجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) تشتاق نفسُه لهذا الأجر العظيم والفضل الجزيل، فيتساءل: كيفَ يحقِّق الحجَّ المبرور؟ قال ابن عمر رضي الله عنهما لمجاهد حين قال: ما أكثر الحاج!! قال: (ما أقلَّهم، ولكن قل: ما أكثر الركب).
أخي الحاج، الحجُّ المبرورُ يتطلَّب إخلاصًا لله، فمن خرج من بيته متطلِّعًا إلى المدح والثناء والسمعةِ والمباهاة حبط عمله وضلَّ سعيُه، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((من عمل عملاً أشرك فيه معيَ غيري تركتُه وشركَه)) أخرجه مسلم. وكان يحذِّر من ضدِّ ذلك فيدعو مستعينًا بربِّه قائلاً: ((اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سمعة)) أخرجه ابن ماجه من حديث أنس بن مالك.
مال الحجّ المبرور يجبُ أن يكون حلالاً طيبًا؛ لأنَّ النفقةَ الحرام من موانع الإجابة، وفي الطبراني مرفوعًا: ((إذا خرج الرجلُ حاجًا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادُك حلال، وراحلتك حلال، وحجُّك مبرور. وإذا خرجَ بالنفقة الخبيثة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا وسعديك، زادُك حرام، ونفقتُك حرام، وحجّك غير مبرور)).
أيامُ الحجِّ المبرور تُحيَى بذكر الله، وتُضاء بتلاوةِ آياتِ الله، وتُطهَّر بالاستغفار وبذل المعروف والدعوة إلى الله عز وجل. ملء الأوقاتِ بالطاعات تحصّنُ الحجَّ من الآفات المهلِكة ولصوصِ الحسنات، وتزيد الحجَّ برًّا، فالأيامُ فاضلة، وتلك البقاع مفضَّلة، وفيها تتضاعف الأجور، وقد كان سلفُنا الصالح إذا تلبَّسوا بهذه العبادة عطَّروا أوقاتَها بذكر وتسبيحٍ وتهليل وتحميد.
سمة الحاجِّ في هذه البقاع العظيمة السكينةُ والطمأنينة وسلوكُ أدبِ هذه الشعيرة بخفض الصوت وعدم الإزعاج وأذية المسلمين والهدوء في العبادة والدعاء.
التلبية في الحجِّ المبرور ذكرٌ لا ينقطع، فلها معانٍ لو استقرت في سُوَيْدَاء القلب فإنها تصبغ حياتَك أيها المسلم، وتقوِّم مسيرتَك، وتهذِّب سيرتَك، إنها إعلان العبوديةِ والطاعةِ والتذلّل.
الصحبةُ الطيبة في الحجّ تقوِّيك إذا ضعفت، تذكّرك إذا نسيتَ، تدلّك على طريق الخير، وتحذّرك طريقَ الشر.
من رام حجًا مبرورًا امتثلَ قولَه الذي رواه البخاري: ((من حجَّ لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدتْه أمّه)). نعم، من تطلَّع إلى حجّ مبرور أدَّب جوارحَه، فلا تنظر العين نظرة فاحشة، ولا ينطِق اللسان بألفاظ طائشة، ولا تمتدّ اليد بأذًى إلى أحد، ولا ينطوي القلبُ على بغضاء أو حسد.
حجّ مبرور يوقَّر فيه الكبير، ويُرحَم الصغير، ويُواسَى الضعيف، ويُحافَظ فيه على نظافة البدن والثوب والمكان، قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لتَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ ?لْمُتَطَهّرِينَ [البقرة:222].
أيها المسلمون، إن فريضةَ الحجّ فريضة عظمت في مناسكها، وجلّت في مظاهرها، وسمت في ثمارها. الحج فريضة عظيمةُ المنافع جمّة الآثار، تضمّنت من المنافعِ والمصالح ما لا يُحصيه المحصون، ولا يقدر على عدّه العادّون، انتظمت من المقاصد أسماها، ومن الحكم أعلاها، ومن المنافع أعظمَها وأزكاها، مقاصدُ تدور محاورها على تصحيح الاعتقاد والتعبّد، وعلى الدعوة لانتظام شملِ المسلمين ووحدة كلمتهم، وعلى التربية الإصلاحية للفرد والمجتمع، والتزكية السلوكيَّة للنفوس والقلوب والأرواح والأبدان. وبالجملة ففي الحج من المنافع التي لا تتناهى والمصالح التي لا تُجارَى ما شملَه عمومُ قول المولى جل وعلا: ليَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ [الحج:28]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (منافع الدنيا والآخرة، أما منافع الآخرة فرضوان الله جل وعلا، وأما منافعُ الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات).
وثمة منافعُ يجب على الأمة الإسلامية أفرادًا ومجتمعات حكامًا ومحكومين أن يعُوها، وأن يدركوا كنهَها، وأن يحقِّقوها في حياتهم سلوكًا عمليًا ومثالاً واقعيًا، فيومَ تكون الأمة مستلهمَةً رشدَها على نحو تلكم الأهداف والمقاصد فستنال عزًا وشرفًا وخيرًا ومجدًا، فما أحوجَ الأمةَ اليوم وهي تعاني فتنًا متلاطمةً وشرورًا متنوّعة وبلايا متعددة، ما أحوجها أن تستلهم من فرائض الإسلام العِبَرَ والعظاتِ والدروس الموجّهة لحياتها وسلوكها ونشاطها وتوجّهاتها، ما أجدرَ المسلمين أن يوجِّهوا حياتهم من منطلقاتِ دينهم، وأن يديروا شؤونَهم من حقائقِ قرآنهم، وأن يعالجوا مشكلاتِهم وأدواءَهم على ضوء ما يوجّههم إليه خالقُهم ويرشدهم إليه نبيهم.
في تجمع الحج حقيقة عظيمة لا بد من ذكرها، وهو أنَّ هذه الأمةَ مهما بلغَ الكيد لها والمكر بها فإنها أمةٌ خالدة بخلودِ رسالتها وكتابِها، باقيةٌ ما بقي الليل والنهار.
عباد الله، من دروس الحج تذكيرُ الأمة بأن أعظمَ ما يجب أن تهتمّ به وأن تحافظ عليه وأن تغرسه في النفوس وتبثّه في المناشطِ كلّها والأعمالِ جميعها تحقيقُ التوحيد لله سبحانه، تحقيق الغايةِ القصوى في الخضوع والتذلل له عز شأنه توجّهًا وإرادة قصدًا وعملاً. فهذه التلبية رمزُ الحج ومفتاحه التي أهلّ بها سيّد الخلق وإمام الأنبياء حين افتتح حجتَه بالتوحيد، كما قال جابر : أهلّ النبي بالتوحيد: ((لبيك اللهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك)). إهلالٌ يتضمن كلماتِ التلبية، ذاك المعنى العظيمُ والمدلول الدقيق، ألا وهو روح الدين وأساسُه وأصله، وهو توحيد الله جل وعلا ونبذ الإشراك به بكلّ صُوَرِه وشتّى أشكاله.
فالواجبُ على أفراد الأمة جمعاء أن يستحضِروا ما دلّت عليه هذه الكلمة من معنى، وأن يعرفوا ما تضمّنته من دلالة، وأن يكونَ المسلم على دراية عظيمة بهذا المعنى في حياته كلّها، محافظًا عليه في كلّ حين وآن، مراعيًا له في كلّ جانب، لا يسأل إلا اللهَ، لا يستغيث إلا بالله، لا يتوكَّل إلا على الله، لا يطلبُ المدد والعون والنصر إلا من الله، مستيقنًا أنَّ الخير كلّه بيد الله، وأزمَّة الأمور بيد الله، ومرجعها إليه، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. فحريٌّ بالمسلم الموفّق الاهتمامُ بتلك المعاني كلها وتحقيقها في حياته بشتى جوانبها.
وإذا كان الأمرُ كذلك في حق الأفراد فالأمة أجمَع حري بها أن تستلهم من الحج تلك الدروسَ والعبر، ولتعلمْ أن القاعدةَ الثابتة لاستقرار حياتها هو تحقيق التوحيد لله جل وعلا في كل شأن من الشؤون، في مناشط الحياة كلّها، وأن تحقق الخضوع التامَ لله والذل المتناهيَ له سبحانه، ترسيخًا للعقيدة الصحيحة في واقع الحياة وتأصيلاً لها في النفوس، وإلا فبدون ذلك تتخطّفها الأهواء تخطّف الجوارح، وتتقاذفها الأوهام تقاذف الرّياح. ألا فلتصبغ الأمة حياتَها كلّها وأنشطتَها جميعَها بقاعدة العقيدة الصحيحة والتوحيد الخالص، فلا تخطو خطوةً ولا تتحرك حركة إلا وهي تنظر من منظار القرآن الكريم ومن مرآة السنة ورضا الربِّ جل وعلا، فالله جل وعلا يقول: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ومن دروس الحجّ أن تعلم الأمة وتتذكَّر وأن تستشعرَ وتستيقن أنه لا سعادة ولا نجاح في هذه الحياة والآخرة ولا توفيقَ ولا سدادَ إلا باتباع النبي والسير على نهجه والمسيرة الجادة على هديه في الاعتقاد والأعمال، في الحُكم والتَّحاكم، في الأخلاق والسلوك، وفي هذا الصدَد يقول سيدنا ونبينا عند كل منسك من مناسك الحج: ((خذوا عني مناسككم)). فأعظمُ أهداف الحج تذكر هدي المصطفى ولزوم طريقه في هذه الحياة، دونَ إفراط ولا تفريط ولا غلوٍّ أو جفاء، ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
أيها المسلمون، من الدروس العظيمة في الحجّ أهميةُ الاعتدال والتوسّط في الأمور كلها ومجانبة الغلوِّ والجفاء أو الإفراط والتفريط، روى أحمد وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله غداة العقبة: ((القُط لي حصًى)) ، قال: فلقطتُ له حصى من حصى الخذف، فجعل ينفضهنّ في كفّه ويقول: ((بأمثال هؤلاء فارموا)) ، ثم قال: ((يا أيها الناس، إياكم والغلوّ في الدين، فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلوُّ في الدين)). فالاعتدال في الأمور كلّها والتوسطُ فيها والبعد عن الغلو والجفاء هو المنهج القويم والصراطُ المستقيم الذي ينبغي أن يسلكه جميع المؤمنين، وذلك ليس بالأهواء، وإنما يكون بالأخذ بحدود القرآن والسنة وما فيهما من الهدي والبيان.
ألا فلتكن مثلُ هذه المناسبة العظيمة التي يجتمع فيها المسلمون على أداء عبادة عظيمة من معالم الدين، لتكن درسًا يراجع فيه المسلمون أنفسَهم، ويتبصَّرون فيه في أحوالهم، ليقيموها على المنهج الحق والصراط المستقيم، من منبعه الصافي ومورده العذب الزلال، كتاب الله جل وعلا وسنة سيّد الأنبياء سيدنا ونبينا ورسولنا محمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، الحجُّ مؤتمر جامعٌ للمسلمين قاطبة، وهو مؤتمرُهم وملتقاهم الأكبر، مؤتمر يجدون فيه أصلَهم العريق الضارب في أعماقِ الزمن منذ إمام الحنفيَّة أبينا إبراهيم عليه السلام، يجدون محورَهم الذي يشدّهم إليه جميعًا، هذه القبلة التي يتوجَّهون إليها جميعًا، ويلتقون عليها جميعًا، ويجدُون أيضًا رايتَهم التي يفيئون إليها، رايةَ العقيدة الواحدة التي تتوارى في ظلّها فوارقُ الأجناس والألوان والأوطان، ويجدُون قوتَهم التي قد ينسونَها حينًا، قوةَ التجمع والتوحّد والتي تضمّ الملايين التي لا يقف لها حدّ لو فاءت إلى رايتِها الواحدة التي لا تتعدَّد.
فالواجبُ على المسلمين اليوم وهم تتقاذف بهم أمواجُ الفتن وتتحدّاهم قوى الطغيان والعدوان، الواجبُ عليهم أن يتخذوا من مثلِ هذا الموسم مؤتمرًا للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادُل المنافع والمعارف والتجارب. فحريّ بالأمة أن تستثمرَ مثلَ هذا الموسمِ العظيم فرصةً للتوجيهات العامة النافعةِ والنظر في قضاياها المهمة.
الحجُّ مؤتمر ذو مقاصدَ سياسية للبشرية كلها، مؤتمر يربّي البشرية على أسسِ السلام والأمن والحياة الطيبة. مؤتمرُ الحج مؤتمر يغرس في النفوس حياة تراعى فيها حرمات الله، لتقوم في الأرض حياةٌ يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء، حياة يجدون فيها مثابةَ أمنٍ ودوحةَ سلام ومنطقة اطمئنان، فهذا سيّد البشرية وإمام الحنيفية سيدُنا ونبينا محمد يعلنها جليةً ويطلقها صريحة في خطبة الوداع فيقول: ((إن دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)).
أيها المسلمون، لقد دعا ربنا عباده إلى بيته الحرام؛ ليعطيهم ويكرمهم أعظم العطاء والكرم، فأجاب هذا النداء المهتدون السعداء، وأبى المعتدون الأشقياء، وآثروا القعود والبقاء، لكن لا جناح على أهل الأعذار. قال الله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:27، 28].
أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام أن ينادي في الناس بالحج ويدعوهم إليه، فاستجاب المؤمنون الموحدون المخلصون الراغبون فيما عند الله، وأقبلوا إلى بيت الله الحرام معبّرين عن استجابتهم وإخلاصهم ولزومهم لطاعة الله بقولهم: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك). انطلقوا إلى بيت الله من كل طريق بعيد من كل الجهات والأقطار، فارقوا الأوطان والديار، وتركوا الشهوات والأوطار، وأنفقوا الدرهم والدينار، رجاء المغفرة والعتق من النار، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]، قال النبي : ((تعجّلوا إلى الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)).
فيا من يسّر الله عليه وأمدّه بالصحة والأموال، عجّل إلى الحج وبادر، واسع في الخير وثابر، قبل زيارة المقابر، فكأني بك قد سبق المجدّون وفازوا وأنت متأخر خاسر، قال النبي : ((الحجّاج والعمّار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) ، فاستجب لله إن أردت أن يستجيب الله لك، وإن أعرضت عنه سبحانه وتعالى أعرض عنك، وتخلّى عنك، وتركك فريسة الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وحبيس الشهوات والوساوس ومصب المصائب والمحن.
(1/4105)
عشر ذي الحجة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
1/12/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الله يخلق ما يشاء ويختار. 2- المباركة في الطاعات. 3- فضائل العشر من ذي الحجة. 4- الأعمال المشروعة في العشر من ذي الحجة. 5- من آداب المضحِّي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن الله جل وتعالى يخلق ما يشاء ويختار، خلق السماوات واختار منها السابعة، وخلق الجنات واختار منها الفردوس، وخلق الملائكة واختار منهم جبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البشر واختار منهم المؤمنين، واختار من المؤمنين الأنبياء، واختار من الأنبياء الرسل، واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين، واختار من الخليلين محمدًا وعليهم أجمعين، وخلق الأرض واختار منها مكة، وخلق الأيام واختار من أشهُرِها شهر رمضان، ومن أيامها يوم الجمعة، ومن لياليها ليلة القدر، ومن ساعاتها ساعة الجمعة، ومن عشرها عشر ذي الحجة.
والمسلم يعيش مباركًا في العمل وفي الزمن، وأعظم البركة في العمل الطاعةُ، إذ هي بركة على أهلها، كما يقول تعالى: مَن جَاء بِ?لْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وكما يقول : ((إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيّن ذلك، فمن هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن هَمَّ بحسنة فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هَمَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، ومن هَمَّ بسيئة فعملها كتبها الله سيئة واحدة، ولا يهلك على الله إلا هالك)). وهذا يدلّ على أن الطاعة بركة في القول، إذ الكلمة الواحدة من الطاعة بعشر حسنات يكتب الله بها رضوانه، فيحفظ بها عبده حتى يُدخله الجنة، ويرضى عليه في الجنة فلا يسخط عليه أبدًا. والطاعة بركة في العمل، إذ الصلاة بعشر صلوات، وصوم رمضان بعشرة أشهر، والصدقة بسبعمائة ضعف، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
والطاعة طُهْرَة من الذنوب، فالصلاة طُهْرَة من الذنوب، كما في الحديث: ((مثل الصلوات الخمس كمثل نهر غَمْر على باب أحدكم يغتسل منه خمس مرات في اليوم والليلة، هل يبقى عليه من الدَّرَن شيء؟!)). والصوم طُهْرة من الآثام، والصدقة تُطفِئ الخطيئة كما يُطفِئ الماء النار، ومن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
والطاعة بركة في التعامل، إذ بالتعامل الحَسَن يدرك الإنسان درجة الصائم القائم، ويجاور الرسول ، ويحظى ببيت في أعلى الجنة.
وأعظم الزمن بركة عشر ذي الحجة، إذ لها مكانة عظيمة عند الله تعالى، تدلّ على محبته لها وتعظيمه لها، فهي عشر مباركات، كثيرة الحسنات قليلة السيئات عالية الدرجات متنوعة الطاعات، وفضائلها لا تعد ولا تحصى.
فمن فضائلها أن الله تعالى أقسم بها فقال: وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، والله لا يقسم إلا بأعظم المخلوقات، كالسماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والرياح، ولا يقسم إلا بأعظم الأزمان، كالفجر والعصر والضحى والليل والنهار والعشر، ولا يُقسم إلا بأعظم الأمكنة، كالقسم بمكة، وله أن يُقسم بما يشاء من خلقه، ولا يجوز لخلقه أن يقسموا إلا به، فالقسم بها يدل على عظمتها ورفعة مكانتها وتعظيم الله لها.
ومن فضائلها أن الله تعالى قَرَنَها بأفضل الأوقات، فقد قرنها بالفجر وبالشفع والوتر وبالليل. أما اقترانها بالفجر فلأنه الذي بحلوله تعود الحياة إلى الأبدان بعد الموت، وتعود الأنوار بعد الظلمة، والحركة بعد السكون، والقوّة بعد الضعف، وتجتمع فيه الملائكة، وهو أقرب الأوقات إلى النزول الإلهي في الثلث الأخير من الليل، وبه يُعرف أهل الإيمان من أهل النفاق. وقَرَنها بالشفع والوتر لأنهما العددان المكوِّنان للمخلوقات، فما من مخلوق إلا وهو شفع أو وتر، وحتى العشر فيها شفع وهو يوم النحر، وفيها وتر وهو يوم عرفة. وقرنها بالليل لفضله، فقد قُدم على النهار، وذكر في القرآن أكثر من النهار، إذ ذكر اثنتين وسبعين مرّة، والنهار سبعًا وخمسين مرّة، وهو أفضل وقت لنفل الصلاة، وهو أقرب إلى الإخلاص؛ لأنه زمن خلوة وانفراد، وهو أقرب إلى مراقبة الرب تعالى، إذ لا يراه ولا يسمعه ولا يعلم بحاله إلا الله، وهو أقرب إلى إجابة الدعاء وإلى إعطاء السؤال ومغفرة الذنوب، إذ يقول الرب في آخره: هل من داعٍ فأجيبه، وهل من سائل فأعطيه، وهل من مستغفر فأغفر له. مُيِّز به أهل الجنة في قوله تعالى: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، ومُيِّز به عباد الرحمن في قوله: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَ?مًا [الفرقان:63، 64].
ومن فضائلها أن الله تعالى أكمل فيها الدين، إذ تجتمع فيها العبادات كلها، وبكمال الدين تنتصر السنة، وتنهزم البدعة، ويقوى الإيمان، ويموت النفاق، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء؛ لتكون نفسًا مطمئنة تعبد الله كما أراد، وتقتدي بالأنبياء، وتصاحب الصالحين، وتتخلق بالأخلاق الحسنة، وبكمال الدين ينتصر الإنسان على شيطانه الذي شطّ ومال به عن الصراط المستقيم، وينتصر على الهوى والشهوات. وقد كَمُل الدين حتى تركنا الرسول على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك شقي. وقد حسدنا اليهود على هذا الكمال، قال حَبْر من أحبار اليهود لعُمَرَ : آية في كتابكم لو نزلت علينا معشر اليهود اتخذنا ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، قال عمر: (إني أعلم متى نزلت وأين نزلت، نزلت يوم عرفة في يوم جمعة).
ومن فضائلها أن الله أتم فيها النعمة، إذ تنعم الأرواح بشتى أنواع الطاعات القولية والفعلية والتعاملية، ومن تمام النعمة أن الله فتح قلوب العباد للإسلام، فدخل الناس في دين الله أفواجًا، إذ كان عددهم عند تمام النعمة أكثر من مائة ألف. ومن تمام النعمة أن الله أظهر الإسلام على جميع الأديان، إذ كان في الجزيرة أديان متنوعة: اليهودية والنصرانية والمجوسية والوثنية والنفاق، فأُبِيدت بالإسلام، وظهر عليها، قال الله تعالى: هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28]. ومن تمام النعمة منع الكفار من دخول الحرم واختصاص المسلمين بذلك، فتوحّدت صفوف المسلمين حتى أصبحوا كالجسد الواحد، ووحّدوا معبودهم، وتوحّد دينهم، وتوحّدت كلمتهم، وتوحّد طريقهم، ويا لها من نعمة عظيمة أن ترى أهل الإيمان ظاهرين وأهل الكفر مهزومين.
ومن فضائلها أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصدقة لمن حال عليه الحول فيها، وفيها الصوم لمن أراد التطوع، أو لم يجد الهدي، وفيها الحج إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها، وفيها الذكر والتلبية والدعاء التي تدل على التوحيد، واجتماع العبادات فيها شرف لها لا يضاهيها فيه غيرها، ولا يساويها سواها.
ومن فضائلها أنها أفضل أيام الدنيا على الإطلاق، دقائقها وساعاتها وأيامها وأسبوعها، فهي أحب الأيام إلى الله تعالى، والعمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى، فهي موسم للربح، وهي طريق للنجاة، وهي ميدان السبق إلى الخيرات، لقوله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله تعالى من هذه الأيام)) يعني: أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ، وهذا يدل على أن العمل الصالح في أيام العشر أفضل من الجهاد بالنفس، وأفضل من الجهاد بالمال، وأفضل من الجهاد بهما والعودة بهما أو بأحدهما؛ لأنه لا يفضل العمل فيها إلا من خرج بنفسه وماله ولم يرجع لا بالنفس ولا بالمال.
ومن فضائلها أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وهو يوم معروف بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب، فهو يوم مجيد، يُعرف أهله بالتوحيد، إذ يقولون: (لا إله إلا الله)، وقد قال : ((وخير ما قلت أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك...)) ، ويَعرِف الإنسان ضعفَ نفسه، إذ يُكثِر من الدعاء، ويُلِح على الله في الدعاء، وفي الحديث: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة)) ، ويعرف إخوانه المسلمين الذين اجتمعوا من كل مكان في صعيد واحد، ويعرف عدوّه الذي ما رُئِي أصغر ولا أحقر منه في مثل يوم عرفة، ويعرف كثرة مغفرة الله في هذا اليوم لكثرة أسباب المغفرة من توحيد الله ودعائه وحفظ جوارحه وصيامه لغير الحاج، وهو يوم الحج الأعظم، قال : ((الحج عرفة)) ، وصومه تطوعًا يكفر ذنوب سنتين: سنة ماضية وسنة مقبلة.
ومن فضائلها أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث: ((أفضل الأيام يوم النحر)) ، وفيه معظم أعمال النسك من رمي الجمرة وحلق الرأس وذبح الهدي والطواف والسعي وصلاة العيد وذبح الأضحية واجتماع المسلمين في صلاة العيد وتهنئة بعضهم بعضًا.
وفضائل العشر كثيرة لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها، بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصالح.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اغتنموا عَشْركم بصالح الأعمال، وفي مقدمتها التوبة إلى الله، وهي الرجوع إليه سبحانه مما يكرهه ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا، ندمًا على ما مضى، وتركًا في الحال، وعزمًا على أن لا يعود.
تُبْ ـ يا عبد الله ـ من ترك الواجبات وفعل المحرمات. وهي واجبة على المسلم حين يقع في معصية في أي وقت كان؛ لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، ثم إن السيئات يجرّ بعضها بعضًا، والمعاصي تكون غليظة ويزداد عقابها بقدر فضيلة الزمان والمكان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا [التحريم:8].
ومن الأعمال المشروعة في أيام العشر الذكر، قال تعالى: لّيَشْهَدُواْ مَنَ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ [الحج:28]، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر أن النبي قال: ((ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه من العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
ويُكثر في هذه الأيام من قراءة القرآن، فإنه أفضل الذكر، وفيه الهدى والرحمة والبركة والعظمة والتأثير والشفاء. وليعلم المسلم بأن الذكر هو أحبّ الكلام إلى الله تعالى، وهو سبب النجاة في الدنيا والآخرة، وهو سبب الفلاح، وحفظ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار، به يُذكر العبد عند الله، ويصلي الله وملائكته على الذاكر، وهو أقوى سلاح، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدرجات، وخير من النفقة، به يضاعف الله الأجر، ويغفر الوزر، وفضائل الذكر كثيرة، قَرَنَه الله بالصلاة فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ [النساء:103]، وقَرَنَه بالجمعة فقال: فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ [الجمعة:10]، وقَرَنَه بالصوم فقال: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ [البقرة:185]، وقَرَنَه بالحج فقال: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَ?سِكَكُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]، وقَرَنَه بالجهاد فقال: يَ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَ?ثْبُتُواْ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ [الأنفال:45]، ولا يتقيّد بزمن ولا حال، أمر الله به على جميع الأحوال، فقال: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ قِيَ?مًا وَقُعُودًا وَعَلَى? جُنُوبِكُمْ [آل عمران:191].
أخي المسلم، أكثِر في هذه الأيام من نوافل الصلوات، وحافظ على الرواتب منها، وهي اثنتا عشرة ركعة، أربع قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر.
وأكثر من الصدقة في العشر، إذ الصدقة فيها أفضل من الصدقة في رمضان، وما أكثر حاجات الناس في العشر من النفقة والاستعداد للحج وللعيد وطلب الأضحية ونحوها، وبالصدقة ينال الإنسان البرّ، ويُضاعَف له الأجر، ويظلّه الله في ظلّه يوم القيامة، ويفتح بها أبواب الخير، ويغلق بها أبواب الشر، ويفتح فيها باب من أبواب الجنة، ويحبه الله ويحبه الخلق، ويكون بها رحيمًا رفيقًا، ويُزكَّى ماله ونفسه، ويُغفر ذنبه، ويتحرر من عبودية الدرهم والدينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخرته.
أكثر ـ يا عبد الله ـ من الصيام في أيام العشر، ولو صمت التسعة الأيام لكان ذلك مشروعًا؛ لأن الصيام من العمل الصالح.
سابق ـ يا عبد الله ـ في هذه العشر بكل عمل صالح، وأكثر من الدعاء والاستغفار، وتقرب إلى الله بكل قربة، عسى أن تفوز فوزًا عظيمًا.
والعملُ الصالح ـ عباد الله ـ يشمل كلّ خير ومعروف وبرّ وإحسان من الأقوال والأفعال والسلوك، ومن أعظمِ ذلك تفقد أحوالِ المسلمين في كلّ مكان، والاهتمام بشؤونهم، والتخفيف من كرباتهم، وسدّ حاجاتهم، وصرفُ صالحِ الدعاء لهم بإصلاح الأحوال وكشف المضار والنصر على الأعداء.
إن العمل الصالح محبوب لله تعالى في كل زمان ومكان، ويتأكد في هذه الأيام المباركة، فمن لم يمكنه الحج فعليه أن يَعْمُر وقته في هذه العشر بطاعة الله تعالى، من الصلاة وقراءة القرآن والذكر والدعاء والصدقة وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من طرق الخير.
ثم اعلموا ـ عباد الله ـ أنَّ من أراد أن يضحِّي فليُمسِك عن شعره وأظفاره وبشرته إذا دخلت العشر حتى يضحِّي، ففي صحيح مسلم أن النبي قال: ((إذا رأيتم هلالَ ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحّي فليُمسِك عن شعره وأظفاره حتى يُضحّي)) ، وفي رواية: ((فلا يمسّ من شعره وبشرته شيئًا)). وهذا النهيُ خاصٌّ بالمضحّي، أما من يُضحَّى عنه من أهل البيت فلا يدخل في هذا النهي، وحتى لو شاركوا ربَّ البيت في أضحيته.
فاتقوا الله سبحانه وعظِّموا شعائرَه تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
(1/4106)