غض البصر والسهم المسموم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
6/4/1416
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة شاب انتكس بسبب نظرة. 2- النظر بريد الزنا. 3- غض البصر من أخلاق الرجال في الجاهلية. 4- النظرة سهم مسموم يصيب القلب. 5- ثمرة غض البصر. 6- نظر الفجأة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، فاذكروه ولا تنسوه، واشكروه ولا تكفروه، وأطيعوه ولا تعصوه.
صحب شاب قومًا على ظهر سفينة يجوبون بها البلدان طلبًا لرزق الله في أرضه، وكان يبدو عليه سيما الصلاح، وذات مرّة ألقى البحر بالسفينة إلى جزيرة من الجزر، فنزل القوم إليها يستريحون فيها أيامًا من عناء السفر الطويل، ويتجولون في أسواقها، يشترون منها الغريب والعجيب لأهليهم ولأبنائهم، ثم يرجعون إلى سفينتهم ليلاً، وكان من بين القوم رجل سيئ خبيث الطوية يقصد أماكن الفجور والبغاء، وكان ذلك الشاب المصاحب للقوم لا ينزل من السفينة أبدًا، بل يمكث بها يصلح فيها ما يحتاج إلى إصلاح ويشغل وقته بما ينفعه، وبينما هو كذلك إذ يقترب إليه صاحب السوء ويقول له: لم أنت جالس في السفينة لا تفارقها؟ لم لا ترى دنيا غير دنياك؟ لم لا ترى الأعاجيب والغرائب؟ لم لم... ولا يزال يلحّ عليه حتى تحركت نفس ذلك الشاب شوقًا لما سمع من العجائب والغرائب، فقال الشاب: وهل في هذه الدنيا ما تقول؟ قال صاحب السوء: نعم، وفي هذه الجزيرة، ونزل الشاب المسكين مع صاحب السوء وتجولا في أسواق المدينة وشوارعها حتى دخل به إلى طرق صغيرة ضيقة حتى انتهى إلى بيت صغير، فدخل الرجل البيت وطلب من الشاب أن ينتظره وقال: سآتيك بعد قليل، ولكن إياك أن تقترب من الدار، جلس الشاب بعيدًا عن الباب، وفجأة إذا به يسمع قهقهة عالية، وإذا بالباب يفتح وتجري منه امرأة قد خلعت جلباب الحياء والمروءة.
عجبًا إنه الباب نفسه الذي دخل فيه الرجل! وتحركت نفس الشاب فدنا من الباب وهو يسمع صوت القهقهة، فنظر من شق الباب فرأى ما يهوله، ويتبع النظرة أختها لتتواصل النظرات منه وتتوالى وهو يرى شيئًا منكرًا لم يألفه ولم يره من قبل، وحينما خرج صاحبه استنكر عليه الشاب فعلته ووبخه، ولكن صاحب السوء شتم الشاب وسبه، ثم رجع القوم إلى السفينة ورجع الشاب، ولكن رجع مشغول الفكر والبال فيما رأى، قد استحكم سهم الشيطان من قلبه، وامتلكت النظرة زمام فؤاده.
وبدأ الشيطان ـ عباد الله ـ يوسوس للشاب، ويعرض عليه ما رأى، وظل هكذا، فما إن أصبح الصباح حتى كان هو أول النازلين من السفينة، وليس له هم إلا أن ينظر فقط لا شيء غير النظر، وذهب إلى المكان السيئ الذي دله عليه رفيق السوء، فما زال يتبع النظرة الأخرى حتى وقع في الحرام والعياذ بالله، ومكث يومه الأول والثاني حتى افتقده القوم، وسألوا عنه فلم يجبهم أحد، حتى علم قائد السفينة أنه في أماكن البغي والفساد، فأمر بإحضاره، ولم يحضر معهم إلا بالقسر والقوة، قد استحكم على قلبه الهوى فأفسده، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأبحرت السفينة راجعة إلى البلاد، ومضى الجميع في عملهم، وبقي ذلك الشاب في زاوية من السفينة متأوّهًا باكيًا يئن، حتى لتكاد نياط قلبه أن تتقطع من شدة البكاء، ويقدمون له الطعام ولا يأكل.
وبقي على حاله البائسة هذه بضعة أيام، وفي ليلة من الليالي ازداد بكاؤه ونحيبه ولم يستطع أحد من أهل السفينة أن ينام، فجاءه قائد السفينة وقال له: يا هذا اتق الله، ماذا أصابك؟! لقد أقلقنا أنينك فما نستطيع النوم، فما الذي بدل حالك؟! ما الذي دهاك؟! فرد عليه الشاب وهو يتحسر: دعني فإنك لا تدري ما الذي أصابني، فقال الربان: وما الذي أصابك؟ عند ذلك كشف الشاب عن عورته وإذا الدود يتساقط من سوأته، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فارتعش القائد مما رأى وهاله الأمر مما رأى أعوذ بالله من هذا، وقام عنه القائد، وقبيل الفجر قام أهل السفينة على صيحة مدوية أيقظتهم من نومهم، وذهبوا إلى مصدرها فهالهم ما وجدوا ورأوا، وجدوا ذلك الشاب وهو ممسك خشبة السفينة بأسنانه وقد فارقت روحه جسده ليلقى الله على حالته تلك، فاسترجع القوم وسألوا الله حسن الختام، وبقيت هذه القصة عبرة للمعتبرين.
فتأملوا ـ عباد الله ـ في عاقبة إطلاق البصر في محارم الله، ولا شك ـ إخوتي ـ أن ذلك الشاب كان في قلبه آفة كامنة غير ظاهرة للناس، منها استحكم الشيطان على قلبه، وإن أظهر الصلاح للناس، فإنما الأعمال بالخواتيم.
إخوة الإسلام، لقد حذر الشرع من إطلاق البصر فيما لا يحل له، وهو بريد الزنا كما قال بعض السلف، وجعل الله تعالى ترك الزنا من أعظم صفات عباد الرحمن بقوله: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]. وهو مراد النبي : ((فزنا العينين النظر)) ، فالنظر هو الخطوة الأولى في إثارة الشهوة وتهييج النفس إلى الحرام والوقيعة في الزنا، والعياذ بالله.
أخي المسلم والمسلمة، لقد كان العرب قبل الإسلام يعدون غض الطرف أدبًا عظيمًا، بل ويتفاخرون به، ومن ذلك قول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
كان هذا حالهم وهم مشركون بالله تعالى، فكيف بنا نحن المسلمين وبين أيدينا كتاب الله وسنة نبيه ؟!
قال ابن الجوزي رحمه الله محذرًا: "فاحذر ـ يا أخي وفقك الله ـ من شر النظر، فكم قد أهلك من عابد وفسخ عزم زاهد، فاتعظ بذلك وتلمح معنى قول النبي : ((النظر سهم مسموم)) ؛ لأن السم يسري إلى القلب، فيعمل في الباطن قبل أن يُرى عمله في الظاهر، فاحذر من النظر، فإنه سبب الآفات، إلاّ أن علاجه في بدايته قريب، فإذا تكرر تمكن الشر فصعب علاجه".
وقال: "وكذلك النظرة إذا كثرت في القلب، فإن عجّل الحازم بغضها وحسم المادة من أولها سهل علاجه، وإن كرر النظر نقب عن محاسن الصورة، ونقلها إلى قلب متفرغ فنقشها فيه، فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة فلا تزال تنَمَّى، فيفسد القلب ويُعْرِض عن الفكر فيما أُمِرَ به، ويخرج بصاحبه إلى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات ويلقيه في التلف. والسبب في هذا الهلاك أن الناظر أول نظرة التذّ بها فكررها يطلب الالتذاذ بالنظرة مستهينًا بذلك، فأعقبه ما استهان به التلف، ولو أنه غض عند أول نظرة لَسَلِمَ في باقي عمره".
عباد الله، لقد أمر الله ورسوله الأمة بغض أبصارهم عما لا يحل لها، فقال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
قال ابن كثير رحمه الله: "وهذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعًا". أسمعت يا عبد الله؟! وقال ابن الجوزي رحمه الله: "ولما كان إطلاق البصر سببًا لوقوع الهوى في القلب أمرك الشرع بغض البصر عما يخاف عواقبه".
وبعد ذلك: يا عباد الله، ما هي الثمرة لغض البصر؟ استمع إلى قوله تعالى: ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ أي: أطهر لقلوبهم وأنقى لدينكم كما قيل: من حفظ بصره أورثه الله نورًا في بصيرته، وقيل: نورًا في قلبه، ذكره ابن كثير في تفسيره.
ويتأكد ـ إخوة الإسلام ـ دخول النساء في الأمر بغض البصر في الآية السابقة، ولكن لأهمية الأمر وعظيم خطره خصّ الله النساء بقوله: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:31]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات، وغَيْرَهٌ منه لأزواجهن عبادِه المؤمنين، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات".
الله أكبر يا عباد الله، إن الله يغار على نساء المؤمنين، ويرفعهن إلى منزلة الإسلام الخالدة التي كرمهن بها، ولكن أين هذا من نساء الأسواق اللاتي يطفن بالمحلات التجارية، تنظر إلى الرجال بكل عين جريئة آثمة، وتجادل وتحادث بحجة البيع والشراء، وقد فتنت الرجال بزينتها وبهرجها وتبرجها أمام الناس؟!
والله يا عباد الله، لقد ذهبت الغَيْرة من قلوب كثير من الرجال إلا من رحم الله، وذهب الحياء من قلوب كثير من الرجال والنساء إلا من رحم الله، وقليل ما هم، فاحرص ـ يا عبد الله ـ على حفظ زوجتك وبناتك وأخواتك من النزول إلى الأسواق بغير حاجة وبغير محرم لها، فإن البلاء قد كثر، والفتن قد انتشرت، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عباد الله، أما السنة المطهرة فالأحاديث في ذلك كثيرة، جاءت محذرة من نظرة العين التي تفعل في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه وفيه قال: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)). ويقصد بأن له النظرة الأولى أي: نظرة الفجأة غير المتعمدة، أما أن يطلق نظره فيمن يمر من النساء بحجة النظرة الأولى فإن هذا تلبيس من الشيطان فاحذر.
ومن حق الطريق على الجالسين فيه ما رواه أبو سعيد وفيه قال: قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: ((غض البصر)) الحديث. وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي قال: ((اضمنوا لي ستًا من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم)) حديث حسن. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه)) رواه مسلم.
قال الشنقيطي رحمه الله: "محل الشاهد منه ـ أي: الحديث السابق ـ قوله : ((فزنا العين النظر)) فإطلاق اسم الزنا على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه".
وقد يدخل الشيطان ـ عباد الله ـ على أقوام بحجة أن النساء هن السبب في النظر إليهن بسبب كشفهن عن وجوههن وتبرجهن، ويجعل ذلك مبررًا للنظر إليهن، فقد قال سعيد بن أبي الحسن للحسن رحمه الله: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن؟ قال: اصرف بصرك عنهم، يقول الله عز وجل: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]. قال قتادة: "عما لا يحل لهم".
وقال الشنقيطي رحمه الله: "وبه تعلم أن قوله تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ [غافر:19] فيه الوعيد لمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحًا في أحاديث كثيرة".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عالم السر وأخفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المجتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أئمة الهدى، ومن سار على نهجه واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى، فإن من اتقى الله يجعل له فرقانًا يفرق به بين الحق والباطل، وليس ذلك إلا للمتقين، فكونوا منهم رحمكم الله.
إخوة الإسلام، قال ابن القيم رحمه الله: "وأمر الله تعالى نبيه أن يأمر المؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم، وأن يعلمهم أنه مشاهد لأعمالهم مطلع عليها، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور [غافر:19]، ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدمًا على حفظ الفرج، فإن الحوادث مبدؤها من البصر، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر، تكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة، ولهذا قيل: من حفظ هذه الأربعة أحرز دينه: اللحظات والخطرات واللقطات والخطوات".
وقال أيضًا رحمه الله تعالى: "وقد جعل الله سبحانه العين مرآة القلب، فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته".
ومن ثمرات غض البصر ـ أخي الحبيب ـ النجاة من ألم الحسرة التي تصيب الناظر إلى الحرام، وأنه يورث الفراسة، ويفتح أبواب العلم النافع وطرقه، ويورث القلب قوة وثباتًا وشجاعة في الحق، ويورثه فرحًا وسرورًا، ويسد عنه بابًا من أبواب جهنم، ويقوي العقل، ويخلص القلب من سكر الشهوة ورقدة الغفلة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (الشيطان من الرجل في ثلاثة: في بصره وقلبه وذكره، وهو من المرأة في ثلاثة: في بصرها وقلبها وعجزها).
أخي الكريم، أختي الكريمة، لقد ثبت بالدراسة والبحث العلمي أن تكرار النظر بشدة إلى الجنس الآخر يصل بالشخص إلى إصابة جهازه التناسلي بأمراض احتقان غدة البروستات والضعف الجنسي، وبالتحليل النفسي لهذا الإنسان وُجِد أنه يتعرض لأزمات نفسية واكتئاب وتغيير في سلوكه وشخصيته، ويشير الباحث إلى أن حاسة النظر تعتبر أقوى وأخطر من ناحية الإثارة الجنسية.
وفي الختام أوصيكم ونفسي ـ إخواني في الله ـ بمجاهدة النفس ساعة بعد ساعة، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وتذكر قول نبيك : ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)).
واعلم ـ أخي ـ إنما بصرك نعمة من الله عليك، فلا تعصه بنعمته، وعامله بغضه عن الحرام تربح.
أخي الحبيب، إن إطلاق بصرك إلى ما حرم الله إنما هو إيذان منك وإعلام للآخرين بإطلاق بصرهم إلى محارمك، ولا شك أنك لا ترضى بهذا مطلقًا، فإذا كنت كذلك فكيف ترضاه لغيرك من محارم الله؟! وتذكر ـ أخي ـ أن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، قال الشافعي رحمه الله:
عفّوا تعف نساؤكم في المحرم وتجنبوا ما لا يليق بمسلم
إن الزنا دين فإن أقرضته كان الوفا من أهل بيتك فاعلم
من يزْنِ يُزْنَ به ولو بجداره إن كنت يا هذا لبيب فافهم
أخي المسلم، تذكر أن ما تشاهده وتسمعه اليوم من حولنا من جرائم أخلاقية وجنسية لا مثيل لها وظهور أمراض فتاكة كالإيدز والهربز والسيلان وغيرها، كان سببها الأول هي تلك النظرة المحرمة التي يتبعها الفعل والمواقعة، واحذر ـ أخي ـ مثيرات الشهوة من المجلات الفاتنة والصور الخليعة الفاضحة في التلفاز والفيديو والبث المباشر، فإنها تحمل في طياتها صورًا سافرة عارية، وإن هذا لمؤذن بخطر ومصائب قد تحل بالمجتمع فتهلكه، عافانا الله وإياكم من كل بلاء، وحفظنا وإياكم من كل سوء ومكروه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
(1/3914)
لذة الطاعة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, فضائل الإيمان
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب شكر نعم الله تعالى. 2- طاعة الله سبب السعادة في الدنيا ومعصيته سبب الشقاء. 3- كيف نحصل على لذة العبادة؟ 4- مظاهر لحرمان لذة الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وراقبوه، واعملوا لإرضائه وأحبوه، فإن غضبه وسخطه إذا حلّ على أحد لم ينفعه أحد أو من ربه ينجيه.
إخوة الإسلام، إن العبادة هي الغاية التي من أجلها خلق الله العباد، وخلق لهم ما في الأرض كلها من شمس وقمر وتمر وزرع ونبات وثمار وجبال راسيات وسماء عاليات ذات سقف محفوظات، وسخر لهم البحر ليأكلوا منه لحمًا طريًا، ويستخرجوا منه حليةً يلبسونها، وذلل لهم الأرض تسهيلاً وتيسيرًا، وخلق لهم الدواب يأكلون منها لحمًا، ويشربون لبنها، ويتخذون من أوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين، وسخر لهم منها سرابيل تقيهم الحر وتقيهم البرد وتقيهم بأس بينهم، وخلق لهم من أنفسهم أزواجًا ليسكنوا إليها، ورزقهم من الذريات والطيبات ما يقرّ بهم أعينهم، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
كل هذا ـ أخي الحبيب ـ لك أنت فقط أيها المسلم، ولكن مقابل ذلك كله عليك أن تعبد الله حق عبادته، وتسر بطاعته، وتأنس بعبادته، وتتمنى القرب مما يرضيه عنك، فتزداد شوقًا إلى لقياه في الصلاة، وتطير فرحًا بسماع كلامه حالة قراءة القرآن، وتشرح صدرك بلذة مناجاته عند الدعاء وقيامك بين يديه في الأسحار، وتأنس بذكره لك عند ذكرك له في كل الأحوال.
فهل كل هذا نجده في نفوسنا إخوة الإيمان؟! سؤال محيّر في قلوبنا، والجواب: ليس بعد، لم نجده كلنا إلا من رحم الله ووفقه لطاعته، فما السبيل ـ إخوتي ـ إلى حصول اللذة بعبادة الله والأنس بها والشوق إليها؟
لقد ظن قوم أن السعادة في الغنى ورخاء العيش ووفرة النعيم ورفاهية الحياة، لكن البلاد التي ارتفع فيها مستوى المعيشة وتيسرت لأبنائها مطالب الحياة المادية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومركب وكماليات الحياة، إنها لا تزال تشكو تعاسة الحياة، وتحس بالضيق والانقباض، ولو بحثنا في حياتهم كيف يعيشون لوجدناهم عن الدين مُبعدين، وفي الشهوات والملذات غارقين، فأنى لهم ـ بربك ـ السعادة؟! بل هم بما اقترفت أيديهم يعذبون.
وأكبر شاهد على ذلك: انظر إلى بلد الحضارة والتقدم والمدنية أوربا، رغم التقدم العلمي والحضارة المزعومة إلا أنك تلاحظ عليها مظاهر التعاسة بادية على محياها، تفشي الانتحار، تفكك الأسر، تمرد الأبناء على الآباء، انتشار المخدرات والمسكرات، انتشار العهر والزنا، كثرة الضياع والقتل، والسبب في ذلك بُعدهم عن الدين وإلقائه خلفهم ظهريًا.
وهذا ما نخشاه اليوم ـ والله ـ على مجتمعنا، فقد تفشى بين كثير من المسلمين اليوم القلق والاكتئاب والكدر والأمراض النفسية والعصبية والأرق في النوم، والسبب هو البعد عن دين الله والتعلق بغير الله من هوى وشهوة عاجلة، والانسلاخ منه بالكلية عند البعض، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه الوابل الصيب: "الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوبات عاجلة ونارٌ دنيوية وجهنم حاضرة، والإقبال على الله والإنابة إليه والرضا به واختلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة".
ونستخلص من كلام ابن القيم رحمه الله المذكور آنفًا أهمية الرجوع إلى الله تعالى، وبذلك نستشعر لذة العبادة، لذة الطاعة لله تعالى وحده، تُرى ـ أخي الحبيب ـ كيف هي هذه اللذة وما السبيل إليها؟
أولاً: لتعلم ـ أخي ـ أن أعظم منحة يمنحها الله لعبده منحة التلذذ بالعبادة، وهي راحة النفس وسعادة القلب وانشراح الصدر وسعة البال أثناء العبادة وعقب الانتهاء منها، وهذه اللذة تتفاوت من شخص إلى شخص حسب قوة الإيمان وضعفه، وتحصل هذه اللذة بحصول أسبابها، وتزول بزوال أسبابها، ويجدر بالمسلم أن يسعى جاهدًا إلى تحصيلها لينعم بالحياة السعيدة.
لقد كان رسول الله يقول لبلال رضي الله عنه: ((أرحنا بالصلاة يا بلال)) ؛ لما يجده فيها من اللذة والسعادة القلبية، وإطالته لصلاة الليل دليل على ما يجده في الصلاة من الأنس والسرور بمناجاة ربه، وها هو ذا معاذ بن جبل يبكي عند موته ويقول: (إنما أبكي على ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر)، ويقول أحد السلف: مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله ومعرفته وذكره، وقال آخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
فكيف نحصل على لذة العبادة إخوة الإيمان؟ إنها أسباب نذكرها باختصار:
أولاً: مجاهدة النفس على طاعة الله، ولا بد منها حتى يدرك لذة العبادة، وسيجد الإنسان صعوبة في بادئ الأمر، ولكن عليك بالمصابرة والتحمل، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
يقول أحد السلف: ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي حتى سقتها وهي تضحك، وقال الشاعر:
لأستسهلن الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلا لصابر
يقول ابن رجب: "واعلم أن نفسك بمنزلة دابتك، إن عرفت منك الجد جدت، وإن عرفت منك الكسل طمعت فيك، فأخذت منك حظوظها وشهواتها، فالأمر بعد الله بيدك فاجتهد".
ثانيًا: ترك فضول الطعام والشراب والكلام والنظر، فيكفي المسلم أن يقتصر في طعامه وشرابه على ما يعينه على أداء عبادته وعمله، ولا يسرف في الأكل لقوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، ورد في الأثر قوله: (كل واشرب والبس وتصدق في غير إسراف ولا مخيلة)، وقال أحد السلف: راحة القلب في قلة الآثام، وراحة البطن في قلة الطعام، وراحة اللسان في قلة الكلام.
لهذا ترى الذي يثقل بطنه بالطعام يتثاقل عن الصلاة، ولا يقوم إليها إلا وكأنه يقاد إليها بالسلاسل، وإذا دخل في الصلاة فإنه ينتظر اللحظة التي يقول فيها الإمام: السلام عليكم ورحمة الله.
يقول أبو سليمان الداراني: "إن النفس إذا جاعت وعطشت صفا القلب ورق، وإذا شبعت عمي القلب". ولا يفهم ـ إخوتي ـ أن يقلل الإنسان الطعام حتى يضره ويضعفه، ولكن التوسط في الأمور كلها جميل.
أما ترك فضول الكلام، وهو الكلام المباح الذي لا ينفعك وقد يضرك إذا زاد عن الحق المعقول، وورد عنه قوله: ((لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي)).
فعليك ـ أخي ـ بشغل لسانك بذكره والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلام الطيب المبارك الذي يعود عليك بالأجر العظيم.
وفضول النظر يجب الابتعاد عنه، ومنه ما يحرم أو يكره مثل النظر للنساء والمتبرجات في التلفاز والجرائد والمجلات التي تحمل الصور الفاتنة المؤججة للشهوة المثيرة للفتنة الداعية إلى الرذيلة، فكل جارحة من الجوارح لها عبودية خاصة بها، فمتع عينيك بالنظر في ملكوت الله وفي عجيب صنعه وإتقان خلقه العظيم، وانظر إلى كتابه الحكيم الذي حرفُه بعشر حسنات، وتذكر قوله: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
ثالثًا: أن يدرك المسلم أن سعادته متوقفة على تحصيله لهذه اللذة، فالمال والجاه والحسب والنسب والأولاد لا تغني عن الإيمان شيئًا، ولا نسبة هناك بين نعيم الدنيا ونعيم الإيمان.
يقول الحسن البصري رحمه الله عن أهل المعاصي وأهل الترف والنعيم: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين فإن ذلّ المعصية لا يفارقهم، أبى الله إلاّ أن يذل من عصاه".
إنك ـ أيها الإنسان الحائر في أمرك التائه في حياتك المذبذب في إيمانك ـ لن تهنأ حياتك ولن يطيب عيشك إلا إذا وثّقت صلتك بالله عز وجل، وعُلّق قلبك به.
يقول ابن القيم رحمه الله: "في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه والفرار إليه، وفيه نبرات حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه".
رابعًا: إطابة المطعم، وفي الحديث: ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا)).
قد سئل الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه: بم تلين القلوب؟ قال: "بأكل الحلال، ولا يبلغ المؤمن درجة الورع والتقوى حتى يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس". ويقول أحد السلف: "تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الوقوع في الحرام".
خامسًا: البعد عن الذنوب صغيرها وكبيرها، يقول سفيان الثوري العالم الجليل والزاهد الكبير رحمه الله: "حُرِمت قيام الليل بسبب ذنب أذنبته"، ولما جلس الإمام الشافعي بين يدي مالك وقد أُعجب بفطنته وذكائه فقال: "إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا، فلا تطفئه بظلمة المعصية".
وقال : ((إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
وقال ابن المعتز:
خلّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
هذه ـ أخي الكريم ـ خمسة أسباب بتطبيقها بإذن الله تحصل لك لذة العبادة والأنس بالطاعة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، من مظاهر فاقدي لذّة العبادة ثقل الصلاة، لذا ترى بعض الناس لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وأصبحت كالحمل الثقيل على رؤوسهم، لسان حالهم يقول: "أرحنا منها يا إمام"، بدليل نقرهم الصلاة والسرعة في أدائها، وترى الواحد منهم يخرج من المسجد بمجرد انتهاء الإمام من السلام، ولو أن هذا الصنف من الناس وجد لذة العبادة وأحس بطعمها لبادر إلى الصلاة حين النداء لها، وأطال المكث في المسجد بعد الفريضة لأداء الرواتب والاشتغال بالأوراد، ولكن من تعلق قلبه بالدنيا يصعب عليه ذلك.
يقول ابن القيم رحمه الله في وصف حال المؤمن عند الصلاة: "فإذا حضر وقت الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد، فأدى فريضته كما أمر مكملاً لها بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الله، فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وجوارحه وسائر أحواله بآثار بادية على وجهه ولسانه وجوارحه، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها، قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله، ونفّرته عن كل قاطع يقطعه عن الله، فهو مهموم مغموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت الصلاة قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة، وهذا دأبه في كل فريضة".
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
(1/3915)
موعظة
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرعة تقلب الأيام وانصرام الأعمار. 2- سورة العصر وحكمها البالغة. 3- الدنيا مزرعة الآخرة. 4- الكل يتحسر على ما فاته من اغتنام الدنيا بالعمل الصالح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى وفكروا في دنياكم وسرعة زوالها، واستعدوا للآخرة وأهوالها، كل شهر يستعمله الإنسان فإنه يدنيه من أجله ويقربه من آخرته، وخيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله.
إنه ما بين أن يثاب الإنسان على الطاعة والإحسان أو يعاقب على الإساءة والعصيان إلا أن يقال: (فلان مات)، وما أقرب الحياة من الممات، وكل ما هو آت آت، وأنتم قبل أيام ودعتم عامًا قد انتهى وانتقص من أعماركم، وتستقبلون عامًا لا تدرون أتستكملونه أم لا، فلنحاسب أنفسنا: ماذا عملنا في العام المنصرم؟ فإن كان خيرًا حمدنا الله وأتبعناه بالخير، وإن كان شرًا تبنا إلى الله منه، واستدركنا بقية أيامنا قبل فواتها.
قال ميمون بن مهران: "لا خير في الحياة إلا لتائب، أو رجل يعمل في الدرجات"، يعني: أن التائب يمحو بالتوبة ما سلف من السيئات، والعامل يجتهد في علو الدرجات، ومن عداهما فهو خاسر، كما قال تعالى: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
فأقسم الله سبحانه وتعالى بالعصر الذي هو الزمن، وهو الوقت الذي يعيش فيه الإنسان، أن كل إنسان خاسر إلا من اتصف واشتغل وعمل بهذه الأربع صفات: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر على الحق، وما عداهم خاسر والعياذ بالله.
فهذه السورة العظيمة ميزان للأعمال، يزن المؤمن بها نفسه فيبين له بها ربحه من خسرانه، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: "لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم"، قال بعضهم: "كان الصديقون يستحيون من الله أن يكونوا على مثل حالهم بالأمس"، يشير إلى أنهم لا يرضون كل يوم إلا بالزيادة من عمل الخير، ويستحيون من عدم الزيادة، ويعدون ذلك خسرانًا، فالمؤمن لا يزداد بطول عمره إلا خيرًا، ومن كان كذلك فالحياة خير له من الموت، وفي دعاء النبي : ((اللهم اجعل الحياة زيادة لي من كل خير، والموت راحة لي من كل شر)) أخرجه مسلم.
فكيف ـ يا عباد الله ـ بمن لا يحافظ على الواجبات ولا يبتعد عن المحرمات؟! والله إن حياته خسارة أيما خسارة، وسيندم حين لا ينفع الندم، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((ما من ميت مات إلا ندم، إن كان محسنًا ندم أن لا يكون قد ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب)).
رئي بعض الموتى في المنام فقال: "ما عندنا أكثر من الندامة، ولا عندكم أكثر من الغفلة"، ورئي بعضهم في المنام فقال: "ندمنا على أمر عظيم، نعلم ولا نعمل، وأنتم تعملون ولا تعلمون، والله لتسبيحة أو تسبيحتان أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحب إلينا من الدنيا وما فيها".
أحبتي في الله، الأعمال بالخواتيم، فمن أصلح فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أُخذ بما مضى وما بقي، والموتى يتحسرون على فوات الحسنات الباقية، والأحياء يتحسرون على فوات أطماع الدنيا الفانية، ما مضى من الدنيا ـ وإن طالت أوقاته ـ فقد ذهبت لذاته وبقيت تبعاته، وكأن لم يكن إذا جاء الموت وصيحاته، قال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207]، وفي صحيح البخاري عن النبي قال: ((أعذر الله إلى امرئ حتى بلغه ستين من عمره)) ، وفي سنن الترمذي: ((أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك)).
فيا من يفرح بكثرة مرور السنين عليه، إنما تفرح بنقص عمرك، قال بعض الحكماء: "كيف يفرح من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟!".
كيف يفرح من عمره يقوده إلى أجله، وحياته تقوده إلى موته، يؤتى يوم القيامة بأطول الناس أعمارًا في الدنيا من المترفين التاركين لطاعة الله المرتكبين للمعاصي الذين شغلتهم أموالهم عن الصلاة وأدائها، فيصبغ أحدهم في النار صبغة ثم يقال له: هل رأيت في الدنيا خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب، ينسى كل نعيم الدنيا عند أول مس من العذاب، إنهم أولئك الذين أعطوا أعمارًا فضيعوها في اللهو والغفلة، وأعطوا أموالاً فبذّروها في الشهوات المحرمة، عندما ذاقوا أول جزائهم نسوا كل ما أعطوا في الدنيا من الوقت والمال، وكل ما ذاقوا من اللذة ونالوا من الشهوة.
هؤلاء الذين صرفوا عقولهم وأعمالهم واهتماماتهم للعمل في دنياهم، واتبعوا شهوات بطونهم وفروجهم، وتركوا فرائض ربهم ونسوا آخرتهم، حتى جاءهم الموت فخرجوا من الدنيا مذمومين مفلسين من الحسنات، فاجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت، فندموا حيث لا ينفعهم الندم، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى الآية [الفجر:23].
فتذكروا ـ أيها الناس ـ بانقضاء العام انقضاء الأعمال، وتذكروا بالانتقال للعام الجديد الانتقال إلى دار القرار، وعليكم بالتوبة من جميع الخطايا والسيئات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3916)
وخالق الناس بخلق حسن
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حسن الخلق من صفات المؤمنين. 2- حسن الخلق صفة المتقين. 3- فضل حسن الخلق. 4- درجة صاحب الخلق الحسن يوم القيامة. 5- حقيقة حسن الخلق. 6- التحذير من سوء الخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أوصيكم بوصية رسول الله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حينما بعثه إلى اليمن: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) ، جعلني الله وإياكم ممن تمثل بهذه الصفات فكان ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عباد الله، لقد مضى الكلام في الخطبتين السابقتين عن صفات المتقين ومراقبتهم لربهم، وعن شأنهم في حال خطيئتهم في حق الله وأنفسهم والناس بأنهم إذا أذنبوا آبوا إلى ربهم نادمين مستغفرين، وها نحن اليوم مع خلّة عظيمة من خلالهم، وصفة بينة من صفاتهم، قل أن تجدها في غيرهم من المؤمنين، ومن يعش بين الناس في مجريات حياتهم وأعمالهم يلمس ضعف الالتزام بحسن الخلق، وما ذاك ـ وايم الله ـ إلا لضعف تقواهم لربهم عز وجل وبعدهم عن هدي نبيهم.
القدوة الصالحة في الخلق القويم والصراط المستقيم، والذي به ملك قلوب الناس أجمعين، فهل وقفنا مع حسن الخلق وقفة نتأمّل فيها أحوال المتقين وكلام أهل العلم في هذه الصفة العظيمة؟! فلقد قال ابن رجب رحمه الله عند شرحه لحديث: ((اتق الله حيثما كنت)) فقال عند قوله : ((وخالق الناس بخلق حسن)) : "هذا من خصال التقوى، ولا تتم التقوى إلا به، وإنما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه، فإن كثيرًا من الناس يظنّ أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده، فنصّ له على الأمر بإحسان العشرة للناس، فإنه كان قد بعثه إلى اليمن معلمًا لهم ومفقهًا وقاضيًا، ومن كان كذلك فإنه يحتاج إلى مخالقة الناس بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيره ممن لا حاجة للناس به ولا يخالطهم، وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها، والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جدًا، لا يقوى عليه إلا الكُمّل من الأنبياء والصديقين" اهـ.
وقال الحارث المحاسبي: "ثلاثة أشياء عزيزة أو معدومة: حسن الوجه مع الصيانة، وحسنُ الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة".
وقد عد الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى، بل بدأ بذلك فقال سبحانه: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134].
وإن لحسن الخلق في الإسلام مكانة عالية، فلقد قال : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا)) رواه الإمام أحمد وأبو داود من رواية أبي هريرة رضي الله عنه. فقد جعل النبي بهذا الحديث حسن الخلق أكمل خصال الإيمان، وأخبر أن صاحب الخلق الحسن يَبلُغُ بخلقه درجة الصائم القائم؛ لئلا يشتغل من يريد التقوى عن حسن الخلق بالصوم والصلاة، ويظن أن ذلك يقطعه فضلهما، فقد خرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي قال: ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم)).
بل ـ أخي الحبيب ـ إن أثقل ما يوضع في ميزانك ويجعلك أحب الناس إلى الله، بل تكون به أقرب الناس مجلسًا إلى النبي هو حسن الخلق، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من حسن الخلق)) الحديث، وخرج ابن حبان في صحيحه بسند حسن من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((ألا أخبركم بأحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟!)) قالوا: بلى، قال: ((أحسنكم خلقًا)) ، ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((أكثر ما يُدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق)).
فكان حسن الخلق طريقا من طرق دخول الجنة، بل رفع النبي الكريم همة المتقين والمسارعين حتى يطمعوا لا في دخول الجنة فحسب، بل بلوغ الدرجات العلى فيها، فقال فيما خرجه أبو داود بسند حسن من حديث أبي أمامة رضي الله عنه: ((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حَسُنَ خُلُقُه)). فلا إله إلا الله.
عباد الله، كم من أجور أضعناها بغفلتنا عن حسن الخلق والاعتناء به، فهلاّ وقفنا سويًا ـ أحبتي ـ مع تفسير حسن الخلق بما قاله سلفنا الصالح رحمهم الله، فقد قالوا عن حسن الخلق: إنه الكرم والبذل والاحتمال والبشر الحسن، قال ابن المبارك: "هو بسط الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى"، وقال الإمام أحمد: "أن لا تغضب ولا تحتد"، وقال بعض أهل العلم: "حسن الخلق كظم الغيظ لله، وإظهار الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر، والعفو عن الزالين إلا تأديبًا أو إقامة حد، وكف الأذى عن كل مسلم أو معاهد إلا تغيير منكر أو أخذ بمظلمة لمظلوم من غير تعدٍّ".
إخوة الإيمان، ولنا وقفة مع أنفسنا، ألا وهي الحذر من الإساءة في الخلق، إن سوء الخلق نقص في إيمان العبد وتقواه.
إخوتي، أخلاق بعضنا مصلحية وقتية لغرض إنجاز أعماله ومصالحه، فإذا ما انتهى من قضائها رأيت منه سوءًا غريبًا، وكأنه ليس هو الذي قبل قليل من كان يمازحك ويلاطفك، وآخرون منا يُضرب به المثل في الملاطفة والموادعة وجميل الخصال وزين الفعال وبشاشة الوجه وطلاقة الأسارير، فما أن يدخل داره ويغلق بابه حتى تتغير طباعه، وتسوء فعاله، ويكفَهِرّ وجهه، حتى يصبح عذابًا على أهله وكأنه وحش مفترس، وما علم هذا أن النبي قال: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)).
ومنا من يعجبك قوله حال رضاه وخلقه حال سلواه، فإذا ما تغير مزاجه وتكدّر صفوه انقلب إنسانًا آخر غير الذي رأيت من قبل، فلا يترك لك شاردة ولا واردة إلا وصمك بها وعابك بقبحها، وما علم هذا قوله : ((ليس الشديد بالصُّرْعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
سأُلزِمُ نفسي الصفحَ عن كل مذنب وإن كثرت منه عليّ الجرائمُ
وما الناسُ إلا واحدٌ من ثلاثة شريفٌ ومشروف ومثلي مقاومُ
فأما الذي فوقي فأعرف فضْلَهُ وألْزمُ فيه الحقَّ والحقُّ لازمُ
وأما الذي دوني فإن قال صُنْت عَنْ مَقَالَتِهِ نفْسي وإن لامَ لائم
وأما الذي مثلي فإن زلّ أو هفا تفضّلت إن الفضل للحر حاكمُ
فعلينا ـ إخوتي ـ أن نكون من عباد الله المتقين، فنعرف حق ربنا جل جلاله فنتقيه، ونعمل بما أمر ونجتنب ما نهى، وأن نعرف حق أنفسنا وحال خطيئتنا، فإذا أذنبنا استغفرنا، وإلى ربنا رجعنا، وأن نعرف حق الناس علينا فنخالقهم بخلق حسن، من بساطة الوجه وكف الأذى وعدم الكبر والحث على التواضع، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3917)
وصف الجنة ونعيمها
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صفة الجنة. 2- صور من نعيم الجنة. 3- رؤية المؤمنين ربهم في الجنة. 4- آخر من يدخل الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ فيما بقي من شهركم، واجتهدوا فيه بالمبادرة بالأعمال الصالحة من القيام والذكر والدعاء، فإن أيامه ولياليه قد تصرّمت وقاربت على الانقضاء، وها نحن في العشر الأخيرة منه، وقد تميزت بليلة القر التي هي خير من ألف شهر، ومن قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه يا عباد الله.
ونلحظ المساجد ـ إخواني في الله ـ في هذه الأيام قد تقلص عدد القائمين فيها والذاكرين والداعين، وضعفت الهمم، وأصابها الملل والكسل والخور والتعب والتأفف من القيام وحبس النفس على طاعة الله، فأحببت أن أذكر نفسي وإياكم بما يرغبها في المواصلة والاجتهاد لإتمام قيام هذا الشهر الكريم، والإكثار من الذكر والدعاء والقربات والطاعات التي ترضي عنا ربنا جل وعلا، عسى ربنا أن يمن علينا وعليكم بمنه وكرمه، فندرك هذه الليلة العظيمة ليلة القدر، فنكون فيها ـ بإذنه ـ من الفائزين ومن المقبولين، وما ذاك على الله بعزيز.
فما من مرغب يحث على الطاعة ويعلي الهمم للحصول على رضا الله مثل الترغيب بالجنة ونعيمها وما أعده الله لعباده الصالحين، جعلنا الله وإياكم من أهلها، آمين.
فاستمع ـ يا أخي المسلم ـ إلى دار بناها الله بيده، لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، وقال الله لها: انطقي، فقالت: قد أفلح المؤمنون.
نعم، المؤمنون المتقون يا عباد الله، يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا [مريم:85]، وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا [الزمر:73].
إنها الجنة يا عبد الله، التي قال الله تعالى عنها: ((أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)).
فما بالك ـ يا عبد الله ـ بجنة عرضها السماوات والأرض، ما بين مصراعي الباب مسيرة أربعين عامًا، وليأتين المؤمن فيها خيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا، فيها غرف يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطاب الكلام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام.
فيها شجرة يسير الراكب الجواد المضمّر السريع مائة عام ما يقطعها، وساقها من ذهب، غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، جنتان منها، فيهما من كل فاكهة زوجان، وجنتان فيهما فاكهة ونخل ورمان، قد ذللت قطوفها تذليلاً، إن قام تناولها بيسر، وإن قعد تناولها بيسر، وإن اضطجع تناولها بيسر، كلما أخذ منها شيئًا خلفه آخر.
فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، يطوف عليهم ولدان مخلدون، إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤًا منثورًا من جمالهم وانتشارهم في خدمة أسيادهم، يطوفون عليهم بكأس من معين، بيضاء لذة للشاربين، في آنية الفضة وصحاف من ذهب وأكواب من فضة في صفاء القوارير، شرابهم التسنيم والزنجبيل والكافور، وطعامهم فاكهة مما يتخيرون، ألين من الزبد وأحلى من العسل، ولحم طير مما يشتهون، يُعطى الواحد منهم قوة مائة في الأكل والشرب والجماع، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوّة، على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء، جرد مرد مكحلون، ولو أن رجلاً من أهل الجنة اطلع فبدا أساوره لطمس ضوء الشمس، لا غل بينهم ولا حسد ولا بغضاء.
أما نساؤهم من الحور العين فلو اطلعت إحداهن إلى الأرض لأضاءت الدنيا، ولملأت ما بينها ريحًا، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها، وللرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب، وأنشأهن الله إنشاءً فجعلهن أبكارًا، كلما أتاها زوجها رجعت بكرًا كما كانت، متوددة إلى زوجها متحببة إليه، قصرت طرفها عليه، طاهرة مطهرة من الأنجاس والأقذار والأرجاس، وإنهن ليغنين لأزواجهن بأحسن أصوات، ما سمعهن أحد قط.
وإن أهل الجنة لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون ولا يتفلون، أمشاطهم الذهب، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير، هم وأزواجهم في ظلال على الأراك متكئون، متكئون على فرش بطائنها من استبرق، وجنى الجنتين دان، يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس.
وإن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهلهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً.
وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون، لا يبغون عنها حولاً ولا هم منها مخرجون، وينادي فيهم مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا، فذلك قول الله عز وجل: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمْ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، ثم يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبدًا، ويذبح الموت بين الجنة والنار.
فإذا دخل أهل الجنة الجنة نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويُدْخِلَنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟! قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقرّ لأعينهم منه، وهو أعلى نعيم أهل الجنة في الجنة. فإنهم ينعمون برؤية ربهم البر الرحيم الذي مَنّ عليهم حتى أوصلهم بفضله إلى دار السلام والنعيم، يرونه عيانًا بأبصارهم كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22، 23].
وإن سألتم عن أهلها والطريق الموصل إليها فاستمع إلى قول الحق جل وعلا: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:1-11].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، وتزودوا من دنياكم بما ينفعكم في الأولى والأخرى، واعلموا أن خير الزاد التقوى.
عباد الله، ((إن آخر من يدخل الجنة رجل، فهو يمشي مرة ويكبو مرة، وتسفعه النار مرة، فإذا ما جاوزها التفت إليها، فقال: تبارك الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين، فتُرفعُ له شجرة فيقول: أي رب أدنني من هذه الشجرة لأستظل بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم لعلّي إن أعطيتكها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهده أنه لا يسأل غيرها، وربّه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى فيقول: أي رب، أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ فيقول: لعلّي إن أدنيتك منها تسألني غيرها، فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها، فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم تُرفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأولين فيقول: أي رب، أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها لا أسألك غيرها، فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟ قال: بلى يا رب، هذه لا أسألك غيرها، وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر عليه فيدنيه منها، فإذا أدناه منها فيسمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم ما يصريني منك ـ أي: ما يقطع مسألتك مني ـ أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها، قال: يا رب، أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟! فيضحك الله فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قادر)) رواه مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وبعد: عباد الله، أسمعتم إلى حال أدنى أهل الجنة منزلة في الجنة، إنه لنعيم عظيم فما بالكم بأعلاها، إنها ـ والله ـ لفرصة عظيمة للراغبين في دخولها، لا سيما في هذا الشهر العظيم الذي يتفضل الله فيه على عباده فيعتقهم من النار ويدخلهم الجنات، فاعمل يا عبد الله.
واعمل لدار غدًا رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
(1/3918)
وصية مشفق
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الزهد والورع, الكبائر والمعاصي, الموت والحشر
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عبودية الكون لله. 2- غرور الإنسان وتجافيه عن عبادة ربه. 3- أمور ينبغي أن نتذكرها قبل أن نعصي ربنا. 4- موعظة في هجر الذنوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أخي الحبيب، بينما نحن نسير في خضم هذا العالم الكبير، مشتغلين بأموالنا وأزواجنا وأهلينا، نغفل كثيرًا عما أمامنا، تُرى ماذا أمامنا؟
إن أمامنا حفرة عميقة ذات هوة سحيقة، نخشى على أنفسنا إن نحن واصلنا المسير أن نقع فيها، ولكن لنقف مع أنفسنا وقفة عتاب وحساب، فلنستمع إلى قول الحق جل وعلا: تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [الإسراء:44]، وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [الحج:18].
سبحان الله! هذه الجبال الرواسي الشامخات تسجد، وهذه النجوم النيرات تسبح، وهذه الدواب العجماوات تلهج بذكره. كل هذه المخلوقات العظيمة تقف منكسة رأسها، متذللة إليه، معترفة بالفضل له، ولكن هناك مخلوق صغير حقير ذليل خُلق من نطفة، فإذا هو خصيم مبين، هو يسير في واد، والكون كله في واد آخر، يترك السجود لله الواحد القهار والكون كله يسجد لله، ويترك ذكره وتسبيحه والكون كله يلهج بذكر الله.
هل عرفت من هو هذا المتمرد على ربه المتنكب للصراط؟ إنه الإنسان.
فالله أكبر ما أشد غروره، الله أكبر ما أعظم حماقته، الله أكبر ما أذله وما أحقره، حينما أراد أن يكون شاذًا في هذا الكون المنتظم. كم عُرضت عليه التوبة فلم يتب، وكم عُرضت عليه الإنابة ولم ينب، وكم عُرض عليه الرجوع وهو في شرود من ربه وهروب، كم عرض عليه الصلح مع مولاه فلم يصطلح ولوّى رأسه مستكبرًا.
أخي الحبيب، عليك قبل أن تعصي الله عز وجل فتصل إلى هذا الوضع المزري المشين، ويا من قد وصل إلى هذا الوضع المتردي، لا تقنط من رحمة ربك ومولاك، ولكن تفكر، عليك أن تفكر في هذه الدنيا وحقارتها وقلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها وسرعة انقضائها. وتفكر في أهلها وعشاقها وهم صرعى حولها، قد عذبتهم بأنواع العذاب، وأذاقهم مرّ الشراب، أضحكتهم قليلاً وأبكتهم كثيرًا وطويلاً، سقتهم كؤوس سمّها بعد كؤوس خمرها، فسكروا بحبها وماتوا بهجرها.
عليك ـ أخي ـ قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتفكر في الآخرة ودوامها، وأنها هي الحياة الحقيقية، فأهلها لا يرتحلون منها ولا يظعنون عنها، بل هي دار القرار ومحط الرحال ومنتهى السير.
عليك قبل أن تعصي الله ـ أخي الحبيب ـ أن تتفكر في النار وتوقدها واضطرامها وبعد قعرها وشدة حرها وعظيم عذاب أهلها، تفكر في أهلها وقد سيقوا إليها سود الوجوه زرق العيون، والسلاسل والأغلال في أعناقهم، فلما انتهوا إليها فتحت في وجوههم أبوابها، فشاهدوا ذلك المنظر الفظيع الذي يقلق القلوب، ويذهب العقول، فتتقطع قلوبهم حسرة وأسفًا، وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [الكهف:53]، فيأتي النداء من رب العالمين: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، ثم قيل لهم: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور:14-16].
عليك أن تتفكر في أهلها وهم في الجحيم، على وجوههم يسحبون، وفي النار كالحطب يسجرون، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41]، فبئس اللحاف وبئس الفراش، وإن استغاثوا من شدة العطش يغاثون بماء كالمهل يشوي الوجوه، فإذا شربوه قطع أمعاءهم في أجوافهم، وصهر ما في بطونهم، شرابهم الحميم، وطعامهم الزقوم، لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر:36، 37].
عليك ـ أخي ـ قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتفكر في الجنة وما أعد الله لأهلها فيها، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وما وصفه الله لعباده على لسان رسوله من النعيم المفصل الكفيل بأعلى أنواع اللذة من المطاعم والمشارب والملابس والصور والبهجة والسرور.
تفكر في الجنة وتربتها المسك، وحصباؤها الدر، وبناؤها لبن الذهب وقصب اللؤلؤ، وشرابها أحلى من العسل، وأطيب رائحة من المسك، وأجمل من الكافور، وألذ من الزنجبيل، ونساؤها لو برز وجه إحداهن في هذه الدنيا لغلب على ضوء الشمس، ولباسهم الحرير من السندس والإستبرق، وخدمهم ولدان كاللؤلؤ المنثور، وفاكهتهم دائمة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة، وغذاؤهم لحم طير مما يشتهون، وشرابهم خمرة لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وخضرتهم فاكهة مما يتخيرون، وفيها حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون، فهم على الأرائك متكئون، وفي تلك الرياض يحبرون، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.
عليك ـ أخي ـ قبل أن تعصي الله عز وجل أن تتذكر من تعصيه، تتذكر الله سيدك ومولاك، تذكر جلال الله وجماله وكماله وعزه وسلطانه وقيوميته وعلوه فوق عرشه جل جلاله، عليك أن تتذكر الله عز وجل قيومًا قاهرًا فوق عباده مستويًا على عرشه، منفردًا بتدبير مملكته، آمرًا ناهيًا، مرسلاً رسله، منزلا كتبه، يرضى ويغضب، ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، ويحب ويبغض، ويرحم إذا استرحم، ويغفر إذا استغفر، ويجيب إذا دعي، ويقيل إذا استقيل.
عليك أن تتذكر أن الله أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وأعز من كل شيء، وأقدر من كل شيء، وأعلم من كل شيء، وأحكم من كل شيء، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، فلا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين، سواء عنده من أسرّ القول ومن جهر به، فالسر عنده علانية، والغيب عنده شهادة، يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، ويرى نياط عروقها ومجاري القوت في أعضائها.
تذكر ـ أخي الحبيب ـ كم ستعيش في هذه الدنيا، ستين سنة، ثمانين سنة، مائة سنة، ألف سنة، ثم ماذا؟ ثم موت وبعده خلود دائم في جنات النعيم أو في نار الجحيم.
أخي الحبيب، تيقن حق اليقين أن ملك الموت كما تعداك لغيرك فهو في الطريق إليك، تيقن أن الحياة مهما امتدت وطالت فإن مصيرها إلى الزوال، وما هي إلا أعوام أو أيام أو لحظات فتصبح وحيدًا فريدًا، لا أحباب ولا أموال ولا أصحاب.
تخيل نفسك وقد نزل بك الموت، وجاء الملك فجذب روحك من قدميك، تذكر ظلمة القبر ووحدته وضيقه ووحشته وهول مطلعه، تذكر هيئة الملكين وهما يقعدانك ويسألانك، تذكر كيف يكون جسمك بعد الموت، لقد تقطعت أوصالك وتفتت عظامك وبلي جسدك، وأصبحت قوتًا للديدان ثم ينفخ في الصور، ما هذا؟! إنها صيحة العرض على الله، فتسمع الصوت فيطير فؤادك، ويشيب رأسك، فتخرج مغبرًا حافيًا عاريًا، قد رجت الأرض رجًا، وبست الجبال بسًا، وشخصت الأبصار لتلك الأهوال، وطارت الصحائف وقلق الخائف فكم من شيخ يقول: واشيبتاه! وكم من كهل ينادي: واخيبتاه! وكم من شاب يصيح: واشباباه!
برزت النار فأحرقت، وزفرت النار غضبًا فمزقت، وتقطعت الأفئدة وتفرقت، والأحداق قد سالت، والأعناق قد مالت، والألوان قد حالت، والمحن قد توالت.
تذكر يوم توضع الموازين وتتطاير الصحف، كم في كتابك من زلل، وكم في عملك من خلل. تذكر يوم يقال لك: اعبر على الصراط.
تذكر يوم يُنادى باسمك بين الخلائق: يا فلان بن فلان، أقبل إلى العرض على الله. تذكر حينئذ ضعفك، وشدة خوفك وانهيار أعصابك وخفقان قلبك. وقفت بين يدي الملك الحق المبين الذي كنت تهرب منه وقد دعاك، وقفت وبيدك صحيفة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها، فتقرؤها بلسان كليل وقلب كسير، قد عمك الحياء والخوف من الله، فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن عمرك وشبابك وعملك ومالك؟! وبأي قدم تقف غدًا بين يديه؟! وبأي قلب تجيب عليه؟! ماذا تقول له غدًا عند السؤال: عبدي استخففت بنظري إليك، ألم أحسن إليك؟! ألم أنعم عليك؟!
ختامًا أخي الحبيب، أفلا تصبر على طاعة الله وعن معاصي الله وعلى أقدار الله، إنها والله أيام قليلة ولحظات سريعة، وبعدها تفوز فوزًا عظيمًا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المستغفرين والذاكرين والعابدين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أخي الحبيب، والله ما وقفت هذا الموقف ولا تكلمت بهذا الكلام إلا لخوفي على هذا الوجه الأبيض أن يصبح مسودًا يوم القيامة، وعلى هذه الوجوه المنيرة أن تصبح مظلمة، وعلى هذا الجسد الطري أن يلتهب بنار جهنم.
والله ما وجدتَ في هذه الدنيا إلا للعبادة، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات:56]. لم تخلق للهو واللعب، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
فاستعد للقاء الله، وتذكر الرجوع إلى الله، ألا تفكّر؟! ألا ترجع لرشدك؟! أتشكّ في وعد الله ووعيده؟! يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [فاطر:5-7].
والله إني أخاف عليك عذاب يوم عظيم، والله إني لك ناصح أمين، اسمع ـ أيها الأخ الحبيب ـ لذلك المؤمن النصوح المشفق الذي قام بنصح قومه قائلاً: وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِي أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [38-44].
نعم والله، سوف تذكر هذا الكلام، والموعد يوم القيامة، وستعلم يومئذ من كان على هدى ومن هو في ضلال مبين، وستعلم من كان على نور ومن هو في ظلام يتخبط.
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب [هود:88].
(1/3919)
الجمال في الإسلام
العلم والدعوة والجهاد, فقه
اللباس والزينة, محاسن الشريعة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
8/2/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان. 2- الإسلام دين الفطرة. 3- مشروعية الاستمتاع بالمنافع والمناظر. 4- عورة الجسم وعورة النفس. 5- الفن في الإسلام. 6- التحذير من اتخاذ الفن ذريعة إلى المحرمات. 7- الاغتباط إنما يكون بقوة التمييز واتساع العلم وحسن العمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله. عَجبًا لمن عرَف الدّنيا وتقلُّباتها ثمّ اغترّ، أفلا يميِّز بين الخير والشرّ والنّفع والضر؟! هلاَّ أقبلَتِ القلوب على مقلّبِها، واغتنمت بالصالحاتِ زمنَها، وبادَرَت بالصحّة سقمَها، وحفظتِ الأمانة لمن أمِنها؟! حرِّكوا الهِمَم إلى الخير، وحثُّوا العزائمَ إلى الجدّ، وآثروا الفقراءَ والمحتاجين بما تؤثِرون، لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
أيّها المسلمون، الإسلام دين الفطرة، يصلُح به كلّ زمان، ويَعمُرُ به كلُّ مكان، فهو دين عقيدةٍ وشريعة وتهذيبٍ وسُلوك وحقٍّ وجمال وتراثٍ ومُعاصرة، يعالج شؤونَ الحياة كلَّها في سلفيّةٍ لا تتوقَّف عند عصرٍ، بل تتجدّد لتعالجَ أوضاعَ كلِّ عصر وتُفتيَ في كلِّ شأن، ومن أجلِ هذا فلم يكن الإسلام ليتغاضَى عن نوازعِ النّفس البشريّة وما جُبِلت عليه من الإقبالِ والإدبار والجِدِّ والنّصَب والنشاطِ والسآمة والانشراح والكآبة. خلَق الله الناسَ ووضَع فيهم ما وضَع مِنَ الخصائص والطبائع، وبثَّ في الحياة والكونِ ما بثَّ، وسخَّر ذلك كلَّه للبشر، وقد علِمَ سبحانه أنهم بشَرٌ، لهم أشواقُهم القلبيّة وحظوظُهم النفسيّة وطبائعهم الإنسانيّة، فلم تأتِ التكاليفُ والتّشريعات لتجعَلَ كلَّ كلامِهم ذكرًا وكلَّ صمتِهم فِكرًا وكلَّ تأمُّلاتِهم عِبَرًا وكلَّ فَراغهم عبادة، لكنّه مكَّنَهم ليجعَلوا بنيَّةِ القربى وصحيحِ العمل كلَّ أعمالهم ذِكرًا وفِكرًا وعبادة وعِبرًا.
لقد أقرَّ دينُ الإسلام ما تتطلَّبُه الفطرةُ البشريّة من سرورٍ وفرَح ولعبٍ ومرَح ومزاح ومداعَبَة وأشواقٍ وجمال، محاطٌ ذلك بسياجٍ من أدَب الإسلام رفيع يبلُغ بالمتعةِ كمالَها وبالمرَحِ غايتَه، بَعيدًا عن الخَنا والحرام والظّلمِ والعدوانِ والغِلِّ وإيغار الصّدور وهدم المبادئ والأخلاق.
لقد خلَق لنا ربُّنا ما خلَق، ووهَب لنا ما وهب، وسخَّر لنا ما سخَّر، وشرَع لنا ما شرَع في أنفسِنا وفي أرضِنا وفي سمائنا وفي كلِّ ما حولنا، وأذِن لنا في الجمع بين الانتِفاع والاستِمتاع بالمنافِع والمناظر، اقرَؤوا إن شِئتم: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:5-8]، واقرؤوا قولَه سبحانه: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ [النمل:60]، واقرؤا قولَه سبحانَه: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ [الحجر:16]. بل لقد جاء التكليفُ بأن ننظر ونتأمَّل في مناظر الجمال ويانِعِ الثِّمار: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [ق:6]، وقوله سبحانه: انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ [الأنعام:99]، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ [ق:10]، أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [الغاشية:17-20]. إنه نظرٌ وتفكّر، يجمع بين الإيمان والفائدَةِ والجَمال والابتِهاج، بل لقد أمِرَ بنو آدَم باتِّخاذ زينَتِهم أمرًا مباشرًا، ولا سيّما في مواطن العبادة: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31].
ولمزيدٍ منَ التأمُّل والتفصيل في هذا الباب ـ يا عباد الله ـ فإنَّ في ابنِ آدم عورَتَين، وكِلتاهما تحتاج إلى سَتر، بل إنّ في سَترهما الجمالَ غايةَ الجمال:
أمّا العورةُ الأولى فعورةُ الجسم، وسَترها يكون بلبَاسَين: لباسِ السّتر ولِباس الزينة، وقد بيَّنهما ربُّنا عز وجل في قوله: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا [الأعراف:26]، فالأوَّل يواري السّوأةَ ويخفيها ويستُرها، أمّا الثاني فهو الرِّيش يجمِّلها ويزيِّنها، قال أهل العِلم: واختار التعبيرَ بالريش لأنَّ أجملَ ما كُسِيت به المخلوقات ريشُ الطير بألوانه الزاهيَة ورِقّته ونعومَتِه وجاذبيّتِه، قالوا: فهو أجمَل وأرقّ مِن الشعر والصّوف والوَبر، وإن كان في كلِّ هذه من الجمالِ ما لا يخفى.
أمّا العورة الثانية فعورةُ النفس، وسترها بالخُلُق الجميل وحُسن العبادة والطاعة لربِّ العالمين، وهو ما ذكَره عزّ شأنه في قوله: وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]. والجمال لا توصَف به الأشياء المادّيّات والأجسادُ فحسب، بل توصَف به الأخلاق والمعاني من الصبرِ الجميل والصّفح الجميل والهجرِ الجميل.
معاشِرَ الإخوةِ والأحبّة، وإذا كان الفنُّ في المرادِ المعاصر هو تذوُّق الجمال وصناعته فإنّه في دينِ الإسلامِ وحضارتِه ليس لمجرَّد التذوُّق بل لمقاصدَ كبرى. وجمالُ التعبير هو أوسَع أنواعِ الفنون وأكثرُها أثرًا في حياةِ الناس وتعامُلاتهم خطابًا وأسلوبًا وأمرًا ونهيًا ودَعوة وتوجيهًا وتعليمًا وتربيةً، ونحن أمّةٌ كتابها الهادِي هو مثَلُها الأعلى في جمالِ التعبير، ونبيُّها محمّد هو الذي أوتِيَ جوامعَ الكلم، فالقولُ الحسن والوَعظ الحسَن والجِدال بالتي هي أحسَن وأحسَن القصص كلُّ ذلك تنبيهٌ وتوجيه لأهل العِلمِ والدّعوة والتربيةِ والتثقيف أن يقصِدوا إلى الجاذبيّة في الأسلوب والجمالِ في التعبير، كيف وهم يقرؤونَ التوجيهَ الربانيّ للرحمة المهداة محمّد : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. الله أكبر، سبحانَ الله عباد الله، ما أوضحَ هذا وما أجملَه، لو كان محمّد فظًّا غليظَ القلبِ ـ وحاشاه عليه السلام ـ لو كان كذلك لما قبِل قولَه أحد ولنَفَر الناسُ من حولِه وانفضّوا، لماذا؟ لأنَّ الناسَ فطِرَت على حبِّ الرِّفق وطلاقةِ الوجه وبشاشةِ الاستقبال والخُلُق العالي وجمالِ اللفظ والاستماع إليه والانجذاب إليه وقَبوله وحبِّه واحترامه.
إنَّ المعلِّمَ والموجِّه والمرشِدَ والناصحَ والمحتسِب والداعيةَ والكاتبَ والمثقّف كلُّ أولئك هم أهلُ القولِ الجميل والصبرِ الجميل والصّفح الجميل والهجرِ الجميل.
أيّها المسلِمون، وهذا الجمالُ الجميل والفنّ البهيج لا يمكِن أن يكونَ فَوقَ الحقّ، فلا يكون الجمالُ في الكذِب، ولا الفَنّ في الفسوق، بل لا يمكن ولا يجوز أن يُستَر الكُفر والفسوق والظلمُ باسمِ الفنّ والعمل الفنّيّ، بل لقد وصل التطرّف ببعضِهم ليقولَ: "إنَّ الفنّان لا يحاكَمُ بالمعاييرِ التي يُحاكَم بها غيرُه"، ولا يجوز أن يُتَّخَذ جمال الفنونِ مسَوِّغًا لقول الزور وهَدم الفضيلةِ وسوءِ الأخلاق، لا يجوز أن يستسَاغ في جمالِ التعبير اختِلاق الأباطيل والمجاهرةُ بالسوءِ مِنَ القول والتّزوير. إنَّ الجمالَ والزّينة حين يكونان مظِنّةً لأن تتَّخَذ وسيلةً لهدمِ الحقّ وإهدارِ القِيَم والاستطالةِ على الأخلاق يجِب إيقافُها ومَنعها، فالذّريعة إلى الممنوع ممنوعَة، ولقد أمِرَ المؤمنون والمؤمِنات بغَضِّ أبصارِهم، ونُهِيَت النساء أن تضرِب بأرجلِهنّ ليُعلَم ما يخفينَ من زينتهنّ، ونهِيَت نساء النبيّ وهنّ أكرَم نساءٍ وأشرفهنّ وأعفُّهنّ وأطهرنّ نُهِين أن يخضعنَ بالقول ممّا يثير مرضَى القلوب ويجرّ إلى الممنوع: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا [الأحزاب:32].
وإنَّ من لطيف التأمُّلات ـ يا عبادَ الله ـ ما نبَّه إليه القرآن العظيم من علاقةٍ بين كشف السّوأةِ وبين الشيطانِ وأوليائه، اقرَؤوا قولَه عزّ وجلّ: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]. إنّ الشّياطينَ وأولياءَه وأتباعَه السالكين مسالكَه يأمرون بالوقوعِ في رذيلةِ كَشف العورَتَين: عورةِ الجسدِ بالتّعرِّي والتفسّخ والتهتُّك في الأبدان، وعَورَة النفس في ارتكابِ مَسَاوئ الأخلاق والأعمال.
أيّها المسلمون، ذلكم هو الجمالُ وتِلكم هي الزينة، وذَلكم هو الفنُّ والإبداع في ظاهرِه وباطنه وحَسَنِه ومذمومِه، فاختَر لنفسك ـ أيّها المتبصِّر ـ أجملَ الجمالين وأحسَنَ الصّورتَين، ولا يستهوِيَنَّك الشيطانُ وأولياؤه، فحُسن الوجهِ لا ينفَع الفتيانَ إذا كانت الأخلاقُ غيرَ حِسان، وشَرَفُ الإنسان في تربِيَتِه لا في تُربتِه، وإذا تزيَّنتَ بثِيابِك وتجمَّلت بِلباسِك ـ وهذا حقٌّ لكَ مشروع ـ فلا تفرِّط في التزيُّن في أفعالِك والتجمُّل في أخلاقك، فمِنَ الحماقةِ أن ترَى بعضَ الناس حسَنَ الهِندامِ حَريصًا على جمالِ الصّورة، بينهما هو في لفظِه وحديثِه وسلوكِه قبيحُ العبارةِ دَميم الذَّوق سليطُ اللِّسان غليظ التّعامل.
أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:32، 33].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم ويهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ تفرَّد بالعزّةِ والاقتدارِ، ودانت له الخلائِق بالعبوديّة والافتِقار، أحمده سبحانَه وأشكرُه على فَيضِه المِدرار، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له الواحِد القهّار، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، والتابعين ومَن تبعهم بإحسانٍ ما تعاقب الليل والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاستمِع ـ وفَّقك الله ـ إلى هذِه المقارنةِ يعقِدها الإمام أبو محمّد بن حَزم رحمه الله، جديرةٌ بالتّفكير والنّظر.
يقولُ رحمه الله: "طالِبُ الخَير والآخرة متشبِّهٌ بالملائكة، وطالب الشرّ متشبِّه بالشياطين، وطالِب الصّيتِ والغَلَبة متشبِّه بالسِّباع، وطالِب اللّذّات متشبّه بالبهائِم، وطالِب المال لغير مصلحةٍ ومنفعَة أقلُّ مِن أن يكونَ له في شيءٍ من الحيوانِ شبَه، بل يشبِه الماءَ الذي في الكهوف الوعِرَة لا ينتفِعُ به شيءٌ من الحيوان. ـ قال: ـ فالعاقلُ مَن لا يغتَبِط بصفةٍ يفوقه فيها سبُع أو بهيمةٌ أو جماد، فمن سُرَّ في شَجاعَتِه فليعلَم أنَّ الذئبَ والنمر أجرَأ منه، ومن سُرّ بقوّةِ جِسمه فليعلم أن الجملَ أقوى منه، ومن سُرّ بحَمل الأثقال فليعلَم أنّ الفيلَ أحمل منه، ومَن سُرَّ بسرعَة عَدوِه فليعلم أنّ الخيلَ أسرع منه، ومن سرّ بحُسن صوتِه فليعلَم أنّ كثيرًا من الطيور وأصوات أخشابِ المزاميرِ ألذُّ وأطرَب منه، فأيُّ فخرٍ وأيّ سرورٍ فيما تَكون فيه هذه البهائمُ والجمادات متقدِّمةً عليه، أمّا من قوِيَ تمييزُه واتَّسع عِلمه وحسُن عملُه فليغتَبِط بذلك؛ فإنّه لا تقدَّمه في ذلك إلاّ من كان أعلى همّةً وأكثر عملاً من خِيار النّاس" [1].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، فربُّكم خلقكم، وجعَل ما على الأرض زينةً لها ليبلوَكم أيكم أحسن عملاً.
ثمّ صلّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة والنعمةِ المسداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربّكم جلّ وعلا فقال عزّ قائلاً عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد النّبيّ الأمّيّ وآله الطّيّبين الطّاهرين وأزواجه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الرّاشدين...
[1] الأخلاق والسير (ص3-4).
(1/3920)
السحر
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام
عبد الحي يوسف
الخرطوم
2/5/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شريعتنا تحارب الفساد والمفسدين. 2- حقيقة السحر وخطورته. 3- حكم الساحر في الدنيا والآخرة. 4- بعض أفعال السحرة وإفسادهم. 5- علاج السحر والوقاية منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخيرَ الهدي هدي محمدٍ ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثةٍ بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضلالةٍ في النار، وما قلّ وكفى خيرٌ مما كَثُر وألهى، وإنّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فإنّ شريعة الإسلام جاءت بالقضاء على الفساد وقطع دابر المفسدين، رجالاً كانوا أو نساءً، سواء كان فسادهم عقديًا أو أخلاقيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا أو غير ذلك من أنواع الفساد، فالله لا يُحبُّ المفسدين، وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:205]. والفساد طبيعة المنافقين وسمتُهم وصفتهم، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
جاءت شريعة الإسلام آمرةً بقتل الزاني المحصن، وبقتل المرتد الذي بدّل دينه وفارق جماعة المسلمين، وقَتْل من قَتَل النفس التي حرّم الله إلا بالحقّ، وأمرت شريعة الإسلام كذلك بقتل المحاربين الذين يسعون في الأرض فسادًا، يُحاربون الله ورسوله، يَقطعون السبيل، ويُخيفون الآمنين، ويَنتهبون الأموال، ويَنتهكون الأعراض، وأمرت شريعة الإسلام كذلك بقتل مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قوم لوط، وبقتل مَنْ أتى ذات محرمٍ، وأمرت شريعة الإسلام بقتل السارق في المرة الخامسة وشارب الخمر في المرة الرابعة، على خلافٍ بين أهل العلم في ذلك، وأمرت شريعة الإسلام بقتل من حرّض على الفساد أو أمر به، وأمرت كذلك بقتل الساحر الذي يُفسد عقائد المسلمين، ويزين لهم الأباطيل، ويأمرهم بالمنكر، ويُعلّقهم بغير الله، ويَجعل في عقيدتهم أنّ للكواكب تأثيرًا أو أنّ للشياطين استقلالاً بالفعل. هذه الأصناف كلّها شريعة الإسلام أمرت بقتلهم وقطع دابِرهم والقضاء عليهم؛ لأنهم جراثيمُ مُفسدة، إذا تُركت سمّمت المجتمعات، وأفسدت الشعوب، وأظهرت ما أمر الله عزّ وجل بإخفائه.
ومن أخطر هؤلاء جميعًا ـ أيها المسلمون عباد الله ـ الساحر، الساحر الكافر الذي يَستعين بغير الله، يَستعين بالشياطين، يَستعين بالجنّ الكافر، يعتدي على كتاب الله عزّ وجلّ وعلى شرعه ودينه، يحقُّ الباطل ويُبطل الحق، ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويتعدّى على الحرمات. هذا الساحر الذي يأتي هذه الموبقات شريعة الإسلام تأمر بقتله.
فما السحر أيها المؤمنون عباد الله؟ ما حقيقته؟ ما تأثيره؟ ما حكم تعلّمه؟ ما حكم مَنْ يُمارسه ومنْ يأتيه ويفعله؟ هذه أسئلة لا بد أنْ نعرف الجواب عنها، كيف نتّقي السحر ونمنع أنفسنا منه؟
السحر ـ أيها المسلمون عباد الله ـ من كبائر الذنوب، من الموبقات العظيمات، قال رسول الله : ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشركَ بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) ، فجعل رسول الله السحر في المرتبة الثانية بعد الشرك بالله عز وجل، إذ السحر قسيم الشرك، نوع من أنواعه، صنفٌ مِن أصنافه، وأخبر رسول الله أنّ تعلّم السحر حرام: ((من تعلّم شيئا من السحر قليلاً كان أو كثيرًا كان ذلك آخر عهده من الله)).
ما هو السحر أيها المؤمنون عباد الله؟ السحر في لغة العرب يُطلق على كلّ ما خَفِيَ سببه ودقَّ ولَطُف، ولذا يُقال للوقت الذي قَبل صلاة الفجر: السَّحَر؛ حيث تخمد الأصوات وتخفض الحركات ويَخلد الناس إلى الراحة، سُمِّيَ هذا الوقت سَحَرا، والطعام الذي يُتناول في ذلك الوقت سُمّيَ سَحُورًا، ومن خدع الناس بحلاوة حديثه وطلاقة لسانه وحلو بيانه سماه النبي ساحِرًا: ((إنّ مِن البيان لسحرًا)).
السحر عبارةٌ عن عزائم ورُقَى وطلاسم يُجمع بعضها إلى بعض، وتعالج معالجاتٍ خفيّة، فيحدث تأثيرها بإذن الله، قد تقتل، قد تُمرِض، قد تُفرّق بين المرء وزوجه، قد تُعَوّج عُضوًا.
الساحر يأتي بالأمور المنكرات العظيمات، كأنْ يَطير في الهواء، أو يَمْشي على الماء، أو يَركب كلبًا، أو يَسير على خيطٍ دقيقٍ، أو غير ذلك مِنْ الحيل والأساليب التي يَستعملونها، والتي هي هديُ فرعونَ وقومِهِ، فرعونُ وقومه هم الذين ابتدعوا هذه البدع، وأصَّلوا تلك الأصول الكُفْرية الشركية، أما المسلم فإنه أبعد ما يكون عن ذلك.
الساحر الذي يُمارس هذه الأفعال ـ أيها المسلمون ـ حكم عليه ربُّنا في كتابه بأنّه كافر، ليس من الإسلام في قليل أو كثير، يقول الله عز وجل: وَ?تَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ?لشَّيَـ?طِينُ عَلَى? مُلْكِ سُلَيْمَـ?نَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ [البقرة:102]، وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ ، ما سبب كفرهم؟ لأنهم يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ.
نبيُّ الله سُليمان ـ على نبينا وعليه الصلاة والسلام ـ سخّر الله له الجنّ والإنس والطير فهم يوزعون، سخّر الله له الريح، سخّر الله له الشياطين، كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ?لأصْفَادِ [ص:37، 38]، ودعا ربّه فقال: رَبّ ?غْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [ص:35]. هذا النبي الكريم كان الجنّ يَعملون بأمره، يبنون له المباني، ويشيّدون له المساجد والمحاريب، ويعملون بأمره في كل ما يشاء، ثم بعد ذلك هم يخافون منه ويرتعبون منه، وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ ?لسَّعِيرِ [سبأ:12].
لمّا مات نبيُّ الله سُليمان جاء الشيطان فدفن تحت كرسيه أنواعًا من السحر وألونًا من الكفر: طلاسمَ وألغازًا، ثم بثّ في بني إسرائيل أنّ سُليمان بن داود كان يَملككم بالسحر، كان يُسيطر عليكم بألوانٍ من السحر، فنفى الله عنه هذه التُّهمة في هذه الآية: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَـ?نُ وَلَـ?كِنَّ ?لشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ ، قال أهل التفسير: مفهوم الآية أنّ سُليمان عليه السلام ـ وحاشاه ـ لو كان ساحرًا لكان كافرًا، فعُلِم من الآية أنّ الساحر كافر. قال الله عزّ وجلّ: يُعَلّمُونَ ?لنَّاسَ ?لسّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى ?لْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَـ?رُوتَ وَمَـ?رُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة:102]، هاروتُ وماروتُ شيطانان يُعلمان الناس السحر، لكنّهما لا يُعلِّمان أحدًا ولا يُلقِّنان شخصًا حتى يُحذّراه ويُنذراه، يقولان له: يا عبد الله، إنّما نحن فتنة، جعَلَنا الله فتنةً للعباد، فإذا تعلمت السحر فقد كفرت، فلا تكفر.
يروي الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية أنّ امرأةً جاءت إلى أمّنا عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت لها: يا أمّ المؤمنين، إني أذنبت ذنبًا، قالت: وما ذاك؟ قالت خرج زوجي فلم يَرجِع، فأُخبِرتُ أنّ رَجُلين بأرض بابل يُعلّمان الناس السّحر، فأتيتُهما فقلتُ لهما: إني أريد أن أتعلّم السّحر لأستردّ زوجي، قالا ليَ: يا أمةَ الله، إنّما نحن فتنةٌ فلا تكفري، فقلتُ: بلى، أريد أن أتعلّم السّحر، فقالا ليَ: اذهبي إلى ذلك المكان فبولي فيه ـ عيَّنا لها مكانًا، حدَّدا لها بقعةً من الأرض ـ قالت: فذهبتُ وما فعلتُ ثم رجعت، قالا ليَ: ماذا رأيتِ؟ قلتُ: ما رأيت شيئًا، قالا: إنّك كاذبة، ارجعي فبولي، قالت: ففعلتُ ثم أتيتهما، فقالا ليَ: وما رأيتِ؟ قلت: رأيتُ كأنّ فارسًا خرج من فرجي فصعد في السّماء، فقالا لها: ذلك إيمانك قد خرجَ منكِ.
الذي يتعلّم السحر، الذِي يُمارسه، الذي يُباشره كافرٌ بالله العظيم، ليس من دين الإسلام في قليلٍ أو كثير، قال الله عز وجل: وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه:69]. قال أهل التفسير: عُلِم مِنْ استقراء أدلّة القرآن أنّ الله لا يَنفي الفلاح إلاّ عمّن كان كافرًا، لا يَنفي الله الفلاح بإطلاق إلا عمّن كان كافرًا، وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِئَايَـ?تِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الأنعام:21]، إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ?لْمُجْرِمُونَ [يونس:17]، وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ [النحل:116]. الله جلّ جلاله نَفى الفلاح في هذه الآيات عن أصنافٍ من الكفار، فلمّا قال: وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه:69] عُلِمَ يَقينا أنّ الساحر كافر، وهذا مذهب الإمامين الجليلين مالك بن أنس وأبي حنيفة النُعمان، وهو قول أصحاب الإمام أحمد رحمة الله على الجميع.
أيها المسلمون، عباد الله، هذا الساحر الذي يُفَرّق بين المرء وزوجه ويُظهر في الأرض الفساد ويَسير بين الناس بالعداوة والبغضاء ويُلَبّسُ عليهم دينهم، هذا الساحر حكمه في شريعة الإسلام أنّه يُقتل، ودليل ذلك ما رواه الإمام البخاريُّ رحمه الله في صحيحه في كتاب الجهاد بابُ: قتل الساحر عن بجَالة بن عبيد رحمه الله أنّ عمر بن الخطاب كتب إلى أهل البصرة: أنْ اقتلوا كل ساحرٍ وساحرة، وفرّقوا بين كل ذي محرَم مِنْ المجوس. يَقول بجالة رحمه الله: فقتلنا في يومٍ واحدٍ ثلاث سواحر. في يوم واحد قتلوا ثلاث نساء ساحراتٍ كافراتٍ بأمر أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه.
وروى الإمام الترمذي من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((حَدُّ الساحر ضربةٌ بالسيف)) ؛ لأنّ فساده عظيم، وشره كبير، وإثمه مستطير، لا يَقتصر على نفسه، بل شرُّه متعدٍّ إلى العباد، شره متعدٍّ إلى الناس.
وقد كان أحد الأمراء وهو الوليد بن عقبة بن أبي مُعَيْط بين يديه ساحر، يلعب بين يديه، يُمارس ألعابًا سحرية يُخيّلها في أعين الناس، يقطع رأس إنسانٍ، ويَحْمله ثمّ يُعيده ثانية، ويقول الناس الجالسون: سبحان الله، إنّه يُحيي الموتى. رجلٌ من أصحاب رسول الله وهو جُندُب الأسْديّ رضيَ اللهُ عنه جاء في اليوم الثاني مشتملاً سيفه، فلمّا بدأ ذلك الساحرُ يَلعَبُ ويُمارسُ تلك الأمور الموهِمة استلّ سيفه وضرب عنق الساحر وقال: إنْ كان صادقًا فليحيِ نفسه. فرّق الله بذلك الصحابي بين الحقّ والباطل، بين الهدى والضلال، تبين الكذب والإفك والضلال في فعل ذلك الساحر الذي كان يُخيّل للناس صنيعه بأنه قادرٌ على أنْ يُحيي الموتى.
أيها المسلمون، عباد الله، هذا الحكم الذي تعلمناه من رسول الله والذي مارسه عمر بن الخطاب وجُندب بن عبد الله وأمُّ المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما سحرتها جارية لها دبّرتها فقتلتها حفصة رضي الله عنها، هؤلاء الصحابة لا يُعْلَمُ لهم مخالف، مطلوبٌ من وليِّ أمر المسلمين أنْ يُحيي هذه السنّة، فإنّ السحرة كفرةٌ أشرارٌ فجارٌ، يَسعون بالفساد في الأرض. وإنّ كثيراتٍ من النساء وبعضًا من الرجال يلجؤون إلى أولئك السحرة إما للإيقاع بعدوٍ، وإما لتفريقٍ بين المرء وزوجه، وإما للانتقام من واحد من ذوي الأرحام، وما علم أولئك المساكين بأنّ هذا العمل كفر، قال رسول الله : ((من أتى ساحرًا أو كاهنًا فسأله فصدّقه فقد كفر بما أُنزل على محمد )). الأمرُ جِدٌّ لا هزلَ فيه.
الساحر زنديق، خلا قلبه من مخافة الله، لربّما يكتب القرآن بالنجاسة، لربّما يُلقي كتاب الله في نجاسة، لربّما يكفر بالصلاة كلها أو ببعضها، أو يُصلي مع الناس بغير وضوء، أو بغير غسل جنابة، أو غير ذلك من أنواع الكفر، لربّما سبَّ الله، لربّما سبَّ رسول الله من أجل أن يكون بينه وبين الشيطان عقد، هذا يَخدمه وذاك يَرُدّ له الخدمة كما قال الله على لسانهم: رَبَّنَا ?سْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا ?لَّذِى أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128]. استمتاع الشيطان بكفر هذا الساحر، واستمتاع الساحر بالخدمات التي يُقدّمها له الشيطان.
كثيرون يَزعمون أنّهم قد سخّروا فئامًا من الجنّ، وهذا هو والله الكذب بعينه، الجنّ لا يُسخّر لأحد بعد نبيّ الله سليمان عليه السلام، نبي الله سُليمان قال الله عنه: فَسَخَّرْنَا لَهُ ?لرّيحَ تَجْرِى بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ وَ?لشَّيَـ?طِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ?لاْصْفَادِ هَـ?ذَا عَطَاؤُنَا فَ?مْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [ص:36-39]، دعا ربّه فقال: قَالَ رَبّ ?غْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى [ص:35]، ليس أحدٌ بعد نبي الله سليمان يملك أنْ يُسخّر شيطانًا، الشيطان لا يُسخّر لأحد بعد نبي الله سليمان، حتى نبينا محمد الذي هو أشرف النبيين وسيّد المرسلين لما عرض له الشيطان في صلاته فأمسك به وخنقه حتى سال لعابه على يده، قال عليه الصلاة والسلام: ((ولو شئتُ لربطتّه بسارية المسجد حتى يلعب به صبيان المدينة، لكنني تذكرت دعوة أخي سُليمان: رَبّ ?غْفِرْ لِى وَهَبْ لِى مُلْكًا لاَّ يَنبَغِى لأحَدٍ مّن بَعْدِى )).
فلا يخدعنّكم امرؤ يفتري على الله الكذب، ويزعم أنه قد سخّر شيطانًا أو جملة من الشياطين، ليس هناك تسخير، وإنّما استمتاع، الشيطان لا يخدم هذا الساحر ولا يهيّئ له الأسباب التي يمارس بها سحره إلا إذا كفر بالله عزّ وجلّ كفرًا قوليًا أو كفرًا فعليًّا، يراه الشيطان بعينه أو يسمعه بأذنه، ثم بعد ذلك يصلح الاستمتاع فيما بينهم.
أقول: أيها المسلمون، عباد الله، هؤلاء السحرة فسادهم عظيم، وشرّهم كبير، وقد بلغ الحال ببعضهم أن يتجرّأ على إشعال حرائق في بعض البيوت، وعلى انتهاب أموالٍ من بعض الناس، واجترأ بعضهم على أن يوجّه تهديدًا مباشرًا لأناس كرامٍ من المسلمين الطيبين الذين ما عُلِم عنهم إلاّ الخير والبر والحرص على الجمعة والجماعة ويجاهدون في الله عزّ وجل بأموالهم.
ضرر السحرة أعظم من ضرر الزناة، أعظم مِن ضرر مَن يُروّجون الخمور والمخدّرات، أعظم مِن ضرر مَن يعملون عمل قوم لوط. ضرر الساحر عظيم، وما أمر رسول الله بقتله إلا وهو يعلم مقدارَ شره، فالواجب على مَن ولاّه الله أمر المسلمين أن يُنفّذ هذا الحكم في كلّ مَن ثبت عليه ممارسة السحر، مِن أجل أنْ تقرّ عيون أقوام يتألمون لفساد عقائد الناس. كم يتألم المرء حين يسمع أنّ مسلمةً تصلّي لكنها تتردّد على الساحر، أو أن مسلمًا يصوم لكنه لا يتورّع عن اللجوء إلى الكاهن، هذا دليل على الجهل وعلى خلل في المعتقد.
نسأل الله أن يردّنا إلى دينه ردًا جميلاً، وأن يصرف عنّا شرّ كلّ ذي شرٍّ هو آخذٌ بناصيته. اللهم اصرف عنّا شرّ الأشرار، وكيد الفُجّار، وشرَّ طوارق الليل والنهار، إلاّ طارقًا يطرق بخير يا رحمن، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لاّ إله إلاّ الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهُدى واليقين، لينذر من كان حيّا ويحق القول على الكافرين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله حقّ تُقاته، وتوبوا إلى الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلّكم تفلحون.
واعلموا ـ أيّها الإخوة في الله ـ أنّ كلّ شيءٍ يجري في الكون بقدر الله: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ [التغابن:11]، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]. لن يُصيبك ـ أيها المسلم ـ إلا ما قدّره الله لك، وأنت مأمور بأن تتعامل مع قدر الله بشرع الله، تعامَل مع القدر بالشرع.
واعلم أنّ للسحر علاجين: علاج دفعٍ، وعلاج رفع.
علاج الدفع معناه أن تأخذ بالأسباب وأن تتلمّس من الوسائل ما يمنع وقوع السحر بك، وأعظم هذه الوسائل ـ أيها المسلمون ـ الإكثار من ذكر الله، خاصةً أذكار الصباح والمساء، عوّد نفسك ـ أيها المسلم ـ بعد صلاة الصبح قبل أن تمارس عملاً أن تتحصّن بالأذكار التي سنّها رسول الله ، قُل: ((أعوذ بكلمات الله التامات من شرّ ما خلق)) ثلاث مرّات، قُل: ((بسم الله الذي لا يضُرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)) ثلاث مرات، اقرأ آية الكرسي، اقرأ الإخلاص والمعوّذتين ثلاث مرات، وهكذا بعد صلاة العصر، أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ?لشَّمْسِ وَقَبْلَ ?لْغُرُوبِ [ق:39]، هذا هو الذي أُمِرْنا به أيها المسلمون عباد الله.
ثاني هذه الأسباب: أن تحافظ على الوضوء، فإنه لا يُحافظ على الوضوء إلا مُؤمن، كن على طهارة ما استطعتَ إلى ذلك سبيلاً.
ثالث هذه الأسباب: المحافظة على هذه الصلوات المكتوبات في مواقيتها مع جماعة المسلمين ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، هذا من أعظم الأسباب التي يقيك الله بها شر السحرة والمكَرَة والحاسدين والكائدين، الله عز وجل يدفع عنك شرهم، ((مَنْ صلّى الصبح في جماعة كان في ذمّة الله حتى يُمْسي)) ، أنت في ذمّة الله، في أمانه، في ضمانه، لا يَستطيع أنْ يَكيدك ساحرٌ ولا شيطانٌ ولا ماكر، بل الله عز وجل هو الذي يَحفظك ويَكلؤُك، أكثِر من قراءةِ آية الكرسي فإنه لا يزال عليك من الله حفيظ حتى تُصبح.
ثمّ إذا وقع السحر ـ لا قدر الله ـ فلا تلتمس علاجًا عند ساحر، فالدم لا يُطهِّره البول، لا تُزِل نجاسةً بنجاسةٍ، ولا تَمحُ سيئًا بسيّئ، فإنّ الله عز وجل لا يَمْحو الخبيث بالخبيث، ولكن يَمْحو الخبيث بالطيّب.
علاج السحر بالقرآن، كلام الله شفاءٌ من كل داء، وقد سُحِر رسول الله على يدِ لبيد بن الأعْصَم يَهوديّ من بني زُرَيْق، فنزل عليه جبريل وميكائيل، جلس أحدُهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، قال أحدهما: ما بال الرجل؟ قال: مطبوب، قال: مَنْ طبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم في مُشطٍ ومُشاطة، في جَفِّ طلعةِ نخلٍ ذكر، في بئر ذرْوان، فقرآ عليه المُعوّذتين: قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ [سورة الفلق]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لنَّاسِ [سورة الناس]، ومسَحا على جسده الشريف، فقام وكأنّه نشِط مِن عِقال. هكذا القرآن شفاء، شفاءٌ من أمراض الأبدان وأمراض الأرواح، وما عليك ـ أيها المسلم ـ إلاّ أن تلتمس العلاج فيه.
نسأل الله عز وجل أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا وذهاب همومنا وجلاء أحزاننا. اللهم علِّمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نسينا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا. اللهم اجعلنا ممن يُحلّ حلاله، ويُحَرّم حرامه، ويعمل بمحكمه، ويؤمن بمتشابهه، ويتلوه حق تلاوته...
(1/3921)
دماء على طريق الدعوة
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القتال والجهاد, القصص
عبد الحي يوسف
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإفادة من دروس السيرة النبوية. 2- قصة أصحاب الرجيع. 3- دروس في القصة. 4- حادثة بئر معونة. 5- فزت ورب الكعبة. 6- عهود المشركين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٍ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ، وكلَّ ضلالةٍ في النار، وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، وإنّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
أمّا بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فإن السيرة النبوية المباركة كتابٌ ناطق وصفحاتٌ شاهدة بمقدار ما تنطوي عليه قلوب الكافرين من عداوة لله ورسوله ولعباد الله المؤمنين، كتابٌ ناطقٌ بعداوة هؤلاء للحقّ وأهله، كتابٌ ناطقٌ بما يجب أنْ يكون عليه المسلمون من حرصٍ وحذرٍ وجهادٍ وبذلٍ وحبٍ للفداء والتضحية.
إنّ أحداث السيرة النبوية المباركة يستلهم منها المسلمون المؤمنون دروسًا وعبرًا لحاضرهم ومستقبلهم، فإنّ الله عز وجل قد خاطبنا ـ معشر المؤمنين ـ بقوله: لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ ?للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو ?للَّهَ وَ?لْيَوْمَ ?لآخِرَ وَذَكَرَ ?للَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. ليست أحداث السيرة المباركة حكاياتٍ مَضَتْ وانقضت وعفى أثرها وذهب أمرها، بل سيرة رسول الله مرآةٌ فاحصة، إذا نظر فيها المسلم أدرك ما يدور حوله، وعرف أنّ الذي أصاب رسول الله وأصحابه مِن أحزانٍ وآلامٍ وجراحٍ ودماءٍ وأشلاءٍ، كل ذلك أُريد منه أنْ يتعلّم المسلمون أنّ تاريخ الدعوة طويلٌ، وأنّ الكافرين لا يرقبون في مؤمنٍ إلاًّ ولا ذمة، لا يُضمِرون لهم خيرًا، ولا يوفون بعهدٍ ولا ميثاق، وأنّهم أشدُّ الناس عداوة للمؤمنين، لأهل الحق، لأصحاب الهدى.
أيها المسلمون، عباد الله، حدثان عظيمان في سيرة رسول الله كثيرًا ما غفل الناس عنهما، وما انتبهوا إليهما، كثيرًا ما كان ينبغي أنْ يُعرَض هذان الحدثان بتفاصيلهما من أجل أنْ يَعرف الناس أنّ نبيّنا محمدًا في طريقه للدعوة فَقَدَ أصحابًا وأنصارًا وإخوانًا وأصهارًا، جاهدوا في الله حقّ جهاده، وثبتوا على المبدأ مِن أولِّ أمْرِهم إلى نهاية أعمارِهِم، كانوا بالعهد موفين، وكانوا على الصراط المستقيم راسخين، ما زلَّت أقدامهم، ولا ضلَّت أفهامهم، ولا التمسوا بُنَيّات الطريق.
في صفر مِنْ العام الرابع مِنْ الهجرة النبوية المباركة قدم وفْدٌ مِنْ عَضَل والقَارَة ـ قبيلتان مِنْ قبائل نجد ـ، قدموا على رسول الله وأظهروا الإسلام وقالوا: يا رسول الله، إنّ فينا إسلامًا، فابعث معنا نفرًا مِنْ أصحابك يُقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فاختار النبي لهذه المهمة العظيمة لهذا الأمر الجلل ستةً مِنْ الصالحين الطيبين مِنْ القُراءِ الواعين العلماء الراسخين: مَرْثد بن أبي مَرْثد الغنويّ، وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، وزيد بن الدَّثِنة، وعبد الله بن طارق، وخالد بن البُكيْر، وخُبَيْب بن عَديّ.
بعث بهم رسول الله مِنْ أجل أنْ يقوموا بهذا الأمر: تعليمٌ وتزكية، تفقيهٌ وتربية، فخرجوا مع أولئك القوم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر، جاؤوا بوجوهٍ بريئةٍ، ولكنّهم كانوا يحملون قلوبًا مريضة، قلوب المنافقين، المنافقون الذين يُظهرون خلاف ما يُبطنون، ويقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمرون.
لمّا ذهب القوم وبلغوا مكانًا يُقال له: الرجيع ـ ماءٌ بين عسفان ومكّة ـ، لمّا بلغوا ذلك المكان استصرخوا عليهم أقوامًا مِن الكفار، فأحاطوا بهؤلاء الستة الصالحين القُراء العلماء، أحاطوا بهم وقد شهروا سيوفهم، ثم قالوا لهم: لكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم، ولكننا نريد أنْ نصيب بكم مِن أهل مكة، نريدُ أنْ نبيعكم إلى أهل مكّة ونصيب بكم مالاً، فماذا كان موقف أصحاب رسول الله ، هؤلاء الستة الطيبون رضوان الله عليهم؟
أما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقال: والله، لا أقبل من مشركٍ عهدًا ولا عقدًا. كان يعلم يقينًا أنّ المشرك الذي نقض العهد مع الله، أخَذَ عليه العهد يومَ الميثاق حين أخرجه من صلب أبيه آدم قال للناس جميعًا: أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى? شَهِدْنَا [الأعراف:172]، هذا المشرك عاهد ربّه على ذلك يوم الميثاق، فلما خرج إلى الدنيا متّعه الله بالسمع والبصر، وأسبغ عليه النعم ظاهرةً وباطنةً، فنقض العهد مع الله، أشرك بالله وكفر به، سبّه واستهزأ بآياته، أعرض عن هداه.
قال عاصم: لا أقبل من مشركٍ عهدًا ولا عقدًا، وقد عاهدتُ ربي أن لا يمسني مشركٌ، وأن لا أمسّ مشركًا. ثم قام معه خالد ومرثد يُقاتلون حتى قُتِلوا رضوان الله عليهم.
أما ثلاثةٌ وهم عبد الله بن طارقٍ وزيدُ بن الدَّثِنة وخُبيب بن عديّ رضوان الله عليهم فقد ألقَوا بأيديهم، وصدّقوا القوم في وعودهم، لأنّ المؤمن غِرٌّ قد يُخدَع، يظنّ أنّ الناس جميعًا صادقون، وأنّهم بعهودهم موفون، فألقوا بأيديهم، فما أنْ أمسكوا بهم حتى حلوا أوتار قسيّهم، ثم قيّدوهم بها، قال عبد الله بن طارق: هذا والله أوّل الغدر. هذه أول علامةٍ مِن علامات الغدر، أول دليلٍ من أدلة اللؤم.
ثم لما كانوا ببعض الطريق حلّ عبد الله بن طارقٍ رضي الله عنه يدَه، ثم حمل سيفه وتربّص بالقوم ليقاتلهم، لكنّهم كانوا جبناء، كانوا أذلّة صاغرين، ما اجترؤوا على قتاله، بل وقفوا من بعيد يرجمونه بالحجارة حتى فاضت روحه إلى بارئها.
بقيَ خُبيب بن عديّ وزيد بن الدَّثِنة رضوان الله عليهما، فلمّا ذهبوا بهم إلى مكّة باعوهما، أما خُبيب بن عديّ رضي الله عنه فقد اشتراه بنو الحارث بن عامر الذي قُتِل يوم بدر، وأما زيد بن الدَّثِنة فقد اشتراه صفوان بن أمية ليقتلَه بأبيه أمية بن خلف الجُمَحيّ الذي قُتل يوم بدر، ثم بعد ذلك حُبسا وما زال أهل مكّة تتلمظُ شفاههم، وتتحرق قلوبهم، وينتظرون ساعة الانتقام، الساعة التي يقتلون فيها أسيرين مُقيَّدين لا حول لهما ولا طول، لا قوة ولا بأس، لا يقتلونهما في ميدان نِزال، ولا في حال قتال، وإنما يقتلونهما وهُما مقيدانِ مربوطان أسيران، لا يملكان لأنفسهما نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا.
فخرج القوم بخُبيب بن عديّ رضي الله عنه، فاستأذن مِن الناس أنْ يُصلّيَ ركعتين قبل أنْ يُنفّذ فيه حُكم الإعدام، ما صرخ ولا بكى، ولا اشتهى طعامًا، ولا طلب بأولاده لقاءً، وإنّما أراد أنْ يقف بين يدي ربّه مصليًا راكعًا ساجدًا قبل أنْ تُزهق روحه، قبل أنْ تذهب نفسه، فكان رضي الله عنه أول مَنْ سنّ الصلاة قبل القتل.
ثم بعد ذلك ماذا قال رضي الله عنه؟ قال للمشركين: والله لولا أني أخشي أن تقولوا: قد خاف من الموت لطوّلت فيهما، لصليت ركعتين طويلتين، أتلذّذ فيهما بمناجاة ربي والوقوف بين يدي مولاي.
ثم بعد ذلك دعا ربه فقال: اللهم إنّا قد بلّغنا رسالة نبيك، فأبلغه عنّا الغداة ما يُفعل بِنا. ثم دعا على المشركين فقال: اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا. ثم رُفع رضي الله عنه على الخشبة وقتل، مضى إلى ربه شهيدًا.
وأما زيد بن الدَّثِنة رضي الله عنه فقد أخرجوه للقتل على ملأ من الناس، فقال له أبو سفيان بن حرب ـ وهو يريد أن يشفي غليلَه، وقد كان كافرًا مشركًا، عظيم الضّغن على رسول الله ـ، قال له: يا زيد، أتحبّ أنك بين أهلك وولدك ومحمدٌ يقتل مكانك؟ فقال له زيد بن الدَّثِنة في ذلك الموقف الذي يحار فيه اللبيب، يطيش فيه العقل، وتذهب فيه الفكرة، قال له زيد رضي الله عنه ـ وهو رابط الجأش ثابت القلب لا يتردّد ولا يتلجلج ـ، قال: والله ما أحبّ أني بين أهلي وولدي ورسول الله يُشاك بشوكة، فقال أبو سفيان: ما رأيت أحدًا يحُبّ أحدًا كحُبّ أصحاب محمدٍ محمدًا، ثم قتلوا زيدًا رضي الله عنه، قدّموا غلامًا عبدًا لصفوان بن أمية يقال له: نسطاس فطعنه.
أيها المسلمون، عباد الله، هذه الحادثة في السيرة النبوية المباركة فقَد فيها رسول الله ستة مِن خيار أصحابه، من الصالحين القانتين الطيبين العابدين، لكنّ فيها فوائد.
في هذه القصة المباركة علّمنا رسول الله أن الدعوة فداؤها الرجال، فداؤها العلماء الأفذاذ، فداؤها القرّاء الطيبون، فداؤها الفُقهاء الصالحون، يقدِّمون أنفسهم طاعة لله ورسوله، يسترخصون دماءهم في سبيل الله وتبليغ دينه.
ثم ثانيًا: تعلّمنا من هذه القصة أنّ المشرك لا يؤمَنُ غدرُه، كان الوفاء قيمة مرعيّةً في العرب، ما كانوا يغدرون بذمّة، وما كانوا يُخْفِرون بعهد، لكن هؤلاء المشركين لمّا كانوا يواجهون جماعةً من المؤمنين نسوا تلك القيَم الأصيلة، مثلما يتبجّح المشركون اليوم بأنّهم أهل الحريّات، وأنّهم أهل حقوق الإنسان، وأنهم الذين يُعلّمون الناس الديمقراطية وإبداء الرأي، ثم بعد ذلك إذا كانت العداوة للمسلمين فلا حريةَ ولا رأي، لا ديمقراطيةَ ولا حقوق إنسان، كل هذه القيم تكون تحت النعال ودَبَر الآذان، لا يُفكّرون فيها، ولا يُدندنون حولها، مع المسلمين لا حرية ولا رأي ولا حقوقَ للإنسان ولا هذه الشعارات الجوفاء، كلها تذهب أدراج الرياح، لا قيمة لها.
ثم ثالثًا: في هذه الحادثة مِن أحداث السيرة النبوية المباركة نُثبت كرامات الأولياء، أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، عبادُ الله الصالحون أولياؤه المقربون، مَن والَوْا بين الطاعات، وتقرّبوا إلى الله بالسُّنن بعد الواجبات، هؤلاء اللهُ عزّ وجلّ يثبِّتهم ويؤازرهم ويسددهم ويُقويهم ويَرعاهم ويحميهم:
أما عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أمير القوم رضي الله عنه، عاصم بن ثابت هذا يومَ بدر قتَل رجُلين من المشركين أمُّهما سُلافة بنت سعد، فنذرت إنْ ظفرت برأس عاصم بن ثابت أنْْ تشرب في قِحفه الخمر، أنْ تشرب في دماغه الخمر، المشركون بعدما قتلوا عاصمًا في ميدان الشرف في ميدان الوغى أرادوا أنْ يأخذوا جسده الشريف ليبيعوه إلى تلك المرأة الكافرة، ماذا فعل الله لوليّه؟ ماذا فعل الله لهذا العبد الصالح؟ أرسل الله عزّ وجلّ ظُلّة مِن الدَّبر من الزنابير أو من ذكورِ النحل، فأحاطت به وأظلّته، ما استطاع المشركون أنْ يصلوا إليه، ولا أن يقترِبوا منه، ولا أن يمسّوا جسدَه، حتى قال بعضهم لبعض: انتظروا حتى إذا كان الليل أخذناه، فماذا فعل الله بهم لما أقبل الليل؟ أرسل الله عز وجل سيلاً جارفًا حمل ذلك الجثمان الشريف إلى حيث لا يعلم مكانه إلاّ الله، ما استطاع المشركون أنْ يصلوا إليه، لِمَ؟ لأنّه صدق الله فصدَقه، كان رجلاً عقيدةُ الولاءِ البراءِ قد تخللت قلبه، قد خالطت شِغافَ فؤاده، عاهد الله أن لا يمسَّ مشركًا ولا يمسّه مشرك، ما كان متهوّكًا متردّدًا، يتزلّف للمشركين، ويتقرب للكافرين، ويتمسح بأعتاب المنافقين، بل بلغ من حبه لله وحبه لرسول الله واعتزازه بإيمانه وافتخاره بإسلامه أن يُعاهد الله أن لا يمس مشركًا ولا يمسه مشرك، لِمَ؟ لأنّه تعلّم من شريعة الإسلام أنّ المشركين نَجَس، المشرك نجِس القلب، نجِس الاعتقاد، نجِس الباطن، نجِس الفؤاد، ثم بعد ذلك في الظاهر لا يتورّع عن النجاسات، قد يأكل الدم، قد يشرب الخمر، قد لا يتمسح من بوله وعذرته، لا يتورع عن النجاسات، فهو نجسٌ ظاهرًا وباطنًا. لمّا كان عاصم بن ثابت رضي الله عنه قوي الإيمان صحيح اليقين حماه الله عز وجل.
وأما خُبيب بن عديّ رضي الله عنه فلما كان محبوسًا مقيدًا وعلم أنّ ساعة القتل قد دنت وأنّ لقاءه بربّه قد اقترب طلب من جارية لبني الحارث بن عامر، جارية، خادمة، أمة، طلب منها موسى حديدة ليحلق عانته ليتهيّأ للقاء ربّه، فجاءته بتلك الحديدة التي طلب، بينما هو يحملها في يده إذا غلامٌ صغيرٌ من بني الحارث قد دبّ حتى دخل عليه، فأجلسه خُبيبٌ في حِجْره، يُداعبه ويُلاعبه يحنو عليه ويُلاطفه؛ لأنّه تعلم ذلك من رسول الله ، تعلّم توقير الكبير والعطف على الصغير وإنزال كلّ إنسانٍ منزلته، لما رأت تلك الجارية ذلك الغلام جالسًا في حِجْر خُبيب والحديدة في يده فزعت وقالت في نفسها: قد أدرك الرجل ثأره، والله ليقتلنّ الغلام، خُبيب رضي الله عنه وليُّ الله تفرّس بما حدّثت به المرأة نفسها، فقال لها: أخشيت أن أقتله؟ والله ما كنتُ لأفعل. ما تعلمنا من رسول الله أن نقتل صغيرًا، ولا أن نعتديَ على طفلٍ، ما تعلّمنا من شريعة الإسلام أن نؤاخذ صغيرًا بجريرة كبير، "ما كنت لأفعل".
تقول هذه الجارية بعدما أسلمت رضي الله عنها، تقول: ما رأيت أسيرًا قطّ خيرًا من خُبيب، والله لقد رأيت بين يديه قِطفًا من عنب وما بمكّة يومئذٍ عنبٌ قطّ، وإنّه لمقيّد اليدين، وإنّما هو رزقٌ ساقه الله إليه. أعادوا كرامة مريم ابنة عمران التي قال الله في شأنها: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].
أيها المسلمون، عباد الله، قبل أنْ يصل خبر هؤلاء الستة إلى رسول الله ، وقبل أنْ يعلم بمقتلهم رضوان الله عليهم جاء نفرٌ مِن أهل نجدٍ بقيادة عامر بن مالك المعروف: بمُلاعب الأسنّة، جاء يطلب مِن رسول الله قُراء عُلماء ليُعلّموا الناس القرآن ويشرحوا لهم الإسلام، فقال النبي : ((إنّي أخشى عليهم أهلَ نجد))، فقال الرجل: أنا لهم جارٌ يا رسول الله، ماذا حدث مع هؤلاء؟ كانوا سبعين فيهم حرام بن مِلحان، فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق، فيهم الحارث بن الصِّمَّة، نافع بن بُدَيل بن ورقاء، وغيرهم، فيهم نفرٌ كِرامٌ، صالحون طيبون، سبعون من القُرّاء، يحتطبون بالنهار ويتدارسون القرآن ويُصلون بالليل، ويُطعمون أهل الصُفة، فإذا نادى المنادي: حيّ على الجهاد كانوا في أول الناس، ماذا حدث مع هؤلاء؟ حدث ما حدث مع أولئك في خبر ينبغي أنْ يُفصَّل وأنْ يُبيّن.
نسأل الله عز وجل أن يجزي أصحابَ محمد عنّا وعن الإسلام خيرًا، وأن يرفع درجاتهم في أعلى عليّين، وأن يرزقنا السير على طريقهم، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، والحمد لله ربِّ العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لاّ إله إلاّ الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبدُ لله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين، لينذر من كان حيًا ويحقّ القول على الكافرين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين، وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فقد بعث رسول الله هؤلاء السبعين رضوان الله عليهم أجمعين، حرام بن ملحان خالُ أنس بن مالك، المنذر بن عمر، نافع بن بُديل بن ورقاء، عامر بن فهيرة، كعبُ بن زيدٍ، وعمرو بن أميّة الضَمْريّ، وأمثالهم رضوان الله عليهم. ذهبوا بصُحبة ذلك الرجل، عامِر بن مالكٍ المعروف بملاعب الأسنّة، لمّا بلغوا مكانًا يُقال له: بئرُ مَعُونة، لمّا بلغوا ذلك المكان بعثوا حرام بن مِلحان رضي الله عنه بكتاب رسول الله إلى رجل كافِر، إلى رجل فاجِر، إلى رجل فاسق، إلى رجل لا يرجو لله وقارًا، وهو عامر بن الطُفَيل، ذهب حرام بكتاب رسول الله إليه، يدعوه إلى الإسلام، يأمرُهُ بالإيمان، فلم ينظر عامرٌ في الكتاب بل أومأ إلى رجل فأنفذ الرمح في حرام بن مِلحان، طعنه من الخلف، فماذا قال حرام؟ قال: فُزتُ وربِّ الكعبة، يُقتل، يسيل دمه، تُزهقُ روحه، فيصيح تلك الصيحة: فزتُ وربّ الكعبة. هذا الذي طعنه ما زال يُفكّر في هذه الكلمة كيف أنّ إنسانًا قتيلاً قد فارق الدنيا وأيقن ذلك لا محالة ينطق بتلك الكلمة: فُزتُ وربّ الكعبة؟! تُرى أيُّ فوز ذاك؟! هذه الكلمة كانت سببًا في إسلام ذلك الطاعن، بركة أصحاب رسول الله في حياتهم، وعند مماتهم، وبعد وفاتهم، رضوان الله عليهم أجمعين.
ثم بعد ذلك بالغ عامر بن الطفيل في فجوره، وسدر في غيّه، وصرخ ببني لحِيان يُريد منهم أنْ يخرجوا لقتل هؤلاء السبعين، لكنّهم أبَوا أنْ يُخفروا عامر بن مالك في ذمته، وأن يغدروا بعهده، فاستصرخ عليهم جماعة من بني سُليم، قبيلة يُقال لها: ذكْوان وأخْرى يُقال لها: رِعْل وثالثةٌ يُقال لها: عُصيَّة، فأحاطوا بالقوم، وما زالوا يُقاتلونهم حتى قتلوهم عن آخرهم في شهر صفر من السنة الرابعة مِن الهجرة النبوية المباركة، يفقد رسول الله ستةً عند ماء الرجيع، وسبعين عند بئر معونة، وكلّهم قُراء عُلماء مجاهدون أبرار أخيار أطهار، جاهدوا في الله حق جهاده.
بلغَ الخبرُ رسولَ الله فحزن لذلك حُزنًا شديدًا، واغتمّ غمًّا عظيمًا، حتى بَلغ مِنه الحال صلواتُ ربّي وسلامه عليه أنه مكث شهرًا كاملاً يدعو على تلك القبائل على رِعْل وذَكْوان وعُصيّة التي عصت الله ورسوله، يدعو عليهم صلواتُ ربّي وسلامه عليه، يدعو عليهم لأنّهم قد نقضوا العهد، وما وفوا بالوعد، يدعو عليهم لأنّهم أظهروا العداوة لله ورسوله، قتلوا أولياء الله وصدّوا عن سبيل الله، ونهوا عن المعروف وأمروا بالمنكر، مِن أجل هذا يدعو عليهم رسول الله.
الدعوة ـ أيها المسلمون عباد الله ـ سال في طريقها تلك الدماء الزكيّة، وكان رسول الله أشبه بالتاجر الحصيف الذي لا تُثنيه الخسارة عن مُواصلة التجارة، في طريق الدعوة خسائر، في طريق الدعوة مصائب، في طريق الدعوة عقبات وأشواك، ورسول الله يُعلّمنا أنْ نسترخص ذلك كلّه.
ثم بعد ذلك ـ أيها المسلمون عباد الله ـ هذه الأحداث كلّها ينبغي أنْ نستفيد منها لحاضرنا، العهدُ مع المشركين لا يُؤْمَن، الوعد مع المشركين لا يُضْمن، هؤلاء لا يَرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذِمّة، لا يرجون لله وقارًا، ولا يُعظمون لله أمرًا، بعد هذا كله، بعد سنواتٍ خمسٍ، بعد هذا الغدر يأتي ذلك الرجل عامر بن الطفيل الذي جيء له بكتاب رسول الله فلم ينظر فيه ولم يأبه به، بل قتل حامل الكتاب غيلة وغدرًا، بعد هذه السنوات الخمس في عام الوُفود يأتي إلى رسول الله فيدخل عليه ويقول له: خالِني يا محمد، أي: دعني أخلو بك، فقال له النبي : ((والله لا أفعل حتى تُؤمِن بالله ورسوله)) ، إذا شهدتَ شهادة الحق وكنت مِن أهل الإسلام أخلو بك، لا مانع لأنّ هناك قيَمًا وأخلاقًا وتعاليم ستضبط تصرفاتك وسلوكك، أما الآن فلا أفعل، فما زال الرجل يطلب: خالني يا محمد، فيقول له النبي: ((والله لا أفعل)) ، فقال له: يا محمد لأعرِضنّ عليك ثلاثة خصال، الأولى: أبايعك على أنْ يكون لك أهل الحضر وليَ أهل الوَبر، أبايعك على أن يكون أهل الحضر لك تحت قيادتك، وأهل الوبر ـ أهل البادية ـ تحت قيادتي أنا، هكذا إسلام طَمَع، ما أسلم يُريد وجه الله، ما يُسلم مِن أجل الآخرة، وإنما مِن أجل الزعامة، مِن أجل القيادة، مِن أجل الرئاسة، مِن أجل التسلط على رقاب الناس، فقال له النبي : ((لا أفعل، هاتِ الثانية)) ، قال: الثانية: أبايعُك على أن يكون لي الأمر مِن بعدِك، أكون أنا الخليفة بعدك، فقال له النبي : ((لا أفعل)) ، لِمَ؟ لأنّ قانون القرآن: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ [الأنبياء:105]، مَنْ أنت؟ ما دينك؟ ما صلاحك؟ ما عملك؟ ما بلاؤك؟ ما جهادُك؟ ما بَذْلُك؟ لا شيء من هذا كلّه، فلمَ يكون لك الأمر بعد رسول الله ؟! ((هاتِ الثالثة)) ، قال له: أما الثالثة والله لأملأنها عليك خيلا جُردًا ورجالاً مُردًا، لأملأنّ عليك هذه البطحاء، لأملأنّ عليك الأرض برجال مقاتلين أشداء وخيلٍ كثيرة، حتى أستأصل شأفتك.
ماذا فعل رسول الله ؟ هل أمر بالقبض عليه؟ هل أمر بقتله؟ لا والله، كان عليه الصلاة والسلام يُقدّر المصالح والمفاسد، قال عليه الصلاة والسلام: ((اللهم اكفني عامرَ بن الطفيل)) ، خرج هذا الخبيث عدو الله، خرج من عند رسول الله ، وسار في الطريق راجعًا إلى قومه، فابتلاه الله عز وجل في عنقه بغدّةٍ، تورّمت رقبته، ثم بعد ذلك اشتدّ عليه الألم، فأوى إلى بيت امرأةٍ من بني سَلول، وما زال الألم يشتدّ عليه، وقد انقطع رجاؤه في الله وعظم كفره بالله، فأخذ يقول يندب حظه: غُدّةٌ كغدّة البعير، وميتةٌ في بيت سلوليّة.
ثم خرج لعنه الله راكبًا فرسه من شدّة الضيق والضجَر والألم والمرض، وما زال يدور على فرسه حتى خرّ ميّتًا، وكان جسده طعامًا للطير والسباع، جَزَاء وِفَـ?قًا إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا وَكَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا كِذَّابًا وَكُلَّ شَىْء أَحْصَيْنَـ?هُ كِتَـ?بًا فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا [النبأ:26-30].
هذا جزاءُ مَن عادى الله ورسوله، هذا جزاءُ مَنْ نقض العهد ولم يفِ بالوعد، هذا جزاءُ مَنْ أراد الدنيا بعمل الآخرة، هذا جزاءُ مَنْ لم يقدُر الله حقَّ قدره.
أيها المسلمون، عباد الله، هذه دروسٌ في سيرة رسول الله ما أحوجنا إليها في أيّامنا هذه، ما أعظم حاجتنا إلى النظر فيها والتأمل في أخبارها، لنستفيد لحاضرنا ومستقبلنا.
اللهم ردّنا إلى دينك ردّا جميلاً. اللهم ردّنا إلى دينك ردّا جميلاً. اللهم ردّنا إلى دينك ردّا جميلاً. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
(1/3922)
قاطعوا أمريكا
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, فقه
القتال والجهاد, الولاء والبراء, قضايا فقهية معاصرة
عبد الحي يوسف
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى عقيدة الولاء والبراء. 2- القرآن يكشف لنا دسائس أهل الكتاب وحقيقة موقفهم منا. 3- أبدية العداوة بين المسلمين واليهود والنصارى. 4- حقد أمريكا واليهود على إخواننا في فلسطين والعراق. 5- أقل القليل أن نقاطع منتجاتهم وبضائعهم. 6- تأصيل لمسألة المقاطعة. 7- المقاطعة الاقتصادية في العهد النبوي. 8- ضرورة المقاطعة وأهميتها وأحكام السلع بالنسبة للمقاطعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخيرُ الهديِ هديُ محمدٍ , وشر الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار, وما قَلَّ وكفى خيرٌ مما كَثُرَ وألهى, وإنّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فإنّ المُقرر في عقيدة الإسلام أنّ الواجب على كل مسلم أن يوالي في الله ويعادي في الله, ويحبّ في الله ويبغض في الله, حتى يصحّ دينه ويكمُل إيمانه, يقول الله عزّ وجل: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]، فَتَرَى ?لَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَـ?رِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِىَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَا أَسَرُّواْ فِى أَنفُسِهِمْ نَـ?دِمِينَ وَيَقُولُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَهُـ?ؤُلاء ?لَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِ?للَّهِ جَهْدَ أَيْمَـ?نِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَـ?لُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَـ?سِرِينَ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ يُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَخَـ?فُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?لَّذِينَ يُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ?للَّهِ هُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [المائدة:52-56].
أيها المسلمون، عباد الله، الموالاة في الله معناها أن توالي المؤمنين، تتقرب إليهم، تذلّ لهم، تحبهم، تناصرهم، تدعمهم، تقدم لهم كل ما يرفع شأنهم ويشدّ عضدهم ويقوّي أمرهم. والمعاداة معناها أن تبغض الكافرين، أن تجد لهم في قلبك كراهيّة لأنهم أعداء الله ورسوله، لا تقدم لهم عونًا، لا تجد لهم حبًا؛ لأنّ من عادى الله فهو عدوّك، ومن أبغض رسول الله فهو بغيضك، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((من أحبّ لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)).
أيها المسلمون، عباد الله، هذا المعنى الإيماني كان واضحًا عند سلفنا الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين, فكان حبهم في الله، وبغضهم في الله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، كانوا يحكِّمون الله جل جلاله في شأنهم كله. وهذا المعنى ينبغي أن يحيا في أيامنا هذه؛ لأن المسلمين أمة واحدة كما أخبر الله عز وجل في كتابه: وَإِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?تَّقُونِ [المؤمنون:52]، إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]. تتكرر الآية، مرةً يأمرنا ربّنا بالتقوى، ومرةً يأمرنا بأن نكون عباده حقًّا.
هذه الأخوة الإيمانية أكّد عليها رسول الله ، فأخبر أنّ المسلمين أمةٌ واحدة، تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم. المسلمون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ اشتكى كلّه، إذا اشتكى رأسه اشتكى كلّه: ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
أيها المسلمون، عباد الله، الآن كثير من إخواننا المسلمين في المشارق والمغارب يُقتّلون, يُعذّبون, يُشرّدون, تُنتَهب أموالهم, تُنتَقص أطرافهم, تُنتَهك أعراضهم, تُحرّق زروعهم, تُهدّم بيوتهم، والمسلمون في غفلةٍ عن هذا، كأنّ الأمر لا يعنيهم.
إخواننا في فلسطين أمرهم لا يخفى على مسلم, إخواننا في الشيشان, إخواننا في كشمير, إخواننا في الفلبين, هنا وهناك، في كل مكانٍ جرحٌ للمسلمين ينزف، بيد مَن؟ بيد من تنزف هذه الجراح؟ بيد من تسفك تلك الدماء الطاهرة الزكية وتذهب تلك الأرواح؟ نشكو إلى ربنا ظلم العباد.
لا شكّ أنّ للإسلام أعداء، أعداءً يكيدون له بالليل والنهار، يمكرون مكرًا كُبّارا، لا يرقبون في مؤمنٍ إلاً ولا ذمةً. هؤلاء الأعداء اللهُ سبحانه وتعالى ما تركنا لنبحثَ عنهم ونختلف حولهم، بل أخبرنا عنهم ونصّ عليهم بأسمائهم وأوصافهم، في مقدّمتهم أهل الكتاب اليهود والنصارى الذين قال الله فيهم: وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ?لْحَقُّ [البقرة:109]، قُلْ يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بِ?للَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَـ?سِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذ?لِكَ مَثُوبَةً عِندَ ?للَّهِ مَن لَّعَنَهُ ?للَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ?لْقِرَدَةَ وَ?لْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ?لطَّـ?غُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ?لسَّبِيلِ [المائدة:59، 60].
أهل الكتاب اليهود والنصارى قال الله فيهم مخاطبًا إيانا معشر المسلمين: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]. لا يزالون ـ أي: هؤلاء الكفار ـ لا يزالون يقاتلونكم، يشنون الحروب عليكم: حربًا اقتصادية, حربًا ثقافية، حربًا عسكرية؛ لتشويه تعاليمكم، وتدنيس مفاهيمكم, والإغارة على أفكاركم، لا يزالون يقاتلونكم, حتى يبلغوا غايةً ويصلوا إلى هدفٍ, حتى يردونكم عن دينكم إن استطاعوا.
أهل الكتاب كفروا بمحمد , هل كانوا يجهلونه؟ اللهم لا، قال الله عز وجل عنهم: ?لَّذِينَ ءاتَيْنَـ?هُمُ ?لْكِتَـ?بَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ [الأنعام:20]، يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ?لتَّوْرَاةِ وَ?لإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَـ?هُمْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ?لطَّيِّبَـ?تِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ?لْخَبَئِثَ [الأعراف:157]، لكنهم كفروا به حسدًا من عند أنفسهم.
هذه العداوة ـ عباد الله ـ لا تتقطّع حبالها، ولا ينتهي زمانها، عداوة كانت بالأمس، عداوة اليوم، وعداوٌة غدًا، وإلى أن تقوم الساعة. اليهود والنصارى أعدى أعدائكم، لا يريدون لكم خيرًا، وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
أما عداوة اليهود فهي الآن ظاهرة، لا تخفى على أحد, يعادون الإسلام في كلّ قبيل ومع كلّ جيل، لاَ يَرْقُبُونَ فِى مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً [التوبة:10], لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]. عداوة اليهود أعظم من عداوة المشركين.
وأما النصارى ـ أيها المسلمون ـ فتُمثِّلهم زعيمة الكُفر ورأس الإلحاد وبلد العُهر في زماننا هذا الولايات المتحدة الأمريكية، التي ما فتئت تمدّ اليهود بالمال والرجال والسلاح والدعم في المحافل الدولية وفي كل مكان، أمريكا هي الداعم الأول لإسرائيل.
لمّا كان سفّاح اليهود شارون قبل أسابيع معدودة يدكّ الأرض دكًّا ويهدم البيوت على رؤوس أهلها في جنين في فلسطين، فأزهق من الأرواح ما لا يعلم عددَه إلا الله, حتى ساعتنا هذه لا توجد هناك إحصائية، ولم تُتَقَصَّ الحقائق, ولا يعرف أحدٌ حقيقة ما حدث, هُدّمت الدور على رؤوس أهلها, وقُتّل النساء والأطفال، وأُتلفت الأموال. ثم بعد ذلك، في أثناء تلك المعمعة، وما زالت الجريمة لم تكتمل خيوطها بعد، يقرّر الكونجرس الأمريكي دعمَ دولة اليهود بمائتي مليون دولار لمكافحة الإرهاب، هذا قبل أسابيع معدودة.
أما الجرائم الطويلة للولايات المتحدة الأمريكية فتتمثّل في حصار إخواننا المسلمين في العراق, حتى هلك أكثر من مليوني طفل، ثم بعد ذلك القصف المستمرّ بأعتى أنواع الأسلحة على رؤوس إخواننا المسلمين في أفغانستان في كل يوم, ولا يعلم عددَ الضحايا إلا الله، ثم محاصرة المسلمين وفرض العقوبات الاقتصادية عليهم، حتى بلادنا هذه ما سلمت من شرّهم، ولا أمنت من مكرهم، وما زالت تكتوي بنيران فِتَنهم وجرائمهم، تارةً بدعم المتمرّدين الصليبيّين في الجنوب، وتارةً بمحاولة الهيمنة الاقتصاديّة، وتارةً بفرض عقوبات، وتارةً بترويج تهمٍ وأباطيل وتُرّهات بأن هذه البلاد تمارس رِقًّا، وأنّ هذه البلاد تضطهد من ليس بمسلم، إلى آخر تلك الاتهامات الطويلة التي ما فتئت أمريكا تردّدها من سنوات ولا تملّ، ولا تستحي لا من الله ولا من الناس، لم يفعلون ذلك؟!
أيها المسلمون، هل هذا كله نِتاج الحادي عشر من سبتمبر كما يزعمون؟! لا والله, بل قبل ما يزيد عن العشر سنوات في سنة إحدى وتسعين لمّا عُقد مجلس الشؤون الأمنيّة الدولية في مدينة ميونخ في ألمانيا قُدِّمت الورقة الأمريكية وقيل فيها بالعبارة الصريحة واللفظ الواضح: إنه بعد سقوط الشيوعية أصبح الإسلامُ هو العدو الأول. من الذي قدّم هذه الورقة؟ وزير الدفاع الأمريكي تشِيني، الذي هو الآن نائب الرئيس الأمريكي، قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
ما واجبنا أيها المسلمون؟ عباد الله، أنُلقي الخطَب ونتكلم في الدروس وتكتب الصحف وتسير المسيرات ويغضب الناس أيامًا معدودات ثم يبقى الحال على ما هو عليه؟! لا والله، لا بد أن نتخذ خطوة، ولا بد أن يكون لأهل الإسلام كلمة, أهل الإسلام رُواد المساجد قُراء القرآن من يدينون بالحب لمحمد رسول الله عليه الصلاة والسلام, لا بد أن يكون لهم موقف.
إنّ إخواننا المسلمين المجاهدين الذين خلصوا إلى الثغور في أفغانستان وفلسطين وفي غيرها من بلاد الله يجُاهدون في الله حق جهاد، هؤلاء هم أفضل الأمّة، هؤلاء هم الأخيار، فلم يبق لنا ـ معشر القاعدين ـ إلاّ أن نُعِين إخواننا المسلمين بأضعف الإيمان، وأضعفُ الإيمان أن نقاطعَ مقاطعةً اقتصاديةً صارمةً جميع السلع والبضائع التي تُنتج في تلك البلاد، سواءٌ كانت يهودية واضحة أو كانت أمريكيةً أو إنجليزية أو غيرها من الدول التي تدعم الحرب ضد الإسلام.
أيها المسلمون، عباد الله، هذه المقاطعة ليست قرارًا سياسيًا, ولا ثورة غضبٍ من فلان أو فلانٍ من الناس، بل اتفقت عليها كلمة علماء الإسلام في هذه البلاد وغيرها، اتفقت كلمة علماء الإسلام على أنّ هذه المقاطعة ضرورة شرعية وواجبٌ دينيّ، يحتمه علينا إسلامنا، قرآنُنا.
ما الأدلة على ذلك؟ الأدلة ـ أيها المسلمون عباد الله ـ أولاً: أنّ الله عزّ وجلّ نهانا أن نتعامل مع الكافر الحربي، الكافر الذي يحاربنا، الذي يُضِرّ بِنا، الذي يريد أن يستأصل شأفتنا ويمحو عقيدتنا ويبدّل ديانتنا، يحَرُم علينا أن نتعامل معه، قال الله عزّ وجل: إِنَّمَا يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ قَـ?تَلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَأَخْرَجُوكُم مّن دِيَـ?رِكُمْ وَظَـ?هَرُواْ عَلَى? إِخْر?جِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الممتحنة:9]. ألا تنطبق هذه الأوصاف على أمريكا ومَن وراءها؟! قاتلونا في الدين, أخرجونا من ديارنا في فلسطين وفي أفغانستان وفي كشمير وفي غيرها.
وفي أخبار هذا الصباح أمريكا تطالب الباكستان بأن تمنع تسلّل المجاهدين من أرضها لتخليص أرض المسلمين في كشمير، هكذا يقفون ضدّ المجاهدين، ضد الدّعاة، ضد العاملين للإسلام في كل مكان، يقفون في وجوههم حجر عثرة، يشوهون سمعتهم، يدنسون سيرتهم، يلقون عليهم بالتهم المزيفة، يلقون القبض عليهم، والآن إخواننا الأسرى في تلك الجزيرة النائية منذ شهور معدودات لم توجّه لهم تهمة, ولم يثبُت عليهم شيء، لكنّ أمريكا هكذا تحبسهم عنوة واقتدارًا, ولا تبالي بأحد. قاتلونا في الدين، أخرجونا من ديارنا، ظاهروا على إخراجنا، ممنوع علينا أن ننفعهم.
ثانيًا: أيها المسلمون، عباد الله، الله عز وجل يأمرنا في القرآن بقتال هؤلاء الكافرين: فَ?قْتُلُواْ ?لْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَ?حْصُرُوهُمْ وَ?قْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]. قال الإمام القرطبي رحمه الله: "من الحصر منعهم من التصرف في بلاد المسلمين". الآن سلع أمريكا، بل سلع اليهود تملأ بلاد المسلمين، تتصرف فيهم كيف شاءت، تقول التقارير الاقتصادية: صادرات الولايات المتحدة الأمريكية إلى البلاد العربية وحدها في كل عام تبلغ ما قيمته ثلاثمائة مليار دولار، في العام الواحد ثلاثمائة مليار دولار تخرج من البلاد العربية التي هي دون الثلاثين، وتذهب إلى الخزينة الأمريكية، أرصدة بلد مسلم واحد في البنوك الأمريكية تتراوح ما بين خمسمائة إلى سبعمائة مليار دولار مجمّدة لحساب اليهود يتصرّفون فيها كيف شاؤوا, ولا تستطيع تلك الدول أن تسحب تلك الأرصدة لو أرادت، بل ربّما تعمد أمريكا إلى تجميدها. وفي هذه الأيام نداءات للولايات المتحدة باتخاذ إجراء كهذا.
ثالثًا: أيها المسلمون عبد الله، المقاطعة الاقتصادية سلاحٌ قديم, استخدمه المشركون ضدّ رسول الله ، علقوا صحيفةً في جوف الكعبة أن لا يبيعوا للمسلمين ولا يشتروا منهم, حصروهم في شِعب بني هاشم ثلاث سنوات حتى اضطر رسول الله وأصحابه أن يأكلوا أوراق الشجر. ثم إنّ رسول الله حاصر بني النضير وقطع نخيلهم ليضرّ بهم اقتصاديًا ويجبرهم على الاستسلام، وحاصر بني قريظة حتى نزلوا على حكمه.
وكذلك الصحابي الفاضل ثمامة بن أثال رضي الله عنه وأرضاه، لمّا أسلم وذهب إلى مكة معتمرًا قالوا له: يا ثمامة أصبأتَ؟ قال: لا ولكنني تابعت محمدًا رسول الله على دينه, ووالله الذي لا إله غيره لا تصل إليكم من اليمامة حبّة حِنطة بعد اليوم حتى يأذنَ رسول الله. ورجع رضي الله عنه وأنفذ وعيده: منع القوافل من أن تصل إلى مكة، حتى جاع المشركون وأرسلوا يستغيثون بالنبي الرسول عليه الصلاة والسلام يقولون له: يا محمد جئت تأمر بتقوى الله وصلة الرحم، وقد قتلتَ كبارنا وأجعتَ صغارنا، فكتب النبي إلى ثمامة بعد أن أراهم قوّةً, وأنّه قادرٌ بأصحابه على أن يضرهم ويغيظهم ويؤثر فيهم، كتب إلى ثمامة يأمره بأن يسمح للقوافل أن تصل إلى أهل مكة.
ثم رابعًا أيها المسلمون عباد الله: هذه المقاطعة الاقتصادية التي يدعو إليها الدعاة ويأمر بها أهل العلم ويستدلّون عليها هي من باب المعاملة بالمثل، فإنّ المسلم لا يرضى بالذل، ولا ينام على ضيم، هؤلاء الأمريكان الظالمون مارسوا سياسة المقاطعة ضد خمسٍ وثلاثين دولة، ومن بينها دولتنا هذه، مقاطعةٌ منذ سنين، لا بد أن نقاطعهم من باب المعاملة بالمثل، يقول الله عز وجل: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل:126], وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا [الشورى:40]. أمّا أن يقاطعونا ثم بعد ذلك نفتح لهم أسواقنا ونشترى بضائعهم ونروج لسلعهم فكأننا والعياذ بالله بمنزلة الحمير.
الآن، لو أنك ضربتَ كلبًا أو أسأت إلى حيوان ما رضي، نبح عليك، وكشّر أنيابه، وحاول أن ينتقم لنفسه، أما الحمار وحده فهو الذي يُضرب ويُصفع ويُركل وهو يطأطئ رأسه، وقديمًا قالت العرب: من استُغضب فلم يغضب فهو حمار.
في كل ليلة في كل يوم أمريكا تُغضبنا بدعم اليهود، أمريكا تُغضبنا بتشويه ديننا، أمريكا تُغضبنا بقتل إخواننا، ثم بعد ذلك نحن لا نغضب! غضبنا لحظات معدودات ثم لا يغير في الأمر شيئًا. وقد جرّبت أمريكا من سنوات طويلة أنّ المسلمين لا يتحركون، أيقاظٌ نيام، كأهل الكهف أيقاظٌ نيام، لا يحرّكون ساكنًا، يمصمصون شفاههم، يحكّون رؤوسهم، يُلقون خطبًا عصماء ومقالاتٍ بليغة تكتب، ثم بعد ذلك الحال هو الحال، حتى بلغ السفه ببعض بني ملتنا أن يحاولوا استغفالنا، شركة الكوكاكولا هذه التي تروّج هذه الأيام للفساد وتريد أن تُقيم حفلاتٍ هنا وهناك وتستجلب الفنان وتصنع له استقبالاً أسطوريًا ويكتب الكاتب أن شركة الكوكاكولا أعادت الدماء لشعب السودان، جفّت الدماء في عروقه لأنّ الفنان كان غائبًا، كان مهاجرًا، فلما عاد بطلعته البهيّة ووجهه الذكي عادت الدماء إلى شعب السودان! كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
هذه الشركة ـ أيها المسلمون عباد الله ـ شركة أصلها يهودي, ومآلها يهودي, وهؤلاء ليسوا إلا وكلاء. وفي كلّ عام تبرعات هذه الشركة وحدها لدولة اليهود تبلغ ثمانمائة مليون دولار, وفي أخبار يوم الثلاثاء قبل أربعة أيامٍ نشرت الجرائد المحلية في بلادنا هذه أن شركة الكوكاكولا في أمريكا قررت التبرع بأرباح أربعة أيام في جميع أنحاء العالم لدعم دولة إسرائيل لمكافحة الإرهاب. هذه الأخبار ليست من مصادر سرّية بل تُنشر في الجرائد على الملأ.
شركة البيبسي كولا هذه أختها وقرينتها، أيضًا شركة يهودية، أكثر الشركات التي تدعم دولة اليهود من الشركات العالمية مائتا شركة, شركة البيبسي كولا تأتي في المرتبة الثانية في دعم دولة اليهود.
أيها المسلمون، عباد الله، في كل جمعة نجمع التبرعات لإخواننا في فلسطين, ثم نشتري باليد الأخرى سلعًا ندعم بها دولة اليهود! كأننا ندعم المسلمين وندعم اليهود، ثم بعد ذلك ينتصر من كان أقوى. لا والله، يجب علينا أن يكون عندنا ولاء وبراء، ومن هنا صدرت فتوى من علماء الإسلام في هذه البلاد, وقبلها صدرت فتوى علماء الإسلام في مصر وفي الحجاز وفي غيرها من بلاد الإسلام أنّ كل مسلم يشتري سلعةً أو بضاعةً أمريكيةً أو يهوديةً فقد أثِم إثمًا مبينًا, واقترف ذنبًا عظيمًا, وأتى بابًا من أبواب الحرام؛ لأنّه بهذا الشراء يدعم أعداء الإسلام والمسلمين، يُقوّيهم ضدّ إخوانه, والله عزّ وجل قال لكم: وَإِنِ ?سْتَنصَرُوكُمْ فِى ?لدّينِ فَعَلَيْكُمُ ?لنَّصْرُ [الأنفال:72]. إن استنصروكم، إخواننا يستغيثون بنا، تضجّ السماء من شكواهم، ونحن من أجل شهوة، من أجل نَزْوَة، من أجل زجاجة غازية أو سلعةٍ كمالية نشتري سعادتنا بشقائهم، نشتري شهواتنا بدمائهم، هذا والله حرام، قال رسول الله : ((ما من مسلمٍ يخذل مسلمًا في موضعٍ يحبّ نصرته فيه إلا خذله الله يوم القيامة)) ، أتريدون أن تُخذلوا أيها المسلمون؟!
وإذا كان يحرم شراء تلك البضائع فإنه يحرُم كذلك أخذ التوكيل عنها, هذه الشركات الموكّلة في سلعٍ أمريكيةٍ أو يهوديةٍ أو إنجليزيةٍ الحُرمة في حقهم أفحش والذنب أعظم, وكذلك التُجّار الذين يتّجرُون في تلك السلع, هذا هو حكم الشرع وهذه كلمةُ الدين كما أخبر بها ساداتنا العلماء.
نسأل الله أن يعيننا على الالتزام بها، نسأل الله أن يجعلنا نصرًا لإخواننا المستضعفين من المسلمين، ونسأل الله عزّ وجل أن يستعملنا في طاعته، وأن يجعل أموالنا رِدءًا لإخواننا، وعونًا لأشقائنا، وسهامًا في نحور أعدائنا، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلاّ على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلاّ الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين، لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين، اللهم صلِ وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين، وآل كلٍ وصحب كلٍ أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله حقّ تقاته، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلّكم تفلحون.
واعلموا ـ أيها الإخوة في الله ـ أنّ هذه السّلع التي أفتى علماء المسلمين بتحريم التعامل فيها بيعًا وشراءً أخذًا وعطاءً وهبةً وإهداءً وتوكيلاً وتخليصًا، هذه البضائع لا تخلو من ثلاثة أحوال: إما أن تكون من ضرورات الحياة، وإما أن تكون من حاجياتها، وإما أن تكون من التحسينيات.
أما ضرورات الحياة فهي التي لا قيامَ لحياة الناس إلا بها، لو أنها فُقِدَت فالناس سيهلكون، سيموتون، كأن يكون الإنسان يحتاج إلى طعامٍ، ليس هناك طعام إلاّ بهذه الصفة، فهنا نقول: الضرورات تبيح المحظورات. أو لو أن إنسانًا مريضًا مرضًا قاتلاً، وليس ثمة دواءٌ إلاّ دواء أمريكي، ففي هذه الحالة الضرورات تبيح المحظورات.
أما بعد ذلك، أغلب السلع التي يُراد الامتناع عنها ومُقاطعتها من أجل أن نغيظ هؤلاء الكفار عملاً بقول ربّنا جلّ جلاله: ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ أي: المسلمين، لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ ?لْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُحْسِنِينَ [التوبة:120]، أغلب هذه السلع إما حاجيّات وإما تحسينيّات كماليات.
الآن لو تأملنا في هذه المشروبات، لو قاطعناها ما نقص شيء، ولا تعكّر صفونا، وهناك البدائل لها، قل مثل ذلك في أدوات التجميل، في بعض المأكولات كالحلوى أو المعجون أو الصابون أو غير ذلك. هذه كلها ليست من ضرورات الحياة، واجبٌ علينا أن نقاطع بضائعهم، سواءٌ كانت أجهزةً أو معداتٍ أو سيّاراتٍ أو مطعوماتٍ أو مشروباتٍ أو ملبوساتٍ. والحمد لله، ما ضَيّق الله علينا، فالحلال كثيرٌ واسع، ولعلّ هذا يحفزُ المسلمين إلى أن يُنتجوا ويتطوروا، ولا يبقوا هكذا مستهلكين بغير رابطٍ ولا ضابط.
اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أنّ الواجب عليكم أن تأخذوا الأمرَ بجد، الأمرُ أمرُ دين، نكون أو لا نكون. تَعَبّد ربّك جلّ جلاله بمقاطعة هذه السلع، خذها عبادة تُؤجر عليها مثلما تؤجر على الصلاة، وقد تلوتُ عليكم الآية، ذلك أنكم ـ أيها المسلمون ـ لا يصيبكم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة ولا تطؤون موطئًا يغيظ الكفار ولا تنالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لكم به عملٌ صالح، يكتب الله لكم أجره، والآن خبراؤهم ـ خبراء الأمريكان ـ بدؤوا يضجّون، لأن إخواننا سبقونا، إخواننا في بلادٍ كثيرة سبقونا.
وإيّاك إيّاك أن يوسوس لك الشيطان فيقول لك: لو كانت حرامًا أو ممنوعًا لمنعتها الدولة، هذه ليست حجّة، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، كُلُّ ?مْرِئ بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21]، لن تقول لربك يوم القيامة: الدولة سمحت وأنا اشتريت. لا والله، هذه ليست حجّة، وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَرْدًا [مريم:95].
وإيّاك أن يوسوس لك الشيطان بأنّ هذه المقاطعة لا قيمة لها، بأيّ شيءٍ تؤثِّر؟! أمريكا وبريطانيا وغيرها دولٌ عظيمة كبيرة وميزانياتها ضخمة، ولا تؤثر فيها مثل هذه الأمور. لا والله، الآن يضجُّون، في شهر واحد الشركات الأمريكية في الخليج بلغت خسائرها أربعمائة مليون دولار، في شهرٍ واحد من المقاطعة، الآن يضجّون ويشكون ويدعون حكومتهم إلى أن تغيّر مواقفها وأن تنظر في مصالحها، لكنهم لن يفعلوا؛ لأن تحالفهم مع دولة يهود ليس تحالفَ مصالح، وإنما هو تحالف ديني بين الصليبية واليهودية، الكفر ملّة واحدة، هم متفقون على الإسلام وأهله.
فما بقي لنا إلا أن نقاطع، ولا تسمعوا لوسواس الشياطين، إيّاك أن تسمع لشيطانٍ إنسيّ يقول لك: دعك من هذا، اشرب، كل، افعل، دعك من هؤلاء. لا والله، اصبر أيها المسلم، خُذ الأمر على أنّه دين، كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا يحبون الخمر أكثر من حبنا للبيبسي والكوكاكولا، لكن لما نزل قول الله عز وجل: فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:91] قالوا: انتهينا ربنا، من كان في بيته قِدرٌ كسرها، من كان عنده شيء منها دَفَقَها، من كان في فمه قطرةٌ مَجّها، تعبّدوا لله فرفَع الله قدرهم.
أما أن نعيش ـ أيها المسلمون ـ همُّنا بطونُنا، لا نبالي بحلالٍ أو حرام، ولا نميزُ طيّبًا من خبيث، فهذه ـ أجارني الله وإياكم ـ عيشة البهائم عيشةُ الكفار، وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ?لأَنْعَـ?مُ وَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12].
جرّب هذه المقاطعة ـ أيها المسلم ـ وسترى بعد حين أن حياتك ما نقصها شيء، وأنّ متعتك في دنياك والحمد لله ما زالت كاملة، لكن مع ذلك يكتب الله لك أجرَ أنّك نصرت إخوانك، شراؤُك لسلعةٍ أمريكية رصاصةٌ في صدر أخيك المسلم في فلسطين، رصاصة في صدر أخيك المسلم في كشمير، شراؤك للسلعة الأمريكية خيانةٌ لمسرى رسول الله ، خيانةٌ للمسجد الأقصى، شراؤك للسلعة الأمريكية دعمٌ لدولة اليهود.
فالله الله في دينكم، الله الله في إخوانكم، الله الله في مقدساتكم، أروا الله عزّ وجلّ من أنفسكم خيرًا، قاطعوا ابتغاء وجه الله عز وجل، قاطعوا وأنتم تريدون الأجر والثواب من الله، قاطعوا إعذارًا إلى الله. الآن كلّنا نقول: لو فُتحت الحدود ومُهّدت السُّبل وأُعلن الجهاد سنسير إلى فلسطين لنمزق اليهود بأيدينا وأسناننا، هكذا نقول! الآن أتيحت لكم الفرصة، فماذا أنتم فاعلون أيها المسلمون؟! أروا الله عز وجل من أنفسكم خيرًا.
أسأل الله أن يعيننا، وأن يوفقنا، وأن يسددنا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه. اللهم أعنّا على مقاطعةِ أعدائنا، اللهم أعنّا على الانتصارِ لديننا، اللهم أعنّا على الانتقام لدماء إخواننا، اللهم أقم فينا علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وانشر رحمتك على العباد...
(1/3923)
وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون
أديان وفرق ومذاهب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, مذاهب فكرية معاصرة
عبد الحي يوسف
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب اتقاء شر اللسان. 2- تحريم القول على الله بغير علم. 3- أدب النبي وأصحابه في ترك القول بغير علم. 4- التحذير من أنصاف العلماء من أدعياء العلم والفتيا. 5- كتاب جدلية الأصل والعصر نموذج للتعالم. 6- مناقشة لبعض ما ورد في الكتاب من أباطيل: وحدة الأديان، تحريف الدين باسم التجديد، ميراث المرأة. 7- ضرورة الذب عن الدين والجهر بالحق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار، وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثر وألهى، وإنّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: عباد الله، إنّ شريعة الإسلام قد أوجبت على كل مسلمٍ أنّ يتقي الله عز وجل إذا تحدث عن الله أو تحدث عن رسول الله ، واجبٌ على كل مسلم أن يتحرّى في كلامه، ليحل الحلال ويحرم الحرام، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث. أما إذا اعتاد الإنسان أن يطلق للسانه العنان وأنْ يتكلّم فيما يعلم وفيما لا يعلم وأن يفتي فيما يحسن وفيما لا يحسن فإنه يأتي بالطامّات العظيمات، ويتكلم بالأمور المنكرات، فيحل الحرام ويحرم الحلال، ويأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويكون سببًا لشقّ العصا وتفريق الكلمة وزرع العداوة والبغضاء بين المؤمنين.
ربُنا جل جلاله في كتابه الكريم أصّل هذا الأصل الأصيل، وبيّن هذا الأدب القويم في خطابه لأنبيائه ورسله صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين، يقول ربنا الرحمن مخاطبًا نوحًا عليه السلام: فَلاَ تَسْأَلْنِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ?لْجَـ?هِلِينَ [هود:46]، ويخاطب نبيه محمد فيقول له: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ?لْفَو?حِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَ?لإِثْمَ وَ?لْبَغْىَ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?نًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، ويخاطب كل امرئٍ مسلمٍ بقوله سبحانه: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:46].
كان رسول الله أكثر الناس التزامًا بهذا الأدب وتحليًّا بهذا الخلق، فكان يُسأل صلوات ربي وسلامه عليه عن مسائل دقيقة أو جليلة في أصول الدين أو فروعه وهو النبي الأكرم الرسول الأعظم أعلم الخلق بالله وبدينه وبشرعه، فما كان يستنكف صلوات ربي وسلامه عليه أنْ يقول: ((لا أدري)) ، يقول: ((لا أدري)) وهو العالم الفذ الإمام القدوة الرسول الخاتم صلوات ربي وسلامه عليه، يقول على ملأٍ من الناس: ((لا أدري)).
لمّا سأله سائل: يا رسول الله أيُّ البقاع أحبّ إلى الله؟ فقال: ((لا أدري، حتى أسأل جبريل)) ، ولمّا سأل جبريل عليه السلام قال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل، ثم جاءه بالجواب فقال عليه الصلاة والسلام: ((إنّ أحبّ البقاع إلى الله المساجد، وإنّ أبغض البقاع إلى الله الأسواق)).
وهكذا أصحابه رضوان الله عليهم، كانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها هديًا وأقلها تكلّفًا، من نصر الله بهم الدين وحفظ بهم الملة، كانوا رضوان الله عليهم أعظم الناس ورعًا وأقلّهم في الدين كلامًا، ربّما سئل أحدهم سؤالاً فيحيل على أخيه، وأخوه يحيل على غيره، وهكذا ما زال السائل ينتقل من واحد إلى آخر حتى يرجع السؤال إلى الأول، يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركت بهذا المسجد يعني مسجد رسول الله عشرين ومائة من أصحاب رسول الله كلهم يُسأَل عن المسألة فيقول: "لا أدري".
أبو بكر الصديق على المنبر الشريف يقول: (أيُّ سماء تظلّني وأيّ أرضٍ تقِلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!)، عمر بن الخطاب الإمام الفاروق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين مَن ضرب الله الحقَّ على قلبه ولسانه من لو رآه الشيطان سالكًا فجًّا لسلك فجًّا آخر، يقرأ قول الله عز وجل: وَفَـ?كِهَةً وَأَبًّا [عبس:31]، ثم يقول وهو على المنبر: (هذه الفاكهة، فما الأبُّ؟)، ثم يقول: (إنّ هذا لهو التكلف يا ابن الخطاب! وماذا على ابن أمّ عمر لو جهل آيةً في كتاب الله؟!)، على بن أبي طالب يقول: (وأبردها على الكبد) قيل: ما هي؟ قال: (لا أدري)، ويقول ابن عباس: (ينبغي للعالِم أنْ يورّث جلساءه "لا أدري" حتى تكون أصلاً يفزعون إليه)، ويقول عبد الله بن عمر: (العلم ثلاثة: آيةٌ مُحكمة، وسنة ماضية، ولا أدري)، جعل "لا أدري" ثلث العلم، وجعلها غيره نصف العلم، وهكذا حتى أثمرت هذه الشجرة ثمارًا مباركة فقعَّدت للدين قواعده، وثبّتت أصوله، ومهّدت فروعه.
وما زال هذا العلم الشريف يحمله من كل خلفٍ عُدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، حتى نبتت في زماننا هذا نابتة وظهرت ظاهرة، قومٌ يحسنون القيل، ويُسيئون الفعل، يُكثرون الكلام، ويدبجون الكتُب، وينشرون المقالات، ويلقون الخطب، ولهم ضجيجٌ وزفيرٌ وزئيرٌ وصيتٌ وصهيلٌ بين الناس، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا. كتبهم ومقالاتهم خطَبُهم وأقاويلهم يراد بها تقويضُ الدين من أساسه. قومٌ من بني جلدتنا يتكلمون بألسنتنا، لكنهم ـ نسأل الله العافية ـ يكتبون كلامًا ويلقونَه، إنْ أحسنّا الظن بهم قلنا: هم على جهلٍ عظيم، وإنْ أسأنا الظن قلنا: قلوبهم تنطوي على غيرِ الإسلام، يظهرون الإسلام ويبطنون غيره، يُلقون كلامًا ويُخفون أغراضًا. فلا بدّ ـ أيها المسلمون ـ من أنْ يُنتبه إليهم، وأنْ يُحذّر منهم لأنّ الله عز وجل قال لنبيه : هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ ?للَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
الكافر المعلن بحرب الإسلام المظهر لعداوته لا خوف منه، فإنّ المسلمين جميعًا يحذرونه، ينتبهون إليه، يزِنون أقواله بميزان الشرع، لا ينساقون إليه، لكنّ المصيبة كل المصيبة أنْ يكون الإنسان عليم اللسان، يُجادِلُ بالقرآن ويسرد على كلامه أدلّةً، ويسوق براهين يحسبها الناس براهين للوهلة الأولى، للنظرة العجلى، ولكنها في حقيقة الأمر خواءٌ من كل علم.
أيها المسلمون، عباد الله، في بلادنا هذه ابتلِينا بنفرٍ من هؤلاء يلبَسون مسوح العلم، هم فصحاءُ اللسان، ربّما يصلّي أحدهم بالناس الجمعة أو العيدين، وربّما يتكلم بالآيات والأحاديث، لكنه يضعها في غير مواضعها، ينتسبون إلى بيوتات دينية، ويظهرون للناس وكأنهم أهل الدين المدافعون عن بيضته الذائدون عن حماه الناطقون بكلمته، ولكنّ الحقيقة غير ذلك.
في الأسابيع المتأخرة كتابٌ ظهَر في الأسواق، واللهِ ما أتكلّم عنه إلا لأحذِّر منه ولأبيِّن للناس أن الواجب على كل مسلم أنْ يتثبّت وأنْ يتبصّر وأنْ يتبيّن؛ لئلا يحسب الورَم شحمًا، من أجل أنْ نزن الأمور بميزان الشرع، فإنّ الرجال يُعرَفون بالحق، والحق لا يعرف بالرجال، ما أقول: هذا الكلام حقّ لأنّ قائله فلان، بل أقول: فلانٌ على حقّ لأنّه قال حقًّا، لأنّه نطق صدقًا.
كتابٌ يظهر في الأسواق عنوانه: (جدلية الأصل والعَصر)، يكتبه رجلٌ يتكلّمُ باسم الدين أحيانًا، تولى الحكم في هذه البلاد مِرارًا، كتابه هذا لو أنّ الإنسان ألقى نظرَة على ثلاث صفحات منه فإنه يتبين له ما وراءه؛ تقويضٌ للدين، هدمٌ لأصوله، بلبلة لفروعه، تلبيسٌ على المسلمين، اجترار لحثالات أفكار أقوام سبقوه، ما أتى بجديد، أقوامٌ من أهل العلمنة في بلادنا العربية المسلمة في شمالنا وشرقنا وغربنا، كتاباتٌ سبقت دعت إلى مثل ما دعا إليه، تكلمت بمثل ما تكلم به، وباء أصحابها بالخزي في الدنيا عند عبادِ الله المؤمنين، ونسأل الله أنْ يتوب علينا أجمعين.
ماذا نجد في هذا الكتاب من كلام باسم الدين؟! فقرات ثلاث أقتصرُ عليها:
في صفحة 23 تحت عنوان: (مفهوم الإسلام) يوردُ آيتين من كتاب الله، قوله سبحانه: إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:19]، وقوله سبحانه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، ثمّ يقول: "كثير من المفسّرين احتجّ بهذه الآية على أنّ المقصود بالإسلام الرسالة المحمدية، ولكن الآية 84 توسِّع هذا المفهوم"، ويعني بالآية 84 قوله تعالى: قُلْ ءامَنَّا بِ?للَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى? إِبْر?هِيمَ وَإِسْمَـ?عِيلَ وَإِسْحَـ?قَ وَيَعْقُوبَ وَ?لأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى? وَعِيسَى? وَ?لنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [آل عمران:84]، يقول: "توسِّع هذا المفهوم، وكذلك حديث: ((نحن معاشر الرسل أولاد علات)) ".
أقول: أيها الإخوة الكرام، هذا الكلام فيه من التدليس والتلبيس وفساد المعتقد وسوء الفكر شيءٌ عظيم، أما قوله: "كثير من المفسرين احتج بهذه الآية" فهذا كلامٌ باطل، فإنّ كلامه يوهم أنّ كثيرًا من المفسرين احتجوا، ولكنّ بعضهم يرى مثلما رأى، وهذا هو الكذب بعينه، فالمفسّرون كلهم أجمعون ابتداءً برسول الله وإلى يومنا هذا، أجمعوا على أنّ هذه الآية مرادٌ بها الإسلام الذي أنزله الله على محمد ، الإسلام الدين المعروف بحدوده وتفاصيله وعقائده وشعائره وشرائعه، الدين الذي تلقّاه محمّد من ربه هو المقصود بهاتين الآيتين: إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:19]، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا [آل عمران:85]، أي: ومن يبتغ غير الدين الذي جاء به محمّد فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وقد ثبت في الصحيح أنّ رسول الله محمد قال: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة يهوديٌ أو نصرانيٌ ثم لا يؤمن بي إلا أكبّه على وجهه في النار)) ، ما بقي بعد هذا الكلام كلام، إجماع أهل العلم على أنّ الأنبياء جميعًا من لدن آدم إلى محمد دينهم واحد، دينهم الإسلام بمعنى الاستسلام لله عز وجل بالطاعة والانقياد له وقبول ما أنزله، الإسلام معناه الخلوص من الشرك، هذا الذي دعا له الأنبياء جميعًا.
الآن ـ أيها المسلمون عباد الله ـ يُراد من هذا الكلام الترويج لفكرة خاسئةٍ خاسرة: أنّ اليهود والنصارى يمكن أنْ يشملهم تعريف الإيمان أو مظلة الإسلام كما قال غيره: "الإسلام الواسع"، لكن اليهود والنصارى ما كتابهم؟ ما ديانتهم؟ ما أفعالهم؟ ما معتقداتهم؟ أما اليهود فكتابهم توراة عزرا، التوراة التي كتبها عزرا، لا التوراة التي أنزلها الله على موسى، وتلمود الحاخامات، التلمود تفسيرٌ للتوراة دوّنه الحاخامات.
ثم بعد ذلك النصارى ما كتابهم؟ الأناجيل المحرّفة الأربعة التي يعترِفون بها، ثم رسائل بولس، وهو شاؤول اليهودي الذي دخل في النصرانية فأفسدها ولقّنهم معتقد التثليث والقول ببُنوّة عيسى عليه السلام، فزعم أنّ عيسى ابن الله، ثم بعد ذلك هم الذين استحلّوا الربا، هم الذين أكلوا الخنزير، هم الذين شربوا الخمور، هم الذين فعلوا الأفاعيل، أهؤلاء جميعًا يُراد لنا أنْ نعتقد بمثل هذا الكلام أنهم مسلمون، وأنّ المظلة تسعهم؟! لا شك أنّ هذا باطل.
وقد أجمع المسلمون قاطبةً على أنّ اليهود والنصارى ومن باب أولى غيرهم ممن لم يؤمن بنبوّة محمد أنهم كفّار، وقد نطقت بذلك آيات القرآن: لَمْ يَكُنِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَ?لْمُشْرِكِينَ [البينة:1]، أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ نَـ?فَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَ?للَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَـ?ذِبُونَ [الحشر:11]، لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ ثَـ?لِثُ ثَلَـ?ثَةٍ [المائدة:73]، لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْمَسِيحُ ?بْنُ مَرْيَمَ [المائدة:17]. وغير ذلك من الآيات الكثيرات والنصوص المتواترات، فيراد بهذا بمثل هذا الكلام أنْ يهدم معتقدات المسلمين وأنْ يبلبل أفكارهم، وهو في الوقت نفسه ينتسب إلى الإسلام.
اعلموا ـ أيها المسلمون عباد الله ـ أنّ كفر اليهود والنصارى مجمعٌ عليه، ومن شك في كفرهم فقد كفر، فتنبهوا لهذا.
ثم في صفحةٍ ثانية وما ذكره في الكتاب كثير، لكن في صفحة أخرى يدعو إلى تغيير فروع الدين ويختار لذلك نموذجين: الزكاة التي هي ركن الإسلام الأعظم بعد الشهادتين والصلاة، يقول: "الأحكام الإسلامية كالربا والزكاة وغيرها لا يمكن نقلها بأشكالها القديمة، ولا يمكن تطبيقها بصورة تناسب مقاصد الشريعة، فهي بحاجة إلى اجتهادٍ جديد"، ما هو هذا الاجتهاد؟ يقول في صفحة 52: "هناك حاجةٌ لمراجعة النصاب ونسبة الزكاة منه، فحسب النسب القديمة زكاة الثروة الحيوانية 2.5 في المائة، والزراعة 10 في المائة إذا كانت مسقيةً بماء السماء"، ثم يقول: "هذه النسب يجب أنْ تراجع على أساس إيجاب الزكاة على المستكفي وصرفها على المحتاج".
أيها المسلمون، عباد الله، ربنا جل جلاله لما بعث محمدًا وأنزل عليه هذه الفرائض وحدّ هذه الحدود هل خفي على علمه جل جلاله ما يكون في مستقبل الأيام، ما يحدث للناس بعد دهورٍ، بعد سنين؟! هل خفي على ربنا جل جلاله ما يكون في الناس من غنى وفقر وحاجةٍ واستكفاء وقوة وضعف وغير ذلك مما هو حادث؟! اللهم لا.
نحن نعتقد بأنّ الله عز وجل عليمٌ حكيمٌ خبيرٌ قديرٌ، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ونعتقد أنّ شرع الله عز وجل محكم، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. نبينا جعل لهذه الزكاة أصنافًا، ما فرضها في كل المال، فرضها عليه الصلاة والسلام ـ وكما أجمع أهل العلم ـ في أصناف أربعة: فرضها في الذهب والفضة صنف، وفي الزروع والثمار صنف، وفي بهيمة الأنعام صنف، وفي عروض التجارة صنف رابع.
وفصّل صلوات ربي وسلامه عليه، فجعل في الذهب والفضة ربع العُشر، وفي الزروع والثمار العُشر إذا سقيت بغير جهد، ونصف العُشر فيما سُقي بالنواضح وبذل فيه الجهد، وجعل زكاة بهيمة الأنعام مفصّلة في كل أربعين شاة شاة، وفي كل ثلاثين بقرة تبيع، وليس فيما دون خمس ذودٍ صدقة، في كل خمسٍ من الإبل شاة، وفي كل عشرٍ شاتان، وهكذا يتدرج هذا النصاب، كلما اتسع المال زادت القيمة المفروضة زكاةً فيه.
الآن يأتي هذا بالذي لم يأت به الأوائل، ويطالب بأنْ تراجع هذه النسب، كأنه يعدّل على رسول الله ، يقول له: تشريعك كان مناسبًا لعصرك، لكنه لا يوافق زماننا، قد علمنا ما لم تعلم، ووصلنا إلى ما لم تصل إليه، هذه النسب التي فرضتها تفصيلاً لا بد أنْ تُعدّل، أنْ يزاد فيها من أجل أنْ نواجه حاجات الناس.
ما هذا الكلام أيها المسلمون عباد الله؟! مِن أين هذا الكلام؟! مِنْ أين أُتينا حتى يخرج رجل مِنْ بني جلدتنا وينتسب إلى ديننا ويريد أن يقوض شريعة الإسلام بمثل هذا؟! وليت الأمر اقتصر على السنة، لعل بعض الناس يقول بأنّ الزكاة قد ثبتت مقاديرها بالسنة المتواترة وأجمع عليها أهل العلم، لكن الرجل ينتقل بعد ذلك إلى القرآن نفسه، القرآن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي فرض فيه الفرائض، وحُدّت فيه الحدود، وبينت فيه الأمور، تمتدّ غارته إلى القرآن نفسه، وما أجرأه! ما أعظم جرأته!
في صفحة 57 في قول الله عز وجل: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، آية مُحكمة قطعية الثبوت قطعية الدلالة ليس فيها فهمان، وإنما الفهم فيها واحد، لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ ، ما قال: للرجل مثل حظ المرأتين، بل للذكر ـ لكل ذكر سواءً كان عاقلاً أو مجنونًا صغيرًا أو كبيرًا عالمًا أو أميًّا ـ مثل حظ الأنثيين، صغيرتين أو كبيرتين، جاهلتين أو متعلمتين، متزوجتين أو غير متزوجتين، النص عام. فماذا يقول؟ قال: "هذا الأمر يتعلق بأنّ الأمومة تفرض على المرأة ظروفًا تعطّل سعيها للزرق، والحقيقة أنّ الأمر ليس مرتبطًا بالأنوثة". الله عز وجل يقول: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ ?لأنْثَيَيْنِ ، وهذا يقول: "الأمر ليس مرتبطا بالأنوثة، هناك ظروف جدّت على بعض المجتمعات تعاظم فيها دور المرأة الإنفاقي لأسباب منها: نسبة الطلاق العالية وتخلي كثير من الرجال عن الإنفاق على أهلهم، هذه الظروف جعلت إنفاق النساء يبلغ نسبة معتبرة" إلى أنْ قال: "لا يمكن تطبيق أحكام الوراثة بصورة لا تراعي مقاصد الشريعة وتأخذ المستجدات في الحسبان، هكذا ينبغي أنْ تراجع أشكال الأحكام الإنسانية داخل المضمون الاقتصادي لتأخذ المستجدات في الحسبان".
هذا الكلام ـ والله ـ ما يساوي أنْ يُردّ عليه، ولا أنْ يذكر على المنبر، لكنني أقول: إنّ مصيبتنا أهلَ السودان أنّنا خُدِعنا في كثير من الناس ممّن لبسوا مسوحَ العلم وتزيّوا بزيِّ أهله، ثم بعد ذلك هم خواءٌ منه، ولا أدلّ على هذا المعنى من هذا الكلام.
أما كون المرأة الآن بدأت تشارك في الإنفاق، نسبة الطلاق وما أشبه ذلك، هذا كلامٌ غير صحيح، ليس هناك مستجدات.
منذ عهد رسول الله كانت المرأة تشارك في الأعمال التي تناسب طبيعتها، وأذكر لكم بعض النماذج:
في الصحيحين عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: طُلِّقت خالتي فخرجت تجُدُّ نخلها ـ خرجت في فترة العدة ـ أي: تقطع ثمار نخلها بعدما نضجت، فزجرها رجل من أهلها فقال لها: أنت في العدة، ارجعي لا تشتغلي، فذهبت إلى رسول الله وسألته، فقال عليه الصلاة والسلام: ((بلى جُدِّي نخلك، لعلك تطعمين أو تتصدقين)) ، المرأة كانت تعمل.
مثال آخر: المرأة كانت تشارك في أعمال الجيش المناسبة لطبيعتها، عن الرُبيِّع بنت معوّذ رضي الله عنها قالت: كنا نغزو مع رسول الله فنسقي القوم ونردّ القتلى والجرحى إلى المدينة، وعن أم عطية الأنصارية رضي الله عنها قالت: غزوت مع رسول الله سبع غزواتٍ، أخلُفهم في رحالهم، أصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأرد القتلى، وعن أمّنا عائشة رضي الله عنها قالت: لما أصيب سعدٌ رضي الله عنه يوم الخندق أمر به رسول الله فجُعل في خيمةٍ في المسجد ليعوده من قريب. قال الحافظ ابن حجر: "قال ابن إسحاق: وكانت هذه الخيمة لرفيدة امرأة من الأنصار تداوي الجرحى، فجعل رسول الله سعدًا في خيمتها لتداويه وليعوده من قريب".
ما الجديد؟! المرأة على عهد رسول الله تُطلَّق، كانت تعمل في جَدِّ النخل، كانت تعمل في الزراعة، كانت تعمل في نقل الثمار، تقول أسماء بنت أبي بكر: تزوجت الزبير بن العوام وهو لا يملك من الدنيا شيئًا، فكنت أسقي أرضه، وأعلف ناضحه، وأنقل النوى على رأسي.
لو احتاجت إلى العمل كانت تعمل، ما الجديد من أجل أن يقال اليوم بأنّ هذا التشريع كان لظرفٍ معين، لحالةٍ معينة؟! ثم بعد ذلك طرأت مستجدات وتغيرت ظروفٌ وأحوال، فلا بد أنْ نجعل للمرأة نصيبًا يساوي نصيب الذكر، كما هو فحوى هذا الكلام وإنْ لم يصرح به!
نقول: أيها الإخوة الكرام، ربنا الرحمن عادل لا يظلم، وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف49]، جعل للذكر ضعف حظ الأنثى، وجعل للأنثى نصف حظ الذكر، لأنه يراعي طبيعة كلٍ ومسؤولية كلٍ، فلو فرضنا أنّ رجلاً مات وترك ابنًا وبنتًا ذكرًا وأنثى، وترك مائةً وخمسين ألف دينار، فقسمة القرآن تقضي بأن يكون للذكر مائة ألفٍ وللأنثى خمسون ألفًا، ثم بعد ذلك أراد الولد وأخته أنْ يتزوّجا، فلو افترضنا أنّ هذا الولد سيتزوج، فسينفق في المهر والعُرس وغير ذلك ما يعادل خمسة وعشرين ألفا من المائة ألف التي ورثها، بقي له خمسة وسبعون ألف دينار، وبالمقابل أخته التي ورثت خمسين ألفًا سيأتي آخر ليتزوجها، سينفق في المهر مثلاً وفي نفقة العرس ما يعادل خمسة وعشرين ألفًا، فكأنّ الذكر والأنثى لكلّ منهما خمسة وسبعون ألفًا، والله عز وجل هو الذي خلق الذكر والأنثى، وهو الذي يعلم ما يصلح الذكر والأنثى، فما بالنا نُعدّل على الله أحكامه؟! ما بالنا نفتري على الله الكذب متظاهرين بأننا علماء؟!
ثم في ثنايا كلامه عن الميراث ذكر مسألة تدلّ على أنه لا يعرف الشيء الذي يتكلّم عنه، يقول: "ويدلّ على ذلك أنّ الأمّ قد ترث أكثر من نصيب الأب أحيانًا، كما لو هلك هالك ولم يترك ذكرًا ولا أنثى أي: لم يترك فرعًا وارثًا"، نقول: هذا جهل وما قال به أحد، فإنّ الأم والأب لا يخلوان من ثلاثة أحوال:
إما أنْ يموت ولدهما وقد ترك فرعًا وارثًا، ففي هذه الحالة لكل واحد منهما السدس، للأب سدس وللأم سدس.
الحالة الثانية: أنْ يموت الميت ولم يترك فرعًا وارثًا، لكنه ترك جمعًا من الإخوة، فها هنا أيضًا للأم السدس وللأب الباقي.
الحالة الثالثة: أنْ يموت الميت ولم ترك فرعًا وارثًا ولا جمعًا من الإخوة، ففي هذه الحالة للأم الثلث وللأب الثلثان.
هذه أحوالٌ ثلاثة لا يخلو منها الأب والأم، لكن هكذا حين يتكلم الإنسان فيما لا يعلم ويهرف بما لا يعرف فإنه يأتي بمثل هذه العجائب.
واجبٌ عليكم ـ أيها المسلمون عباد الله ـ أنْ تحرّروا ولاءكم لله، لا تنتبهوا إلى أنّ هذا الكلام مَنْ قاله فلانٌ أو فلانٌ، فليقله مَنْ قاله، هو باطل يردّ على مَنْ قاله، مَنْ نطق بالباطل يرد عليه باطله كائنًا مَنْ كان، ومَن نطق بالحق ندعو له ونثني عليه ونتبعه في الحق الذي قاله، هكذا ينبغي أنْ يكون المسلم، أما الذي يتعلق بالزعامات وينتبه إلى الأسَر ويصغي إلى فلان أو فلان فمثل هذا تضيع دينه ودنياه.
نسأل الله أن يردنا إلى دينه ردًا جميلاً، وأنْ يبصرنا بالحق أينما كان، وأنْ يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتّباعه، وأنْ يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأنْ يهدي كل ضال، وأنْ يرشد كل حائر، وأنْ يرد كل غافل، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العلمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي الأمين، بعثه الله بالهدى واليقين، لينذر من كان حيًّا ويحق القول على الكافرين، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين، وآل كلٍ وصحب كلٍ أجمعين، وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله حق تقاته، وتوبوا إلى الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
واعلموا ـ أيها الإخوة في الله ـ أنّ سلفنا الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين كانوا يردون على من نطق بالباطل باطله، لا يخافون في الله لومة لائم، وقد يكون الأمر باطلاً محتملاً، وقد يكون أمرا فيه اجتهاد أو راجعًا إلى مصلحة، لكنهم رضوان الله عليهم لما بايعوا رسول الله على السمع والطاعة في اليسر والعسر والمنشط والمكره بايعوه على أنْ يقولوا بالحق أينما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم.
عمّار بن ياسر رضي الله عنهما لما خرج مع علي في موقعة الجمل وعلم أنّ عائشة رضي الله عنها خرجت مع الجيش الآخر، وقف في الناس خطيبًا وقال: (أيها الناس، والله إني لأعلم أنها زوجة نبينا في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم ليعلم أتطيعوه أم تطيعوها). أثبت لها فضلها وشرفها ومزيتها رضوان الله عليها، لكنه نطق بالحق وإن كان في خلاف عائشة رضي الله عنها.
وما ضرّ الناس في هذه البلاد إلا المجاملة على حساب الدين، نجامل على حساب الدين، نغضّ الطرف، ونسكت مرة بعد مرة، حتى يطلّ الباطل برأسه، وينشر على الناس رواقه، ويتبع المبطلَ فئام مِنْ الناس ممن اغتروا بزخرف القول.
لا أيها المسلمون، بيّنوا الحق وأعلنوه ولو كان الناطق به ممن نحبّ، فالحق أحب إلينا من كل أحد، وقد جرت عادة الفقهاء رحمهم الله أنْ يذكروا المسألة يقولون: قال ابن عباس كذا، والراجح خلاف ما قال، رغم أنّ القائل عبد الله بن عباس حبر الأمة ترجمان القرآن رجل من آل البيت ابن عم رسول الله من دعا له بالفقه في الدين والعلم بالتأويل، لكنهم كانوا يعلمون أنّه ليس في الحق كبير، لا بد من البيان، ولا بد من الإيضاح ولو كانت المسألة هينة يسيرة، فما بالكم إذا كانت المسائل تتعلق بأصول الدين، بالقطعيات التي أجمع عليها المسلمون، واتفق عليها المؤمنون، وما خالف فيها أحد أحدًا؟! يأتي اليوم إنسان يريد أنْ يقوِّض هذا كله! لا بد من الرد عليه.
وبين أيديكم ـ أيها المسلمون عباد الله ـ تلك الفتوى التي أصدرها علماء هذه البلاد ووقّع عليها سبعون عالمًا أو يزيدون، ولو دعي غيرهم لوقعوا. هذه الفتوى توجب عليكم دينًا وشرعًا مقاطعة كافة البضائع الأمريكية والإسرائيلية والإنجليزية التي ببيعها وأرباحها تدعم دولة اليهود ويحارب الإسلام، وقد مضى تقرير هذا المعنى في الدرس الذي مضى، وما بقي علينا إلاّ أنْ نمتثل ونلتزم ونترك هذه الأشياء لله، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرٌ منه.
أيها الإخوة المسلمون، أكثروا من الدعاء في هذه الأيام، فإنّ بلادنا تحيط بها الكرب ويتآمر عليها الأعداء، وقد سمعنا في هذا الأسبوع بنبأ سقوط مدينة كبويتا في أيدي المتمرّدين الصليبيّين المدعومين من قوى الشر، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وسمعت الخبر في إذاعاتٍ عالمية ينطقها المذيعون وهم يتهلّلون ألفاظهم وأصواتهم يظهر منها البشر. وهكذا لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم.
فواجبٌ علينا أنْ تتَّحد كلمتنا، وأنْ نستقيم على دين ربنا، وأنْ نكثر من الدعاء، وأملنا في الله عز وجل كبير في أنْ ينصر إخواننا المجاهدين، وأن يثبت أقدامهم، وأنْ يقوي شوكتهم.
اللهم رد كيد الكائدين ومكر الماكرين، اللهم منْ أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بخير فأجر الخير على يديه، ومن أرادنا وبلادنا والإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، اللهم مَنْ مكر بنا فامكر به، ومَنْ كادنا فكده، ومَنْ أراد بنا شرًا فلا تمكِّنه...
(1/3924)
أداء الأمانات والوفاء بها
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمانة في نظر الشارع شاملة لكل الأمور. 2- عظم الأمانة وثقلها. 3- ذكر بعض معاني الأمانة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي فرض على عباده أداء الأمانة، وحرم عليهم الخيانة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من أدى الأمانة وبلغ الرسالة، اللهم صل وسلم وبارك على محمد القائل: ((يطبع المؤمن على الخصال كلها أو الخلال كلها إلا الخيانة والكذب)) ، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبع نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد: يا عباد الله، اتقوا الله تبارك وتعالى، وأدوا الأمانة التي حملتموها ورضيتم بتحمل مسؤولياتها بما وهبكم الله من العقل وبما تفضل عليكم بإرسال الرسل، قال الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّا عَرَضْنَا ?لأمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]. كان ظلومًا لنفسه بعصيانه ربه وعدم قيامه بما افترض عليه، وكان جهولاً بعاقبة تفريطه وإخلاله بما التزمه وائتمن عليه. اللهم إنا نعوذ بك من الظلم والجهل.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الأمانة في نظر الشارع واسعة الدلالة، فيها الشمولية لكل الأمور، وهي ترمز إلى معان شتى، ولكن مناطها جميعًا شعور المرء بتبعته في كل أمر يوكل إليه وإدراكه الجازم بأنه مسؤول عنه أمام ربه على نحو ما فصله رسول الله بقوله: ((كلكم راع ومسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته)) [1].
فالأمانة ـ يا عباد الله ـ ضخمة وثقيلة، عظّم الله من شأنها في دين الله، وليست كما يتصوّرها عوام الناس في أضيق معانيها بحفظ الودائع فقط.
ومن أجل بيان أهمية الأمانة كان رسول الله كثيرًا ما يذكرها في خطبه ويربط بينها وبين الإيمان، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما خطبنا رسول الله إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) [2].
هذا وإن في طليعة الأمانات الواجب أداؤها القيام بطاعة الله بكل ما أمر، والانتهاء عن كل ما نهى عنه وزجر، مخلصين له الدين، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع، متبعين رسوله غير زائدين عليه ولا ناقصين عنه، فالله لا يقبل عملاً حتى يكون خالصًا لوجهه، موافقًا لشرعه متبعًا فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن أداء الأمانة وضع كل شيء في المكان الجدير به واللائق له، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الجدير به المستحق له، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفاءته لها, فإن الأعمال والولايات أمانات ثابتة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: ((يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)) [3].
فالأمانة ـ عباد الله ـ تقتضي أن تختار للأعمال أحسن الناس قيامًا بها، فإذا مِلنا إلى غيرهم لهوى أو رشوة أو قرابة أو مأدبة أو هوية فقد ارتكبنا بذلك خيانة فادحة، قال رسول الله : ((من استعمل رجلاً على عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)) [4].
ومن الأمانة أن لا يستغل الرجل منصبه الذي عين فيه لجر ما حرم عليه من منفعة إلى شخصه أو قرابته بالطرق الملتوية المحرمة، ومن أجل ذلك شدد الإسلام بضرورة التعفف عن استغلال النفوذ المحرم بشتى صوره وأنواعه، وشدد في رفض المكاسب المشبوهة، فقال الله تعالى: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [آل عمران:161]، وفي الحديث أن النبي استعمل رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللُّتبيَّة على الصدقة، فلما قدم بها قال: هذا لكم وهذا أهدي إليّ، فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهدي إليّ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا؟! والله لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفنّ أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر)) ، ثم رفع يديه حتى رُئي بياض إبطيه يقول: ((اللهم هل بلغت)) [5].
ومن الأمانة ـ عباد الله ـ أن تنظروا إلى حواسكم التي أنعم الله بها عليكم، وإلى المواهب التي خصكم بها من الأهل والأموال والأولاد، فتدركوا أنها ودائع الله الغالية عندكم، فلا تسخّروها وتستخدمونها إلا في مرضاة الله، قال عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27، 28].
ومن معاني الأمانة أيضًا حفظ حقوق المجالس، فإن البيوتَ أسرارٌ، فلا يجوز كشف أسرارها، وكذلك للعلاقات الزوجية في نظر الإسلام حرمةٌ وأمانة، فلا يجوز لأحد الزوجين أن ينشر سرَّ الآخر ويحدّث الناس بما يكون بينهما من عشرة وغير ذلك، فليتّق الله كل منهما فيما بينهما.
ومن الأمانة ـ أيها المسلمون ـ تلك الودائع التي تدفع إلينا لنحفظها حينًا، ثم نردّها إلى أصحابها حين الطلب، فهذه أيضًا من الأمانات التي نحاسب عليها يوم القيامة، ولهذا فقد استخلف رسول الله يوم هجرته ابن عمه عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه ليسلّم المشركين الودائع التي استُحفِظها الصادق الأمين، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [النساء:58].
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على أداء الأمانات على اختلاف ألوانها وشتى صورها وأنواعها، ففي أدائها برهان على الإيمان، وفي التقصير بها والتفريط في أدائها قدح في الإسلام ومخالفة للملك العلام.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الأحكام في فاتحة الكتاب (8/104)، ومسلم في الإمارة، باب: فضيلة الإمام العادل (1829).
[2] رواه أحمد (3/135)، وصححه ابن حبان كما في الإحسان (1/208)، وهو في صحيح الجامع (7056).
[3] رواه مسلم في الإمارة، باب: كراهية الإمارة بغير ضرورة (1826).
[4] أخرجه الحاكم في المستدرك (4/92) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
[5] رواه البخاري في الأحكام، باب: محاسبة الإمام عماله، وباب: هدايا العمال (8/121) ، ومسلم في الإمارة، باب: تحريم هدايا العمال (1832).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القتل في سبيل الله يكفّر الذنوب كلها إلا الأمانة)، قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة وإن قتِل في سبيل الله، فيقال: أدّ أمانتك، فيقول: أي رب، كيف وقد ذهبَت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، وتمثّل له أمانته كهيئتها يوم دفِعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه، حتى إذا ظنّ أنه خارج زلّت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها إلى أبد الآبدين)، ثم قال: (الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة ـ وأشياء عددها ـ وأشد ذلك الودائع). فالعبادة أمانة، والمعاملات أمانة، والكلام أمانة، والحديث أمانة، والتصريحات أمانة، والقول بفعل الشيء أمانة، والنفي أمانة، والكتابة أمانة، والأخذ أمانة، والعطاء أمانة.
قال زاذان راوي الحديث: فأتيت البراء بن عازب فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود؟! قال: كذا، قال البراء: صدق، أما سمعتَ الله يقول: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ [النساء:58] [1].
فاتقوا الله عباد الله، وأدوا الأمانات إلى أهلها قبل أن يأتي يوم لا ينفع الندم فيه، حيث لا درهم ولا دينار إلا الأعمال، فيؤخذ من الحسنات إن وجدت، وإلا أخذ من سيئات صاحب الحق لتطرح على المؤتمن، وهكذا حتى يطرح في النار.
اللهم إنا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم...
[1] الحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (5/295) وعزاه للطبراني وقال: "رجاله ثقات"، لكنه لم يذكر قول زاذان. وذكره الشيخ الألباني في ضعيف الجامع (4134) وفي السلسلة الضعيفة (4071) وعزاه أيضًا للحلية. وقد أورد الحديث بتمامه ابن كثير في تفسيره (1/442) موقوفًا على ابن مسعود، ولعل هذا هو الصحيح فيه، والله أعلم.
(1/3925)
استقبال رمضان وبيان فضله
فقه
الصوم
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل شهر رمضان. 2- خصائص شهر رمضان. 3- صيام الجوارح. 4- حكم الصوم وتعويد الطفل عليه. 5- آداب وسنن الصوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي منّ على عباده بمواسم الخيرات، ليغفر لهم بذلك الذنوب ويكفر عنهم السيئات، وليضاعف لهم بذلك الثواب ويرفع لهم الدرجات، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واسع العطايا وجزيل الهبات، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل المخلوقات، وصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله، اتقوا ربكم واعبدوه، واشكروه على ما أنعم به عليكم، فمن نعمه فرض صيام شهر رمضان رحمة بالعباد، واحمدوه واعرفوا عظم نعمته عليكم بمواسم الخيرات التي تتكرر كل عام ليتكرر الفضل من الله والإنعام.
عباد الله، إنكم في شهر عظيم وموسم كريم، تضاعف فيه الحسنات لمن عرف قدره وحرمته، وتمحى فيه السيئات عن التائبين والمستغفرين، كما تعظم فيه السيئات لمن فرط على نفسه، فاتقوا الله عباد الله، وعظِّموا هذا الشهر المبارك، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، شهر الهدى والتقى والعفاف، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]، وقال جل من قائل: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185].
فهذا الشهر ـ عباد الله ـ مدرسة ربانية وروضة زمنية روحانية تفتح أبوابها كل سنة شهرًا كاملاً ليتدرب فيه العباد على الصبر على الطاعات والإمساك عن المعاصي، ويعقدوا العزم على التوبة من الذنوب والسيئات. إنه شهر الصيام والقيام والصدقة والعمرة وتلاوة القرآن في شهره الذي أنزل فيه كما كان السف الصالح رحمهم الله يتفرغون في شهر رمضان لتلاوة القرآن، ويقدمونه على النوافل من العبادات، ويختمونه عدة مرات.
إنه شهر كريم تفضل الله به على هذه الأمة الإسلامية بخصال، وفيه أهداف سامية ومزايا رفيعة مقامات عظيمة، الخصلة الأولى: جعل خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، والخصلة الثانية: بركة السحور فإنها فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب، والخصلة الثالثة: تصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون في غيره، والخصلة الرابعة: خصوصيته بليلة القدر التي هي خير عند الله من ألف شهر، والخصلة الخامسة: يغفر الله لهذه الأمة فيه لمن صامه إيمانًا واحتسابًا كل ما تقدم من الذنوب.
فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا فرصة شهر الصوم بالإكثار من تلاوة القرآن الكريم والتنافس في الأعمال الصالحة والمبادرة بالتوبة الصادقة، وجدّدوا العهد بربكم، وشدّوا العزائم للطاعة، وابذلوا الجهد في مصابرة النفس وقسرها على تعوّد الصبر وتحمّل المشقات، واعلموا قول الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، قال المفسرون: إنما يوفى الصابرون أي: الصائمون، يؤكّد ذلك الحديث القدسي الذي يرويه رسول الله عن ربه تبارك وتعالى أن قال: ((الصوم لي وأنا أجزي به)).
عباد الله، اتقوا الله، وترفّعوا بصومكم عن كل ما يغضب الله، وأزيلوا من بينكم العداوة والبغضاء والشحناء، وطهروا قلوبكم من أمراض الحقد والحسد، وارتفعوا إلى المستوى اللائق بالمؤمن الذي تتغلب فيه الروح على البدن، وغلبوا في صومكم جانب التسامح والصفح لزلات الآخرين، واذكروا دومًا قول نبيكم : ((إذا أصبح أحدكم صائمًا فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم إني صائم)) [1] ، كررت للتقيّد والالتزام بها، إذًا فهو جواب مفحِم ومسكت، فلا تجعل صيامك ـ أخي المسلم ـ مثل فطرك، وطهر لسانك من الغيبة والنميمة والكذب والزور والعمل به، وتذكّر قول نبيك : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [2] ؛ لأنه صام عن مباح محرّم عليه مؤقّتًا وارتكب محرّمًا تحريمه أبديٌّ سرمديّ.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن فريضة الصوم واجبة على المسلم العاقل البالغ الصحيح المقيم، ويجب أن تكون المرأة طاهرة من الحيض والنفاس، وهذه الفريضة لا تسقط بحال إلا لأهل الأعذار المشروعة كالمريض والمسافر والحائض والنفساء والحامل والمرضع.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تتهاونوا بصيام هذا الشهر العظيم، بل وعوّدوا أولادكم على صيامه، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصوِّمون صبيانهم الصغار، يجعلون لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم يريد الطعام أعطوه إياها حتى يكون وقت الإفطار [3] ، وفي ذلك تعويد الطفل وترويضه على العبادة لينشأ صالحًا يحب الخير ويألفه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهديه الكريم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه الإمام مسلم في الصيام، باب: حفظ اللسان (1151).
[2] رواه البخاري في الصوم، باب: من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (2/228).
[3] رواه البخاري في الصوم، باب: صوم الصبيان (2/241)، ومسلم في الصيام، باب: من أكل في عاشوراء فليمسك بقية يومه (1136) من حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن للصيام سننًا وآدابًا لا بد للمسلم من مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار، لينال الصائم جزاء عبادته وهو تمام الأجر والثواب، ومنها:
السحور: فإنّ رسول الله قال: ((تسحّروا فإن في السحور بركة)) [1]. ويتحقق السحور بكثير الطعام وقليله، ولو بجرعة ماء، وبركة طاعة رسول الله هي البركة الحقيقية الجامعة للخير كله في الدنيا والآخرة.
تعجيل الفطر: لقوله : ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر)) [2] ، والأفضل أن يكون الفطر على رطب وِترًا، فإن لم يجد فعلى الماء. فحري بالمسلم المبادرة لينال الخير الذي أرشد إليه رسول الله.
الدعاء عند الفطر وأثناء الصيام: فقد ثبت أنه كان يقول: ((ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله)) [3] ، فليغتنم المسلم الفرصة وليدعُ ربه.
السواك أثناء الصيام: ولا فرق بين أول النهار وآخره، فقد كان النبي يتسوّك وهو صائم، وقد ورد عنه حثّه بل إلزامه لأمته لولا المشقة عليهم، فقال: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)) فأمره مهِمّ، وشأنه عظيم، والله الموفق.
وصلِّ اللهم على عبدك ورسولك خير من صلّى وصام، ونسألك اللهم برحمتك التي وسعت كل شيء أن تتقبل منا صيام هذا الشهر وقيامه، وأن تجعلنا من عتقائك من النار...
[1] رواه البخاري في الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب (2/232)، ومسلم في الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه (1095).
[2] رواه البخاري في الصوم، باب: تعجيل الإفطار (2/241)، ومسلم في الصيام، باب: فضل السحور وتأكيد استحبابه (1098).
[3] أخرجه أبو داود في الصوم، باب: القول عند الإفطار (2357)، وإسناده حسن.
(1/3926)
الإخلاص في العمل
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يقبل العمل إلا بشرط الإخلاص. 2- أعمال الدنيا تنقلب إلى عبادة بتحقيق النية والإخلاص. 3- أهمية أعمال القلب. 4- التحذير من الرياء وفساد النية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: أيّها النّاس، اتّقوا الله، واشكروه على ما منّ به عليكم من نعمة الإسلام، وأخلصوا العبادة لله وحده، واعلموا أنّ قيمة العمل عند الله ترجع قبل كلّ شيءٍ إلى طبيعة البواعث الّتي تمخّضت عنها، فالصدقة مثلاً لا يعتدّ بها في الإسلام إلا إذا خلصت من شوائب النّفس ورذيلة الرّياء وتنزّهت عن السّمعة، فإذا تمخّضت من الشّوائب وكانت خالصةً لله وحده على وصف الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ?للَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا [الإنسان:9]، وكما قال تعالى: ?لَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى? وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَى? إِلاَّ ?بْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ?لأَعْلَى? وَلَسَوْفَ يَرْضَى? [الليل:18-21] قبِلت.
ومن أجل تصحيح اتّجاهات القلب وضمان تجرّده من الأهواء قال رسول الله : ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيِّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيْبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْه)) [1].
إنّ صلاح النّيّة ـ عباد الله ـ وإخلاص الفؤاد لربّ العالمين ليرتفعان بالعمل الدّنيويّ البحت ليجعلاه عبادةً محضةً، كما أنّ خبث الطّويّة يهبط بالطّاعات المحضة ليقلبها إلى معاصي لا ينال المرء منها ثوابًا بعد التعب في أدائها، فنسأل الله السلامة والعافية.
فالرّجل يواقع امرأته ويقضي منها وطره ويحقّق شهوته، فإذا صاحب ذلك نيّةٌ صالحةٌ وهدفٌ نبيلٌ كحفظ عفافه وصيانة دينه وغضّ بصره تحوّلت تلك اللّذّات إلى قرباتٍ ينال بها الأجر والثّواب، حتّى ما ينفقه على نفسه أو على أولاده وزوجته له مثوبته ما دامت نيّة الخير والصّلاح ملازمةً له، فعن سعد بن أبي وقّاصٍ رضي الله عنه أنّ رسول الله قال له: ((إِنَّكَ لَنْ تُنفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُهُ فِي فَمِ امْرَأَتِك)) [2].
فيا عباد الله، اتّقوا الله، واعلموا أنّ المرء ما دام قد أسلم للهِ وجهه وأخلص لله نيّته فإنّ حركاته وسكناته وتصرّفاته الحسنة تحتسب في القربات الّتي تحقّق له مرضاة الله. وقد يعجز الإنسان عن عمل الخير الّذي يصبو إليه لقلّة ماله أو لضعف صحّته، ولكنّ الله تعالى المطّلع على خبايا النّفوس يرفع درجة الحريص على الخير إلى مراتب المصلحين، والرّاغب في الجهاد إلى مراتب المجاهدين؛ لأنّ نيّتهم الصّالحة وطموح همّتهم أرجح عند الله من عجز وسائلهم، ومن أجل ذلك قال رسول الله في الّذين رغبوا في قتال الكفّار معه والجود بأنفسهم في سبيل الله في غزوة العسرة، ولم يستطع رسول الله تجنيدهم، فرجعوا وفي قلوبهم غصّةٌ، فقال عليه الصّلاة والسّلام للجيش السّائر معه: ((إِنَّ أَقْوَامًا خَلْفَنَا بِالْمَدِينَةِ، مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلا وَادِيًا إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا؛ حَبَسَهُمُ العُذْر)) [3] ، وفيهم نزل قول الله عزّ وجلّ: وَلاَ عَلَى ?لَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ ?لدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ [التوبة:92].
فيا أيّها النّاس، تأمّلوا ـ رحمكم الله ـ كيف أنّ النّيّة الصادقة الصالحة الخالصة سجلت لهؤلاء الناس ثواب المجاهدين على الرغم من قعودهم راغمين حبَسَهم العذر.
فاتّقوا الله عباد الله، واعلموا بأنّه ليس ظاهر الإنسان ولا ظاهر الحياة الدنيا هو الذي يحقّق رضوان الله تعالى، وإنما رضوان الله يضفيه الله لعباده المخلصين، ويتقبّل منهم ما يتقرّبون به إليه، أمّا ما عدا ذلك من زخارف الدّنيا وتكلّفات البشر فلا قيمة له عند الله، قال رسول الله : ((إنَّ اللهَ لا ينظُرُ إلى أجسامِكم ولا إلى صُوَرِكم، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِِكم وأعمالِِكم)) [4] ، وهذا مِصداقُ قَولِه تَعالى: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5]، فالله جلّ شأنه يحبّ العمل النقيّ من الشّوائب كما قال: أَلاَ للهِ الدينُ الخالِصُ [الزمر:3].
أعوذ بالله من الشّيطان الرَّجيم، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هُوَ الغفورُ الرحيم.
[1] رواه البخاري في الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى (1/19)، ومسلم في الإمارة، باب: قوله إنما الأعمال بالنية (1907).
[2] جزء من حديث طويل أخرجه البخاري في الإيمان، باب: ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة وأن لكل امرئ ما نوى (1/19)، ومسلم في الوصية، باب: الوصية بالثلث (1628).
[3] رواه البخاري في الجهاد، باب: من حبسه العذر عن الغزو (3/213).
[4] رواه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظن والتجسس والتنافس (2563).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، أمر أن لا تعبدوا إلا إيّاه، ذلك الدين القيم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالدّعوة إلى توحيده والتحذير من الشّرك معه، فجاهد في الله حقّ جهاده، وبلّغ رسالة ربّه، وأدّى الأمانة حتّى أتاه اليقين وأكمل الله به الدين، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيلهم وسار على نهجهم إلى يوم الدّين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعدُ: فيا عباد الله، لقد صحَّ منْ حديثِ أبِي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه أنّه سمع رسولَ اللهِ يقولُ: ((إنَّ أولَ الناسِ يُقضَى يومَ القيامةِ عليهِ رجلٌ اسْتُشْهِدَ فأُتِيَ به، فعرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قالَ: فَمَا عَمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فِيكَ حتَّى اسْتُشْهِدْتُ، فقالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقالَ: جَرِيءٌ فقدْ قِيل، ثم أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ القُرْآنَ فَأُتِيَ بِه، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَال: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قال: تعلَّمتُ العِلمَ وعلَّمتُه وقَرَأتُ فيك القرآنَ، قالَ كذَبتَ ولكنَّك تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ ليُقَالَ: عالِمٌ، وقَرَأْتَ القُرآنَ ليُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فقدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِه فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ فِي النَّار. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عليه، وأعطاهُ مِنْ أصْنافِ المَالِ كلِّهِ، فأُتِيَ بِه فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيها؟ قالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سبيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيها إلاَّ أَنْفَقْتُ فِيها لَك، قال: كَذَبْتَ، ولَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَال: هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ)) [1].
وهكذا يا عباد الله، فإنّ انعدام الإخلاص وفساد النّيّة قد أحال الأعمال الصالحة إلى معاصٍ استوجبت لأصحابِها النَّارَ، كما جاءَ في هذا الحديثِ، وهذا مصداقُ قولِه تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ ?لَّذِينَ هُمْ يُرَاءونَ وَيَمْنَعُونَ ?لْمَاعُونَ [الماعون:4-7]. فالصلاةُ ـ أيها الناسُ ـ معَ الرياء قد أمست جريمةً عندما فقدت عنصرَ الإخلاص، وكذلك الجهاد والصدقة والعلم.
فاحذروا الرياء عباد الله، فإنّه من أفتك العلل بالأعمال، ولهذا أعلن الإسلام كراهيته الشديدة للرياء في الأعمال الصالحة، واعتبرَهُ شِركًا باللهِ ربَّ العالمينَ.
فاتقوا الله عباد الله، وأخلصوا أقوالكم وأعمالكم لله، وابتعدوا كلَّ البعد عن الرياء والسّمعة لتفوزوا برضا اللهِ جلَّ وَعَلا.
[1] رواه مسلم في الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905).
(1/3927)
الأخوة الإسلامية
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الولاء والبراء
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرابطة الدينية أشرف الروابط وأوثقها. 2- كيفية تحقيق الأخوة الإسلامية. 3- علامات الأخوة ومظاهرها. 4- المحبة في الله أوثق عرى الإيمان. 5- حق المسلم على المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الإيمان، ورد أنساب الناس إلى أبوين اثنين ليجعل الأسباب قائمة لعقد هذه الصلات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث إلى جميع الإنس والجان؛ ليتعبّدهم إلى الله الواحد الديان، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها الإخوة في الله، اتقوا الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وجعل أساس العلائق بينهم تقوم على أساس التعارف والأخوة وتوثيق الصلات برابطة الدين، فإنها من أقوى الروابط وأسماها، لأنها لا تفرق بين إنسان وآخر إلا بميزان التقوى، والتقوى مركزها القلب، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((التقوى ها هنا)) قالها ثلاثًا ويشير إلى صدره لعظَم شأنها، فقال الله جل شأنه: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13]، وقال الله تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
وهكذا أيها الناس، فالدين الخالص هو أساس أخوة وثيقة تؤلّف بين أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها، وتجعل منهم على اختلاف الأمكنة والأزمنة وحدة متراسِخة سامقة البناء، حيث يعيش الناس في ظل هذه الأخوة الإيمانية وكأنهم أغصان انبثقت من دوحة واحدة، أو جسد واحد بأعضاء متعدّدة، وهو مصداق قول الرسول الكريم : ((مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [1]. إنه مثل رائع سامٍ كبيرُ القدر عظيم المعنى حقيق الواقع دقيق الوَصف جَمّ الفوائد، نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفق ويجمع ويؤلف بين المسلمين حتى يصبحوا كالجسد الواحد.
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا أخوة الإسلام بينكم بمحبة الخير لبعضكم البعض، وإفشاء السلام فيما بينكم، والتعاون والتواصي والحرص على فعل كل الأسباب التي تقوي ذلك وتنميه، واجتنبوا كل الأسباب التي تضعف ذلك وتباعد بين المسلم وأخيه وتوهن أو تنقص وتضعف من رابطة الإخاء الكريمة التي أمر الله تبارك ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بها.
واعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن لهذه الأخوة الإيمانية علامات لا بد أن تظهر في السلوك والمشاعر والإحساس والكتاب والكلام:
فمن علامات الأخوة أن يعرف حقوق إخوَتِه ومصالحهم عنده، ويبادر إلى تأديتها، وأن يشعر بالألم والحزن لأيّ مصيبة تقع بهم، ويندفع إلى كشف ذلك عنهم بحدود طاقته، قال رسول الله : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) [2]. والستر خلاف التستّر أو قلب الحقائق أو المداهنة أو المحاباة أو الدفاع بالباطل أو السكوت عن الحق أو المجاملة فيه.
ومن حق الأخوة وعلاماتها أن يشعر المسلم بأن إخوانه ظهير له في السراء والضراء، وأن قوته لا تتحرك في الحياة وحدها إلا إذا تساندت مع قوى إخوانه المؤمنين، لذا كان من الواجب أن يعمل من أجل هذا التساند ليشدّ من أزر نفسه وإخوانه لقوله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) [3] ، وفي بعض الروايات: وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن مظاهر الأخوة وجود التناصر بين المسلمين من أجل إحقاق الحقّ وإزهاق الباطل وردع المعتدي وإجارة المهضوم ونصرة المظلوم، فلا يجوز خذلان المسلم وتركه وحده في المعترك، بل لا بد من الوقوف بجانبه على أيّ حال لإرشاده إن ضلّ، وحجزه إن تطاول، والدفاع عنه إن هوجم واستبيح، وهذا معنى قوله : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) [4] ، ونصرته إذا كان ظالمًا ردعُه عن ظلمه بأن تردَعه عن الظلم فلا تتركه يتمادى فيه وحتى يثوب إلى رشده ويقلع عن غيه.
ومن علامات الإخاء الصحيح مراعاة هذا الإخاء حتى لا يعدو عليه ما يكدره، فلا يجوز لمسلم أن يسبب لأخيه قلقًا أو تخويفًا أو هلعًا أو فزعًا أو كل ما يؤدّي إلى إيذاء أخيه والاعتداء عليه، ولهذا قال رسول الله : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) [5]. فحذار ـ أخي المسلم ـ من الاعتداء على أخيك، فكما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) الحديث.
وبهذا الإخاء الصحيح الخالص إخاء العقيدة السلفية الصافية الصادقة الخالصة لوجه الله تعالى لا إخاء المنافع والغايات الدنيا قامت أواصر وروابط الأخوة في الله أوّل مرة، وبها قامت دولة الإسلام دون تفريق في الجنسيات والإقليميات والعلاقات بين القاطنين والوافدين، ودون تفريق بين الأنساب والأحساب والأجناس، وإنما على التباذل في ذات الله تعالى والإيثار والسماحة والمساواة وتبادل الاحترام والحب وإسداء المعروف، وكما ورد عن رسول الله : ((سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله)) وذكر من السبعة: ((رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)). والمحبة في الله من أوثق عرى الإيمان، نسأل الله تعالى أن يرزقنا ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَ?لَّذِينَ تَبَوَّءوا ?لدَّارَ وَ?لإيمَـ?نَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (7/77)، ومسلم في البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم (2586).
[2] رواه البخاري في المظالم، باب: لا يظلم المسلم ولا يسلمه (3/98)، ومسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2580).
[3] رواه البخاري في المظالم، باب: نصر المظلوم، وفي الأدب، باب: تعاون المؤمنين بعضهم بعضًا (3/98)، ومسلم في البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم (2585).
[4] رواه البخاري في المظالم، باب: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا (3/98).
[5] رواه مسلم في البر والصلة (2616).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد صحّ عن رسول الله من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسّسوا، ولا تجسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وعرضه وماله، إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) [1] ، إنه وصف دقيق بالغ الأهمية وعظيم المعنى. وقال أيضًا صلى الله عليه وآله وسلم: ((حق المسلم على المسلم ست)) ، قيل: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((إذا لقيتَه فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمّته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) [2]. إنها حقوق عظيمة القدر كثيرة الأجر، اللهم وفقنا إلى أداء حقوق إخواننا المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.
وهكذا أيها الإخوة المؤمنون، قد حذّرنا رسول الله من الرذائل التي تناقض آداب الأخوة وشرائطها، وتؤدّي إلى صدع القلوب وجفاف عواطف الود منها، كما بين عليه أفضل الصلاة والسلام حقوق الأخ على أخيه في المجتمع المتحابّ في الله والملتقي على شعائر الإسلام الذي تقوم فيه رابطة إخاء العقيدة مقام إخاء النسب، محبة لله تعالى، في الله، ومن أجله.
فاتقوا الله عباد الله، اتقوا الله أيها الإخوة المؤمنون، وأدّوا ما أوجب الله عليكم من حقوقِه وحقوق إخوانكم من المسلمين ومن المؤمنين، وتخلّقوا بآدابِ الإسلام، فإنّ التخلّقَ بها سبب الخيرِ والفلاح والفوز والنّجاح والبركات، والإعراضُ عنها سبَبٌ للشرور والمهلكات عياذًا بالله تعالى.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على معلم البشرية الخير، فقد أمركم الله بذلك حيث قال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد نبيّ الرحمة والهدى، وارض اللّهمّ عن أصحابه أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين...
[1] رواه البخاري في الأدب، باب: ما ينهى عن التحاسد والتدابر (7/88)، ومسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظن التجسس والتنافس (563).
[2] رواه مسلم في السلام، باب: من حق المسلم على المسلم رد السلام (2162).
(1/3928)
الإسراء والمعراج
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
السيرة النبوية, معجزات وكرامات
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معجزة الإسراء والمعراج. 2- ملخص قصة الإسراء والمعراج وما فيها من أحداث. 3- اغتصاب اليهود للمسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون، إن معجزات نبينا محمد ثابتة بالقرآن والسنة الصحيحة، وقد بلغت حد التواتر، فالإيمان بها لازم، والتصديق بها واجب، فلا مجال لإنكارها أو الشك فيها بأيّ حال من الأحوال، وليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدعًا في الرسل، وقد ثبتت لغيره من الرسل معجزات، ولما كان هو آخرهم وأفضلهم فقد اختصه الله بخصائص لم ينلها أحد من البشر، ولن يصل إليها أحد ممن تقدم أو تأخر.
ومن تلك الخصائص العظيمة معجزة الإسراء والمعرج، والتي ذكرها الله سبحانه في كتابه العزيز فقال الله تعالى: سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـ?تِنَا إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لبَصِيرُ [الإسراء:1].
وتتلخص قصة الإسراء والمعراج المعجزة العظيمة الباهرة في أن الله تعالى أرسل جبريل عليه السلام فشقّ صدر النبي وهو نائم في الحجر في الكعبة قبل الهجرة بمكة المكرمة، وأودع وجعل في قلبه الحكمة والإيمان إعدادًا له لهذه الرحلة الخارقة للعادة، ثم أُتي النبي بالبراق فركبه حتى أتى بيت المقدس فدخله وصلى فيه ركعتين إمامًا بالأنبياء والمرسلين جميعًا ليتبيَّن فضله وشرفه وأنه الإمام المتبوع.
ثم خرج فأخذ جبريل بيده فعرج به إلى السموات السبع، وكان كلما مر على واحدة منها استفتح، وقد رأى آدم في السماء الأولى، ويحيى وعيسى في السماء الثانية، ويوسف في السماء الثالثة، وإدريس في السماء الرابعة، وهارون في السماء الخامسة، وموسى في السماء السادسة، وإبراهيم في السماء السابعة، ورأى البيت المعمور الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم رأى سدرة المنتهى، ورُفع إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام ـ أي: أقلام القدر ـ ورأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح، ثم أدخل الجنة فرأى ما فيها من النعيم والقصور المعدّة للمؤمنين، ونظر في النار فرأى المعذبين كعاقر ناقة صالح والدجال والواقعين في أعراض الناس وخطباء السوء وغيرهم، ثم فرضت على أمته خمسون صلاة، فلما رجع إلى موسى عليه السلام نصحه بالرجوع إلى ربه ليسأله التخفيف، ففعل ذلك مرارًا حتى أمر بخمس صلوات كل يوم لكل صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة.
وبعد أن اجتمع بالأنبياء في السموات ورحّبوا به نزل بيت المقدس ونزلوا عليهم الصلاة والسلام معه، وصلى بهم في المسجد، ثم خرج فركب البراق وعاد إلى مكّة بغلس، وشاهد قافلة لقريش في طريقه عند عودته، فلما أصبح حدثهم بمسيره وبعلامة بيت المقدس وبالقافلة فآمن من آمن، وجحد بهذه المعجزة من جحد، آمنا بالله وبكل ما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكل ما جاء به وبمعجزاته.
فيا عباد الله، اتقوا الله، وتذكّروا في هذه الأيام ما حلّ بالمسجد الأقصى المبارك ـ أولى القبلتين وثالث المساجد التي أذن الشارع الحكيم بشدّ الرحال إليها ـ على أيدي العصابات اليهودية الفاسدة المجرمة التي قد كتب الله عليها الذلّ والهوان كما قال الله تعالى عنهم: كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ?للَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، إنها اليوم تدنّس المسجد الأقصى بأقدامها القذرة، وتهِمّ في كل يوم بإحراق المسجد وتغيير معالمه، إلى جانب ما يرتكبون من الجرائم الفظيعة من قتل الشيوخ والأطفال، وانتهاك حرمات النساء، وسجن واعتقال وتشريد ونفي، يساعدهم بعض النصارى المجرمين، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
تذكروا في هذه الأيام ـ يا عباد الله ـ إخوةً لكم في الإسلام يسجنون ويهانون ويعذَّبون على أيدي الكفرة ممن كتب الله عليهم الذلَّ والهوان، تذكّروا موضع معجزة نبيكم وقد تلاعب بها إخوة الخنازير والقردة من اليهود، نسأل الله أن ينتقم منهم وممن شايعهم ومشى على منوالهم من شيوعيين وبعثيين وعلمانيين وحداثيين شيعيين، وكافأهم بما يستحقون.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه لا خير في الذكريات مهما تكلّم الوعّاظ والخطباء ما لم نعرف القصد والهدف من وراء ذلك، إن الهدف أن يصحو المسلمون من غفلتهم وتدابرهم، ويوحدوا الكلمة ويراجعوا دينهم بالالتفاف حوله.
أيها الإخوة المسلمون، إن الهدف من تذكيركم بمعجزة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في حادثة خارقة العادات عظيمة الادّكار ألا وهي معجزة الإسراء والمعراج أن نعود بذكرياتنا إلى الوراء قليلاً، فنتذكر ما كان أسلافنا عليه من العزة وسيادة العالم بتوحيدهم لربهم والتزامهم بالكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، عزة ورفعة تمكين وريادة ونصر من الحق مبين، وما أصبحنا عليه اليوم من الذل والهوان بعد أن تخلينا عن مصدر عزتنا وكرامتنا فضيِّعت المقدسات وانتهكت الحرمات.
فيا أيها المؤمنون بالإسراء والمعرج، يا أيها المصدقون بالمعجزات وخوارق العادات، هلاّ عاهدتم الله سبحانه وتعالى في هذه الذّكرى على الأخذ بأسباب النصر والعزة، فتمسكتم بكتاب ربكم وسنة نبيكم، وأعددتم العدة لاستخلاص مقدّسات الإسلام من يهود وأعوانهم، لتتجدّد لنا الفرحة بدلاً من هذه القرحة التي تتجدد كل عام بتجدد الذكرى، فنعيش حياة العزة، والعزة وقفٌ على المؤمنين وهبَها الله لهم: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَفَتُمَـ?رُونَهُ عَلَى? مَا يَرَى? وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَى? عِندَ سِدْرَةِ ?لْمُنتَهَى? عِندَهَا جَنَّةُ ?لْمَأْوَى? إِذْ يَغْشَى? ?لسّدْرَةَ مَا يَغْشَى? مَا زَاغَ ?لْبَصَرُ وَمَا طَغَى? لَقَدْ رَأَى? مِنْ ءايَـ?تِ رَبّهِ ?لْكُبْرَى? [النجم:11-18].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه الكريم، وبسنة نبيه المبعوث رحمة للعالمين، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يعز جنده وينصر حزبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن مما رآه نبيكم ليلة أسري به قومًا يزرعون في يوم ويحصدون في يوم، كلما حصدوا عاد كما كان، فسأل عنهم جبريل عليه السلام فأخبره أنهم المجاهدون في سبيل الله، تضاعف الحسنة بسبعمائة ضعف. الله أكبر يا عباد الله، إنه الجهاد في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا.
فهنيئًا للمجاهدين في سبيل الله على هذا الإكرام من ربّ العزة، هنيئًا لهم على هذا الكسب العظيم الذي لا يظفر به غيرهم، هنيئًا لهم ثم هنيئًا لهم جعلنا الله منهم ورزقنا الشهادة وحشرنا في زمرتهم، وهم لذلك أهل، كيف لا وهم الذين يحملون راية الإسلام نحو العزة والنصر؟! قد وهبوا أنفسهم زكية خالصة في سبيل الله، فصانوا البلاد والعباد، فاغتنموا الفرصة يا عباد الله، جمع الله شمل المسلمين.
أما اليوم ـ أيها الناس ـ وقد ركن الناس إلى الراحة وتوانوا عن الجهاد، وقنعوا بالوعود المعسولة في إيجاد الحلول السلمية التي يفرضها أعداء الدين، فكانت النتيجة المؤلمة، وانعكس الوضع وانقلبت الموازين وضاعت الحقائق، وأصبح صاحب الحق مغتصِبًا، وأضحى عدوّ الله الذليل الدخيل معزَّزًا مكرّمًا، قاتل الله اليهود ومن شايعهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يردّ، فإنهم لا يعجزونك، إنك على كل شيء قدير.
ومن يدري أيها الإخوة المسلمون؟ فلعل الإسراء والمعراج هو ما جعل صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى يستبسل ذلك الاستبسال العظيم ويفرغ كلّ جهده في سبيل الله جل وعلا، لصدّ الهجمات الصليبية عن هذه البقعة المقدسة حتى ردّهم على أعقابهم خائبين، وانتصرت جيوش المسلمين.
فاتقوا الله عباد الله، واجعلوا من تذكّر الإسراء والمعراج حافزًا لكم على الجهاد ودافعًا لكم لحمل راية الإسلام خفاقة والذود عنها بالنفس والمال، حتى تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وتفوزوا بالجنة، فإن الجنة يستروح روحها المجاهدون من وراء خطوط النار وقصف القنابل، إِنَّ ?للَّهَ ?شْتَرَى? مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْو?لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ?لّجَنَّةَ يُقَـ?تِلُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111].
ثم اعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الله قد أمركم بالصلاة والسلام على إمام المجاهدين وقائد الغرّ الميامين سيد ولد آدم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر اليهود وأعوانهم وسائر الطغاة والمفسدين...
(1/3929)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالمعروف سبب خيرية هذه الأمة. 2- أهمية الأمر بالمعروف ووجوبه. 3- انتشار الفساد بسبب قلة الأمر بالمعروف. 4- فشو المنكرات سبب لوقوع العذاب العام. 5- لماذا لعن الله بني إسرائيل؟ 6- مثال السفينة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ، اتقوا اللهَ تعالى، واعلموا أنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عنِ المنكرِ على جانبٍ منَ الأَهميةِ كبيرٍ، وقدْ جاءَ عن بعضِ أهلِ العلمِ أنَّهُ الإسلامُ كلُّه، حيثُ إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى قدْ قرنَه بأهمِّ أركانِ الإسلامِ التي لا يصحُّ إيمانُ المرءِ إلا بها فقال: ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:41].
وعندما منَّ اللهِ على هذه الأمةِ الإسلاميةِ بالفضلِ فجعلَها خيرَ أمةٍ أُخرِجَتْ للناسِ بينَ لنا سببَ هذه الخيريةِ فقالَ: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110] أي: بقيامِها بالأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنْكَرِ تستحقُّ منَ اللهِ تعالَى الخيريةَ، وبتركِها الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عنِ المنكرِ ـ عياذًا بالله ـ تستحقُّ الْمَقْتَ والسخطَ والعُقُوبَةَ والذُّلَّ والهَوَان.
عبادَ اللهِ، فَفِي هذِهِ الآيةِ الكريمةِ يُعَرِّفُ اللهُ سبحانَه وَتَعَالَى عبادَهُ المُؤْمِنِينَ بِحَقِيْقَةِ مكانتِهم وحقيقةِ دورِهِمْ في حياةِ البشرِ، أَلا وهوَ واجبُ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ، ذلك الواجبُ الذي يتعاونُ فِيهِ أفرادُ المجتمعِ الإسلاميِّ علَى إقامةِ حدودِ اللهِ جلَّ وعلا وهيمنة شرعه تبارك وتعالى والالتزام بسنة رسوله ، فحينئذٍ يسودُ الأمنُ وتعمُّ الطمأنينةُ، فيستقرُّ لدَى الناسِ الأمنُ منَ الرذيلةِ في كلِّ صوَرِها وأشكالِها، والطمأنينةُ علَى سلامةِ الدّينِ والأخلاقِ والأموالِ منَ الاضْمِحْلالِ والتدهورِ والضياعِ.
فالأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عنِ المنكرِ ـ يا عبادَ الله ـ هُو حصنُ الإسلامِ المنيعُ وسياجُه القويُّ الذي يحمِي أهلَ الإسلامِ منَ الشرورِ والفتنِ ومنْ نزواتِ الشيطان، فإذَا اندكَّ هذا الحصنُ ـ والعياذُ باللهِ ـ كانَ مَا لمْ يكنْ في الحسبانِ منْ شُيُوعِ الفَاحِشةِ ومَكْرِ الفاسقينَ ونهبِ الأموالِ وانتِهَاكِ المحارِم.
فيا عبادَ اللهِ، اتقوا اللهَ واعمَلُوا بأمرِ اللهِ: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. وإياكمْ منَ التهاونِ فِيْ هذَا الفَرضِ الذِي قالَ اللهُ فيهِ: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ?لَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ?لسُّوء وَأَخَذْنَا ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأعراف:165].
واعلَموا ـ رحمَكمُ اللهُ ـ أنَّ نبيَّكمْ ومرْشِدَكمْ صلواتُ اللهِ عليهِ وسلامُهُ قَدْ شدَّدَ في الأخذِ بهذَا الفرضِ العظيمِ والقيامِ بِهِ بِمَا أَمَرَ اللهُ ورسولُه، ومَنْ لَمْ يأمرْ بالمعروفِ وينهَ عنِ المنكرِ فهوَ فِي وادٍ والإيمانُ في وادٍ آخَر حيثُ قَال : ((منْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيدِهِ، فإنْ لمْ يستطعْ فبلسانِه، فإنْ لمْ يستطعْ فبقلبِه، وذلك أضعفُ الإِيمان)) [1] ، وفي حديث آخر قالَ: ((مَا مِنْ نَبِيٍ بعثَهُ اللهُ فِي أمةٍ قبلي إِلا كَانَ لَه مِن أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وأصحابٌ يأخذونَ بستَّنِهِ ويقتدونَ بأمرِهِ، ثُمَّ تخلُفُ مِنْ بعدِهِمْ خُلُوفٌ يقولونَ ما لا يفْعَلُون ويفعلونَ مَا لا يُؤْمَرون، فمنْ جاهدَهم بيدِه فهو مؤمنٌ، ومن جاهدَهم بلسانِه فهو مؤمنٌ، ومن جاهدَهم بقلبِه فهو مؤمنٌ، وليس وراءَ ذلك منَ الإيمانِ حبةَ خردلٍ)) [2].
وها أنتم ـ يا عبادَ اللهِ ـ تشاهدونَ المنكراتِ وفشوَّها في المجتمعِ الإسلاميِّـ وتلمسونَ ما حلَّ بأمتِكم منَ الخللِ في معظمِ المجالاتِ نتيجةَ تلك المنكراتِ وظهورِ ذلكَ الفسادِ، فلقدْ كثرتِ الذنوبُ، وفشتِ المنكراتُ، وعمَّ الفسادُ كما قالَ اللهُ تعالى: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ [الروم:41].
فتداركوا ـ رحمَكمُ اللهُ ـ أنفسَكم بالتوبةِ إلى اللهِ تعالى وبالمسارعةِ إلى أداءِ الواجبِ الملقى على عاتقِكم قبلَ أن يعمَّكم اللهُ بعذابِه، قال تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ شَدِيدُ ?لْعِقَابِ [الأنفال:25]، وفي حديثِ قيسِ بنِ أبي حازمٍ رضيَ اللهُ عنه قالَ: قالَ أبو بكرٍ بعد أنْ حمدَ اللهَ وأثنى عليه: يا أيها الناسُ، إنكم تقرؤون هذه الآيةَ وتضعونَها على غيرِ موضعِها: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ?هْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، وإنما سمعْنا رسولَ اللهِ يقولُ: ((إنَّ الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخذوا على يديهِ أوشكَ أن يعمَّهم اللهُ بعقابٍ)) ، وإني سمعْت رسولَ اللهِ يقولُ: ((ما من قومٍ يعملُ فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يغيّروا ولا يغيرون،إلا يوشكُ أن يعمَّهم اللهُ بعقابٍ)) [3].
واعلموا ـ عبادَ اللهِ ـ أنَّ تركَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عنِ المنكرِ سببٌ من أسبابِ اللعنةِ والطردِ من رحمةِ اللهِ جل وعلا كما قال في كتابِه الكريمِ: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه منَ الآياتِ والذكرِ الحكيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان (49).
[2] أخرجه مسلم في الإيمان، باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان (50).
[3] رواه أبو داود في الملاحم، باب: الأمر والنهي (4338)، والترمذي في الفتن، باب: ما جاء في نزول العقاب إذا لم يغير المنكر (2169)، وابن ماجه في الفتن، باب: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4005)، قال الحافظ في التهذيب: "هذا الحديث جيد الإسناد".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عبادَ اللهِ، لقد صحَّ من حديثِ النعمانِ بنِ بشيرٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ قالَ: ((مثلُ القائمِ في حدودِ اللهِ والواقعِ فيها كمثلِ قومٍ استهموا على سَفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكانَ الذينَ في أسفلِها إذا استقوا منَ الماءِ مرُّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنا خرقْنا في نصيبِنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)) [1].
فيا عبادَ اللهِ، اسمعوا وعوا هذا المثلَ المحسوسَ الذي ضربَه لنا معلمُ البشريةِ ، إنه مثلٌ عظيمٌ يهدفُ إلى وجودِ مجتمعٍ إسلاميٍّ متماسكٍ قويِّ البنيانِ، تقومُ دعائمُه على أساسٍ منَ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، فيتعاونُ فيه أفرادُه على إقامةِ حدودِ اللهِ وشرعِه، ويأخذون على يدِ الظالمِ الذي يريدُ أن يتجاوزَ حدودَ اللهِ دونَ رقيبٍ أو زاجرٍ، ولهذا المعنى بالذاتِ أرشدَنا اللهُ سبحانَه وتعالى في كتابِه الكريمِ فقالَ جلَّ وعلا: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2].
فاجتهدوا ـ رحمَكم اللهُ ـ في التعاونِ على البرِّ والخيرِ والمعروفِ، والقضاءِ على الشرِّ والآثامِ والفسادِ، وأن لا نتركَ الأمرَ بالمعروفِ بأيِّ حالٍ من الأحوالِ، كلّ منا بحسبِ حالِه وقدرتِه كما رتبَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وآلِه وسلمَ ذلك في قولِه: ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستطعْ فبلسانِه، فإن لم يستطعْ فبقلبِه، وذلك أضعفُ الإيمان)) ، ولا يتركَنّ الأمرَ بالمعروفِ بحججٍ واهيةٍ أو أعذارٍ تافهةٍ، فالأمرُ للوجوبِ، وفقني اللهُ وإياكم لما يرضي اللهَ ويخدمُ دينَ الإسلام.
[1] رواه البخاري في الشركة، باب: هل يقرع في القسمة (3/111).
(1/3930)
الإنفاق في سبيل الله
فقه
الزكاة والصدقة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المال مال الله والإنسان مستخلف فيه. 2- أجر المنفق في سبيل الله تعالى. 3- سنن الصدقات وآدابها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، لقد قرن الله سبحانه وتعالى في كتابه بين الإيمان بالله ورسوله وبين الإنفاق في سبيله، فقال الله تعالى: ءامِنُواْ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
فاتقوا عباد الله، وأنفقوا مما رزقكم الله تعالى، واعلموا أن الله هو المالك الحقيقي لكل ما في الكون المتصرّف فيه المدبّر له، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والمال في الحقيقة مال الله؛ لأنه هو خالقه وواهبه وميسّر سُبُله ومانح الإنسان القدرة على اكتسابه، ومهما ذكر الإنسان عمَله وجهده فليذكُر القدرة الإلهية في الإيجاد والإمداد والبسط والعطاء وإنبات الزروع وإنزال الماء وتنويع ذلك، ولذلك يوجّهنا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم إلى هذه الحقيقة فيقول جل ذكره: أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَءنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ?لزرِعُونَ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَـ?مًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَءيْتُمُ ?لْمَاء ?لَّذِى تَشْرَبُونَ أَءنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ?لْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ?لْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـ?هُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ [الواقعة:63-70].
وفي آيات أخرى يقرر الله تعالى أن المال مال الله، وأن الإنسان ما هو إلا مستخلف فيه أو موظف مؤتمن على تنميته وإنفاقه والانتفاع والنفع به، فقال الله تعالى: وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ ?للَّهِ ?لَّذِى ءاتَـ?كُمْ [النور:33]، وقال الله تعالى: وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7].
فاتقوا الله يا عباد الله، وأنفقوا من بعض ما رزقكم الله على إخوانكم من عباد الله من المسلمين، وذلك قيامًا بواجب المنعم علينا والشكر له على نعمائه، وسارعوا بالإنفاق في سبيل الله قبل أن تبحثوا فلا تجدوا من يقبلها منكم فتصبحوا من النادمين، ففي الصحيح عنه أنه قال: ((ليأتين على الناس زمان يطوف الرجل فيه بالصدقة من الذهب ثم لا يجد أحدًا يأخذها منه)) [1].
ولا تستح ـ أخي المسلم ـ من إعطاء القليل القليل، فإن الحرمان أقل منه، وقد ورد في الحديث عن رسول الله أنه قال: ((لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربِّي أحدكم فلوَّه [2] أو قلوصه [3] حتى تكون مثل الجبل أو أعظم)) [4]. والله جل وعلا هو الذي يقبل الصدقات.
وقد صور لنا القرآن الكريم ما أعده للمنفق في سبيل الله من مضاعفة الأجر فقال جل شأنه: مَّثَلُ ?لَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْو?لَهُمْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَ?للَّهُ يُضَـ?عِفُ لِمَن يَشَاء وَ?للَّهُ و?سِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، وقال النبي : ((ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا)) [5].
فإياك ـ أخي المسلم ـ أن تقع في حبائل الشيطان أو الهوى والنفس الأمارة بالسوء وجلساء البخل والسوء، فتُزيّن لك الأمور بميزان المادة، فتظنّ أن البذل والإنفاق خسارة ومغرمًا، فالعكس هو الصحيح، وقد بيَّن لنا رسولنا الكريم خطأ هذه المفاهيم، روت عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فتصدقوا ببعضها، فقال النبي : ((ما بقي منها؟)) قالت: ما بقي منها إلا كتفها، فقال: ((بقي كلّها غير كتفها)) [6] أي: الذي أنفقوه هو الباقي لهم عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ?للَّهِ بَاقٍ الآية [النحل:96].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَـ?كُمْ مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى? أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَلَن يُؤَخّرَ ?للَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَ?للَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:10، 11].
وفقني الله وإياكم للإنفاق في الوجوه المستحقة للبر والإحسان، ووقانا بمنّه وكرمه الشح والبخل، وجعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة قبل الرد (2/113)، ومسلم في الزكاة، باب: الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها (1012).
[2] الفلو: المهر أوّلَ ما يولد.
[3] القلوص: الناقة، فهو للأنثى كالجمل للذكر.
[4] رواه مسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1014) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وللبخاري نحوه بلفظ متقارب في الزكاة، باب: لا يقبل الله صدقة من غلول (2/112).
[5] رواه البخاري في الزكاة، باب: قول الله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (2/120)، ومسلم في الزكاة، باب: في المنفق والممسك (1010).
[6] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2472) وقال: "هذا حديث صحيح".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتفضل على عباده بجزيل النعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن لكل عبادة آدابًا وسننًا لا بد من مراعاتها، لعل الله جل وعلا يقينا فيها من الرياء ويرزقنا فيها التقوى، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يتوّج العمل بالقبول والرضا من الله عز وجل.
وإن من سنن الصدقات وآدابها أن يخصّ بها أقرباءه من الفقراء، فإن هذا أدعى لإيجاد المودة والصلة والمحبة ونزع العداوة من القلوب؛ لأن القلوب جبلت على حبّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، وقد قال النبي : ((الصدقة على المسكين صدقة، وإنها على ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)) [1].
ومن آدابها أيضًا الإسرار بها؛ لأن الإسرار بها يكون أبعد عن الرياء والسمعة، قال الله تعالى: إِن تُبْدُواْ ?لصَّدَقَـ?تِ فَنِعِمَّا هِىَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ?لْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن سَيّئَاتِكُمْ [البقرة:271]، وقد أعلمنا النبي أن من السبعة الذين يظلّهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ((ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)) [2].
ومن المستحب في الصدقة أيضًا أن نخصّ بها المتعفّفين عن المسألة، والذين يغفل أكثر الناس عنهم إذا ظهر لنا عوزُهم وفقرهم وحاجتهم.
ومن سننها أيضًا أن ينفق الإنسان مِن أحبِّ أمواله إليه، كما قال تعالى: لَن تَنَالُواْ ?لْبِرَّ حَتَّى? تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وكما قال الله تعالى: وَلاَ تَيَمَّمُواْ ?لْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِأَخِذِيهِ الآية [البقرة:267].
وإياك ـ أخي المسلم ـ أن تمنّ بصدقتك أو تتحدّث بها أو تذكر اسم المعطَى له، فإن ذلك يؤذيه ويحبط أجرك، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـ?تِكُم بِ?لْمَنّ وَ?لأذَى? [البقرة:263].
وأخيرًا عليك ـ أخي المسلم ـ أن تشكر الله أولاً وآخرًا أن وفّقك للإنفاق في سبيله، وشرح لذلك قلبك، فله المِنة والفضل والثناء الحسن إذ أنعم عليك بالمال وجعلك ممن يبذله، لا ممن يطلبه، والله الموفق.
[1] أخرجه أبو داود في الصوم، باب: ما يفطر عليه (2355)، والترمذي في الزكاة، باب: ما جاء في الصدقة على ذي القرابة (658)، والنسائي في الزكاة، باب: الصدقة على الأقارب (5/92)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".
[2] جزء من حديث أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة باليمين (2/116)، ومسلم في الزكاة، باب: فضل إخفاء الصدقة (1013).
(1/3931)
التحذير من الاختلاط
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, المرأة, قضايا المجتمع
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة الاختلاط وآثاره السيئة. 2- التدابير الوقائية لحماية المجتمع. 3- الخلوة بالأجنبي. 4- التفريق بين الجنسين ومنع الاختلاط.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن من أهم قضايا المجتمعات الحديثة وأعظمها خطورة مسألة الاختلاط بين الرجال والنساء، والمحرَّم بنص الكتاب والسنة؛ حفاظًا على سلامة المجتمع المسلم مما يورده الهلاك للحرث والنسل، حيث إن الاختلاط من أكبر الأسباب الميسّرة للفاحشة وارتكاب جريمة الزنا، فالاختلاط بين الجنسين يحرّك في النفس كوامن الغريزة، ويشعل نار الشهوات الجامحة المحرّمة، ويؤجّج العواطف، ويغري كلا الجنسين بالآخر، فيرخي بذلك العنان للشهوة التي لا حدودَ لها، والإسلام أمر بصيانة العرض والمجتمع المسلم.
ومن آثار ذلك التبرّج والتفنّن بإبداء الزينة والجمال، يصل الأمر إلى الخلاعة والعري من أجل إطفاء شهوة الجنس المحرمة بنص الكتاب والسنة.
ويكون من آثار الاختلاط المدمّرة اضمحلال القوى الجسدية والفكرية في شباب الأمة حين تغتالهم الشهوات المحرمة البهيمية وتسيطر عليهم الاستثارة الجنسية، ويصبح جلّ تفكيرهم وهدفهم واهتمامهم بصور الإغراء والأدب المكشوف الهابط والموسيقى الراقصة والأغاني الماجنة في الإذاعة والفيديو والسينما والتلفزيون.
ومن أخطر آثار الاختلاط أيضًا فقدان الشباب الصبر والجلَد والتحمّل، ويساعد على انتشار الأمراض السرّيّة الفتاكة، ويحوّل المجتمع إلى لهو وعبث ومجون وخلاعة، وهذا بالطبع يؤدي إلى أن يورد المجتمع موارد الهلاك والدمار والعطب والفناء وفشوّ الفاحشة عياذًا بالله.
ويضاف إلى هذه الآثار المدمرة الخطيرة للاختلاط أن يفقد الزواج الطاهر قيمته في نفوس من استحوذ عليهم مرض الاختلاط، حيث يجد كلا الجنسين سبيله إلى متعة مغرية تجعله لا يفكّر بالزواج، بل تفقد المتزوج اهتمامه برابط الزوجية مع زوجته، فيفارقها أو تفارقه إلى اتخاذ الأخدان من الأخلاّء والخليلات، أو الطلاق والفرقة لأتفه الأسباب.
عباد الله، تلك هي أهم أضرار الاختلاط ومفاسده، ومن أجل ذلك أحكم الإسلام في نظامه الاجتماعي العلاقة بين الرجل والمرأة، واتخذ التدابير الوقائيّة التي تجعل هذه العلاقة قائمة على العفة والشرف والكرامة وصيانة العرض وبناء الأسرة المحافظة المسلمة.
وكان من تلك التدابير الوقائية أنه أمر بالحجاب حتى لا تكون هناك فتنة وإثارة، فقال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]، وقال الله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا [النور:30، 31].
ففي هذه الآيات الكريمة أمرٌ من الله سبحانه وتعالى للنساء بإدناء الجلابيب وغضّ البصر وحفظ الفروج، وفي كل ذلك سد للذرائع وحسم الوسائل المؤدية إلى الفساد وظهور الفواحش والبغي والمنكرات المفضية إلى الهلاك والانحلال والتفسّخ والعزوف عن الزواج المشروع، نسأل الله السلامة والعافية.
ومن تلك التدابير الوقائية أيضًا أن حرّم الخلوة بالمرأة الأجنبية، فلا يجوز أن يخلو رجل بامرأة إلا أن يكون محرمًا لها ولو كان من أدنى أقارب زوجها، فقال رسول الله : ((إياكم والدخول على النساء)) ، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) [1] ، ومثله في الحرمة ابن أخ الزوج وابن أخته وابن العم وأشباههم.
وبهذا التعبير بيّن لنا معلم البشرية صلوات الله وسلامه عليه خطورة الخلوة بجعلها قرينة الموت؛ لأنها تؤدي إلى هلاك الدين، فينبغي الحذر منها كما يحذر الإنسان من الموت، ولعظم ذلك شدد المشرع في ذلك صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
ومن المؤسف له ـ أيها الناس ـ أن كثيرًا من بيوت المسلمين قد ابتليت بهذا الداء الخطير الفتاك، داء الخلوة بالأجانب، فالرجل يخلو بالخادمة أو السكرتيرة، والدكتور الطبيب يخلو بالممرضة والمريضة، والخاطب يخلو بمخطوبته قبل العقد، والمرأة تخلو بالخادم والسائق والطباخ والحارس, لقد فني مجتمعنا، اللهم إن هذا منكر فأزله، عدا عن اختلاط النساء بالرجال ومزاحمتهن في كثير من محلاّت البيع والشراء، إنْ لم نقل في البيوتات، فترى النساء يدُرن عن الأسواق والشوارع ويغشين المعارض والدكاكين إلاّ ما رحم ربك.
وكل هذا ـ يا عباد الله ـ حرام خلافُ الشرع؛ إذ هي مداخل شرّ ومقدمة فاحشة، وهي من مداخل الشيطان، ولذلك قال رسول الله : ((لا يخلونّ رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) ، كما حذر من سفر المرأة مع غير ذي محرم فقال: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها ذو حرمة منها)) [2] ، اللهم اعف عنا وسلم يا رب.
وقد حذر رسول الله المسلمين من خلط الذكور والإناث ـ حتى ولو كانوا إخوة بعد سن التمييز ـ في المضاجع، فقال عليه الصلاة والسلام: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)) [3] ، والأمر يقتضي الوجوب، فالتزم أخي المسلم، وألزِم.
فاتقوا الله عباد الله، فإياكم من الاختلاط والخلوة بالأجنبيات، وامنعوا نساءكم وبناتكم من التبرج والاختلاط والتسكّع في الأسواق والمنتزهات، والمسؤولية في ذلك لا تقع على النساء وحدهن، بل تقع عليكم أيضًا، فـ ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها)) الحديث.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَو?تِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُهُنَّ أَوِ ?لتَّـ?بِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى ?لإِرْبَةِ مِنَ ?لرّجَالِ أَوِ ?لطّفْلِ ?لَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى? عَوْر?تِ ?لنّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى ?للَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ?لْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في النكاح، باب: لا يخلو رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول على المغيبة (6/158)، ومسلم في السلام، باب: تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها (2172).
[2] رواه البخاري في تقصير الصلاة، باب: في كم يقصر الصلاة؟ (2/35)، ومسلم في الحج، باب: سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (1339).
[3] أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ (495)، وإسناده حسن.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي شرع لعباده ما فيه مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحكم فلا مضادّ لحكمه ولا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي الهدى والأمين المبلغ لرسالات ربه، أهدى الناس طريقًا، وأقومهم دعوة، وأنصحهم قصدًا، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه المتمسّكين بهديه المتبعين لشريعته، المبتعدين عن اتباع الشهوات والأهواء المخالفة لأمر ربه، وحشرنا الله مع رسوله وصحبه الكرام برحمته، إنه جواد كريم.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن رسول الله قد حذر أمته من اختلاط النساء بالرجال حتى في أماكن العبادة فقال: ((خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)) [1] ، وهذا في موطن العبادة والصلوات وفي المسجد، فكيف بحال من يقدّم المرأة ويكون كالتيس خلفَها كما يفعله الإفرنج وأذناب الغربيين؟!
ففي هذا الحديث الشريف الصحيح أوضحُ دليل على حِرص الشرع ومحبّته لبُعد المرأة عن الرجال واختلاطها بهم، ومن أجل هذا اعتبر الخيريّة في آخر صفوف النساء، وما ذلك إلا لبعده عن الرجال ومخالطتهم ورؤيتهم، فالأمر يتطلّب منا ـ أخي المسلم ـ الحزم والأخذ بشرع الله والتزام ما ورد عن رسول الله والشعور الدائم والإحساس الملازم للمسلم بأنّ عين الله عليه وأنه مراقب في هذه الحياة كما قال الله تبارك وتعالى: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، واليقين الذي لا يخالجه الشك بأن الله جل وعلا يرانا في حركاتنا وسكناتنا وتصرفنا وفي وظائفنا وأعمالنا، يرانا أين ما كنا وحيثما نكون، كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ركن الإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
لا شكّ ولا ريب، فإن الله تعالى الذي خلقنا من العدم وأبرزنا إلى حيّز الوجود المشاهَد يرانا ويحيط جل وعلا بنا علمًا، كما قال الله تبارك وتعالى: قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق:12]، ويدرك جل وعلا الأبصار: وَهُوَ يُدْرِكُ ?لأَبْصَـ?رَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الأنعام:103]، فالله جل وعلا الذي يرى ويعلم كل شيء نهانا وحذرنا من مغبّة الاختلاط، وشدّد النكير في ذلك، وأنذر وتوعد عليه، وبين لنا مفاسد الاختلاط وشرّه المستطير، ورسول الله صلوات الله وسلامه عليه شدّد في ذلك حتى قال عن القريب: ((الحمو الموت)) ، فهل من سامع؟! وهل من مستجيب لنداء الله جل وعلا وهو الحكيم الخبير ولرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الأمر الخطير؟!
أسأل الله أن يوفقنا جميعًا لكل ما فيه صلاح الأمة ونجاتها، والقيام بما أوجب الله علينا من رعاية الأهل والأولاد لنقيهم بذلك نار جهنم، ونحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا...
[1] رواه مسلم في الصلاة، باب: تسوية الصفوف وإقامتها (440).
(1/3932)
التحذير من الرشوة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرشوة تقوّض بنيان المجتمع. 2- تعريف الرشوة وحكمها. 3- الرشوة وتعطيل مصالح العباد. 4- الرشوة واللعن والطرد من رحمة الله لأهلها. 5- التحذير من استخدام النفوذ الوظيفي للمصالح الشخصية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن من أشدّ الأمراض الاجتماعية فتكًا بالأمم مرض الرشوة الخطير، فهو يفتك بالمجتمع فتكًا ذريعًا، ويهدر أخلاق الأمة وكيانها ويعود عليها بالوبال والدمار في الأسر والمجتمعات والأفراد والمال والعيال والحال والمآل في الدنيا ويوم العرض على الكبير المتعال، فإذا فشت الرشوة في أمة من الأمم واستمرأ الناس تعاطيها فاعلم أن الضمائر قد ماتت وأن نظام الأمة قد قوِّض، ومن أجل هذا فقد قص الله علينا في كتابه الكريم من أخبار اليهود أنهم سمّاعون للكذب أكّالون للسحت فقال تعالى: سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، أي: يسمعون الباطل ويأكلون الرشوة، فالكذب هو الباطل في كل صوره وأشكاله وأنواعه وألوانه وطرقه الملتوية، والسحت هو الرشوة كما فسر الآية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغير واحد من السلف، فهي فساد في الضمير وضرر في التعامل.
والرشوة ـ عباد الله ـ هي بذل المال للتَّوصّل به إلى باطل، إما بإعطاء الباذل ما ليس من حقّه، أو إعفائه مما هو حق عليه.
والرشوة حرام بكلّ أشكالها وصورها وطرقها وأساليبها، سواء كانت على صورة هدية أو مأدبة طعام للمرتشي أو كانت نقدًا صريحًا، وكل ذلك في مقابل الانحراف بالحقّ إلى الباطل، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: (من يشفع شفاعة ليردّ بها حقًّا أو يدفع بها ظلمًا فأهدي إليه فقبِل فهو سحت).
وتكون الطامة الكبرى إذا بلغ الأمر بالمرتشي ليساوم الراشي في مقدار الرشوة مجاهرًا بذلك دون حياء أو خجل أو خوف من الله جل وعلا، مما يؤدّي إلى أن تصير الرشوة تجارةً رابحة في نظر مروّجيها الفاسدين، فيومئذ تضيع الكرامة، وتهدر لحقوق، ويموت النبوغ، ويتلاشى الجدّ في العمل والحرص على أداء الواجب، ويضيع الحقّ، وتهدر الكرامات، وتموت الضمائر.
ومن أقبح وأخسّ الأساليب الملتوية للحصول على الرشوة تعطيل معاملات الناس والتسويف في إنجازها إلى أن يتمّ أخذ الرشوة وحصول خيانة الأمانة التي يقول الله تعالى فيها: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَ?عْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْو?لُكُمْ وَأَوْلَـ?دُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ?للَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27، 28].
وهكذا ـ أيها الناس ـ تضيع الأمانات بسبب الرشوة، وتؤكل بسببها أموال الناس بالباطل، وتتحول الأعمال الشريفة إلى أعمال لصوصيّة كرشوة المسؤولين في مشاريع الدولة العمرانية من قبل أصحاب الأعمال، وكرشوة المشرفين على الأعمال من أجل التقصير بالعمَل وعدم تنفيذ الشروط المبرمة بالعقود وعدم الوفاء بما عليها من التزامات.
فالله الله أيها الناس، فإياكم والوقوع في حبائل الرشوة المحرمة، فإنها خيانة عظمى ودناءة نفس وضيعة، فكفى بها من دناءة وخسة وهوان وسقوط مروءة وخيانة عهد وإخلافَ مواعيد، فلا يقبلها إلا لئيم الطبع وسيّئ الخلق ودنيء النفس ومجرم التعامل.
فالمرتشي يخون الأمانة التي عُهد بها إليه، ويمنع الحقّ عن صاحبه، ويشجّع على ضياع الذمم، وخراب الضمائر وإهدار الشرف والكرامة.
والراشي كذلك فإنه يساعد المرتشي على أكل أموال الناس بالباطل، وينمّي فيه الخلق السيّئ، وييسر له التحكم فيما هو حقّ لغيره، ويستحلّ ما ليس له، ومن أجل هذا كان الراشي والمرتشي ملعونين على لسان نبينا محمد ، فعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)) [1] ، أي: الآخذ والمعطي.
فهذه ـ عباد الله ـ عقوبة الراشي والمرتشي في الآخرة، إنها الطرد من رحمة الله تعالى، وأما في الدنيا فإنها تؤدّي إلى محق البركة في الرزق والأهل والمال والولد والعمر والحياة.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على دينكم وأمانتكم، واحذروا كلّ الحذر من الرشوة فإنها خيانة وظلم وفساد وشرّ ووبال ودمار وهلاك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُم بِ?لْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ?لْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ ?لنَّاسِ بِ?لإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، وكانت نهاية خلافة الدولة العثمانية على إثر الرشوة عياذًا بالله تعالى من عقوبته وسخطه، اللهم سلمنا يا ربّ، والله المستعان.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/164)، وأبو داود في الأقضية، باب: كراهية الرشوة (3580)، والترمذي (1337)، وابن ماجه في الأحكام، باب: التغليظ في الرشوة (2313)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم، أحمده سبحانه وتعالى وهو البر الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حث على الخلق الكريم، وهدى إلى النهج القويم، اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه والتابعين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد صح عن رسول الله أنه استعمل رجلاً من الأزد يقال له: ابن اللُّتبِيَّة على الصدقة، فلما قدم بها قال: هذا لكم وهذا أهديَ إلي، فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((أما بعد: فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت إلي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقًا؟! والله، لا يأخذ أحد منكم شيئًا بغير حقه إلا لقي الله يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدًا منكم لقي الله يحمل بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر)) ، ثم رفع يديه حتى رُئي بياض إبطيه يقول: ((اللهم هل بلغت؟)) [1].
ففي هذا الحديث ـ يا عباد الله ـ وعيد شديد لمن يستغلّ نفوذه ويستبيح لنفسه أن يأخذ ما لا يحل له أخذه، وإن ألبسه أثوابًا مستعارة كالهدية والوساطة وغير ذلك، فهذا خيانة في الأمانة، وسحت لا يبارك الله له فيه ولا في نفسه ولا في أولاده ولا عائلته ولا إنفاقه ولا مأكله ولا مشربه، فكل جسم نبت من حرام فالنار أولى به.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وعليكم بالحرص على الحلال الطيب الذي لا شبهة فيه، ونبذ الحرام الخبيث بكل صوره وأشكاله، وخاصة الرشوة، فهي سُحت تفسد الضمائر والذمم، إلى جانب إفسادها الدين والأخلاق والتعامل.
والرشوة قبيحة في شتى صورها وأشكالها وأنواعها وطرقها ممحوقة البركة، فآخذ الرشوة يتغذى بالحرام ويطعم أهله من الحرام ويجامع زوجته من قوت أصله حرام، فتكون الذرية فاسدة؛ لأن المورد لها من الحرام، نسأل الله السلامة والعافية.
فعلى المسلم الحرص على سلامة نفسه من الرشوة، وسلامة زوجته حتى يصلحها الله، وسلامة ذريته حتى ينشؤوا بمأكل ومشرب حلال، ليتّق اللهَ المسلمُ في نفسه وفي أهله وزوجته وذريته، وليتق اللهَ في المجتمع المسلم الذي ينتمي إليه، والله المستعان.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ وَإِيتَآء ذِى ?لْقُرْبَى? وَيَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَ?لْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
فاذكروا الله على نعمه، واشكروه على آلائه، والله يعلم ما تصنعون.
[1] رواه البخاري في الأحكام، باب: هدايا العمال (8/114)، ومسلم في الإيمان، باب: تحريم هدايا العمل (1832).
(1/3933)
التحذير من الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعيد الله للظالمين. 2- تعريف الظلم. 3- مشكاة المظلوم ودعوته. 4- التحلل من المظالم. 5- نماذج من نصرة الله للمظلومين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنه سبحانه وتعالى قد نهى عن الظلم نهيًا أبديًا سرمديًا مهما كانت الأحوال والظروف، نهيًا يلازم البشرية منذ نشأتها ووجودها، ويمتدّ إلى يوم القيامة وما بعده، فقال عز من قائل: لاَ ظُلْمَ ?لْيَوْمَ [غافر:17].
ولذا نهى عن الظلم وتوعّد الظالمين بسوء الحساب وشدّة العقاب وسوء الخاتمة ودخول النار، فقال الله تبارك وتعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ [إبراهيم:42]، وقال جل وعلا: وَلَوْ تَرَى إِذِ ?لظَّـ?لِمُونَ فِى غَمَرَاتِ ?لْمَوْتِ وَ?لْمَلَئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ ?لْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ?لْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ غَيْرَ ?لْحَقّ وَكُنتُمْ عَنْ ءايَـ?تِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93].
وفي الحديث القدسي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا)) [1] ، وعنه أنه قال: ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) [2] ، وكفى به من ضِعة وهوان وبئس المصير.
والظلم ـ عباد الله ـ هو وضع الأشياء في غير موضعها، والظلم هو منبع الرذائل ومصدر الشرور وطريق الفساد والهلاك والدمار للحكومات والشعوب والأسر، أعاذنا الله بفضله وكرمه من الظلم؛ لأنه وضع المخلوق العاجز المقهور في منزلة الإله عز وجل، ولهذا حرّم الله عز وجل الظلم على نفسه كما حرمه بين العباد حتى ظلم الكافر كما قال تعالى: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من شدة عظم الظلم عند الله عز وجل أن أباح للمظلوم أن ينشر مظلمته ويتكلم عن الظالم مع العلم أن الله قد حرم ذكر عيوب الناس وذنوبهم، فقال عز وجل: لاَّ يُحِبُّ ?للَّهُ ?لْجَهْرَ بِ?لسُّوء مِنَ ?لْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ [النساء:148].
ومن عظم شناعة الظلم كذلك أن جعل الله دعوة المظلوم مستجابة حتى ولو كان كافرًا، فقال : ((ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغمام، وتفتح لها أبواب السماء، يقول الرب: وعزتي، لأنصرنّك ولو بعد حين)) [3].
وبهذا الحديث فإنّ النصر مؤكّد لا محالة، عاجلاً أو عاجلاً، كما قال الله تعالى: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]، وكما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)).
عباد الله، احذروا الظلم فإنه عار ونار وظلمات على أهله يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، كما أنه في الدنيا يقصم الأعمار ويخرب الديار ويمحق بركة الأرزاق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ?لأبْصَـ?رُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42، 43].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2577).
[2] رواه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2578).
[3] أخرجه أبو داود في الصلاة، باب: الدعاء بظهر الغيب (1536)، والترمذي في أبواب صفة الجنة (2528)، وابن ماجه في الدعاء، باب: دعوة الوالد ودعوة المظلوم (3862) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الترمذي وابن حجر في تخريج الأذكار.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، أحمده سبحانه الملك الديان، القائم بين عباده بالقسط، ومحلّ نقمته وغضبه على أهل الظلم والطغيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وأمينه على وحيه وخليله الصادق الأمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله، لقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء منه فليتحلّله منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)) [1].
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالتوبة والاستغفار، وردوا المظالم إلى أهلها، وأدوا الحقوق إلى أصحابها قبل أن تندموا كل الندامة، يوم لا يقدر الظالم على أن يردّ حقًا أو يظهر عذرًا، وخصماؤه قد تعلّقوا به، فهذا يقول: ظلمني بأكل مالي، وهذا يقول: ظلمني فأساء الظن بي وقذفني، وهذا يقول: رآني مظلومًا فلم ينصرني، وهذا يقول: رآني على منكر فلم ينهني، وهذا.. وهذا..
فاستدركوا ـ عباد الله ـ ما فاتكم، وتحللوا من المظالم في هذه الدنيا قبل قدومكم على الحقّ جل وعلا القائل عن نفسه: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
وقد أورد الإمام الذهبي صاحب كتاب الكبائر في كتابه هذا رحمه الله قصة مؤثّرة، فقال: كان سلطان من السلاطين له قصرٌ مشيد، وجاءت عجوز، فأقامت بجواره كوخًا تسكنه أي: عريشًا، فذات يوم خرج السلطان وحام حول قصره فرأى ذلك الكوخ فقال: ما هذا؟ قالوا: العجوز تأوي إليه، أي: إذا جاء الليل نامت فيه، فأمر بهدمه، فأزيل فجاءت آخر النهار وإذا بكوخها قد أزيل، فدعت ربها جل وعلا، فجاء أمر الله على القصر وما فيه، فرفعه إلى جهة السماء ثم قلبه على من فيه.
كما يروي رحمه الله أن رجلا من أعوان الظلمة ذهب ذات يوم إلى سوق الأسماك، فرأى رجلاً فاغتصب منه سمكة كانت بيده ظلمًا وقسرًا، فعند أكله السمكة دخل في إبهامه عظم منها وتسمّم فبترت إصبعه، فسرى المرض إلى كفه فبتر ثم، إلى المرفق فبتر، ثم إلى الكتف فبتر، ثم سرى إلى جسمه فأرشده عالم بعد أن سأله عن القصة بالذهاب إلى المظلوم صاحب السمكة فيتحلّل منه، فذهب إليه فما عرفه صاحب السمكة المظلوم لتغيّر معالم الظالم بعد بتر يده من الكتف، فأخبره الخبر، فعفا عنه وسامحه، فشفي من مرضه ووقف عند بتر الكتف.
فاتقوا الله عباد الله، وخذوا منه عبرة، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما أكثر العبر وما أقلّ الاعتبار).
أعاذني الله وإياكم من الظلم، فالظلم ظلمات يوم القيامة، اللهم باعد بيننا وبين الظلم كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك...
[1] رواه البخاري في المظالم، باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يبين مظلمته؟ (3/99).
(1/3934)
من حكم الزهاد
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
15/12/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للتوبة والعمل الصالح. 2- مسائل مهمّة نتعلمها من الزاهد حاتم الأصم. 3- أحوال المسلمين وذلتهم في مواجهة المخطّطات اليهودية. 4- نداء للتأسي بأصحاب النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: اتقوا الله يا عباد الله، واحذروا أن تسلكوا من الفتن سبلها، والزموا كلمةَ التقوى، وكونوا أحق بها وأهلها، واتركوا عصبية الجاهلية، فقد جعلكم الله بالإسلام إخوانًا، وأمركم أن تتعاونوا على البر والتقوى سرًا وإعلانًا، ولا تكونوا من الذين أرجؤوا العمل بسوف وحتى، فتكونوا من الذين قال الله في حقهم: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? [الحشر:14].
واختموا ـ أيها المؤمنون ـ صحائف هذا العام بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الملك العلام، ولا تجعلوا أنفسكم الضعيفة لعذاب الله غرضًا، فإنكم لا تجدون أنفسًا تكون لكم عوضًا، وكونوا قومًا دعوا فأجابوا، وأمروا بالتزود فأصابوا، وأنذروا المعاد فأنابوا، وحذروا الإبعاد فلم يرتابوا، قبل أن تركبوا إلى الحفر مراكبًا صعابًا، وتتخذوا بدل القصور منازلاً خرابًا، هنالك تجدون ملائكة غضابًا، وتلبثون في الألحاد أعوامًا وأحقابًا، ثم تبعثون بعدما تكونون ترابًا، هنالك يكون الجزاء على ما أحصاه الله كتابًا، وتكون الأعمال المشوبة بالنفاق سرابًا، يَوْمَ يَقُومُ ?لرُّوحُ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ صَفًّا لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ?لرَّحْمَـ?نُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ ?لْيَوْمُ ?لْحَقُّ فَمَن شَاء ?تَّخَذَ إِلَى? رَبّهِ مَئَابًا إِنَّا أَنذَرْنَـ?كُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ ?لْمَرْء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ ?لْكَافِرُ يَـ?لَيْتَنِى كُنتُ تُر?بًا [النبأ:38-40].
عباد الله، طوبى لمن كان كلامه مناجاة لله، وعمله معاملة مع الله، وفكره في تدبر آيات الله والاعتبار بصنع الله، ونيته خالصة لوجه الله، يزاحم العلماء بركبتيه، ويقبض على العلم بكلتا يديه، عبادته مؤسسة على القواعد وتصحيح العقائد.
فتعالوا ـ أيها المؤمنون ـ لنعتبر ونتعلم من هذه الصورة الحية بين أستاذ وتلميذه، أما الأستاذ فهو الإمام شقيق البرقي رحمه الله تعالى، وأما التلميذ فهو حاتم الأصم رضي الله عنهما وأرضاهما جميعا، وكلاهما قد اشتهر بالزهد والصلاة، وقد دار بينهما هذا الحوار:
قال شقيق لحاتم: لقد صحبتني مدة، فماذا تعلمت؟ قال: تعلمت ثمانية مسائل:
أما الأولى: فإني نظرت إلى الخلق، فكل شخص له محبوب، فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه، فجعلت محبوبي حسناتي، لتكون في القبر معي.
وأما الثانية: فإني نظرت في قول الله تبارك وتعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? [النازعات:40]، فأجهدتها في دفع الهوى حتى استوت على طاعة الله.
وأما الثالثة: فإني رأيت كل من معه شيء له قيمة عنده يحفظه، ثم نظرت في قول الله تبارك وتعالى: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ ?للَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، فكل ما وقع من شيء له قيمة وجهته إليه، ليبقى لي عنده.
وأما الرابعة: فإني رأيت الناس يرجعون إلى المال والحسب والنسب والشرف وليس لشيء، فنظرت في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، فعملت بالتقوى لكي أكون عنده كريمًا.
وأما الخامسة: فإني رأيت الناس يتحاسدون، فاعتبرت بقوله تبارك وتعالى: نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا [الزخرف:32]، فتركت الحسد.
وأما السادسة: رأيتهم يتعادون، فنظرت في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَ?تَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6]، فتركت عداوتهم، واتخذت الشيطان عدوًا.
وأما السابعة: رأيتهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق، فنظرت في قول الله تعالى: وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، فاشتغلتُ بما له علي، وتركتُ ما لي عنده.
وأما الثامنة: فرأيتهم متوكلين على تجارتهم وصنائعهم وأعمالهم وصحة أبدانهم فتوكلت على المولى تبارك وتعالى.
فقال له الأستاذ: وفقك الله تعالى، فإني نظرت في عيون الكتب السماوية السابقة والقرآن العظيم، فوجدت جميع أنواع الخير تدور على هذه المسائل الثمانية.
فاتقوا الله يا عباد الله، اتقوا الله الذي إليه تحشرون، وراقبوه فإن الله خبير بما تعلمون، وأخلصوا لوجهه الأعمال فإنكم بذلك مطالبون، واعتمدوا الصدق في الأقوال والأعمال لعلكم تفلحون، ولا تأمنوا مكر الله، إنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، أفلا تتدبرون في كتاب الله المكنون، وفي قوله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وفي قوله: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـ?كُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]؟! فالله به كفر الجاحدون وخاب الغافلون.
وقد مدح الله تبارك وتعالى الذي آمنوا وكانوا يتقون، وذم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، وأوضح الفرق بين الفريقين: أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ [السجدة:18]، لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ وَأَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [الحشر:20].
لقد دعانا الله إلى تقواه، فأين المتقون؟! وأبان لنا طريق الفوز والنجاة، فأين السالكون؟! وقص علينا في كتابه الكريم عاقبة العصاة، فأين المعتبرون؟! فاتقوا الله يا عباد الله، ومن فاته القرب من مولاه فهو محروم، إن كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة، فلا تخدع نفسك ـ أيها المسلم ـ في صحة النظر، فجهل الإنسان بنفسه أضر الضرر وأعظم الخطر.
اللهم ارزقنا ما رزقت أولياءك من الاستغناء بك والافتقار إليك، وأكرمنا بما تكرمت به عليهم، واغفر لنا وارحمنا يا رب العالمين.
عباد الله، جعلنا الله وإياكم ممن تاب وأناب، وغفر لنا ذنوبنا، ووقانا وإياكم سوء الحساب.
أخرج الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج)) ، ثم تلا قوله تبارك وتعالى: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء حَتَّى? إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَـ?هُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ [الأنعام:44].
توجهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله مبلغ الآمال، الموفق لصالح الأعمال، عالم السر والنجوى، ومعين من أسس بنيانه على التقوى، ونشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار المتوحد بذاته وصفاته وأسمائه، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله خاتم رسله وأنبيائه، الذي جعل له الأرض مسجدًا وطهورًا، وملأ به الوجود نورًا، والكون بهجة وسرورًا، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك الرسول الأمي، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، في غياب دولة الإسلام كنظام ودستور حياة تعيد للمسلمين هيبتهم وتحافظ على كرامتهم وعزتهم ووحدتهم، وتعمل على تحرير أرضهم من قبل أعدائهم، كثرت المبادرات والآراء الداعية إلى حلّ ما يسمّى أزمة الشرق الأوسط، وكان آخر هذه المبادرات المبادرة السعودية التي تضمن نقطتين أساسيتين لحل الصراع العربي الإسرائيلي، أولاً: انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران عام 1967 من كلّ الأراضي العربية المحتلة، ثانيًا: اعتراف عربي كامل بدولة إسرائيل، وإقامة علاقات دبلوماسية وتطبيع العلاقات السياسية والاقتصادية والسياحية والعلمية وفي شتى المجالات.
إن الأفكار السعودية لحل الأزمة ليست جديدة الطرح، فقد تقدمت بها قبل نحو ستة أشهر، غير أن إسرائيل رفضتها في حينها، أما اليوم فإن هذه المبادرة تحمل أفكارًا تساهم في إلغاء حق العودة لأكثر من مليوني فلسطيني يعيشون في الشتات، فتدعو المبادرة إلى توطين مليون ونصف المليون فلسطيني في كل من السعودية والعراق، أما الفلسطينيون في الأردن فسيحصلون على الجنسية الأردنية.
تساؤلات كثيرة تطرح نفسها إزاء هذه المبادرة، وهل يمكن لها أن ترى النور في ضوء المتغيرات التي أعقبت انهيار النظام العراقي وتخلي النظام الليبي عن برنامج التسلح النووي، وسائر الدول العربية تجرى مفاوضات سرية مع إسرائيل لتطبيع العلاقات معها!! وهناك معاهدات سلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن، فالأجواء العربية مهيأة لهذه المبادرة!! هل يمكن لأمريكا أن تضغط على إسرائيل لقبول هذه المبادرة كحل شامل يحفظ ماء الوجه أمام العالم الذي بات على يقين من الادعاءات الأمريكية الكاذبة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق حين غزتها؟!
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من إبداء وجهة النظر الشرعية في المقام الأول، فالإسلام هو الذي يفرق بين الحق والباطل، إن هذه المبادرة كغيرها من المبادرات التي عقدت بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ابتداء من أوسلو، ومرورًا بمدريد وكامب ديفيد وشرم الشيخ.
إن هذه المبادرة مخالفة للشرع الإسلامي، فأرض فلسطين أرض إسلامية، لا يجوز التنازل عنها أو التفريط فيها، لقد جلبت كل الاتفاقيات الدمار والخراب والويلات على شعبنا المسلم الصادق الصابر المرابط في أرضه، لأنها نابعة من أفكار ومبادئ مخالفة لشرع الله تبارك وتعالى.
أما من الناحية السياسية فهذه المبادرة تدل على حالة الوهن والضعف التي تعيشها الأمة في هذه الأيام، وعجز الأنظمة العربية عن التصدي لمخططات أعدائها، المبادرة تسقط حق العودة من دول لا تملك حق التصرف بإرادة أصحاب الحق الشرعيين بالعودة.
أيها المؤمنون، إسرائيل رفضت حتى الآن التعقيب على هذه المبادرة، لأنها ماضية في تحقيق العمل الأحادي الجانب عن طريق الاستمرار في بناء الجدار العنصري، إسرائيل ستعمل على ترسيم حدود تؤمن لها الأمن والاستقرار، رئيس حكومتها أعلن عن إمكانية التخلي عن منطقة المثلث ذات الأغلبية العربية المسلمة إلى السلطة الفلسطينية، لأن تعاظم المد الإسلامي في هذه المنطقة بات يؤرق الجانب الإسرائيلي، أمريكا لن تمارس أي ضغط على الحكومة الإسرائيلية لقبول المبادرة السعودية، لأنها في الوقت الحالي بحاجة ماسة إلى أصوات اليهود من ذوي النفوذ الراجح في أي انتخابات أمريكية قادمة، وخاصة نهاية العام الحالي.
أيها المؤمنون، أيها المرابطون، الحل بأيدينا لا بأيدي غيرنا، الحل في كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسول ، الحل في السير على منهجه عليه الصلاة والسلام، لقد كان نبينا لا يخاف إلا الله، ولا يخشى إلا من الله، وما سجد وما ركع إلا لله، وما سأل وما توجه إلا إلى الله، وما صام ولا صلى ولا زكى ولا حج إلا لله، قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:161-163].
علمنا نبينا كيف يكون النصر، الثقة بالله والطاعة لله ولرسوله والسير على منهج السلف الصالح من أصحاب المصطفى.
فيا قادة العالم الإسلامي، تعلموا الدرس من أصحاب رسول الله، تعلموا الدرس من خالد، وما أدراك ما خالد، عجزت النساء أن يلدن مثل خالد، تعلموا الدرس من القعقاع بن عمرو الذي كان أمة لوحدة، فلن يُهزم جيش فيه القعقاع. تعلموا الدرس من أمير المؤمنين عمر الذي خاطبه نبينا بقوله: ((إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكًا فجًا إلا سلك فجًا غير فجك)) رواه الإمام البخاري، وبقوله كذلك: ((لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر)) رواه الإمام البخاري ومسلم، هؤلاء رجال رباهم خير الرجال، فكونوا أمثالهم، واحذوا حذوهم، وسيروا على نهجهم تفلحوا.
(1/3935)
التطير والتشاؤم وموقف الإسلام منه
التوحيد
الشرك ووسائله
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
8/2/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حماية جناب التوحيد. 2- خرافة التشاؤم والتطير. 3- حقيقة التشاؤم والتطير. 4- نفي الإسلام للطيرة ونهيه عنها. 5- أحوال المتشائم. 6- ما يفعله من وقع في نفسه شيء من التطير. 7- الفأل الحسن. 8- من مواقف السلف مع المتطيرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، أوصيكم ونَفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فمَن اتَّقاه وَقَاه، ومن توكَّل عليه حَمَاه.
أيّها المسلمون، مِن لوازمِ الإيمان الصّحيحِ والتوحيد الكامِل أن يتجنّبَ المرءُ كلَّ ما يؤثِّر في اعتقادِه أو ينافي إيمانَه بالله جلّ وعلا، ومن ذلك الحذَرُ من الخرافةِ بجميعِ صُوَرها ومن الضّلالات بشتى أشكالِها.
ومِن تلك الخرافاتِ التشاؤُم بشهرِ صفَر أو بيومِ الأربعاء منه أو بغيره من أجزاءِ هذا الشهر، يتوهَّمون فيه كثرةَ الدَّواهي وحصولَ المصائب وعدَمَ التوفيق، فلا يعقِدون فيه نِكاحًا ولا يشرَعون سَفرًا ولا يبدؤونَ عمَلاً.
أيّها المسلمون، إنَّ التشاؤمَ بمثل ذلك وغيره عقيدةٌ من عقائد الجاهلية الأولى وخُرافة من خرافاتِ أهلِ الشرك والوثنية، تحوِّل من اتِّجاههم وتوقِف مِن عزَائِمهم وتصدُّهم عن حاجاتهم ومَصالحهم، فجاءَت شريعةُ الإسلام شريعةُ التوحيد بإبطالِ ذلك كلِّه وبهدمِ بُنيانه من أساسِه، محرِّرةً العقولَ مِن رقِّ الوثنيّة وضلالات الجاهليّة، وفي هذا المقامِ نقِف وقفاتٍ مع هذا الموضوع المهمِّ وهو التطيُّر والتّشاؤم وموقف الإسلام منه.
فأوَّل هذه الوقفاتِ أنَّ الطِّيَرة هي التشاؤُم بما يَكرَه الإنسان بشيءٍ مرئيٍّ أو مسموع، فمن أراد حاجةً ما كسفرٍ أو زواجٍ أو نحوه ثم صدَّه عن حاجتِه مرئيٌّ قبيحٌ رآه أو كلمةٌ ما سمِعها أو معلومٌ واقِعٌ كشهرِ صفَر أو غيره من الأزمانِ أو الأماكن فقد وقَع في الطِّيَرة المنهيِّ عنها في الإسلام. ومِن مفاهيم الطيرة في الإسلامِ أنَّ ما حمل الإنسانَ على المُضِيِّ فيما أراد لأنَّ قلبَه اعتمد على ما رآه أو سمِعه فقد وقَع في الطِّيَرة والتشاؤُم، ففيما روِيَ عنه أنه قال: ((الطِّيَرة ما أمضَاكَ أو ردَّك)) أخرجه أحمد في مسنده وله شواهد تدلّ عليه [1].
وثانيةُ الوقفات أنَّ التّشاؤمَ في نظرِ الإسلام من الأوهامِ والسَّخافات والخيالاتِ، واجبٌ محاربتُها واجتثاثُها من جذورها وأصلها، قال : ((لا عدوَى ولا طِيَرةَ ولا هامةَ ولا صفَر)) أخرجه الشيخان [2] ، والنّفيُ هنا للحِلِّ والتّأثير، بمعنى أنّه لا تأثيرَ لتلك الأمور بذاتها لبتَّة في جلبِ نفع أو دَفع ضرّ.
والطِّيَرة ـ عبادَ الله ـ من الشركِ المنافي لكمال التوحيدِ الواجب، عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: ((الطِّيَرة شرك، الطِّيَرة شركٌ)) أخرجه أبو داود والترمذيّ وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي [3]. وأمّا إذا اعتقدَ المتشائِم أنَّ هذا المتَطيَّر به فاعلٌ بنفسه مؤثِّر دونَ الله جلّ وعلا فهذا مِنَ الشرك الأكبر؛ إذ في ذلك جعلُه شريكًا للهِ جل وعلا في الخلقِ والإيجاد.
أخي المسلم، إنَّ المتشائِمَ والمتطيِّر لا يخلو من حالين:
أحدهما: أن يحجِمَ عن حاجته للأمر الذي رآه أو سمِعه أو لزَمَنٍ ما أو مكانٍ ما ظنًّا أن ذلك سببٌ لعدم التوفيق وخوفًا من فسادِ أمرِه وحاجتِه، فهذا من أعظمِ الطّيَرة والتشاؤم، فقد روِي عن النبيِّ أنه قال: ((من ردَّته الطيَرةُ عن حاجته فقد أشرك)) رواه أحمد [4].
الثانية مِن الأحوال: أن يمضيَ في حاجته لكن يكون في قلقٍ وهمٍّ، يخشى من كونِ هذا المتشاءَم به سببًا لفسادِ حاجَته، فهذا محرَّم أيضًا، وهو نَقص في التوحيد والاعتمادِ على الله جلّ وعلا.
أيّها المسلمون، مَن وقَع في قلبه شيءٌ مِنَ الطِّيَرة فالواجبُ عليه الحذَرُ من ذلك ودفعُه والتوكُّل على الله جلّ وعلا والاعتماد عليه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ومَا مِنَّا إلاّ، ولكنّ الله يُذهِبه بالتوكّل) [5]. ثمّ على من وقَع في قلبه شيءٌ من الطّيَرة أن يلتجئَ إلى الله جل وعلا، وأن يدعوَ بما ورَد، ومنه ما رواه أبو داود بسندٍ صحيح عن [عروة] بن عامر رضي الله عنه قال: ذكِرَت الطيرةُ عند رسول الله فقال: ((أحسنُها الفأل، ولا تردُّ مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكرَه فليقل: اللّهمّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئاتِ إلا أنت، ولا حولَ ولا قوّة إلا بك)) [6] ، ومنه أيضًا قوله: ((اللّهمّ لا خيرَ إلا خيرُك، ولا طَيرَ إلاّ طيرك، ولا إلهَ غيرك)) [7]. فمن توكَّل على اللهِ ووثِق به بحيث علَّق قلبَه بالله جل وعلا خوفًا ورجاء وقطعَه عن الالتفاتِ إلى هذه الأمور وقال ما أمِرَ من الأدعيَةِ ومَضى في حاجتِه فإنَّ ذلك لا يضرُّه بإذنِ الله.
ومِن الوقفاتِ ـ عبادَ الله ـ أنَّ من لم يخلِص توكّلَه على الله جلّ وعلا واسترسَلَ مع الشيطان في التشاؤُم والتطيُّر فقد يعاقَب بالوقوع فيما يكرَه ويبغِض؛ لأنّه أعرض عن واجبِ الإيمان بالله الذي الخيرُ كلُّه بيدَيه، هو الذي يجلبُه للعبد بمشيئتِه، وهو الذي يدفع عنه الضرَرَ وحدَه بقدرته ولطفِه وإحسانه.
أيّها المسلمون، وآخِر هذه الوقفات في هذا الموضوعِ ما ورَد في الصحيحين عنه أنّه قال: ((لا عدوَى ولا طيَرةَ، ويُعجِبني الفأل)) ، فسئِل: ما الفأل؟ فقال: ((الكَلِمةُ الحسنة)) [8].
الفألُ كلُّ ما ينشِّط على إنهاء حاجة الإنسان من الأقوالِ والأفعال الحسَنَة الطيّبة مع عدَمِ السكون إلى هذه الأمور، بل إلى خالقِها ومسبِّبها وهو الله جلّ وعلا، قال بعض أهلِ العلم: وإنما كانَ يُعجِبه الفألُ لأنّ التشاؤمَ سوءُ ظنٍّ بالله جل وعلا، والتفاؤل حُسنُ ظنٍّ به عزّ وجلّ، والمسلم مأمور بحسنِ الظنِّ بالله جل وعلا في كلِّ الأحوال.
فالفألُ ـ أيها المسلم ـ يزيد الإنسانَ نشاطًا وإقدامًا فيما توجَّه إليه، فينشرِحُ بذلك صدرُه، ويأنَس قلبه، ويذهب الضيقُ الذي يوحيه الشيطانُ في قلبه، وأمّا الطيرة فهي توجِب تعلُّقَ الإنسان بالمتطيَّر به، وتقتضي ضعفَ توكّلِه على الله جل وعلا، مع رجوعه عما همَّ به من حاجةٍ مِن أجل ما رآه أو سمِعه من الأمورِ القبيحة، روَى الترمذيّ وصحّحه عن أنسٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ كان يعجبه إذا خرَج لحاجةٍ أن يسمَع: يا راشدُ يا نجيح [9].
فاتّق الله أيها المسلم، واعلَم أنّ ما أصابك لم يكن ليخطئَك، وأنَّ ما أخطأك لم يكن ليصيبَك، فكن متوكِّلاً على الله جلّ وعلا، معتمِدًا عليه، واثقًا به.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيهِ من الآيات والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] مسند أحمد (1/213) عن الفضل بن عباس رضي الله عنه، وفي سنده محمد بن عبد الله بن علاثة ضعيف، وشيخه مسلمة الجهني لم يوثقه غير ابن حبان، وهو لم يدرك الفضل بن عباس. انظر: تحقيق المسند (3/328 ـ مؤسسة الرسالة ـ)
[2] صحيح البخاري: كتاب الطب، باب: لا هامة (5757)، صحيح مسلم: كتاب السلام، باب: لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر ولا نوء (2220) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] سنن أبي داود: كتاب الطب، باب: ما جاء في الطيرة (3910)، سنن الترمذي: كتاب السير، باب: ما جاء في الطيرة (1614)، مستدرك الحاكم (43) عن ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (6122)، وهو في السلسلة الصحيحة (429).
[4] مسند أحمد (2/220) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الهيثمي في المجمع (5/105): "رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات"، لكن رواه عن ابن لهيعة عبد الله بن وهب كما في جامعه (1/110)، ومن طريقه أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (293)، وحسن الحديث شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (11/623)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1065).
[5] ورد هذا الكلام عقب حديث ابن مسعود السابق: ((الطيرة شرك)) ، قال الترمذي عقب إخراجه: سمعت محمد بن إسمعيل يقول: كان سليمان بن حرب يقول في هذا الحديث: (وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل) قال سليمان: هذا عندي قول عبد الله بن مسعود.
[6] سنن أبي داود: كتاب الطب (3919)، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (5/310، 6/70)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/262)، والبيهقي في الشعب (2/63)، وصححه النووي في شرح صحيح مسلم (14/476)، لكن عروة بن عامر مختلف في صحبته، وقد جزم أبو أحمد العسكري والبيهقي في الدعوات بأن روايته مرسلة، وكذا الذهبي في المهذب (6/3234)، وابن حجر في الإصابة (6/415)، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (843).
[7] أخرجه أحمد (2/220) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال الهيثمي في المجمع (5/105): "رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات"، لكن رواه عن ابن لهيعة عبد الله بن وهب كما في جامعه (1/110)، ومن طريقه أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (293)، وحسن الحديث شعيب الأرنؤوط في تحقيقه للمسند (11/623)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1065).
[8] صحيح البخاري: كتاب الطب، باب: الفأل (5756، 5776)، صحيح مسلم: كتاب السلام (2224) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[9] سنن الترمذي: كتاب السير (1616)، وأخرجه أيضا الطبراني في الصغير (549)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1316).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ نبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله الدَّاعي إلى رضوانه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليهِ، وعلى آله وأصحابِه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم بوصيّة الله جل وعلا اللازمةِ لعباده ليلاً ونهارًا سرًّا وجهارًا، ألا وهي تقواه عزّ وجلّ ولزوم طاعته.
أيّها المسلمون، مَن استمسك بعروةِ التوحيد الوُثقى واعتصم بحبل الله المتين وتوكَّل على الله جلّ وعلا قطعَ هاجِس الطّيَرة قبل استقرارِها، وبادَر خواطرَها من قبل استكمالها، قال عكرمة: كنّا جلوسًا عند ابنِ عبّاس رضي الله عنهما فمرَّ طائر يصيح، فقال رجل من القول: خيرٌ، فقال له ابن عبّاس: (لا خيرَ ولا شرّ) [1] ، فبادَره رضي الله عنه بالإنكارِ عليه لئلاّ يعتقد تأثيرَه في الخير أو الشرّ. وخرج طاوس رحمَه الله مع صاحبٍ له في سفر، فصاح غرابٌ فقال الرّجل: خيرٌ، فقال طاوس: "أيّ خيرٍ عند هذا؟! لا تصحبني" [2].
ثم اعلَموا ـ عباد الله ـ أنّ الزمانَ كلَّه خَلقٌ لله جل وعلا، وفيه تقع أفعالُ بني آدم، فكلُّ زمان شغَله المؤمن بطاعةِ الله جل وعلا فهو زمانٌ مبارَك عليه، وكلُّ زمان شغَلَه المرء بعصيانِ الله جل وعلا فهو شُؤم عليه. ثم اعلَموا أنَّ أعظم الأوقات بركةً هو ما صُرِفت في طاعة الله جل وعلا.
ثم اعلموا ـ أيّها المؤمنون ـ أنّ الله جل وعلا أمرنا بأمر عظيمٍ ألا وهو الصّلاة والسلام على النبيّ الكريم.
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، اللّهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين...
[1] انظر: مفتاح دار السعادة (2/235).
[2] أخرجه معمر في جامعه (10/406 ـ المصنف ـ).
(1/3936)
وجاءت سكرة الموت بالحق
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
8/2/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحاجة إلى التذكير باليوم الآخر. 2- أول مشاهد الآخرة: الاحتضار. 3- عظات في احتضار عمر بن عبد العزيز. 4- ليلة الزفاف وليلة الدفن. 5- الثقة بالله في قصة عوف بن مالك وابنه. 6- تداعيات الانسحاب السوري من لبنان. 7- مستوطنون يهود ومحاولة العبث بالمسجد الأقصى. 8- الأمة الإسلامية بين عزّ الماضي وذلّ الحاضر.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، حديثنا اليوم عن الدار الآخرة؛ لأنني أرى النفوس قد سيطرت عليها المادةُ فأنستها ذكرَ الله تعالى، والقلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجِلاؤها تلاوة القرآن وذكر الله تعالى. نعم يا عباد الله، ذكر الله والتيقن بأننا سنعرض على الله، وأن هذه الدنيا ليست نهاية المطاف، ولذلك وجب على العاقل أن يشتغل بما يقربه من مولاه، ويبتعد عن كل ما يخالف رضاه، وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن من علامة إعراض الله عن العبد أن يُشغله بما لا ينفعه، فاشتغلوا ـ أيها المؤمنون ـ بما يقرّبكم من الله تعالى، واجعلوا همّكم في رضاه، فهو الذي يقبل التوبة عن عباده، وصدق الله تعالى وهو يقول: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
عباد الله، ينادي الله يوم القيامة: لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار، سبحان من يملك ذلك اليوم. اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ قول الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتْ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتْ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:13-18].
تعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نرى بعض مشاهد يوم القيامة: كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ [القيامة:26، 27]، إذا بلغت النفس التراقي، إذا ما أخذت الروح تُنتَزَعُ شيئًا فشيئًا من أَخْمص القدم حتى بلغت التراقي، والتراقي هي أعلى عظام الصدر.
والله جل في علاه أقسم بملائكة الموت التي تنتزع الروح انتزاعًا فقال: وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات:1-5]، وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا أي: أقسم بالملائكة التي تنزع الروح، غَرْقًا أي: تغرق في نزعها فتنزعها من أَخْمص القدم إلى أعلى عظام الصدر، وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا أي: التي تُخرِج الروح إخراجًا وتفصلها عن المادة، وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا أي: بعد أن تُخرِجها تسبح بها إلى خالقها جلّ في علاه، فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا أي: تتسابق على تنفيذ أمر الله.
وعندما تصل الروح إلى الحلقوم يُشرف على إخراجها ملك الموت، يتولى إخراجها بعدما تصل إلى الحلقوم وإلى أعلى عظام الصدر. والله سبحانه وتعالى يشرح لنا هذا الموقف شرحًا ما بعده شرح، ولا يفوقه تفصيل، فيقول سبحانه: فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الواقعة:83-87]، إذا استغنيتم بقوّتكم عن الله فأرجعوها إلى البدن مرة أخرى، هل يستطيع أحد أن يُرجِع الروح؟ لا يستطيع أحد.
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ [القيامة:26-28]، علم الميت أن هذه الساعة هي ساعة الفراق، وقالت الملائكة بعضهم لبعض: من الذي يرقى بهذه الروح إلى الله تعالى؟ وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29]، عندما يُكفّن ابن آدم، ويوضع على خشبة حَدْبَاء، يُنادَى في ذلك الموقف: إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:30]. إن الروح ترفرف على نعش الميت وتنادي وتقول: يا أهلي، يا أبنائي، لا تغرنكم الحياة الدنيا، فقد جمعت المال من الحرام والحلال، وتركته لكم تستمتعون به، وأُسأل عنه وحدي أمام الله.
عباد الله، لمّا حضرت الوفاةُ عمرَ بن عبد العزيز وذهب بعض الأصحاب ليعودوه، وكان عمر قد ترك من الأولاد خمسة عشر ولدًا، جلسوا معه وهو يعالج سكرات الموت، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ماذا تركت لأولادك؟ فماذا قال لهم؟ قال لهم أمير المؤمنين كلمة واحدة، قال: تركت لهم تقوى الله، وقيل: كيف؟ قال: إن كانوا صالحين فالله يتولى الصالحين، وإن كانوا غير ذلك فلن أترك لهم مالاً يستعينون به على معصية الله رب العالمين.
وصدق من قال:
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيدُ
وتقوى الله خير الزاد ذُخْرًا وعند الله للأتقى مَزِيدُ
هذا هو عمر بن عبد العزيز الذي حكم الأمة الإسلامية من المشرق إلى المغرب، وقد أتته بناته ليلة العيد تقلن له: ليس عندنا ثياب نلبسها في العيد، فقال له خازن بيت المال: أأصرف لك شهرًا مقدَّما؟ فقال له عمر: ثكلتك أمك، وهل اطلعت على اللوح المحفوظ وعلمت أنني سأعيش شهرًا؟! يا بناتي، ليس العيد لمن لبس الجديد، وإنما العيد لمن خاف يوم الوعيد.
عباد الله، أين حُكّام الأمة اليوم ليتعلّموا درسًا في النزاهة والطهارة من عمر بن عبد العزيز؟! أموال الأمة تُنفق في الشهوات والملذّات والمفاسد، لماذا لا تُنفق أموال الأمة في إصلاحها وصلاحها في تعليمها ورُقيّها؟! لماذا لا تُنفق الأموال في إصلاح أحوال الأمة العلمية والتربوية؟!
أيها المسلم، تذكّر ليلتين اثنتين:
اذكر ليلةَ زفافك على زوجتك، وقد غسلتَ نفسك بنفسك، ولبستَ أفخر الثياب، وتعطّرت بالعطور الطيبة، وأغلقتَ بابك عليك وعلى زوجتك، وكأنك تقول: يا ليلُ طُل، يا نومُ زُل، يا صبح قِف ولا تطلع.
واذكر الليلة الثانية عندما تُحمَل لتوضع على خشبة الغسل، لن تمشي إليها بقدميك، وإنما تُحمل على أعناق الرجال، أين سمعك؟ أين بصرك؟ أين قوّتك؟ أين دهاؤك؟ أين جمالك؟ أين صحتك؟ من الذي يخلع عنك الثياب؟ أنت لا تقوى على خلع الثياب، وتنام عاريًا على خشبة الغسل، وأنت الذي كنت لا تسمح لأحد أن يكشف عورتك، ويقلّبك المغسّل كما يريد، العينان غارتا، والأنف مال، الوجه شُدّ بقطعة من القماش حتى لا يظلّ مفتوحًا، البطن يُضغط عليه بعنف ليصفّى ما فيه، الأعضاء البارزة قد انكمشت، الساقان تخشّبتا، المياه تُصبّ عليك وأنت لا تشكو من حرّها أو شدة بردها، وألبسوك ثوبًا جديدًا يُسمّى الكفن، تُلفّ فيه لفًّا، وتُربط من أعلى إلى أسفل، ثم تحمل على خشبة حَدْبَاء، لا قصور ولا دور ولا مال ولا جاه، الغني والفقير، والوزير والخفير، والكبير والصغير، وصاحب الجاه والحقير، كلهم سيُحملون على هذه الخشبة، ومن غير أن يأخذ معه شيئًا؛ لأنّ شرط العودة إلى الله أن يكونَ الإنسان متخليًّا عن كل شيء في الدنيا، وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:94]، فسبحان من يرث الأرض ومن عليها.
عندما غادر الإنسان عالم الأرحام إلى عالم الدنيا كان حافيًا عاريًا، وعندما يعود يكون حافيًا عاريًا. إذًا أين الخدم والحشم؟! أين المال والعيال؟! أين الجاه والسلطان؟! وسبحان من قال: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، هكذا وراء الظهر، ولا يُرمَى وراء الظهر إلا كلّ تافهٍ حقير، وكل ما وراء الظهر لا ينفع، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، إلا من أتى الله بأعمال صالحة.
عباد الله، كيف سنُقبِل على الله وفينا من يأكل الربا، وفينا من يمارس الزنا، وفينا من يبيع أرضه وعرضه؟! كيف سنقف بين يدي الله وفينا من يفرط بالمسجد الأقصى، وفينا من يتآمر علينا من هنا وهناك؟! بالله عليكم، كيف سيكون ذلك وفينا من يفسد في الأرض ويقطع الأرحام، وفينا من لا يهتمّ بأمر المسلمين، وفينا من يعتدي على حرمات المسلمين، وفينا من يسرق وينهب ويغش؟!
استمعوا ـ يا عباد الله ـ لهذه القصة، وتعلموا منها العبرة:
ذهب عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله وقال له: يا رسول الله، إن ابني مالكًا ذهب معك غازيًا في سبيل الله ولم يعد، فماذا أصنع؟ لقد عاد الجيش ولم يعد مالك رضي الله عنه، قال رسول الله : ((يا عوف، أكثر أنت وزوجك من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله)). وذهب الرجل إلى زوجته التي ذهب وحيدها ولم يعد، فقالت له: ماذا أعطاك رسول الله يا عوف؟ قال لها: أوصاني أنا وأنتِ بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. ماذا قالت المرأة المؤمنة الصابرة؟ قالت: لقد صدق رسول الله ، وجلسا يذكران الله بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأقبل الليل بظلامه، وطُرِق الباب، وقام عوف ليفتح فإذا بابنه مالك قد عاد، ووراءه رؤوس الأغنام ساقها غنيمة، فسأله أبوه: ما هذا؟ قال: إن القوم قد أخذوني وقيّدوني بالحديد وشدّوا أوثاقي، فلما جاء الليل حاولت الهروب فلم أستطع لضيق الحديد وثقله في يدي وقدمي، وفجأة شعرت بحلقات الحديد تتّسع شيئًا فشيئًا حتى أخرجت منها يديّ وقدميّ، وجئت إليكم بغنائم المشركين هذه، فقال له عوف: يا بني، إن المسافة بيننا وبين العدو طويلة، فكيف قطعتها في ليلة واحدة؟! فقال له ابنه مالك: يا أبت، والله عندما خرجت من السلاسل شعرت وكأن الملائكة تحملني على جناحيها. سبحان الله العظيم! وذهب عوف إلى رسول الله ليخبره، وقبل أن يخبره قال له الرسول : ((أبشر يا عوف، فقد أنزل الله في شأنك قرآنًا: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2، 3] )).
عباد الله، إنه الإيمان، الثقة بالله، صِدق في القول والعمل، ونحن لو أخلصنا القول والعمل لزال ما بنا من همّ وغمّ، ولعاد المسجد الأقصى إلى ساحة الإسلام.
عباد الله، جدير بمن الموت مصرعه والتراب مضجعه والدود أنيسه ومنكر ونكير جليسه والقبر مقرّه وبطن الأرض مستقرّه والقيامة موعده والجنة أو النار مورده أن لا يكون له فكر إلا في الموت، ولا ذكر إلا له، ولا استعداد إلا لأجله، ولا تدبير إلا فيه، ولا تطلع إلا إليه، ولا تعريج إلا عليه، ولا اهتمام إلا به، ولا حول إلا حوله، ولا انتظار وتربص إلا له.
عباد الله، كم اختطف الموت أبًا من بنيه، وابنًا من أبيه، وأخًا من أخيه، وقريبًا من قريبه، وحبيبًا من حبيبه، وقائدًا من جنده، وأستاذًا من تلاميذه، فلم يستطع أحد أن يدفع عنه بنفس أو مال ولا جاه.
وكان من دعاء السلف رضي الله عنهم: اللهم لا تدعنا في غَمْرة، ولا تأخذنا على غِرّة، ولا تجعلنا من الغافلين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، حَدَثان بارزان لا بدّ من الإشارة إليهما:
أولهما: تداعيات الانسحاب السوري من لبنان، وهذا الانسحاب الذي جاء على خلفية اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق، والذي وجدت فيه المعارضة اللبنانية ذريعة للمطالبة بانسحاب القوات السورية من لبنان بدعم من أمريكا وبتحريض من إسرائيل وتبريرات مُخجِلة ودعوات عربية سخيفة، الدول العربية المنفتحة على الغرب والموالية للبيت الأبيض سارعت لنصح سوريا بسحب قواتها من لبنان، نفس السيناريو الذي رافق نصح النظام العراقي السابق بفارق كبير، إن العراق دخل الكويت، وإن سوريا جاءت إلى لبنان بقرار مجلس جامعة الدول العربية، فالأمر سيّان طالما أن أمريكا تصدر أحكامها.
الذين تباكوا على وحدة لبنان وحريته واستقلاله ويتباكون على مستقبل سوريا أن تذعن للانسحاب نسوا وتناسوا الاحتلال الأمريكي البغيض لأرض المسلمين في أفغانستان والعراق، ونسوا وتناسوا الاحتلال الإسرائيلي البغيض لأرض فلسطين ولمزارع شبعا في لبنان، وأمريكا كعادتها تقول: إن الانسحاب السوري الجزئي لا يكفي.
أيها المسلمون، كم حذّرنا في أكثر من خطبة أن سوريا وإيران سيكونان هدف العدوان الأمريكي الصهيوني بعد العراق، ها هي أمريكا تهدّد بضرب إيران إن هي لم توقف برنامجها النووي.
أيها المسلمون، يُخطئ من يظن أن الحملة المسعورة ضد سوريا هي بالفعل من أجل الانسحاب السوري من لبنان، إن الهدف الأساسي هو المقاومة في لبنان وحزب الله، وها هو وزير خارجية إسرائيل يقول: "إن حزب الله هو العائق الوحيد أمام تحقيق السلام في المنطقة". فالهدف هو تجريد المقاومة من سلاحها في لبنان؛ لإيجاد التربة الخصبة لحكومة موالية للغرب تُبرم معاهدة سلام مع إسرائيل.
الحدث الثاني: هو الإنذارات الساخنة التي تطلقها إسرائيل من حين لآخر باحتمال قيام عمليات مسلحة، فتقيم الحواجز، وتسدّ المنافذ، وتمنع التنقل بين القدس والضفة الغربية، فما هو المقصود من هذه المناورات وهذه المضايقات؟ أليس تهديد المستوطنين باقتحام الأقصى هو أخطر من الإنذارات الساخنة المزعومة؟! أليس التصريحات بهدم الأقصى والاعتداء على المصلين الآمنين هي قنابل موقوتة ضد المسلمين وضد المسجد الأقصى؟! ألم تعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن المسجد الأقصى هو مصدر عزّكم وقوة وجودكم في هذه الأرض المباركة؟! وبفضل الله وقدرته سيبقى المسجد الأقصى قلعة حصينة أمام المعتدين.
واعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن الحكومة الإسرائيلية وحدها تتحمل نتائج تصريحات المستوطنين، فالأقصى هو جزء من عقيدة المسلمين، وواهم من يظنّ أن بإمكان المستوطنين فرض الأمر الواقع.
عباد الله، وإذا كان قَدَرُ شَعبِنا أن يواجه العدوان بصدور عامرة بالإيمان، وهذا شرف عظيم من الله تعالى لهذا الشعب المرابط الصابر، فإن الخزي والعار لمن يقبعون وراء الشهوات، وينظرون إلى المعاناة والمخاطر، ولا يحركون ساكنًا، لا يفعلون شيئًا لمسجدنا المبارك وأرضنا المقدسة.
لم تكن الأمة الإسلامية لتبلغ مدارك العزّ والسعادة والنصر والكرامة إلا بتمسّكها بكتاب الله دستورًا ونظام حياة، واتباعها لتعاليم الإسلام وهدي المصطفى ، وبهذا اتسعت رقعة العالم الإسلامي، وامتدت جذوره في بقاع الأرض، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولم تكن الفتوحات الإسلامية وحدها التي سارعت وساعدت في انتشار الإسلام، فالمسلمون لم يقوموا بغزو البلاد حربًا إلا لمن كان يناوئهم العداء كدولتي فارس والروم، ويكيدون للإسلام ويتربصون به الدوائر، وصدّ المسلمون هجمات المغول والتتار دفاعًا عن دين الإسلام وأرض المسلمين، وعدا ذلك فإن الناس دخلوا الإسلام عندما عرفوا عظمة وعدالة الإسلام ورحمة الإسلام بالناس أجمعين.
عباد الله، وفي ظل هذا الضعف تَبدّل حال المسلمين من عزّة وكرامة إلى ضعف ومهانة، من وحدة إلى فرقة وتشرد وتبعية، من زهد وقناعة إلى تكالب على متاع الحياة الدنيا، وتنقلب المفاهيم والأوضاع رأسًا على عقب، والمسلم اليوم أصبح يسمّى إرهابيًّا ومتمرّدًا يجب عليه أن يركع للأعداء، ومن يُسوّق أفكار الأعداء فهو تقدّمي وديمقراطي، ومن يتنازل عن الأرض لأعداء الأمة فهو منفتح ومتطوّر، ومن يرفض الذلّ والهوان فهو مُخرّب وخطر على السلام. عجبًا ـ أيها المؤمنون ـ لهذا الزمان الذي أصبح يؤتمن فيه الخائن، ويُصدّق فيه الكاذب التافه، وهو من يحكم اليوم في أحوال الناس.
فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بتعاليم الله، تمسكوا بمنهج الله وسنة رسوله ، وسبحان من قال: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54]، صدق الله العظيم.
(1/3937)
أمومة لا إمامة
الأسرة والمجتمع, فقه
الصلاة, المرأة
محمد بن صالح المنجد
الخبر
8/2/1426
عمر بن عبد العزيز
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب التسليم لأمر الله تعالى. 2- الحكم لله ورسوله. 3- الحرب على الإسلام وأهله. 4- وجوب الدفاع عن الإسلام. 5- بدعة إمامة المرأة في صلاة الجمعة. 6- استغلال المنافقين للحدث. 7- مقاومة السلف للمحدثات في خطبة الجمعة والعيد. 8- الإجماع العملي على عدم إمامة المرأة في صلاة الجمعة. 9- الأدلة على بطلان ذلك. 10- وليس الذكر كالأنثى. 11- مفاسد الدعوة لحرية المرأة. 12- شبهات والجواب عليها. 13- من أقوال العلماء في المسألة. 14- مفاسد إمامة المرأة لرجال في الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى قد ندبنا إلى طاعته ومرضاته، وأمرنا أن نستسلم لأمره سبحانه: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، ولا تثبت قدَمُ الإسلام إلاّ على طريقِ التسليم، فالتسليم لأوامِر الله سبحانه وتعالى ركن عظيم من أركان الإيمان، لا يتم الإيمان إلا بهذا التسليم، التسليم لحكم الله وعدم الاعتراض على شرع الله.
عباد الله، وإن الله سبحانه وتعالى قد حكم في كتابه العزيز بأحكام كثيرة متعدّدة، والله حكيم، والله يحكم بما يشاء، وله الحكم سبحانه، إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ [الأنعام:57]. وأرسل إلينا نبيه ، فعلمنا من أحكام الله، وما ترك خيرا إلا دلنا عليه، وحذرنا من المحدثات فقال: ((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) ، وأخبرنا أن كل ضلالة في النار، وحذرنا من الفتن، ومن ذلك هذه الفتن التي تكون فيما يلقى من الشبهات وما يثار لتغيير الدين وتحريف كلام الله وكلام رسوله وتغيير أحكام الشريعة.
وفي هذا الزمان كثرت السهام على دين الإسلام، وأراد أعداؤه تخريب هذا الدين وتخريب أتباعه المسلمين، فأطلقوا الحريات بزعمهم، ولإفساد المجتمع الإسلامي كان لا بد من إطلاق الحريات في أمور المرأة، لتخرج كما تشاء وتخرج بلا ضوابط وتختلط، وهكذا تثور الشهوات، ويعمّ الانحلال المجتمع، وعند ذلك يحصل الانفلات الذي يصعب جدا أن يُلمَّ شعث الأمور بعده، ويحدث اضطراب الأمن في المجتمع.
عباد الله، إن أمن الإسلام أهم وأعلى وأغلى، فيجب علينا أن نحفظ هذا الدين وأن نحافظ عليه، وأن نقاوم جميع الدعوات التي تخرج لتخريبه، ونقاوم جميع البدع والمحدثات، فإن أمرها خطير.
ومما خرج علينا في هذه الأيام المتأخرة من الدعوات المضحكة المؤلمة الإعلان عن إقامة صلاة جمعة تؤمها امرأة، دكتورة في الدراسات الإسلامية بزعمهم في جامعة فرجينيا كومنولث، لتؤمّ المسلمين في صلاة مشتركة بين الرجال والنساء في هذه الجمعة أي: اليوم، وأن هنالك منظمات سترعى هذا الموضوع، وأن هذا الأمر هو سلسلة في حلقات حرية المرأة والمطالبة بدور رائد لها، ولما حارب المسلمون هناك هذا الأمر في مساجدهم لجأ هؤلاء إلى إقامة الصلاة في إحدى الصالات الفنية في مدينة نيويورك، فستقام اليوم بزعمهم صلاة جمعة تؤمها امرأة.
والمنافقون من بني جلدتنا قد طاروا بهذا الخبر وطيّروا به ونشروه، وقام دعاة المساواة بين الجنسين يقولون: ما بالكم تنكرونه؟! لماذا لا تخطب المرأة؟! ولماذا لا تكون إمامة؟! لماذا هذا الاحتكار أيها الرجال؟! أين العدل؟! وصفّق كثير من الجهلة لهذا, ولكن جمهور المسلمين ـ والحمد لله ـ مستنكرون لهذا الأمر أشدّ الاستنكار، يستسخفون هذا الرأي وهذه القضية، ولولا أن الإعلان عن هذه المسألة تمّ بشكل منظم ومدروس وكان له انتشار وشيوع لما ساغ الكلام في هذه المسألة، فإنه من البدهيات المعلومة أن الصلاة والخطبة في الجمعة لا تكون إلا للرجال، ولكن صار الكلام اليوم في الأشياء البدهية وليس في الأمور الخلافية فقط، ولذلك فإن هذه المسألة ليست خلافا فقهيا، ولكنها جزء من مخطط مدروس لإفساد المرأة المسلمة والمناداة بالمساواة من جميع الجهات، يريدون مساواة تامة بين الرجال والنساء مشيًا على خطى الغرب ومتابعةً لسنن اليهود والنصارى الذين حذرنا النبي من الاقتداء بهم والتشبه بهم، وهذه حلقة أيضا من حلقات الإفساد، فتصور في مساجد المسلمين تقوم نساء بخطبة الجمعة أمام الرجال، أي هُزء هذا؟! وأي أضحوكة ومسرحية هزلية يريدون أن يحولوا إليها مساجد المسلمين ودور العبادة والمعاقل الأخيرة والحصون لهذا الدين، أفسدوا البيوت والمجتمعات، وبقي إذا إفساد المساجد، وهكذا تقوم الشوشرة حول الأمور الفقهية وأحكام الدين.
ومن أهم الواجبات الإسلامية الدفاع عن دين الإسلام، وأن نتحرك لمقاومة المحدثات والمنكرات، فإننا في سفينة، ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمَثَل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلِها إذا استقَوا من الماء مَرّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنا خرَقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا)) ، فقال النبي : ((فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا))، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّره)). والعالم بعد ثورة الاتصالات أصبح كالقرية الواحدة، وما يحدث هناك يؤثر هنا وهكذا، ولذلك ليس الكلام في المسألة عن حدث في مكان بعيد لا يهمّنا، كلاّ، بل إنّ الكتابات تتناوله بين المسلمين، بل ظهر من بعض من يتسنّم الفتوى في بعض مجتمعات المسلمين من يجيز هذا ويقول: المسألة خلافية ولها في ذلك سعة، وتأملوا ـ يا عباد الله ـ منابر المساجد يتسنمها ما يسمى بالجنس اللطيف.
وإن مقاومة الإحداثات في خطبة الجمعة من سنة الصحابة رضوان الله عليهم، بل الخطب عموما وخطبة العيد وهي أقل من خطبة الجمعة في المنزلة قاوم الصحابة التغيير فيها، فجاء في الحديث الصحيح: أوّل من بدأ بالخطبة يومَ العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد تُرِك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أمّا هذا فقد قضَى ما عليه ـ أدى واجب الإنكار ـ سمعت رسول الله يقول: ((من رأى منكم منكرًا فليغيِّره)) الحديث، فلا يجوز لنا السكوت على هذا.
عباد الله، إن هذه الخطوات التي يقولون عنها: جريئة هي اليوم لإفساد أعظم الأركان العملية وإدخال المحدثات فيها، وهي الصلاة، وقد قال النبي : ((لينقضن عرَى الإسلام عروة عروة، فكلّما انتقضت عروة تشبّث الناس بالتي تليها، وأوّلهن نقضًا الحكم، وآخرهن الصلاة)).
والآن هذا أمر يراد به نقض عروة من عرى الدين وعروة من عرى الصلاة أيضا، والذين زعموا جواز هذا جاؤوا بأدلة بزعمهم، ولذلك لا بد من الكلام بالأدلة، وإذا كان عندهم حجج فلنقارع الحجة بالحجة، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
ما قولكم ـ يا عباد الله ـ في قرون الإسلام الماضية والعلماء الذين مضوا منذ عهد محمد وحتى هذا التاريخ، تصوروا جيدا أن مساجد المسلمين منذ أن بنيت من عهد النبي وحتى هذا اليوم الجمعة حتى تاريخ اليوم لم يقم على منابرها امرأة ولا صلت إمامةً في المساجد بالرجال، واليوم تحدث أول بدعة في تاريخ الإسلام منذ أن أنزل الله الوحي على محمد ، هذا اليوم أول اختراق بدعي في تاريخ الإسلام في خطبة الجمعة وإمامة الناس تقوم به امرأة من هؤلاء المغفلات الجاهلات مهما بلغت في الدرجة الأكاديمية، فتخالف إجماع المسلمين العملي منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى الآن، يؤزّها شياطين الغرب ودعاة تحرير المرأة المزعومين الذين يريدون فتح الباب لها إلى جهنم.
عباد الله، أمر لم تفعله أمهات الصحابيات أمهات المؤمنين، عائشة عالمة أم لا؟ وخطيبة مفوَّهة أم لا؟ وجريئة شجاعة أم لا؟ فلماذا لم تتولَّ الخطابة والإمامة في عهد النبي وبعده؟! بعد أن مات لم تقم في مسجد ولا على منبر تخطب، أفهذه المرأة التي ستخطب اليوم ومن بعدها من النساء خير وأفضل أم عائشة وأمهات المؤمنين والعالمات الصالحات اللاتي مضين؟! ما معنى خرق الإجماع العملي للمسلمين؟! ما معنى شق هذا الإجماع العملي الذي حصل؟! الإمامة من الأمور العبادية المحضة، إمامة الصلاة إنها قضية شرعية وحكم إسلامي وفيها أدلة ولها شروط، ثم فرصة عظيمة لتفنيد قول دعاة المساواة:
الإسلام لم يأت بالمساواة بين الجنسين، والذي يقول هذا جاهل أو كذاب، فإن الله فرق بينهما وقال سبحانه: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، الدليل على عدم المساواة بين الجنسين نقولها للمنافقين من بني جلدتنا قبل أن نقولها للكفار، لم يأت في شرع الله المساواة بين الجنسين، بل قال تعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ، وقال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء:34]، وقال تعالى: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فكيف يستوون؟! لا يستوون عند الله، إنما كانت النساء شقائق الرجال مثلهم، فالنساء مثل الرجال في الأحكام إلا ما دل الدليل على التفريق.
ومن الفروق هذه القضية، وهي قضية الإمامة والخطابة، وقال النبي ـ مفسرا قوله: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبِّ الرجل الحازم من إحداكن)) ـ: ((أليس شهادة المرأة مثل نصفِ شهادة الرجل؟)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصم؟)) قلن: بلى، قال: ((فذلك من نقصان دينها)). وهذا النقص جبِلِّي خَلقي لا تحاسب المرأة عليه وتؤَثَّم، وإنما هو شيء فطري خَلقي، ولذلك جعل الله الفروق بين الجنسين، وجعل عقل الرجل في الجملة والعموم أقوى، وأناط به أشياء لم ينطها بالمرأة، وجعلها أقدر من الرجل على الأمومة والحضانة والحمل والرضاع، ولذلك لا يمكن أن يحمل الرجل ولا أن يرضع، وقدمت الشريعة المرأة في الحضانة لأنها أقدر على الولد وأعلم بشأنه وأرفق به، ولذلك فإن الله حكيم، جعل في النساء من الخصائص المناسبة للأمومة وليس للإمامة، وهؤلاء اليوم يريدون للمرأة الإمامة الكبرى ويقولون: ما المانع أن تكون هي الخليفة والرئيسة والإمامة للمسلمين؟! وهكذا يريدون تحطيم الأسرة وإزالة عاطفة الأمومة بإخراج المرأة، جعلها تختلط بالرجال، إلقائها في كل مكان، تخالطهم في الشوارع والمصانع، وتنزل معهم إلى الميدان كما يقولون، اجتماعات مختلطة، وهذه سكرتيرة، وخلوة محرمة، تغوص في الشحوم، وتسوق الشاحنات الثقيلة، تفتح المعارض الفنية لتمشي برفقة الرجال تستعرض لوحاتها، ثم تسابق في الراليات وفي السيارات وفي الطائرات، وتدخل في الممرات الضيقة مضيفة بين الرجال، ويحدث هذا الاحتكاك، وتكمل مضيفة بزينتها ليس بينها وبين الرجل شيء يذكر من المسافة.
عباد الله، إن هذا الانحلال كارثة عظيمة ستصيب المجتمعات، وسيعلم هؤلاء ما ستجنيه أيديهم، ويدغدغون مشاعرها، ويقولون: سننتصر لكِ ونطلق حرياتِك ونساويك بالرجال، أفلا التفتّم إلى مصيبة البطالة عند الرجال فحللتموها بدلا من الزجّ بالنساء في المعمعة وإشغالهن عن الوظائف الأساسية التي أناطتها الشريعة بهن؟! ما معنى إخلاء حصون المسلمين من معاني الأمومة ومن معاني الحفظ والصيانة والرعاية لهذا العشّ الزوجي؟!
عباد الله، جعل الله النبوة للرجال، وجعل الجهاد على الرجال، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) ، ويقول هؤلاء اليوم: إن هذا حديث خاص بالفرس الذين كانوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، النبي عليه الصلاة والسلام يقول تشريعا وحكمًا، خاص بالكفار؟! دولة كفار كانت في عهده الحكم خاص بها؟! نبينا نحن أولى به يا عباد الله، وكلامه لنا قبل أن يكون لغيرنا، ولكن الشرع المحمدي عام لجميع من كان في عهد النبي ، يخاطب به المؤمن والكافر، وهؤلاء يقولون: حديث: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) جاء على مناسبة خاصة، سبحان الله! إذا هذا حكم شرعي خاص بكفار معينين أما نحن المسلمين فلا يتناولنا، كبرت كلمة تخرج من أفواههم. نحن مخاطبون بهذا الحكم الشرعي، ولذلك نص الفقهاء أن الولايات العامة كالقضاء والإمارة قيادة الجيش وكذلك رئاسة الدولة لا تكون للنساء.
وجعل الله شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وكذا ميراث المرأة في كثير من أحواله، وجعل الطلاق بيد الرجل، وأباح للرجل أن يجمع بين أربع نسوة والمرأة لا تجمع أبدا بين رجلين ولا أكثر من ذلك في وقت واحد، وقد جاءت الشريعة أيضا بأن دية المرأة على النصف من دية الرجل، وجعل التسبيح للرجال والتصفيق للنساء، وهذا أحد الأدلة على بطلان كونها إمامة للرجال، فيقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام لم يرض أن تتكلم المرأة في صلاة الجماعة وهي خلف الرجال، لا تتكلم إذا أخطأ الإمام، ولا تقول: سبحان الله، أرأيتم "سبحان الله" لا تقولها المرأة في صلاة الجماعة وراء الرجال إذا أخطأ الإمام، وإنما تصفق بيديها تنبيها للإمام على الخطأ إذا لم ينبّهه الرجال، فقال: ((التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء)) رواه البخاري، فإذا كان لم يشرع لها أن تقول: "سبحان الله" عند الحاجة تنبيها للإمام وهي خلف الرجال، أفتظنون أنه يسمح لها أن تكون إمامة للرجال وتعتلي منابر الجمعة لتخطب بهم، فأين عقول أولئك القوم؟! تبًّا لعقولهم ولعقول من شايعهم وأيدهم وجعل لهم من الكلام المعسول ما يبرر فعلهم، قلّة فقه وقلة علم وقلة دين وقلة ورع جعلت بعض هؤلاء المفسين يؤيد تلك الفعلة.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ((خير صفوفِ الرجال أوّلها وشرّها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أوّلها)) ، يعني شر صفوف النساء أقرب صف إلى الرجال من الخلف، فما بالك إذا صارت المرأة أمام الصف الأول من الرجال إمَامَة، شر على شر، ومصيبة على مصيبة.
ثم إن النبي جعل صلاة المرأة في بيتها أفضل لها من الإتيان إلى المسجد، والرجل في المسجد أفضل من صلاته في بيته، هذا من الفروق، ولم توجب الشريعة الجمعة على المرأة، وهذا من الفروق، وأوجبتها على الرجل، وفي العقيقة شاتان للذكر وواحدة للأنثى، هذا من الفروق، إذًا هناك فروق فطرية خلقية جسدية نفسية، وهناك فروق شرعية، وهؤلاء يريدون خلط الأمور، ثم فرصة للتشويش على المسلمين، كأن المسلمين ينقصهم الآن جدل، كأن المسلمين ينقصهم قضايا جديدة تثور فيها النقاشات وينقل فيها الكلام، ولذلك سياسة الإشغال سياسة معتمدة عند الغرب وعند أعداء الدين، سياسة إشغال المسلمين بالجدل.
هذه قضية مسلَّمة تاريخيّا، لا يعرف لها خرق في تاريخ الإسلام منذ أن بنيت مساجد الله في هذا الدين حتى هذا اليوم لم يخرق هذا العمل، لتأتي هذه المبادرة المشؤومة، ويشغل المسلمون بقضية: ما حكم خطابة المرأة؟ إنه شيء جديد، عجبا! ما هي القضية؟ الناس يتناقلون، وكالات الأنباء، مواقع الإنترنت، الأخبار، إمامة امرأة شيء جديد، وهكذا يتسابق الناس إلى ذكره ونقله.
عباد الله، هذه مصيبة بالإضافة إلى المصائب الكثيرة التي تعاني منها الأمة، ومن أهم الواجبات الإسلامية أن ندافع عن شرع الله، من أهم الواجبات ـ يا عباد الله ـ أن نعرف ما هي أحكام هذه الشريعة حتى نتبناها وندافع عنها. نحن نعتقد جزما بأن القرآن والسنة حق من الله تعالى، وأنه وحي وصدق، ونسلم لذلك، ونوقن بأن الشريعة صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان، وأن أحكام الخطبة في الصلاة والجمعة والإمامة الكبرى والإمامة الصغرى إمامة المسلمين عموما وإمامة الصلاة كل ذلك أحكام شرعية، إن أمانتها على عواتقنا، وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49].
ثم إن الله عز وجل خلق النساء وهو أعلم بهن، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، وخلق الرجال وهو أعلم بهم، سبحانه وتعالى، وجعل هذه الفروق في الأحكام، ما معنى منازعة الله عز وجل في أحكامه؟! لماذا الخروج عن شرع الله؟! هذه الموضة الجديدة التي يركبها المنافقون اليوم.
أيها المسلمون، إن ما يحصل في هذه القضية وفي غيرها دليل على ضعف المسلمين وكثرة الاختراقات التي تحصل، كأنه ليس لهم رهبة في صدور أعدائهم ولا لهم وزن ولا قيمة، ولذلك تكثر الاختراقات.
عندما دعَت مُليكة جدَةُ أنس رسول الله لطعام صنَعته، فأكل منه ثم قالَ: ((قوموا فأصليَ لكم)) ، قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسودَّ من طول ما لبِس، فنضحته بماء فقام عليه رسول الله ، وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا ـ العجوز من وراء الصبيان ـ، فصلى لنا رسول الله ركعتين. لم تقم وهي عجوز بجانب الصبيان وأنس من محارمها، فتريد المرأة اليوم أن تقوم أمام الرجال جميعا إمامة في الصلاة، تؤم الرجال إمامة.
ثم ماذا قال العلماء في هذه القضية؟ عندما علق صاحب المنتقى في شرح الموطأ للإمام مالك على حديث: ((لا يفلح قوم أسندوا أمرهم امرأة)) ، قال القاضي أبو الوليد: "ويكفي في ذلك عندي عمل المسلمين من عهد النبي ، لا نَعلَم أنَّه قُدِّم لذلِك في عَصرٍ مِن الأَعصَار ولا بلَدٍ مِن البِلادِ امرأَةٌ". أما الاحتجاج ببلقيس فإنها كانت ملكة كافرة، كانت على الكفر لما كانت تولّت عليهم. وأما الاحتجاج بشجرة الدرّ فإنها عصت ربها إذا كانت تولت على المسلمين، فهل نحتج بامرأة عصت؟! وصارت هناك ظروف معينة جعلتها كذلك إذا ثبتت القصة، فهل نحتج بفعل امرأة خالفت الأدلة، وكم استمر حكمها؟! وما هي سيرتها فيه؟! كلما جئت تناقش أحد هؤلاء المنافقين قال: شجرة الدر، كأنها نبية وفعلها حجة. قال القاضي أبو الوليد: "لا نَعلَمُ أنَّهُ قُدِّم لذَلكَ في عَصرٍ مِن الأَعصَارِ وَلا بلَدٍ مِن البِلادِ امْرَأَةٌ كمَا لَمْ يُقَدَّمْ لِلإِمَامَة امرأة"، القاضي أبو الوليد من المالكية يقول: لا نعلم أنه قدِّم في عصر من الأعصار ولا بلد من البلاد امرأة في الإمامة الكبرى، ثم قال: كما لم يقدم للإمامة امرأة، إذًا لا الإمامة الكبرى ولا الإمامة الصغرى، ولذلك تجد النصوص عند الفقهاء شعرا ونثرا أن من شروط الإمام أن يكون ذكرا:
شرط الإمام ذكر مكلَّف آتٍ بالأركان وحكمًا يعرف
قالوا: يشترط لإمامة الرجال أن يكون الإمام ذكرًا، فلا تصح إمامة المرأة للرجال، وهذا متفق عليه بين الفقهاء، قال الشافعي في كتابه الأم: "وإذا صلت المرأة برجال ونساء وصبيان ذكور فصلاة النساء مجزئة، وصلاة الرجال والصبيان الذكور غير مجزئة"، فاليوم الذين سيصلون في نيويورك وراء الدكتورة عليهم إعادة الصلاة، فإذا عرفتم منهم أحدا فأخبروه أن عليه بالإضافة إلى التوبة أن يعيدها ظهرا لأن الجمعة ستكون قد فاتته. قال الشافعي رحمه الله: "لأن الله عز وجل جعل الرجال قوامين على النساء وقصرهن عن أن يكن أولياء"، فلا تتولى المرأة، قال الشافعي: "ولا يجوز أن تكون امرأة إمام رجل في صلاة بحال أبدا، ولا يجوز أن تكون امرأة إمام رجل في صلاة بحال أبدا، فإن قلت: الزوجة تؤم زوجها؟ لا".
قال ابن حزم في المحلى: "ولا يجوز أن تؤم المرأة الرجل ولا الرجال، وهذا ما لا خلاف فيه، وأيضا فإن النص قد جاء بأن المرأة تقطع صلاة الرجل إذا فاتت أمامه ـ إذا مرت أمامه ـ، فكيف إذا كانت إمامه؟!"، قال: "وحكمه عليه السلام بأن تكون وراء الرجل ولا بد في الصلاة، وأن الإمام يقف أمام المأمومين لا بد أو مع المأموم في صف واحد، ومن هذه النصوص يثبت بطلان إمامة المرأة للرجل ولرجال يقينا" انتهى كلام ابن حزم رحمه الله.
قال النووي في المجموع: "واتفق أصحابنا ـ يعني الشافعية ـ على أنه لا تجوز صلاة رجل بالغ ولا صبي خلف امرأة"، قال: "سواء في منع إمامة المرأة للرجال صلاة الفرض والتراويح وسائر النوافل، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله، وحكاه البيهقي عن الفقهاء السبعة فقهاء المدينة التابعين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وسفيان وأحمد وداود"، يعني إذًا المسألة هذا عند السلف والخلف.
فإن قال قائل: ألا يوجد من أباح إمامة النساء في النافلة؟! فنقول: هناك قول شاذ في أن المرأة تؤم في صلاة النافلة كالتراويح، لكن الأقوال الشاذة هل يعتمد عليها؟! هل يلتفت إليها؟! هل يستند عليها؟! الأقوال الشاذة شاذة. ثم الذين قالوا ذلك شرطوا له شروطا، فاسمع شروطهم، قالوا: أن يكونوا أميين وهي قارئة، ثانيا: أن تقف خلفهم، ثالثا: أن يكون إمامهم رجل فتقتدي به وهي أثناء القراءة تقرأ فقط، هذا القول الشاذ أن تكون خلفهم تقرأ فقط وإمامهم منهم إذا كانوا لا يحسنون القراءة! فانظر في القيود والشروط في هذا القول الضعيف الشاذ، قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "لا يجوز أن تؤم المرأة الرجل، ولا تصح صلاته خلفها لأدلة كثيرة، وعلى الذي صلى خلفها أن يعيد صلاته". قال في الفواكه الدواني: "في شروط الإمامة: ثلاثة عشر، أولها الذكورة المحققة، فلا تصح إمامة المرأة ولا الخنثى المشكل"، فإذا لم تكن الذكورة كاملة وكان الإمام خنثى لا تصح الصلاة، قال: "وتبطل صلاة المأموم دون الأنثى التي صلت إماما لنفسها، وعليها وزر هذه البدعة، فإن من ابتدع بدعة في الدين فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
اللهم إنا نسألك الفقه في الدين والسلامة والثبات على الإسلام يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وأوسعوا لإخوانكم يوسع الله لكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول الله الرحمة المهداة البشير والنذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، إن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الكتاب والسنة، وقد قال النبي : ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي)) ، والأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، لكن منهم من يفتتح باب ضلالة، ولا شك أن هؤلاء الذين يقولون بإمامة المرأة للرجال وخطابتها فيهم أنهم مفتتحو باب ضلالة، وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى [النساء:115]، فإذا انعقد إجماع الأمة في المشارق والمغارب عمليا على أنه لا مدخل للنساء في خطبة الجمعة ولا في إمامة الصلاة للرجال، ولم يسطَّر في كتب المسلمين في هذه القرون المتعاقبة قول يجيز للمرأة أن تخطب الجمعة بالرجال، حتى في المذاهب البدعية، فيقوم هؤلاء يخرجون علينا اليوم بالمساواة والديمقراطية وتخطب المرأة ولماذا لا تخطب؟ أقل هي من الرجل شأنا؟! هكذا يقولون. ولم يثبت أن امرأة واحدة عبر التاريخ الإسلامي قد أقدمت على هذا الفعل، أو طالبت به على مدى العصور المتعاقبة من عمر أمة الإسلام، لا في عصر النبوة ولا عصر الخلفاء الراشدين ولا عصر التابعين، ولو كان أحد أولى بذلك فعائشة أم المؤمنين. وقد كان في تاريخ الإسلام شيخات كثيرات وعالمات شرعيات، فلم تتبوأ منهن امرأة واحدة هذه القضية وهي منبر الجمعة، فكانت عالمة وفقيهة وعابدة ومشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن لم تكن خطيبة ولا إمامة أبدا، بل إن العامية صاحبة الفطرة السليمة لما حضرت درسا لشيخ يفسر قوله تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [آل عمران:443] قالت: "خرجت إمامة المرأة"، العامية وهي تتعلم في الدرس لما سمعت الآية: وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ وهي مريم أفضل أهل زمانها، قالت العامية: "خرجت إمامة المرأة".
أيها المسلمون، تخيلوا إذًا أن تقوم هذه المرأة ولا بد ومن السنة أن ينظر الرجال إلى الخطب، أليس قد ثبت في السنة أن الصحابة كانوا يستديرون إلى النبي وينظرون إلى وجهه وهو يخطب؟! ووصفوه قالوا: كان إذا خطب احمر وجهه وعلا صوته كأنه منذر جيش، فإذا قامت الدكتورة أو غير الدكتورة بالخطابة والرجال سينظرون إلى الخطيب وهذه هي السنة، فما بالكم؟!
ثم يقولون: حديث أم ورقة، فما قصة حديث أم ورقة؟ إن في هذا الحديث أن النبي أمر أم ورقة أن تؤم أهل دارها. رواه أبو داود والدارقطني. فهل رأيتم في هذا الحديث أنها تؤم الرجال؟! فهي تصلي في دارها، وتؤم أهل دارها من النساء والإماء والفتيات، هذا على فرض صحته.
أيها المسلمون، إن هذه الفتن المتكاثرة التي تخرج علينا اليوم، والتي تصيح في المسلمين، وتنذر بالخطر على العقيدة وعلى الأسس، المناقشات اليوم صارت في الأسس.
يا عباد الله، بين الأمومة والإمامة فرق كبير. "خطيبة الجمعة" إنه عنوان مثير، وحيث إنها ستظهر أمام الناس كاشفة الوجه وهذا قول جمهور العلماء في نظر الخاطب، فإنني أقترح بناء على هذا أن تسمى بخطيبة فعيلة لا من باب اسم الفاعل، بل من باب اسم المفعول يعني المخطوبة، وإذا سميناها خِطِّيبة الجمعة ـ كما يقول العامة ـ فلها وجه، فهي ستنظر إلى كلّ الرجال في المسجد فلعلها تخطب أحدهم، وإذا كانت الصحابة في عهد النبي ينظرون إلى الخطيب فهي الآن ستقول إنها خطيبة فانظروا إلي، وفد يقال: إنها من القواعد من النساء ليست بمغرية، والجواب: لكل ساقطة لاقطة.
ثم إن هذا المكان أصلا لا يجوز للنساء مهما كان درجة جمالها، ولو حاضت ـ يا ترى ـ أثناء الخطبة فهل ستمكث في المسجد لإكمال الخطبة مع إتيانها بجميع الاستعدادات اللازمة، أم ستغادر فورا وتنيب أحدهم لإتمام الخطبة؟! وإذا أتاها ما يأتي النساء بين الخطبة والصلاة فهل ستوكل رجلا أم امرأة مثلها؟! وإذا حاضت أثناء الصلاة فهل ستستخلف أحدا أم ستقول: أكملوها ظهرا؟! وهل ـ يا ترى ـ سيتشجع الشباب الذين لا يصلون ليأتوا إلى المساجد عندما يعلمون بأن هناك امرأة ستخطب ويندفعون لرؤية الخطيبة؟! وإذا أراد بعضهم أن يسأل الخطيبة بعد الصلاة عن سؤال يتعلق بالخطبة أو مسألة شرعية فسيذهب إليها ويجلس أمامها ويسألها، وما الحال إذا كان الموضوع شخصيا؟! فهل إذا كان الموضوع شخصيا سيهمس في أذنها؟! وهل سيكون خلف الإمامة النساء ليسترنها عند السجود أم سيكون الرجال وراءها لتذهب بقية الأحلام والنهى؟!
لما تمنّت أخت أحدهم أن تصلي إماما بالناس في رمضان وقالت: أنا أريد هذا المنصب، ولماذا تحرموننا؟! قال: كم ستصلين من رمضان؟ الشرط أن تصلي الشهر كله، قالت: إلا أسبوع، قال: لا.
عباد الله، مهزلة والله، والله مهزلة، وعجيب أن نرجع إلى الأسس، قضايا لم يكن أحد يتخيل أن يحصل فيها النقاش لأنها محسومة وتاريخيا محسومة، منتهية، لكن الأعداء يعيدوننا دائما إلى هذه المسائل.
اللهم إنا نسألك النجاة يا رب العالمين...
(1/3938)
جريمة السرقة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه, موضوعات عامة
الحدود, الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/2/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمر الله تعالى بطلب الرزق. 2- استعاذة النبي من العجز والكسل. 3- حرمة المال في الإسلام. 4- تحريم السرقة. 5- الأسباب الداعية للسرقة. 6- عقوبة السارق. 7- فوائد تطبيق حدود الله تعالى. 8- التحذير من سرقة الأموال العامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله أمر العبادَ بطلَبِ الرّزق وحثَّهم على ذلك فقال: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت:17]، وقالَ جلّ جلاله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]. فأَمَر العبدَ بطلب الرزق والسّعيِ في تحقيقه، قالَ تعالى: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه [المزمل:20]، فانظر إلى هذا الاقترانِ: هذا يضرِب في سبيلِ الله، وذا يضرِب في طلبِ الرزق، إذًا فطلَب الرِّزق جهادٌ عندما تحسن النية ويحسن القصد. وقد أحلَّ الله للمسلمِين البيعَ فقال: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]، ورغَّب في عمَل الإنسان بنفسه، سئِل : أيُّ الكسبِ أفضل؟ قال: ((عمَلُ الرجل بيدِه وكلُّ بيعٍ مبرور)) [1] ، حرَّم على المسلم سؤالَ الناس ورغَّب المسلم في القناعةِ بما أعطاه الله، وقال: ((لا تزال المسألةُ بوجهِ أحدكم حتى يلقَى الله وليس في وجهِه مزعةُ لحم)) [2] ، ورغَّب في الاكتسابِ فقال: ((لأن يأخذَ أحدكم حبلَه فيحتطب فيبيعه خيرٌ له من أن يسألَ الناسَ أعطوه أم منعوه)) [3] ، وحرّم على المسلِم المكاسبَ الخَبيثةَ وأرشدَه إلى المكاسب الطيّبة، فقال محرّمًا على المسلم أكلَ مال الغير: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29]، وقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51].
أيّها المسلم، وجاءَ في السّنّةِ في دعائِه في دُبُر الصّلاة: ((اللّهمّ إني أعوذ بكَ من الهمِّ والحزنِ ومِن البُخل والجُبن ومن العَجزِ والكسَل ومن غلَبة الدين وقهرِ الرجال)) [4]. فاستعاذَ بالله من العجزِ وهو ترك العمَل مع القدرةِ عليه وتعطيل الإنسانِ قواه وإخلادهِ للكَسَل والخمول وترقّبه ما بأيدِي الناس أو السّعي في الأمور التي لا تليقُ بالمسلِم.
أيها المسلم، وفي الإسلام دعوةٌ للمسلم لاحترامِ أموالِ الآخرين وحِفظِها وصيانتِها وأنّ هذا من الضروريّات التي دعا الإسلام إليها، فأموالُ المسلمين حرامٌ التعدِّي عليها إتلافًا اغتصابًا سَرِقة غشًّا وخِيانة.
أيّها المسلم، ولأجلِ هذا حرِّمَت سرقةُ أموال المسلمين، وجُعِلت السرقة كبيرةً من كبائر الذنوب جريمةً من الجرائم الأخلاقيّة التي لا يتَّصف بها ذو دينٍ صحيح واستقامةٍ على الخير؛ ذلكم ـ أيّها المسلم ـ أنَّ السرقة خلُقٌ ذميم، خلُق رذيل، خلُقٌ يملِي أنّ هذا السارقَ لا قَدرَ له ولا قيمة، ذَلكم أنّ هذا السارقَ عضوٌ أشلّ في مجتمعه، لا يعوَّل عليه ولا يطمأَنّ إليه، ولا يركَن إليه، لماذا؟ لأنّ هذا شخصٌ مجرِم عطَّل القُوَى التي منَحَه الله إياها، منحه الله السمعَ والبصر والعقلَ، ويسَّر له الأمورَ، لكنّه لم يرضَ بهذا، بل سخَّر حواسَّه وقواه في أمور رديئة رَذيلة.
إنَّ السارقَ قد ارتكب خُلقًا سيّئًا، ضعُفت نفسه عن العمل، ضَعفت نفسه عن الإنتاج، ضعُفت نفسه عن التنافسِ في سبُل الخير، وإنما لَجَأ إلى هذه الطّرُق الملتَوِية يعرِّض فيها دينَه، ويعرِّض فيها حياتَه وسمعتَه، ويغامِر وربّما وقع في الفخّ فقُضِي عليه فخَسِر دنياه وآخرَتَه، وإن نال منَ السرقة ما نال، فمال الحرامِ هو سحتٌ وظلم وعدوان، يجعَل قلبَه دائمًا يلهَث، لا يقنَع بالحلال ولا يطمئنّ إليه، بل لو خيِّر هذا بين مَكسب الحلالِ والحرام لكان الحرامُ عنده أحسنَ وألذَّ من الحلال؛ لأنَّ فطرتَه قد انتكسَت وانعكست والعياذ بالله، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8].
أيّها المسلم، الدّاعي للسّرقةِ ليس قِلاًّ في العمل، ولا أنَّ ميادينَ العمل استغرَقَت الكلَّ، لكن هذا جُرم سيّئ وخلُق خبيث، تربَّى عليه بعضُ أولئك، فنشَؤوا من صِغَرهم على هذا الخلُق الرذيل، فما استطَاعوا التخلّصَ منه ولا الصّبرَ عنه، أعاذنا الله وإيّاكم مِن البلاء.
إنها يدٌ خبيثة تمتدّ إلى أموال الناس، تُروّع الآمنين، وتأكل أموالَ الناس ظلمًا وعدوانًا، وربما زيَّنت له نفسُه الخبيثة أن يتوسَّل إلى جريمتِه بسفكِ الدماء والعياذ بالله وقتلِ الأبرياء ونحوِ ذلك مما يترتَّب على هذا البلاءِ، ذلك أنّه قد يواجَه بمن لا يمكِّنه من فعلِه، فليجَأ إلى القتل والعياذ بالله، فيرتكِب الآثام بعد الآثام، وإنَّ السيئة لتدعو إلى السّيّئة مثلها؛ ولهذا جعل الله عقوبةَ السارقِ قطعَ يدِه عقوبةً له على هذا الظلمِ، هذه اليدُ التي لو جُنِي عليها لكانَ وجب فيها نصفُ الدّية، إذًا فإذا سرقَت وخانت هانَت وحُكِم بقطعها وبَتر ذلك العضوِ حتى يراه الآخرون، فيعتبِروا ويتَّعظوا ويعلَموا أنّ هذا مآل السارقين وجزاؤهم في الدنيا، وما عندَ الله لهم من العقوبةِ إن لم يتوبوا أضعافُ ذلك، قال تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا حكمٌ من الله وعقوبةٌ رادعة؛ لتكون مانعةً لهؤلاء وغيرهم، فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ، فتُقطَع يده اليمنى، وإن عاد فاليُسرى، وهكذا حتى يسلَم الناس من شرِّه وبلائه، جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
هذا الحكمُ الشّرعيّ متى طبَّقه المسلِمون وحافظوا عليه فإنهم يضمَنون حِفظَ الأموال واستقرارَ الأمن وقوّتَه؛ لأنّ الأمةَ لا يمكن أن يستقرَّ لها قرار إلا بتنفيذِ أحكام الله، فحدودُ الله التي شرعَها ربّ العالمين رادِعة لأهل الإجرام ومُوقِفة لهم عند حدِّهم وحاجِزة بينهم وبين الاستمرار في رذائِلهم وقبائحهم. حدودُ الله قدَّرها العليم الخبير، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]. ومحمّد سيِّد الأولين والآخرين طبَّق هذا الحكمَ ونفَّذ هذا الحكمَ طاعةً لله وتحكيمًا لشرعه وردعًا لمن تسوّل له نفسُه الإقدامَ على هذه الجريمة، ففِي عهد المصطفَى سرِق من صفوان بنِ أميّة رداؤه من تحت رأسِه، فأتى بالسّارِق للنبيّ ، وكانت قيمةُ هذا الرداء لا تجاوِز عشرين درهمًا، فأمر النبيُّ بقطع يدِ ذلك السارِق، فقال صفوان: يا رسول الله، تقطَع يده في رداء! هو له، قال: ((هلاّ قبل أن تأتِيَني به))، فأمَر بقَطع يدِه [5].
وامرأةٌ من بني مخزوم كانت تستعير المتاعَ وتجحده، وفي بعض الروايات أنها تسرِق، فأمر النبيُّ بقطع يدِها، فهمَّ قريشًا أمرُها وقالوا: من يكلِّم فيها رسولَ الله ؟ فما رأَوا إلاّ أسامة، رأَوا أسامة حِبَّ النبيّ وابن حبّه مولاه وابن مولاه، فكلَّموه أن يشفعَ ليسقِط هذا الحدَّ حتى لا تفتَضِح القبيلة بأن قطِعَت يدُ امرأةٍ من نسائهم، فلمّا كلَّمه غضِب على أسامة وقال: ((أتشفَع في حدٍّ من حدود الله؟!)) ثمّ خطَب النّاس فقال: ((إنما أهلَكَ مَن كان قبلَكم أنهم إذا سرقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرقَ فيهم الضعيف أقاموا الحدَّ عليه، وايم الله لو أنَّ فاطمة بنتَ محمّد قد سرقَت لقطعتُ يدَها))، ثم أمَر بها فقُطعت يدُها [6].
هذا الحكمُ الشّرعيّ عندما ينفِّذه المسلمون طاعةً لله يجِدون لذّةَ ذلك وراحةَ الأمّة وسلامتَها. حدودُ الله عدلٌ وخَير، وحدود الله مصلَحَة للحاضِرِ والمستقبل، وحدود الله عدلٌ لا ظلمَ فيها، وعندما يلمِزُ أعداء الإسلامِ أحكامَ الشريعة ويعدّونها إذلالاً للإنسانيّة كما يزعمون إنهم بهذا يريدون الفوضيَّاتِ بكلِّ أنواعِها، ويريدون أن تعيشَ الأمّة فوضى لا قدَّر الله. إنَّ حدودَ الله عدل ولا جَورَ فيها، يَدٌ كانت ذا شرفٍ وقيمة، لكن لما زلَّت وهانت قطِعَت بمقدارِ رُبعِ دينار، فكان في شرعِ رسول الله أنَّ اليدَ تقطَع إذا سرَقَت رُبعَ دينار أي: ما يعادل ريالَين أو نحو ذلك؛ لأنَّ النظر ليس لقلَّة المسروقِ أو كثرتِه، النظرُ أنها جريمة يجِب استِئصالها من أفراد المجتمع والقضاءُ عليها، وفي الحديث: ((لعَنَ الله السارق يسرِق الحبل فتقطَع يدُه، ولعن الله السارقَ يسرِق البيضةَ فتُقطع يده)) [7] ، وقَطَع أمير المؤمنين عثمان بنُ عفان رضي الله عنه يدَ سارِقٍ سرَق أترُجّة قوِّمَت بربعِ دينار فقطَع يدَه فيها [8].
هكَذا جاءت شريعةُ الإسلام لترسِيَ دعائمَ الأمن والاستقرار، وتقضي على الفساد، وتوجِّهَ المجتمع إلى الجدِّ في الطلب الرّزق والبُعد عن المسالك الخبيثةِ والطّرُق السّيّئة.
أيّها المسلِم، إنّك ترى السُّرّاق ومروِّجِي المخدِّرات وأمثالَهم، تراهم عالةً على أمّتهم، عالة على مجتَمَعهم وأسَرِهم، أناس جعلوا همَّهم طلبَ المادّة بالطّرق الملتوِية السيّئة، فما هي إلا أنهم يقضُونَ على حياتهم، وما ينالونه من تلكَ الأموال لا يجعل الله فيها بركةً، بل هي أموالٌ خاسِرة وأموال ذاهِبة، مهما جمَعوها فلا بدّ أن يسلِّطَ الله عليها ما يفرِّقها ويعود أرباُبها فقراءَ وأذلاّء في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلم، إنّ محمَّدًا أقام الحدودَ في مجتَمَعِه، وهي الحدود الصالِحة لكلِّ مجتمع إلى أن تقومَ الساعة، فلا يقِي المسلمين شرَّ السّرَّاق والأراذل إلا حدودُ الله إذا أقيمَت على أولئك ورُدِعوا بهذا الحدِّ الشّرعيّ؛ ليرَى الناس هذا مقطوعَ اليدِ اليمنى بينهم، ما سبَبُ هذا؟ قيل: إنه سرق، ويتحدَّث الناس عن جريمته، فإنها رادِعة لمن تسوِّل له نفسُه الفسادَ والإفساد.
أسأل الله أن يعيذَنا وإيّاكم من شرِّ أنفسنا، وأن يصلِح أقوالنا وأعمالنا، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين ويثبِّت مطيعَهم ويرزقَ الجميع التمسّك بالحقِّ والهدى.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] مدار هذا الحديث على وائل بن داود واختلف عليه فيه: فأخرجه أحمد (3/466)، والطبراني في الكبير (22/197)، والحاكم (2158)، والبيهقي في الكبرى (5/236) وفي الشعب (1226) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة، قال البيهقي: "هكذا رواه شريك بن عبد الله القاضي وغلط فيه في موضعين، أحدهما: في قوله: جميع بن عمير وإنما هو سعيد بن عمير، والآخر: في وصله وإنما رواه غيره عن وائل مرسلا". وأخرجه أحمد (4/141)، والبزار (3731)، والطبراني في الكبير (4/276)، والحاكم (2160)، والبيهقي في الشعب (1229) عن المسعودي عن وائل عن عباية عن رافع بن خديج، ونقل البيهقي عن الإمام أحمد قوله: "رواه المسعودي عن وائل فغلط في إسناده". وأخرجه البزار (3798) عن شريك عن وائل عن جميع بن عمير عن عمه البراء، والمحفوظ عن شريك ما تقدم. وأخرجه البيهقي في الشعب (1226) وفي الكبرى (5/263) عن الثوري عن وائل عن سعيد بن عمير عن عمه البراء، وصححه الحاكم (2159)، لكن المحفوظ عن الثوري الإرسال كما سيأتي. وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/554) عن أبي معاوية، والبيهقي في الشعب (1225) عن الثوري كلاهما عن سعيد بن عمير مرسلا، قال البيهقي في الكبرى (5/263): "هذا هو المحفوظ مرسلا"، ونقل في الشعب عن البخاري قوله: "أسنده بعضهم وهو خطأ"، وقال أبو حاتم كما في العلل لابنه (2/443): "المرسل أشبه". وللحديث شاهد عن ابن عمر، أخرجه الطبراني في الأوسط (2140)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/391): "هذا حديث باطل، وقدامة ليس بقوي"، وقال المنذري في الترغيب (2/334): "رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات"، وقال الحافظ في التلخيص (3/3): "رجاله لا بأس بهم". وفي الباب أيضا عن علي، أخرجه ابن عدي في الكامل (2/65)، قال أبو حاتم كما في العلل لابنه (1/390): "هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، بهلول ذاهب الحديث".
[2] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: من سأل الناس تكثرًا (1475)، ومسلم في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس (1040) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه البخاري في الزكاة (1470، 1480)، ومسلم في الزكاة، باب: كراهة المسألة للناس (1042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرج أبو داود في الصلاة (1555) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: دخل رسول ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة فقال: ((يا أبا أمامة ما لي أراك جالسا في المسجد في غير وقت الصلاة؟!)) قال: هموم لزمتني وديون يا رسول الله، قال: ((أفلا أعلمك كلاما إذا أنت قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى عنك دينك؟)) قال: قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)) الحديث، قال المنذري: "في إسناده غسان بن عوف وهو بصري وقد ضعف"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (1141).
[5] أخرجه مالك في الحدود (1579)، وأحمد (6/465، 466)، وأبو داود في الحدود (4394)، والنسائي في قطع السارق (4879، 4883، 4884)، وابن ماجه في الحدود (2595) عن صفوان رضي الله عنه، وحسنه ابن حجر في موافقة الخبر الخبر (1/495)، وصححه الألباني في الإرواء (2317).
[6] أخرجه البخاري في المغازي (4304)، ومسلم في الحدود (1688) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه البخاري في الحدود (6783، 6799)، ومسلم في الحدود (1697) من حديث أبي هريرة رضي الله عنها.
[8] رواه مالك في الحدود (1574).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بَعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، حدودُ الله جامِعة بين أمرَين: رَدع للمجرمين وإيقاف لهم عند حدِّهم حتى يرتَدِعوا ويعلَموا أنّه لا مَناصَ مِن تنفيذِ حدودِ الله، فتدعُو إلى ارتداع المجرمين وإمساكِهم عن شرّهم، وثاني ذلك أنَّ الحدودَ طُهرة لمن أقيمَت عَليه، تمحِّصه وتطهِّره من جريمته، ولذا قال الله في السّارق: فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:39]. إذًا السارق ظالم، أكَل مالاً بغير حقّ، وأخذ ما لا يستحقّ، وعطَّل قواه التي لو وجَّهها لكان صانعًا عامِلاً منتجًا، لكنّ الرذيلةَ في قلبه هبطت به إلى الحضيضِ، فجَعلته يرتقب أموال الناس فيسرِقها والعياذ بالله.
جيء بسارقٍ للنبيّ فقال له: ((ما إخالك سرقتَ)) ، قال: بلى سرقتُ، فردَّدها عليه ثلاثَ مرّات، ثم قطع يده، ثم أُتي به فقال: استغفِر لي، قال: ((اللّهمّ اغفِر له))، فدعا له [1]. وفي بعض الألفاظ عن عائشةَ في قصّة المرأة التي قطِعَت يدُها قالت: كانت تأتيني فتشكو إلى حاجتَها فأرفعها لرسول الله فيقضِي حاجتها [2] ، ولما حسُنَت توبَتُها قال النبيّ لعائشة: ((أخبرِيها بأنَّ يدَها أمامها في الجنّة)) [3] ؛ لأنَّ من تاب من ظلمه وتابَ من جُرمه فإنَّ الله يتوب عليه ويبدِّل سيئاتِه حسنات، لكن البلاءُ الاستمرار على الجرائمِ وعدَم الإقلاع عنها والاعتياضِ بها عن المكاسب الشريفةِ والمكاسب الطيبة مكاسبِ ذوِي الهمَم العالية الذين لا يرضَونَ بالدّنايا، ولكن يزاحمون في ميادين العمل، فينتِجون ويحقِّقون خيرًا لهم ولأسَرهم، أمّا السّرَّاق وأمثالهم فهم والعياذ بالله يلهَثون كلَّ ساعةٍ، لا يملأ قلوبَهم شيئ، ولا يقنِعهم شيء؛ لأنهم والعياذ بالله سلَكوا مسالكَ خطيرة ومسالِك خبيثة، نسأل الله أن يعافيَنا وسائرَ المسلمين من كلِّ بلاء.
وإذا كانت هذه [في] سرقَة الأموال الخاصّة فكَذَلك سرقةُ أموال العامة فإنها غلّ، يقول الله جلّ وعلا: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:161].
فالحذَر الحذرَ ـ أيها المسلم ـ من كل مكسبٍ سيّئ، رَبُّوا شبابكم من صِغَرهم، وعوِّدهم على المروءة والشهامة، وجنِّبوهم طريقَ الرّذيلة، وأَغنوهم بما يكفّهم عن هذه الرذيلةِ، ولا تقِرّوهم على خطأ في هذا الباب، خذُوا على أيديهم، ووجِّهوهم التوجيهَ السّليم، فإن نشؤوا على العفّة وسموّ الهمّة نشؤوا نشأةً صالحة، وإن نشؤوا على هذه الرذائل سيطَرَت هذه الأمور على قلوبهم وأفكارهم، فأعيَاكم أن تخلِّصوهم منها، فربّوا الصّغار على الخيرِ، وحذِّروهم من الكسَل، ولا تدَعوهم في البيوت نومًا في النّهار وسهرًا في الليل وفضائيّات تدرِّب على كلِّ بلاء، خذوا على أيديهم ووجِّهوهم لعلَّ الله أن ينشِئهم على الخير والصلاح، فإنَّ العملَ شرَف للإنسان، والطّرُق الرذيلة هوان لابن آدم، عافانا الله وإيّاكم من ذلك.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد بن عبد الله كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] رواه أحمد (5/293)، وأبو داود في الحدود (4380)، والنسائي في قطع السارق (4877)، وابن ماجه في الحدود (2597)، والدارمي في الحدود (2303) عن أبي أمية المخزومي رضي الله عنه نحوه، وضعفه الألباني في الإرواء (2426).
[2] تقدم حديث عائشة هذا، أخرجه البخاري في المغازي (4304)، ومسلم في الحدود (1688) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] ينظر من أخرجه.
(1/3939)
خطبة عيد الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المداومة على العمل الصالح بعد رمضان. 2- حكم الغناء. 3- هدي النبي في العيد. 4- الحكمة من عيد الفطر. 5- تميز المسلم عن غيره. 6- نصائح للشباب المسلم وللمرأة المسلمة. 7- التحذير من بعض الأعمال في العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الجمع الكريم، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى.
عباد الله، إن يومكم هذا يوم عظيم وموسم كريم، ((وإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
أيها الإخوة والأخوات، يا من ودعتم شهرًا كريمًا وموسمًا عظيمًا، أقبلتم على تلاوة القرآن، وصمتم النهار، وقمتم ما تيسر لكم من الليل، وأكثرتم من الذكر والدعاء، وتصدقتم بجود وسخاء، فأخرجتم زكاة أموالكم، وأخرجتم زكاة الفطر طيبة بها نفوسكم، وتقربتم إلى ربكم بأنواع الطاعات رجاء ثوابه وخوف عقابه، كم من جهود بذلت، وكم من أجساد تعبت، وكم من طاعات بذلت، وكم قلوب وجلت وكم من أكف رفعت، وكم من دموع ذرفت، وكم من عبرات سكبت في موسم الرحمة والمغفرة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
أيها الإخوة والأخوات، لقد مر هذا الشهر الكريم بخيراته وبركاته، مضى من أعمارنا وهو شاهد لنا أو علينا، بما أودعناه فيه من أعمال، فعلينا أيها المستمعون الأكارم أن نواصل الأعمال بعد رمضان، فكما كنَّا في رمضان علينا أن نكون كذلك بعد رمضان، علينا أن نتأسى بسلفنا الصالح رحمهم الله تعالى، الذين توجل قلوبهم وتحزن نفوسهم عندما ينتهي شهر رمضان؛ لأنهم يخافون، ألا يتقبل منهم عملهم، ولذا فقد كانوا يدعون الله تبارك وتعالى بعد رمضان ستة أشهر أن يتقبله منهم، وستة أشهر بعد رمضان أن يبلغهم رمضان، فمن الغريب أن يسيء أبناء الإسلام فهم شعائر الإسلام، فلا يعملون الطاعات إلا في مواسم معينة وأوقات محددة، فإذا انتهت كان ذلك آخر عهدهم بها، نعوذ بالله من الضلال بعد الهدى، وعليكم أن تسارعوا في الخيرات كما كنتم في رمضان.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
هذه الكلمات قالها رسول الله كما ثبت ذلك عند البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَبِمُزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللّهِ ؟! وَذلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ الرحمة المهداة: ((دعهما يَا أَبَا بَكْرٍ؛ إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)) ، وعند النسائي: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا جَارِيَتانِ تَضْرِبَانِ بِدُفَّيْنِ، فَانْتَهَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ النَّبِيُّ : ((دَعْهُنَّ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا)) ، وعند ابن ماجه: عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ، تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الأَنْصَارُ فِي يَوْمِ بُعَاثٍ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَبِمَزْمُورِ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ النَّبِيِّ ؟! وَذلِكَ فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ كيف غضب أبو بكر رضي الله عنه لأنه يعلم أن الغناء محرم في شريعة الإسلام، ولكن النبي بين له أن من الغناء ما هو مباح في يوم العيد، لا كما يدعي البعض بأنه مباح في كل وقت، قال الطبري رحمه الله: "هذا الحديث حجتنا لأن أبا بكر سمى ذلك مزمور الشيطان، ولم ينكر النبي على أبي بكر قوله، إنما منعه من التغليظ في الإنكار لأنهم في يوم عيد".
ثم إني أتساءل: أين الغناء بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث من غناء اليوم من امرأة أو أمرد بآلات ومزامير وغزليات ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! مع أن رسول الله حذر من ذلك، ففيما رواه البخاري تعليقًا ووصله أبو داود عن أبي مالك الأشعري: سمعَتُ النبيَّ يقولُ: ((لَيَكُونَنَّ في أُمَّتِي أقوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحرير والخَمْرَ والمعازفَ))، الحِرَ أي: يستحلون الزنا عياذا بالله. وفي صحيح ابن حبان عن أبي مالكٍ الأشْعرِيَّ أنه سَمِع رسولَ الله يقول: ((لَيَكُونَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحَرِيرَ والخَمْرَ والمَعَازِفَ)). وروى النسائي عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْوَلِيدِ كِتَابًا فِيه: "وَإظْهَارُكَ الْمَعَازِفَ وَالْمِزْمَارَ بِدْعَةٌ فِي الإسْلاَمِ، وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ إلَيْكَ مَنْ يَجُزُّ جُمَّتَكَ جُمَّةَ السُّوءِ".
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
فها نحن ـ أيها الإخوة والأخوات ـ نستقبل عيد الفطر المبارك الذي شرع عقب شهر رمضان إظهارًا للقيام بشكر الله تعالى، على نعمة التوفيق من أداء عبادة الصيام، وتقربًا إلى الله تعالى بإطعام الطعام وصلة الأرحام، وابتهاجًا بهذا اليوم المبارك الذي يشعر فيه المسلمون بتآخيهم وتوادهم وتراحمهم، فكان من هديه التكبير في ليلة هذا اليوم، وأن يغتسل ويتجمل ويتطيب ويلبس الجديد من الثياب، كما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يلبس أحسن ثيابه في العيدين.
وكان يأكل قبل الخروج إلى صلاة عيد الفطر، لما رواه الترمذي عن عبدِ الله بن بُرَيْدَةَ عن أَبيهِ قال: كان النبيُّ لا يخرجُ يومَ الفطرِ حتى يَطْعمَ، ولاَ يَطْعَمُ يومَ الأضْحَى حتى يُصَلِّيَ. وقد استَحبَّ قومٌ مِن أَهلِ العلمِ أَن لا يَخْرُجَ يَوْمَ الفِطْرِ حتى يَطْعَمَ شيئًا. ويُسْتَحبُّ له أَن يُفْطِرَ على تَمْرٍ، ولا يطْعَمُ يومَ الأضحى حتى يَرجِعَ. وروى ابن ماجه عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ لاَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ تَمَرَاتٍ. وفي السنن الكبرى للبيهقي عن ابن عُمَرَ أَنَّهُ كان يغتسلُ في العيدينِ اغتسالَهُ من الجَنَابَةِ، وعن ابنِ عُمَرَ أنهُ كَانَ يَغْتَسِلُ يومَ الفِطْرِ قبلَ أَنْ يَغْدُوَ.
وعن خروج النساء إلى مصلى العيد روى البخاري عن أُمِّ عَطيةَ قالت: أُمِرْنا أن نُخْرِجَ الحُيَّضَ يومَ العِيدَينِ وذَواتِ الخُدورِ، فَيشْهدنَ جَماعةَ المسلمينَ وَدعْوتَهم، وَيَعتزِلُ الحُيَّضُ عن مُصلاّهُنَّ. قالتِ امرأةٌ: يا رسولَ اللّهِ إِحدانا ليس لها جِلبابٌ! قال: ((لِتُلْبِسْها صاحِبَتُها مِن جلبابِها)).
ومن هديه في صلاة العيد أن يصليها في الخلاء، ثم يرجع من طريق غير الذي ذهب منه، ففي صحيح ابن حبان عن أبي هُريرَة قالَ: كانَ النبيُّ إذا خَرَجَ إلى العيدينِ رَجَعَ في غيرِ الطَّريقِ الَّذي خَرَجَ منهُ.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
أيها الإخوة الكرام الأحبة، لقد جعل الله سبحانه وتعالى عيد الفطر ليحتفل فيه المسلمون ويروحوا عن أنفسهم بعد امتثالهم لأمره عز وجل في القيام بعبادة الصيام والقيام، وسمي العيد عيدًا لأن لله عز وجل فيه عوائد الإحسان، أي: أنواع الإحسان العائدة على عباده في كل يوم، منها: الفطر بعد المنع عن الطعام، وفيه صدقة الفطر، ولأن العادة فيه الفرح والسرور والنشاط والحبور، سرورًا بنعمة الله تعالى أن من عليهم بإتمام شهر الصيام، والحكمة من هذا العيد أن الله تعالى يكافئ عباده بهذه المناسبة إذا قاموا بحقها.
وهذا العيد شرعه الله تعالى لعباده ليتميزوا به عن غيرهم، روى أبو داود وأحمد والنسائي على شرط مسلم رحمه الله عن أنَسٍ قال: قَدِمَ رسولُ الله المَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلعَبُونَ فيهِمَا فقال: ((مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟)) قالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا في الْجَاهِليَّةِ، فقال رسولُ الله : ((إنَّ الله قَدْ أبْدَلَكُم بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ)) ، وعند النسائي: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ لأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ قَالَ: ((كَانَ لَكُمْ يَوْمانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا وَقَدْ أَبْدَلَكُمُ اللَّهُ بِهِمَا خَيْر مِنْهُمَا يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الأَضْحَى)).
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)) ، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
ففي هذين اليومين يتفضل الله تعالى بكرمه وجوده ورحمته على من قام بحق هذين العيدين، فإن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله ولا تركهم يلعبون فيهما، بل قال: ((إنَّ الله قَدْ أبْدَلَكُم بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ))، وهذا الإبدال يقتضي ترك أعياد الجاهليين والتمسك بالبديل.
أما الأعياد التي يبتدعها الناس ويحدثون فيها من اللهو والبذخ وارتكاب ما حرم الله تعالى باسم المواسم والمناسبات وأعياد الميلاد ورأس السنة وما إلى ذلك فلا يخفى على أحد أنها مما أُحدث في الدين، ورسول الله يحذر من ذلك، فعن عائشةَ رضيَ الله عنها قالت: قال رسولُ الله : ((مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ فيهِ فهوَ رَدّ)). فمن الغريب أن يسيء أبناء الإسلام الفهم لشعائر الإسلام، فإن سوء الفهم للبعض ليس دليلاً على ضعف الإسلام، فالإسلام دين الله تعالى لا يزال عزيزًا قويًا.
وكيف لا؟! فلقد جاء الإسلام وكانت حياة الناس في الجاهلية مليئة بالاضطراب والفوضى؛ فعقيدتهم عبادة الأصنام والأوثان، وشريعتهم شريعة الغاب بلا سُنة ولا كتاب، وشعارهم الظلم والتسلط والبغي والعدوان، إلى أن أذن الله تعالى ببزوغ فجر الإسلام وإشراق شمس الإيمان ببعثة خير الأنام، قال تعالى: كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29]، وقال تعالى: قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
جاء الإسلام دينًا كاملاً ونظامًا شاملاً حوى من العقائد أصحها وأسلمها، ومن العبادات أيسرها وأسمحها، ومن الأخلاق أزكاها وأشرفها، كتب الله بقاءه، وضمن حفظه، وجعله صالحًا لكل زمان ومكان، فالحمد الله الذي هدنا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدنا الله.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
وإذا كانت كل أمة تفاخر بأنظمتها وتعتز بمبادئها من ديمقراطية واشتراكية ورأسمالية وشيوعية، فإننا ـ نحن المسلمين ـ مطالبون بالاعتزاز بديننا لأنه شرع ربنا، قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ ?للَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، وقال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
فديننا ـ يا عباد الله ـ ليس من صنع البشر، بل هو من عند الله عز وجل، إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:19]، فإذا تمرد أحدنا على هذا الدين فإن ذلك بداية الهزيمة.
وإنه لمن المؤسف حقًا أن يسيء أبناء الإسلام الفهم لشعائر هذا الدين، فنرى بعض أبناء الإسلام وقد أصيب بالانهزامية أمام الآخرين، وأصبح أُذنًا لكل ناعق، يسير مع كل مارق، يسير مع أعداء الإسلام في تقليد وتبعية، ويقول: إن ذلك دبلوماسية، ويعد ذلك من التقدم والمدنية، كيف يتنازل أبناء الإسلام عن دينهم وإسلامُهم حريص على تميزيهم عن غيرهم؟! ولذلك كان النهي عن التشبه بالكفار أحد التكاليف الربانية. كيف يتنازل أبناء الإسلام عن دينهم والله تعالى ينهاهم عن موالاة الكفار إذ يقول تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [المائدة:51]؟! كيف يتنازل أبناء الإسلام عن دينهم ورسول الله ينهاهم ويحذرهم من التشبه بالكفار فعن ابنِ عُمَرَ قالَ رَسُولُ الله : ((مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ)) رواه أحمد وأبو داود وقال ابن تيمية رحمه الله: "إسناده جيد"؟! كيف يتنازل أبناء الإسلام عن دينهم وقد أمرهم رسول الله بمخالفة اليهود والنصارى في تعجيل الإفطار وفي تأخير السحور، وأن يُصلوا في نعالهم، وأن يوجهوا قبورهم إلى القبلة، وفي صيام يوم عاشوراء بصيام يوم قبله وبصيام يوم بعده، وأن يخالفوهم أيضًا في أعيادهم؟!
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا))، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
أيها الإخوة الكرام الأحبة، يا من ودعتم شهرًا كريمًا وموسمًا كريمًا، إن أعداء الإسلام أساؤوا الظن بشريعة الإسلام لما رأوا أبناء الإسلام تهاونوا في إسلامهم، فبذلوا جهودهم ضد هذا الدين، فنفذوا إلى مناهج تعليم الأمة، وحاولوا أن يغيروا مناهجها ليوجدوا مناهج إلحادية، حتى تتربي الأجيال تربية غير إسلامية، بالتركيز على اللغات الغربية كالإنكليزية والفرنسية أو غيرها، ونفذوا إلى وسائل إعلام الأمة، فجعلوا وسائل إعلام هدامة لا تخدم قضايا الأمة، ولا تحل مشاكلها، إنما هي بعيدة عن دينها وأخلاق إسلامها، نفذوا إلى اقتصاد الأمة فأقاموا اقتصادًا ربويًا بعيدًا عن تعاليم الإسلام ومبادئه، فانتشرت البنوك الربوية، وبذلك تخضع الأمة لاقتصاد ربوي، نفذوا لمجتمعات الأمة، وأشعلوا نار الفتنة بين أبنائها، وحاولوا أن يصبغوا هذه المجتمعات بصبغة غربية؛ كل ذلك لإيقاف زحف هذا الدين، ولكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين، قال الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32].
فها أنتم ـ يا عباد الله ـ أقبلتم لإحياء سنة نبيكم، فصليتم صلاة العيد التي تؤدى في صباح أول يوم من شهر شوال، والتي يخرج فيها المسلم والمسلمة بعد تمضية شهر في الصيام والقيام ومجاهدة النفس إلى أيام الفرح والسرور التي قال فيها رسول الله : ((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)) رواه البخاري ومسلم، فتمسكوا بدينكم وعضوا عليه بالنواجذ.
ويا أيها الرجال، استوصوا بالنساء خيرًا عملاً بوصية رسول الله، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((أَكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ)) رواه الترمذي وابن حبان في صحيحه وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وروى مسلم في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)). لا يَفْرَك أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر، واعدلوا بين نسائكم واعدلوا بين أبنائكم.
ويا شباب الإسلام، يا أبناء اليوم ورجال الغد، كونوا شبابًا فاهمًا واعيًا بدينه، واحذروا من أفكار أعداء الإسلام، واحذروا من الدعاوى المضللة، واحذروا من دعاة العلمانية الذين يريدون أن يفصلوا الدين عن الحياة، ويفصلوا الدين عن الدولة، واحذروا من الخمر والمخدرات وجميع المسكرات، فإنها مدمرة للأخلاق، ويا شباب الإسلام، اعلموا أن من الشباب من يفهم العيد على أنه انطلاق للغرائز وممارسة للفوضى من غير تحرج ولا حياء، كما يحدث في بلاد أوربا، فأعيادنا ليست كأعيادهم.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
ويا أيتها المسلمة العفيفة الشريفة، اعلمي أن وظيفة المرأة ودورها خطير في داخل أسرتها وفي تربية أبنائها، فاحذري النداءات المريضة والمغرضة من أشباه الرجال أعداء المرأة الذين يدعون ليل نهار إلى خروج المرأة للعمل على إطلاقه، سواء كان ذلك لعذر أم لغير عذر، وسواء كان مناسبًا للمرأة أم غير مناسب، إنها دعوة لهدم البيت الآمن، فمن استجابت إلى تلك الدعوى سوف تدفع الثمن من كرامتها، وسوف تدفع الثمن من عفتها، وسوف تدفع الثمن من راحتها ومن تربية أبنائها، قال تعالى: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب:33]، أي: اِلْزمنَ بيوتكن.
فيا أيتها الزوجة المؤمنة، كوني عونًا لزوجك على طاعة الله تعالى، وقومي بمسؤولياتك في بيتك، ولا تعتمدي على العاملات في تربية أبنائك، فأنت في بيتك راعية ومسؤولة عن رعيتك، واهتمي بأبنائك، فمن الغريب أن كثيرًا من النساء يكثرن من الدعاء على أنفسهن أو على أبنائهن بالموت والهلاك، فهذا أمر خطير، فإن دعاء الوالد مستجاب، فاجعلي دعواتك لهم بالهداية والصلاح والتوفيق، وحافظي على صلاتك وأديها في وقتها، واحذري من مجالس الغيبة والنميمة.
أيتها الأخت المسلمة، احذري من دعوة الجاهلية، فلقد اتخذت الجاهلية الحديثة المرأة سلعة تباع وتشترى، واعتبرتها تسلية ومتعة، وجعلتها تطوف في الشوارع، تفخر بعريها وعبوديتها لبيوت الأزياء وأساتذة الديكور والتجميل، عرضوا صورها بشكل فاضح مخزٍ، ونادوا بمزيد من التهتك والابتذال باسم التحرير، باسم تحرير المرأة، وباسم التقدم والحضارة، ثم جاء أذنابهم في بلاد المسلمين ليدفعوا المرأة المسلمة إلى هذه الهاوية، فجعلوها ترقص باسم الوطن والتحرير، وتتبرج وتكشف عن وجهها باسم الحضارة والمدنية، فاحذري أيتها المؤمنة، واقتدي بأمهات المؤمنين، فهن أطهر نساء وأعف وأعلم النساء.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا))، الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
الحمدُ لله وكفى، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهدُ أن محمدًا عبدهُ ورسولُهُ.
أيها الإخوة الكرام الأحبة، إني محذر من بعض الأعمال التي تحدث من البعض في أيام العيد، وهي:
1- إحياء ليلة العيد بالصلاة، وأما ما ورد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَتَي الْعِيدَيْنِ مُحْتَسِبًا لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ)) رواه ابن ماجه فهو حديث شديد الضعف، بل حكم عليه بالوضع، ولم يثبت عنه في إحياء ليلة العيد ما يستند عليه. 2– حث الناس على الخروج إلى المقابر لزيارة الموتى. 3– إقامة حفلات ليلية يحدث فيها من المنكرات من اختلاط الرجال بالنساء وشرب ما حرم الله تعالى. 4– اللعب بالنار والمفرقعات، وارتداء ملابس وقبعات، وتعليق أوراق الزينة في البيوت والمحلات، وهذه الزينة تحمل أشكال الصليب، وهذا الفعل فيه تشبه بفعل الكفار. 5– إحياء ليالي العيد بالسهر وحفلات الرقص واستماع الأغاني والموسيقى الصاخبة وغير الصاخبة. 6– الإسراف في الشرب والطعام. 7– هجر المساجد وترك صلاة الجمعة والجماعات. 8– خروج النساء إلى الأسواق متبرجات متزينات متعطرات، وهذا فيه ما فيه من البلاء العظيم والشر المستطير. 9– المصافحة بين المرأة والرجل الأجنبي بدعوى التهنئة بالعيد، وهي من المنكرات والعادات القبيحة المذمومة.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ((إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهذَا عِيدُنَا)).
اللهم اجعله عيدًا سعيدًا وأعده أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، اللهم أعده على الأمة الإسلامية وقد تحقق لها ما تصبو إليه من عزة وكرامة وعودة للمسجد الأقصى، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/3940)
الإعلام بين الإفساد ونصر الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
8/2/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قوا أنفسكم وأهليكم نارا. 2- كثرة وسائل الشر. 3- النهضة الإعلامية. 4- تنوع القنوات الفضائية في وسائلها وأهدافها. 5- دور الإعلام في توجيه المجتمع. 6- ضرورة التمييز بين القنوات الفضائية. 7- واجب الإعلام الإسلامي. 8- وصية رجال الإعلام بتقوى الله. 9- الحرب الإعلامية على الإسلام والمسلمين. 10- ترويج الإعلام الغربي لقضية إمامة المرأة في صلاة الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلَّ جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أخي المسلِم، في هذِه الآيةِ أمرٌ مِنَ الله لعبادِه المؤمِنين المستجيبِين لله ورسولِه السامِعين المطيعِين، آمَنَت قلوبهم، وصدَّق ذلك الأعمالُ بالجوارح، يوجِّه الله الخطابَ لأهل الإيمان قائلاً لهم: قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ، قوا أنفسكم النارَ، وقوا أهليكم النَّار. يتَساءَل السائل: كيف لي أن أقِيَ نفسي النار؟! وكيف لي أن أقِيَ أهلِي النار؟! نعم، وقايتُك لنفسك النار الأخذُ بالأسباب التي تبعِدك عنها وتحول بينك وبينها بتوفيقٍ من الله، وكذلك أهلُك تقيهم النار بتحذيرِهم من الشرِّ ووسائله والأسبابِ المقرِّبة له.
أيّها المسلم، نقِي أنفسَنا النارَ، نقيها عذابَ الله، نقيها سخَطَ الله، نأخذ بكلِّ سببٍ يقينا عذابَ الله، ونبتعِد عن كلِّ سببٍ يوقعنا في عذابِ الله، نحصِّن أنفسَنا بوحيِ الله؛ ليسلَمَ لنا ديننا، ويبقَى لنا معتقدُنا السّليم، وتَسلَم أخلاقنا من الفسادِ والانحلال، ويسعدَ مجتمعُنا بأمنٍ فكريّ غير ملوَّث بآراء البِدَع والضّلالات والأفكارِ المناوئة للإسلام.
أيّها المسلم، نَفسُك أمانةٌ عندك، فأنت إمّا أن تسعَى في تزكيَتِها وتطهيرِها والسّموِّ بها إلى الكمالِ، وإمّا أن تسعى في إذلالِها وإهانَتِها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10]، وفي الحديثِ عنه قال: ((كلُّ الناسِ يغدو، فبائعٌ نفسَه؛ فمعتِقُها أو موبقها)) [1].
أيّها المسلمون، إنّ هناك وسائلَ للشّرّ قد تكاثرَت وتعدَّدت وتنوَّعَت الأساليب، وكلُّها تهدِف إلى هدفٍ واحد زعزعةِ عقيدةِ المسلم قبل كلِّ شيء، إضعافِ الإيمان في قلبه، تشكيكه في ثوابتِ دينه، تَشكيكه في قِيَم إسلامِه وأخلاقه، البُعد به عن الفَضائلِ وتهوين الرذائل والسَّعي في مَسخ الفِطَر والقِيَم والأخلاقِ الكريمة.
أيّها المسلم، إنَّ العالَمَ يشاهِد اليومَ نهضةُ إعلاميّة عظيمة، تمثَّلت في قنواتٍ فضائيّة متعدِّدة مختلِفة الاتِّجاهات، فما بين قنواتٍ أخذت على عاتِقِها حَربَ العقيدة محارَبَة العقيدةِ السليمة والطَّعن فيها وتَشكِيك المسلم فيها، وما بين قنواتٍ فضائيّة أخذت على عاتقِها تدميرَ قِيَم الأمة وأخلاقها، وما بين قنواتٍ فضائيّة اتَّخذت مسارًا آخَر لتفكيك الأمّة والطعن في بعضها البعض ومحاولَة إيجاد البغضاء بين الشعوبِ الإسلاميّة.
أيّها المسلمون، للإعلامِ دورُه الفعّال في توجيه الفِكر ورَسمِ الطّريق للإنسانِ، لكن ليتَّقِ المسلم ربَّه وليحصِّن نفسَه بشرع الله؛ ليكونَ ذلك حاجزًا بينَه وبين التأثُّر بهذا الإعلامِ الجائِر الباطِل، وما ذاك إلاّ بالإعراضِ عن كثيرٍ من قنواتِه، وأن تأمَّلَ قبلَ أن يشاهِدَ وينظُر: ماذا تحمِله تلكم القنوات؟ ما هي أفكارُهم وآراؤهم؟ ومَن هم القائِمون عليها؟ وما أهدافُهم ممّا ينشرون ويعلِنون؟ فإن يكن ذا رأيٍ سديد وإيمانٍ صادق اتَّقى الله في نفسِه وأعرَض عن كلِّ باطل، اللهمّ إلاّ أن يكونَ ذا قَلَم سيّال وأسلوبٍ جذّاب يحاول أن يدحَضَ الباطلَ ويقيمَ الحجّة عليه، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18]، فمن كانت هذه غايَته؛ شاهَد ليَنقُد وليوضِحَ الخطأَ وليبيِّن الضلال فتلك دعوةٌ إلى الله وإلى دينِه، لكن للأسفِ الشديد مجرّدُ المشاهدةِ للتّسلية والانتقال من قناةٍ إلى أخرَى، وكم تحمِل تلكِ القنواتُ من طيّاتها من حربٍ على الإسلام وحربٍ على القِيَم والفضائل وتجسيدِ أسباب الشرِّ للانحرافِ بالشباب المسلِم من رجالٍ ونساء عن مسيرتِه الصحيحة وإيقاعِه في الضلال.
أيّها المسلم، لنَقِ أنفسَنا عذابَ الله، ليكن عندنا فرقٌ بين ما ينشَر ويعلَن، وتمييزٌ صادِق لنستبينَ ما هو الإعلام النافِع من الإعلام الضارّ، فما كلُّ إعلامٍ نافع، فكم من إعلامٍ هو حَرب على الإسلامِ وأهلِه، وكم مِن إعلامٍ حربٌ على الفضائل، وكم من إعلامٍ مروِّج للدِّعايات المضلِّلة والأفكار المنحرِفة والأخلاق السّافلة، فإن يكن لدَيك تمييز لهذا استَطعتَ بتوفيقٍ منَ الله أن تنجوَ من تأثير هذه القنواتِ الضّالّة، وتميِّز بين إعلامٍ صادق أريد به خيرًا وبَين إعلامٍ هابِط أرادَ به أهلُه شرًّا، لنحصِّن أبناءَنا ذكورًا وإناثًا بوحيِ الله، ولنُحذِّرهم من الانخداعِ والاغترار بما يُنشَر في تلكم القنواتِ، ولنبيِّن لهم أخطارَها وأضرارَها ومفاسِدها، ونصوِّر حقيقةَ الأمر، فتلك قنواتٌ خرجَت عن السّيطرَة، لكن لا يحصِّن المسلمين إلا وَحيُ الله والتّمسُّك بدينه وتوضيح الحقِّ من الباطل ليكونَ المسلم على بيِّنةٍ مِن أمره.
أيّها المسلم، تنوَّعَت أساليب الإعلام، فما بَين صُحُفٍ مقروءة وما بين مرئيّة وما بين مسموعَة وما بين شبكاتِ الاتِّصالات الإنترنت وما يجلَب في ساحاتها من بلاءٍ ومصيبة، من هتكٍ للأعراض ورميٍ بالتُّهم وأكاذيبَ وأباطيل، كلُّ ذلك من وسائلِ الإعلام التي يجب على المسلِمِ التثبُّت فيما يرى وفيما يسمَع ليكونَ على بصيرةٍ من أمره.
أيّها المسلم، إنَّ واجب الإعلام الإسلاميّ أن يكونَ له تميّزٌ خاصّ، وأن تكونَ برامجُه برامجَ هادِفة ومُسلسَلاته مسلسلاتٍ هادِفة، تبني القِيَم والفضائلَ، وتوضِح للأمّة الحقَّ، وتعالج مشاكِلَ الأمّة مِن قريب أو بعيدٍ بالعلاج الشرعيّ النافع الذي يجعَل هذه الوسائلَ مِنبرَ توجيهٍ وإرشاد، ومَتى انحرف الإعلام عن مسارِه الصحيح فإنَّ أضراره ومفاسدَه ومساوئَه تكون كثيرةً، فقد ولَج الإعلام كلَّ بيت، وأصبح بمقدورِ كلِّ إنسان أن يشاهِد ويرَى، ما يُبَثّ من العالم يشاهِده، فهو في منزلة يتحكَّم ويرَى ويَرى وينتقِل من هذا إلى هذا، لكن إن تحصَّن بالوحي وتمسَّك بالهدى وصارَ عندَه فرقٌ بين الحقِّ والباطل وبين الهدَى والضلال لم تخدعه تلك الآراءُ ولم يغترَّ ويُعجَب بتلك الأفكارِ والأطروحات السيِّئة.
أيّها المسلم، إني أناشِد رجالَ الصَحافة في بلادِنا محرِّري الصّحُف والقائِمين عليها، فأقول لهم: تقوَى الله وصيّة الجميع، والحِرص على التأكُّد مِن كلِّ ما ينشَر وفَحص كلِّ مقالٍ يُراد أن ينشَر وكلّ أطروحة يريد شخصٌ أن يطرَحَها؛ لنكونَ على بصيرةٍ من أمرنا، فلا تخرج صحافتُنا إلاّ برأيٍ سديد وفِكرٍ نيِّر وخلُقٍ كريم؛ لتكونَ صحافتنا صحافةً حقّة، وليكون مَن يقرَأ وينظر ويتدبّر ويستفيد، فمشاكِلُ المجتَمَع المسلِم كثير، فحَلّ مشاكِلِنا بالطّرُق السّليمة على هديٍ من كتابِ ربِّنا وسنّة نبيِّنا يحوِّل صحافتَنا إلى مِنبرِ خيرٍ وتوجيهٍ ودَعوة للخَير وأخذٍ بأسباب الهِداية.
لا يغرّنَا ما انجَرَفت فيه صُحُف غيرنا أو مَا سَلَك غيرنا، لا بدَّ لهذا البلَدِ المسلِم أن يتميَّز إعلامُه بما يخدم هذه العقيدةَ قبل كلِّ شيء، وبما يقوِّي الأخلاقَ ويثبِّت الأمن ويجمَع الكلمة وتصبِح الأمّة تستفيد مِن إعلامها، فهو يوجِّهها في معتَقَدها وأخلاقها واقتصادِها وثقافَتها توجيهًا سليمًا مبنيًّا على أسُسٍ من كتابِ ربِّنا وسنة نبيِّنا.
إنَّ كلَّ من يريد أن يكتبَ وكلَّ من يريد أن يحلِّل وكلَّ من يريد أن يكون له سَبقًا في القول فليتَّق الله، وليحاسِب نفسَه قبل أن يحاسَبَ أمام الله، ليحاسِب نفسَه عما يقول، وليتذكَّر قولَ الله: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:24، 25].
إنّ أعداءَ الإسلام احتَوَوا الإعلام العالميّ، وسخَّروه لخدمة أفكارِهم وآرائِهم، وسخَّروه للطّعن في الأمّةِ وثوابتها، سخَّروه لإبعادِ المجتمع المسلم عن دينِه، سخَّروه للقدحِ في ماضينَا المجيد وفي أعلامِ الهدى من هذه الأمة، سخَّروا إعلامَهم لأجل هذا، فهل إعلامُنا الإسلاميّ لديه القدرةُ على مناقشة تلك الأمور وعلى قَرع الحجّةِ بالحجة ودمغِ الباطل بالحقّ؟! لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال:42].
إنّ الإعلامَ الإسلاميّ متى أخذ على عاتقِه الدعوةَ إلى الإسلام وفضائله وتبيينِ الهدى من الضلالِ وصَارَ طابعه ومظهَره طابعًا ومظهرًا إسلاميًّا في كلِّ الأمور ليكونَ أعلامنا إعلامًا متميِّزًا وإعلامًا هادِفًا للخيرِ وإعلامًا يتحسَّس مشاكلَ الأمّة ويعالجها العلاجَ السليم، فعند ذلك يتحوَّل الإعلام إلى خيرٍ بتوفيقٍ من الله، ولكن مع هذا كلِّه فعلى كلِّ مَن كان في أيِّ وسيلة من وسائلِ إعلامنا مِن صحافةٍ وتلفازٍ وإذاعة أن يتَّقوا الله فيما يقولون وفيما يرسمون وفيما يضَعون من برامج، ليكن تقوَى الله هدفَ الجميع في كلِّ الأحوال، وليتَّقِ الله من يكتُب في تلك الساحاتِ ومَن ينشُر ويقول، ليتَّقِ الله في نفسه، وليعلم أن اللهَ رقيب عليه وإن خَفِي أمره على النّاس.
إنّ الإعلامَ الإسلاميّ لا بدَّ في هذا العصر من أن يتميَّزَ تميّزًا صحيحًا؛ لأنّ الحملات المسعورةَ على الإسلامِ وأهله قد على شأنها واشتدَّ خطرها، ولا يمكِن أن يكافَحَ الباطل إلاّ بالحقِّ الصريح، ولا يمكِن أن نردَّ الباطل إلا بالحقّ، ولا يمكن أن ندحضَه إلاّ بالحجّة القطعيّة، ففي كتاب ربِّنا وسنّة نبيّنا ما يكفي لدمغِ هذا الباطلِ وردِّه.
إنَّ الإعلام الإسلاميّ إذا تميَّز بهذه الميزةِ الصادقة وحسُنت النيّة وقوِيَت العزيمة فإنَّ الله يجعل لهذا الإعلامِ أثرَه الفعال في تبيين فضائِلِ الإسلام ومحاسِنِه ودَحض كلِّ ما لبَّسه عليه الملبِّسون وكلّ ما زوَّر المزوِّرون من أناسٍ طعَنوا في الإسلام وفضائِلِه وتعاليمه وقِيَمه وصوَّروه بالصّورة المشوّهَة، فعلى الإعلامِ الإسلاميّ أن يكونَ دائمًا داعيًا إلى الله ومسخِّرًا كلَّ برامجه لما يسعِد الأمةَ في دينها ودنياها.
وعلينَا أن نثقِّفَ أبناءنا وبناتِنا، وأن نوجِّهَهم لأيِّ قناةٍ فيها خير، ونحذِّرهم من تلكم القنواتِ الفضائيّة المنحرفة، ونبيِّن أوجُهَ انحرافها وبعدها عن الهدَى؛ ليسلَمَ شبابنا من الانخداع. هي بلا شكٍّ وضلَّلت الأمورَ وإعلام لا تستطيع إيقافَه ولا إيقافَ زَحفه، لكن التربية الطيِّبة والنصيحةُ الهادفة هي وسيلةٌ بتوفيقٍ من الله إلى تبصيرِ الأمّة ليكونوا على عِلمٍ وثِقةٍ بإسلامهم وحذرٍ مِن تلكم الوسائلِ الإعلاميّة العالمية التي تريد بنا الشرَّ والفساد، ويأبى الله ذلك والمؤمنون.
فلنتَّقِ الله في أنفسنا، ولنحذَر أسبابَ الشرّ ومِن أسباب الانخداع بكثيرٍ مما يُذاع وينشَر ممّا هو مخالف للحقِّ والصواب.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعَونَ على كلِّ خير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في الطهارة (223) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، قضيّةٌ في هذه الأيّام يروِّج لها الإعلامُ الخارجيّ بكلِّ مَا أوتي من إمكانِيّات، هذه القضيّةُ هِي قضيّة قَد تَنظر إليها ـ أيّها المسلِم ـ بأنها قَضيّةٌ ثانويّة أو هَامشيّة، ولكن بالحَقيقةِ إذا سَبَرتَ الوَضعَ وَجدت أنَّ هذه القضيّةَ جاءَت ضمنَ سِلسِلة العداءِ للإسلامِ وأهله وخَلخَلة صفوفِ الأمّة وإيجاد الفرقةِ بين أبنائها وإحداثِ ما يقطَع صلةَ الأمّةِ حاضرَها بماضيها يجعَلها متنكِّرةً لماضيها مخالِفَة له، هذه القضيّة التي هي جُزئيّة ولكن لها مغزاها البعيد، مَا يُنشَر في هذه الأيّام من أنّ هناك فكرةً وأظنّها قد يكون اليومَ أو الغد تَطبقها، هو إمامَةُ امرأةٍ بمجموعةٍ مِن رجال ونساء.
هذه القضيّة روَّج لها الإعلام الخارجيّ وأبدى وأعاد وقابَل من قابل وأخذَ آراء من أخذ آراءَه، وهي أنَّ هناك نيّة إلى أنّ امرأةً تقوم خطيبةً تخطب في الرجالِ يومَ الجمعة وتؤمُّهم للصّلاة ويختلِط الرجال والنساء في مكانٍ واحد لا تفرّق بينهم، بل تجاوز الحدّ إلى أن قالوا: يوضَع النساء أمامَ الرجال، فيقدَّم النّساء ويؤَخَّر الرّجال، إلى غير ذلك ممّا أبدَوه مِن أفكارٍ سيّئة.
هذه القضيّة قد يستدلّون لها بقول من قال مِن العلماء، ولكن مَن نظَر إلى الأمر نَظرَ الفحصِ والتدبُّر وجَد أنّ عالمنا الإسلاميَّ منذ عهدِ محمّد والقرون المتعاقِبَة بعدَه اليوم ما عُلِم أنّ أحدًا من الأمّة أجاز لامرأةٍ أن تقومَ خطيبةً لتعِظ الناس أمامَ الرجال وتكون إمامةً لهم والنساءُ والرّجال يستمِعون لها، لم يُعهَد هذا في عصور الأمّةِ الماضية قريبِها وبعيدها.
هذِه القضية ما أُتي بها إلاّ لإضعافِ الحياءِ مِن نِساء المسلِمات وإِخراج المرأةِ المسلمة عن حيائِها والزجِّ بها في ترَّهات الأمور، ما أتَوا بذلك لقصدِ خيرٍ، والله ما أرادوا خيرًا، وإنما أرادوا سُوءًا وضَلالة. فليعلَم المسلم أنَّ الأمّةَ الإسلامية منذ قرنها الأوَّل إلى اليوم ولم يُعهَد أنَّ امرأة قامت خطيبةً بين الرجال، هذا أمر كان ممكِنًا لو أنّه أُريد، لكنّ الأمّةَ متَّفقة بل مجمِعة على أنّ هذا غير واقعٍ فعلاً، فهو لم يقَع فعلاً أبدًا وإن قال مِن العلماء مَن قال لقضيَّةٍ خاصّة ما، لكن بهذا الذي أُثيرَ ودُعِي إليه أمرٌ منكَر خطير لا أظنّ مسلمًا يؤمِن بالله واليومِ الآخر أن يقِرَّ هذا الخطأ ويرضَى بهذا الباطل، إنّه باطل، وبطلانُه معلوم مِن اجتماع الأمة على خلافه وعدم عملهم بشيءٍ من ذلك.
إنها قضيّةٌ يُراد بها تحطيمُ الحواجِز في نفسِ المرأة، يُراد منها القضاءُ على حيائِها وشامتها وكرامتها، يراد من ذلك أن يُتَّخذ بعضُ مَن يدَّعون الإسلامَ ليكونوا مِعوَل هدمٍ في الأمّة الإسلامية، فاتَّخذوا من هذه الأساليبِ الباطلة ما يظنّون أنهم سيخلَعون حياءَ المرأة المسلمة ويقضون على كلِّ خيرٍ في نفسها، ويأبى الله ذلك والمؤمنون.
والذين دافَعوا عن هذه القضيّة أو أقرّوها إنما ذلك دليلٌ على ضعفِ بصيرتهم وقِلّةِ حيائهم وخوفِهم مِن الله، لو تبصَّروا في عواقب الأمورِ ونتائجِها لعلِموا أنهم بهذا على غيرِ صَواب، وأنَّ بقاءَ الأمة على ما كان عليه ماضيها المجيدُ هو الخير والسعادةُ والنجاة في الدّنيا والآخرة.
إنَّ أعداءَنا يحاولون إفسادَ بنات المسلمين، ما يدَّعونه من حقوقٍ للمرأة سياسيّة أو اجتماعيّة كلُّها دعواتٌ باطلة، وكلّها خضوع لأعداء الإسلام وما يملُونه على الأمّة من أفكار، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]، فاتَّخذوا مِن المرأةِ قضيّةً لإلحاقِ الذلّ بالأمة وإفسادِ دينها وأخلاقها، ولكنَّ الأمّةَ بتوفيقٍ من الله ستقِف سدًّا منيعًا أمامَ هذه التحدّيات الجائرة والأساليب الباطلة بتمسُّك الأمّةِ بدينها وثباتها على مبدئها وأن يعرِفَ المسلم كيف مَكرُ الأعداءِ بنا قديمًا وحديثًا، نسأل الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ عليه، وأن لا يزيغَ قلوبَنا بعد إذ هَدانا.
اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كِتاب الله، وخَيرَ الهدي هَدي محمّدٍ ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمد بن عبدِ الله كمَا أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/3941)
التوكل
الإيمان, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية, خصال الإيمان
عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عنيزة
3/7/1419
جامع السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البحث عن الرزق ووجوب طلبه بالحلال. 2- وقوع البعض في الحرام عند طلب الرزق. 3- التوكل على الله الرزاق. 4- معنى التوكل. 5- أمر الله تعالى بالتوكل عليه. 6- التوكل على الله علامة الإيمان به والتصديق بصفاته وعظمته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها المسلمون، طلب الرزق غريزة عند الأحياء، وما إن تبدو بوادر الصباح حتى ترى الناس بكافة أعمالِهم وأعمارِهم يستعدّون للبدء في كدح طويل كي يحرز كل امرئ منهم قوته وقوت عياله، وهذا الكدح الطويل والسعي الحثيث امتحان للأخلاق والمسالك والثبات واليقين والطمأنينة والرضا، فاللهف على تأمين العيش واللهث من أجل سدّ أفواه الصغار قد يضعف بعض النفوس إلى الخَتْلِ والتلوية والكذب والحيف والتدليس والغش، وربما وجد ضعاف يتملقون أقوياء على حساب الأبرياء، وربما رأيت أذلاء يذوبون في أعتاب كبراء، وغير ذلك من مخالفات وأخطاء.
إن دين الإسلام يأبى أن يكون الكدح وراء الرزق مزلقة إلى هذه الآثام كلها، وينهى أن يلجأ المسلم أبدا إلى عش أو ذل أو ضيم ليجتلب به ما يشاء من حطام، وصدق رسول الله : ((ألا لا يحملنكم استبطاء الرزق أن تأخذوه بمعصية الله، فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته)) رواه الحاكم في مستدركه.
والحل وسط هذه الحال والمخرج من تلك الآثام هو التوكل على الله، روى الترمذي وابن ماجة والحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصا وتروح بطانا)) ، ويقول ابن مسعود : (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تطعمهم ما لم يؤتك الله، إن رزق الله لا يَجُرّه حِرْصُ حريص، ولا ترده كراهية كاره، وإن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط).
التوكل هو حال المؤمن القوي الذي يجب أن يكون وثيق العزم مجتمع النية على إدراك هدفه بالوسائل الصحيحة التي تقربه إلى الله، وباذلا قصارى جهده في بلوغ مأربه، وليس بالتفريط المعيب والتخاذل الذميم، عن عوف بن مالك قال: قضى رسول الله بين رجلين، فلما أدبرا قال المقضي عليه: حسبي الله ونعم والوكيل، فقال : ((إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس ـ أي: العقل والفطنة ـ فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل)) رواه أبو داود. إذًا فالمرء إذا غُلب على أمره في أي مشكلة من أيّ نوع بعد استفراغ جهده كان ركونه إلى الله عندئذ معاذا يعتصم به من غوائل الانكسار، فهو على الحالين قويّ بعمله أولا، وبتوكله ثانيا.
أيها الإخوة المؤمنون، التوكل على الله شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجوه والأفلاك والأكوان، فكل ذلك محكوم بحوله وقوته سبحانه.
التوكل قطع القلب عن العلائق ورفض التعلّق بالخلائق وإعلان الافتقار إلى محول الأحوال ومقدر الأقدار لا إله إلا هو. إنه صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار منه في أمور الدنيا والآخرة، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجد منه الجد.
التوكل صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله وفي الله وأمل يصحب العمل وعزيمة لا ينطفئ وهجها مهما ترادفت المتاعب.
بالتوكل ترفع كبوات البؤس وتزجر نزوات الطمع، فلا يَكبح شَرَهَ الأغنياء ولا يَرفَع ذلّ الفقراء سوى التوكل الصادق على الحيّ الذي لا يموت، يقول سعيد بن جبير رحمه الله: "التوكل على الله جماع الإيمان".
المتوكل على الله ذو يقظة فكرية عالية ونفس مؤمنة موقنة، قال بعض الصالحين: "متى رضيت بالله وكيلا وجدت إلى كل خير سبيلا"، وقال بعض السلف: "بحسبك من التوسّل إليه أن يعلم قلبك حُسن توكلك عليه".
والتوكل إيمان بالغيب بعد استنفاد الوسائل المشروعة في عالم الشهادة، تسليم لله بعد أداء كل ما يرتبط بالنفس من مطلوبات وواجبات.
التوكل الذي يقوى الإنسان به ضربٌ من الثقة بالله، ينعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عونا ولا أملا.
التوكل غذاء الكفاح الطويل الذي قاوم به النبيون وأتباعهم ودعاة دينهم مظالمَ الطغاة وبغي المستبدين كما بيّنه الله تبارك وتعالى: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12].
التوكل الحق قرين الجهد المضيء والإرادة المصممة، وليس العجز والكسل، ولم ينفرد التوكل عن القوة والحزم إلى الضعف والتواكل إلا في العصور التي مسِخ فيها الإسلام وأصبح بين أتباعه لهوا ولعبا.
عباد الله، إن أول بواعث التوكل ومصادره توحيد الله وإفراده بالعبادة، فالرب المعبود سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلا: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء 217-220].
والتوكل أجمع أنواع العبادات وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلها، وما ذلك إلا لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والرضا العميق واليقين الثابت، ولقد جاء الأمر به في كتاب الله في أوجه مختلفة وسياقات متعددة، بل لقد جعله شرطا للإسلام والإيمان، يقول سبحانه وتعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84]، قال أهل العلم: "فدل ذلك على انتفاء الإسلام وكذلك الإيمان بانتفاء التوكل"، ويقول لنبيه محمد : وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3]، ويقول عن صحابته رضوان الله عليهم: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، ويقول جل وعلا في جزاء المتوكلين: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:3]. هذا هو التوكل في حقيقته وأثره وجزائه وصفات أهله، لكنه ما كان أبدا تواكلا ولا اتّكالية، وما كان ضياعا ولا إهمالا للسنن والأسباب.
أيها المسلمون، إن تحقيق التوكل لا ينافي الجد والأخذ بالأسباب البينة، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل على الله بالغيب إيمان بالله، فالمتوكلون في كتاب الله هو العاملون، وإمام المتوكلين نبينا محمد رأينا في سيرته الأخذ بالأسباب، فقد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهَر في بعض غزواته بين درعين، وتعاطى الدواء، وقال: ((من يحرسنا الليلة؟)) ، وأمر بغلق الباب وإطفاء النار عند المبيت، وقال لصاحب الناقة: ((اعقلها وتوكل)) ، وقال سبحانه وتعالى لنبيه لوط: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ [هود:81]، ونادى أهل الإيمان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء:71].
فليس التوكل بإهمال العواقب واطِّراح التحفّظ، بل ذلك عند العقلاء والعلماء عجز وتفريط يستحق صاحبه التوبيخ والاستهجان، وجاء أمر الله بالتوكل بعد التحرّز واستفراغ الوسع حين قال: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]. المؤمن هو من يجمع بين فعل الأسباب والاعتصام بالتوكل، فلا يجعل عجزه توكّلا ولا توكّله عجزا، إن تعسّر عليه شيء فبتقدير الله، وإن تيسّر له كل شيء فبتيسير الله.
المسلم المتوكل يخرج من بيته متوجها إلى عمله ومهنته تَزْدلف قدمه من عتبة بابه وهو يقول: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أزلَّ أو أُزَلّ، أو أَضِل أو أُضَلّ، أو أَظلِم أو أُظلَم، أو أَجهل أو يجهَل عليّ.
أخي المؤمن، ثمة موطن من مواطن العمل لا يكون على وجهه ولا تتحقّق غايته إلا حينما يكون التوكل لله عموده، إنه موطن الصبر والحقّ والثبات على المواقف وعدم التنازل عنها، وهو الذي يحمل عبئه أنبياء الله عليهم السلام ومن اقتفى أثرهم من أهل العلم والدعوة والإيمان والصلاح والإصلاح، فهم حين يتعرضون لمخاوف مزعجة لا يثبتون على الروع والغبن إلا لأملهم في الله واستنادهم عليه، لا يثبتون إلا بالتوكل الذي ينير أمامهم ظلمات حاضرهم ويعينهم على مواجهة الأخطار بعزم وثقة واطمئنان، وما نراه من صبر وثقة بالله لدى بعضهم أمرٌ قد يستغربه الضعفاء الواهنون ويستنكرونه، ولذلك حين قال موسى وهارون عليهما السلام بعد أمر الله لهما بدعوة فرعون: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] ، فأجابهما جل وعلا: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46].
إنه الشعور الكبير والعميق بسمع الله وعنايته، ذلكم هو المؤنس في الموحشات والمشجّع في الرهبات، وهذا هو أبو بكر الصديق يقول: نظرت أقدام المشركين ونحن في الغار وهم على رؤوسنا فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)) ، وقال الله عنهما: إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وحينما قال الذين كفروا لرسلهم: لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا، هذه المقولة التي تتردّد عبر التاريخ ويُوَاجه بها أهل الدعوة المخلصون في كل زمان ومكان، وقد جاء الجواب على لسان خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام بقوله تعالى: قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [الأعراف:89]. هذا هو المجد الشامخ، والذي لا يخطّه إلا نفر من المؤمنين المتوكلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الملك:29].
اللهم بك آمنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا، فاغفر لنا وارحمنا، وأنت أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكّله أصحّ وأقوى، ومن لم يكن كذلك فهو يظن من ضلاله أن حظوظا عميا هي التي تقرّر مصائر الحياة والأحياء.
إن المقطوعين عن الله هم عبيد الحظوظ الشاردة والأسباب المبتورة. إن التوكل على الله لا يعرفه العاطلون البطالون، ضعيف التوكل لا هو عند الوجود يشكر رتبته، ولا هو عند العدم يرضى حالته. وإن من الجهل بالله وصفاته وضعف الإيمان بوعده ووعيده أن يتوقع أحد الخذلان والضياع وهو مرتبط بربه معتمد عليه والله يقول: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ [الزمر:36، 37]، ويقول جل وعلا: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].
إن المحروم ـ إخوتي ـ لن يدرك مهما ألحّ وطلب، والمرزوق سوف يأتيه رزقه مهما قعَد، ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأجملوا في الطلب، وتوكلوا على الله، فإن الله يحب المتوكلين.
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه...
(1/3942)
التداوي في الإسلام
فقه
المرضى والطب
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
15/2/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نِعَم الله تعالى على عباده. 2- نعمة الصحّة والعافية في الأبدان. 3- عناية الإسلام بالصحة والسلامة. 4- وسطيّة الإسلام في قضية العلاج والتطبّب. 5- مبدأ الوقاية الصحية في الشريعة الإسلامية. 6- نبوغ المسلمين في علم الطب. 7- ضروب التداوي. 8- الدواء المحرّم. 9- الرقية الشرعية وأثرها في علاج الأمراض الحسية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنّ أصدقَ الحديث كلام الله، وخير الهدي هديُ محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.
أيّها الناس، إنّ نعَمَ الله سبحانه على عباده تترَى، وإنَّ منكِرها لجاحد، ومؤمِّلَ حصرِها لعاجز. إنها نِعَم تترادَف حلاقاتها حثِيثةً، يَمُنّ بها الباري جلّ شأنُه على عبادِه، فيعطي هذا، ويمنع ذاك، ويبسط لمن يشاء، ويقدِر على من يشاء.
ألا إنَّ مِن أعظم النِّعَم التي يمنَحها الرزاق ذو القوّة المتين هي نعمة الصّحّة والعافية، نِعمَة المعافاة في الجسَد والسلامة من الأسقامِ والأدواء؛ لأنّ الصحَّةَ التامّة والسلامةَ من العِلَل والأسقام في البدن ظاهرًا وباطنًا هي مكمَن مِن مكامِن الحياة الهنيّة المستقِرّة والكمال الدنيويّ المنشود، ومن هذا المنطلَق شاطَرَت الصّحّة العلمَ في تمام الملك كما في قوله تعالى عن طالوت: قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:247]. وإلاّ فما مَعنى الحياة بلا صِحّة؟! وما لذّةُ الطعام والشراب على مرضٍ وسقم؟! وما قيمة الجاه والمال في ضَعف صحّةٍ وغلبة أدواء؟! إذِ الفقير الصحيح أهنأ وأشرَح من الغنيِّ السقيم، بل كيف تحلو عبادةُ المرء وتكتمِل مع سقمٍ مُردٍ وداءٍ مزاحِم؟! فلِلَّه ما أهنأَ الصحيح وأسعَده إن شكر، وما أخزاه وأشقاه إن كفر، ولعمرو الله إنَّ الصحّةَ لواحدة من ثِنتَين يُغبَن فيهما الناس على حدِّ قول النبيِّ : ((نعمَتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّةُ والفراغ)) رواه البخاري [1] ، ولقد أحسَنَ من وصَف الصّحّةَ تاجًا فوق رؤوس الأصحّاء، لا يراه ويشرئبّ إليه إلاّ المرضى من الناس.
أيّها المسلمون، إنَّ مِن عناية شريعتِنا السّمحة بالصّحّة وسلامة الأبدان ممّا يُضادّها أو يعكِّر تمامها هو حُسن تعامُلها مع التّداوِي والتطبُّب والأخذ بالأسباب لمقاومَةِ الأدواء والأسقام، ما يؤكِّدُ سعةَ أفُق الشريعة، وأنها شريعة خالدةٌ لم تدَع خيرًا إلا حضَّت عليه، ولا شرًّا إلاّ حذَّرت منه؛ لِتخرِسَ بذلك ألسَنةً متطاوِلة عليها قائلة: ما للشَّريعة وللطِّبِّ؟! وما دخلُ الفِقه والأحكام في التّداوي والتطبُّب؟!
والواقعُ ـ عبادَ الله ـ أنَّ العادل المنصف يعلَم ويدرِك وسيّطةَ الشريعة وموقفَها من التداوِي واعتدالها في النظرة إليه؛ إذ لا إفراطَ في موقِفِها من التّداوي من جهةِ التعلُّق به بحيث يزاحِم التوكّلَ على الله والاعتماد عليه والرّضا بقضائه وقدرِه، ولا تفريطَ فيها أيضًا من جِهة الأخذ بالأسبابِ وإعمالها في مواطِنِها، كما أنها وسَطٌ كذلك في النظرةِ إلى التداوي بحيثُ لا تفرِط فيه فتتعدَّى إلى التداوِي بالمحرم، ولا أن تفرِّط إلى درجةِ أن تهملَ التداوِي بالمباح أو تمنَعَه.
ثم إنّنا نجد في الشريعة تارةً إيثار التوكّل على الله مطلقًا وتقديمَه على الأخذِ بالأسباب، وأنَّ ذلك من سيما المؤمنين الصادقين في توكُّلِهم، كما في ذِكرِ النبيّ للسبعين ألفًا الذين يدخلون الجنّةَ بغير حساب ولا عذاب وأنهم هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيَّرون وعلى ربِّهم يتوكلون. رواه البخاري ومسلم [2].
وتارةً نجد الشريعةَ ـ عباد الله ـ تحضُّ على التداوي وتأمر به في غيرِ ما ذكِر آنفًا، كما في حديث أسامة بن شريكٍ قال: كنتُ عند النبيّ وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسولَ الله، أنتداوى؟ قال: ((نعم يا عباد الله، تداووا)) الحديث رواه أحمد وأبو داود [3].
ثم اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنَّ موقفَ الشريعة من التداوِي لم يكن مقتصِرًا على السعيِ في رفع الداءِ بعد وقوعه، بل إنَّه تعدَّى إلى أبعدَ من ذلك على حدِّ المقولةِ مشهورة: "الوقاية خيرٌ من العلاج". فإنَّ من القواعدِ المقرَّرة في الشريعةِ تلكم القاعدة التي تنصّ على أنَّ الدفع أولى من الرّفع، بمعنى أنّ دفعَ الشيء قبل أن يقعَ أولى في المبادرةِ مِن رفع الشيء بعد أن يقَعَ، ويدلُّ لذلك نصوصٌ كثيرة من السنّة النبويّة، منها على سبيل المثال لا الحَصر قولُ النبي : ((لا يورِدَنَّ ممرِضٌ على مُصحّ)) رواه البخاري ومسلم [4] ، ومنها ما جاءَ عند مسلم في صحيحه من حديثِ جابر بنِ عبد الله رضي الله عنه أنّه كان في وفدِ ثقيفٍ رجلٌ مجذوم، فأرسل إليه النبي : ((ارجِع فقد بايعناك)) [5] ، وجاء في الصّحيحين أنّ النبيَّ قال: ((من تصبَّح بسبعِ تمرات عَجوة لم يضرَّه ذلك اليوم سمٌّ ولا سحر)) [6].
ثم إنَّ مِن تمام نعمةِ الله على عباده أنه ما مِن داء إلا وقد جعَل الله له شفاءً كائنًا ما كان هذا الداء، غير أنَّ ذلك منوطٌ بالعِلم بالدواء أو الجهل به، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وقد جاءَ عند أحمدَ في مسنده أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ الله لم ينزل داءً إلا أنزلَ له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله)) [7].
وقد وهب الله في غابِرِ الأزمان وحاضرها بعضَ المسلمين من العلم بالطبِّ والتداوي ما يشهَد لهذه الشريعة عنايتَها به ونظرتَها الواسعة للجانِب الصحيِّ في الأمة، وأنَّ أمّةَ الإسلام لم تكن في أصلِها عالةً على غيرها في هذا الباب، فعن أبي رمثة رضي الله عنه قال: قدِمتُ المدينة ولم أكن رأيتُ رسولَ الله ، فخرج وعليه ثوبان أخضَران فقلت لابني: هذا ـ والله ـ رسول الله ، فجعل ابني يرتَعِد هيبةً لرسول الله ، فقلت: يا رسول الله، إنِّي رجل طبيب، وإنَّ أبي كان طبيبًا، وإنّا أهل بيتِ طبٍّ، والله ما يخفَى علينا من الجَسَد عِرق ولا عظم، فأرِني هذه التي علَى كتِفِك، فإن كانت سِلعَةً قطَعتُها ثم داويتها الحديث. رواه أحمد [8].
ففي هذه النصوص ـ عبادَ الله ـ تَسلية وتقويةٌ لنفس المريضِ والطبيبِ على حدٍّ سواء، للسّعي في استجلابِ ما يقاوَم به الداء؛ لأنَّ استشعارَ المريض والطبيب بذلك يكون حافِزًا لهما على التفاؤُل والرجاء الذي يقهَر به المرَض والداء.
ثم إنَّ الشريعة الإسلامية لم تدَع المرءَ المسلم مذَبذَبًا بين النظرةِ إلى التسليم بالقَدَر والقضاء وبينَ النظرةِ إلى مدافعة ذلكم القدر، فالداء الدواءُ كلُّه من عند الله، فكما أنَّ الداء ينزل بقدَر فإنَّ فعل الأسباب ونفعَ الدواء لا يكون إلا بقدر، فالمرء في كِلتا حالتَيه يفرّ من قدَر الله إلى قدَر الله، وقد جاء في السنن ومسند أحمد عن أبي خزامةَ رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أرأيتَ رُقًى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتُقاةً نتَّقيها، هل تردّ من قدر الله شيئًا؟ فقال: ((هي من قدر الله)) [9].
ثم اعلموا ـ عبادَ الله ـ أنه يجب علينا جميعًا الإدراكُ الصحيح بأنَّ التداويَ ضدَّ الأسقام ضروبٌ ثلاثة:
فالضرب الأوّل منها هو التداوِي المشروع الذي استحبَّه الشارع الحكيم، وهو ما وردَت فيه نصوص مخصوصةٌ به كالتداوِي بالقرآن وبزمزَم وبالعسَل والعَجوة والحبّة السوداء وغير ذلكم ممّا وردت به النصوص الصحيحة الدالّةُ على أنَّ بعضَ الأشياء تُعَدّ علاجًا لبعض الأمراض المخصوصة.
والضرب الثاني هو التداوِي بالمباح، وهو كلُّ دواءٍ لم يرد فيه أمرٌ به بحيث يكون دواء شرعيًا، ولم يرد فيه منعٌ منه بحيث يكون دواءً محرَّمًا، وهذا هو أوسَع ضروب التداوي، وهو أمر لا يقِف عند حدٍّ، بل كما قال النبي : ((علمه من علمه، وجهله من جهله)).
والضرب الثالث ـ عباد الله ـ هو التداوي بالمحرَّم، وذلك لنهي النبيِّ عن التداوي بما حرَّم الله لما رَوَى أبو داودَ في سننه أنّ النبيَّ قال: ((إنّ الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ دواءً، فتداوَوا ولا تداوَوا بالمحرّم)) [10] ، وأخرج البخاري في صحيحه تَعليقًا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (إنَّ الله لم يجعل شفاءَكم فيما حرَّم عليكم) [11].
والدواء المحرَّم ـ عبادَ الله ـ هو ما [كان] فيه أحَدُ أمرين:
أوّلهما أن ينصَّ الشارِعَ الحكيم على تحريمِ التداوِي بشيءٍ معيَّن، كما نهى النبيّ من صَنَع الخمر للدّواء فقال له: ((إنّه ليس دواء، ولكنه داء)) رواه مسلم [12] ، وكما في الحديثِ الذي رواه النسائيّ أنَّ طبيبًا ذكر ضِفدَعًا في دواءٍ عند رسول الله فنهاه عن قتلها [13].
وأمّا ثاني الأمرين فهو أن تكونَ الأدوِيَة والعقاقير تحوي شيئًا من النّجاسات أو المحرَّمات التي حرَّمها الشارع الحكيم، كمالمستحضَرات المستخلَصَة من بعضِ الميتة كرِئَة البقر مثلاً أو مخاطِيات أمعاءِ الخنازير أو أبوالِ الحُمُر الأهلية وألبانها، أو أن تكونَ وسيلةُ العلاج وسيلةً محرَّمة كالعِلاج بالغِناء والموسيقى المحرَّمة إجماعًا وبعض طرق التّنويم المغناطيسيّ؛ لأنَّ غايةَ الشفاء لا تبرِّر الوسيلةَ المحرَّمة في الوصول إليه.
ومن هنا جاءت مراعاةُ الشريعة لهذا الجانبِ المهمّ على أكمل وجه، حتى طالت العنايَةُ بمسألة التداوي جوانبَ كثيرةً ذكرها الفقهاء وأطنبوا في بحثِها، فتعدَّت إلى ذكر جنايةِ الطبيب في التداوي وأثرِ التداوي في ترخُّص المرءِ كالفِطر في الصّوم مثلاً ونحو ذلك، وكذا بعض الوسائِل التي يضطرّ إليها المرء حالَ التداوي ككشفِ العورة أو مسِّها، وما ينشأ بين الحِين والآخر من نوازلَ طبيّةٍ تفتقر إلى التكييفِ الفِقهيّ لها، ما يؤكِّد دورَ العلماء والفقهاء والمجامِع والمؤسَّسات الفقهيّة ويحضّ على دعمِها وتفعليها وبذلِ الجهود لإبرازِ النّظرة الشرعية تجاهها؛ ليكونَ النّاس على بيّنةٍ مِن أمر دينهم، ولئلاّ يختلِطَ المحرَّم بالمباح.
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6412) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[2] صحيح البخاري: كتاب الطب (5705، 5752)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (220) عن ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم في الإيمان (218) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
[3] مسند أحمد (4/278)، سنن أبي داود: كتاب الطب (3855)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (291)، والترمذي في الطب (2038)، وابن ماجه في الطب (3436)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (10/135)، والحاكم (7430، 8206)، والنووي في الخلاصة (2/921)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1660).
[4] صحيح البخاري: كتاب الطب (5771)، صحيح مسلم: كتاب السلام (2221) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] صحيح مسلم: كتاب السلام (2231) عن الشريد بن سويد رضي الله عنه.
[6] صحيح البخاري: كتاب الطب (5768، 5769، 5779)، صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2047) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[7] مسند أحمد (4/278)، وهو تتمة حديث أسامة بن شريك المتقدم. وفي الباب عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأبي موسى وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم رضي الله عنهم.
[8] مسند أحمد (2/228)، وهو بهذا اللفظ والسياق من زوائد عبد الله على أبيه، والحديث أخرجه أحمد (2/226) وأبو داود في الترجل (4206)، وابن أبي شيبة (5/32)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1140)، والطبراني في الكبير (22/283)، وأبو نعيم في معرفة الصحابة نحوه، وهو في السلسلة الصحيحة (1537).
[9] مسند أحمد (3/421)، سنن الترمذي: كتاب الطب (2065)، سنن ابن ماجه: كتاب الطب (3437)، واختلف في إسناده، فقيل: عن ابن أبي خزامة عن أبيه، وقيل: عن أبي خزامة عن أبيه، وأورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (359، 379).
[10] سنن أبي داود: كتاب الطب (3874) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (10/5)، وهو في السلسلة الصحيحة (1633).
[11] صحيح البخاري: كتاب الأشربة، باب: شراب الحلواء والعسل، ووصله ابن أبي شيبة (5/38، 75)، والطحاوي في شرح المعاني (1/108)، والطبراني (9/345)، والحاكم (7509)، قال الهيثمي في المجمع (5/86): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في غاية المرام (30).
[12] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (1984) عن وائل بن حجر رضي الله عنه.
[13] سنن النسائي: كتاب الصيد والذبائح (4355) عن عبد الرحمن بن عثمان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أبو داود في الطب (3871)، والدارمي في الأضاحي (1998)، والبيهقي في الكبرى (9/258)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/199)، وصححه الحاكم (8261)، وعبد الحق الإشبيلي كما في تفسير القرطبي (7/210)، وهو في صحيح الترغيب (2991).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، مِن المقرَّر عند عامّة العلماء بلا خلافٍ بينهم أنَّ مِن جملة طرُق التداوِي في الشريعةِ الإسلاميّة ما يسمَّى الرّقية الشرعيّة، وهي التي تكون بِكتابٍ الله جلّ وعلا ونصوصِ السنة النبويّة الواردة في الاستشفاءِ، ويدلّ لذلك قوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، ولَفظَة مِن في هذه الآية لبيانِ الجِنس وليست للتّبعيض، فالقرآن كلُّه شفاء، وهذا لا يمنَع أن تكونَ بعضُ سُوَر القرآن أفضلَ في الرقيةِ مِن بعض كما صحَّ بذلكم الخبر عن سورةِ الفاتحة والمعوِّذتين والإخلاص في الصحيحين وغيرهما.
غيرَ أنَّ بعضَ ذوي النّفوس الضعيفةِ والذين اعتادوا وركَنوا إلى الطبِّ المدنيّ بمغالاةٍ يقلِّلون ويهوِّنون من شأنِ الرّقية الشرعيّة، ويرونَ أنها مجرَّدُ وهمٍ نفسيّ وإحساس تخيُّليّ بالشفاء مِن الأدواء ليس إلاّ، وهم في الوقت نفسِه لا ينكِرون أنَّ القرآنَ كلام الله، ولكنَّ إعجابهم بالطّبِّ الحديث وتعلّقَهم بالنظرياتِ الحسّيّة على حدِّ زعمِهم يردّ ويهوِّن من شأن الرقية، وهذا في الحقيقة كذِبٌ على الله ورسولِه وخَرقٌ لإجماعِ أئمّة المسلمين وفقهائهم، فالآيات الدالّةُ على أنَّ القرآنَ شِفاء متعدِّدة والأحاديثُ التي ورَدَت في الرّقيَة مستفيضة ثابتة، وقد ذكرنا شيئًا منها، كما أنَّ للأئمّة الأعلام المعتبَرين تجارُبَ وممارَسات للرّقية في بعض الأمراض تبهِر العقول وتأخذ بالألبابِ، وها نحن نورِد شيئًا من ذلكم، علَّه يوقِف تهوّرَ المقلِّلين من شأن الرّقية والزّاجِّين بها تحتَ مسمَّى الطبّ الشعبيّ، مع التسليمِ في الوقتِ نفسِه بأنَّ ثمَّةَ ممارساتٍ غيرَ مقبولة شرعًا يقَع فيها بعضُ الرقاة ويكثُر فيها اللّحظُ عليهم، غير أنَّ هذا ليس محلَّ بسطها:
فهذا أبو محمّد بن حزم يقول عن أثر الرقيَة: "جرَّبنا من كان يَرقِي الدُّمَّلَ الحادَّ القوِيَّ الظّهور في أوّلِ ظهوره، فيبرأ من يومِه ذلك بالذّبول، ويتمّ يبسُه في اليوم الثالث، جربنا من ذلك ما لا نحصيه، وكانت امرأة ترقي أحدَ دمّلَين قد دُفعا في إنسانٍ واحد ولا ترقي الثاني، فييبَس الذي رقَت ويتِمّ ظهور الذي لم تَرقَ، وشاهَدنا من كان يرقي الوَرَم المعروف بالخنازير، فيذبُل ما ينفتح منها ويذبل ما لم ينفتح ويبرأ" [1].
وهذا ابن القيّم رحمه الله يتحدَّث عن شيخه ابن تيمية فيقول: "سمعتُه يقول في واقعةٍ عظيمة جرَت له في مرضِه تعجز العقولُ عن حلِّها من محاربة أرواحٍ شيطانية ظهرت له إذّاك في حالِ ضَعف القوة، قال: فلما اشتدَّ عليَّ الأمر قلت لأقاربي ومَن حولي: اقرؤوا آياتِ السكينة، قال: ثم أقلَعَ عني ذلك الحال وجلستُ وما بي قَلَبة"، ثم يقول ابن القيم رحمه الله معلِّقًا: "وأنا جرَّبتُ أيضًا قراءةَ هذه الآيات عند اضطرابِ القلبِ بما يرِد عليه فرأيتُ لها تأثيرًا عظيمًا في سكونِه وطمأنينَته" [2]. وينقل ابنُ القيِّم أيضًا عن شيخه قائلاً: "كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عندَ الإصابة بالرُّعاف يكتب على جبهته: وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ [هود:44]، وسمعته يقول: كتبتها لغيرِ واحدٍ فبرِئ، ثم قال: ولا يجوز كتابتُها بدمِ الرّاعِفِ كما يفعلُه بعضُ الجهّال، فإنَّ الدّمّ نجس، فلا يجوز أَن يكتَبَ به كلام الله تعالى" [3].
وهذا ابن القيم رحمه الله يتحدَّث عن نفسِه في هذا الباب فيقول: "ولقد مرَّ بي وقتٌ بمكّة سقمت فيه وفقدتُ الطبيبَ والدواء، فكنت أتعالج بها ـ أي: بسورةِ الفاتحة ـ آخُذُ شَربةً من ماء زمزَم وأقرؤها عليها مرارًا ثم أشربه، فوجدتُ بذلك البرءَ التامّ، ثم صِرتُ أعتمِد ذلك عند كثيرٍ من الأوجاع، فأنتفِع بها غاية الانتفاع". انتهى كلامه رحمه الله [4].
فهذه هي نصوص الشريعة، وهذه هي أقوال أئمّة الدّين، وهذا هو الحقّ، فماذا بعدَ الحقّ إلا الضلال؟!
هذا وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشريّة محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد أمركم الله بذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]، وقال : ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمد...
[1] الفصل في الملل والأهواء والنحل (2/4)
[2] مدارج السالكين (2/502-503).
[3] الطب النبوي (ص278).
[4] الطب النبوي (ص139).
(1/3943)
غزوة بدر
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية, معارك وأحداث
محمد بن التجاني المدنيني
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وقائع المعركة. 2- الدروس والعبر المستفادة من المعركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المؤمنون الكرام، إنّه في مثل هذا اليوم من رمضان نصر الله المؤمنين في أوّل معركة يخوضونها مع قوى البغي والشّرك، يقول تعالى: كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال:5-8].
فما هي أجواء هذه المعركة وملابساتها ومواقفها؟ وماذا يمكن أن نستخلص منها؟
بلغ رسول الله أنّ عيرَ أبي سفيان قد أقبلت، فخرج رسول الله إليها لأخذها غنيمة، ولم يكن يريد قتالا، ولكن القافلة نجت بعد أن كان أبو سفيان قد أرسل إلى قريش يستنفرها للحماية، فخرجت قريش في نحو من ألف مقاتل، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، أكثرهم من الأنصار، فجادل المسلمون رّسول الله وبيّنوا له خوفهم من قتال المشركين الأكثر عَددا وعُددا، وأنّهم ما أرادوا إلاّ الغنيمة، وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ [الأنفال:7]. لقد أرادوها غنيمة وأرادها الله ملحمة، أرادوها عرضا زائلا وأرادها الله موقعة بين الحقّ والباطل، ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ويزهقه، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال:8].
لقد أراد الله لهذه الجماعة المسلمة أن تصبح أمّة وأن يصبح لها قوّة وسلطان عن استحقاق لا عن جزاف، وبالجهد والجهاد وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال، وأراد الله أن يعلّمها ويعلّم الأمّة من بعدها أنّ النّصر ليس بالعدد وليس بالعدّة وليس بالمال والزّاد، إنّما هو بمقدار اتصال القلوب بقوّة الله الّتي لا تقف لها قوّة العباد، وأن يكون هذا كلّه عن تجربة واقعيّة لا عن مجرّد تصوّر، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمّد:7]، إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحجّ:40].
وتدور معركة بدر كلّها بأمر الله ومشيئته وتدبيره وقدره، وتسير بجند الله وتوجيهه، عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: لمّا كان يوم بدر نظر النّبيّ إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل رسول الله القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثمّ قال: ((اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا)) ، قال: فما زال يستغيث ربّه ويدعو حتّى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّها ثمّ التزمه من ورائه ثمّ قال: يا نبيّ الله، كفاك مناشدتك ربّك، فإنّه سينزل لك ما وعدك. رواه أحمد.
فماذا سينزل الله؟ وما هي دلالات هذه المعركة الخالدة في تاريخ المسلمين؟ نتعرّف إلى الإجابة في الخطبة الثانية بإذن الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، هو الذي يحقّ الحقّ بكلماته، ويبطل الباطل بقدرته وآياته، وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ [الأنفال:7]، أحمده أن كتب العاقبة للمتقين الصّابرين، وجعل الخيبة على المبطلين المفسدين، إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له يؤيد المؤمنين المخلصين، وينصر عباده الصالحين، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وأشهد أنّ سيّدنا ومولانا محمّدا عبده ورسوله، اعتزّ بعزّته واستجاب لكلمته، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى الآل والأصحاب والأتباع والأحباب، وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ [الأنبياء:86].
أمّا بعد: فيا أيّها المؤمنون الكرام، لقد أنزل الله تعالى على رسوله قوله: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:9، 10]، واستجاب المولى عزّ وجلّ لرسوله وصحابته وهم يستغيثون، وأنبأهم أنّه ممدّهم بألف من الملائكة، ومع عظمة هذا الأمر على قيمة هذه الجماعة الأولى التي تحمل أعباء الدعوة الجديدة وقيمة هذا الدين في ميزان الله إلاّ أنّه سبحانه وتعالى لا يدع المسلمين يفهمون أنّ هناك سببا يستقلّ بإنشاء نتيجة، إنّما يردّ الأمر كلّه لصاحب الأمر، لله تعالى، فحسبهم أن يبذلوا ما في وسعهم، وأن يمضوا في طاعة أمر ربّهم واثقين بنصره، كان حسبهم هذا لينتهي دورهم ويجيء دور القدرة التي تدبّر أمرهم، يقول تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمْ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:11، 12]، وتبتدئ المعركة ويلتحم جيش الإيمان بجيش المشركين، وكان الرسول يحرض أتباعه على القتال بقوله: ((قوموا إلى جنّة عرضها السماوات والأرض)) ، فقال عمير بن حمام الأنصاري: يا رسول الله، جنّة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم)) ، قال: بخ بخ، فقال رسول الله : ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلاّ رجاءة أن أكون من أهلها، قال: ((فإنّك من أهلها)) ، فأخرج تمرات من قرنة فجعل يأكل منهنّ ثمّ قال: لئن أنا حييت حتّى آكل تمراتي هذه إنّها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثمّ قاتلهم حتى قتل. رواه مسلم.
وعندما حمي وطيس المعركة أخذ الرسول حفنة من الحصباء واستقبل بها قريشا ثمّ قال: ((شاهت الوجوه)) ، ثمّ رماهم بها وأمر أصحابه قائلا: ((احملوا عليهم)) ، وفي ذلك نزل قول الله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17]، ويتحقّق النّصر العظيم، ويقوم الرسول على قتلى بدر قائلا: ((يا أبا جهل بن هشام، يا أميّة بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟! فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّا)) ، فسمع عمر قول النبي فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون؟! وأنّى يجيبون وقد جيّفوا؟! قال: ((والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوا)) رواه أحمد.
أيها المؤمنون الكرام، إنّ معركة بدر الكبرى تعلّمنا أن نتعاطى الأسباب ونقوم بما يفرضه علينا واجب السعي ثمّ نتوكّل على الله تعالى، أمّا تحقيق النتائج فهو متروك لصاحب الأمر. كما تعلّمنا هذه المعركة أنّ الإخلاص في الجهاد والالتزام بما أمر الله والثقة بالله سبب الرضا والإنعام بالنصر والغنم والأجر والثواب. وتؤكّد معركة بدر أنّ قِوى الشرك والطغيان تتبدّد أمام قدرة الله، فأوهن الله كيد كفّار قريش وألقى في قلوبهم الرعب وفرّق كلمتهم، وكذلك يفعل بالمجرمين الذين يصدون عن دينه ويعادون المؤمنين.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [الممتحنة:11]، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ النحل:128].
عباد الله، يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم على سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/3944)
التذكير بالآخرة والنهي عن الاغترار بالدنيا
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع, الفتن
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فتنة هذه الأمة في المال والنساء. 2- التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها. 3- مثلان نبويان للمفرط في الدنيا والمقتصد فيها. 4- الأرزاق مكتوبة فأجملوا في الطلب.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي خلق للعباد دارين: دار عمل واختبار، ودار جزاء وثواب، أحمده تعالى الكريم الجواد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله الهادي إلى صراط مستقيم، الداعي إلى سعادة الدارين، صلوات الله عليه وسلامه وعلى سائر النبيين ومن اقتفى آثارهم إلى يوم الدين، وعنّا معهم بفضلك وكرمك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فيا عباد الله اتقوا الله، واعلموا الغاية التي من أجلها خلقتم، واعرفوا ماذا تصيرون إليه إذا مُتم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين هم؟ وكيف كانوا؟ وأين هم اليوم الملوك الذين كانوا؟! ملكوا أو حكموا وتصرفوا وأدنوا وأبعدوا، وما هي إلا حياة قليلة، فيسألون عما فعلوا، أثاروا الأرض وعمروها.
والسعيد ـ عباد الله ـ من اتعظ بغيره، فتفكروا في هذه الدنيا وأحوالها وتقلباتها تجدوها غرورًا وباطلاً ولهوًا كما قال تعالى: وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185]، وقال النبي : ((إن الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) [1] ، وفي حديث آخر عن رسول الله صلى عليه وآله وسلم قال فيه: ((كانت فتنة بني إسرائيل في النساء، وفتنة أمتي في الأموال)) ، وفي حديث آخر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه: ((ما تركت فتنة أضر على الرجال من النساء)).
فهذا هو مثل الدنيا يا عباد الله، كالزهرة الفتانة تستهوي النفوس وتستميل القلوب بخضرتها ونضارتها، ولكنها ما تلبث أن تذبل وتموت، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَ?ضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا كَمَاء أَنْزَلْنَـ?هُ مِنَ ?لسَّمَاء فَ?خْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ ?لأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ ?لرّياحُ وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:45، 46].
عباد الله، إن جميع ما في الدنيا من الخضرة والبهجة سراب، وسرعان ما تتقلب أحواله، ثم يصير حطامًا يابسًا، وكذلك ابن آدم وسائر الكائنات والمخلوقات، حالها كحال نبات الأرض، تنقلب من حال إلى حال. فلا تغتر ـ أخي المسلم ـ بشبابك فإنه سينقلب إلى الهرم، ولا تغتر بصحتك فستنقلب إلى السقم، ومن ثم المآل إلى العدم، ثم ترجعون إلى الله جل وعلا كما قال الله تعالى: وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ [البقرة:281].
ومن أجل هذا ـ عباد الله ـ فإن مرشدنا ونبينا قد حذرنا من الاغترار بالدنيا وزخارفها ومفاتنها وبهجتها، وكرر التحذير كثيرًا من هذه الدنيا، وكان كل ما يخافه علينا السقوط في شباكها والافتتان بها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((والله، ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم)) [2].
هذه هي حقيقة الدنيا يا عباد الله، فكيف يليق بالعاقل أن يجعلها أكبر همه فيشغل قلبه وفكره وجسمه في الحصول عليها، وهو غافل لاه عن آخرته، وعن الغاية التي خلقنا الله من أجلها فقال جل ذكره: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]؟!
إن العاقل ـ عباد الله ـ الذي يأخذ من الدنيا بلا شره ما يوصله إلى الدار الآخرة ويقويه على طاعة الله، وتكون الدار الآخرة هي همه وشغله الشاغل كما قال تعالى: وَ?بْتَغِ فِيمَا ءاتَاكَ ?للَّهُ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ?لدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ?للَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ ?لْفَسَادَ فِى ?لأرْضِ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
وبهذا فسر السلف الصالح متاع الغرور، فقال سعيد بن جبير: "متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس متاع الغرور، ولكنه بلاغ إلى ما هو خير منه"، وقال بعضهم: "كل ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكل ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا".
عباد الله، انتبهوا من رقادكم، فإن الرحيل عن الدنيا قريب، ولم يبق من دنياكم إلا اليسير، وعلامات الساعة تتوالى بالظهور معلمة ومؤذنة لنا ومنبّهة لنا بأن نتقيَ الله جل وعلا، ولنحذر من سخطه وعقابه، ولنعلم يقينًا لا شك فيه أن الدنيا قد أدبرت وولت، وأن الآخرة قد أقبلت، فكونوا ـ رحمكم الله ـ من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:37-41].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في الذكر، باب: أكثر أهل الجنة الفقراء (2742).
[2] رواه البخاري في الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (7/172)، ومسلم في أول كتاب الزهد (2961).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله، جاء في الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض)) ، قيل: ما بركات الأرض؟ قال: ((زهرة الدنيا)) , قال رجل: هل يأتي الخير بالشر؟ فسكت رسول الله حتى ظننت أنه سينزل عليه، ثم جعل يمسح عن جبينه وقال: ((أين السائل؟)) قال: أنا، قال: ((لا يأتي الخير بالشر، وإن كل ما ينبت الربيع يقتل حَبَطًا أو يُلم إلا أكلة الخَضِر، فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فاجترت وثَلَطَت وبالت، ثم عادت فأكلت، وإن هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقه ووضعه في حقه فنِعمَ المؤونة هو، وإن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة)) [1].
عباد الله، اسمعوا واعقلوا، فإن في هذا الحديث الشريف مثلين:
أحدهما للمفرط في جمع الدنيا المغرور ببهجتها ومنظرها، فهو يقبل عليها كالدواب، تقبل على نبات الربيع الأخضر، فترعى وتكثر من الأكل منه أكثر من قدر حاجتها لاستطابتها إياه، فتنتفخ بطونها فتنشقق أمعاؤها من ذلك فتهلك، أو تمرض وتقارب على الهلاك، فهذا مثل من يأخذ من الدنيا بشرَهٍ وجوع نفس، غير مكترث أمِن حلال أم من حرام، فيؤدّي لهلكتِه، لا يفرق بين ما أحل الله له وبين ما حرم الله عليه، همه جمع الدنيا الفانية، فالحلال عنده ما حلَّ في يديه، والحرام عنده ما تعذّر أخذه وحصوله عليه.
وأما المثل الآخر في الحديث فهو للمقتصد في الأخذ من الدنيا والانتفاع بها والاستعانة بها على طاعة الله تعالى وعمل القربات، فهو يأخذ من الدنيا بحقها ومقدار حاجته، سائلاً الله أن ينزع حبها من قلوبنا ولا يخليها من أيدينا، فإذا نفد واحتاج عاد للأخذ قدر الحاجة بحقها، وهكذا ما يبلغه مدة حياته ويعينه على التزود لآخرته، وهمه الأكبر هو الآخرة.
فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن رزق الله لا يجره حرص حريص، كما أنه لا ترده كراهيته كاره، فأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله.
فاتقوا الله تعالى وراقبوه، وتذكروا دومًا أقوال نبيكم ومعلمكم الخير وداعيكم ومرشدكم إلى الخير، فقد جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((إن روح القدس نفث في رُوعي أن لا تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)).
واعلموا أن الحياة كتاب مؤجل، واللحظات محدودة، والأنفاس معدودة، لهذا أمرنا الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن نتّقي الله وأن نتجمّل في طلب الكسب الحلال وأن نجمل في الطلب.
[1] رواه البخاري في الرقاق، باب: ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (7/172)، ومسلم في الزكاة، باب: تخوف ما يخرج من زينة الدنيا (1052).
(1/3945)
التذكير بالموت والاستعداد له
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصر الدنيا وهجمة الموت وفجأتُه. 2- كرب الموت والاحتضار. 3- دعوة لاغتنام ما بقي من الأعمار. 4- حديث جامع في أحوال الاحتضار والموت.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْغَفُورُ [الملك:2]، أحمده سبحانه وتعالى القائم على كل نفس بما كسبت، المجازي لها بما عملت، المحصي عليها ما قدمت وأخرت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة وأخرج الناس من الظلمات إلى النور، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن اقتفى أثرهم وسلك سبيلهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا محطة وممر إلى الدار الآخرة، كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما لي وللدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)).
فإياكم ـ عباد الله ـ أن تغتروا بهذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة، وتأهبوا لما أنتم قادمون عليه لا محالة، ألا وهو الموت الذي ينغص المضاجع ويؤرق المنام، ييتّم الأولاد ويرمّل النساء، وليس هو نهاية المطاف فحسب، فذوق الموت شيء رهيب لا بد منه، واذكروا قول الله تبارك وتعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ ?لْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185].
فلا تشغلنكم ـ أيها الناس ـ هذه الدنيا عن الآخرة، ولا يصرفنكم العاجل عن الآجل، فإن ذلك لا ينبغي لعاقل وهو يرى أن الموت حتم على كل الخلائق، ففي كل يوم نشاهد أو نسمع بموت صغير وكبير وغني وفقير ومملوك وملك وأمير ووزير، بل أين الآباء والأجداد؟! أين الأولون ومن مضى من الآخرين؟! فإلى متى الاغترار بصفاء العيش؟! وإلى متى هذه الغفلة وقد عرف المصير؟! وإلى متى الآمال والعمر قصير؟!
فيا عباد الله، إياكم والتسويف والتواني عن صالح الأعمال، فقد قرب الرحيل إلى دار لا ينفع فيها مال ولا بنون، يقول الله تبارك وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ وَ?خْشَوْاْ يَوْمًا لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
فيا عبد الله، اتق الله، وتذكر حالتك عند حلول الأجل، ومن حولك الأهل والعيال يبكون، وأنت ضعيف مسكين مطروح على فراش الموت، لا تستطيع أن تمدّ يدًا أو تحرك رجلاً أو ترفع طرفًا أو تفصح بلسان، كيف ذاك وقد أغمضت العينان وأخرس اللسان والتفت الساقان وخرجت الروح إلى الملك الديان، تخيّل ـ يا عبد الله ـ الزوجةَ والأولاد ينظرون إلى وجهِك، وكلّ منهم يناديك بصوت يقطع نياط القلوب: أبتِ، زوجِي.
ثم تخيل نفسك وقد حملت على الرقاب إلى القبور، وانفردت هناك عن الأهل والأموال والأولاد والقصور حيث لا أنيس ولا جليس إلا ما قدّمت يداك من الأعمال، فإن كانت خيرًا تسَرّ بها إلى يوم القيامة، وإن كانت شرًا تجد بها من الحسرة والندامة، قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى? كَمَا خَلَقْنَـ?كُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـ?كُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94].
ثم تذكر نفسك ـ عبد الله ـ إذا نفخ في الصور فصعق من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فيقومون من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
في هذا اليوم العظيم ـ أيها الناس ـ يتمنى المرء الذي أجرم بحقّ نفسه في الحياة الدنيا أن يفدي نفسه بكل شيء لتكتب له النجاة، ولكن أنى له هذا ورب العزة يقول: يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى ?لأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى? نَزَّاعَةً لّلشَّوَى? تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى? وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:11-18]؟!
فيا من آمن بالله واليوم الآخر، هل يليق بمن عرف مصير الأوائل والأواخر ورأى الموت يأخذ الأصاغر والأكابر أن يركن أو أن يطمئن إلى هذه الدنيا الفانية الغرارة؟! فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [لقمان:33].
فيا عباد الله، اعملوا بوصية نبيكم الذي يقول: ((أكثروا من ذكر هادم اللذات)) [1] يعني الموت، فكفى به من واعظ.
فانتبهوا ـ عباد الله ـ من رقدتكم، واستدركوا بقية عمركم قبل أن يدرككم الموت، واحذروا الانهماك في دار الغرور، وإياكم أن تؤثروها على الآخرة فتخسروا الخسران المبين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَإِذَا جَاءتِ ?لطَّامَّةُ ?لْكُبْرَى? يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ?لإِنسَـ?نُ مَا سَعَى? وَبُرّزَتِ ?لْجَحِيمُ لِمَن يَرَى? فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:34-41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في ذكر الموت (2308)، والنسائي في الجنائز، باب: كثرة ذكر هادم اللذات (4/4)، وهو في صحيح الجامع (1210).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله، لقد صح عن رسول الله أنه قال: ((إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى سماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارةً أخرى، فتعاد روحه فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله، فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حَسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرّك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي.
وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْو?بُ ?لسَّمَاءِ [الأعراف:40]، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين، في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا، فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة)).
عباد الله، فاتقوا الله، واجتهدوا أن تكونوا لأهل الإيمان سلفًا صالحًا وقدوة حسنة، واحذروا أن تكونوا من أهل الكفر والنفاق. أسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلني وإياكم ممن رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
فعلينا معشر المسلمين، أن نقر فنقول: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيًا ورسولاً، وأن نصدق في قولنا هذا، وذلك بالاعتقاد الجازم الذي لا يخالجه شك ولا ريب، فنصدق مع الله تعالى في عباداتنا، ومع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في متابعتنا له واقتدائنا به، ثم نلتزم الصدق في حديثنا وكتاباتنا ومعاملاتنا وتصريحاتنا وإعلامنا وصحفنا ومقالاتنا، فالالتزام بالصدق نعمة، قال الله تعالى: فَلَوْ صَدَقُواْ ?للَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [محمد:21]، ويقول جل وعلا: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119]، فالصدق كله خير وبركة.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الصدق والالتزام به إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/3946)
التمسك بالسنة والتحذير من البدعة
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين قبل وفات النبي عليه الصلاة والسلام. 2- طاعة الله مقرونة بطاعة رسوله. 3- التحذير من مخالفته عليه الصلاة والسلام. 4- الابتداع مخالفة للسنة. 5- الأمر بالتمسك بالسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ اللهِ تعالى، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ.
فيا أيُّها الناسُ، اتقوا اللهَ، واعلموا أنَّ اللهَ سبحانَهُ وتعالى قدْ أكملَ لهذهِ الأمةِ دينَها وأتمَّ عليها نعمَهُ فقالَ اللهُ تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
ولمْ يتوفَّ نبيَّه إلا بعدَما بلّغَ البلاغَ المبينَ وبيّنَ للأمةِ كلَّ ما شرعَهُ لها منْ أقوال وأفعالٍ، ولم يترك طريقًا يقربُ إلى الجنةِ ويباعدُ منَ النارٍ إلا وبينَهُ للأمةِ كما ثبتَ في الحديثِ الصحيحِ عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضي اللهُ عنْهما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ : ((ما بعثَ اللهُ من نبيٍّ إلا كانَ حقًا عليهِ أن يدلَّ أمتَهُ على خيرِ ما يعلمُهُ لهم، وينذرَهم شرَّ ما يعلمُهُ لهمْ)) [1].
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وتمسكوا بكتابِ اللهِ وسنةِِ نبيِّهِ محمدٍ ، فهما طريقُ السعادةِ الأبديةِ وسبيلُ النجاةِ في الدنيا والآخرةِ، فهما مدارُ الإسلامِ ورحاه، وما منْ عبدٍ يحيدُ عنهما إلا كانَ منَ الخاسرينَ وكانتِ النارُ مأواهُ، فعليكم ـ أيُّها الناسُ ـ باتباعِ نبيِّكم فيما أمرَ بِهِ، وإياكم والخروجَ على ما رسمَه وبينَه منَ الطريقِ الموصلِ إلى اللهِ، فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى قد ربطَ بينَ طاعتِهِ وطاعةِ نبيِّهِ في آياتٍ كثيرةٍ فقالَ تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْكَـ?فِرِينَ [آل عمران:32]، وقالَ: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71]، وقالَ اللهُ تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وأُوْلِى ?لأمْرِ مِنْكُمْ الآية [النساء:59].
وقدْ جعلَ اللهُ سبحانَهُ اتباعَ الرسولِ سبيلاً إلى نيلِ حبِّهِ ووسيلةً لتحقيقِ رضاه وحصولِ غفرانِهِ فقالَ: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]. وبينَ لنا جلَّ شأنُهُ بعضَ العواقبِ الوخيمةِ في الدنيا والآخرةِ لمنْ خالفَ أمرَ نبيِّهِ فقالَ: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]. وجعلَ الخروجَ ولوْ مرةً عنْ حدِّ الاتباعِ والانقيادِ والتسليمِ للرسولِ ضلالاً واضحًا وانحرافًا لا شكَّ فيهِ فقالَ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً مُّبِينًا [الأحزاب:36].
وهكذا تجدونَ ـ يا عبادَ اللهِ ـ أنَّ الدعوةَ إلى القرآنِ الكريمِ والأمرَ باتباعِهِ وتدبرِهِ هيَ في نفسِ الوقتِ دعوةٌ إلى السنةِ بكلِّ معناها الشاملِ الثابتِ عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَ، ولهذا بينَ لنا رسولُ اللهُ أنَّ اتباعَهُ سببٌ في دخولِ الجنةِ، وأنَّ الابتعادَ عنِ اتباعِهِ ـ على أيِّ وجهٍ كانَ ـ سببٌ لدخولِ النارِ فقالَ : ((كلُّ أمتي يدخلونَ الجنةَ إلا مَنْ أبى)) ، قالوا: يا رسولَ اللهِ ومن يأبى؟ قالَ: ((منْ أطاعني دخلَ الجنةَ، ومنْ عصاني فقدْ أبى)) [2].
وطاعةُ رسولِ اللهِ تتمثّلُ باتباعِهِ والانقيادِ لسنتِهِ، ورفضِ قولِ كلِّ من يقولُ شيئًا في دينِ اللهِ بخلافِ سنتِهِ ولوْ حسُنَ قصدُهُ، فعملُهُ وقولُهُ محدثٌ مردودٌ على صاحبِهِ، لما وردَ في الحديثِ الصحيحِ عنْ عائشةَ رضيَ اللهُ عنْها قالتْ: قالَ: رسولُ اللهِ : ((منْ أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ منْهُ فهوَ ردٌّ))، وفي لفظٍ: ((منْ عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهوَ ردٌّ)) [3] ؛ لأنَّ اللهَ جلَّ وعلا أكملَ الدينَ بما أنزلَ في كتابِهِ جلَّ وعلا وفي سنةِ رسولِهِ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَ.
عبادَ اللهِ، لقدْ كثرتْ في هذِهِ الأيامِ البدعُ والخرافاتُ، وهجرَ كثيرٌ منَ الناسِ التحاكمَ إلى كتابِ اللهِ وسنةِ نبيِّهِ ، ومالوا إلى التعصبِ وأقوالِ الرجالِ، فيجبُ على كلِّ مسلمٍ عاقلٍ أن يحذرَ منَ البدعِ وأن ينصحَ من يفعلُها، ولا يجوزُ السكوتُ عنِ الحقِّ، فإنَّ من لوازمِ الدينِ النصيحةَ لكتابِ اللهِ ولرسولِهِ ولأئمةِ المسلمينَ وعامتِهمْ، وأطرَهمْ على الحقِّ أطرًا بالتحاكمِ إلى كتابِ اللهِ وسنةِ نبيِّهِ في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، والتسليمِ لهما ظاهرًا وباطنًا عملاً واعتقادًا، واستمدوا منَ اللهِ التوفيقَ، قالَ اللهُ تعالى: وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ [هود:88] الآية.
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيمِ، قالَ تعالى: وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7].
نفعني اللهُ وإياكم بهديِ كتابِهِ وسنةِ نبيِّهِ ، وجنبَنا البدعَ والخرافاتِ والضلالَ والأهواءَ، أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكمْ ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفرُوهُ، إنَّهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
[1] جزء من حديث طويل رواه مسلم في الإمارة، باب: وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844).
[2] رواه البخاري في الاعتصام، باب: الاقتداء بسنة رسول الله (8/139) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في البيوع، باب: النجش، ووصله في الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (3/24)، ومسلم في الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة (1718).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ الذي بعثَ فينا رسولاً يبيّنُ لنا طريقَ الرشدِ والحقِّ والهدايةِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، بلغَ الأمانةَ وأدى الرسالةَ ونصحَ للأمةِ، وكانَ خيرَ المرشدينَ إلى صراطِ اللهِ المستقيمِ، اللهمَّ صلِّ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ وسلمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهَ، صحَّ منْ حديثِ العرباضِ بنِ ساريةَ رضيَ اللهُ عنْهُ أنَّهُ قالَ: صلى بنا رسولُ اللهِ ذاتَ يومٍ، ثمَّ أقبلَ عليْنا بوجهِهِ، فوعظَنا موعظةً بليغةً ذرفتْ منْها العيونُ، ووجلتْ منْها القلوبُ، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ، كأنَّ هذه موعظةُ مودعٍ فماذا تعهدُ إلينا؟ قالَ: ((أوصيكم بتقوى اللهِ، والسمعِ والطاعةِ وإنْ عبدًا حبشيًا، فإنَّهُ من يعشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليْكم بسنتِي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذِ، وإياكمْ ومحدثاتِ الأمورِ، فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ)) [1].
هذا حديثِ تقشعرٌّ لَهُ الجلودُ، وتضطربُ منْهُ فرائصُ المسلمِ، وتوجلُ منه النفوسُ، وتذرفُ منه الدموعُ، يودعُ فيهِ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلمَ مرتحلاً إلى الرفيقِ الأعلى.
إنه ـ أيُّها المسلمونَ ـ أمرٌ منَ الرسولِ بملازمةِ السنةِ على كلِّ حالٍ ومهما كانتِ الظروفُ والأحوالُ، حيثُ عبّرَ عن ذلك تعبيرًا واضحًا لا تخفى دلالتُهُ حيثُ قالَ: ((عضّوا عليْها بالنواجذِ)) ، فعلى كلِّ مسلمٍ في ضوءِ هذا الحديثِ وغيرِهِ التمسكُ بالسنةِ، وأن يسألَ اللهَ جلَّ وعلا الثباتَ عليْها، والحذرَ كلَّ الحذرِ مما يخالفُها منَ البدعِ ومحدثاتِ الأمورِ المخالفةِ للدين.
واللهَ أسألُ أن يصلحَ أحوالَ المسلمينَ، ويمنحَهمُ العلمَ في أمورِ الدينِ والتمسكَ بالحقِّ والثباتَ عليْهِ في وجهِ المبتدعينَ، وصلى اللهُ وسلمَ وباركَ على عبدِهِ ورسولِهِ نبيِّنا محمدٍ وآلِهِ وصحبِهِ أجمعينَ ومن تبعهمْ وسارَ على هديِهم إلى يومِ الدينِ.
[1] رواه أحمد (4/126)، وأبو داود في السنة، باب: لزوم السنة (4607)، والترمذي في العلم (2678)، وابن ماجه في المقدمة باب: اتباع سنة الخلفاء الراشدين (42)، وصححه الألباني بتخريج السنة (ص29).
(1/3947)
التوكل على الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المتوكل موصول القلب بالله عز وجل. 2- التوكل لا يتنافى والأخذ بالأسباب. 3- قوة المؤمن حين يتوكل على ربه. 4- الابتلاء والاختبار سنة الله في خلقه. 5- الأرزاق والآجال مكتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله وتوكلوا عليه حقّ التوكل مع صدق النية والتزام ذلك، واعلموا أن من أساس عقيدة التوحيد مبدأ التوكل على الله عز وجل، ولذا نجد أن حقيقة التوكل على الله قد جاء بها رسل الله جميعًا عليهم الصلاة والسلام، فكان كل منهم يخاطب قومه قائلاً كما حكى الله عنهم بقوله تبارك وتعالى: وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51]، اللهم اجعلنا منهم.
فالمؤمن يتوكل على الله وحده، فلا يلتفت قلبه إلى سواه، ولا يرجو عونًا إلا منه، وبهذا الإيمان كان المؤمنون على مدار العصور والأيام والشهور والسنين والأزمنة يواجهون الطواغيت باستعلاء وثبات على الحق قائلين كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى? مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [إبراهيم:12]، اللهم ارزقنا التوكل عليك يا حي يا قيوم.
عباد الله، إن القلب الذي يتوكل على الله هو قلب موصول بالله سبحانه، يستمد منه العون والنصر، غير مبال بالعقبات، وغير حافل بما يتوعده به طواغيت الأرض من الوعيد والتهديد، وكيف يخاف من يعتقد أن الله معه ويتيقن أن الله كاف عبده كما قال الله تعالى: أَلَيْسَ ?للَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36]، وكما قال الله جل وعلا: قُلْ حَسْبِىَ ?للَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ?لْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38]؟!
أما الذين يجدون في قلوبهم الاتكال على أحد غير الله أو على سبب ما يعلّقون عليه الآمال أو يسندون إليه الظهور كما يقولون فأولئك قد أصيبوا بنكسة عظيمة في عقيدتهم، فيصبحوا عرضة الأهواء تتقاذفهم كيف تشاء، فتستولي عليهم الفتن، كفتن التمائم والحروز التي يزعمون أنها تدفع الشر أو تجلب الخير، بل يعلقون آمالهم بالدجاجلة والمشعوذين بدعوى أنهم يكاشفونهم أمورًا غيبية ولا يعلم الغيب إلا الله، وكذلك التطير والتشاؤم بالأيام والشهورة أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
فكل ذلك ـ يا عباد اللهـ نكسة وضلال، وعلى أولئك الناس أن يبحثوا أولاً في قلوبهم عن الإيمان بالله؛ لأن التوكل من صفات المؤمنين كما أخبرنا الله: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، صفة عظيمة وليست إلا للمؤمنين.
ولتعلموا ـ رحمكم الله ـ أن التوكل على الله وحده ليس بمانع من اتخاذ الأسباب، فالمؤمن يتخذ الأسباب من باب الإيمان بالله وطاعته فيما أمره به من اتخاذها، ولكنه لا يرى الأسباب هي التي تنشئ النتائج فيتكل عليها، إن الذي ينشئ النتائج هو الذي ينشئ الأسباب، إنه قدَر الله وحده لا شريك له ولا ربّ سواه ولا معين إلا هو، فهو القادر على كل شيء، وهو الذي لا يعجزه شيء، قال الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [الشورى:11].
فعلى الإنسان المؤمن الصادق في إيمانه صاحب الدعوة إلى الله أن يتجرد من كل سند من الأرض، بل ويستهين به مهما بدا قويًا، فهو لا يساوي شيئًا ما دام المسلم يرتكن إلى مولاه الذي خلقه وأوجده من عدم وأبرزه إلى حيز الوجود المشاهد، قال الله تعالى: مَثَلُ ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ مِن دُونِ ?للَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ ?لْعَنكَبُوتِ ?تَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ ?لْبُيُوتِ لَبَيْتُ ?لْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:41]، إنه الوصف الحقيقي يا عباد الله.
حتى ولو قدرت هذه الأسباب على أذاه، فإنما ذلك بإذن الله الذي يتولاه، لا عجزًا من ربه عن حمايته من أذاها، ولا تخليًا منه سبحانه عن نصرته، ولكنه ابتلاء وتمحيص لعباده الصالحين، كما أنه استدراج لعباده الطالحين وإمهال لهم.
ولهذا كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يردد والمشركون يتناولونه بالأذى ويضربون وجهه بالنعال حتى تركوه وما يعرف له فم من عين، وهو يردد: (رب ما أحلمك، رب ما أحلمك)، فقد كان يعرف في قرارة نفسه ما وراء هذا الأذى من رحمة وحلم ربه، لقد كان واثقًا أن ربه لا يعجز عن تدمير أعدائه وإهلاكهم ونصره عليهم، واثقًا أن ربه لا يتخلى عن أوليائه، ولكنه الحلم والإمهال والاستدراج. فسبحان الله العليم الخبير البصير.
فأوصيكم ـ عباد الله ـ بتقوى الله وصدق التوكل والاعتماد على الله واللجوء إليه في جلب النفع ودفع الضر، فإنه جل وعلا نعم المولى ونعم النصير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى واعلموا أن الله جل وعلا خلق العبد وكتب أثره ومصائبه ورزقه وأجله وشقاوته وسعادته وكل ما يعترضه في حياته من خير أو شر، كتب ذلك كله والعبد في بطن أمه، وهذا جار عليه لا محالة، لا يغيره أو يبدله تعليق تميمة أو حرز، ولا يبطله كهانة مشعوذ، ولا يؤثر فيه تشاؤم متشائم، ففي الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق: ((إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكًافيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)) [1].
وهكذا يا عباد الله، فقدر الله هو المسيطر على الأحداث والمصائر والأمور كلها، يدفعها في الطريق المرسوم مضيّها فيه لا محالة والمحدّد لها، وينتهي بها إلى النهاية المحتومة عليها، فيجب على المسلم أن يستسلم لله عز وجل استسلامًا مطلقًا مع إحسان العمل والسلوك والطمأنينة لقدر الله والانقياد لأوامره جل وعلا وتنفيذ تكاليفه بثقة في الله لا تتزعزع، وبعزيمة في الله لا تلين ولا تتردد.
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
[1] رواه البخاري في القدر، باب: في القدر (7/210)، ومسلم في القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه(2643).
(1/3948)
الجمعة وعظم شأنها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الجمعة عيد المسلمين. 2- التخلف عن الجمعة وصفات المنافقين. 3- خير يوم طلعت عليه الشمس. 4- ساعة الإجابة في يوم الجمعة. 5- آداب وسنن الجمعة. 6- الصلاة على النبي يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله جعل يوم الجمعة عيدًا لأهل الإسلام، وأمرنا فيه بذكره والإكثار من الصلاة والسلام على سيد الأنام، أحمده سبحانه وتعالى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله عليه الصلاة والسلام، خيرة خلق الله وقدوة الأنام.
أما بعد: عباد الله، لقد اختص الله سبحانه وتعالى بعض الأيام بمزيد من الشرف والتفضيل، فكان لها في النفوس الأثر الكبير من الرفعة التكريم والاحترام، ومن تلك الأيام المباركة من الله جل وعلا يوم الجمعة، فجعله الله عيدًا للمسلمين، كما جعل الأحد للنصارى والسبت لليهود، وقد أوجب الله في هذا اليوم فريضة الجمعة فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].
ولم يبح لأحد التخلف عنها لغير عذر، حتى لا يفوت من هذا الاجتماع الأسبوعي ما فيه من تعليم وتوجيه وموعظة وتذكير، بل هو تجديد للبيعة وإظهار لوحدة المسلمين وإحياء لعاطفة الأخوة بينهم، فقال : ((لينتهين قوم عن ودعِهم الجمُعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) [1] ، ومعنى ودعِهم أي: تركهم الجمُعات أو التخلف عنها، وقال أيضًا: ((من ترك ثلاث جمع تهاونًا طبع الله على قلبه)) [2] أي: ختم على قلبه نعوذ بالله من ذلك.
فاتقوا الله عباد الله، واشهدوا الجُمَع، وحذار من التهاون بها أو إنشاء الرحلات فيها هربًا من أدائها أو عدم الاهتمام بها أو انتحال الأعذار عن أدائها أو التشاغل عنها، وقد سمعتم الوعيد الشديد في ذلك.
واعلموا أن يوم الجمعة هو أفضل الأيام عند الله، فقد قال رسول الله : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها)) [3].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن في يوم الجمعة ساعة مباركة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي ويسأل الله شيئًا إلا أعطاه ذلك، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال: ((فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه)) [4].
أما عن وقت هذه الساعة المباركة فقد ذكر أنها بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، وقيل: هي ما بين أن يجلس الإمام على المنبر حتى تقضي الصلاة، وقيل: غير ذلك، والأفضل على المسلم استدامة الذكر وسؤال الله من خيري الدنيا والآخرة في كل ساعات هذا اليوم المبارك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه يفضّل التبكير إلى الجمعة لقضاء أكبر قدر من الوقت ممكن في التنفل تقربًا لله، وحرصًا على القرب من الإمام من أجل استجماع الفكر وتدبر الذكر، فقد صح عن رسول الله أنه قال: ((من غسّل يوم الجمعة واغتسل وبكّر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة يخطوها أجر عمل سنة؛ صيامها وقيامها)) [5].
فينبغي للمسلم الحريص على الخير المبادرة إليها لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) [6] أي: خرج لاستماع الخطبة، وللجمعة خطبة أولى وخطبة ثانية، ويسميها بعض أهل العلم موعظة الأسبوع.
فالله الله عباد الله، حافظوا على الجمعة، وبادروا إليها برغبة ومحبة مراعين آدابها وسنتها لتفوزوا بفضلها والفوز بالساعة المستجابة والدعاء فيها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَو?ةِ مِن يَوْمِ ?لْجُمُعَةِ فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ وَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:9، 10].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، ووفقنا الله للمبادرة إلى صلاة الجمعة والجماعة والحصول على الأجر الكامل فيها، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في الجمعة، باب: التغليظ في ترك الجمعة (865).
[2] رواه أبو داود في الصلاة، باب: التشديد في ترك الجمعة (1052)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر (500)، والنسائي في الجمعة، باب: التشديد في التخلف عن الجمعة (3/88)، وحسنه الترمذي.
[3] رواه مسلم في الجمعة، باب: فضل يوم الجمعة (854).
[4] رواه البخاري في الجمعة، باب: الساعة التي في يوم الجمعة (1/224)، ومسلم في الجمعة، باب: الساعة التي في يوم الجمعة (852).
[5] رواه أبو داود في الطهارة، باب: في الغسل يوم الجمعة (345)، والترمذي في الصلاة، باب: ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة (496)، والنسائي في الجمعة (3/95)، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم.
[6] رواه البخاري في الجمعة، باب: فضل الجمعة (1/212)، ومسلم في الجمعة، باب: الطيب والسواك يوم الجمعة (850).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله المتفضل على عباده بجزيل النعم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من اصطفاه لرسالته وشرفه على سائر خلقه، فاللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن للجمعة سننًا وآدابًا لا بد لكل مصلّ من مراعاتها استجابة لأوامر الكتاب والسنة، فلا تؤذينَّ ـ أخي المسلم ـ أحدًا برائحة كريهة، فعليك قبل الإتيان إلى المسجد الاغتسال والتطيب ولبس أحسن الثياب لقوله : ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وسواك ويمس من الطيب ما قدر عليه)) ، وفي رواية: ((ولو من طيبِ المرأة)) [1].
كما يجب عليك ـ أخي المسلم ـ أن تتحاشى تخطّي رقاب المسلمين في المسجد، وإن كنت حريصًا على الصفوف الأولى فعليك بالتبكير بدلاً من التأخر والوقوع في المحاذير، ولا ترفعن صوتك حتى ولو بقراءة القرآن، فإنها تشوش على المصلين صلاتهم، ولا تقيمن أحدًا من مجلسه، ولا تمرن بين يدي مصل فيفوتك الثواب وتستحق العقاب.
وإياك ثم إياك أن تنسى الإكثار من الصلاة على النبي في هذا اليوم المبارك، فإن من حقه علينا أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته كما صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم من الندب إلى مشروعية الصلاة والسلام عليه في يوم الجمعة وليلتها بصفة خاصة وفي سائر الليالي والأيام بصفة عامة، فقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((من صلى عليّ في يومه وليلته عشر مرات حلت له شفاعتي يوم القيامة)) ، اللهم ارزقنا شفاعته ومحبته ومتابعته والالتزام بسنته والبعد عن مخالفته، وأن تحشرنا معه يوم القيامة بفضلك ومنّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.
[1] رواه مسلم في الجمعة، باب: وجوب غسل الجمعة على كل بالغ من الرجال (846).
(1/3949)
الألفة والاتحاد ونبذ الاختلاف
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
الآداب والحقوق العامة, البدع والمحدثات
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وحدة المسلمين من أهم المقاصد الإسلامية. 2- حث الإسلام على وحدة المسلمين وتحاببهم. 3- التحذير من الفرقة والاختلاف وبيان خطرها. 4- من أكبر أسباب ذلتنا فرقتنا وتشرذمنا. 5- الفرق كثيرة والناجي منها واحدة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي ألف بين قلوب عباده المؤمنين، وجعلهم أنصارًا وأعوانًا وإخوة في الدين، وحذرهم من الفرقة والاختلاف والعودة إلى النعرات الجاهلية النتنة التي نهى عنها رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإله الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد آدم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن من أهم ما يدعو إليه الدين بعد التوحيد هو جمع الكلمة وائتلاف القلوب والمشاعر واتحاد الغايات وتوحيد الهدف والاعتصام بحبل الله المتين؛ لأنه بتوحيد الصفوف واجتماع الكلمة الضمان ببقاء تماسك الأمة بتوكلها على الله تعالى ونجاح رسالتها، ومن أجل هذا فقد اعتبر الشرع جميع المسلمين إخوة في الدين فقال الله تعالى: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((المسلم أخو المسلم)) ، وقال أيضًا: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) [1] ، وفي حديث آخر وصف رسول الله المجتمع الإسلامي بالجسد الواحد المترابط الأجزاء فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) [2] ، إنه لمثل رائع عظيم.
وإلى جانب هذا فقد شرع لنا ديننا الإسلامي الحنيف كل ما يقوي عوامل الألفة والاتحاد، ويزيل عوامل البغضاء والكراهة والاختلاف والفرقة، فأمرنا بالسلام وربط بينه وبين الإيمان وبين دخول الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) [3] ، إنه السلام، أعظم تحية تقدير واحترام.
ونهانا أيضًا عليه الصلاة والسلام عن الهجران؛ لأنه يسبّب الكراهة والبغضاء والبعد والحقد والتناحر والتدابر والتنازع والتفرق، فقال: ((لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) [4]. فلتحرص ـ أخي المسلم ـ على الخيرية ببدئك بالسلام؛ لتنال من الله المثوبة والأجر والإكرام.
ولما كان الاختلاف ـ يا عباد الله ـ مفسدًا لدين الله ودنيا الناس فقد اعتبره الإسلام انفصالاً عنه وكفرًا، فقال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْء إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ يُنَبّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]. إن الفُرقة شطط كبير وجرم عظيم يبدّد المجتمع ويمزّق المجتمع، عاقبته وخيمة: خيبة في الدنيا وخسارة في الآخرة، ومآله شر مآل، ويجر إلى أسوأ الأحوال.
وحذر الله المسلمين من الخلاف في الدين والتفرّق في فهمه شِيعًا متناحرة وأحزابًا متلاعنة كما فعل الأولون، فقال الله تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وكما قال الله تعالى: فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53].
فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الشقاق يضعف الأمم، ويوهن المجتمعات القويّة، ويميت الأمم الضعيفة، ولذلك جعل الله أوّل عظة للمسلمين بعد انتصارهم في معركة بدر أن يوحّدوا صفوفهم ويلمّوا شملهم ويجمعوا أمرهم، وذلك عندما تطلّعت بعض النفوس لحظها من الغنائم، فقال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ ?لانفَالِ قُلِ ?لأنفَالُ لِلَّهِ وَ?لرَّسُولِ فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1]، آمنا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيًا ورسولاً.
ثم أفهمهم أن الاتحاد في العمل لله هو طريق النصر الأكيد واتجاه الهدف وتوحيد الكلمة، كما أن الفرقة والتنازع هي طريق الهزيمة والخسران، فقال الله تبارك وتعالى: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
ولقد كان للمسلمين درس عظيم وعظة كبيرة على مر الأجيال في يوم أحد والضربة الموجعة التي أفقدت المسلمين من رجالهم سبعين بطلاً، وقلبت النصر إلى هزيمة على الرغم من الإيمان والتضحية النادرة في الدفاع عن الحق والاستبسال للموت أو حرز النصر، وما ذلك إلا لأن بعض من كان بالجبل من الرماة وهم عدد قليل ـ رحمهم الله تعالى ـ كانوا على اجتهاد في رأيهم، فتنازعوا وانقسموا وخالفوا بعضهم اجتهادًا منه وظنًا أن المعركة انتهت، فنسوا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما صور لنا ذلك القرآن الكريم: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ?للَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى? إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَـ?زَعْتُمْ فِى ?لاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ?لاْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ [آل عمران:152].
ولو اعتبر المسلمون بذلك وعقلوا أحوالهم في هذه المرحلة الراهنة العصيبة من تاريخهم لأدركوا أن سبب ما نزل بهم من نكبات ولحقهم من العار والتقهقر والتراجع وانحسار ديار الإسلام هو نتيجة التفرق والنزاع الحاصل بين أفراد الأمة الإسلامية بفعل الهجمات الصليبية والصهيونية التي مهدت الطريق بالخفاء لتقسيم المسلمين أحزابًا وشيعًا منحلة واهية ودويلات متدابرة ممزقة، مستغلين القاعدة المفسدة التي تقول: (فرق تسد)، قاتل الله الكفار أنى يؤفكون، وجمع الله كلمة المسلمين على الحق والهدى.
فيا عباد الله رحمكم الله، يجب عليكم تلافي ذلك، كما يجب عليكم تصحيح أوضاعكم ورأب الصدع وتوحيد الصفوف، وأن تنهضوا لترميم ما وهى من بنيانكم واسترداد ما سلب من مقدساتكم وما تحطم من كيانكم وما تردى من معنوياتكم وانقسام بينكم واختلاف في الاتجاهات وتباين في الأهداف وتشاحن، فانبذوا ذلك كله، ولا يتمّ كل ذلك ـ أيها المسلمون ـ إلا بالرجوع إلى مصدر عزّتكم كتاب الله وسنة رسول الله والالتفاف وتوحيد الكلمة ووحدة الصفوف والغايات والإخلاص الأكيد لدين الله جل وعلا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمَن يُشَاقِقِ ?لرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ?لْهُدَى? وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ?لْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلَّى? وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا [النساء:115].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في المظالم، باب: نصر المظلوم (3/98).
[2] رواه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (7/92)، ومسلم في البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم (2586).
[3] رواه مسلم في الإيمان، باب: أن لا يدخل الجنة إلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإيمان (54).
[4] رواه البخاري في الأدب، باب: الهجرة (7/90)، ومسلم في البر والصلة، باب: تحريم الهجر فوق ثلاث (2560).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((افترقت اليهود على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)) [1].
ففي هذا الحديث ـ أيها الناس ـ إخبار من الرسول بأن الافتراق واقع في هذه الأمة الإسلامية، كما بين لنا أن الناجي من هذه الفرق فرقة واحدة وهي الجماعة، وفي رواية أخرى لما سئل رسول الله عن هذه الفرقة الواحدة الناجية قال: ((من كانت على مثل ما أنا عليه وأصحابي)).
ومن أجل هذا فقد تنبه السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين إلى ذلك حين وقع التفرّق والاختلاف في الأمة وحصل الانشقاق ونشأت الفرق التي ابتدعت في دين الله ما لم يأذن به الله بتعًا لأهوائهم وتعاظمًا عن نقصٍ في داخل نفوسهم ولتجميع الناس السذّج حولهم.
فالجؤوا ـ عباد الله ـ إلى الكتاب والسنة، واعتصموا بهما، وادعوا الناس إلى التمسك بهما، واعرفوا طريق السلف الصالح وهم أهل السنة والجماعة أو أهل الحديث، فهم لا ينتسبون إلا إلى المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب اتباعه وتصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر، وهذا بخلاف كل أحد من الناس، فإنه يؤخذ من قوله ويترك، وهذا ما عليه أهل البدع والضلال الذين يلتفّون حول أفرادٍ من الناس ينتمون إليهم ويوالونهم ويعظمونهم ويقيمون حفلات المولد ويحدثون فيه ما لم يأذن به الله، هداهم الله إلى طريق الحقّ.
فعليكم ـ عباد الله ـ بالتمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ، وهو ما كان عليه أهل السنة والجماعة، وهم السلف الصالح الذين عضّوا على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالنواجذ ومن كان على منهجهم على الطريق المستقيم كما قال الله تبارك وتعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، وسبيل الله طريقه المستقيم وحبله المتين كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قال الله جل وعلا عنه: وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? عَلَّمَهُ شَدِيدُ ?لْقُوَى? [النجم:3-5]، وقال بعض أهل العلم: يجب علينا الأخذ بالوحيين الكتاب والسنة أي: كل ما جاء عن الله جل وعلا وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الإيمان بالله وما جاء عن الله على مراد الله وكل ما جاء عن رسول الله واعتقاد بأن ذلك هو الحق، وليس للمسلم الخِيَرة في ذلك، كما قال الله تبارك وتعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ?للَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ?لْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].
اللهم ارزقنا حلاوة الإيمان، ووفقنا للانقياد لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والاعتصام بالكتاب والسنة، اللهم اجعلنا من الفرقة الناجية يا أرحم الراحمين...
[1] رواه أحمد (2/232)، وأبو داود في السنة، باب: شرح السنة (4596)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2642)، وصححه الترمذي والحاكم (1/6)، ووافقه الذهبي، وله روايات وطرق متعددة.
(1/3950)
الحث على الرحمة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرحمة من صفات الله. 2- الإسلام دين الرحمة. 3- الحث على التراحم والتحذير من الغلظة. 4- القسوة والعقوبة قد تكون من صور الرحمة. 5- الرحمة بالحيوان. 6- الرحمة بالوالدين والزوجة والأرحام.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي شملت رحمته كلّ الوجود، أحمده سبحانه وتعالى الراحم من عباده الرحماء الرحيم الغفور الودود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أزكى عباد الله رحمة وأوسعهم عاطفة وأرحبهم صدرًا، أرسله الله رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، واجعلنا منهم ومعهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد أمر الإسلام بالتراحم وحثّ عليه وأرشد المسلمين إلى التراحم وجعله من دلائل الإيمان، ونهانا عن القسوة في أخلاقنا واعتبرها دليل فساد فطرة الإنسان، ولا عجب في ذلك فالرحمة صفة المولى تباركت أسماؤه وصفاته كما قال الله عز وجل: وَقُل رَّبّ ?غْفِرْ وَ?رْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ ?لرحِمِينَ [المؤمنون:118].
وقد وصف الله عباده المؤمنين بأنهم أشدّاء على الكفار رحماء بينهم، فقال الله جل شأنه: أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، وقال الله تبارك وتعالى عن عباده المؤمنين: أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [المائدة:54]. اللهم ارزقنا هذه الصفة، إنك على كل شيء قدير.
والإسلام ـ عباد الله ـ هو رسالة خير وسلام وعطف على جميع البشر، فقال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـ?لَمِينَ [الأنبياء:107]، ولذلك كان افتتاح سور القرآن الكريم كلها إلا سورة التوبة بـ(بسم الله الرحمن الرحيم)، والرحمة صفة من صفات الحقّ تبارك وتعالى.
ولما أراد الله أن يمتنَّ على العالم برسالةِ الإسلام اختار لها محمدًا عليه الصلاة والسلام، وسكب في قلبه وخلق صفة المودة والرأفة والحلم والرحمة والرفق، فقال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، فصلوات الله وسلامه عليه.
فغِلظة القلب وقسوته خصلة مذمومة تدلّ على فساد من اتَّصف بها، ولذلك اعتبرها الإسلام عِلّة الفسق عن أمر الله تعالى وسرّ الشرود عن صراطه المستقيم، فقال الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ?للَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ?لْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ?لأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَـ?سِقُونَ [الحديد:16]، نعوذ بالله من قسوة القلوب، اللّهمّ آمين.
وقد جاءت الأحاديث النّبويّة الشريفة حاثّة على التراحم الشامل فقال رسول الله : ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) [1] ، فمن لا يرحم الناس ترتفع عنه رحمة الله. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل رسول الله الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلتُ منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله ثم قال: ((من لا يرحم لا يرحم، أوَأملك لك أن كان الله نزع من قلبك الرحمة؟!)) [2].
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الرحمة الحقّة قد تأخذ طابع القسوة أحيانًا، وهي ليست كذلك، فالأطفال عندما يساقون إلى المدارس كرهًا ويُحفَّظون الدروس زجرًا، ولو تركوا وأهواءَهم لقتلهم اللهو واللعب، وعندما يؤدبون على الخطيئة أو ينهوا من قبل آبائهم وأمهاتهم عما تميل إليه نفوسهم وفيه ضرر عليهم إنما هو رحمة من الوالدين، وكذلك الطبيب عندما يجري جراحة بالجسم فيمزق اللحم، وقد يضطر لتهشيم العظام أو بترها، وما يفعل ذلك إلا رحمة بالمريض، فليست الرحمة حنانًا لا عقل فيه، أو شفقة تتنكّر للعدل والنظام، وإنما هي عاطفة ترعى الحقوق جميعها، فمنظر الإنسان وهو يقتصّ منه قد يستدرّ العطف، ولو أجيبت هذه العاطفة السريعة وأطلق سراح القاتل لامتلأت الأرض فوضى وفسادًا، ولذا قال الله تعالى: وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ يأُولِي ?لألْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، والمسلم يسرّ ويفرح عند سماعه إقامة الحدود.
أما الرحمة المطلوبة فهي ذلك الأثر من الجمال الإلهي الباقي في طبائع الناس الذي يسوقهم لفعل كل بر ومحاربة كل شر وقطيعة وفساد، قال رسول الله : ((جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)) [3] ، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الله تعالى خلق يوم خلق السموات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة واحدة، فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض)) [4].
فالرحمة ـ عباد الله ـ شاملة، لكن ذئاب البشر أبوا إلا انتهاكها واستبعادها واعتراضها ووضع العوائق في طريقها، ولذلك لم يكن بدّ من إزالة هذه العوائق والإغلاظ عليهم، وهذا لا يتنافي وشمول الرحمة، ولا يدلّ على أن الرحمة فيها قصور، وإنما القصور فيمن حرم نفسه منها، ولذلك نرى أن رحمة الله وسعت كل شيء، ومع ذلك فلن ينالها مشرك أو جحود ملحد وكافر مجرم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِنَا يُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لرَّسُولَ ?لنَّبِىَّ ?لامّىَّ [الأعراف:156، 157].
ومثل هذا ما قاله الرسول الكريم عليه والصلاة والسلام: ((كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى)) ، فقالوا: ومن يأبى؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) [5].
اللهم ارزقنا طاعتك وطاعة رسولك، وجنبنا معصيتك ومعصية رسولك صلى الله عليه وآله وسلم.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، وأقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (7/77)، ومسلم في الفضائل، باب: رحمته بالصبيان والعيال (2319).
[2] رواه البخاري في الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله (7/74)، ومسلم في الفضائل، باب: رحمته بالصبيان والعيال (2318).
[3] رواه البخاري في الأدب، باب: جعل الله الرحمة في مائة جزء (7/75)، ومسلم في التوبة، باب: سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2753).
[4] رواه مسلم في التوبة، باب: سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (2753).
[5] أخرجه البخاري في الاعتصام، باب: الاقتداء بسنة رسول الله (8/139).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، إن من الرحمة المطلوبة الرفق بالحيوان، وقد شدد الإسلام المؤاخذة على من تقسو قلوبهم على الحيوان ويستهينون بآلامه، وبين لنا أن الإنسان على عظم قدره وتكريمه على كثير من الخلق فإنه يدخل النار في إساءة يرتكبها مع الحيوان، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((دخلت امرأة النار في هرة؛ ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) [1] ، أعاذنا الله من النار.
كما بين الإسلام العظيم أن كبائر المعاصي تمحوها نزعة رحمة تغمر القلب ولو بإزاء كلب، ففي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي بطريق اشتدّ عليه العطش، فوجد بئرًا، فنزل فيها فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له)) ، قالوا: يا رسول الله، إن لنا في البهائم أجرًا؟! فقال: ((في كلّ كبِد رطبة أجر)) ، وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن امرأة بغيًا رأت كلبًا في يوم حارّ يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت له موقها [2] ، فسقته إياه، فغفر لها به)) [3]. اللهم وفقنا لعمل الخير واغفر لنا ذنوبنا يا أرحم الراحمين.
فيا عباد الله، إذا كانت الرحمة بكلب تغفر ذنوب البغايا فما بالكم ماذا تصنع الرحمة ببني الإنسان؟! إنها تصنع العجائب، وإن الصدقة لتطفئ غضب الرب جل وعلا، وإن الصدقة على القريب صلة وصدقة، وإن الله عز وجل يحب من عباده المؤمنين المتقين الرحماء، فالمسلم مأمور بأن يلقى المسلمين قاطبة وفي قلبه الرحمة والشفقة عليهم، فينصح لهم ويحث نفسه ويحثهم على فعل الخير والتراحم والتنافس في ذلك وبصفة خاصة، فيكون فيه الرحمة على والديه في مقدمة عامة الناس، كما قال الله تبارك وتعالى: وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:24]، فلا يرفع طرفه في والديه، ولا يتبرم في وجهيهما، ولا يزدري أعمالهما فضلاً عن أن يستنقص من قدرهما عياذًا بالله تعالى، ثم أقاربه، ومن ضمن من يرحمهم الزوجات واللاتي قال الله تعالى عنهن: هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]، فليرفق بهن، وليعاشرهن بالمعروف، وليتودد إليهن، ولا يقبّح، ولا يضرب في الوجه، خاصّة عندما يرتكبن معصية كخروج من البيوت بغير إذن أو تهاونٍ في صلاة أو عدم مثولها في الفراش، ففي ذلك يجب عليه تأديبهن والأخذ على أيديهن وضربهن ضربًا غير مبرّح كما قال الله تعالى: وَ?ضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34]، ولا يحقّ لوالِدِها أو أقارِبها معارَضة الزّوج، فيتوسّع الخلاف وتكون النهاية المؤلمة، عياذًا بالله تعالى من كلّ سوء، اللهم آمين.
وفقني الله وإياكم وجميع المسلمين للعمل بكتاب الله وسنة رسوله ، ونسأله تعالى أن لا يحرمنا من الرحمة والرفق، فإن من يحرم الرفق يحرم الخير كله، وصلِّ اللهم وسلم على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[1] رواه البخاري في الشرب، باب: فضل سقي الماء (3/77)، ومسلم في البر، باب: تحريم تعذيب الهرة (2232).
[2] الموق أي: الخف.
[3] رواه البخاري في الأدب، باب: رحمة الناس والبهائم (7/77)، ومسلم في السلام، باب: فضل سقي البهائم المحترمة وإطعامها (2244).
(1/3951)
طلب العلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم والعلماء. 2- طلب العلم يشمل العلوم الدينية والعلوم الطبيعة. 3- دعوة للاهتمام بالعلم الشرعي. 4- رفع العلم وقبضه بموت العلماء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بَعد: فيا عبادَ الله، اتقوا اللهَ، واعلموا أن التعلُّمَ والتَّعليمَ الذي ينتُجُ عن الإيمان والعمل، وذلك من رُوحِ الدِّينِ وجوهرهِ، ولا عزةَ ولا سعادةَ للمسلمينَ إلا بذلك، والناسُ في نظرِ الإِسلام إما متعلِّمٌ يطلبُ الرُّشْدَ والهدايةَ وإِما عالِمٌ يطلبُ المَزيدَ، وعندما يكونُ المؤمنُ العامل للصالحات العالِمَ التقي لربه كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء [فاطر:28] يكون هو الذي يُؤْبَهُ به ويحترم في المجتمعِ الإسلامي؛ ولهذا كانَ أولُ ما نزلَ من آياتِ القرآنِ قولُ الله تعالى لنبيِّه : ?قْرَأْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لَّذِى خَلَقَ خَلَقَ ?لإِنسَـ?نَ مِنْ عَلَقٍ ?قْرَأْ وَرَبُّكَ ?لأَكْرَمُ ?لَّذِى عَلَّمَ بِ?لْقَلَمِ عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، فكانت أولَ نداءٍٍ يسمو بقدْرِ القلمِ، وينوِّهُ بقيمةِ العِلم، الذي يلازمُه الإيمانُ والعمل الصالحُ، وجعل اللَّبِنةَ الأولى في بناءِ الرجالِ العُظماءِ القراءةَ والتعلُّمَ امتثالاً لأمر الله والتزامًا بسنةِ رسولِ الله ، وقد رفع اللهُ درجاتِِ العُلماءِ حتى قرنَهم بنفسِه وملائكتِه في الشهادةِ بوحدانيته والإقرارِ بعدالَتِه، فقال جلَّ شأنُه: شَهِدَ ?للَّهُ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ وَ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَأُوْلُواْ ?لْعِلْمِ قَائِمًَا بِ?لْقِسْطِ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ [آل عمران:18]، وقال اللهُ تعالى مشيدًا بالعُلماءِ وفضلِهم على مَن سواهم: قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ?لَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وقال رسولُ اللهِ : ((خيرُكم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمه))، كما جاء عنه : ((الدنيا ملعونةٌ، ملعونٌ من فيها، إلا ذكرُ الله وما والاه وعالمٌ ومتعلم)) [1].
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، واسلُكوا طريقَ العلمِ النافع في كتاب الله تعالى وفي سنةِ رسولِه ، فإنه يؤدي بكم إلى طريقِ الجنةِ والفوزِ برضا الرب، فعن أبي الدرداءِ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طُرقِ الجنَّة، وإن الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم، وإن العالِمَ ليستغفرُ له من في السمواتِ ومن في الأرض والحيتانُ في جوفِ الماء، وإن فضلَ العالِمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكب، وإن العلماءَ ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا، ولكنهم ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر)) [2].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ العلمَ النافعَ يشملُ علومَ الدينِ وعلوم الحياةِ مع الالتزام بِعلومِ الدين في المقامِ الأولِ، فإن علومَ الكونِ والحياة ونتائجَ البحثِ المتواصلِ في ملكوتِ السماواتِ والأرضِ لا تقِلُّ أهميةً عن غيرِها، وحسْبنا أن القرآنَ الكريمَ عندما نوَّهَ بفضلِ العلمِ وجلالِ العلماءِ رَبَطَهُ بالعلمِ الذي ينشأُ من النظرِ في النباتِ والحيوانِ وشؤونِ الطبيعةِ الأخرى فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ أنَزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ ?لْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْو?نُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ ?لنَّاسِ وَ?لدَّوَابّ وَ?لأنْعَـ?مِ مُخْتَلِفٌ أَلْو?نُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ?للَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ?لْعُلَمَاء إِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:27، 28].
عبادَ اللهِ، لقد شاءَ اللهُ الحكيمُ الخبيرُ عمارةَ الأرض، وإنَّ من مقتضياتِ عمارتِها حاجةَ الأمةِ إلى الوعَّاظ والمرشدين والمصلحين والقُضاة وأهلِ الحِسبة، وكذلك من مقتضياتِها أنها تتطلبُ الطبيبَ الحاذق والمهندسَ البارع والباحثَ في طبقات الأرض، وغيرَ ذلك ممن لا ينتظمُ أمرُ الأمةِ وعمارةُ الأرضِ إلا بهم وفقًا لكتابِ الله تعالى وسنةِ رسولِه.
ولكنْ من المؤْسفِ ـ أيها الناسُ ـ انصِرافُ الأكْثرين إلى علومِ الحياة وعزوفهم عن العلمِ الشرعيِّ الذي به حياةُ القلوبِ وعمارتُها، وبه تتمُّ معرفةُ ما أنزلَ اللهُ على رسولِه من الأحكامِ بأدلتِها وما يترتبُ عليها من الثوابِ والعقابِ، وبهذا العلمِ يكونُ المرءُ متعبدًا للهِ على بصيرة، ونافعًا لعبادِ اللهِ في عباداتِهم ومعاملاتِهم، ولذا قال رسولُ اللهِ : ((من يردِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّين)) [3].
فاتقوا الله عبادَ الله، واحرِصوا على التفقُّهِِ في أمورِ دينِكم لِتَدارُكِ الخطرِ وتلافي الخللِ الواقعِ في الأمة، ولتعودَ بلادُ الإسلامِ لمركزِها العلميِّ الذي كانت تحتلُّه في الماضي وتصبحَ مركزًا لإشعاعِ النورِ ونشر دينِ الإسلام في أنحاءِ المعمورة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـ?هُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ?لنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ?لظُّلُمَـ?تِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا [الأنعام:122].
[1] رواه الترمذي في الزهد (2323)، وابن ماجه في الزهد، باب: مثل الدنيا (4112)، وحسنه الترمذي.
[2] رواه أبوداود في العلم، باب: الحث على طلب العلم (3641)، والترمذي في العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2683).
[3] جزء من حديث أخرجه البخاري في العلم، باب: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين (1/25)، ومسلم في الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه (1037).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ لَه، ومن يضللْ فلا هاديَ لَه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عبادَ الله، صحَّ عنْ رسولِ الله من حديثِ عبدِ الله بنِ عَمْرو بنِ العاص رضي الله عنهما قالَ: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((إنَّ اللهَ لا يقْبِضُ العلمَ انتزاعًا ينتزعُهُ من الناس، ولكن يقبض العلم بقبضِ العلماء، حتى إذا لم يبقَ عالِمًا اتَّخذَ الناس رؤوسًا جُهَّالاً، فسئِلوا فأفتَوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا)) [1].
أيها المسلمون، إنَّ فَقْدَ العلماءِ في مثْلِ هذا الزمان الذي نحيَا به لَتتضاعفُ به المصائب دونَ غيرِها من الأزمنة، لأنَّ العلماءَ العاملينَ السلفيينَ المخلصينَ أصبحوا ندرة قليلة بين الناس، وقد كثرَ الجَهْلُ والضَّلالُ والتشْكيكُ والدَّجلُ والبِدَعُ والأهواءُ والشَّعْوَذَةُ، نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ.
وإن فقدَ العلماءِ ـ يا عبادَ الله ـ ليس فقدًا لشخصِ العالِمِ فحسْب، ولكنه فقدٌ لجزءٍ من تراثِ النبوَّةِ؛ لأنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، ولهذا كان فقدُ العالِمِ السلفيِّ لا يعوَّضُ بمالٍ ولا بأيِّ عرضٍ من عروضِ الدنيا، وإنما فقدُه مصيبةٌ عظيمةٌ على الإسلامِ والمسلمينَ، لا تعوَّضُ إلا أنْ ييسِّر اللهُ من يخلفُهُ ليقومَ بمثلِ ما قامَ به من العلمِ الصحيحِ النافعِ والجهادِ المستمرِّ لنصرةِ الحقِّ ونشرِ العلمِ ورفعِ رايةِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى لتكون كلمةُ اللهِ هي العُليا.
وكما قالَ الشَّاعِر:
ولكنَّ الرزيَّة فقدُ حرٍّ يموتُ بموتِهِ خلْقٌ كثير
أسأل اللهَ أن يرزُقَنِي وإيَّاكمُ الإيمانَ الكاملَ والعلمَ النافعَ والعملَ الصالحَ، وأن ييسرَ لهذهِ الأمةِ من العلماءِ العاملينَ السلفيِّينَ المخلِصِينَ ما يحفظُ على الأمةِ بهمْ دينها ويَرُدّ لها عزتها وكرامتها ومكانتها ومجدها وقيادتها وسيادتها إنه جوادٌ كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ...
[1] رواه البخاري في العلم، باب: كيف يقبض العلم؟ (1/33)، ومسلم في العلم، باب: رفع العلم وقبضه (2673).
(1/3952)
الدعاء هو العبادة
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بدعاء الله مع الإخلاص فيه. 2- الأنبياء والدعاء. 3- آداب الدعاء. 4- صور استجابة الدعاء. 5- موانع إجابة الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله مجيب الدعوات وكاشف الكربات، أحمده سبحانه وتعالى الموجب على عباده الشكر في السراء والضراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خير من تضرع إلى الله في الشدة والرخاء، وأرشد أمته إلى الإلحاح في الدعاء، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه. آمين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا بأن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالدعاء في مواطن كثيرة من كتابه الكريم، منها قول الله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، ومنها قول الله جل وعلا: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، وقول الله جل شأنه: قُلْ أَمَرَ رَبّي بِ?لْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ وَ?دْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [الأعراف:29].
ففي هذه الآيات الكريمات يأمرنا سبحانه وتعالى بالدعاء وإخلاصه له، فلا نخلط الدعاء بأي شائبة، كأن ندعو معه غيره كائنًا من كان، مهما كان من الملائكة أو الرسل أو الصالحين، فكل هذا نوع من أنواع الشرك، كما بين لنا أنّ الذي يستكبر ويتعاظم عن إفراد الله بالدعاء سيدخل جهنم صاغرًا، وقد أطلق الله اسم العبادة على الدعاء، وما ذلك إلا لأنّ الدعاء نوع من أنواع العبادة التي إذا صرفت لغير الله أوقعت صاحبها في الشرك الأكبر والعياذ بالله.
فلتحرص ولتحذر أخي المسلم؛ حتى لا تقع في هذا الشرك، وقد كان رسول الله يقول: ((الدعاء هو العبادة)) [1] ، وقد ثبت في السنة الصحيحة أن رسول الله كان كثير الدعاء، وكان يدعو الله ويستغيث به حتى إن الرداء ليسقط عن منكبيه وهو لا يدري، ويحثّ أمته عليه قولاً وعملاً، والله يحبّ من عباده الملحّين.
وكذلك كان رسل الله جميعًا صلوات الله وسلامه عليهم يدعون الناس إلى توحيدِ الله جل وعلا ودعائه والتوجه إليه، كما أنهم أيضًا يدعون ربهم في أقوالهم وأعمالهم كإبراهيم وإسماعيل ونوح وزكريا ويحيى، والأدلة في ذلك أكثر من أن تحصَى في كتاب الله، ويكفينا قوله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:90]، فعلى المسلم مع الدعاء الانكسار بين يدي الله جل وعلا.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى قد وجّهنا في كتابه الكريم إلى أنه يجيب الدعاء بلا وساطة أو شفاعة، فقال الله سبحانه: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، فإن الله سبحانه وتعالى لم يطلب من رسوله أن يتولى الإجابة عن السؤال كما هي العادة في كتاب الله، فقد تولى تعالى بذاته القدسية الإجابة عن سؤال العباد بالدعاء، فعلى العباد أن يسألوا الله وحده لا شريك له، وأن يستعينوا به، وأن يلحوا عليه، وأن يستغيثوا به وحده جل وعلا، وأن لا يصرفوا أي شيء من ذلك إلى غيره.
فالدعاء ـ عباد الله ـ وسيلة مشروعة وعبادة يجب الأخذ بها والإكثار منها إلى جانب المسائل المادية المحسوسة في دفع الشدائد والخطوب، لتبقى قلوب العباد متعلقة بالله عز وجل ومتجهة إليه، فعليكم ـ عباد الله ـ بالدعاء والإكثار منه والإلحاح فيه رجاء توثيق المطلوب بالله جل وعلا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له)) [2].
وعلى الداعي المؤمن أن يدعو الله وهو موقن بالإجابة وإن لم ير أثرًا لذلك، فإن من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل الإجابة تتّفق مع مصلحة الداعي كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يزال يستجاب للعبد ـ ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ـ ما لم يستعجل)) ، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوت وقد دعوت فلم أرَ يستجيب لي، فيتحسر عند ذلك ويدع الدعاء)) ، وفي رواية أخرى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما من رجل يدعو بدعاء إلا استجيب له؛ فإما أن يعجل له في الدنيا، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم أو يستعجل)) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف يستعجل؟ قال: ((يقول: دعوت الله فما استجاب لي)) [3].
فاتقوا الله عباد الله، ولا تغلبنكم على الدعاء الغفلة أو يقعدنكم عنه انحراف المنحرفين وضلال المضلين، فإن للدعاء أثره الفعال في تحقيق الآمال، فإن رسول الله قال: ((ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع)) [4] ، فالله وحده القادر على كل شيء، لا إله إلا هو.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن للدعاء آدابًا لا بد من مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار كترصّد الأوقات الشريفة للدعاء، مثل يوم عرفة وساعة الإجابة من يوم الجمعة وشهر رمضان ووقت السحر وعند الزحف للجهاد وعند نزول الغيث أو عند السجود في آخر الليل.
ومن آداب الدعاء استقبال القبلة، وخفض الصوت وجعله بين المخافتة والجهر، ومنه أيضًا الإلحاح به والإيقان بالإجابة وعدم استبطاء الإجابة، فليثق الدّاعي بربّه العليم الخبير. ومن الآداب للداعي أيضًا أن يقدّم بين يدي الدعاء ذِكرًا لله وثناء عليه وصلاة على نبيّ الهدى.
وكل هذا يكون بعد التوبة من الذنوب وردّ المظالم إلى أهلها والتحلّل منها والإقلاع والنّدم والعزم على عدم العودة إليها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ بَعْدَ إِصْلَـ?حِهَا وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ?للَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ?لْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أبو داود في الصلاة، باب: الدعاء (1479)، والترمذي في التفسير، باب: ومن سورة المؤمن (3244)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
[2] رواه البخاري في الدعوات، باب: ليعزم المسألة فإنه لا مكره له (7/153)، ومسلم في الذكر والدعاء، باب: العزم بالدعاء ولا يقل إن شئت (2679).
[3] رواه مسلم في الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2735).
[4] أخرجه الترمذي في الدعوات (2607) وحسنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليمًا، واجعلنا منهم ومعهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واعلموا أن لاستجابة الدعاء موانع أعاذنا الله وإياكم منها، فيجب أن يحترز منها الداعي لئلا تحول بينه وبين ما يريد، ففي الحديث الصحيح الطويل يقول راوي الحديث أبو هريرة رضي الله عنه، ثم ذكر رسول الله الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام: ((فأنى يستجاب لذلك؟)) [1] نعوذ بالله من الحرام ومقارفة الحرام، ونسأل الله جلّ وعلا السلامة والعافية.
فإياكم ـ عباد الله ـ والكسب الحرام وانتهاك محارم الله تعالى بارتكاب المعاصي والتمادي فيها، وعليكم ـ رحمكم الله ـ بالإسراع في الرجوع إلى الله بالتوبة الصادقة، فإنها من شروط قبول الدعاء وقضاء الحاجات وتفريج الكربات وإزالة المصائب والمكروهات.
ولقد قيل لإبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى: ما بالنا ندعو الله سبحانه فلا يستجاب لنا؟! فقال: "لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، وأكلتم نعمة الله فلم تؤدّوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم، تركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس، فكيف يستجاب لكم؟!"، ما أجمله من وصف، وما أدقه من تعبير. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما أكثر العِبر، وما أقل الاعتبار).
ومن أسباب عدم قبول الدعاء مقارفة الحرام من ظلم وربا وغشّ وخداع وحيَل وتحايل ونفاق ورياء وتملق واتباع للهوى، فالله الله في البعد عن مقارفة الحرام والترفع عن الوقوع في الربا، حتى يستجيب الله منكم الدعاء وصدق اللجوء إلى الله تبارك وتعالى والتضرع والابتهال إلى الله عز وجل.
ومن موانع قبول الدّعاء واستجابته أكل الحرام، سأل الصحابيّ الجليل سعد بن أبي وقاص رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا رسول الله، ادع الله لي أن أكون مستجابَ الدعوة، فأجابه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجواب شاملٍ عام، وهو لكل فرد من أمة محمد صلوات الله وسلامه عليه قال: ((أطِب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)).
اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا، وأصلح نياتنا وذرياتنا وأزواجنا، واغفر اللهم لنا ولوالدينا، آمين...
[1] رواه مسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1015).
(1/3953)
الدعوة إلى التوحيد
التوحيد
الشرك ووسائله
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التوحيد فطرة الله التي خلق الإنسان عليها. 2- معنى التوحيد. 3- دعوة القرآن للتوحيد وللحذر من الشرك. 4- حماية الإسلام جناب التوحيد. 5- التحذير من الشرك وأسبابه ووسائله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعدُ: فيا أيها الناسُ، اتقوا اللهَ واعلموا أنَّ توحيدَ اللهِ والاعترافَ بربوبيتِه وإلهيتِه وحدَه فطرةٌ موجودةٌ في الكيانِ البشريِّ منذُ أنْ خلقَ اللهُ الإنسانَ، فأودعَه اللهُ هذه الفطرةَ، وشهدَ بذلك على نفسِه، فهو اللهُ وحدَه لا شريكَ له الذي أوجدَنا من العدمِ وأبرزَنا إلى حيزِ الوجودِ والمشاهدةِ، كما قالَ تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى? شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَـ?ذَا غَـ?فِلِينَ [الأعراف:172].
فالتوحيدُ ـ عبادَ اللهِ ـ ميثاقٌ معقودٌ بينَ الإنسانِ وخالقِه ومودعٌ في كيانِه منذُ أنْ أنشأَه اللهُ، فهو ميثاقٌ أقدمُ من الرسلِ والرسالاتِ، فلا سبيلَ إلى الاحتجاجِ بعدَ ميثاقِ الفطرةِ وخالقِها فيقول قائلٌ: إنما ضلَّ آبائي فضللْت فهم المسؤولون وحدَهم، ولكنَّ رحمةَ اللهِ وحكمتَه اقتضتْ أن لا يكلَ الناسَ إلى فطرتِهم فقد تنحرفُ، وأن لا يكلَهم كذلك إلى عقولِهم فقد تضلُّ، ولذلك أرسلَ إليهم الرسلَ بالآياتِ للتذكيرِ والتحذيرِ لمن ينحرفُ عن هذه الفطرة، قال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ?للَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ?لرُّسُلِ [النساء:165].
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، والزموا التوحيدَ الخالصَ، وادعوا إليه، فالدعوةُ إليه هي وظيفةُ الرسلِ ومبدأُ دعوتِهم لأممِهم كما قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ ?لْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ ءامَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ وَ?لَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَمَسُّهُمُ ?لْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [الأنعام:48، 49].
والتوحيدُ ـ أيُّها الناسُ ـ هو معنى كلمةِ الإخلاصِ شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ، فإنَّ مدلولَها هو نفيُ الشرك في العبادةِ والبراءة منه وإخلاصُ العبادةِ للهِ وحدَه كما قال تعالى: فَ?عْبُدِ ?للَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ ?لدّينِ أَلاَ لِلَّهِ ?لدّينُ ?لْخَالِصُ [الزمر:2، 3].
والآياتُ في بيانِ توحيدِِ العبادةِ أكثرُ من أن تحصرَ، وهذا التوحيدُ هو الذي جحدَته الأممُ المكذبةُ للرسلِ، وجحدَه مشركو العربِ، ولما بعثَ اللهُ نبيَّنا محمدًا كانَ الناسُ منغمسين في الشركِ في شتى أنواعِه، فمنهم من يعبدُ الأصنامَ، ومنهم من يعبدُ المسيحَ ابنَ مريمَ، ومنهم من يعبدُ الأشجارَ، ومنهم من يعبدُ الأحجارَ، حتى كانَ الواحد إذا سافرَ ونزلَ أرضًا أخذَ منها أربعةَ أحجارٍ فيضعُ ثلاثةً تحتَ القدرِ وينصبُ الرابعَ إلهًا يعبدُه، مع أنهم كانوا يقرون بتوحيدِ الربوبيةِ حيثُ احتجَّ اللهُ عليهم بذلك فيما جحدوه من توحيدِ الألوهيةِ فقالَ تعالى: قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ ?لسَّمْعَ و?لأبْصَـ?رَ وَمَن يُخْرِجُ ?لْحَىَّ مِنَ ?لْمَيّتِ وَيُخْرِجُ ?لْمَيّتَ مِنَ ?لْحَىّ وَمَن يُدَبّرُ ?لاْمْرَ فَسَيَقُولُونَ ?للَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [يونس:31].
فيا عبادَ اللهِ، اتقوا اللهَ تعالى، واعلموا أنَّ أكثرَ الناسِ في هذه الأزمنةِ وغيرِها واقعٌ فيهم الشركُ في توحيدِ الألوهيةِ بصورٍ شتى، فمنها الاعترافُ بشرعيةِ منهجٍ أو وضعِ حكمٍ من صنعِ غيرِ اللهِ من وضعِ البشرِ أو قوانينَ مستوردةٍ من الشرقِ أو الغربِ بعيدةٍ عن منهجِ اللهِ وحكمِه، وكلُّ مذهبٍ اقتصاديٍّ أو اجتماعيٍّ أو سياسيٍّ لا ينطلقُ من منهجِ التوحيدِ الذي سنَّه اللهُ لعبادِه فهو شركٌ، ولذا كانَ مبعثُ رسولِ اللهِ يهدفُ إلى تحقيقِ التوحيدِ كاملاً وإخلاصِه للهِ وحدَه لا شريكَ له وتخليصِه من كلِّ شائبةٍ، وسدِّ كلِّ طريقٍ يمكنُ أن يوصلَ إلى خدشِ التوحيدِ أو إضعافِه فقالَ: ((من حلفَ بغيرِ اللهِ فقدْ كفرَ أوْ أشركَ)) [1] ، وقالَ: ((لا تحلفوا بالطواغي [2] ولا بآبائِكم))، وفي روايةٍ: ((لا تحلفوا بآبائِكم ولا بالطواغيت)) [3] ، وعنْ عديِّ بنِ حاتمٍ رضيَ اللهُ عنْه قالَ: إِنَّ رجلاً خطبَ عندَ رسولِ الله فقالَ: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقالَ له رسولُ اللهِ : ((بئسَ الخطيبُ أنت، قلْ: ومن يعصِ اللهَ ورسولَه)) [4].
وهكذا نجدُ ـ يا عبادَ اللهِ ـ كيفَ حمى رسولُ اللهِ جنابَ التوحيدِ عما يشويه منَ الأقوالِ والأفعالِ التي يضمحلُّ معها التوحيدُ أوْ ينقصُ لدرجةِ أنه عليه الصلاةُ والسلامُ قدْ وبخَ الخطيبَ لأنه جمعَ بينَ اللهِ ورسولِه بضميرٍ واحدٍ، مما يوهمُ التساوي في الرتبةِ، وأمرَه بالفصل بينهما بما يفيدُ الترتيبَ.
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وسارعوا لاستدراكِ ما فاتَكم، وأقبلوا بقلوبِكم على تعلمِ وفهمِ والتزامِ ما بعثِ اللهُ به رسلَه من توحيدِ ربِّكم جل وعلا، وارغبوا إليه، واسألوه الثباتَ على ذلك، إنه نعمَ المولى ونعمَ المجيبُ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ?لْوَهَّابُ [آل عمران:8].
بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أحمد (2/125)، والترمذي في الأيمان والنذور، باب: ما جاء في كراهية الحلف بغير الله (1535)، والحاكم (4/297).
[2] الطواغي والطواغيت: هي الأوثان من الأصنام أو الشياطين أو الإنس، فكل رأس في ضلالة فهو طاغوت، والطواغي جمع طاغية.
[3] رواه مسلم في الأيمان، باب: من حلف باللات والعزى (1648).
[4] رواه مسلم في الجمعة، باب: تخفيف الصلاة وبالخطبة (870).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:40]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ سبحانَهُ وتعالى عما يشركون، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ بعثَهُ اللهُ بالدعوةِ إلى التوحيدِ والتحذيرِ منَ الشركِ، فجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ حتى بلَّغَ الرسالةَ وأدى الأمانةَ وأكملَ اللهُ بهِ الدين، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومن سلكَ سبيلَهم إلى يومِ الدينِ، وسلمَ تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ: أيُّها الناسُ، اتقوا اللهَ تعالى، وافعلوا ما أمرَكم بِهِ، واجتنِبوا ما نهاكم عنه، واعلموا أنَّ أعظمَ ما أمرَكم بِهِ هوَ التوحيدُ الذي أرسلَ بِهِ رسلَهُ وأنزلَ بِهِ كتبَهُ، والذي هوَ إخلاصُ العبادةِ للهِ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأنَّ أعظمَ ما نهاكم عنْهُ الشركُ، وهو جعلُ شيءٍ منَ العبادةِ لغيرِ اللهِ تعالى كالدعاءِ والذبحِ والنذرِ والخوفِ والرجاءِ والرغبةِ والرهبةِ والحلفِ، وغيرِ ذلكَ منْ أنواعِ العبادةِ التي تشملُ معظمَ حياةِ الإنسانِ عبوديةً ومسلكًا.
ومنْ أجلِ الخوفِ منَ الوقوعِ في الشركِ والحرصِ على التوحيدِ خالصًا نجدُ الخليفةَ الراشدَ عمرَ بنَ الخطابِ رضيَ اللهُ عنْهُ نهى عن تتبعِ آثارِ النبيِّ ، فأمرَ بقطعِ الشجرةِ التي بويعَ تحتَها النبيُّ ، لأنَّ الناسَ كانوا يذهبون فيصلون تحتها.
وكذلكَ لما فتحَ المسلمونَ تسترَ وجدوا جثةَ دانيال النبيِّ، وكانَ الناسُ هناكَ إذا أقحطوا يستسقونَ بجسدِهِ، فكتبَ أبو موسى الأشعريُّ إلى عمرَ بذلك، فكتبَ إليه عمرُ أن كفِّنْهُ وادفنْهُ وعمِّ الناسَ عنْهُ حتى لا ينبشونَه، فسكَّرَ أبو موسى نهرًا حتى إذا انقطعَ دفنَهُ ثمَّ أجرى الماءَ عليه، وفي بعضِ الرواياتِ أنهم حفروا ثلاثةَ عشرَ قبرًا متفرقةً، فلما كانَ الليلُ دفنوهُ بواحدةٍ منها ثم سووُا القبورَ كلَّها لتعميتِهِ عنِ الناسِ حتى لا يفتتنَ بِهِ، وبذا يفوت عليهم معرفتُهُ.
وهكذا ـ يا عبادَ اللهِ ـ كانَ الخلفاءُ والسابقونَ منَ المهاجرينَ والأنصارِ والذينَ اتبعوهم بإحسانٍ يخافونَ على أنفسِهم وعلى الناسِ منَ الفتنةِ والوقوعِ في الشركِ، فأنكروا المجيءَ إلى القبورِ للدعاءِ أو التوسلِ بالأمواتِ، فإنَّ دعاءَ غيرِ اللهِ والتوسلَ بالأمواتِ شركٌ.
وللأسفِ الشديدِ، في هذهِ الأيامِ نشاهدُ كثرةَ شدِّ الرحالِ للقبورِ للدعاءِ عندَها والاستغاثةِ بها وتعظيمِ القبورِ والبناءِ عليها وتعهدِ زيارتِها بينَ الحينِ والحينِ، كما يفعلُ بقبرِ البدويِّ أوِ الستِّ زينبَ وغيرِ ذلكَ، نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ منْ هذا الشركِ وما يقربُ منْهُ أو يوصلُ إليهِ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
رزقني اللهُ وإياكمْ علمًا نافعًا وإيمانًا صادقًا، وأعاذني وإياكم منَ الضلالِ والانحرافِ، وصلى اللهُ على محمدٍ وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعينَ والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
(1/3954)
الصبر والمداومة عليه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصبر صفة رجولة. 2- الصبر صفة الأنبياء والدعاة والمؤمنين. 3- كيف نتحلى بالصبر؟ 4- أنواع الصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي وعد الصابرين بالأجر من غير حساب، وأثاب الشاكرين على النعم وبشرهم بدوامها فنعم الثواب, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من صبر على أقدار الله وشكر في السراء والضراء بلا اكتئاب, اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المآب.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، وأن شأنه عظيم وعاقبته طيبة من الكريم، وقد جعله الله سبحانه وتعالى من صفات المؤمنين وأهل اليقين، وحثهم عليه في كتابه الكريم فقال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153]، وقال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
وقد شاء الله الحكيم الخبير أن يجعل الصبر هو المحكّ ليكشف معادن الرجال ويمحّص إيمان المؤمنين، فقال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى? نَعْلَمَ ?لْمُجَـ?هِدِينَ مِنكُمْ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـ?رَكُمْ [محمد:31].
فالصّبر ـ يا عباد الله ـ من عناصر الرجولة الناضجة، فإن أثقال الحياة لا يقوى عليها المهازيل وأنصاف الرجال، ومن أجل هذا كان نصيب القادة العظماء من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من صفات الرجولة وبلاء المعارك وتوجيه الناس إلى خالقهم وتجنيبهم الويلات والنكبات ومواطن العطب، ولما أدوا من أعمال عظيمة؛ ولهذا لما سئل رسول الله : أي الناس أشد بلاءً؟ قال رسول الله : ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)) [1] ، اللهم ارحم حالنا.
وهكذا فإن الدعاة إلى الله أصحاب القلوب المخلصة الصادقة، وهم أصحاب المبادئ السامية والعزائم القوية، وتجدهم دومًا هدفًا لمشاكل الحياة الكثيرة، أما العاجزون الهاربون من الميدان فماذا يصيبهم؟ وذلك سر قوله : ((من يرد الله به خيرًا يصب منه)) [2] ؛ وذلك أن المتعرّض لآلام الحياة يدافعها وتدافعه، وهو أرفع عند الله تعالى درجات من المنهزم القابع بعيدًا لا يخشى شيئًا ولا يخشاه شيء، ولهذا ضرب لنا رسول الله المثل في المؤمن الصابر السارب في الحياة والكافر العاجز الهارب من الأعباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرمها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتيه أجله، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على أصلها، لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها [3] مرة واحدة)) [4] ، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
فيا أيها المسلمون، عليكم بالصبر، فإنه ديدن المؤمنين ومنهج السلف الصالحين ودعوة ومسلك الأنبياء والصديقين، ولهذا وصف الله به عباد الرحمن فقال الله تعالى: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ ?لْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـ?مًا [الفرقان:175]، وقال الله جل وعلا عن أهل الجنة: وَالمَلَـ?ئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد:24].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الصبر يعتمد على حقيقتين أساسيتين:
أما الأولى فتتعلّق بطبيعة الحياة الدنيا، حيث إن الله تعالى لم يجعلها دار جزاء وقرار، وإنما دار تمحيص وامتحان وابتلاء، وقد يمتحن الإنسان بالشيء وضده، كأن يكون الامتحان بالغنى والصحة والنعمة الكثيرة، كما يكون بالفقر والأمراض وغيرها، ولهذا كان سليمان عليه والسلام يقول كما حكى الله عنه في قوله تبارك وتعالى: هَـ?ذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].
وعلى هذا فما دامت الحياة امتحانًا كلّها سواء بالسراء أو الضراء فما علينا إلا أن نكرس جهودنا للنجاح في هذا الاختبار لنكون إن شاء الله تعالى من السعداء، ونتضرع إلى الله تعالى أن يوفقنا إلى ذلك وأن يثبتنا عليه، إنه جواد كريم.
وأما الحقيقة الأخرى فتتعلق بطبيعة الإيمان والذي هو صلة بين الإنسان وربه عز وجل، ولا بد من خضوع هذه الصلة الإيمانية للابتلاء لتمحيصها ومعرفة صدقها من كذبها، وإن كان علم الله محيط بظواهر الأمور وبواطنها كما قال الله عز وجل: قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق:12] ولكن لحكمة الله وعدله شاء أن يكون حساب الإنسان على عمله الشخصي الذي يثبت للشخص ولغيره صدقه من كذبه، نسأل الله تعالى أن يعاملنا بلطفه لا بعدله، فقال الله تعالى: الم أَحَسِبَ ?لنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ?لْكَـ?ذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في الصبر على الابتلاء (2398)، وابن ماجه (4023)، والدارمي (2/320)، وصححه الترمذي، وابن حبان (699)، والحاكم (1/40)، ووافقه الذهبي.
[2] رواه البخاري في المرض، باب: ما جاء في كفارة المرض (7/4).
[3] الانجعاف: الانقلاع، يقال: جعفت الشيء أي: أقلعته.
[4] رواه البخاري في المرض، باب: ما جاء في كفارة المرض (7/1)، ومسلم في صفات المنافقين، باب: مثل المؤمن كالزرع (2810).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الصبر أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على النوازل من أقدار الله تعالى، فليلتزم المؤمن الصبر على أيّ حال، فعاقبته حميدة مهما كانت الأحوال.
فأما الصبر على الطاعة فأساسه أن كلّ ما أمر الله به من صلاة وزكاة وصيام وحج وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ونصح وإرشاد وتوجيه ومحاضرة وموعظة وكلمة وكتابة وبيان وغير ذلك مما أمر الله به، فكل هذا يحتاج للقيام به والمداومة عليه إلى تحمّل ومعاناة كما قال الله تعالى في الصلاة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، وقال الله جل وعلا: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ [البقرة:45].
وأما الصبر عن المعاصي فهو عنصر المقاومة للمغريات التي تعترّض عباد الله وتزيّن لهم اقتراف المعاصي المحظورة، ولهذا قال رسول الله : ((حفّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) [1] ، أعاذنا الله من الشهوات المحرمة.
وأما الصبر على النوازل التي تصيب المؤمن في نفسه أو ماله أو أهله فتلك أعراض يجب أن تكون متوقَّعة من كل مؤمن؛ لأن الحياة لا تخلو منها، فما على الإنسان إلاّ أن يحتمي بالله ويستعين ويستغيث بالله ويلجأ إليه، وأن يتذكّر دومًا ما في الصبر على ذلك من الأجر والثواب وتكفير السيئات ورفع الدرجات، قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، اللهمّ وفّقنا للتأدّب بآداب القرآن.
وصلّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126].
[1] رواه مسلم في صفة الجنة ونعيمها، في فاتحة الكتاب (2822).
(1/3955)
العشر الأواخر من رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة لاغتنام ما بقي من رمضان. 2- اغتنام ليلة القدر. 3- الجمع بين الصيام والصدقة وقراءة القرآن. 4- اجتهاد النبي في العبادة في عشر رمضان الأخير.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله المتفرد بالدوام والبقاء، نحمده سبحانه وتعالى إذ اختصنا بشهر الصيام ليفيض فيه إحسانًا، ويغفر فيه عصيانًا، ويضاعف فيه أعمالاً، نحمده جل وعلا على كل حال، ونرجوه أن يجعله شاهدًا لنا عنده تبارك وتعالى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه، أزكى الأمة أعمالاً، وأصدقهم أقوالاً وأفعالاً.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، وجِدّوا في العمل الصالح في هذه الليالي العشر، وودّعوا شهركم هذا بالإحسان وتلاوة القرآن وبذل الصدقات، وقابلوا نعم الله بالشكر له جل وعلا والامتنان، وانهوا النفوس وازجروها عن مقارفة الهوى والآثام، واستدركوا ما فرّطتم في أول شهركم، وتنافسوا في الدرجات العلى والمنازل العالية، فإنما الأعمال بالخواتيم.
عباد الله، إن شهر الصوم قد قوّضت خيامه وتصرمت لياليه وأيامه، فالسعيد كل السعادة من ربح وفاز وتدارك ما فاته من العمل الصالح في هذه الأيام العظام، ويكفيك ـ أخي المسلم ـ شرفًا رفيعًا وقدرًا عظيمًا ما خصّ الله به هذه العشر، ليلةٌ هي خير من ألف شهر، ليلة شرّفها الله على غيرها من الليالي، ومنّ على عباده بجزيل خيرها، ليلة أنزل الله فيها القرآن وأجزل فيها الإفضال والإحسان، ليلة لا تشبه ليالي الدهر، وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى عن فضلها في قوله تعالى: حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:1-4]، وقد كان رسول الله يعتكف العشر الأواخر في رمضان، ويقول: ((تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان)) [1].
فيا عباد الله، اغتنموا هذه الليلة المباركة، وعظموها بالقيام في صلواتكم بإحسان الركوع والسجود وتلاوة القرآن، وأكثروا فيها من ذكر الله وسؤاله المغفرة والنجاة من النار، والتمسوها في الوتر من العشر الأواخر من هذا الشهر المبارك كما جاء بذلك الخبر عن البشير النذير معلم البشرية وهاديها إلى كل خير وناهيها عن كل شر.
عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن نبيكم كان أجود الناس، وكان جوده وعبادته عليه الصلاة والسلام يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة [2].
فعلينا ـ معشر المسلمين ـ إحياء هذه السنة بالجلوس مع الأهل أو الأصدقاء ليلاً ومدارسة القرآن في المسجد أو البيت.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا والفوز بموجبات الجنة كما ورد في الحديث الصحيح أنه قال: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((من تبع منكم اليوم جنازة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((من تصدق بصدقة؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((فمن عاد منكم مريضًا؟)) قال أبو بكر: أنا، قال: ((ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة)) [3].
فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصدقات وتلاوة القرآن في هذه الأيام المباركة، وابتغوا ما عند الله من الأجر والثواب بالإحسان إلى خلق الله من مال الله الذي آتاكم، كما قال الله سبحانه وتعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد:7].
وتيقنوا ـ رحمكم الله ـ أن المال لا ينقص بالصدقة لما أخبر به الصادق الأمين: ((ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع عبد لله إلا رفعه الله)) [4]. فاللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وتجاوز عن سيئاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [سورة القدر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
[1] رواه البخاري في صلاة التراويح، باب: تحري ليلة القدر في العشر الأواخر (2/254)، ومسلم في الصيام، باب: فضل ليلة القدر والحث على طلبها (1169).
[2] رواه البخاري في الصوم، باب: أجود ما كان النبي يكون في رمضان (2/228)، ومسلم في الفضائل، باب: كان النبي أجود الناس بالخير من الريح المرسلة (2308).
[3] رواه مسلم في الزكاة، باب: من جمع الصدقة وأعمال البر (1028).
[4] رواه مسلم في البر والصلة، باب: استحباب العفو والتواضع (2588).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا يوافي نعمه، نحمده جلّ ذكره ونشكره على إحسانه وما خصّ به هذه العشر من رمضان بمزيد من فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من احتفى بهذه العشر، وكان قدوة لكل البشر، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك وعلى آله ومن سار على هديه واقتفى الأثر.
أما بعد: فيا عباد الله، إن الإقبال على الطاعة لله جل وعلا والقرب من الرب الكريم تبارك وتعالى مطلوب في كل حال، ولكن ذلك في العشر الأخيرة من رمضان أعظم فضلاً وأكثر أجرًا حيث يقترن فيها الفضل بالفضل، فضل العبادة وفضل الزمان، ففيها التجليات والنفحات وإقالة العثرات واستجابة الدعوات وعتق الرقاب الموبقات، ولنا في مرشد البشرية ومربيها خير أسوة حسنة في الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان، فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد المئزر [1] ، وفي رواية لمسلم: كان رسول الله يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، وفي العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها [2].
فاتقوا الله عباد الله، وأنيبوا إليه، وأخلصوا له الأعمال، ولازموا التوبة والاستغفار، واشكروا الله الذي هداكم للإيمان وبلّغكم شهر الصيام وأعانكم على صيامه وقيامه، واغتنموا هذه العشر الأواخر بالاجتهاد في العبادة متأسّين برسول الله وأصحابه من بعده، لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
[1] صحيح البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب: العمل في العشر الأواخر من رمضان (2/255)، صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر والأواخر من شهر رمضان (1174).
[2] صحيح مسلم: كتاب الاعتكاف، باب: الاجتهاد في العشر الأواخر من شهر رمضان (1174).
(1/3956)
الفرقة الناجية وعلاماتها
أديان وفرق ومذاهب
الفرقة الناجية
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفرق اليهود والنصارى إلى فرق. 2- افتراق المسلمين إلى ثلاث وسبعين فرقة. 3- صفات الفرقة الناجية.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، ومن باتباعه تحصل لهم سادة الدنيا والأخرى، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أولي الورع والتقوى والهدى.
أما بعد: عباد الله، قال الله تعالى: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، وقال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ مِنَ ?لَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31، 32]، وقال النبي : ((ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة)) ، وفي رواية: ((كلهم في النار إلا ملة واحدة)) ، قالوا: ما هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على ما أنا عليه وأصحابي)).
عباد الله، إن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نعتصم جميعًا بدين الإسلام، وأن لا نكون من المشركين المتفرقين في دينهم شيعًا وأحزابًا، وأخبرنا معلمنا ومرشدنا الرسول الكريم أن اليهود والنصارى تفرقوا كثيرًا، وأن المسلمين سيفترقون أكثر منهم، وأن هذه الفرق ستكون كلها عرضة لدخول النار بسبب انحرافها وبعدها عن كتاب ربها وسنة نبيها واتخاذها منهجًا غير منهج الله تعالى، وأن فرقة واحدة استثناها رسول الله ستكون ناجية وستدخل الجنة، وهذه الفرقة الناجية هي التي تلتزم منهاج الرسول في حياته ومنهاجه ومنهاج أصحابه من بعده، ((هم من كان على ما أنا عليه وأصحابي)).
هذه الفرق الناجية هي التي تعود إلى كلام الله ورسوله عند التنازع والاختلاف، وتحاكم إلى كتاب الله عز وجل وإلى سنة رسوله في كلّ كبيرة وصغيرة عملاً بقوله تعالى: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ?للَّهِ وَ?لرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ ذ?لِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
هذه الفرقة الناجية هي التي لا تقدم كلام أحد مهما كان وكائنًا من كان على كلام الله ورسوله، ولا تقبله، بل ولا ترضى عنه بأي حال من الأحوال عملاً بقوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، كما أنها لا تتعبّد إلا لكلام الله ورسوله المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ولا تخضع وترضخ إلا له، أما غيره من البشر مهما علت رتبته وعظم منصبه وقويت سلطته فهو عرضة للخطأ كما قال الإمام مالك رحمه الله: "ليس أحد بعد النبي إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا النبي "، كما أنها تحترم الأئمة المجتهدين رحمهم الله، وتأخذ من أقوالهم جميعًا ما وافق الحق عملاً بوصاياهم جميعًا بالأخذ بالحديث الصحيح وترك كل ما يخالفه.
الفرقة الناجية هي التي تدعو المسلمين لتوحيد الصفّ والكلمة على ضوء العقيدة الصحيحة السليمة من كلّ شائبة والمتمثّلة بسنة رسول الله وأصحابه من بعده والمستقاة من الكتاب والسنة، وتنكر كل الطرق المبتدعة والأحزاب الهدامة التي فرقت الأمة الإسلامية وابتدعت في الدين ما لم يأت به الله ورسوله، وابتعدت عن التمسك بكتاب الله عز وجل والسنة الصحيحة وعمل أصحاب الرسول.
الفرقة الناجية هي التي تحيي سنة رسول الله في عبادتها وسلوكها وحياتها وفعلها ومنهجها وتصرفاتها حتى أصبح أفرادها هم الغرباء بين أقوامهم كما أخبر عنهم رسول الله بقوله: ((إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء)) ، وفي رواية: ((فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس)).
عباد الله، إن الفرقة الناجية من الثلاث وسبعين هي الطائفة التي عناها النبي بقوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرة، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى)).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه هو العزيز الوهاب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد صح من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: خطّ لنا رسول الله خطًا بيده ثم قال: ((هذا سبيل الله مستقيمًا)) ، وخط خطوطًا عن يمينه وشماله ثم قال: ((هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه)) ، ثم قرأ قوله تعالى: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن صراط الله المستقيم هو دين الله جل وعلا الذي ارتضاه لنا كما قال الله تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، والمتمثل بكتاب الله وسنة رسول الله ، وأيّ سبيل آخر غير هذا السبيل ضلال وانحراف، دُعاته من شياطين الإنس والجن.
فالزموا ـ عباد الله ـ منهج أهل السنة والجماعة، فهم الفرقة الناجية المنصورة مهما عاداها الناس وأساؤوا لها، ولكم أسوة حسنة بالأنبياء والصالحين وما كان من قصصهم مع أقوامهم مما في سور القرآن الكريم، فهي توضح وتبيّن وتقصّ علينا ما فيه الكفاية التامة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
عباد الله، سئل بن ابن المبارك رحمه الله عن الطائفة المنصورة: من هي؟ فقال: "هم عندي أصحاب الحديث"، وقال البخاري رحمه الله تعالى: قال علي بن المديني: "هم أصحاب الحديث"، وقال الإمام أحمد رحمه الله: "إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحاب الحديث فلا أدري من هم".
وما ذلك ـ أيها الناس ـ إلا لأن أهل الحديث هم بحكم اختصاصهم في دراسة السنّة ومعرفتهم بها وقيامهم بالذود عن حياضها والالتزام بها وشكر الله تبارك وتعالى على نعمة الالتزام والتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يتعلق بها أعلم الناس قاطبة بسنة نبيهم وهديه وأخلاقه وغزواته وما يتصل بها.
اللهم اجعلنا من أهل السنة والجماعة لنكون من الناجين في صحبة الرسول وصحابته وكل من سار على هديهم إلى يوم الدين.
وصلى الله على محمد وآله وأصحابه وسلم تسليمًا.
(1/3957)
الإجازة ونعمة الفراغ
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
3/4/1423
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفراغ نعمة مغبون فيها كثير من الناس. 2- كيف يكون قضاء أوقات الفراغ؟ 3- حفظ الوقت من سمات الصالحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون، من النعم العظيمة التي تحصل للعبد في هذه الحياة نعمة الفراغ، نعم أيها الإخوة، الفراغ بأن يكون العبد فارغًا من مشاغل هذه الحياة، يقول النبي في الحديث الصحيح: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)). فالفراغ من النعم العظيمة، وفي هذا الحديث تذكير لكل مسلم بهذه النعمة، والتي من واجبها عليه اغتنامها واستعمالها بما يعود عليه بالنفع دنيا وأخرى، وإن لم يكن كذلك فإنه في عداد المغبونين.
وتأملوا ـ أيها الإخوة ـ قول نبيكم ، يقول: ((مغبون فيهما كثير من الناس)) أي: أن الذين يوفَّقون لاغتنام نعمة الصحة ونعمة الفراغ قلة، القلة هم الذين يسلمون من الغَبْن، أما الكثرة أكثر الناس ـ والعياذ بالله ـ مغبون، مغبون لماذا؟ لتفريطه وعدم مبالاته بنعمة الصحة والفراغ.
أيها الإخوة، ونحن في هذه الأيام نعيش بداية الإجازة، إذ تفرغ كثير من الناس وخاصة الشباب منهم، لا سيما من هم على مقاعد الدراسة من الذكور والإناث، وهذا مما يزيد الأمر خطورة، فإذا اجتمع الشباب والفراغ فلا تسل عن النتائج، إنما قل: اللهم سلم سلم، يقول الشاعر:
إن الفراغ والشباب والجِده مفسدة للمرء أي مفسده
الفراغ والشباب والجدة ـ يعني الغنى ـ مفسدة للمرء، هذا ما قاله هذا الشاعر قبل عشرات السنين، قبل أن يكون هناك استراحات يستأجرها الأحداث وصغار السن ليعكفوا بها على ما حرم الله، وقبل أن يكون هناك مقاهٍ ـ أعزكم الله ـ للمُعَسَّل ونحوه، وقبل أن يكون هناك مقاهٍ للإنترنت، وقبل أن يكون هناك أنواع من المخدرات، قبل أن يكون هناك سيارات تنقلهم من بلد إلى بلد، وطائرات يسافرون من خلالها لبلاد الكفار وغيرهم.
فقضية فراغ الشباب قضية خطيرة، والاهتمام بها من أوجب الواجبات، فإذا كان الواحد منا يضع يده على قلبه من الخوف الشديد الذي ينتابه على بعض الشباب وقت انشغالهم فكيف بهم وقد تفرغوا؟! كيف بهم والواحد منهم ينام النهار ويسهر الليل وقد توفر ت له سبل الفساد والانحراف؟!
أيها الإخوة المؤمنون، إن هذا الفراغ الذي سوف يمر به أبناؤنا إذا لم يغتنم بالخير فإنهم سوف يستعملونه في الشر، ولنكن ـ أيها الإخوة ـ صرحاء، أبناؤك إذا لم تشغلهم بالخير فإنهم سوف يجدون من يشغلهم بالشر.
ومن رعى غنمًا في أرض مَسْبَعَة ونام عنها تولى رعيها الأسد
إذا لم نعمل على حفظ أوقاتهم واغتنامها بما ينفعهم من أمور الدنيا والدين فإنهم سوف يقضون أوقاتهم بما يعود وبالا عليهم وعلى أسرهم، بل وعلى مجتمعهم وأمتهم.
فينبغي لنا أن نرسم الخطط لهذا الفراغ الذي سوف يخرج منه أبناؤنا إما بصلاح وإما بفساد. نعم إخوتي في الله، ثلاثة أشهر أو أكثر كفيلة بأن تشكل حياة الشاب وترسم أوضاعه، فهذه الثلاثة قد يحفظ فيها أجزاء كثيرة من كتاب الله وعددًا كبيرًا من أحاديث النبي ، قد يلازم فيها درسًا لأحد المشايخ فيصير طالب علم أو داعيًا إلى الله تعالى. ثلاثة أشهر قد يلازم الابن والده والبنت أمها، فيتعلمان منهما الكثير، فالابن يتعلم معاني الرجولة ويتعود الاعتماد على النفس، والبنت تتعلم من أمها مهام النساء، لتعتمد على نفسها بعد ذلك. وهذا قد يكون في هذه الثلاثة أشهر إذا استغلت استغلالاً صحيحًا، وخطّط لها تخطيطًا سليمًا.
وأما إذا لم يخطط لها وترك الشاب والشابة يسهر الواحد منهم طوال الليل عند القناة الفلانية لمتابعة برنامج ساقط وعند القناة الأخرى لمشاهدة مسلسل هابط وعند ثالثة لرؤية جسد عار وعند رابعة لرؤية ومشاهدة ما يجعل الشاب أحيانًا يقع على أخته فسوف تنتهي الثلاثة أشهر بشهادة ذات تقدير عال في عالم الانحراف والضياع والفساد لكل شاب وشابة.
فلنعمل ـ أيها الإخوة ـ على اغتنام أوقات فراغ أبنائنا، ولنهتم بهذا الأمر الذي سوف نكون أول من يجني ثماره، نعم أول من يجني ثماره مهما كانت هذه الثمار حلوة أو فاسدة، لذيذة أو مرة، وَ?لْبَلَدُ ?لطَّيّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ وَ?لَّذِى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذ?لِكَ نُصَرّفُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58].
أيها الإخوة المؤمنون، إن قضية الفراغ قضية مهمة، يجب أن لا يستهان بها، وأن لا يغفل عنها، ولا أدل على ذلك من الاعتناء بها في كتاب الله ومن حرص النبي عليها وأمره باغتنامها وحثه على استغلالها، يقول جل جلاله: فَإِذَا فَرَغْتَ فَ?نصَبْ وَإِلَى? رَبّكَ فَ?رْغَبْ [الشرح:7، 8]، ويقول النبي : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك))، فذكر منها الفراغ قبل كثرة المشاغل.
أسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا وعملاً خالصًا وسلامة دائمة، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولا يُجنى من الشوك العنب، فوالله الذي لا إله غيره، لن نعمل على حفظ أوقات أبنائنا ونحن مفرطون في أوقاتنا، فلنكن قدوات خير لا قدوات سوء في كل شيء، لا سيما في قضية الوقت والفراغ.
فلنهتم بحفظ أوقاتنا نحن قبل أن نهتم بحفظ أوقات أبنائنا؛ لأن الاهتمام بالوقت من صفات الصالحين، والتفريط فيه وإضاعته من أبرز عادات المفرطين، فالله الله في حفظ أوقاتكم، فالواحد منكم ما هو إلا أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضه، تقول رابعة: "يا سفيان، إنما أنت أيام معدودة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، ويوشك إذا ذهب البعض أن يذهب الكل، وأنت تعلم فاعمل"، ويروى عن وَهْب بن منبه رحمه الله أنه قال: "ينبغي للعاقل أن لا يشغل نفسه عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها هو وإخوانه والذين ينصحون له في دينه ويصدقونه عن عيوبه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذاته فيما يحل ويحمد، فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات، وفضل بلغة واستجمام للقلوب".
أسأل الله تعالى أن يعينني وإياكم على حفظ أوقاتنا واغنام فراغنا بما يفيدنا وينفعنا، وأن يجعل الحياة زيادة لنا من كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، إنه سميع مجيب.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى...
(1/3958)
السهر والإجازة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
10/4/1423
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحذر من السهر على معاصي الله عز وجل. 2- نتائج السهر وعواقبه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، نعوذ بالله من النار، اللهم إنا نعوذ بك من النار، اللهم أجرنا من النار، وأعتق رقابنا من النار،ورقاب آبائنا وأمهاتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الإخوة المؤمنون، حديثنا في هذا اليوم عن ظاهرة خطيرة بُلي بها كثير من الناس، وخاصة في مثل هذه الأيام أيام الإجازة، وهي ظاهرة السهر، هذه الظاهرة السيئة الدخيلة على مجتمعات المسلمين لم يسلم منها إلا من رحم الله، صارت عند بعضهم علامة على الرقي والتقدم وعلى الحضارة والمدنية، حتى إنهم ينتقدون من لا يسهر، ويصفونه بالتأخر والرجعية، يستغربون لو قلت لأحدهم: نم بعد صلاة العشاء، ويعتبرون ذلك شذوذًا، فهم لا يبدأ ليلهم إلا بعد وقت العشاء بساعات، يستغلون الليل بهدوئه وسكونه ليسهروا، وعلى ماذا؟ على ماذا يسهرون؟!
أتظنون أنهم يسهرون على طاعة أو على طلب قربة لله تعالى كالذين قال الله عنهم: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]؟! أوَتظنون أنهم يسهرون كالذين وصف الله حالهم في سورة السجدة بقوله: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [السجدة:16]؟! لا والله، إن أكثرهم يسهر على معصية الله، يحارب الله جل جلاله في وقت نزوله، حينما ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فيعطى، هل من داع فيستجاب له، هل من مستغفر فيغفر له، حتى ينبلج الصبح. إنهم في هذا الوقت الكريم الفاضل، في هذا الوقت النفيس الذي ـ والله ـ لا يعادل بثمن، تجدهم يحاربون الله ويبارزونه بالمعاصي، يسهرون لمتابعة القنوات الفضائية، لمشاهدة ما حرم الله من مسلسلات هابطة وأغانٍ ماجنة ومشاهد مثيرة، ومنهم من يسهر من أجل اللعب واللهو أو القيل والقال، وهذه المنكرات بحد ذاتها من الأمور الخطيرة ومن المعاصي الكبيرة من دون سهر، فإذا أضيف لها السهر فإن شرها يتفاقم وخطرها يتعاظم، نسأل الله العافية.
أيها الإخوة المؤمنون، إن لظاهرة السهر نتائج ضارة، لا سيما إذا كانت على معصية، وهي كذلك عند كثير منهم، ومن نتائجها تضييع صلاة الفجر، فالذي يسهر إلى قبيل الفجر ثم ينام أيستطيع الاستيقاظ من النوم لتأدية صلاة الفجر؟! لا أظن ذلك؛ لذا تجده دائمًا تفوته الصلاة، وإضاعة الصلاة جريمة عظمى وكبيرة من كبائر الذنوب وصفة من صفات المنافقين، يقول تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]، وغَيٌّ هو واد في جهنم بعيد القَعْر خبيث الطَّعم من قيح ودم، لمن؟ لهؤلاء الذين أضاعوا وقت الصلاة بسبب اتباع الشهوات: مباريات، مسلسلات، وغير ذلك من الشهوات التي يسهر كثير من الناس من أجلها.
ويقول تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، وويل أيضًا هو واد في جهنم، وقيل: شدة العذاب، جعله الله للذين يؤخرون الصلاة عن وقتها.
وكذلك تأخير الصلاة من صفات المنافقين، فهم كما قال تعالى: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142].
فالسهر سبب من أسباب تأخير الصلاة عن وقتها الذي جعله الله لها، بل هو سبب من أسباب ترك الصلاة مع الجماعة، فالذي يسهر تجده يصلي في بيته، ويتخلف عن الصلاة مع جماعة المسلمين، وقد همّ النبي بأن يحرق بيوت الذين يتخلفون عن الصلاة، هَمَّ أن يضرم بها النيران، فالذين لا تراهم في صفوف المصلين في صلاة الفجر غالبًا هم الذين يسهرون. فالسهر يفوّت الصلاة، ولو فرضنا جدلاً أن هذا السهران حضر للصلاة فإنه سوف يصلي متكاسلاً مرهقًا تعبًا، يصارع النوم من شدة النعاس، ومن ثم لا يدري ما يقول، وهذه أيضًا بحدّ ذاتها مشكلة، وسببها السهر.
أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، ويرزقنا الفقه في الدين، إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، ومن نتائج السهر فعل ما كرهه الرسول ، فالمسلم يحرص دائمًا على فعل ما يحبه الله عز وجل وما يحبه رسوله ، ويحذر كل الحذر من ارتكاب ما يكرهه الله ورسوله، والسهر من الأمور التي كرهها النبي ، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي برزة رضي الله عنه أن رسول الله كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها.
ومنها أيضًا تفويت المصالح في النهار، فالذي يسهر الليل دائمًا ينام خلال النهار، وفي هذا تفويت لعدة مصالح تكون في النهار، منها حرمان بركة أول النهار، فإن لأول النهار بركة أخبر بها النبي بقوله: ((بورك لأمتي في بكورها)) ، ومنها التكاسل في العمل إن كان عاملاً، وفي الدراسة إن كان طالبًا، بل حتى فيما يحتاجه الأهل في البيت، فالذي يقضي ليله في السهر لن يكون فعالاً في عمله ولا في دراسته ولا في أسرته، بل يكون فاشلاً عالة على غيره.
ومنها مخالفة الفطرة التي جعلها الله عز وجل للإنسان في هذه الحياة، فقد قال سبحانه: وَجَعَلْنَا ?لَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا ?لنَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:10، 11]، وصاحب السهر معكوس الفطرة، حيث جعل الليل للسهر والنهار للنوم.
فلنحذر هذه الظاهرة الخطيرة ظاهرة السهر، وإن كان لا بد فلنجعله في موازين أعمالنا الصالحة كقيام الليل وطلب العلم وتلاوة القرآن الكريم.
أسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا وعملاً خالصًا وسلامة دائمة.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى...
(1/3959)
توحيد الباري جل جلاله
الإيمان, التوحيد
الألوهية, الربوبية, الله عز وجل
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
15/2/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الخلق. 2- ربوبية الله تعالى. 3- الخوف من الله وحده. 4- إفراد الله تعالى بالرجاء. 5- تفويض الأمور لله تعالى. 6- فضل الخشية من الله. 7- ضرورة الاستعانة والاستعاذة والاستغاثة بالله تعالى. 8- التحذير من دعاء الأموات والتعلق بهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى؛ فالنّعيم في اتِّباع الهدَى، والشّقاءُ في موافقةِ الهوى.
أيّها المسلمون، خلق الله الخَلقَ لتكونَ الطاعة له والتذلُّلُ إليه، وكمالُ السعادة في معرفةِ الله والإيمان به، ومعرفةُ العبد ربَّه هو الأصل الأوّلُ الذي يجب على الإنسانِ معرفتُه، وهو أوّلُ ما يسأَل عنه العبد في قبرِه.
أوجدَ الله الخلقَ بعد عدَمٍ، وأغدق عليهم من النِّعَم، وضمِن لهم الرّزق، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]. أوجدَ العالمين بعدَ أن لم يكونوا شيئًا، هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1].
رَبٌّ متفرِّد بالخلق والرّزق والتدبير، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:54]، منفرِد بالوحدانيّة متَّصِف بالعظمَة والجبروت، مقاليدُ الأمور كلِّها بيديه، قويٌ متين قاهِر فوقَ عباده، لا يرضَى أن تصرَفَ العبادة إلا له، إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].
نصَب في كلِّ مخلوقٍ آيةً دلالةً على وحدانيّته ليزدادَ تعلُّق القلب بربِّه، آيَتان تتعاقَبان علينا تذكِّرنا بوحدانيّة الله: ليلٌ يغشى ونهارُ يتجلَّى، يطلبُ كلٌّ منهما الآخَرَ طلبًا سريعًا، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا [الأعراف:54]، والشمس والقمرُ يجريان في مسارٍ دقيق أبهر ذوِي العقول، هذه تشرِق، وذاك يدبِر، سَيرٌ منتظِم، لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]. أرضٌ تُقِلّنا وسماء تظِلّنا، لا غِنى لنا عن أحدِهما، خَلقٌ متقَن وتدبير من بديعٍ، هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [لقمان:11].
والمسلِم يعتَزّ إذا كان عبدًا لمدبِّر هذا الكونِ العظيم، قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:161]، لا يعبد إلا ربَّ هذا الكون جلّ وعلا، ولا يصرِف شيئًا من أنواع العبادة لغيرِه، يلجأ إليه في الملِمّات، ويخاف منه وحدَه في العلانية والحفيّات، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [يونس:107]، فلا يخاف من ميِّتٍ أن يضرَّه بسوء، أو يرجو منه إحسانًا. والفَزَع إليه وحدَه رُجحان في العقلِ وأمانٌ في القلب وطمأنينَة على الروح، ومن خافَ ربَّه لم يفزَعه أحدٌ، بل هو ثابِت القلبِ ساكنُ الجوارح، وأنعِم بنفسٍ لا تأنس إلاّ مع الله، فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، يقول أبو سليمان الداراني: "ما فارَق الخوف قلبًا إلا خرِب" [1].
وأقرَبُ العباد إلى الله أخوَفهم منه، يقول المصطفى : ((إني أعلَمكم بالله وأشَدُّكم له خشية)) متفق عليه [2] ، وهو مِن لوازِم الإيمان وموجباته، ومَن خاف ربَّه وحده فتِّحَت له أبواب الجنان، قال سبحانه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، قال أهلُ العلم: "لا يجمَع الله على عبده بين خوفَين؛ فمن خافَه في الدنيا أمِنَه يومَ القيامة، ومن أمِنَه في الدنيا ولم يخَف ربَّه أخافه في الآخرة". فراقِب ربَّك وخَف من خالقِك تكن أسعَدَ الخلقِ عند الله.
ولا ترجُ من غيرِ الله تحقيقَ مرغوبٍ أو سلامةً من مرهوب مِن زوال عِلّة أو شفاءِ سقمٍ أو طلب رزقٍ أو جلب عافية، وحقِّق رجاءك بالله دون سِواه، فالخَلق مجبولون على الضّعف، عاجزون عن جلبِ النفع لأنفسهم ودفع الضرِّ عنهم، وهم أعجَز عن ذلك لغيرِهم. وما رجَا أحدٌ مخلوقًا إلا خابَ ظنّه فيه، فلا تعلِّق أطماعَك وأملَك بغير الله، فلن تجنيَ سوى العَدَم وذلّ المسألة، وارجُ كرَم الله وعطاءَه وجزيلَ مِنَنه، فرجاء ما عندَ الله تعبُّدٌ، وفي ذلّ القلبِ لله عِزّة النفس ورفعُ الدرجات وتحقيقُ المأمول.
وراحةُ النفسِ في تفويض أمرِها لخالقها، ويزداد تعلّقُها بباريها إذا تذكَّرَت أن الربَّ عليمٌ بحالِها رَحيم بأمرِها قديرٌ على كشفِ ضرِّها، ولِمَ التّعلُّق بمخلوقٍ عاجزٍ عن كشفِ الضر قتورٍ في العطاء؟! وربُّك كافيك جميعَ أمورك، وهو متولِّيها إن ألقيتَ إليه حاجاتِك وسلَّمتَ إليه مقاليدَ أمورك، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3].
والسّعيدُ هو الراغِب في رحمةِ الله الرّاهِب من عذابِه الخاضِع المتذلّل في عبادتِه لمولاه، وتلك المحامِدُ السنيّة اتَّصفَت بها بيوتُ الأنبياء، قال سبحانه عن زكريّا وأهلِه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
والرّسُل سبَّاقون إلى الرغبة فيما عند الله، قال جلّ وعلا لنبيِّه محمّد : وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:8]، وهي تنحسِر عن العبدِ على قدرِ ذنوبه، وتزيد بزيادةِ إيمانه، قال ابن القيم رحمه الله: "إذا أرادَ الله بعبدِه خيرًا وفَّقه لاستفراغِ وسعِه وبذلِ جهده في الرّغبة والرّهبة إليه، فإنهما مادَتَّا التوفيق، فبقدرِ قِيام الرّغبة والرّهبة في القلبِ يحصل التوفيق" [3].
والخشيةُ من المخلوقِ ذلٌّ ومَهانة، ومن خَشِي من خالقِه عاش عَزيزًا، وفي حياتِه سعيدًا، وأنار بصيرتَه فكان متذكِّرًا، قال سبحانه: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى [الأعلى:10]، واتَّعَظ بالمواعظ والعِبَر، قال جلّ وعلا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:26] وكان كتابُ الله له سعادَة وذِكرًا: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:2، 3]، وهي موجِبَة لمغفِرة الله وجزيل نواله: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12].
فاجعَل ربَّك بين ناظِرَيك، واخشَ الأمنَ من مكره وحلولِ عقوبته، ولا تخشَ غيرَ الله في قطع رزقٍ أو تأخّر شفاء أو حلولِ شقاء، قال سبحانه: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150].
والعبدُ ضَعيف بنفسه مفتقِرٌ إلى عون ربِّه القويّ، وبالاستعانة به جلّ وعلا تستَغني عن الاستعانةِ بالخلق، ومن سعَى في تحقيق مطلوبٍ ولم يكن مستعِينًا بالله مفتقِرًا إليه في حصولِه أغلِقَت في وجههِ الدّروب، وتعثَّرَت أمامه المكاسِب، يقول النبيّ لابن عبّاس رضي الله عنهما: ((يا غلام، إني أعلّمُك كلِّمات: احفَظِ الله يحفظك، احفظِ الله تجِده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله)) رواه الترمذي [4].
والاستعانَةُ عليها مدار الدّين: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وبها أمر الرسل أقوامَهم، قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا [الأعراف:128]، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "الدّين أن لا يُعبَد إلا الله، ولا يستعان إلاّ به" [5].
وكمالُ غِنى العبد في تعلّقِه بربِّه، ومِن فضل الله على عبادِه أن من تعلَّقَ به أعانَه، فالرِّزق يتيسَّر بالطاعة والاستعانة، ويزداد بالتوكّل والاستكانَة، قال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
والحياةُ مليئةٌ بالآفاتِ والمكارهِ، قال سبحانه: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، ولكلِّ مخلوقٍ أعداء منه الجنِّ والإنس، وفي مقدِّمَتهم إبليس لعنَه الله، قال جل وعلا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].
ولا غِنى للعبد من الاحتماءِ بجناب اللهِ والاستعاذةِ به وحدَه والاعتصامِ بحِماه من الشرور، والرّبُّ متَّصِف بالجبَروتِ والعِزّة، من اعتصَم به لم ينَله أذى أحَدٍ، وتخلَّف عنه الضّرَر ولو مع وجودِ السّبب، قال : ((من نزَل منزلاً فقال: أعوذ بكلماتِ الله التامات من شرِّ ما خلَق لم يضرَّه شيء حتى يرتحِلَ من منزله ذلك)) رواه مسلم [6] ، قال القرطبيّ رحمه الله: "منذ سمِعتُ هذا الخبر عمِلت به فلم يضرَّني شيء، إلى أن تركتُه فلدغَتني عقربٌ بالمهديّة ليلاً، فتفكَّرتُ في نفسي فإذا بي قد نسِيتُ أن أتعوَّذَ بتلك الكلمات".
والمَخلوق يتعرَّض للأذى، ولن تهنَأَ حياتُه إلاّ بالاعتصام بالله واللّياذةِ به، فالضّرَر والنّفع كلُّه بيدِ الله، ومن سعى للإضرارِ بك لم يتحقَّق له مُناه ما لم يشأ الله ذلك، قال المصطفى : ((واعلَم أنَّ الأمة لو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك)) رواه الترمذي [7] ، وقد أمر الله نبيَّه أن يستعيذَ بخالِقِ الإصباحِ من شرِّ جميعِ المخلوقات ومِن شرِّ الغاسقِ والحاسد، والقادِرُ على إزالةِ هذه الظّلمةِ عن الكون قادِرٌ أن يرفعَ عن المستعيذِ ما يخافه ويخشاه، والمعتصِم بالله المستعيذ به في كلِّ شأن في حِصنٍ مكين من أهل الشّرور والماكرين.
وربُّنا لا مفزَعَ لنا في الشدائد سواه، ولا ملجَأَ لنا منه إلا إليه، والمستغيثُ بالله المستجير به يطرُق أخصَّ أنواع الدعاء، والاستغاثة بالربِّ العظيم مفزَعُ الأنبياء والصالحين في الشدائدِ والمكائد، قال سبحانه: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، وقال سبحانه: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62].
ومَن دعا الأمواتَ فنِداؤه لا يسمَع وحاجاتُه لا تُرفَع، قال سبحانه: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ [فاطر:13، 14]، فإذا حلَّت بك الخطوبُ واشتدَّت بك الكروب فاستغِث بعلاّم الغيوب، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
وإفراد الله بأفعالِ العِباد نَقاءٌ في المعتقَد وسَعادة تعمّ المجتمعَ وطمأنينة في النفوس.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21، 22].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيهِ من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول ما تَسمعون، وأستغفِر الله لي ولَكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] انظر: التخويف من النار (ص6).
[2] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6101)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2356) عن عائشة رضي الله عنها نحوه.
[3] شفاء العليل (ص107).
[4] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2516) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (1/293)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة، وأصحّ الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2043).
[5] مجموع الفتاوى (11/524).
[6] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2708) عن خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها.
[7] هو من تتمة حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتقدم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: أيّها المسلِمون، أبوابُ السّعادةِ والخيرِ تفتَّح بتعلُّق القلب بالله، وتغلَق أبواب الشّرور بالتوبةِ والاستغفار، وعافِيَة القلبِ في تركِ الآثام، ونَعيم الدّنيا في انجذابِ القلب إلى اللهِ حُبًّا له وخوفًا منه ورجاءَ فضله، فالخوفُ يبعدِك عن معصيةِ الله، والرّجاء يدفعك إلى طاعتِه، ومحبّتُه تسوقك إليه سوقًا، فاجعَل أعمالَك كلَّها خالصة لله، قائمةً على أكمل الوجوه في الظاهرِ والباطن، مع اليقين بأنَّ الله مطَّلعٌ على السرائر والنّيات، بصيرٌ عليم بالخفيّات.
ثم اعلموا أنَّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلم وزِد وبارك على نبيِّنا محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/3960)
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
15/2/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف بني إسرائيل من الإسلام. 2- حروب بني إسرائيل ضد الإسلام. 3- سبب نزول قوله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ. 4- وقفة تأمل مع قوله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ. 5- الأساليب الجديدة في محاربة الإسلام. 6- استمرار عمليات تهويد القدس. 7- التحذير من خطورة مُتطرّفي اليهود على المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:6-9].
أيها المسلمون، يذكر المفسّرون أن هذه الآيات جاءت على الأغلب بصدد استقبال أهل الكتاب للنبي الذي بشّرَت به كتُبُهم، والتنديد بهذا الاستقبال، وكيدهم لهذا الدين الجديد الذي قدّر الله تعالى أن يُظهِره على الأديان جميعها، وأن يكون الدين الأخير، إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
أيها المسلمون، لقد وقف بنو إسرائيل في وجه هذا الدين الجديد وقفة العداء والكيد والتضليل، وحاربوه بشتّى الوسائل والطرق حربًا شَعْوَاء لم تضع أوزارها حتى اليوم. فقد حاربوه بالاتهام، حيث قالوا عن القرآن الكريم: إنه سحر مبين، وعن رسول الله بأنه ساحر، وحاربوه بالدّسّ والوقيعة داخل المعسكر الإسلامي للإيقاع بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وبين قبيلتَي الأوس والخزرج من الأنصار، وحاربوه بالتآمر مع المنافقين تارة، ومع المشركين تارة أخرى، وحاربوه بالانضمام إلى معسكرات المهاجمين من الأحزاب، وحاربوه بالإشاعات الباطلة كما جرى في حديث الإفك على يد عبد الله بن أبي بن سلول، ثم جرى في فتنة عثمان بن عفان على يد عبد الله بن سبأ، وحاربوه بالأكاذيب والإسرائيليات التي دسّوها في الحديث والتفسير، وذلك حين عجزوا عن الوضع والكذب في القرآن الكريم.
أيها المؤمنون، والملاحظ أن هذه الحرب المستعِرَة لم تضع أوزارها لحظة واحدة، بل هي قائمة ومستمرة حتى وقتنا الحاضر، فقد دأبت الصهيونية العالمية والصليبية العالمية الحاقدة على الكيد للإسلام وأهله، وظَلّتا تُغِيران عليه أو تُؤلّبان عليه بصورة لم يسبق لها مثيل ومن غير توقّف.
حاربوه في الحروب الصليبية في المشرق، وحاربوه في الأندلس في المغرب، وحاربوه في الوسط في دولة الخلافة الأخيرة حربًا شَعْوَاء حتى مزّقوها، وقسموا تركة ما كانوا يسمّونه بالرجل المريض، واحتاجوا أن يصنعوا أبطالاً وهميين ومزيفين في أرض الإسلام يعملون لصالحهم، ولتنفيذ أحقادهم ومكايدهم ضدّ الإسلام، وقد نجحوا في ذلك، حيث أجهزوا على آخر مظهر من مظاهر الحكم الإسلامي.
وهم يكرّرون صنع هذه البطولات المزيّفة كلما أرادوا أن يضربوا الإسلام في بلد من بلاد المسلمين؛ ليقيموا مكانه عصبيّة غير عصبيّة الدين، وراية غير الدين، مصداقًا لقوله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وذكر المفسّرون أن سبب نزول هذه الآية أن النبي أبطأ عليه الوحي أربعين يومًا، فقال كعب بن الأشرف: يا معشر يهود، أبشروا فقد أطفأ الله سبحانه وتعالى نور محمد فيما كان ينزل عليه، وما كان ليتمّ أمره، فحزن رسول الله ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أيها المسلمون، إن هذه الآية الكريمة تُعبّر حقيقة وترسم في الوقت ذاته صورة تدعو إلى الرِّثَاء والاستهزاء، فقد كان هؤلاء يقولون بأفواههم عن القرآن الكريم وعن الرسول : هذا سحر مبين، ويدسّون ويكيدون محاولين القضاء على هذا الدين الجديد، إنها صورة بائسة لهم وهم يحاولون إطفاء نور الله بنفخة من أفواههم وهم الضعفاء، كمثل الذي يريد أن يطفئ شعاع الشمس بِفِيه، وهذا أمر مستحيل، فقد صَدَق وعدُ الله تعالى حيث أتمّ نوره في حياة الرسول ، وأقام الدولة الإسلامية صورة حَيّة من المنهج الإلهي المختار، صورة حقيقية تترسّمها الأجيال على أرض الواقع، وأكمل للمسلمين دينهم، وأتمّ عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا يحبونه، ويجاهدون في سبيله، فتمّت حقيقة الدين في القلوب وفي الأرض سواء، وما تزال هذه الحقيقة تظهر بين الحين والآخر على الرغم من كل الحروب التي تُشَنّ على الإسلام والمسلمين؛ لأن نور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد الموجودان في أيدي البشر، وإنْ خُيِّل للطغاة الجبّارين وللأبطال المصنوعين أنهم بالِغو هذا الهدف البعيد.
لقد جرى قَدَرُ الله أن يظهر هذا الدين، فكان من الحتم أن يكون، هُوَ الّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]، ولقد تمّت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله، ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته، وهو الدين الصالح لكل زمان ومكان، فظهر هذا الدين قوة وحقيقة ونظام حكم على الدين كله، فدانت له معظم المعمورة في الأرض في مدى قرن من الزمان، ثم اتسعت الفتوحات الإسلامية حتى وصلت إلى قلب آسيا وإفريقيا، ودخل فيه الناس أفواجًا بالدعوة المجردة لا بالسيوف كما يزعم الآخرون.
أيها المؤمنون، وما تزال لهذا الدين أدوار في تاريخ البشرية وحضارتها يؤديها، ظاهرًا بإذن الله على الدين كله وعلى جميع الأنظمة المتعددة الأشكال والألوان، تحقيقًا لوعد الله تعالى.
إن هذه الآيات الكريمة كانت حافزًا للمؤمنين المخاطبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها، وما تزال حافزًا ومطمئنًا لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم، وستظلّ تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله تعالى، وما ذلك على الله بعزيز، جاء ذلك في الحديث الشريف قول الرسول : ((تركت فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي)).
_________
الخطبة الثانية
_________
المؤمنون، وما أشبه اليوم بالبارحة! وكأن التاريخ يعيد نفسه، فأعداء الإسلام اليوم هم أعداؤه بالأمس، فقد عادوا من جديد في محاولة لإطفاء نور الله والقضاء على الإسلام، بتشويه صورته المشرقة، وبنسج الأكاذيب والأباطيل من حوله، وبالنيل من تعاليمه وشرائعه السمحة، فمرّة عن طريق إثارة الشبهات حول بعض شرائعه كموضوع المرأة وقضية عدم مساواتها بالرجل في الإرث والشهادة، وتعدد الزوجات، وعدم السماح لها بإمامة الرجال، إلى غير ذلك، ومرّة بالادعاء أن الدين الإسلامي انتشر بقوة السيف، ومرّة بالادعاء أن الإسلام هو دين الإرهاب، إذ إنه يُشجّع عليه ويعمل على بثّ الرعب والخوف في النفوس والقلوب. إن هؤلاء يقولون ذلك ظلمًا وزُورًا وافتراءً وتحاملاً على الإسلام وأهله، متناسين ومتجاهلين ما يحدث عند الآخرين من الجرائم والمجازر ضد الإنسانية. حقًّا لقد اختلفت الموازين والمعايير.
أيها المؤمنون، إن الناظر في شرائع هذا الدين يدرك تمامًا وبصورة قاطعة أن الإسلام بريء من هذه الاتهامات، لقد جاء الإسلام لصالح الناس جميعًا، جاء ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، وليملأ الدنيا رحمةً وعدلاً وسلامًا. وقد عاش الناس في كَنَفِه وفي ظلاله آمنين على عقائدهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، متساوين في الحقوق والواجبات بدون تفريق بين المسلم وغير المسلم، وصدق الله القائل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
إنها حقائق شهد بها العدو قبل الصديق، والفضل ما شهدت به الأعداءُ. وإن الشيء الذي يندَى له الجبين قول بعض أبناء جلدتنا بأن في الإسلام إرهابًا حسب مفهوم الآخرين. وما قولهم هذا إلا من أجل إرضاء أعداء هذا الدين.
أيها المسلمون، ما زالت أرض الإسراء والمعراج وفي مقدمتها مدينة القدس تتعرض لحملات التهويد المتمثّلة بتغيير معالمها ومصادرة أراضيها لإقامة المستوطنات عليها، وعزلها تمامًا عن بقية الأراضي الفلسطينية بإقامة جدار الفصل العنصري، ومنع المسلمين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك من أجل الصلاة فيه.
وآخر هذه الحملات المصادقة على بناء ثلاثة آلاف وخمسمائة وحدة سكنية على أراضي ما يُسمّى: مستوطنة معالي أدوميم، ثم قضية بيع العقارات والأملاك في القدس لمستثمرين يهود.
وإزاء ذلك أقول: إنه ليس من حق أحد ـ كائنًا مَن كان ـ بيع شيء من هذه العقارات أو الأملاك؛ لأنها مقامة على أرض عربية إسلامية وقْفِيّة، فلا يجوز بيعها أو التنازل عن شبر واحد منها، وإن مثل هذه الصفقات باطلة شرعًا وقانونًا.
أيها المرابطون، مرّة أخرى نجد أنفسنا مضطرين للحديث عما تُروّج له أجهزة الإعلام عن مخططات المستوطنين والمتطرّفين تجاه المسجد الأقصى، وقد حذّرنا مرارًا وتكرارًا من خطورة هذه الأعمال ومن عواقبها الوخيمة على المنطقة.
وإزاء ذلك فإننا نأمل أن يفي المسؤولون الإسرائيليّون بالوعود التي قطعوها على أنفسهم، والمتمثّلة بعزمهم وتصميمهم على منع دخول هؤلاء المتطرفين المسجد الأقصى حتى لا تحدث أمور عواقبها وخيمة.
أيها المسلمون، لقد انعقد مؤتمر القمة العربية في دورته السابعة عشرة في الجزائر، وتوقّع البعض بحثَ موضوع مدينة القدس والمسجد الأقصى بشكل أساسي، ولكنّ الذي حصل غير ذلك، وكأنه ليس على سُلّم الأولويّات، فحسبنا الله ونعم الوكيل، وإن للبيت ربًّا يحميه.
(1/3961)
حديث الرؤيا
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
أحاديث مشروحة, الرؤى والمنامات
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
2/5/1423
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حديث الرؤيا العظيم. 2- بعض الفوائد المستنبطة من حديث الرؤيا. 3- التحذير من تأويل الرؤى بغير علم. 4- التحذير من الذنوب والمعاصي كالكذب وأكل الربا والزنا. 5- بيان خطورة الكذب. 6- الترهيب من النوم عن الصلاة المكتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، أوصيكم بوصية الله للأولين والآخرين تقوى الله عز وجل، يقول سبحانه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، فعليكم ـ أيها الإخوة ـ بتقوى الله، تزودوا منها في هذه الحياة فهي خير زاد، يقول سبحانه: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:197]. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى يا رب العالمين.
أيها الإخوة المؤمنون، روى البخاري عن سَمُرَة بن جنْدب رضيَ الله عنه قال: كان رسولُ الله يعني مما يكثرُ أَن يقول لأصحابِهِ: ((هل رأى أَحدٌ منكم من رُؤيا؟)) قال: فيَقصُّ عليه ما شاء الله أن يَقصَّ، وإِنه قال ذاتَ غَداةٍ: ((إِنَّه أتاني الليلةَ آتِيان، وإِنهما قالا لي: انطلِق، وإِني انطلقتُ معهما، وإِنا أَتينا على رجل مَضْطجع، وإِذا آخرُ قائم عليهِ بصخرةٍ، وإِذا هو يَهوي بالصخرةِ لِرَأسهِ فيَثْلغ رأسَهُ فيتهدْهد الحجر ها هنا، فيتبعُ الحجرَ فيأخُذُه فلا يَرجع إِليه حتى يَصحَّ رأسُه كما كان، ثمَّ يَعودُ عليه فيفعل به مثلَ ما فَعَلَ المرَّةَ الأولى، قال: قلتُ لهما: سُبحانَ الله! ما هذانِ؟ قالا لي: انطلِقْ انطلِق، فانطَلَقْنا فأتينا على رجلِ مستَلْقٍ لِقَفاهُ، وإِذا آخرُ قائمٌ عليهِ بِكَلُّوبٍ من حديد، وإِذا هو يأتي أَحدَ شِقَّي وَجههِ فيُشَرْشِر شِدْقه إِلى قَفاه ومِنْخِرَه إِلى قَفاه وعَينَه إلى قفاه، ثمَّ يتحوَّل إِلى الجانب الآخر فيفعَل به مثل ما فَعل بالجانب الأوَّل، فما يَفرُغ من ذلك الجانب حتى يَصحَّ ذلك الجانب كما كان، ثمَّ يعودُ عليه فيفعل مثلَ ما فعلَ في المرَّةَ الأولى، قال قلت: سبحانَ الله! ما هذان؟ قالا لي: انطلقْ انطلق، فانطلقنا فأتَينا على مثل التنُّور، فإِذا فيه لَغَطٌ وأَصواتٌ، فاطلعْنا فيه فإذا فيه رجالٌ ونساء عراةٌ، وإِذا هم يأتيهم لَهَبٌ من أسفلَ منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضَوْضَوا، قلتُ لهما: ما هؤلاء؟ قالا لي: انطلِق انطلق، فانطلَقْنا فأَتَينا على نهر أَحمر مثل الدم، وإِذا في النهر رجلٌ سابحٌ يَسبَح، وإِذا على شَط النهر رجلٌ قد جَمَعَ عندَه حجارة كثيرةً، وإِذا ذلك السابحُ يسبحُ ما يسبحَ، ثمَّ يأتي ذلك الذي قد جمعَ عندهُ الحجارةَ فيفغر له فاهُ فَيُلقِمُهُ حجرًا، فينطلقُ يسبَحُ ثمَّ يرجعُ إِليه، كلما رَجَعَ إليه فغَرَ له فاهُ فألقمَهُ حجرًا، قلت لهما: ما هذانِ؟ قالا لي: انطلِقْ انطلق، فانطلَقْنا فأَتَينا على رجل كريهِ المرآةِ أو كأكرهِ ما أنتَ راءٍ رجلاً مَرآة، فإِذا هو عندَهُ نار يَحُشُّها ويَسعى حَولها، قلتُ لهما: ما هذا؟ قالا لي: انطلِقْ انطلِق، فانطلَقْنا فأَتَينا على روضةٍ مُعْتَمَّة فيها من كلِّ نور الرَّبيع، وإِذا بينَ ظهرَي الروضةِ رجلٌ طويلٌ لا أكادُ أرى رأسَه طولاً في السماء، وإِذا حَولَ الرجل من أكثرِ ولدانٍ رأيتهم قطٌّ، قلتُ: ما هذا وما هؤلاء؟ قالا لي: انطلِقْ انطلِقْ، فانطلَقنْنا فانتهينا إلى روضة عظيمة لم أَرَ روضة قط أَعظمَ منها ولا أحسنَ، قالا لي: ارْقَ فيها، فارتقَيْنا فيها إِلى مدينة مبنيَّة بلبنِ ذهبٍ ولَبِنِ فضة، فأتَينا بابَ المدينةِ فاستفتحْنا ففُتِحَ لنا، فدَخلناها فتلقانا فيها رجالٌ شَطرٌ من خَلْقِهم كأحسنِ ما أنتَ راءٍ وشَطرٌ كأقبحِ ما أنتَ راءٍ، قالا لهم: اذهبوا فقَعوا في ذلك النهر، وإذا هو نهرٌ معترِض يَجري كأَنَّ ماءه المحضُ في البياض، فذهَبوا فوقعوا فيه، ثمَّ رجعوا إلينا قد ذَهَبَ ذلك السوءُ عنهم، فصاروا في أَحسَنِ صورة، قال: قالا لي: هذه جنةُ عَدْنٍ وهذاكَ منزلك، فسمَا بصَري صُعُدًا فإذا قصرٌ مثلُ الرَّبابةِ البيضاء، قالا لي: هذاكَ منزِلك، قلت لهما: باركَ الله فيكما، ذَراني فأدخُله، قالا: أما الآن فلا، وأَنتَ داخِله، قلت لهما: فإني رأيتُ منذ الليلةِ عَجبًا، فما هذا الذي رأيت؟ قالا لي: أما إِنا سنُخبرُك: أَما الرجلُ الأولُ الذي أتيتَ عليه يُثلَغ رأسه بالحجر فإِنه الرجلُ يأخذُ القرآن فيرفُضُهُ وينامُ عن الصلاة المكتوبة، وأَما الرجلُ الذي أتيتَ عليه يُشرشَرُ شِدقُه إلى قفاه ومنخِِره إلى قفاه وعَينه إلى قفاه فإنه الرجلُ يَغدو من بيته فيكذِبُ الكذِبَةَ تبلغُ الآفاق، وأما الرجالُ والنساءُ العراةُ الذين في مثلِ بناءِ التَّنوُّر فإنهم الزُّناة والزواني، وأما الرجلُ الذي أتيتَ عليه يَسبَحُ في النهر ويُلقَمُ الحجر فإنه آكِلُ الرِّبا، وأَما الرجلُ الكريه المرآةِ الذي عندِ النار يَحشُّها ويَسعى حولها فإنه مالكٌ خازنٌ جهنم، وأما الرجلُ الطويلُ الذي في الروضة فإِنه إبراهيم ، وأَما الولدانُ الذين حَولهُ فكلُّ مولودٍ ماتَ على الفِطرة)) ، وفي رواية: ((ولد على الفطرة)) ، فقال بعضُ المسلمين: يا رسولَ الله، وأولادُ المشركين؟! فقال رسول الله : ((وأولاد المشركين، وأَما القومُ الذين كانوا شَطرٌ منهم حسنًا وشطرٌ منهم قبيحًا فإنهم قومٌ خَلَطوا عملاً صالحًا وآخرَ سَيِّئًا تجاوَزَ الله عنهم)) من صحيح الإمام البخاري.
أيها الإخوة المؤمنون، في هذا الحديث فوائد عظيمة، منها استحباب السؤال عمن رأى رؤيا وسماعها؛ لأن الرؤيا وخاصة إذا كانت صالحة فإنها من المبشِّرات، هذا ثابت عن النبي ، ففي الحديث الذي رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي يقول: ((لم يبقَ من النبوة إلا المُبَشِّراتُ)) ، قالوا: وما المبشرات؟ قال: ((الرُّؤْيا الصالحة)).
وقد دلنا النبي على الطريقة المثلى للتعامل مع الرؤى، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري أن النبي قال: ((إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، فليحمدِ الله عليها، وليحدِّثْ بها)) ، وفي رواية: ((فلا يحدث بها إلا من يحب، وإذا رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان، فليستعِذ من شرها ولا يذكرها لأحد، فإنها لا تضرُّه)).
وفي الحديث المتفق عليه أيضًا من رواية أبي قتادة أن النبي قال: ((الرؤيا الصالحة من الله، والحُلُم من الشيطان، فمن رأى شيئًا يكرُههُ فلينفُثْ عن شماله ثلاثًا وليتعوَّذْ من الشيطان، فإنها لا تضرُّه)).
وبعض الناس ـ أيها الإخوة ـ من حبه واحترافه للكذب يكذب حتى في الرؤى، فتجده يقول: رأيت البارحة كذا وكذا، وهو لم يرَ شيئًا، إنما هو الكذب، وهذا النوع من أعظم أنواع الكذب، ففي الحديث الذي رواه البخاري عن واثِلة بن الأسقَع أن النبي قال: ((إن من أعظم الفِرَى أن يَدَّعِيَ الرجلُ إلى غير أبيه، أو يُري عَينيهُ ما لم ترَ، أو يقول على رسول الله ما لم يقل)).
ومن الناس أيضًا من يتصدى لتأويل الرؤى وهو من أجهل الناس بالتأويل، فعندما يسمع أحدًا يقص رؤيا رآها يسارع وبجرأة وكأنه ابن سيرين زمانه، يفسر ما سمع: رؤياك يا فلان كذا وكذا، وهو لا يحسن تأويل الرؤى، وهذا كذب وادعاء، لا يجوز أبدًا.
فلنحذر أيها الإخوة، ولا نتجرأ على أمور نحن في غنى عن تبعات الجرأة على أمثالها.
ومن دروس هذا الحديث ـ أيها الإخوة ـ ثبوت عذاب القبر، ففيه إثبات لعذاب القبر، أعاذني الله وإياكم منه، وعذاب القبر ثابت في القرآن والسنة، والأدلة كثيرة لا يسع المقام لذكرها، ولكن منها هذا الحديث العظيم، ففيه إثبات لعذاب القبر، وذكرٌ لبعض المعاصي التي يعذَّب من فعلها بقبره، ومنها الكذب والزنا وأكل الربا والعياذ بالله من ذلك.
فلنحذر ـ أيها الأخوة ـ هذه الآثام التي تكون سببًا في عذاب القبر، ولنتيقّنْ ونعتقد أن في هذه القبور عذابا ونعيمًا، فهي إما روضة من رياض الجنة، وإما ـ والعياذ بالله ـ حفرة من حفر النار، ولنكثر ـ أيها الإخوة ـ من قول: اللهم إنا نعوذ بك من عذاب القبر، فقد كان هذا من دعائه.
اللهم أيقظْنا من رَقدة الغافلين، وأغثْنا بالإيمان واليقين، واجعلنا من عبادك الصالحين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، ومن فوائد هذا الحديث معرفة خطورة الكذب، فهذا الرجل الذي يعذّب في قبره بأن تشق أشداقه فهو الكذاب الذي يكذب الكذبة، فيتناقلها الناس وتبلغ الآفاق، وهي كذبة لا أساس لها من الصحة. فالكذب ـ أيها الإخوة ـ أمره خطير، بل هو محرم في الكتاب والسنة، يقول الله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] أي: لا تتكلم إلا عن علم، وإياك والظن بما هو وهم وخيال، ويقول سبحانه: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
وأما في السنة فجاء أن الكذب من أكبر الكبائر، بل هو علامة من علامات أهل النفاق، فعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلفُ وإذا اؤتمن خان)).
فالكذب خطير أيها الإخوة، وبعض الناس لا يتورع منه بل يستحله أحيانًا، فإذا كان بينه وبين غيره بيعةٌ كَذَب، وإذا أراد شراء سلعةٍ ما كذب، وإذا كان له معاملة في دائرة حكومية فلا بأس عنده بالكذب، وعلى أطفاله وأهل بيته يستعمل الكذب، وهذا كله كذب ولا يجوز.
ومن الناس من لا يتورع عن الكذب في المزاح لإضحاك الناس، وهذا أيضًا لا يجوز، ففي الحديث يقول : ((أنا زعيم ببيت في رَبَضِ الجنة ـ أي: فيما حولها ـ لمن ترك المِراء ـ أي: الجدال ـ وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) رواه أبو داود، وروى أحمد مرفوعًا: ((لا يؤمن العبد الإيمان كلّه حتى يترك الكذب في المزاح ويترك المِراء وإن كان صادقًا)).
وأما الذي يكذب ليُضحكَ الناسَ فالويل له، فقد روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود والدارمي أن النبي قال: ((ويل للذي يحدث فيكذِبُ ليضحِكَ به القومَ، ويلٌ له، ويلٌ له)).
ومن فوائد هذا الحديث ـ أيها الإخوة ـ التحذير من النوم عن الصلاة المكتوبة، وعن رفض القرآن لمن يحفظه، فالنوم عن الصلاة ورفض القرآن سبب في عذاب القبر نسأل الله العافية، فهذا الرجل الذي في قبره يُشدخُ رأسه وكلما عاد شُدخ بسبب نومه عنه بالليل، وعدم العمل به في النهار، فهذا الرأس الذي لم يأبَهْ لكتاب الله يستحق الشدخ، فهو يشدخ حتى يوم القيامة.
فلنحذر أيها الإخوة، وخاصة من رزقَهم اللهُ العلمَ في كتابه، لنحذرْ ولنقبلْ على كتاب الله تعلمًا وتعليمًا، وعملاً وتحكيمًا، وتدبرًا واستشفاءً، ومن أعرض فهذا ما ثبت له في قبره والآخرة أشدّ وأنكى، نسأل الله العافية.
ومن دروسه ـ أيها الإخوة ـ تحريم الزنا وأكل الربا، فإنهما من الموبقات المهلكات، وعذابهما أكيد في الدنيا وفي البرزخ وفي يوم القيامة.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
ألا وإن مما أمركم به بكم الصلاة على رسوله، فقال جل من قائل عليمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/3962)
صفات عباد الرحمن
الإيمان
خصال الإيمان
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
5/3/1423
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توحيد الله تعالى هو الغاية من خلق الإنس والجان. 2- صفات عباد الرحمن. 3- تربية الناشئة على الخير في صغرهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، عليكم بوصية ربكم لكم ولمن كان قبلكم، يقول جل جلاله وتقدست أسماؤه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
فاتقوا الله ـ يا عباد الله ـ بفعل أوامره والبعد عما نهى عنه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الإخوة المؤمنون، تعلمون ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن الله جل جلاله ما خلقنا إلا لعبادته، وما أوجدنا على هذه الأرض إلا من أجل توحيده وطاعته، أليس هو القائل: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]؟! بلى أيها الإخوة، وهي حقيقة لا جدال فيها، يعترف بها الجميع، بل لو سألت طفلاً في أوائل سني عمره عن الهدف من خلق الإنس والجن، لقال لك: للعبادة، ولو طلبت منه دليلاً لأورد لك الدليل.
ولكن ـ أيها الإخوة ـ يوجد من يغفل عن هذا الهدف، فينساق خلف عبادة هواه أو عبادة الدنيا أو عبادة الشيطان، وهذه عبادات واردة، ذكرها الله في كتابه، وذكرها النبي في سنته.
فيوجد من يعبد هواه، أي: يطيع ما يمليه عليه هواه، ويعمل ما يوافق مزاجه، وقد قال الله في هذا وأمثاله: أَرَءيْتَ مَنِ ?تَّخَذَ إِلَـ?هَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان:43].
ويوجد من يعبد الشيطان، يقول جل جلاله: لاَ تَعْبُدِ ?لشَّيْطَـ?نَ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلرَّحْمَـ?نِ عَصِيًّا [مريم:44]، فقد يتخذ الشيطان إلها يعبد من دون الله.
وكذلك الدنيا، فيوجد من يكون عبدًا للدنيا، تكون الدنيا إلهًا له يعبدها من دون الله، يقول النبي : ((تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم)) رواه البخاري.
وقد يوجد من يعبد غير ذلك، ولذلك أمر الله بأن لا يعبد إلا إياه، يقول تبارك وتعالى: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [الإسراء:23]، وقال: إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:40].
أيها الإخوة المؤمنون، قد ذكر الله لنا صفاتِ عباده، ومن ذلك ما جاء في سورة الفرقان، ينبغي للمسلم أن يعرض نفسَه على هذه الصفات، فإن وجدها فليحمدِ الله ويسأله الثباتَ، وإن لم يجدها فليبادر إلى توبة، يقول جل جلاله: وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًَا ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه:82].
فمن صفات عباد الرحمن في سورة الفرقان ما جاء في قول الله تعالى: وَعِبَادُ ?لرَّحْمَـ?نِ ?لَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى? ?لأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَـ?هِلُونَ قَالُواْ سَلاَمًا [الفرقان:63]، هذه أولى صفاتهم في هذه الآيات، يمشون هونا أي: بتواضع ووقار، بلا تجبر ولا استكبار، الكبر ليس من صفاتهم، والأَشَر والبَطَر ليس من سماتهم، وإذا خاطبهم الجاهلون وأساء إليهم السفهاء قابلوا ذلك بالعفو والصفح والغفران، ولا يقولون إلا خيرًا.
وأما الصفة الثانية: فعباد الرحمن كما قال تعالى: يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَـ?مًا [الفرقان:64]، يبيتون لربهم لا لشهواتهم المحرمة، ولا لملذاتهم المشبوهة، إنما لربهم سجدًا وقيامًا، أي: في طاعة وعبادة، يقضون ليلهم سجدًا على وجوههم، وقيامًا على أقدامهم، ليسوا كمن يقضي ليله يتابع القنوات ويسهر للنظر ومتابعة ما حرم الله في وقت ينزل به الرب جل جلاله إلى السماء الدنيا، ويقول سبحانه: هل من مستغفر فأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه، هل من سائل فأعطِِيَه. فعباد الرحمن يتحينون مثل هذه الفرصة، فيمضونها لله لا لشهواتهم، لله سجدًا وقيامًا.
وصفة أخرى هي أنهم مع هذا كله لم يَنْغَرُّوا بأعمالهم، ولم يتّكلوا على عبادتهم وطول قيامهم، إنما يسألون الله النجاة من النار، فيقولون كما قال جل جلاله: رَبَّنَا ?صْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:65، 66].
وَ?لَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، هذه طريقتهم في الإنفاق، لا إسراف ولا تقتير، وهكذا يريد الله جل جلاله: وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى? عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ?لْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا [الإسراء:29]. عبادُ الرحمن ينفقون، ولكن نفقاتهم باعتدال، فلا يسرفون؛ لأن الله لا يحب المسرفين، ولا يبذرون؛ لأن المبذرين كانوا إخوان الشياطين، ولا هم بخلاء؛ لأن البخل ليس من صفات المؤمنين.
ومن صفاتهم أيضًا أنهم لا يشركون بالله ولا يعتدون على الدم الحرام ولا يزنون، يقول جل جلاله: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]، فالشرك والقتل والزنا من كبائر الذنوب، ففي الحديث أن النبي سئل: أي الذنب أعظم؟ فقال : ((أن تجعل لله أندادًا وهو خلقك)) قال السائل: ثم أي؟ قال : ((أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك))، قال: ثم أي؟ قال : ((أن تزاني حليلة جارك)). فعباد الرحمن أصحاب توحيد، عملهم لله، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، أي: بما يحق أن تقتل به النفوس: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس. ومن صفاتهم أيضًا أنهم لا يزنون، بل يحفظون فروجهم عن الزنا.
يقول جل جلاله: وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـ?عَفْ لَهُ ?لْعَذَابُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69]، يضاعف أي: يزاد ويكرر نسأل الله العافية، ويخلد فيه أي: العذاب، مهانًا حقيرًا ذليلاً.
أيها الإخوة، هناك أدلة تنصّ على عدم خلود المؤمن في النار ولو فعل من المعاصي ما فعل، أما من مات على الشرك فهو من الخالدين في النار، لا شك في ذلك.
أيها الإخوة المؤمنون، وبعد هذه الآيات قال جل جلاله: إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ ?للَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـ?تٍ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى ?للَّهِ مَتابًا [الفرقان:70، 71]. ما أرحم الله بعباده، يشركون ويقتلون ويزنون، ثم يتوبون فيقبل توبتهم، بل يبدّل شركهم إيمانًا ومعصيتهم طاعة، بل يجعل سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورًا رحيمًا.
روى الإمام أحمد من حديث أبي ذر أن النبي قال: ((إني لأعرف آخر أهل النار خروجا من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة، يؤتى برجل فيقول: نَحّوا عنه كبارَ ذنوبه، وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا كذا وكذا، فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب، عملت أشياء لا أراها ها هنا))، يقول الراوي: فضحك رسول الله حتى بدت نواجذه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ ي?عِبَادِىَ ?لَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى? أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [الزمر:53].
بارك الله لي ولكم بالقرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من البيان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، ومن صفات عباد الرحمن ـ جعلني الله وإياكم منهم ـ أنهم لا يشهدون الزور، ولا يحضرون مجالسه، لا يشهدونه ولا يشاهدونه، والزور هو الكذب والباطل، ومنه مجالس السوء ومجالس الكذب، وكذلك من الزور مجالس الغناء، فعباد الرحمن ليس لديهم وقت يقضونه في مثل هذه الرذائل، وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِرامًا [الفرقان:72]، فهم لا يحضرون مجالس الزور، وإذا اتفق مرورهم بهذه المجالس التي فيها الزور فإنهم يمرون كرامًا.
ومن صفاتهم أنهم إذا ذكروا بآيات ربهم لم يَخِرُّوا عليها صُمًّا وعميانًا، إذا وُعظوا اتَّعظُوا، وإذا ذُكّروا تذكّروا، يسمعون آياتِ الله، فيقابلونها بالقبول، ويؤلونها الاهتمام، تجد الآيةُ عندهم آذانًا صاغية وقلوبًا واعية، فيزداد بها إيمانهم، ويتم بها يقينهم، وتحدِث لهم نشاطًا، ويفرحون بها.
ومن صفاتهم أيضا: وَ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْو?جِنَا وَذُرّيَّـ?تِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، يسألون الله الذرية الصالحة التي تَقَرُّ بها أعينهم في الدنيا والآخرة.
وهنا وقفة: تأملوا حال عباد الرحمن وهم يسألون الله صلاح ذرياتِهم، لا شك أن ذلك بعد فعلهم لأسباب الصلاح، أما من سأل الله صلاح ذريته وقد سعى إلى جلب كل ما يعمل على فسادهم فهذا لا شك عبث وحماقة، تجلبُ لهم ما يُنمِّي بذرة الفساد في نفوسهم، وما يهدِم أخلاقَهم، وما يُدرِّسُهم الرّذيلة وتأْمَلُ صلاحَهم، إن حالك كحال الذي قال الشاعر عنه:
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء
فإذا كنت تريد صلاح ذريتك، عليك فعل الأسباب، افعل الأسباب ثم اسأل الله تعالى.
ومن صفات عباد الرحمن أنهم يسألون الله أن يجعلهم قدوة لغيرهم بالخير، وهذا معنى قوله تعالى: وَ?جْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
هذه صفات عباد الرحمن، فماذا لهم؟ قال جل جلاله: أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ ?لْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـ?مًا خَـ?لِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفرقان:75-77].
أسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا وعملاً خالصًا وسلامة دائمة.
اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعزَّ المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعزَّ المسلمين...
(1/3963)
عداوة اليهود
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
22/1/1423
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداوة اليهود للإسلام والمسلمين. 2- تطاول اليهود على الله عز وجل وعلى الأنبياء عليهم السلام. 3- الذنوب والمعاصي سبب البلاء الذي حل بالأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة المؤمنون، قد قَرَح أكبادَ الصالحين وذَرَف دموعَ المؤمنين وأَقَضَّ مضاجعَ المسلمين ما تنقلُه وسائل الإعلام في كل ليلة، بل في كل دقيقة ولحظة، مما يفعله إخوان القردة والخنازير بالمسلمين في فلسطين، فقد بلغ السيل الزُّبى، وطفح الكيل، فلا ننام ولا نستيقظ إلا على مآسي إخواننا، مِحَنٌ عصيبة يعاني منها الفلسطينيون فوق أرضهم على أيدي إخوان القردة والخنازير اليهود، نعم اليهود الذين ساموا وما زالوا يسومون المسلمين في فلسطين سوء العذاب، وماذا بقي؟!
قتلوا الرجال، بل والأطفال، وروَّعوا النساء، وحرقوا المساجد، وهدموا البيوت، وحاصروا وجوّعوا، وما تركوا رذيلة ولا وسيلة إهانة إلا واستعملوها مع المسلمين في فلسطين، استعملوا الدبابات والمدافع على عُزَّل لا يملكون سوى الحجارة، فجَّروا رؤوس الأطفال بالقنابل، ومزَّقوا أجساد الشباب بالرصاص، قتلوا عشراتِ المسلمين، حتى صارت حدائق المستشفيات لهم قبورًا من كثرتهم، منعوا سياراتِ الإسعاف، حتى ولدت النساء في الطرقات، لوّثوا خزاناتِ المياه، ما ترك اليهود وسيلة تعذيب إلا واستعملوها مع الفلسطينيين، فلكم الله يا أبناء فلسطين، ولكم الله معشر المسلمين.
أيها المسلمون، إن ما يُفعَل بالمسلمين في فلسطين يُستغرب لو كان مِن غير اليهود، أما مِن هؤلاء الحُثالة فهو ليس بغريب، فهذا طبعهم، وهذا منهجهم في الحياة، فهم أهل حقد وحسد، وشعب لُؤم وخِسة، وأرباب غدر وخيانة، هم كما وصفهم الله: وَيَسْعَوْنَ فِى ?لأرْضِ فَسَادًا وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
إن ما يفعله اليهود بالمسلمين في فلسطين نابع من حقد دفين وعداوة شديدة للإسلام والمسلمين؛ لأن اليهود أعداء، أعداء لنا وأعداء لديننا، لا نتوقع إلا الشر منهم، يقول الله تعالى: مَّا يَوَدُّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ وَلاَ ?لْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ وَ?للَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء وَ?للَّهُ ذُو ?لْفَضْلِ ?لْعَظِيمِ [البقرة:105].
إن ما يفعله اليهود ليس بغريب، واعتداؤهم على أرواح المسلمين وأعراضهم، في زمن تُحمى فيه الكلاب وينادى فيه بحقوق الإنسان وتنشَأ جمعيات الرفق بالحيوان ليس بغريب أبدًا، وكيف يستغرب عاقل من تسلط اليهود على المسلمين وقد تطاولوا على الله؟! فهم الذين أخبرنا الله عنهم في كتابه بقوله: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ يَدُ ?للَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء.. [المائدة:64]، وهم الذين قالوا: إِنَّ ?للَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ ?لاْنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ ?لْحَرِيقِ [آل عمران:181]، وهم الذين ادّعوا الولد لله: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ عُزَيْرٌ ?بْنُ ?للَّهِ [التوبة:30]، تعالى الله عن قولهم، لَهُ مُلْكُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2].
وهؤلاء هم اليهود الذين قتلوا أنبياء الله، وقالوا عن عيسى عليه السلام وعن أمه في تلمودهم ما قالوا من الفحش والبهتان، كما قالوا: أنه صلب ومات ودفن في جهنم. وقد قال الله تعالى في فريتهم على المسيح عليه السلام وأمه: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَـ?قَهُمْ وَكُفْرِهِم بَئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَقَتْلِهِمُ ?لأنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ?للَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى? مَرْيَمَ بُهْتَـ?نًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا ?لْمَسِيحَ عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ ?للَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـ?كِن شُبّهَ لَهُمْ وَإِنَّ ?لَّذِينَ ?خْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكّ مّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ ?تِّبَاعَ ?لظَّنّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:155-157].
فماذا يرجى ممن هذه حالهم؟! يتطاولون على الله، ويقتلون الأنبياء، ويتهمون من برَّأه الله، ماذا يرجى من هؤلاء؟! أيحفظون لمسلم حرمه، أم يراعون فيه ذمة؟! لا والذي نفسي بيده.
أيها الإخوة المؤمنون، ومما لا شك فيه أن تسلط اليهود لم يأتِ من فراغ، إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي، نعم بسبب ذنوبنا ومعاصينا، الذنوب والمعاصي ـ أيها الإخوة ـ دمّرت أممًا، وأبادت شعوبًا، وخربت ديارًا، وقضت على حضارات، فالسبب هو الذنوب والمعاصي، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، أَوَلَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىء قَدِيرٌ [آل عمران:165]. والمتأمّل في نصوص الكتاب والسنة يتبين له من أين أُصيبت هذه الأمة، ويعرف مصدر الداء ومنبع البلاء.
صحيح أن اليهود جبناء أذلاء كما قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لذّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ ?للَّهِ وَحَبْلٍ مّنَ ?لنَّاسِ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ ?للَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ?لْمَسْكَنَةُ ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَيَقْتُلُونَ ?لاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ [آل عمران:112]، فهم أذلاء جبناء، يقول الله عنهم: لاَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ [الحشر:14]، فهم جبناء، وسيطرتهم ليست بسبب شجاعتهم، إنما هي بسبب بُعدنا عن الله، بسبب أننا غثاء كغثاء السيل، بسبب أننا أخذنا بأذناب البقر وتبايعنا بالعِينة وتركَت الأمة الجهاد في سبيل الله، هذا ما أخبر به النبي ، ففي الحديث الذي رواه أبو داوود عن ثَوْبَانَ قال: قال رَسُولُ الله : ((يُوشِكُ الأُمَمُ أنْ تَدَاعى عَليْكُم كَمَا تَدَاعى الأكَلَةُ إلَى قَصْعَتِهَا)) ، فقالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قالَ: ((بَلْ أنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثيرٌ، وَلَكِنَّكُم غُثَاء كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صُدُورِ عَدُوكُمْ المَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ الله في قُلُوبِكُم الَوَهْنَ)) ، فقالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ الله وَمَا الْوَهْنُ؟ قالَ: ((حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ)) ، وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبيّ قال: ((لَئِنْ تَرَكْتُمْ الجِهادَ وَأَخَذْتُمْ بِأَذنابِ البقرِ وَتَبايَعْتُمْ بالعِينَةِ لَيُلْزِمَنَّكُمْ الله مَذَلَّةً في رِقابِكُمْ، لا تَنْفَكّ عَنْكُمْ حَتّى تَتُوبوا إِلَى الله وَتَرْجِعُوا على ما كُنْتُمْ عَلَيْهِ)).
أيها الإخوة المؤمنون، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11]. فعلى المسلمين كافة في فلسطين وغير فلسطين أن يوحدوا صفوفهم، ويعودوا إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم ومنهج سلفهم الصالح.
على المسلمين أن ينصروا الله لينصرهم، ويكونوا مع الله ليكون معهم، ويؤمنوا بالله ليدافع عنهم، ويكونوا أولياء له سبحانه ليقضي على عدوهم، أليس الله هو القائل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، والقائل: وَأَنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:19]، والقائل: وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَـ?زَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ?صْبِرُواْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الأنفال:46]، والقائل: إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38]، والقائل: وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ ?للَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ ?لْمُتَّقُونَ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [الأنفال:34]؟! بلى والله، فاللهم إنا نسألك وأنت في عليائك أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين، وأن تخذل الشرك والمشركين، وأن تُدمر أعداء الدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، لقد تكالب أعداؤنا علينا: اليهود والنصارى والمجوس وعباد البقر وغيرهم لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال:60]. ومما لا شك فيه أن تسلّط الأعداء عقوبة من الله، وهذه سنة ماضية تحدث كلما ابتعدت الأمة عن دينها وأعرضت عن شرع ربها وتركت سنة نبيها.
أيها الإخوة، لقد مُنِيَ المسلمون في تاريخهم بشيء من ذلك، فالأندلس خير شاهد، وفلسطين أخت الأندلس:
يا أخت أندلس صبرًا وتضحية وطول صبر على الأرزاء والنُوَبِ
ذهبت فِي لُجَّة الأيام ضائعة ضياع أندلس من قبل في الحِقَب
وطوَّحت ببنيك الصِّيدِ نازلةٌ بمثلها أمّة الإسلام لم تصَب
أيها الإخوة المؤمنون، إن قضيةَ فلسطين قضيةٌ للمسلمين كافة، فيجب علينا أن نستشعر معاناة إخواننا، وأن نشاركهم مآسيهم، وأن نكون معهم بالدعاء الصادق، ندعو الله أن ينصرهم، وأن يفك معاناتهم.
أسأل الله لي ولكم الفقه في الدين والاقتداء بسيد المرسلين والسير على ما سار عليه أسلافنا الصالحون.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم احمِ حوزة الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنا نسألك أن تنصر عبادك المؤمنين، وأن تذل الشرك والمشركين، اللهم عليك باليهود المعتدين والنصارى الحاقدين، ومن كره الإسلام والمسلمين...
(1/3964)
وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع
الرقاق والأخلاق والآداب
الزهد والورع
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
20/2/1423
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقارة الدنيا ومهانتها. 2- التحذير من حب الدنيا والتعلق بها. 3- تعلق قلوب كثير من الناس بالدنيا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، وصيتي وصية ربكم لكم ولمن كان قبلكم: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَكَانَ ?للَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا [النساء:131]. فاتقوا الله يا عباد الله، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الإخوة المؤمنون، يقول الله عز وجل: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [الحديد:20].
ففي هذه الآية يبين لنا الله جل جلاله حقيقة الدنيا، وهو سبحانه الذي خلق الدنيا العالم بها الخبير بصفاتها جل جلاله، يبين مقدار الدنيا وحقيقتها. هذه الدنيا التي تعلقت بها نفوسنا ولم يَسلَم منها إلا من رحم الله، ما حقيقتها؟ وما مقدارها؟
الجواب اسمعوه من الله، يقول جل جلاله: ?عْلَمُواْ أَنَّمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى ?لأَمْو?لِ وَ?لأَوْلْـ?دِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ?لْكُفَّارَ نَبَاتُهُ.
بيان لحقارة الدنيا ومهانتها، وصدق الله، فما مقدار وما حقيقة اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر بحطام فانٍ، إنما هو كمثل غيث أي: مطر نزل فأنبت حتى اكتمل نباته، فنال إعجاب الناس، وما هي إلا أيام وإذا به: يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ، فلم تبقَ له نضارة، ولم تستمرَّ له خضرة، إنما صار يابسًا متحطمًا، وهكذا هي الدنيا، يعجب بها من جهل حقيقتها ومن خُدع بزخارفها، فما هي إلا فترة من الزمن فإذا بها لا وجود لها.
وَفِى ?لآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مّنَ ?للَّهِ وَرِضْو?نٌ وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ أي: ليس في الآخرة الآتية القريبة إلا أحد أمرين: إما هذا، وإما هذا، إما عذاب شديد، وإما مغفرة من الله ورضوان، وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ.
أيها الإخوة المؤمنون، إن هذه الآية العظيمة دلت على أن الدنيا زائلة مهما طالت، وأن الآخرة باقية، أو بعبارة أخرى: أن الدنيا محدودة متناهية والآخرة لا نهاية، فلا مقارنة بين محدود منتهٍ وبين باقٍ لا نهاية له، فكم يعيش الإنسان؟ وكم مدة بقائه في هذه الحياة؟ أنت ـ يا عبد الله ـ كم ستعيش في هذه الحياة؟ وكم ستبقى فيها؟ هذه الحياة المنتهية المنقضية التي لا قيمة لها، كم ستعيش فيها: مائة سنة؟ قل: مائة سنة، فما نسبة هذه المائة لفترة لا نهاية لها؟ وصدق الله: فَمَا مَتَاعُ ?لْحَيَاةِ ?لدُّنْيَا فِى ?لآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38].
إن هذه الدنيا تشبه السراب الذي يحسبه الظمآن ماء، فيركض خلفه ويسعى في طلبه، حتى يموت عطشًا، وهو سراب، وهكذا هي الدنيا.
وقد صدق من شبهها بالرؤيا في المنام، فالإنسان النائم أحيانًا يرى عجائب وأشياء لا نصيب لها من الواقع، يتلذذ بها ولكن سرعان ما تنتهي وتزول فور استيقاظه من نومه، يستيقظ فيعلم أنه في حلم، وهكذا هم أرباب الدنيا، يظنون أن ما يجمعونه ذو قيمة ومقدار، وما هو في الحقيقة إلا حطام وعَرَض زائل ومتاع منتهٍ، ومتى يعلمون ذلك؟ عند توديعهم لهذه الدنيا، عندها يصحون من غفلتهم ويستيقظون من رقدتهم.
إن هذه الدنيا ـ أيها الإخوة ـ ما هي إلا محطة في طريق وممر إلى مستقر، روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: نام رسول الله على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتَّخذنا لك وطاءً، فقال: ((ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها)).
أيها الإخوة المؤمنون، إن كثيرا من الناس يجهل حقيقة الدنيا، ولذلك تجده قد تعلق بها وشُغف بحبها وصارت عنده كل شيء، وهي لا تساوي شيئًا، شبهها النبي بالجدي الأسكّ، كما في الحديث الصحيح عند مسلم الذي رواه جابر أن الرسول مرّ بالسوق والناس كَنَفَتَيْهِ، فمرّ بِجَدْي أَسَكّ ميّت ـ يعني صغير الأذنين وميّت ـ فتناوله فأخذ بأذنَيه ثم قال: ((أيّكم يحبّ أن هذا له بدرهم؟)) فقالوا: ما نحبّ أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟! ثم قال: ((أتحبّون أنه لكم؟)) قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا أنه أَسَكّ، فكيف وهو ميت؟! فقال: ((فوالله، للدنيا أهْونُ على الله من هذا عليكم)) ، الدنيا عند الله أهون من هذا عندكم، هذا الجدي الميت الذي لو كان حيًّا ما قُدِّر بدرهم الدنيا أهون وأقلّ قيمة منه. هذه التي تتعادَون من أجلها، وتتقاطعون بأسبابها، وتكذبون وتحتالون وتتكبّرون من أجل حُطامها، لا تساوي ما يقدَّر بأقلّ من درهم.
هذه حقيقة الدنيا، وهذا مقدارها، وفي الحديث عن سهل بن سعد أن النبي قال: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شَربة ماء)) رواه الترمذي. إذًا حتى جناح البعوضة لا تعدله الدنيا عند الله عز وجل.
فلنحذر ـ أيها الإخوة ـ من هذه الدنيا ومن التنعم بها، وخاصة إذا كان ذلك على حساب الآخرة، روى مسلم في صحيحه عن أنس قال: قال رسول الله : ((يؤتى بأنعَمِ أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصْبغ في النار صبْغَةً ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب)) مجرد صبْغَةٍ في النار ينسى، سبحان الله! أين ذلك النعيم؟! وأين سعة الصدر وذلك السرور؟! نسيه بسبب صبغة. يقول النبي : ((ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله، ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)).
أيها الإخوة المؤمنون، إن هذه الدنيا التي لا حقيقة لها ولا تناسب بينها وبين الآخرة أعطيت أكبر من قدرها، وأكثر الناس كما قال القائل:
على الدين فليبك ذوو العلم والهدى فقد طمست أعلامه في العوالم
وقد صار إقبال الورى واحتيالهم على هذه الدنيا وجمع الدراهم
وإصلاح دنياهم بإفساد دينهم وتحصيل ملذوذاتِها والمطاعم
يعادون فيها بل يوالون أهلها سواء لديهم ذوو التقى والجرائم
فلنتقِ الله أيها الإخوة، فإن متاع الدنيا قليل، والآخرة هي الحيوان، وَمَا ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ ، عن سهل بن سعد قال: سمعت النبي يقول: ((موضع سَوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولغُدْوَة في سبيل الله أو رَوْحَة خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري.
اللهم إنا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار، اللهم إنا نسألك أن لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، هذه هي الدنيا، وتلك حقيقتها، ولكنها مُزيَّنة كما قال جل جلاله: زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ?لشَّهَو?تِ مِنَ ?لنّسَاء وَ?لْبَنِينَ وَ?لْقَنَـ?طِيرِ ?لْمُقَنطَرَةِ مِنَ ?لذَّهَبِ وَ?لْفِضَّةِ وَ?لْخَيْلِ ?لْمُسَوَّمَةِ وَ?لأنْعَـ?مِ وَ?لْحَرْثِ ذ?لِكَ مَتَـ?عُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?للَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ?لْمَآبِ [آل عمران:14].
ولذلك ـ أيها الإخوة ـ حذّر الله من الاغترار بها والانخداع بزخارفها وملذاتها، فقال عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ?للَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِ?للَّهِ ?لْغَرُورُ [فاطر:5].
أيها الإخوة، إن الحياة الدنيا والتعلق بها والعمل من أجلها أمر خطير، بيَّن الله سوء عواقبه وشر نتائجه، وحذر منه، وحث على الإعراض عنه والإقبال على الآخرة التي لا تقارن الدنيا بها، يقول عز وجل: وَمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ ?لدَّارَ ?لآخِرَةَ لَهِىَ ?لْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت:64] أي: إن الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية، الحياة الباقية، الحياة الهانئة التي لا زوال لها ولا انقضاء. وروى الإمام مسلم عن المستورد بن شداد أن النبي قال: ((ما الدنيا في الآخرة إلا مَثَلُ ما يجعل أحدُكم إِصبَعَهُ في اليَمِّ، فلينظر بم يرجع)) واليم يعني البحر.
هذه الدنيا التي تعلقَتْ بها كثيرٌ من النفوس، فصار بعض الناس يفني شبابه ويفرط بصحته ويضيع عمره من أجلها، فهي بالنسبة للآخرة مثل ما يعلق بالإصبع من ماء البحر. فيا لخسارة من تعلق بالقليل وأعرض عن ذلك الذي لا حصر له.
أيها الإخوة المؤمنون، ويكفي في ذم الدنيا ما رواه الترمذي عن أبي هريرة وهو قول النبي : ((ألا إن الدنيا ملعونة ـ معنى ملعونة أي: ساقطة مبغوضة ـ ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه وعالمًا ومتعلمًا)).
فلنحذر الدنيا، ولنحذر كل ما يبعدنا فيها عن الله، ولنجعل هذه الدنيا القصيرة مزرعة للآخرة، ولنحذر طول الأمل، فإنه يمنع من خير العمل.
وخير الكلام كلام الله عز وجل: فَأَمَّا مَن طَغَى? وَءاثَرَ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا فَإِنَّ ?لْجَحِيمَ هِىَ ?لْمَأْوَى? وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:37-41].
هذا ما يسر الله في هذا الموضوع، أسأل الله أن ينفعني وإياكم به، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه سميع مجيب.
اللهم إنا نسألك الفقه في الدين والتمسك بالكتاب المبين والاقتداء بسيد المرسلين والفوز بالدار الآخرة مع عبادك المؤمنين. اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين...
(1/3965)
احذروا هؤلاء
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
4/11/1422
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستشفاء بكتاب الله. 2- التحذير من المشعوذين والدجاجلة. 3- أمور يعرف بها المشعوذ. 4- حكم الساحر والمشعوذ. 5- بعض الصور السيئة التي يقع فيها بعض القراء أو مدعي هذا العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله القائل: إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ ?لسَّـ?حِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه:69]، أحمده حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا شبيه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد))، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم بتقوى الله عز وجل، أوصيكم بوصية ربكم لكم القائل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، فاتقوا الله يا عباد الله، فإن في التقوى سعادة الدنيا والآخرة، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين.
أيها الإخوة المؤمنون، كان الحديث في الجمعة الماضية عما يُستشفى به على لسان النبي ، وذكرنا من ذلك القرآن الكريم، وقلنا: فيه شفاء لقوله تعالى: وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ?لظَّـ?لِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]، وقوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مّن رَّبّكُمْ وَشِفَاء لِمَا فِى ?لصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، وذكرنا كلام ابن القيم والشروط الهامة التي متى وجدت نفع بإذن الله عز وجل الاستشفاء بالقرآن.
أيها الإخوة، ونحن نوصي بالاستشفاء بكتاب الله نحذّر من أناس جعلوا الرقية بكتاب الله وسيلة لتحقيق رغباتهم الفاسدة، وطريقة للوصول لمآربهم المشبوهة.
نحذر ـ أيها الإخوة ـ من أناس لم يجدوا سوى كتاب الله عز وجل، جعلوه وسيلة لأكل أموال الناس بالباطل، بل حتى لهتك أعراض بعض المسلمين، جعلوه وسيلة لجلب الناس، وخاصة المرضى منهم، مستغلين محبة الناس لكتاب ربهم؛ لأننا ولله الحمد في مجتمع يحب القرآن، ويؤمن به، ويستشفي به، فأعلنوا للناس أنهم يعالجون بالقرآن، وأنهم أهل رقية شرعية، وحقيقتهم أنهم أهل دجل وكذب وسحر وشعوذة، إنما زعموا ذلك للتكسب وتحصيل الأموال الطائلة من جيوب المرضى المساكين.
أيها الإخوة المؤمنون، ولكي لا يلتبس أمر هؤلاء مع غيرهم، لكي لا يلتبس أمر هؤلاء مع الذين يرقون بالقرآن بكلام الله وبما جاء في السنة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام إليكم صفاتهم، فقد ذكرها أهل العلم ليحذر المسلم من إتيانهم أو طلب العلاج بين أيديهم أو الاستشفاء برقيتهم، بل والحذر منهم والتحذير منهم.
إنها صفات ينبغي للمسلم أن يكون على علم بها، وخاصة عندما يحتاج للرقية، وفي معرفته لها والحذر من أصحابها سلامة الدين والدنيا، فإليكم ـ أيها الإخوة ـ الصفات:
أولاً: السؤال عن اسم المريض واسم أمه، فإذا أتيت أحدهم فسمتعه يقول: ما اسمك؟ وما اسم أمك؟ اعلم بأنه من المشعوذين.
ثانيًا: أخذ شيء من المريض كقطعة لباسٍ ونحوه، فبعضهم يأخذ من لباس المريض كفنيلته أو طاقيته فيحتفظ به، لتشخيص حالته ووصف علاجه.
ثالثًا: إخبار المريض بمعلوماتٍ خاصة عنه، كأن يقول: أنت فعلتَ يوم كذا كذا وكذا، وأنت تكره كذا أو تحب كذا، فهذا من عمل الكهان.
رابعًا: كتابة حروف مقطعة وطلاسم وكلام غير مفهوم، مثل ما يكتب بعضهم، يكتبون كتابات مجرد النظر إليها يأتي بالمرض.
خامسًا: إعطاء المريض أشياء يدفنها في الأرض أو يخفيها في المنزل أو في أي مكان.
سادسًا: تكليف المريض بذبح حيوان بصفة معينه، كأن يأمره بذبح شاة سوداء أو ديكٍ أحمر أو غير ذلك.
سابعًا: ظهور الفسق في شخصية الراقي، فبعضهم عندما تتأمل في شخصيته تجده مخالفًا كل المخالفة لتعاليم القرآن ومجتنبًا لما جاء في سنة النبي ، فكيف يكون راقيًا بكتاب الله وهو ليس من أهله؟!
هذه العلامات متى وجدت أو وجد شيء منها في رجل فهو من المشعوذين الدجالين.
أيها الإخوة المؤمنون، ومن وجدت فيه هذه الصفات فما حكمه؟ وما حكم الذهاب إليه؟
حكمه ـ أيها الإخوة ـ الكفر، وعقوبته أن يقتل، هذا جزاء من يستعين بالشياطين ويقدم الخدمة لهم، هذه ـ أيها الإخوة ـ عقوبة من يتقرب إلى الشياطين ويذبح لهم ويستغيث بهم ويعمل ما يقربه إليهم من أعمال تؤدي به إلى الكفر والضلال، يقول الله عز جل: وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى? يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرّقُونَ بِهِ بَيْنَ ?لْمَرْء وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ?شْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ?لآخِرَةِ مِنْ خَلَـ?قٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [البقرة:102]، وفي الحديث عن عمر بن الخطاب قال: قال النبي : ((اقتلوا كل ساحر وساحرة)) ، وقتل عمر في زمنه ثلاث سواحر.
وأما الذهاب إلى هؤلاء السحرة والكهان فهو خطر عظيم، يقول النبي : ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا))، مجرد الإتيان والسؤال، أربعون يومًا والصلاة غير مقبولة، يصلي ولا تقبل صلاته، وأما إذا أتاه وسأله وصدقه فهذا أشد وأخطر، يقول النبي : ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )).
إن القضية ـ أيها الإخوة ـ خطيرة جدًا، وبعض الناس ـ نسأل الله العافية ـ لا يبالي بالذهاب إلى هؤلاء وسؤالهم وتصديقهم، فلتحذر أخي المسلم، فالقضية قضية كفر والعياذ بالله.
أيها الإخوة المؤمنون، إن في وجود هؤلاء خطرًا على المجتمع، بل على الأمة بأسرها، وأنا أقول ذلك ـ أيها الإخوة ـ لأن بعض الناس وخاصة السذج منهم يغترون بهم، وخاصةً عندما يحدثونهم بأشياء تصدق أحيانًا، وهم بالجملة كذبه، سئل النبي عنهم فقال: ((ليسوا بشيء))، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثون بالشيء أحيانًا يكون حقا، فقال رسول الله : ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني ـ أي: يسمعها من الملائكة تتحدث بها ـ فيقرقرها في أذن وليه ـ أي: الساحر أو الكاهن ـ كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة)) أخرجه البخاري.
أيها الإخوة المؤمنون، فلنحرص على الرقية الشرعية الصحيحة عندما نحتاج إليها، ولنحذر رقاة السوء؛ لأن خطرهم عظيم على العقيدة، وعندما نجهل حال أحد منهم فلنسأل عنه ولنتبين حاله.
أسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا وعملاً خالصًا وسلامةً دائمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، إن الأمر خطير جد خطير، وقد توسع بعض الرقاة توسعًا عجيبًا، والمتأمل لأحوال بعضهم والله إنه ليحزن حزنًا عظيمًا من الحال الدنيئة التي وصل إليها بعضهم، فمنهم من يخلو بنساء المسلمين ويمسهن مباشرة، ومنهم من يطلب الأموال الطائلة مستغلاً حاجة المريض، وقد طلب أحدهم على أحد المرضى أكثر من عشرين ألف ريال، لماذا العشرون وهو يقرأ عليه من كتاب الله وسنة رسوله ؟! وبعضهم ينفث على خزان الماء الكبير، ثم يفرغ منه في علب صغيرة، فيبيع العلبة بعشرات الريالات، وكذلك الزيت، بل منهم من اتخذ ذئبًا يخوّف به مرضاه أو يشمّمهم جلده، وهذا والعياذ بالله من الشعوذة، فقد جاء في فتوى للجنة الدائمة أن استعمال الراقي لجلد الذئب ليشمّه المصاب حتى يعرف أنه مصاب بالجنون عمل لا يجوز، لأنه نوع من الشعوذة والاعتقاد الفاسد، فيجب منعه بتاتًا، وقولهم: إن الجني يخاف من الذئب خرافة لا أصل لها.
أيها الإخوة المؤمنون، ومما يدل على دجل هؤلاء أنه ما عهد منهم أن ردوا أحدًا من الناس وقالوا: ليس لك عندنا علاج، فإما سحر أو عين. يذكر أن أحدهم جاءه ثلاثة من الناس وهم من أفضل الناس وأحسنهم صحة، إنما أرادوا اختباره وكشف زيفه ودجله، فجيء بالأول منهم وهو يصدر تصرفات غريبة يتظاهر بها فبعد أن رقاه قال: هذا فيه جنية عاشقة في بداية أمرها معه، وجيء بالثاني فرقاه فتظاهر بالإغماء، فقال: هذا مصاب بالعين، أصابه زميل له بالدراسة بعينه، ثم جيء بالثالث فسأله: ما لك؟ فقال: إني أخاف وأرى أشياء تخيفني، فقال له: هل معدتك تطقطق؟ قال: نعم، قال: فيك سحر بالمعدة. فكتب لهم بعض الوصفات وخرجوا من عنده يضحكون لعلمهم بأنه من الذين ذكر النبي بقوله: ((ليسوا بشيء)).
فاتقوا الله يا عباد الله، وتذكروا قول نبيكم : ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا))، وقوله : ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد )).
(1/3966)
أسباب شرعية للرزق
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
18/11/1422
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأسباب الشرعية الجالبة للرزق: الاستغفار، التقوى، التوكل، الحج والعمرة، صلة الرحم، الإنفاق في سبيل الله. 2- الذنوب والمعاصي تحرم الرزق.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله القائل: وَفِى ?لسَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبّ ?لسَّمَاء وَ?لأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22، 23]، أحمده حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا)) ، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، عليكم بوصية ربكم لكم، فقد قال عز وجل من قائل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، فاتقوا الله يا عباد الله، فإن خير الدنيا والآخرة بتقوى الله عز وجل.
أيها الإخوة المؤمنون، كثير من الناس يشتكي قلة الرزق وقلة ما في اليد وتراكم الديون وكثرتها، كثير من الناس يشتكي عدم كفاية الدخل ويعاني من ضنك العيش، فتجده يتضجر في المجالس ويشتكي إلى فلان وعلان من الذين لا يملكون له رزقًا، ويغفل هذا وأمثاله عن أسباب الرزق الشرعية التي جاء بها الدين، وذكرها الله في كتابه المبين، وبينها النبي في سنته المطهرة.
أيها الإخوة المؤمنون، إليكم هذه الأسباب الهامة التي تكون سببًا ـ بإذن الله تعالى ـ لسعة الرزق ووفرته، وعدم الحاجة والنظر إلى ما في أيدي الناس. إنها أسباب شرعية متى عملها الإنسان ووافقت إخلاصًا وصدقًا منه فإنها تكون سببًا لسعة رزقه وكثرة ماله.
في مقدمتها ـ أيها الإخوة ـ الاستغفار والتوبة، قول: أستغفر الله وأتوب إليه، الاستغفار والتوبة من الأمور العظيمة التي حثّ عليها الدين، يقول الله تعالى عن نبيه نوح عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، وفي الحديث ـ وفي إسناده ضعف ـ عنه قال: ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)).
ولكثرة الاستغفار ـ يا عباد الله ـ شأن عظيم، ولذلك لما جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله يشكو من الجدب والقحط قال له: استغفر الله، ثم جاءه آخر يشكو الفقر والحاجة فقال له: استغفر الله، وجاء ثالث لا يولد له ويطلب منه الدعاء عسى الله أن يرزقه بمولود قال له أيضا: استغفر الله. ثلاثة شكواهم متنوعة، ولكنه يقول لكل واحد منهم: استغفر الله، فيصف له الاستغفار علاجًا لما حلّ به، فقيل له في ذلك فقال رحمه الله: ما قلت من عندي شيئًا ـ أي: لم آتِ بشيء من عندي ـ إن الله يقول في سورة نوح: ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
فأكثروا ـ يا عباد الله ـ من الاستغفار، الزموا التوبة، فإنهما من أسباب الرزق.
ومن الأسباب ـ أيها الإخوة ـ تقوى الله عز وجل، وهي امتثال أمر الله ونهيه والوقاية من عذابه وسخطه، يقول تبارك وتعالى: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِب [الطلاق:2، 3]، ويقول سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ?لْقُرَى? ءامَنُواْ وَ?تَّقَوْاْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـ?تٍ مّنَ ?لسَّمَاء وَ?لأرْضِ وَلَـ?كِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَـ?هُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
فتقوى الله عز وجل سبب في الرزق ووسيلة لزيادته، ولكن أين المتّقون؟! أين المتقون؟! تجد من يعصي الله ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا، ينظر إلى ما حرم الله، ويأكل ما حرم الله، ويشرب ما حرم الله، ومع هذا يشتكي قلة الرزق، فليتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
أيها الإخوة المؤمنون، ومن الأسباب الشرعية لجلب الرزق التوكل على الله جل جلاله، يعني تتوكل على الله، تفوّض أمرك إلى الله، تعتمد على الله وحده، لا تعتمد على أي مخلوق كان. نعم أيها الأخ، تفرغ قلبك من التعلق بالخلق، وتتوكل على الخالق، ترجو فرَجَه، وتنتظر رحمته، مع بذل الأسباب والأخذ بها، يقول النبي : ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصًا وتروح بطانًا)) ، والله عز وجل يقول قبل ذلك: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْرًا [الطلاق:3]. ومعنى فَهُوَ حَسْبُهُ أي: يكفيه ويقضي دينه ويسد جوعته.
ومن الأسباب أيضا المتابعة بين الحج والعمرة، نعم المتابعة بين الحج والعمرة، تجعل أحدهما تابعًا للآخر، إذا حججت اعتمرت، وإذا اعتمرت حججت، وهكذا، يقول النبي : ((تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة)).
ومنها صلة الرحم، يقول : ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)) ، وقال : ((تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في العمر)). فلصلة الرحم شأن عظيم، حتى لو كان الأرحام فجَرَة نسأل الله العافية، يقول النبي : ((إن أعجل الطاعة ثوابًا صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونون فجرة، فتنمو أموالهم ويكثر عددهم إذا تواصلوا)). فتأملوا أيها الإخوة، هم فجرة، ولكن فيهم صلة لأرحامهم، ولذلك بسبب هذه الصلة كثر عددهم ونمت أموالهم.
ومن أسباب الرزق الإنفاق في سبيل الله تعالى، ضعيف الإيمان الجاهل بكتاب الله، يقول: كيف يكون الإنفاق سببًا للرزق؟! نقول: اسمع لقول الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39]، ويقول تبارك وتعالى في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم أنفق يُنفق عليك)). هذا وعد من الله، ولكنه يحتاج إلى مزيد من التصديق واليقين، نسأل الله ذلك.
فالإنفاق سبب في جلب الرزق، يقول النبي : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان، فيقول أحدهم: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسكًا تلفًا)) ، وقد أوصى النبي بلالا فقال: ((يا بلال، أنفق ولا تخش من ذي العرش إقلالاً)) ، وفي الحديث قال : ((ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثًا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلِم عبد مظلمة صبر عليها إلا زاده الله عزًا، ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)).
هذه ـ يا عباد الله ـ بعض أسباب الرزق، اعملوا بها وابتغوا عند الله الرزق، وإياكم واستعجال النتائج، فإن الله عز وجل إذا وعد وفَى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدّلِ لِكَلِمَـ?تِهِ وَهُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الأنعام:115].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، فاعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن الله تعالى هو الرزاق، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ?لأرْضِ إِلاَّ عَلَى ?للَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6]، كتب سبحانه الرزق قبل أن يخلق السماوات والأرض، وقدر أرزاق العباد، ولن تموت نفس حتى تدرك رزقها الذي قدر عز وجل لها.
فاتقوا الله يا عباد الله، وابتغوا الرزق من عند الله، واحذروا الذنوب والمعاصي، فإن العبد يحرم الرزق بسبب ذنب يصيبه، ومن كبائر الذنوب الربا، يقول عز وجل: يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، يقول ابن سعدي في تفسيره: "أخبر تعالى أنه يمحق مكاسب المرابين، ويربى صدقات المنفقين، عكس ما يتبادر لأذهان كثير من الخلق أن الإنفاق ينقص المال وأن الربا يزيده، فإن مادة الرزق وحصول ثمراته من الله تعالى، وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وامتثال أمره".
أيها الإخوة المؤمنون، فلنحذر الربا، ولنحذر جميع المكاسب المحرمة، كالرشوة والغش والاحتيال، ولنحذر بيع وترويج ما حرم الله، كالدخان والخمر والمخدرات والمجلات الهابطة وغير ذلك.
أسأل الله عز وجل أن يطيب مكاسبنا، وأن يجعل رزقنا حلالاً، إنه سميع مجيب.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمن سواك...
(1/3967)
الحث على الحج
فقه
الحج والعمرة
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
25/11/1422
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرضية الحج على المسلم المستطيع. 2- ركنية الحج. 3- التحذير من تأخير أداء هذه الفريضة. 4- الحج المبرور وشروطه. 5- المبادرة إلى الطاعات في عشر ذي الحجة. 6- مشروعية الأضحية في العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعةٍ، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار، أعاذني الله وإياكم من النار.
أيها الإخوة المؤمنون، في هذه الأيام يستقبل المسلمون شهر ذي الحجة، الشهر الذي فيه يحَجّ إلى بيت الله الحرام.
أيام ـ أيها الإخوة ـ وتبدأ أعمال الحج، الحج الذي جعله الله فريضة على من استطاع إليه من عباده، يقول جل جلاله: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97]، ففي هذه الآية الدليل على وجوب الحج، على من؟ على من استطاع إليه سبيلا، أي: من ملك زادًا وراحلةً وصحةً وأمنًا. نعم أيها الإخوة، السبيل هو الزاد والراحلة والصحة وأمن الطريق، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ.
وقد بين الرسول أن الإسلام الذي هو ديننا، بين أنه مبني على أركان خمسة، لا يقوم إلا بها، ولا يكمل إلا بتواجدها، من هذه الخمسة الحج، ففي الحديث يقول : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)) ، وفي حديث جبريل عليه السلام حينما سأل النبي فقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال : ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)).
أيها الإخوة المؤمنون، فالحج ركن من أركان الإسلام، فرض على هذه الأمة في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة، فعله النبي مرة واحدة عرفت بحجّة الوداع، وحكمه الوجوب مرة في العمر على كل مسلم بالغ عاقل حر مستطيع، وقد جعل الله عدم القيام به ممن استطاع عليه بمثابة الكفر كما سمعتم في قوله تعالى: وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ ؛ لذا ينبغي للمستطيع المبادرة لتأدية فريضة الحج وجعل الحج في مقدمة الاهتمامات.
على المسلم أن يحذر التقاعس والتسويف، ويؤدي فريضة الحج؛ لأنه لا يدري ماذا يحدث له، يقول النبي : ((من لم تحبسه حاجةٌ ظاهرة أو مرض حابس أو منع من سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا)) ، ومما أثر عن السلف أنهم كانوا يبادرون لتأدية فريضة الحج، ويحذرون من تأخيرها، اسمعوا لما يقول عمر بن الخطاب : (لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار، فينظروا كل من له جِدَه ـ يعنى غنيًا، لديه مال ـ ولم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين). هذا قول عمر، وأما علي فقد قال: (من ملك زادًا وراحلةً تبلغه إلى البيت ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا).
فالله الله أخي المسلم، بادر لإكمال دينك وإتمام أركان إسلامك، قم بهذا الركن العظيم، وإياك والتسويف والتأجيل. اغتنم ـ يا عبد الله ـ غناك قبل فقرك، وصحتك قبل مرضك، وشبابك قبل هرمك، بل اغتنم حياتك قبل موتك.
أيها الإخوة المؤمنون، وعلى من عزم على الحج أن يحرص كل الحرص أن يكون حجه مبرورًا؛ لأن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة كما أخبر بذلك النبي.
ولا يكون الحج مبرورًا إلا إذا توفرت فيه عدة شروط، منها الإخلاص وهو أهمها، فيكون الحج خالصًا لوجه الله، لا لطلب مال، ولا لطلب جاه، ولا لطلب لقب، ولا للنزهة وسعة الصدر مع الزملاء، لا، إنما يكون بنية التقرب إلى الله تعالى وللوصول إلى دار كرامته، يقول عز وجل: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ [البينة:5]. الحج كغيره من الأعمال التعبدية، لا يكون مقبولاً ولا مبرورًا إلا إذا توفر فيه الإخلاص.
ومن شروط الحج المبرور المال الحلال، أن يكون بمالٍ حلال؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وقد جاء أن الرجل إذا حج بنفقة طيبة ـ يعني حلال ـ ثم وضع رجله ثم نادى: لبيك اللهم لبيك ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك وعمل مقبول غير مردود مأجور غير مأزور، هذا متى؟ إذا كانت نفقته التي يصرف منها في رحلة حجه من حلال. وأما إن كانت نفقته من مال خبيث، من مال حرام، فإنه إذا وضع رجله ولبى ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك وعملك مردود عليك. فالنفقة الطيبة شرط من شروط كون الحج مبرورًا.
ومن الشروط أيضًا أن يكون الحج وفق ما جاء به النبي ، أليس هو القائل: ((خذوا عني مناسككم)) ؟! بلى أيها الإخوة؛ لذا إذا كان على غير هدي النبي من أين له أن يكون مبرورًا؟! وكيف يكون ذلك والنبي يقول: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي: مردود على عامله؟!
أيها الإخوة المؤمنون، فالإخلاص والنفقة الطيبة ومتابعة الرسول بذلك يكون الحج مبرورًا، ليس له جزاء إلا الجنة.
ومن فوائد الحج العظيمة مغفرة الذنوب وحط الخطايا، ولكن لن يتهيأ ذلك إلا عند خلو الحج من الرفث والفسوق، فمن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، كما جاء في الحديث.
وخير معين ـ أيها الإخوة ـ على الحج الخالي من الرفث والفسوق الرفقة الصالحة، نعم الرفقة الصالحة، فلتحذر ـ أخي الحاج ـ رفقة السوء الذين شبه النبي أحدهم بنافخ الكير، فهو إما أن يحرق ثيابك، أو تجد منه الرائحة الخبيثة. فاحرص ـ أخي الحاج ـ على رفقة صالحة، يعينونك على تأدية حجك، ويعينونك على نفسك والشيطان.
وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ لّيَشْهَدُواْ مَنَـ?فِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لاْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْبَائِسَ ?لْفَقِيرَ [الحج:27، 28].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ بأنه من أبرز صفات أولياء الله من أبرز صفات عباد الرحمن الحرص على فعل الخيرات واغتنام المناسبات إلى جنة عرضها الأرض والسماوات.
عبادُ الرحمن ـ يا عبادَ الله ـ سباقون إلى الخير، يحرصون على عمل الآخرة في هذه الحياة، وما ذلك إلا لعلمهم بأنها مزرعة لها، يقدمون لأنفسهم ما سيجدونه غدًا عند الله هو خيرا لهم وأعظم أجرا.
ومن هذه المناسبات العظيمة التي تجدر الإشادة بها والإشارة إليها الأيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، فإنها أيام لها فضل عظيم، أقسم الله بها لفضلها، فقال عز من قائل: وَ?لْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2].
فالله الله أيها الإخوة، عظموا هذه الأيام، واعمروها بالأعمال الصالحة، فإن العمل فيها ليس كالعمل في غيرها، فالعمل فيها من المحبوبات عند الله، يقول الرسول : ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)).
فالله الله أخي المسلم، أكثر من الأعمال الصالحة في هذه الأيام، ومن هذه الأعمال الصيام، فما من عبد يصوم يومًا في سبيل الله إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفًا. صم ـ يا عبد الله ـ ما يتيسر لك من هذه الأيام، وإن غلبتك نفسك على ترك الصيام خلال هذه الأيام التسع فلا تغلبنك على يوم عرفة اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، فإن صيامه يكفر سنتين: سنةً قبله وأخرى مثلها بعده، بذلك أخبر النبي فقال: ((صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)).
أيها الإخوة المؤمنون، وأذكّر من أراد أن يضحي في هذا العام وأنتم إن شاء الله كذلك، أذكركم بأن من أراد أن يضحي فإن عليه أن يحرم إحرام الأضحية، فلا يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئًا، منذ دخول الشهر حتى يذبح أضحيته، هذا هو هدي النبي ، ففي الحديث يقول: ((إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره))، وفي رواية: ((فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي)).
أسأل الله لي ولكم الفقه في الدين، والتمسك بالكتاب المبين، والاقتداء بسيد المرسلين، والسير على نهج أسلافنا الصالحين.
اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، اللهم احمِ حوزة الدين...
(1/3968)
حق الجار
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبيد بن عساف الطوياوي
حائل
11/11/1422
جامع الخلف
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صور من سوء معاملة الجار. 2- وصية الكتاب والسنة بالجار. 3- حقوق الجار: كف الأذى، الإحسان إليه، الصبر على أذاه.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله القائل: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36]، أحمده حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه))، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، عليكم بوصية ربكم لكم، فقد قال عز من قائل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، فاتقوا الله يا عباد الله، فإن خير الدنيا والآخرة بتقوى الله عز وجل.
أيها الإخوة المؤمنون، من الأمور التي توجب المحبة والتعاون بين الناس ومن مظاهر التراحم والترابط بين المسلمين ظاهرة مراعاة حقوق الجار، ولذلك ـ أيها الإخوة ـ اعتنى الإسلام بالجار ورعى حقوقه، بل أمر بالإحسان إليه وأوصى به، والأدلة على ذلك كثيرة جدًا.
وقبل أن نذكر الأدلة لنا وقفة يسيرة، لنتأمل ما عليه أكثر المسلمين مع جيرانهم، وإلى أيّ مدى وصلت الاستهانة بحقوق الجار عند بعضهم.
إننا نسمع ـ أيها الإخوة ـ ما يندى له الجبين مما يحدث بين بعض الجيران من تقاطع ومن تهاجر ومن تحاسد ومن بغضاء، وأمور ينبغي أن لا توجد في مجتمعات المسلمين، بل ـ أيها الإخوة ـ وصل التقصير والاستهانة بحق الجار إلى درجة أن الجار ـ في بعض الأحياء ـ لا يعرف جاره، نعم لا يعرف جاره الذي ليس بينه وبينه إلا جدار.
فما ظنكم ـ أيها الإخوة ـ بجيران لا يتعارفون، هل يؤدي بعضهم حق بعض؟! إذا كان الجار لا يعرف جاره هل تتوقعون بأن حقوق الجار سوف تراعى أو يقام بها؟! لا ورب الكعبة، إنما يحدث خلاف ذلك من إضاعة لحقوق الجار ومن إهمال لواجباته وتقصير بحقوقه.
أيها الإخوة المؤمنون، عندما نتأمل واقع بعض المسلمين مع جيرانهم ونستعرض النصوص الواردة التي تبين حق الجار إننا والله نزداد يقينًا وثقة بهذا الدين، فهو الدين الكامل، الدين الصالح لكل زمان ومكان، الدين الذي لا غنى لأحد عنه كائنًا من كان.
وإليكم أيها الإخوة الأدلة من الكتاب والسنة:
يقول الله عز وجل: وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا وَبِذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَ?لْجَارِ ذِى ?لْقُرْبَى? وَ?لْجَارِ ?لْجُنُبِ وَ?لصَّـ?حِبِ بِ?لجَنْبِ وَ?بْنِ ?لسَّبِيلِ ، ففي هذه الآية يأمر الله جل جلاله، يأمر بماذا؟ يأمر بالإحسان للجار مهما كان هذا الجار، سواء كان قريبًا أو ليس بينك وبينه قرابة، سواء كان صالحًا أو غير ذلك، فأنت مأمور بالإحسان إليه.
وأما النبي فقد حث حثًا شديدًا على مراعاة حقوق الجار إلى درجة أنه ذكر أنه غلب على ظنه من كثرة ما يوصيه جبريل بالجار أن الله عز وجل سيقسم له من الإرث، ففي مسند الإمام أحمد عن رجل من الأنصار قال: خرجت مع أهلي أريد النبي وإذا به قائم، وإذا رجل مقبل عليه، فظننت أن له حاجة، فجلست، فوالله لقد قام رسول الله حتى جعلت أرثي له من طول القيام، ثم انصرف، فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي إليك من طول القيام، قال : ((أتدري من هذا؟)) قلت: لا، قال : ((جبريل ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه، أما أنك لو سلمت عليه لرد عليك السلام)). تأملوا ـ أيها الإخوة ـ هذه الوقفة الطويلة مع جبريل عليه السلام، كانت في الوصية بالجار.
أيها الإخوة المؤمنون، ويتلخص حق الجار في ثلاثة أمور هامة، من قام بها فقد وفى بحق جيرانه، وهي: كف الأذى عن الجار، والإحسان إليه، والصبر على إيذائه. هذه الثلاث إذا كانت فيك ـ يا عبد الله ـ فإنك من الذين يرعون حقوق جيرانهم:
الأولى: كف الأذى، فقد جاءت الأدلة مشددة في كف الأذى عن الجار ومحذرة كل التحذير، منها ما رواه أنس أن النبي قال: ((من آذى جاره فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل)). وقد ربط عدم الإيذاء للجار بقضية الإيمان بالله واليوم الآخر، ففي الحديث عن أبي هريرة قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)).
ونبه على عظم خطر إيذاء الجار على الأعمال الصالحة، ففي الحديث عن أبي هريرة أنه قيل للنبي : يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتتصدق وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله : ((لا خير فيها، هي من أهل النار))، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتتصدق بأثوار أقط ولا تؤذي أحدًا ـ يعني: عملها قليل غير أنها لا تؤذي أحدًا ـ فقال رسول الله : ((هي من أهل الجنة)).
فتأملوا ـ أيها الإخوة ـ خطورة إيذاء الجار، إيذاء الجار ليس بالأمر السهل، يقول النبي : ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) يعني: لا يأمن شروره.
فليحذر الذين يؤذون جيرانهم، وليتوبوا إلى الله ويستغفروه من هذا الذنب العظيم، وليتحلّلوا جيرانهم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار.
إن الذنب الذي يرتكب بحق الجار يضاعف إلى عشرة أضعاف، اسمعوا إلى قول نبيكم ، ففي الحديث عن المقداد بن الأسود أن النبي سأل أصحابه عن الزنا، فقالوا: حرام حرمه الله ورسوله، فقال : ((لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره)) ، وسألهم عن السرقة قالوا: حرام حرمها الله ورسوله، فقال : ((لأن يسرق من عشرة أهل أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره)).
فأذى الجار ـ أيها الإخوة ـ مهما كان نوعه جريمة عظمى، وقد ضرب لنا رسول الله أروع الأمثلة في كف الأذى عن الجار، ففي الأدب المفرد للبخاري تروي لنا عائشة رضي الله عنها أنها ذات ليلة صنعت للرسول قرصًا من شعير، تقول: فأقبلت شاة لجارنا داجنة ـ يعنى لا تجد حرجًا من الدخول في البيوت ـ فدخلت ثم عمدت إلى القرص فأخذته ثم أدبرت به، فبادرتها الباب ـ لا تجد رضي الله عنها غير هذا القرص وأخذته الشاة الداجنة ـ تقول: فبادرتها الباب، فقال النبي : ((خذي ما أدركت من قرصك، ولا تؤذ جارك في شاته)). إنه المثل الأعلى في كف الأذى عن الجار، حتى في شاته التي تتعدى على طعام الجيران.
أسأل الله لي ولكم علمًا نافعًا وعملاً خالصًا وسلامة دائمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا هو تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، وثاني حقوق الجار: الإحسان إليه، فكف الأذى عنه لا يكفي، لا يكفي أن تكف أذاك عن جيرانك فقط، إنما تكفّ أذاك عنهم وتحسن إليهم؛ لأن الإحسان حق من حقوق الجار، ففي الصحيحين يقول النبي : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره))، فإكرامك لجيرانك دليل على إيمانك، وفي رواية يقول النبي : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)).
وذكر لنا الرسول أن الناس عند الله ليسوا سواء، وبين لنا أن خيرهم هو من فيه خير لجيرانه، ففي الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : ((خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره)).
فالإحسان إلى الجار أمر مطلوب حتى ولو كان شيئًا يسيرًا، بل حتى ولو كان كراع شاة أو مرق لحم، ففي الحديث يقول : ((لا تحقرنّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة))، وفي رواية: ((ولو كراع شاة محرقًا)) ، وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي قال: ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)). ففي هذا دليل على أهمية تعاهد الجار والإهداء إليه وتفقد أحواله وعدم الغفلة عن حاجته، والنبي يقول: ((ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع)).
أيها الإخوة المؤمنون، وآخر الحقوق: الصبر على أذى الجار.
أيها الإخوة، من المصائب الكبرى التي يصاب بها المسلم جار السوء، نسأل الله السلامة والعافية، فقد كان النبي يستعيذ منه في دعائه، يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقام، فإن جار البادية يتحول))، ودار المقام يعني: القرية والمدينة.
مصيبة ـ أيها الإخوة ـ عندما تبتلى بجار سيّئ، ولكن حتى وإن بليت فعليك أن تصبر، حتى ولو كان جارك جار سوء ويمتد سوؤه إليك فمن حقه أن تصبر عليه، تصبر عليه، وتحسن إليه، وتحتسب أجر ذلك عند الله جل جلاله، ففي الحديث عن مطرف بن عبد الله أن الله سبحانه يحبّ الرجل الذي كان له جار سوء يؤذيه، فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت.
فاتقوا الله يا عباد الله، وحافظوا على حقوق جيرانكم، وصونوا أعراضهم، الله الله في حفظ أسرار الجار، فإن حفظ سر الجار أمانة، وإذاعة ما يكره أن يذاع خيانة للأمانة، نسأل الله السلامة والعافية.
جعلني الله وإياكم من الذين يقومون بحقوق جيرانهم ويؤدون واجباتهم، إنه سميع مجيب.
اللهم وفقنا للقيام بحقوق جيراننا، وألف على ما يرضيك قلوبنا، واجعلنا إخوة متحابين متآلفين متوادين، يا رب العلمين...
(1/3969)
صلاة العاجز
فقه
الصلاة, المرضى والطب
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
7/8/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة القلب إلى الزاد الروحي المتمثل في الإيمان والتقوى. 2- الصلاة من أفضل ما يتزود به المرء في سفره للآخرة. 3- وجوب الصلاة على المسلم حتى في حال مرضه ما دام عاقلاً. 4- بيان كيفية الطهارة والصلاة للمريض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الناس جميعًا في هذه الدنيا على سفر وارتحال إلى الدار الآخرة التي هي المقر الدائم والمنزل الأبدي، ي?قَوْمِ إِنَّمَا هَـ?ذِهِ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا مَتَـ?عٌ وَإِنَّ ?لاْخِرَةَ هِىَ دَارُ ?لْقَرَارِ [غافر:39]، وابن آدم في سفره هذا يحتاج إلى الوقود والزاد الإيماني الذي يحدوه للمسير وينير له الطريق، أرأيتم مسافرًا لا يتزود لسفره؟! وهل تسير السيارة والطائرة بغير وقود؟! وهل يعيش الإنسان بلا طعام أو شراب؟! وهل يعيش بدن لا يأتيه الزاد من الطعام يوميًا وعلى جرعات متفاوتة وفي أوقات مرتبة، وإلا هلك البدن وانهدت قواه وعجز صاحبه؟! وهل يستطيع العبد أن ينجو بنفسه من كرب الدنيا ومن كربات الآخرة بغير زاد التقوى والإيمان والعمل الصالح؟! وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ?لزَّادِ ?لتَّقْوَى? وَ?تَّقُونِ يأُوْلِي ?لألْبَـ?بِ [البقرة:197]، فإن كان للجسد زاده وطعامه فللقلب زاده وقوته الذي لا يبقى حيًا إلا به، وهل يكون القلب سليمًا معافى ينفع صاحبه يوم الفزع الأكبر إن لم يكن معمورًا بالإيمان ومترعًا بالتقوى والاستقامة يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]؟!
إذا علمنا ذلك ـ أيها المؤمنون ـ فيا ترى ما هذا الزاد والقوت الذي تحيا به القلوب؟ إنه زاد عجيب وذو أثر أكيد، زاد يزيد في الحسنات ويرفع الدرجات، إنه قوت، وأيّ قوت لمن حرم منه ففاتته تلك المكاسب والخيرات؟! يحدثنا ربنا عن هذا الزاد فيقول: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114]، وعن أثر هذا الزاد ومفعوله القوي يخبرنا ربنا: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، وأهل الفلاح والنجاح لهم مع هذا الزاد ارتباط عجيب، قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2].
ولأهمية هذا الزاد وعظيم الحاجة إليه في حياة القلوب فإنه لا يسقط أداؤه عن أي إنسان مسلم ما دام عقله معه، حتى لو كان المسلمون في مواجهة أعدائهم وفي معمعة الحرب والقتال، وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ?لصَّلَو?ةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ [النساء:102]، إن الصلاة لا تسقط بحال حتى في حال شدة الخوف الذي يقطع نياط القلوب فلا يلوي أحد عن أحد، حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:238].
عباد الله، ليس الحديث إليكم الآن عن وجوب الصلاة وحكم تاركها، فهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، يعرفه حتى الصبيان والعجائز، غير أني أريد التنبيه إلى أمر يغفل عنه البعض من المسلمين، وهو أن بعض المسلمين يظنون أن المسلم إذا كان مريضًا أو عاجزًا أو كان حبيس فراشه أن الصلاة تسقط عنه، وبعضهم يظن أن المريض لا يصلي حال مرضه، ثم إذا شفي قضى ما عليه من الصلوات بحجة أنه عاجز عن أداء الصلاة كاملة بوقوفها وطهارتها وأركانها وواجباتها، فإلى هؤلاء يقال: إن الله سبحانه أوجب الصلاة على المسلم المكلف، وأخبر سبحانه أن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، فلم تسقط عن المسلمين وهم في أتون المعركة ووسط لهيبها ونيرانها والأعداء عن قرب والموت يتخطفهم من كل جانب، فمن باب أولى من هو آمن مطمئن.
ولكن قد يقول قائل: كيف أصلي وأنا لا أستطيع الطهارة، أو عليّ ثياب نجسة لا يمكن نزعها، أو لا يمكنني الوقوف أو الركوع أو السجود، وربما لا يكون جسمي جهة القبلة؟! فما أصنع في حالتي هذه؟! إن الجواب عن ذلك قد أخبر به الحبيب في حديث عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي عن الصلاة فقال: ((صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب)) أخرجه البخاري، كما علمنا كتاب ربنا أن ديننا لا حرج فيه: هُوَ ?جْتَبَـ?كُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج: 77]، وأن التكليف بالأوامر الشرعية يكون بحسب القدرة والطاقة: لاَ يُكَلِّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إلاَّ مَا آتَاهَا [الطلاق: 7]، وفي الصحيحين يقول : ((إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) ، وعندما ورد الأمر بالوضوء في قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ?لصَّلو?ةِ ف?غْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ?لْمَرَافِقِ وَ?مْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ?لْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَ?طَّهَّرُواْ [المائدة:6] جاء التخفيف عمن لا يستطيع الوضوء بالماء أو لا يجده فقال سبحانه: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى? سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُم مّنَ ?لْغَائِطِ أَوْ لَـ?مَسْتُمُ ?لنّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا فَ?مْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ مَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـ?كِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
أيها المؤمنون، إذا علمنا ذلك كله فلنعلم أن الصلاة تجب على المسلم ما دام عقله موجودًا، فقد قال ربنا تعالى: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، قال ابن باز رحمه الله تعالى: "المرض لا يمنع من أداء الصلاة بحجة العجز عن الطهارة ما دام العقل موجودًا، بل يجب على المريض أن يصلي حسب طاقته وأن يتطهر بالماء إذا قدر على ذلك، فإن لم يستطع استعمال الماء تيمم وصلى، وعليه أن يغسل النجاسة من بدنه وثيابه وقت الصلاة أو يبدل الثياب النجسة بثياب طاهرة وقت الصلاة، فإن عجز عن غسل النجاسة وعن إبدال الثياب النجسة بثياب طاهرة سقط ذلك عنه وصلى على حسب حاله لقوله تعالى فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ مَا ?سْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]" اهـ.
وقد بين أهل العلم كيفية الطهارة والصلاة بالنسبة للمريض على النحو الآتي باختصار، حيث يجب على المريض أن يتطهر بالماء فيتوضأ من الحدث الأصغر ويغتسل من الحدث الأكبر، فإن كان لا يستطيع الطهارة بالماء لعجزه أو خوف زيادة المرض أو تأخر برئه فإنه يتيمم، وإن كان لا يستطيع استعمال الماء أو التيمم بنفسه فإنه يستعين بمن يوضئه أو ييممه، وإن كان على بعض أعضاء وضوئه رباط أو جبس مسح عليه بالماء ولا يتيمم له.
ثم يصلي الفريضة قائمًا ولو منحنيًا أو معتمدًا على جدار أو عصا عند الحاجة، فإن كان لا يستطيع القيام صلى جالسًا، فإن كان لا يستطيع الجلوس صلى على جنبه متوجهًا إلى القبلة قدر الإمكان، فإن كان لا يستطيع الصلاة على جنبه صلى مستلقيًا ورجلاه إلى القبلة إن أمكنه ذلك، أما عن الركوع والسجود فإن كان المريض يستطيعهما وجبا عليه، فإن لم يستطع أومأ بهما برأسه ويجعل السجود أخفض من الركوع، فإن كان لا يستطيع الإيماء برأسه في الركوع والسجود صلى بقلبه فيكبر ويقرأ وينوي الركوع والسجود والقيام والقعود بقلبه، أما عن وقت الصلاة فيجب على المريض أن يصلي كل صلاة في وقتها، فإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء حسب ما يتيسر له تقديمًا أو تأخيرًا، أما الفجر فلا تجمع مع غيرها.
هذا باختصار ما يجب على المريض فعله حيال الصلاة، وما ذاك إلا لأهمية الصلاة للمسلم، فهي الوقود والزاد الإيماني، ومن فرط فيها فهو الخاسر في الدنيا والآخرة.
ويا عبد الله، احمد ربك على نعمة الصحة والعافية، واغتنمها في طاعة مولاك قبل أن يحال بينك وبينها، صل مع المسلمين قبل أن يصلى عليك وحينذاك لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـ?نِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].
اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة يا رحمن يا رحيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3970)
صفات اليهود
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
23/7/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل المسجد الأقصى. 2- أشد أعداء الأمة المحمدية. 3- أخلاق اليهود وصفاتهم. 4- مساندة النصارى لليهود.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقواه يتحقق لكم موعود الله للمتقين حيث يقول سبحانه: لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذ?لِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأمُورِ [آل عمران:186]، ويقول سبحانه: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ ?للَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]، فمتى نحقق التقوى ونقرنها بالصبر يا عباد الله؟! ففيهما النجاة، وبهما الاعتماد بعد الله تعالى.
عباد الله، إن تاريخ أمتنا ونصوص شريعتنا تشهد بما للمسجد الأقصى من قدسية ومكانة، فقد أسري بنبينا محمد من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، وهذان المسجدان مع المسجد النبوي بالمدينة هي المساجد التي قال عنها رسول الله : ((لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى)) أخرجه البخاري ومسلم، فهي مساجد الأنبياء، فالأول قبلة الناس وإليه الحج، والثاني شرِّف بصلاة محمد فيه وقيامه بعمارته وسكناه المدينة النبوية، والمسجد الثالث كان قبلة الأمم السالفة، كما كان قبلة لأمة نبينا محمد تصلي نحوه، ثم أمروا بالتحول إلى الكعبة المشرفة.
وجاء في فضل المسجد الأقصى أحاديث عن رسول الله ، فهو المسجد الذي أسري بالنبي إليه، سُبْحَانَ ?لَّذِى أَسْرَى? بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ ?لْمَسْجِدِ ?لْحَرَامِ إِلَى? ?لْمَسْجِدِ ?لأقْصَى ?لَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال: ((المسجد الحرام))، فقلت: يا رسول الله، ثم أي؟ قال: ((ثم المسجد الأقصى))، قلت: كم كان بينهما؟ قال: ((أربعون سنة)) أخرجه البخاري ومسلم، وعن أنس رضي الله عنه أن قال: ((أتيت بالبراق وهو دابة أبيض، قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس، قال: فربطته بالحلقة التي تربط الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت)) رواه مسلم.
أيها المسلمون، لقد ارتبط الأقصى بتاريخ المسلمين وسعد بولايتهم عليه قرونًا طويلة، كان محكومًا بالإسلام وحده، فلا قومية عربية ولا عنصرية شعوبية ينادى بها على ثراه، ولا علمانية لا دينية تبسط عليه لواءها، ولن يعود الأقصى بإذن الله تعالى إلا تحت راية التوحيد، وهل هناك فرق بين من يقول: القدس لليهود وحدهم وبين من يقول: القدس للجميع ويحكمها الجميع بما فيهم اليهود والنصارى والمسلمون؟! وهل كان هذا خيارًا لدى الأمة الإسلامية فيما غبر من الزمان؟! وهل ذهبت دماء المجاهدين الذين قتلوا دفاعًا عن الأقصى لتحقيق هذا الهدف أم أن هدفهم أن تعود القدس بلدًا إسلاميًا تعلو فيه راية التوحيد ويحكم فيها بشرع محمد فحسب؟!
عباد الله، اليهود هم أشد الأعداء لهذه الأمة بنص القرآن الكريم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ?لنَّاسِ عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لَّذِينَ أَشْرَكُواْ [المائدة:82]، فهم أشد الناس عداوة للمسلمين، هم أشد من المشركين وأشد من النصارى وأشد من جميع الأمم، وفي الآية إشارة إلى طول الصراع بين المسلمين واليهود، وأنه صراع ليس مؤقتًا ولا سهلاً، بل هو صراع طويل، ولذلك كان من المهم التعرف على خصال اليهود وخلالهم؛ لأن من لم يعرف عدوه لم يستطع مواجهته.
أما عن أخلاق اليهود وصفاتهم التي تميزوا بها فهي كثيرة ذكرها الله تعالى في كتابه، فمن صفاتهم الكذب، قال الله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ?لامّيِينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ ?لْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75]، فاليهود قد كذبوا على ربهم دون حياء أو خوف، كما كذبوا على الناس جميعًا، على الأعداء وعلى الأصدقاء، والعجيب أنهم جعلوا هذا الكذب دينًا وعقيدة وعبادة وقربى تقربوا به إلى ربهم، وقد وصفهم الله تعالى أيضًا فقال: سَمَّـ?عُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـ?لُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، فهل بعد كلام ربنا الواصف لهم بالكذب مجال لتصديقهم والثقة بهم؟!
وهناك خلق آخر تميز به اليهود وعرفوا به على مر الزمان، ألا وهو الخيانة، قال الله تعالى عنهم: فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـ?قَهُمْ لَعنَّـ?هُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ عَن مَّو?ضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ [المائدة:13]، وبعد هذا يخدع بعض السذج بعهود اليهود ومواثيقهم، ويظنون أن اليهود قد استقاموا وتخلوا عن خياناتهم، ولكن الآية تذكرهم بأن هذه الصفة مستمرة وتقول لهم: وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى? خَائِنَةٍ مّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمُ [المائدة:13].
أما عن نقض العهود والمواثيق فلن تجد قومًا مثل اليهود في الاستخفاف بالعهود والمواثيق وفي عدم مراعاتها وترك الالتزام بها، بل جرأتهم على نقضها وإبطالها عجيبة، وإليكم نماذج من العهود والمواثيق التي أخذت على اليهود، ومع ذلك نقضوها قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?للَّهَ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ?لْقُرْبَى? وَالْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنتُمْ هَـ?ؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن دِيَـ?رِهِمْ تَظَـ?هَرُونَ علَيْهِم بِ?لإِثْمِ وَالْعُدْو?نِ [البقرة:83-85]، وقال تعالى : وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ?لطُّورَ خُذُواْ مَا ءاتَيْنَـ?كُم بِقُوَّةٍ وَ?ذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُم مّن بَعْدِ ذ?لِكَ فَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مّنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [البقرة:63، 64]، وقال عز وجل أيضًا في نقضهم للعهود والمواثيق: لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إِسْر?ءيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى? أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُواْ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [المائدة:70]، وقال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ ?للَّهُ مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْر?ءيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ?ثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ ?للَّهُ إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ?لصَّلو?ةَ وَءاتَيْتُمْ ?لزَّكَو?ةَ وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لاكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَلاَدْخِلَنَّكُمْ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذ?لِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء ?لسَّبِيلِ فَبِمَا نَقْضِهِم مّيثَـ?قَهُمْ لَعنَّـ?هُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ ?لْكَلِمَ عَن مَّو?ضِعِهِ [المائدة:13، 14]، فهل بعد هذه الآيات الواضحات حجة لأحد؟! فإن للقوم تاريخًا أسود في نقض المعاهدات، وربهم سبحانه أعلم بهم، يقول الله سبحانه وتعالى: أَوَكُلَّمَا عَـ?هَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:100]، فكلمة كُلَّمَا تدلّ على التكرار وأنهم كلّما عقدوا عهدًا أو ميثاقًا أو صلحًا نبذه أي: ألغاه وكفر به ونقضه فريق منهم، والفريق قد يكون طائفة منهم وقد يكون جماعة، وقد يكون حزبًا أو حكومة.
ومن صفاتهم المميزة التحايل وإتقان فن اللعب بالأوراق والعهود، فاليهود ـ يا عباد الله ـ تحايلوا على الأحكام الشرعية الموجهة لهم من عند الله، أفلا يتحايلون على البشر؟! ولقد سجل القرآن عليهم نماذج لتحايلهم على أحكام الله، منها ما ذكره الله تعالى في قوله: وَإِذْ قُلْنَا ?دْخُلُواْ هَـ?ذِهِ ?لْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَ?دْخُلُواْ ?لْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَـ?يَـ?كُمْ وَسَنَزِيدُ ?لْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ?لَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ ?لسَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [البقرة:58، 59]. أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الأراضي المقدسة ساجدين مستغفرين يقولون: ربنا حُط عنا ذنوبنا، فتحايلوا على هذا الأمر الرباني ودخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون: حبة في شعيرة، كما بين ذلك رسول الله.
ومن نماذج تحايلهم أن الله حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم، مثل شحوم الأنعام، فتحايلت يهود على هذا الأمر الرباني وأخذوا الشحوم المحرمة وأذابوها ثم باعوها وأخذوا ثمنها، فلعنهم الله بسبب ذلك، روى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله : ((لعن الله اليهود؛ حُرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنا)).
ومن تحايل اليهود أيضًا أنهم عندما حرم الله عليهم الصيد يوم السبت صاروا ينصبون شباكهم قبل يوم السبت، ويأتون يوم الأحد ويأخذون ما صادته شباكهم، قال الله تعالى عن هذه الحيلة: وَسْئَلْهُمْ عَنِ ?لْقَرْيَةِ ?لَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ ?لْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى ?لسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذ?لِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:162].
ومن صفاتهم احتقار أهل الأديان والأجناس الأخرى ووصفهم لهم بأقبح الصفات وأرذل الكلام، ويستبيحون أكل أموالهم، كما قال سبحانه: وَمِنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذ?لِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى ?لامّيِينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى ?للَّهِ ?لْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:75]، فهذه بعض صفات اليهود التي ذكرها لنا القرآن الكريم.
عباد الله، من الأشياء التي وقف عندها عدد من المفسرين أن الله سبحانه وتعالى كان يخاطب اليهود الموجودين في عهد الرسول ، ويعاتبهم ويوبخهم على أشياء عملها أجدادهم، من مثل قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ?لطُّورَ [البقرة:63] ، وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ [البقرة:84]، ثُمَّ أَنتُمْ هَـ?ؤُلاء تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مّنكُم مّن دِيَـ?رِهِمْ تَظَـ?هَرُونَ علَيْهِم بِ?لإِثْمِ وَالْعُدْو?ن [البقرة:85]، أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ?لْكِتَـ?بِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة:85]، فالله سبحانه وتعالى يخاطب الأحفاد بجرائم الأجداد، ونحن نعرف أن الله سبحانه وتعالى لا يظلم الناس شيئًا ولا يأخذ أحدًا بجريرة غيره، لا يؤخذ والد بولده، ولا يؤخذ ولد بأبيه، ولا أخ بأخيه، ولا زوج بزوجه، فما هذا السر في الخطاب الرباني؟! فيقال والله تعالى أعلم بمراده: إن لذلك معاني كثيرة، منها تعليم الأمة الإسلامية أن الشريحة اليهودية أو الجنس اليهودي له مجموعة خصائص وصفات تسري فيهم تتوارثها أجيالهم جيلاً بعد جيل وكابرًا بعد كابر، فهم يتصفون بها ولذلك خاطب الله تعالى اللاحقين بجرائم السابقين إشارة إلى أنهم على هذا المنوال ينسجون، وعلى هذا الطريق يسيرون، وأنهم بما تحلى به أجدادهم متحلون، فالخصائص موجودة، والصفات موجودة، فهم يتوارثون الخطيئة ويستحقون اللوم؛ لأنهم يتوارثون تلك النوايا وذات السلوك، ولو كانوا مكانهم لفعلوا مثل فعلهم، فالله المستعان وعليه التكلان، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن مما لا يستنكر ولا يتعجب منه أن نرى الأمم النصرانية تهب بقضها وقضيضها لنصرة إخوانهم اليهود وبذل الدعم المادي والمعنوي لهم في المواجهة القائمة الآن بين شباب وأطفال الفلسطينيين وبين اليهود، فهذه حقيقة أخبرنا عنها القرآن الكريم كثيرًا، فمن ذلك قول الله تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [المائدة:51]، وأخبرنا ربنا أن اليهود والنصارى لن يرضوا عنا مهما قدمنا لهم من الولاء والتبعية إلا أن نترك ديننا: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
أما عن رغبتهم وأمنيتهم فيحدثنا القرآن عنها: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89] ، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109].
ومن هنا لا نعجب إن علمنا ما قاله رئيس أمريكا منذ عشرات السنين: "إن التزامنا ببقاء إسرائيل التزام عميق، فنحن لسنا حلفاء رسميين، وإنما يربطنا معًا شيء أقوى من أي قصاصة ورق، إنه التزام معنوي، إنه التزام لم يخل به أي رئيس في الماضي أبدًا، وسيفي به كل رئيس في المستقبل بإخلاص، إن أمريكا لن تسمح أبدًا لأعداء إسرائيل الذين أقسموا على النيل منها بتحقيق هدفهم في تدميرها" اهـ، ويقول كارتر: "لقد جسد من سبقني من الرؤساء الأمريكيين الإيمان حين جعلوا من العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل أكثر العلاقات خصوصية، إنها علاقات فريدة؛ لأنها متأصلة في ضمير الشعب الأمريكي وفي أخلاقه وفي دينه وفي معتقداته" اهـ، وهذا الرئيس الأمريكي الحالي يعلنها صريحة ويكررها بأنه لن يخذل إسرائيل أبدًا.
هذا كلام رؤسائهم، ولا عجب فيه، فالكفر ملة واحدة، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [المائدة:51]، ولكن من أين نستمد النصر على أعدائنا؟! هناك حقيقة قرآنية واضحة يفهمها المسلم الحق: إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:160]، وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [الأنفال:10].
اللهم انصر كتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا تعلو فيه راية لا إله إلا الله، ويذل فيه أعداء الله. والحمد لله رب العالمين.
(1/3971)
فضل الشهادة
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
5/4/1421
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على الصدقة في سبيل الله. 2- فضل الشهادة في سبيل الله. 3- فضل المجاهد في سبيل الله. 4- فضل الشهيد في سبيل الله. 5- الشهادة اصطفاء من الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن تقوى الله تعالى ومراقبته خير زاد للطريق، فبها يسعد الإنسان ويطيب عيشه، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
عباد الله، إن ربنا قد دعانا إلى البذل في سبيله: مَّن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَ?للَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245] ، وَأَقْرِضُواُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، فتسابق المؤمنون في هذا المضمار المبارك، فهذا يبذل الآلاف من الريالات، وآخر يتصدق بنصف ماله أو ثلثه، وذاك يعد بالكثير من الإعانات والهبات، وآخر قد أوقف نفسه وفرغها في أعمال البر والخير، يبذل وقته في نفع المسلمين إغاثة ودعوة وتعليمًا، وكلهم على خير إن شاء الله، لكن صنفًا من الناس هانت عليهم دنياهم ولم تغرهم متع الحياة وزخارفها، ولم يقعد بهم الخوف على الذرية والعيال، سلكوا طريقًا جبن عنه الكثير، اختاروا طريقًا قلّ سالكوه، وركبوا بحرًا تقاصرت الهمم عن ركوبه، علموا أن العمر محدود والطريق طويل، فاختاروا أرفع المقامات وتسنموا ذرى الإسلام، علموا أن أغلى ما يملكه الإنسان روحه التي بين جنبيه، فقدموها قربانًا إلى ربهم، يهون المال والمتاع دون الدم، ولكنهم أراقوا دماءهم في سبيل الله، سمعوا قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:111]، فعقدوا البيع مع الله، السلعة أرواحهم ودماؤهم، والثمن الموعود عند الله هو الجنة، ومن أوفى بعهده من الله؟!
فيا لله ما أعظمه من بيع، وما أعظمه من ربح، لله درهم ما أشجعهم، غادروا أوطانهم، وهجروا نساءهم، وفارقوا أولادهم وخلانهم؛ يطلبون ما عند الله، تركوا لذيذ الفراش ورغد العيش، وخاطروا بأنفسهم في سبيل الله؛ يطلبون الموت مظانه، لله درهم ما أقوى قلوبهم، لله درهم ما أقوى إيمانهم حين يعرضون رقابهم للحتوف ويريقون دماءهم تقربًا إلى الله ربهم طمعًا فيما عند الله، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة، ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)) البخاري، ولو لم يكن للقتل والشهادة في سبيل الله من الأجر الكبير لما تمنى محمد أن يقتل في سبيل الله ثلاث مرات، وها هو النبي يقول: ((والذي نفسي بيده، لولا أن رجالاً من المؤمنين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله. والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل)) رواه البخاري.
ولولا ذلك ما سبق الجهاد الحج في الفضيلة، عن أبي هريرة أن رسول الله سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قيل ثم ماذا قال: ((حج مبرور)) رواه البخاري، بل إن الجهاد ذروة سنام الإسلام، فعن رسول الله أنه قال: ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)) أخرجه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
ولما في الجهاد في سبيل الله من المكابدة والمصابرة كان عمل المجاهد عملاً لا يستطاع مثله، جاء رجل إلى رسول الله فقال: دلني على عمل يعدل الجهاد، قال: ((لا أجده)) ، قال: ((هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر؟)) قال: ومن يستطيع ذلك؟! رواه البخاري، ويقول رسول الله : ((مثل المجاهد في سبيل الله ـ والله أعلم بمن يجاهد في سبيله ـ كمثل الصائم القائم، وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالمًا مع أجر أو غنيمة)) رواه البخاري.
والمجاهد في سبيل الله أفضل الناس بنص كلام الحبيب، قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ فقال رسول الله : ((مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)) ، قالوا: ثم من؟ قال: ((مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله ويدع الناس من شره)) رواه البخاري.
والوقت الذي يمضيه المجاهد في سبيل الله وقت نفيس لا يعلى عليه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) رواه البخاري، فمقام بضع ساعات في الجهاد يعدل الدنيا وما فيها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ومن أراد الجنة فليعلم أن محمدًا قال: ((واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف)) رواه البخاري.
وحين يضِن الناس بأرواحهم في سبيل الله فإن المجاهد له شأن آخر، فهو يبحث عن الموت الذي يفر منه الناس، وكفى بها منقبة، في صحيح مسلم عن رسول الله أنه قال: ((من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار عليه؛ يبتغي القتل والموت مظانه)).
إن الغبار الذي يصيب المجاهد في سبيل الله فيتسلل إلى جوفه يكون مانعًا من دخان جهنم التي وقودها الناس والحجارة، أخرج النسائي أن رسول الله قال: ((لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدًا)).
والشهيد الذي غادر هذه الدنيا ليس بميت يحسب في عداد الأموات، بل هو حي يعيش حياة برزخية يعلمها الله تعالى : وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِ?لَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ ?للَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ ?لْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:169-171]، فالله تعالى يخبرنا أنهم ليسوا أمواتًا، وينهانا أن نحسبهم كذلك، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده وأنهم يرزقون، ثم هم فرحون بما آتاهم الله من الفضل والمكانة، ويستبشرون بمن لم يلحق بهم بعد.
إن الشهادة في سبيل الله درجة عالية لا يهبها الله إلا لمن يستحقها، فهي اختيار من العلي الأعلى للصفوة من البشر ليعيشوا مع الملأ الأعلى، وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء [آل عمران:140] ، إنها اصطفاء وانتقاء للأفذاذ من البشر ليكونوا في صحبة الأنبياء، وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ ?لَّذِينَ أَنْعَمَ ?للَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ?لنَّبِيّينَ وَ?لصّدّيقِينَ وَ?لشُّهَدَاء وَ?لصَّـ?لِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69].
وإليكم هذه الفضائل التي يحوزها الشهيد، فقد قال رسول الله : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه)) أخرجه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يجد الشهيد من مسّ القتل إلا كما يجد أحدكم من مس القرصة)) أخرجه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
وإذا قتل الشهيد لم ينقطع عمله الصالح بل يزيد ويتضاعف، فع ند الترمذي عن رسول الله أنه قال: ((كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه يُنَمّى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر)) ، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3972)
وجوب الحج وبيان بعض أحكامه (2)
فقه
الحج والعمرة
عبد المجيد بن عبد العزيز الدهيشي
المجمعة
24/11/1419
الجامع القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قرب عشر ذي الحجة. 2- من حِكَم الحج وأسراره. 3- التحذير من تأخير الحج لمن وجب عليه. 4- حكم الحج وشروط وجوبه. 5- فضائل الحج. 6- ضرورة تعلم فقه الحج
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المؤمنون، أيام ويستبشر المؤمنون بدخول عشر ذي الحجة التي هي من أفضل الأيام عند الله تعالى، وللعمل الصالح فيها مزية عن غيرها من الأيام، ففي الحديث: ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)) ، يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) رواه البخاري.
ومن أجلِّ الأعمال الصالحة التي تشرع فيها أداء مناسك الحج الذي أوجبه الله تعالى على كل مسلم قادر تحققت فيه شروط وجوبه.
ومن تأمل في شعائر الحج وحِكمه التي يشتمل عليها رأى الحكم الباهرة والعظات البالغة والمقاصد النافعة للفرد والمجتمع.
ففي الحج يجتمع المسلمون على اختلاف شعوبهم وطبقاتهم وتنوع بلدانهم ولغاتهم، فتتوحد وجهاتهم وأفعالهم في زمان واحد ومكان محدّد، لا يتميز فيه قوم عن قوم، ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ ?لنَّاسُ [البقرة:199]، فتلتقي القلوب وتزداد المحبة ويوجد الائتلاف، ولو استغلّ هذا الجمع في تحقيق المقاصد العظيمة من مشروعية الحج لرأى المسلمون عجبًا.
ومن حكم الحج وفوائده التي تظهر للمتأمل تذكر الدار الآخرة، فالحاج يغادر أوطانه التي ألفها ونشأ في ربوعها، وكذا الميت إذا انقضى أجله غادر هذه الدنيا، والميت يجرد من ثيابه، وكذا الحاج يتجرد من المخيط طاعة لله تعالى، والميت يغسل بعد وفاته، وكذا الحاج يتنظف ويغتسل عند ميقاته، والميت يكفن في لفائف بيضاء هي لباسه في دار البرزخ، والحاج يلبس رداء وإزارًا أبيضَيْن لمناسكه، وفي صعيد عرفات والمشعر الحرام يجتمع الحجيج، وفي يوم القيامة يبعث الناس ويساقون إلى الموقف، يَوْمَ يَقُومُ ?لنَّاسُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [المطففين:6]، إلى غير ذلك من الحكم والمقاصد والعبر التي تعظ وتذكر.
أيها المسلمون، للحج فضائله ومكارمه، وفيه أجر عظيم ووعد كريم، ولكن هذه همسة في أذن كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويعلم أن الحج خامس أركان الإسلام التي لا يكمل إسلام العبد إلا بأدائها، ثم تراه يتقاعس ويكسل عن أداء فريضته التي أوجبها الله عليه، فمن مفرّط في الأمر لا يبالي به، ومِن مسوّف يمني نفسه ويعدها، ويمر به موسم الحج تلو الموسم وهو يقدّم رجلاً ويؤخر أخرى، ولم تسعفه نفسه بعزيمة تبطل كيد الشيطان الذي يلبِّس عليه ويريه أن الحج رابع المستحيلات ورأس المستصعبات وكبير المشقات، وأن الذاهب إليه مفقود والعائد منه مولود، ويعرض على ناظريه صور المتاعب والمحن التي قد تحصل، وكأن الحجيج إنما قدموا للحرب والضرب، بل إن البعض من المسلمين تراه يسافر في مشارق الأرض ومغاربها يطوي الفيافي والقفار وربما تعرض للأخطار في بلاد لا يسمع فيها الأذان في سبيل التنزه والفرجة والسياحة، وربما أنفق النفقات الباهظة بنفس سمحة ويد سخية، غير أنه إذا ذكِّر بالحج دب إليه الفتور وشعر بالتثاقل وتكاثرت أمامه الأعذار التي يتحجج بها.
فيا ليت شعري، هل أدرك هذا الصنف من المسلمين خطورة ما هم صانعون؟! لا سيما إذا كانوا ممن وجب عليهم الحج وتحققت فيهم شروطه، كيف يهنأ لأحدهم العيش وهو يسمع نداء ربه: وَأَذّن فِى ?لنَّاسِ بِ?لْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى? كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]؟! ألم يسمع هؤلاء قوله جل وعلا: وَللَّهِ عَلَى ?لنَّاسِ حِجُّ ?لْبَيْتِ مَنِ ?سْتَطَـ?عَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ?لله غَنِىٌّ عَنِ ?لْعَـ?لَمِينَ [آل عمران:97]؟! إنهم جميعًا يحفظون قوله : ((بني الإسلام على خمس)) ويعرفون هذه الأركان الخمسة جيدًا، وهل سمع هؤلاء قول عمر الفاروق: (لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار، فينظروا من كان له جِدَة ـ يعني القدرة على الحج ـ ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين) رواه سعيد بن منصور في سننه؟! بل إنه يقول فيما صح عنه: (من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه يهوديًا مات أو نصرانيًا) وروي كذلك نحوه عن علي بن أبي طالب.
عباد الله، الحج واجب على كل مسلم مستطيع مرة واحدة في العمر، وذكر أهل العلم أن الحج يجب فورًا على كل مسلم عاقل بالغ حر مستطيع للحج يملك الزاد والراحلة، وقد ذكر أهل العلم أن القادر على الحج هو من يتمكن من أدائه جسميًا وماليًا بأن يمكنه الركوب ويطيق السفر ويجد من المال بُلْغته التي تكفيه ذهابًا وإيابًا، ويجد أيضًا ما يكفي أولاده ومن تلزمه نفقتهم إلى أن يعود إليهم، وذلك بعد قضاء الديون وأداء الحقوق الواجبة.
فإن كان من وجب عليه الحج قادرًا بماله دون بدنه كالكبير الهرِم أو المريض مرضًا مزمنًا لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر العمرة الواجبة والحج الواجب؛ لما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله، إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ فقال: ((حجي عنه)) متفق عليه.
ولا يجب الحج على المرأة إلا بوجود محرم لها.
والحج واجب على الفور، ويحرم تأخيره؛ لأنه عليه الصلاة والسلام يقول فيما صح عنه: ((تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) رواه أحمد بسند صحيح وهو في صحيح الجامع، ويقول أيضًا: ((من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض، وتضل الضالة، وتعرض الحاجة)) رواه أحمد وابن ماجه بسند حسن وهو في صحيح الجامع، ويقول آمرًا أمته: ((أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا)) رواه مسلم.
فلنكن على علم بهذا يا عباد الله، وليبادر من فرط في هذا الأمر قبل فوات الأوان، فكم مفرط قد ندم، وكم متهاون فوجئ بحبل عمره قد انصرم، وكم سمعنا من يستفتي عن قريب له توفي ولم يحج، وخير لكل مسلم أن يؤدي فرضه ويحظى بأجره قبل أن يحج عنه إما لوفاته أو لعجزه، ثم هل يستوي من حج بنفسه راضيًا راغبًا ومن حج عنه ذووه بعد أن مات ولم يحج فرضه بعد أن كان مستطيعًا قادرًا؟! حيث إن من مات قبل أن يحج فرضه وقد تحققت فيه شروط وجوب الحج وجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه.
عباد الله، في الحج من الفضائل ما يحدو النفوس ويجعل القلوب تهفو إلى بيت الله العتيق، فقد سئل النبي : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قيل ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) رواه البخاري ومسلم.
والحج كفارة للذنوب، ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري ومسلم. والحج المبرور جزاؤه الجنة: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) رواه البخاري ومسلم. فيا سعادة من فاز بهذا الأجر فلبى نداء ربه وحرص على أداء فرضه.
اللهم اجعلنا من عبادك المنيبين الطائعين المبشَّرين بقولك سبحانك: فَبَشّرْ عِبَادِ ?لَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ?لْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَاهُمُ ?للَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُو ?لاْلْبَـ?بِ [الزمر:17، 18].
وسبحانك اللهم وبحمدك، نستغفرك ونتوب إليك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات والأرض وملء ما شاء من شيء بعد، اللهم إنا نحمدك ونستعينك ونستغفرك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم لك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفِد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، اتقوا الله الذي خلقكم وسواكم ورزقكم، فما فاز إلا أهل التقوى، وما ربح إلا المستغفرون.
عباد الله، أما من عزم على الحج وقصده فليتزود من التقوى، وليسأل الله الإخلاص في العمل، فالله عز وجل طيب لا يقبل من العمل إلا الطيب، وهو ما كان خالصًا لوجهه مؤدًّى على هدي نبيه محمد ، وليحرص الحاج على اجتناب ما لا يرضي الله سبحانه ليفوز بالثواب، ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
وليحرص من أراد الحج على سؤال أهل العلم في كل ما يشكل عليه في أمر مناسكه، ليكون حجه موافقًا لهديه القائل: ((لتأخذوا عني مناسككم)) رواه مسلم.
ويحسن بالحاج أن يقرأ فيما يناسبه من كتب المناسك حتى يفقه حجه ويحذر من الوقوع فيما نهي عنه، أما لو تيسر له صحبة أهل العلم فهو خير على خير، وخير ما يعين الحاج وييسر له أمره صحبة أهل الخير والصلاح، فصحبتهم زاد ورفقتهم تشترى.
أما من لم يرد الحج ـ وقد أدى فرضه ـ أو لم يتمكن منه فيمكنه اغتنام عشر ذي الحجة بالعمل الصالح وتحري الخير والإكثار من الذكر والدعاء وأداء القربات المشروعة رجاء أن يكون من المرحومين المنافسين في الخيرات، إِنَّ ?لأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى ?لأَرَائِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ?لنَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَـ?مُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ?لْمُتَنَـ?فِسُونَ [المطففين:22-26].
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أنه يحرم على من عزم على الأضحية الأخذ من شعره وأظفاره من حين دخول شهر ذي الحجة إلى أن يضحي، وذلك لقوله : ((إذا دخل شهر ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئًا)) رواه مسلم، وهذا الحكم خاص بمن سيضحِي، أما من سيضَحَّى عنه فلا يشمله هذا الحكم.
اللهم إنا نسألك من فضلك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم يسر للحجيج حجهم، وأعنا وإياهم على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك واجعلنا جميعا من المقبولين...
(1/3973)
النظافة والتجمل
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الطهارة, اللباس والزينة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ترغيب الإسلام في النظافة والتجمل. 2- صور من شرائع الإسلام وهي تدعو للنظافة. 3- الصحة والجمال في شرائع الإسلام. 4- فرق بين الكبر والتجمل. 5- ذم الكبر والتحذير منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي فطر الخلق على ما تستحسنه العقول السليمة، وأيد ذلك بما أنزل على رسوله القائل في كتابه الكريم: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لتَّوبِينَ وَيُحِبُّ ?لْمُتَطَهّرِينَ [البقرة:222]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المبلغ عن ربه: ((إن الله تعالى جميل يحب الجمال))، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وسلك سبيله القويم.
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله، واعلموا أن دين الإسلام قد رغب في النظافة وصحة الأجسام، واعتنى بها عناية فائقة، واعتبرها من صميم رسالته، ولذلك نجد الإسلام قد جعل طهارة البدن التامة أساسًا لا بد منه لكل صلاة، وجعل الصلاة واجبة خمس مرات في اليوم والليلة، وكلف المسلم أن يغسل جسمه كله غسلاً جيدًا في أحيان كثيرة كغسل الجنابة والحيض والنفاس وأغسال الجمعات والأعياد وغير ذلك. ففي ذلك كله مظهر بارز للتطهر والتجمل والتزين والتنظيف، وعندما أمر الله رسوله بالإنذار عن الشرك وتعظيم الرب أردف ذلك بتطهير الثياب قائلاً: ي?أَيُّهَا ?لْمُدَّثّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ [المدثر:1-4].
وكما اعتنى بطهارة البدن والثياب اعتنى أيضًا بنظافة الفم ومن ذلك الأسنان، واعتبره مدعاة لرضا الله تبارك وتعالى فقال : ((تسوكوا، فإن السواك مطهرة للفم مرضاة للرب)) [1].
هذا، ومن احترام الإسلام للفرد والمجتمع أن نهى عن كل ما يؤذيهما من أكل وشراب في أوقات مخصوصة، فنهى من أكل ثومًا أو بصلاً أو ما شابههما من حضور المجتمعات وحَرَمَهما من واجب الجماعة في المسجد، وذلك أن نتن الأفواه من تناول هذه الأطعمة يؤذي المخاطبين وينفر ممن أكلها، فما هذا الأدب الكريم إلا صيانة عظيمة ومحمودة للمحافظة على النظافة بكل أشكالها.
وهكذا عني الإسلام بطهارة الظاهر، وعني عناية فائقة بطهارة الباطن.
ومن أجل ذلك أوصى الإسلام بأن يكون المرء حسن المنظر كريم الهيئة في كل حالاته، في البدن والثياب، وفي المساجد والدور ومجامع الناس، وقد ألحق هذا الخلق الكريم بآداب الصلاة فقال تعالى: يَـ?بَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، قال بعض المفسرين: "أي: عند كل صلاة".
وكان رسول الله قدوة في ذلك، وكان يعلم المسلمين أن يعنوا بهذه الأمور ويلتزموها في شؤونهم الخاصة؛ حتى يبدو المسلم في سمته وملبسه وهيئته جميلاً مقبولاً نظيفًا، ظاهرا وباطنًا، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من كان له شعر فليكرمه)) [2] , ولما رأى رجلاً ثائر الرأس قال: ((أما يجد هذا ما يسكن به وشعره؟!)) [3] ، وهكذا يحثّ المشرع على التجمل، والله جل وعلا جميل يحب الجمال، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحث على ذلك.
كما كان رسول الله يلبس الثياب الحسنة النظيفة ويحبّ الأبيض منها، وكان يتطيب بالمسك والعنبر ويتبخر بهما مع التزام أدبه بالترجل والتنعل باليمين، فكان يحب التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله.
فلا تغتروا ـ عباد الله ـ بما يفعله بعض المتصوفة من لبس الثياب المرقعة والوسخة وإهمال المظاهر، وهم يظنون أن ذلك ضرب من العبادة وزهد في الدنيا، وما هو في الحقيقة إلا جهل بالدين وافتراء على تعاليمه.
عباد الله، فاتقوا الله، واعلموا أن عناية الإسلام بالنظافة والصحة جزء من عنايته بقوة المسلمين المادية والأدبية، فهو يتطلب أجسامًا قوية تجري في عروقها دماء الفتوّة والبطولة، وينبعث من أفئدتها الإيمان، ومن أجل ذلك وضع كل الحواجز أمام انتشار الجراثيم، ووفر أسباب الوقاية بما شرع من قواعد النظافة الدائمة.
ومن هذه الوقاية التي شرعها الإسلام قضاء الحاجة في أماكن معزولة حتى لا يتلوّث بها ماء ولا يتنجس بها طريق ولا مجلس، فعن جابر أن رسول الله نهى أن يبال في الماء الراكد [4] ، وشدد في ذلك بعض أهل العلم حتى في الأماكن التي يرتادها الناس لمجالسهم وتحت الشجر الذي له ظل، وعن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل)) [5] ، فالمسلم يلتزم ما أمره به رسول الله ولا يتهاون فيه، بل يكون موضع الاستجابة وسرعة التقيد والالتزام والتنفيذ.
فلو أن المسلمين ـ يا عباد الله ـ قد أخذوا أنفسهم بآداب الإسلام الجليلة لنجوا من غوائل الأمراض التي تنهك الأمم ولكوَّنوا مجتمعًا طاهرًا نظيفًا في مظهره وسلوكه، كنظافته في عقيدته وسلوكه ومنهجه في ظاهره وباطنه في سره وعلنه وفي كل ما يأتي ويذر، والله المستعان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَّمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى ?لتَّقْوَى? مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُطَّهّرِينَ [التوبة:108].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة نبيّه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أحمد (1/10)، والنسائي في الطهارة، باب: الترغيب في السواك (1/10).
[2] أخرجه أبو داود في الترجل، باب: في إصلاح الشعر (4163).
[3] أخرجه النسائيفي الزينة، باب: تسكين الشعر (8/183).
[4] رواه مسلم في الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد (281).
[5] رواه أبو داود في الطهارة، باب: المواضع التي نهى رسول الله عن البول فيها (26)، وفي سنده جهالة وانقطاع، ولكن له شاهد من حديث أبي هريرة رواه مسلم في الطهارة (269) بلفظ: ((اتقوا اللاعنين)) ، قيل: وما اللاعنان؟ قال: ((الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلّم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، لقد صحّ أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم سمع رسول الله وهو يقول: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) ، فقال: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا! فقال رسول الله : ((إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس)) [1].
فيا أيها المسلمون، تعاهدوا أنفسكم بتحسين مظاهركم إلى جانب تحسين بواطنكم، فاعتنوا بنظافة ثيابكم وأجسادكم، ولا تؤذوا الناس بالفضلات والروائح الكريهة، فإن كل التطهر والتطيب والتزين من الجمال الذي يحبه الله تعالى، وليس من الكبر في شيء، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: خرجنا مع رسول الله في غزوة بني أنمار، قال جابر: فبينا أنا نازل تحت شجرة إذا رسول الله ، فقلت: يا رسول الله، هلم إلى الظل، قال: فنزل رسول الله فقمت إلى غرارة لنا، فالتمست فيها شيئًا فوجدت فيها جرو قثاء [2] ، فكسرته ثم قربته إلى رسول الله فقال: ((من أين لكم هذا؟)) قال: فقلت خرجنا به ـ يا رسول الله ـ من المدينة، قال جابر: وعندنا صاحب لنا نجهزه يذهب يرعى ظهرنا [3] ، قال: فجهّزته، ثم أدبر يذهب في الظهر وعليه بردان [4] له قد خَلقا قال: فنظر رسول الله إليه فقال: ((أما له ثوبان غير هذين؟)) فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة [5] كسوته إياهما، قال: ((فادعه فمره فليلبسهما)) ، قال: فدعوته فلبسهما، ثم ولى يذهب، قال: فقال رسول الله : ((ما له ضرب الله عنقه [6] ، أليس هذا خيرًا له؟!)) قال: فسمعه الرجل، فقال: يا رسول الله، في سبيل الله، فقال رسول الله : ((في سبيل الله)) ، قال: فقتل الرجل في سبيل الله [7].
عباد الله، هذا رجل ممن أذهلته المعايش عن العناية بشأنه الخاص، ولكن رسول الله ومعلم الناس الخير بين لنا في هذا الحديث الشريف أنه مهما تكاثرت الأشغال والمتاعب فلا ينبغي أن ينسى الإنسان الاهتمام اللائق بمظهره دون إسراف ولا مخيلة ولا كبر ولا غطرسة ولا تعال على عباد الله، كتطويل الملابس أسفل من الكعبين كبرًا وخيلاء، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ((ما أسفل من الكعبين فهو في النار)).
وعلى المسلم أن يتحلّى بالتواضع والبعد عن الكبر، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: ((الكبر ردائي، والعزة إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته)) أي: أهلكته وأبدته، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم أنه قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه حبة خردل من كبر)).
فالمسلم العاقل يبعد عن الكبر وخصاله، ويثوب إلى رشده، ولا ينازع ربه الذي خلقه وأوجده من العدم وأبرزه إلى حيز الوجود المشاهَد في صفة من صفاته جلّ وعلا، يتّصف المسلم حقًا بما أرشده إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خفض الجناح والتواضع ليزداد رفعة عند خالقه ثم عند خلقه كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من تواضع لله رفعه)) ، وفي رواية قال: ((ما ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله بها عزًا)). اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، إنك جواد كريم.
وقد استجاب الرجل لنصح رسول الله وسُرَّ بمداعبة رسول الله له، فكان ما تمناه له رسول الله وما تمناه لنفسه من الاستشهاد في سبيل الله جل وعلا.
جعلني الله وإياكم من التوابين ومن المتطهرين، وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] رواه مسلم في الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه (91).
[2] صغار القثاء من الخيار وما شابهه وكذلك الرمان.
[3] أي: يرعى لنا دوابنا، وسميت بذلك لأنه يركب على ظهورها.
[4] البرد: الثوب المخطط يلتحف به.
[5] مستودع الثياب.
[6] قال الباجي رحمه الله: "هي كلمة تقولها العرب عند إنكار الأمر، ولا تريد بها الدعاء على من يقال له ذلك".
[7] رواه مالك في الموطأ في اللباس، باب: ما جاء في لبس الثياب للجمال بها (2/910).
(1/3974)
الأضاحي
سيرة وتاريخ, فقه
الذبائح والأطعمة, القصص
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
6/12/1423
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة فداء إسماعيل عليه الصلاة والسلام. 2- فضل الأضحية ومشروعيتها. 3- بعض أحكام الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
لما نجى الله خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام من النار وجعل قومه هم الأسفلين أوحى إليه أن يهاجر ويهجر قومه فقال: إِنّى ذَاهِبٌ إِلَى? رَبّى سَيَهْدِينِ [الصافات:99]، ثم دعا: رَبّ هَبْ لِى مِنَ ?لصَّـ?لِحِينِ [الصافات:100]، يعني ولدًا ينفع الله به في حياته وبعد مماته؛ خاصة بعدما أيس من قومه ولم ير فيهم خيرًا، فاستجاب الله دعاء خليله، وجاءت البشرى من السماء بغلام حليم، فولدت له زوجه هاجرُ إسماعيلَ، ثم هاجر بإسماعيل وهاجر إلى مكة، وكان ما كان من خبر ماء زمزم.
ولما شبّ الغلام وبلغ سنًا يكون في الغالب أحب ما يكون إلى والديه لذهاب مشقته وإقبال منفعته أُري أبوه الخليل عليه الصلاة والسلام في المنام ـ ورؤيا الأنبياء وحي ـ أنه يذبح بِكره ووحيده إسماعيل الذي جاءه بعد كِبر سن، فأخبر ولده: قَالَ ي?بُنَىَّ إِنّى أَرَى? فِى ?لْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَ?نظُرْ مَاذَا تَرَى? [الصافات:102]، فإن أمر الله لا بد من تنفيذه، فجاء الجواب من الابن البار الصابر المحتسب الراضي بما أمر الله: ي?أَبَتِ ?فْعَلْ مَا تُؤمَرُ [الصافات:102]، وامض لما أراك الله، سَتَجِدُنِى إِن شَاء ?للَّهُ مِنَ ?لصَّـ?بِرِينَ [الصافات:102].
فلما أسلما أمرهما لله واستسلما لأمره وتَلَّ الأب ابنه لجبينه وصرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ولا يرى وجهه حين يذبحه جاء الوحي من السماء: أَن ي?إِبْر?هِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ ?لرُّؤْيَا [الصافات:104، 105]، وفعلتَ ما أُمرتَ به، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ [الصافات:105] من عبادنا، فنصرف عنهم المكاره والشدائد، ونجعل لهم من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.
إِنَّ هَـ?ذَا البلاء لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ [الصافات:106]، الواضح الذي تبين به صفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام وكمال محبته لربه وخُلَّته، فإن إسماعيل عليه الصلاة والسلام لما وهبه الله لإبراهيم عليه الصلاة والسلام أحبه الخليل حبًا شديدًا، والخُلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة، ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلب الخليل بابنه ولم تكن لخليله أراد تعالى أن يصفّي ودّه ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبه حب ربه، فلما قدّم حب الله تعالى وآثره على هواه وعزم على ذبحه وزال ما في القلب من المُزاحم بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال: إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْبَلاَء ?لْمُبِينُ وَفَدَيْنَـ?هُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:106، 107]، أي: صار بدله ذِبح من الغنم عظيم ذبحه إبراهيم، فكان عظيمًا من جهة كونه فداءً لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانًا وسنة إلى يوم القيامة.
لقد أصبح ذبح الأضاحي قربانًا إلى الله يوم النحر، سنة وشعيرةً في دين نبينا محمد ؛ وهو الذي قال الله له ولأمته: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْر?هِيمَ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ [الممتحنة:4]، فلم يكن صلوات الله وسلامه عليه يدع الأضحية، وأقام بالمدينة عشر سنين يضحي، وكان يقول يوم النحر كما في الصحيحين: ((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا)) ، وقال كما في البخاري عن أنس: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)) ، بل جاء عنه أنه قال: ((من كان له سَعَة ولم يُضَحِّ فلا يقربن مُصلانا)) رواه ابن ماجه وغيره وحسنه الألباني، فالأحوط للمسلم أن لا يترك الأضحية مع قدرته عليها، امتثالاً لأمر الله تعالى واقتداء بالنبي.
وفي الأضحية إحياء لسنة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وفيها التقرب إلى الله تعالى بإراقة الدماء، فإن الله تعالى لن يبلغ مرضاتَه لحوم هذه الأضاحي ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى من عبده ومحبته له والتقرب إليه بما يحب. وفي الأضحية التوسعة على الأهل والمساكين والإهداء إلى الأقارب والجيران، ثم إن إراقة الدم مشروعة في جميع الملل مما يدل على أهميته، وأنه من أجلّ الطاعات التي اقتضت أهميتها أن تكون مشروعة في كل ملة، كما قال تعالى: لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67]، وَيَذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـ?تٍ عَلَى? مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ?لأنْعَامِ [الحج:28]، قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعًا في جميع الملل".
ومن المعلوم في شرعة الإسلام أن الصلاة أعظم العبادات العملية، وهي عماد الدين، وقد جاء الذبح قرينًا لها، للتنبيه على أنهما من أفضل القربات وأجلها، يقول تعالى: فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2]، ويقول جل شأنه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:162، 163].
وأول ما يفعله من أراد الأضحية أن يمسك عن الأخذ من شعره وأظفاره وبشرته حين تدخل عشر ذي الحجة؛ أو من حين نوى إن كانت العشر قد دخلت، فلا يجوز له أخذ شيء من ذلك.
ويشترط في الأضحية أن تكون مما عينه الشارع، وهو الإبل والبقر والغنم، وأن تبلغ السن المعتبرة شرعًا؛ وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، وستة أشهر في الضأن.
ويشترط فيها أن تكون سالمة من العيوب، فلا تجزئ العَوْراء البَيِّن عَوَرُها، ومن باب أولى العمياء، ولا المريضة البين مرضها الذي يُقعدها عن الرعي، ولا العرجاء البين ظَلَعها، ولا الهزيلة التي لا تُنْقِي أي: لا نِقْي لها؛ والنّقْيُ المخّ. وتُكره العَضْباء التي قطعت أذنها أو كسر قرنها، والبتراء التي قطع ذنبها أو بعضه، والهَتْماء التي سقطت ثناياها.
والحاصل أن المسلم ينبغي له أن يُعنى باختيار الأضحية، فيحرص على أكمل الأضاحي في جميع الصفات، وكلما كانت الأضحية أغلى وأكمل فهي أحب إلى الله وأعظم لأجر صاحبها، قال شيخ الإسلام: "والأجر في الأضحية على قدر القيمة مطلقًا" اهـ.
ولقد كان المسلمون في عهد رسول الله يغالون في الهدي والأضاحي، ويختارون السمين الحسن، قال أبو أمامة بن سهل: كنا نُسَمِّن الأضحية في المدينة، وكان المسلمون يُسَمِّنون. رواه البخاري.
وتسمين الذبيحة من تعظيم شعائر الله كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وَمَن يُعَظّمْ شَعَـ?ئِرَ ?للَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ?لْقُلُوبِ [الحج:32].
ومما يتعلق بالأضحية من الأحكام أن الأصل فيها أن تكون عن الحي، ويدخل فيها الميت تبعًا، وإن استقل الميت بأضحية فلا بأس.
والهدي النبوي أن الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته، أما ما يفعله بعض الناس من التباهي بالأضاحي وتبخيل من أدى السنة فخطأٌ ينبغي الحذر منه، روى الترمذي وابن ماجه بسند صححه الألباني عن عطاء قال: سألت أبا أيوب: كيف كانت الضحايا فيكم على عهد رسول الله ؟ قال: كان الرجل في عهد النبي يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويُطعمون، ثم تباهى الناس فصاروا كما ترى.
وروى ابن ماجه أيضًا بسند صحيح صححه الألباني عن أبي سَرِيحة رضي الله عنه قال: حملني أهلي على الجفاء بعد ما علمت من السنة، كان أهل البيت يُضحون بالشاة والشاتين، والآن يُبَخِّلنا جيراننا. قال الشوكاني بعدما ذكر كلامًا حول العدد الذين تجزئهم الشاة: "والحق أنها تجزئ عن أهل البيت، وإن كانوا مائة نفس كما قضت بذلك السنة" اهـ.
ويسمي المضحي حال الذبح ويكبّر، ويستقبل بذبيحته القبلة حال الذبح، وليراع الإحسان إلى ذبيحته، بأن يُحِد شفرته، وأن لا يذبح أختها أمامها، والسنة أن يأكل منها ويهدي ويتصدق، ولا يجوز أن يعطي أجرة الجزار منها.
ووقت ذبح الأضحية بعد صلاة العيد، فإن ذبح قبل الصلاة فلا خلاف أنها شاة لحم، ويذبح بعد الصلاة أخرى مكانها بنص النبي ، والسنة أن يكون الذبح بعد الفراغ من الخطبتين، لحديث جرير بن عبد الله البَجْلي عند الشيخين أن النبي صلى ثم خطب ثم ذبح، ويستمر ذبح الأضاحي إلى غروب شمس آخر أيام التشريق.
وأخيرًا، ينبغي أن يعلم المرء أن الأضحية شعيرة واحدة مما يعظَّم الله به يوم النحر الذي هو أعظم الأيام عند الله تعالى، كما جاء بذلك الخبر عن النبي رواه أبو داود بسند صححه الألباني، ولعل من الحكمة في ذلك أنه يجتمع فيه من العبادات ما لا يجتمع في غيره، وفيه تجتمع أهم أعمال الحجيج، ففيه يرمون جمرة العقبة، ويطوفون بالبيت طواف الإفاضة، ويحلقون رؤوسهم ويذبحون هداياهم ويبقون في منى، أما غير الحجاج فإنهم يصلون العيد، ويذبحون أضاحيهم، ويكبرون ويحمدون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3975)
موقف المؤمن من الزلازل
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الفتن, جرائم وحوادث
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
22/2/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفرّد الله تعالى بعلم الساعة. 2- أشراط الساعة من دلائل النبوة. 3- كثرة الزلازل في آخر الزمان. 4- من حِكم الزلازل. 5- ضرورة التفكر والاعتبار من الزلازل. 6- أهمية الافتقار واللجوء إلى الله تعالى. 7- فضل إغاثة المنكوبين. 8- مشروعية اتخاذ الأسباب للوقاية من المصائب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله الذي لَه مَقاليد السمواتِ والأرض، واذكُروا أنَّكم موقوفون بين يديه في يومٍ تشخَص فيه الأبصار، يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52]. فأعدّوا ـ يا عبادَ الله ـ لهذا اليومِ عدَّته، ولا تغرّنّكم زهرةُ الحياة الدنيا وزينتُها وطول المقام بها، ولا يغرّنّكم بالله الغَرور.
أيّها المسلمون، إنّ من تقدير الله تعالى الحكيمِ الخبير أن حجبَ العلم بوقتِ قيامِ الساعة عن جميعِ خَلقه، واختصَّ بِهِ وجعَله مِن غيبِه الذي لم يظهِر عليه ملكًا مقرَّبًا ولا نبيًّا مرسلاً كما قال سبحانه: يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]، وقال عزَّ من قائِل: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63]، وقال تعالى: وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزخرف:85].
غيرَ أنَّ النبيَّ أخبر بما جاءَه من ربِّه، أخبر عن أماراتِها وأشراطِها، وهي العلاماتُ الدّالّة على قربِ وقوعِها ودُنُوِّ زَمانها، فكان وقوعُ هذه الأخبار النبويّة الصادقة دليلاً مِن دلائل نبوّته وعلَمًا من أعلامها وآية بيّنةً على صِدقِه صلوات الله وسلامُه عليه فيما أخبر به عن ربِّه.
ولقد كان مما أخبرَ به من أشراط الساعة كثرةُ الزلازل التي تكون في آخرِ الزّمان كما جاء في الحديث الذي أخرجَه البخاريّ في صحيحه وابن ماجه في سننه [1] ، ولا ريبَ أنَّ في هذه الزلازل ـ يا عبادَ الله ـ منَ الرّزايا والبلايا والآلام النّاشئة عن نقصِ الأموال والأنفسِ والثّمرات وخرابِ العمران ما لا يأتي عليه الحَصر ولا يستوعِبه البيان، غيرَ أنها لا تخلُو مع ذلك من آثارِ رحمةِ الله بعباده وكريمِ عِنايتِه بهم وعظيمِ إِحسانه إليهم، وقد جاءَ بيان هذه الحقيقةِ وإيضاحُ هذا المعنى في الحديثِ الذي أخرجه الإمام أحمدُ في مسنده وأبو داودَ في سننه والحاكم في مستدركِه بأسانيدَ بعضُها حِسان وبعضُها وصِحاح عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن رسولِ الله أنه قال: ((أمّتي هذه أمّةٌ مرحومة، ليس عليها عذابٌ في الآخرة، عذابُها في الدنيا الفِتَن والزّلازل والقتل)) [2].
وهذا الحديث ـ كما قال أهل العلم ـ واردٌ في الثناء على هذه الأمّة ومدحِها باختصاصها بهذه الفضيلةِ الدالّة على عنايته سبحانه ورحمتِه بها وإتمامِه النعمةَ عليها برفعِ الآصارِ والأغلال التي كانت على الأممِ مِن قبلها؛ مِن قتلِ النّفس في التوبة وقرضِ النجاسة من الثياب وتحريمِ الأكل منَ الغنائم، ومعناه أنَّ غالبَ أفراد هذه الأمّة مجزيٌّ بأعماله في الدنيَا بالمحنِ والأمراض والرزايَا التي منها الزلازلُ تكفيرًا وتَطهيرًا، كما جاء في الحديث الآخر الذي أخرجه الشيخان في صحيحَيهما عن أبي هريرةَ وأبي سعيد الخدريّ رضي الله عنهما أنَّ النبي قال: ((ما يصيب المسلمَ من نصبٍ ولا وصَب ولا همٍّ ولا حزن ولا أذى ولا غمٍّ حتى الشوكة يُشاكها إلاّ كفَّر الله بها من خطاياه)) [3] ، والنّصَب التعَب، والوَصَب المرض، وفي صحيح البخاريِّ أيضًا عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسولِ الله أنه قال: ((من يرِدِ الله بِه خيرًا يصِبْ منه)) [4] ، أي: ينزل به مِن ألوانِ المصائب ما يكون كفّارةً لذنوبه إذا صبَر واحتسب، أمّا أهل الكبائر من أهلِ التوحيد الذين ماتوا على غيرِ تَوبة فهم تحت مشيئةِ الله تعالى، إن شاء عذّبهم، وإن شاء غفَر لهم، لقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ الآية [النساء:48]، كما هو مقرَّر في معتقَد أهل السنة والجماعة.
ألا وإنَّ المسلِمَ اللبيب ليقِف أمامَ هذه النوازل موقفَ التفكُّر والاعتبار بتذكُّر قوّةِ ربِّه الأعلى وقدرتِه سبحانه، تلك القوة والقدرة التي لا تماثِلُها أيُّ قوّةٍ أخرَى مهما بَلغت من السطوةِ ومهمَا حازت من أسبابِ التمكينِ في الأرض، فلا عجبَ أن وصف ربُّنا نفسَه بالقويِّ فقال عزّ من قائل: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:74]، وقال تبارك وتعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وقال جلّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:58].
فإذا استقرَّ هذا المعنى في قلبِ العبد أورَثَه خوفًا من ربِّه وتعظيمًا وإجلالاً له وخُضوعًا وإِخباتًا وإنابة إليه ومحبّةً ورجاء لما عنده وطاعةً له ونُفرةً مِن معصيتِه.
ثم إنَّ افتقارَ العبد إلى كمال اللّجوءِ إلى اللهِ تعالى بدعائِه والتضرُّع إليه وكثرةِ ذِكره واستغفاره والإحسان إلى عبادِه بالصّدَقات وبسائر ألوانِ البِرِّ الأخرى التي يعمُّ نفعُها، كلُّ هذا دائمٌ متأكِّد في كلِّ الأوقات، لكنّه في وقت الشدائدِ أعظم تأكُّدًا، مع لزوم المحافظةِ على الصحيحِ الثابت من أذكارِ الصباح والمساءِ لما فيها من تحصُّنٍ واستعاذةٍ بالله تعالى واحتماءٍ بسلطانه القويِّ الأعلى مِن جميع الشرور والآفات ومِن طوارِقِ الليل والنهار.
ولا ريبَ أيضًا أنَّ قِيامَ المسلمين بنَجدةِ المنكوبِين وإغاثةِ الملهوفِين ومَسح البؤسِ عن جبين البائِسين ممن نزَلت بهم هذه النوازلُ وحلَّت بديارِهم هذه الزلازل هو من أفضلِ الأعمال وأزكاها عند الله تعالى؛ لأنها مِن صنائعِ المعروف التي بيَّن رسولُ الله حُسنَ العاقبة فيها بقوله في الحديثِ الذي أخرجه الحاكم في مستدركِه بإسنادٍ صحيح عن أنسٍ رضي الله عنه أنّه صلوات الله وسلامه عليه قال: ((صنائِعُ المعروف تقِي مصارعَ السّوء والآفاتِ والهلَكات، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهلُ المعروف في الآخرة)) [5] ، كما أنها دليلٌ على الاتِّصافِ بصفة الرّحمة التي أوضح رسول الله ما لِصاحبها عندَ ربِّه بقوله : ((الرّاحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى، ارحَموا من في الأرض يرحَمْكم من في السماء)) أخرجه أحمد في مسنده وأبو داودَ في سننه والحاكم في مستدركِه بإسنادٍ صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما [6] ، وفي الصحيحَين من حديث أسامة بنِ زيدٍ رضي الله عنه عن رسولِ الله أنه قال: ((إنما يرحَم الله من عباده الرّحَماء)) [7] ، وفي الصحيحين أيضًا عن جريرِ بنِ عبد الله رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((من لا يرحَم النّاسَ لا يرحمه الله)) [8] ، وأخرج أبو داودَ والترمذيّ في سننهما وابن حبّان في صحيحه والحاكم في مستدرَكه بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسولِ الله أنّه قال: ((لا تنزَع الرحمةُ إلاّ من شقيٍّ)) [9] ، وصدَق سبحانه إذ يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7121) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] مسند أحمد (4/410، 418)، سنن أبي داود: كتاب الفتن (4278)، مستدرك الحاكم (7649، 8372)، وأخرجه أيضا البزار (3090، 3099)، وأبو يعلى (7277)، والروياني (505)، والطبراني في الأوسط (4055)، والبيهقي في الشعب (7/148)، وحسنه ابن حجر في بذل الماعون (127)، وهو في السلسلة الصحيحة (959).
[3] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5642)، صحيح مسلم: كتاب البر (2573).
[4] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5645).
[5] مستدرك الحاكم (1/124)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3795).
[6] مسند أحمد (2/160)، سنن أبي داود: كتاب الأدب (4941)، مستدرك الحاكم (4/159)، وأخرجه أيضا الترمذي في كتاب البر (1924)، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حجر في الفتح (3/158)، وهو في السلسلة الصحيحة (925).
[7] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7448)، صحيح مسلم: كتاب الجنائز (923).
[8] صحيح البخاري: كتاب التوحيد (7376)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (2319).
[9] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4942)، سنن الترمذي: كتاب البر (1923)، صحيح ابن حبان (462، 466)، مستدرك الحاكم (7632)، ورواه أيضا أحمد (2/301، 442، 461، 539)، والبخاري في الأدب المفرد (374)، وأبو يعلى (6141)، والطبراني في الأوسط (2453)، والبيهقي في الكبرى (8/161)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن تيمية كما في المجموع (6/117)، وهو في صحيح الترغيب (2261).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كاشِفِ الغمِّ وفارِجِ الهمِّ، مجيبِ دعوة المضطرّين، أحمده سبحانه يثيب الصابرين ويجزِي الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله قدوةُ الصالحين وإمام المخبِتين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله الطاهرين وصحبه الطيبين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إنَّ صدقَ الالتجاء إلى الله تعالى هو كَمالَ الضراعة إليه وحُسنَ التوكّل عليه لا ينافي اتخاذَ الأسباب التي يُرجَى بها بفضلِ الله تعالى دفعُ المكروه ودَرء الشرّ وذَودُ الخطَر والتخفيف من آثارِ المصائبِ والبلاء الناجِمِ عن هذه الزلازل وأمثالِها من البأساءِ، كاستعمالِ أَجهزَةِ الإنذارِ المبَكِّر مثلاً وما في معناها مِن أجهزةٍ ووَسائل عِلميّة؛ لأنَّ كلَّ ذلك من نِعَم الله التي هيّأها لعبادِه وهداهم إليها، فإنّه سبحانه علّم الإنسان ما لم يعلَم، ولا يفِرّ المسلم من قدر الله إلاّ إلى قدَرِ الله كما قال أمير المؤمنين الفاروقُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأبي عبيدةَ بن الجرّاح رضي الله عنه حين عجِبَ من نهيِ عمرَ رضي الله عنه عن دخولِ البلاد التي تفشَّى فيها الطّاعون فقال: أفرارًا من قدَر الله يا أميرَ المؤمنين؟! فأجابه الفاروق رضي الله عنه قائلاً: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة! نعم، نفِرّ مِن قدَر الله إلى قدَر الله، أرَأيتَ لو كانت لك إبلٌ فهبَطت واديًا له عُدوَتان: إحداهما خَصيبةٌ والأخرى جدِبة، أليس إن رعيتَ الخصيبةَ رعَيتها بقدر الله، وإن رعيتَ الجدِبةَ رعَيتها بقدر الله؟! فجاء عبد الرحمن بنُ عوف ـ وكان متغيِّبًا في بعض حاجته ـ فقال: إنَّ عندي من هذا علمًا؛ سمعتُ رسول الله يقول: ((إذا سمِعتم به ـ أي: بالطاعون ـ بأرضٍ فلا تقدَموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه))، فحمِدَ الله عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، ثمّ انصرف. أخرجه الشيخان في صحيحيهما وهذا لفظُ مسلِم رحمه الله [1].
فاتقوا الله عبادَ الله، واقتدوا بالصّفوةِ مِن عِباد الرحمن في كمالِ اللّجوء إلى اللهِ تعالى والتوكّلِ عليه وشدّةِ الضراعةِ والإنابة إليه، مع اتِّخاذِ الأسباب التي هيَّأها الله لكم وهدَاكم إليها بمنِّه وكرمه وعظيم إحسانه.
واذكروا على الدّوامِ أنَّ الله تعالى قد أمَركم بالصّلاة والسّلام على خاتم النبيين وإمام المتقين ورحمة الله للعالمين، فقال سبحانه في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح البخاري: كتاب الطب (5728، 5729، 5730)، صحيح مسلم: كتاب السلام (2219).
(1/3976)
فضل الصدقة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, الهبة والهدية والوقف, فضائل الأعمال
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
22/2/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاضل الأعمال الصالحة. 2- تعريف الإحسان. 3- أوجه الإحسان في الصدقات. 4- فوائد الصدقة. 5- تعدد أبواب الخير. 6- فضل الوقف. 7- مسارعة السلف إلى التصدّق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله بامتثالِ أوامره واجتنابِ نواهيه، فذلك سعادةُ الدنيا والأخرى، والتفلُّتُ من التّقوى خسران عظيم ومآلٌ وخيم.
عبادَ الله، إنَّ الأعمالَ الصالحةَ تتفاضَل عند الله بنفعِها لفاعلِها ولغيره، ويتضاعف ثوابُها بدوامِ منافعِها وعمومِها، والحسنات الجاريةُ والصّدَقات النافعة من الإحسانِ الذي هو أعلَى مراتِبِ الإسلام، فإنَّ الدينَ إسلامٌ وإيمان وإحسان.
والإحسان أن تعبدَ الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك ويدخل في مسمَّى الإحسان نفعُ الخلق بعمومِ المنافع ابتغاءَ وجهِ الله تعالى كما قال عزّ وجلّ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]، وكما قال تَعالى: وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وكما قال عزّ وجلَّ: وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77]، وكما قال عزّ وجلَّ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:14-21]، وكما قال عزّ وجلّ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا [الإنسان:8، 9].
والصّدَقاتُ فيها إحسانٌ إلى المتصدِّق نفسِه؛ لأنَّ الله يثيبه على الحسنةِ بعَشرِ أمثالها إلى سَبعمائةِ ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، قال الله تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأنعام:160]، وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إنَّ الله كتب الحسناتِ والسيّئات، فمن همَّ بحسنةٍ فلم يعمَلها كتَبَها الله عنده حسنةً كاملة، فإن همَّ بها فعمِلها كتبها الله عنده عشرَ حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعافٍ كثيرة، فإن همَّ بسيّئةٍ فعمِلها كتبها الله عنده سيّئةً واحدة)) رواه البخاري [1].
والمتصدِّق يحسن إلى نفسِه بالصدقات؛ لأنّه بالصّدقة يتَّصف بالرحمة التي هي من أكرمِ الصّفات، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ : ((لا تُنزَع الرّحمة إلا من شقيٍّ)) رواه أبو داود والترمذي [2] ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله : ((الرّاحمونَ يرحمهم الرّحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم مَن في السماء)) رواه الترمذي وأبو داود [3] ، وعن النّعمان بن بشيرٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفِهم مَثَل الجسَد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسَد بالسَّهر والحمَّى)) رواه البخاري ومسلم [4].
والمتصدِّق يحسِن إلى نفسِه بالصّدقات؛ لأنَّ الله يدفع بالصدقاتِ الشرور والمكروهات، ويجلِب بها الخيرَ والبرَكات، عن أبي أمامةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صنائِعُ المعروف تقِي مصارعَ السوء، وصَدَقةُ السّرِّ تطفِئ غضبَ الربّ، وصِلةُ الرّحِم تزيد في العمر)) رواه الطبراني قال في مجمع الزوائد: "إسناده حسن" [5] ، وعن معاذٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والصّدقةُ تطفئ الخطيئةَ كما يطفِئ الماء النارَ)) رواه الترمذي [6] ، وعن عقبة بنِ عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلُّ امرئٍ في ظلِّ صدقتِه يوم القيامة حتى يُفصَل بين الناس)) رواه أحمد والطبراني [7] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: [قال رسول الله :] ((ما نقصَت صدقة من مالٍ، وما زاد الله عبدًا بعفوٍ إلا عزًّا، وما تواضع عبدٌ لله إلاَّ رفعه الله)) رواه مسلم والترمذي [8] ، وتصديقُ ذلك في كتاب الله تعالى، قال عزّ وجلّ: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
والمتصدِّق أحقُّ بمالِه من وارثِه، فإنَّ النفع الحقيقيَّ للمال هو النفعُ الأخرويّ، وأما نفعُ المال الدنيويّ فينتهي بموتِ الإنسان، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ : ((يقول العبد: مالي مالي، وإنما لَه من مَالِهِ ثلاث: ما أكلَ فأفنى، أو لبِس فأبلى، أو تصدَّق فأمضى، وما سِوى ذلك فهو ذاهبٌ وتارِكُه للناس)) رواه مسلم [9] ، وعن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أيّكم مالُ وارثِه أحبّ إليه من مالِه؟)) قالوا: يا رسولَ الله، ما مِنّا أحدٌ إلاّ ماله أحبُّ إليه! قال: ((فإنَّ مالَه ما قدَّم، ومالُ وارثِه ما أخَّر)) رواه البخاري [10].
والصّدقاتُ إذا وقَعَت في مواقِعِها ونالَت مستحقِّيها فرَّج الله بها كَربَ المكروب، وسدَّ بها حاجةَ المحتاج، وأعان الله بها المساكين، وقضى الله بها المنافِعَ، ويسَّر الله بها المصالح، وتحقَّقَ بها التكافلُ الاجتماعيّ بين المسلمين، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من نفَّس عن مؤمنٍ كربةً من كرَبِ الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستَر مسلمًا ستَره الله في الدنيا والآخرة، واللهُ في عونِ العبدِ ما كان العبد في عونِ أخِيه)) رواه مسلم [11] ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله : ((ومَن كان في حاجةِ أخيه كان الله في حاجتِه)) رواه أبو داود [12] ، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((المؤمِنُ للمؤمنِ كالبنيان يشدُّ بعضه بَعضًا)) وشبك بين أصابعه. رواه البخاري ومسلم [13].
وأبوابُ الخير التي تَنفع المسلمين كَثيرة، وطرق البرِّ متعدِّدة، فالصّدَقة الخالِصة لله التي تقَع بيدِ مستحقِّها أو بيَد جمعيّةٍ خيريّة توزِّعها يشكُرُ الله لصاحبِها ويضاعِفُها، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما تصدَّقَ أحدٌ بصدقةٍ من طيِّب ـ ولا يقبَل الله إلا الطيِّب ـ إلاَّ أخذها الرحمن بيمينِه وإن كانت تمرةً، فتربو في كفِّ الرحمن حتى تكون أعظَمَ من الجبل كما يربِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فَصيلَه)) رواه البخاري ومسلم [14].
والوقفُ الذي تُجعَل غَلَّته للإحسان إلى المنقطعِين للعلم وللفقراءِ والمحتاجين وبناءُ الأربِطَة في الحرَمَين الشريفَين أو غيرها لإسكانِ العُبَّاد والمستحقِّين وبناء المساجدِ والعناية بها وبِناء المستشفياتِ والمدارِس وإنشاءُ المكتَبَات التي تنشُرُ العلمَ وحفرُ الآبار ومدُّ شَبكات الماء كلُّ هذا ونحوه من أفضَلِ البرِّ عند الله ومن الصّدقَة الجاريةِ التي تنال صاحبَها في حياتِه وبعد مماتِه.
وما أكثَرَ سبلّ الخير، وما أيسَرَ الطاعات على من وفَّقه الله تعالى، والرّسولُ يقول: ((ابغوني في الضّعفاء؛ فإنما تنصَرون وتُرزَقون بضعفائِكم)) [15].
وقد كان السّلَف رضي الله عنهم أحرَصَ الناس على المسارعةِ إلى كلِّ خير وإلى الإنفاق في كلِّ سبيل برٍّ، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: كان أبو طلحةَ مِن أكثرِ الأنصارِ مَالاً، وكان أحَبّ ماله إليه بيرحاء، وهي نخلٌ فيها ماءٌ طيِّب كان يشرَب منه النبيّ وكانت قريبةً من مسجدِه عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسولَ الله، إنَّ الله تعالى يقول: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بيرحاء، وإني قد تصدَّقتُ بها أرجو بِرَّها وذُخرَها، فاجعلها ـ يا رسولَ الله ـ حيث شئت، فقال النبيّ : ((بخٍ بَخ، ذلك مالٌ رابح، ذلك مال رابح)) رواه البخاري ومسلم [16].
فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على الإحسانِ إلى أنفسِكم بما خوَّلكم الله من المالِ الذي منَّ به عليكم، وإلى الإحسانِ إلى أنواع المحتاجِين من الفقراءِ والأيتام والمعاقِين والشّباب الذين يسعَونَ للزّواج والمنقطِعِين لطلَبِ العلم وجمعيّاتِ تحفيظ القرآن والمرضَى والمدينين والمُعسِرين، والله تعالى يقول: وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6491)، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان (131).
[2] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4942)، سنن الترمذي: كتاب البر (1923)، ورواه أيضا أحمد (2/301، 442، 461، 539)، والبخاري في الأدب المفرد (374)، وأبو يعلى (6141)، والطبراني في الأوسط (2453)، والبيهقي في الكبرى (8/161)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن حبان (462، 466)، والحاكم (7632)، وابن تيمية كما في المجموع (6/117)، وهو في صحيح الترغيب (2261).
[3] سنن الترمذي: كتاب البر (1924)، سنن أبي داود: كتاب الأدب (4941)، وأخرجه أيضا أحمد (2/160)، وقال: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (7274)، وابن حجر في الفتح (3/158)، وهو في السلسلة الصحيحة (925).
[4] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6011)، صحيح مسلم: كتاب البر (2586).
[5] المعجم الكبير (8/261)، مجمع الزوائد (3/115)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (2/15)، وله شواهد كثيرة عن عدد من الصحابة منهم: أنس ومعاوية بن حيدة وأبو سعيد وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة وأبو هريرة وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني في صحيح الترغيب (889)، وانظر: السلسلة الصحيحة (1908).
[6] سنن الترمذي: كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وأخرجه أيضا أحمد (5/231)، وابن ماجه في كتاب الفتن، باب: كفّ اللسان في الفتنة (3973)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/286-287)، وذكره الضياء في المختارة (405)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/299): "رجاله رجال الصحيح، غير عمرو بن مالك الجنبي وهو ثقة"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1122).
[7] مسند أحمد (4/147)، المعجم الكبير (17/280، 286)، ورواه أيضا أبو يعلى (1766)، وأبو نعيم في الحلية (8/181)، والبيهقي في الكبرى (4/177)، وصححه ابن خزيمة (2431)، وابن حبان (3310)، والحاكم (1517)، وهو في صحيح الترغيب (872).
[8] صحيح مسلم: كتاب البر (2588)، سنن الترمذي: كتاب البر (2029).
[9] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2959).
[10] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6442).
[11] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2699).
[12] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4893)، وهو عند البخاري في الإكراه (6951)، ومسلم في البر (2580).
[13] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6027)، صحيح مسلم: كتاب البر (2585).
[14] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1410)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1014).
[15] أخرجه أحمد (5/198)، وأبو داود في الجهاد (2594)، والترمذي في الجهاد (1702)، والنسائي في الجهاد (3179)، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (4767) والحاكم (2/116، 157) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (779).
[16] صحيح البخاري: كتاب الزكاة (1461)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (998).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرحيم، مالك يومِ الدين، أحمد ربِّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريك له القويّ المتين، وأشهد أن نبيّنا وسيّدنا محمّدا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدَى واليقين، لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ أيّها المسلمون ـ حقَّ التَقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقَى.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19]، أنساهم أنفسَهم: نَسوا اللهَ فلم يعمَلوا بطاعته، ولم ينزجِروا عن معصيتِه، فأنساهم أنفسَهم أن يقدِّموا لها خيرًا.
وقال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [آل عمران:92]، والرسولُ يقول: ((إذا ماتَ ابن آدمَ انقطع عمَله إلاّ من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفَع به، أو وَلدٍ صالح يدعو له)) رواه مسلم [1].
ولا تحقرَنَّ ـ أيها المسلم ـ من المعروف شيئًا؛ فإنَّ الله تبارك وتعالى يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]، ويقول تعالى: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، ويقول عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77].
عبادَ الله، إنَّ الله أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه فقال عزّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلَّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسَلين.
اللّهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...
[1] صحيح مسلم: كتاب الوصية (1631).
(1/3977)
الصدق منجاة والكذب مهلكة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
22/2/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أمور من الكذب يُستهان بها: الكذب على الأطفال، الكذب لمنفعة، شهادة الزور، غشّ الرعيّة. 2- أهمية الالتزام بالصدق. 3- استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على أراضي القدس. 4- خطورة بيع الأراضي للعدو الإسرائيلي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، هناك بعض الأمور التي يُستهان بها، ويكذب بعض الناس فيها، أشير إليها بإيجاز:
أولاً: أن يكذب الآباء والأمهات على أبنائهم الصغار، وقد بيّن لنا ديننا الإسلامي الحنيف بأن تربية الأولاد يجب أن تكون خالية من الكذب؛ ليشبّ الأطفال وقد تعوّدوا على الصدق والصراحة والجُرأة في القول والعمل. فقد روى الصحابي الجليل عبد الله بن عامر قائلاً: دعتني أمي يومًا وأنا صغير، ورسول الله قاعد في بيتنا، فقالت لي: تعال أعطيك، فسألها الرسول الصادق المصدوق: ((ما أردت أن تعطيه؟)) قالت: أردت أن أعطيه تمرًا، فقال لها: ((أما إنك لو لم تعطه شيئًا كُتِبت عليك كذبة)). وروى الصحابي الجليل أبو هريرة أن رسول الله قال: ((من قال لصبي: تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة)).
بهذا الهدي النبوي ينبغي أن نربّي أولادنا وننشئهم النشأة الإسلامية، تلك التربية الإيمانية التي يحبّون فيها خصال الصدق والكرامة والاستقامة، ويتنزّهون عن الكذب ويكرهونه.
ثانيًا: مِن الناس مَن يتوهّمون بأن الكذب إذا جَرّ منفعة فهو جائز، وهذا ما يسلكه بعض التجّار وأصحاب المهن والحرف؛ لأنهم يرون أن في الكذب مصلحة دنيوية لهم، حيث يستفيدون مالاً إلى مال بترويج بضائعهم وتسليك مصالحهم، وهم لا يدركون أنهم يبتعدون عن الدين خطوة إلى خطوة. والملاحظ أن التجارات والبيوعات تقوم في الغالب على الطمع؛ البائع يريد الغلاء والزيادة، والمشتري يريد البخس والاستفادة. والأنانية هي التي تسود علاقاتنا ومعاملاتنا.
أيها المسلمون، لقد نهى ديننا الإسلامي العظيم عن هذه المعاملات الجَشِعة وما فيها من لغو ومِراء وحَلِف بالأيمان، فيقول رسولنا الأكرم محمد : ((البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما)) ، وفي حديث آخر: ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرّم الله عليه الجنة وأوجب له النار)) ، قال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال : ((وإن كان قضيبًا من أراك)).
وأما العُمّال وأصحاب المهن والحرف فقد انتشرت بينهم ظاهرة نكث المواعيد والمماطلة في التنفيذ والإنجاز، فكأنهم لم يسمعوا قول رسول الله : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)).
أيها المسلمون، ثالثًا: من أشد أنواع الكذب حُرمة شهادة الزور أمام المحاكم والقضاء؛ لأن هذه الشهادة تقلب الحق إلى الباطل، وتضيّع حقوق العباد، وتشجّع المجرمين وأصحاب النفوس المريضة على اقتراف الجرائم والاعتداء على أرواح وأموال الآخرين. ومن المعلوم بداهة أن شاهد الزور قد باء بغضب من الله ورسوله؛ لارتكابه كبيرة من الكبائر، فيقول رسولنا الأكرم في هذا المجال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ، وكان متّكئًا فجلس، وقال: ((ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) ، فما زال يكرّرها حتى قلنا: ليته سكت.
وتدخل شهادة الزور في تزييف الوثائق والمستندات في تسريب الأراضي والعقارات وتضييعها، وما يقوم به سماسرة السوء من تصرفات إجرامية خيانية. وكذلك تدخل شهادة الزور في مجال الانتخابات للمجالس النيابية والتشريعية والبلدية والنقابية وغيرها، وذلك حين يَنتخِب الشخصُ مَن لا يثق به، أو إذا كان المنتخَب غير أهل للمسؤولية.
أيها المسلمون، رابعًا: من أشد أنواع الكذب خطورة على الأمة وعلى الشعب إذا كان الحاكم أو المسؤول على شعبه ورعيته ولم يعطهم حقيقة الأمور، ولم يصارحهم بما يجري في الدولة، فيكون غاشًّا لهم، ويقعون في دوّامة الإشاعات والتأويلات، فيقول رسولنا الأكرم محمد : ((ما من عبد يسترعيه الله رَعيّة فيموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيّته إلا حرم الله عليه الجنة)).
وهناك عشرات الأحاديث النبوية الشريفة في هذا الباب، فيقول : ((نعم الشيء الإمارة لمن أخذها بحقّها وحِلّها، وبئس الشيء الإمارة لمن أخذها بغير حقّها، حتى تكون عليه حسرة يوم القيامة)) ، ويقول رسولنا الأكرم في حديث آخر: ((من وَلِيَ من أمر المسلمين شيئًا فأمّر عليهم أحدًا مُحَاباة فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صَرْفًا ولا عَدْلاً حتى يدخله الله جهنم)).
أيها المسلمون، يتوجّب علينا الالتزام بالصدق في القول والعمل، فالمؤمن مرآة نفسه، المؤمن ظاهره صالح ويجب أن يكون باطنه أصلح، المؤمن صادق مع نفسه أوّلاً ومع غيره ثانيًا، المؤمن ليس بمنافق وليس بكاذب، فالصدق مَنجاة والكذب مَهلكة، ((عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البرّ، والبرّ يهدي إلى الجنة، وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المصلون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، صادف أول أمس ذكرى يوم الأرض، حينما انتفض إخوتنا في الداخل لحماية أراضيهم، ولرفضهم سياسة مصادرة الأراضي واغتصابها والاستيلاء عليها ظلمًا وعدوانًا، وكان ذلك عام 1976م.
لا تزال سلطات الاحتلال مستمرّة في مصادرة الأراضي في محيط القدس وسائر المناطق الفلسطينية الأخرى؛ بهدف إقامة مستوطنات جديدة، أو توسيع المستوطنات القائمة غير الشرعية، ولاستكمال بناء جدار الضمّ والتوسّع العُنصري. وإن جميع هذه الممارسات العدوانية تتم تحت مظلّة دعاوى السلام المزيّف، وتتم تحت مظلّة ادعاءات قرب الانفراج المزعوم، هذه الممارسات التي مزّقت البلاد وشتّت العباد، ولا نزال ننتظر هذا الانفراج الوهمي.
ومن المؤلم ـ أيها المسلمون ـ أن بعض الأنظمة العربية متوهّمة بأن هذه الفترة هي فترة ذهبية بالنسبة للفلسطينيين؛ ليحققوا مكاسب لهم، وهم يدفعون بالقيادة الفلسطينية للسير تجاه السراب الخادع. في حين أن السلطات المحتلة ماضية في سياستها العدوانية ضد الأرض وضد الإنسان الفلسطيني المرابط في بلده بشكل يومي، ولا يخلو يوم إلا وتطالعنا الصحف المحلية عن مصادرة أراضي فلسطينية هنا وهناك، وعن سقوط شهداء واعتقال العشرات من المواطنين.
أيها المصلون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لا يخفى على أحد أن التسارع في إحكام القبضة حول مدينة القدس قائم على قدم وساق، وأن السياسيين المحتلين قد صرّحوا مرارًا بأن القدس هي عاصمة أبدية لهم. ونحن نقول بأن الإجراءات الإسرائيلية الاحتلالية هي إجراءات غير شرعية، ولا نقرّها، ولا نعترف بها. وإذا ظن الاحتلال بأن سياسة فرض الأمر الواقع ستلزمنا فإنه يكون واهمًا؛ لأن الحق أحق أن يُتّبع، ونحن أصحاب حقّ شرعيون، وإن حقّنا سيبقى قائمًا إلى يوم الدين، لا يضيع مع مرور الزمان، ولا بد أن يعود ولو بعد حين، بإذن الله وقدرته.
أيها المصلون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن تسريب الأراضي والعقارات لصالح الاحتلال البغيض يكون من خلال صفقات مشبوهة، ومن قبل نفوس مريضة شاذّة، وهي صفقات باطلة، وإن أرض فلسطين وَقفِيّة، لا يسري عليها بيع ولا شراء. وقد صدرت مئات الفتاوى عن المفتين وعلماء المسلمين منذ العشرينات من القرن الماضي وحتى الآن لتؤكد بطلان هذه البيوعات، وتجريم أولئك الذين يبيعون ويُسَمسِرون، وأنهم خارجون عن جماعة المسلمين، لا يُغَسّلون ولا يُكفّنون ولا يُصَلّى عليهم ولا يُدفنون في مقابر المسلمين؛ وذلك لأن بيع الأراضي في فلسطين هو تمكين للاحتلال وتقوية له، ولا بد من كشف أولئك الشاذّين المفسدين والتصدي لهم. وعلى أهل بيت المقدس وأكناف بيت المقدس أن يكونوا حذرين من هؤلاء السماسرة الشاذّين العابثين الفاسدين المفسدين في أرضنا المباركة، أرض الإسراء والمعراج، حتى يأذن الله بالفرج القريب إن شاء الله، وليس ذلك على الله بعزيز، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
(1/3978)
لا إله إلا الله
التوحيد
أهمية التوحيد
حمدان بن محمد الحمدان
الرياض
15/2/1426
جامع هيئة التدريس بجامعة الملك سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل كلمة التوحيد. 2- حقيقة لا إله إلا الله. 3- أفعال وأقوال تناقض لا إله إلا الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلنتق الله أيها المسلمون، ولنجدّد إيماننا في المساء والصباح بتأمل معنى لا إله إلا الله.
فيا ذوي العقول الصحاح، ويا ذوي البصائر والفلاح، لننادِ بالفلاح، فلا فلاح إلا لأهل لا إله إلا الله.
فكلمة الإسلام ومفتاح دار السلام لا إله إلا الله، فلا قامت السماوات والأرض ولا صحت السنة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله، ولا جُردت سيوف الجهاد وأرسلت الرسل إلى العباد إلا ليعلموهم العمل بلا إله إلا الله.
فانقسم الناس عند ذلك فريقين وسلكوا طريقين: فريق انقاد والتزم بالعمل بلا إله إلا الله، والآخر حاد وغوى وضل؛ لأن دين آبائه وأجداده تبطله لا إله إلا الله.
فسبحان من فاوت بين عباده بمقتضى حكمته ومراده، وذلك من أدلة لا إله إلا الله.
فطوبى لمن عرف معناها فارتضاها، وعمل باطنا وظاهرا بمقتضاها، فيكون قد حقق لا إله إلا الله، وويلُ من صاده الشيطان بالإشراك والمصائد، فرماه في هُوة الإشراك والكفر، فأبى واستكبر عن الانقياد للا إله إلا الله، قال سبحانه: وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86].
حقيقة لا إله إلا الله هي إفراد الله بالعبادات وتخصيصه بالقصد والإرادات، ونفيها عما سواه من جميع المعبودات التي نفتها لا إله إلا الله، وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وأن لا يبقى في القلب شيء لغير الله، ولا إرادةٌ لما حرّم الله، ولا كراهةٌ لما به أمر الله.
هذه ـ والله ـ هي حقيقة لا إله إلا الله، أما من قالها بلسانه ونقضها بأفعاله فلا ينفعه قول: لا إله إلا الله؛ فمن صرف لغير الله شيئا من العبادات وأشرك به أحدًا من المخلوقات فهو كافر ولو نطق ألف مرة بلا إله إلا الله. قيل للحسن: إن ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة! فقال: "من قالها وأدى حقها وفرضها أدخلته الجنة"، وقال وهب بن منبه لمن قال له: أليست مفتاح الجنة؟! قال: "بلى، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فُتح، وإلا لم يفتح لك"؛ لأنك في الحقيقة لم تقل: لا إله إلا الله.
فيا ذوي الأسماع العتيدة، لا نظن أن أمورَ الشرك عنا بعيدة، فإن ها هنا مهاوي شديدة تقدح في لا إله إلا الله. أين من وحد الله بالحب والخوف والرجاء والعبادة؟! أين من خصه بالذل والخضوع والتعظيم والقصد وأفرده بالتوكل فجعل عليه اعتماده؟! كل هذا من معاني لا إله إلا الله.
فلنسارع ـ أيها الإخوة ـ إلى مغفرة من ربنا وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين، الذين قاموا بواجبات لا إله إلا الله، ولا نجعل مع الله إلها آخر، فقد جاءنا النذير المبين، ولنتمسك بعرى لا إله إلا الله، فمن نفى ما نفته وأثبت ما أثبتته ووالى عليها وعادى رفعته إلى أعلى عليين: منازلِ أهل لا إله إلا الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ [محمد:19].
بارك الله لنا وللمسلمين وللعالمين في كتابه الكريم وفي سنة نبيه محمد ، أقول قولي هذا، ونستغفر الله لنا ولوالدينا وللمسلمين أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3979)
التحذير من إيواء المحدثين والمجرمين
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
22/2/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تفاوت الناس في إيمانهم. 2- صفات قوي الإيمان. 3- النهي عن إيواء المحدثين. 4- صور إيواء المحدثين. 5- مسؤولية أمن الأمة. 6- ضرورة العناية بمصالح المسلمين العامة. 7- وجوب التعاون على البر والتقوى. 8- مناجاة المؤمنين فيما بينهم. 9- النهي عن المنكر والتحذير منه واجب الجميع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في الصحيحِ عنه أنّه قال: ((المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمنِ الضعيف، وفي كلٍّ خير)) [1].
أيّها المسلمون، يتفاوَت النّاسُ في إيمانهم قوّةً وضعفًا، أصلُ الإيمان موجودٌ، لكن تفاوتُهم في قوَّةِ هذا الإيمان أو ضَعف ذلك الإيمان. وهذا التفاوُتُ في قوّةِ الإيمان وضعفه ينتُجُ عنه قوّة العمل والأداء أو ضَعف ذلك.
المؤمِنُ قويُّ الإيمان ترَى أثرَ تلك القوّة على جوارحِه في قيامه بما أوجَبَ الله عليه واستقامتهِ علَى الطريقِ المستقيم، عرَفَ الحقَّ، عرف الهدَى، فالتزم الإسلام ظاهِرًا وباطنًا. قويُّ الإيمان ترَى أثَرَ قوّةِ الإيمان عليه في سعيِه في المصالح العامّةِ للأمّةِ وتعاوُنِه على الخير وبذلِه وعطائه وجدِّه واجتهاده فيما ينقِذ نفسَه من عذاب الله ويخلِّصها من عذاب الله، ثمّ بما تسعَد به أمّته ومجتمعُه المسلم.
المؤمِن قويُّ الإيمان قوّةُ إيمانه تجعله يهتمّ بالمصالح العليا للأمة، ويقدِّمها على كلِّ المصالح الشخصيّة، فعندما تتعارض المصالحُ العليا للأمّة والمصالح الذاتيّة الشخصية فقوَّةُ إيمانه تدعوه إلى المحافظةِ على مصَالحِ الأمّة العُليا، وأن لا يقدِّمَ عليها أغراضَه الشخصية، بل الأغراض الشخصيّةُ لا اعتبار لها عندَه أمامَ مصالح الأمّةِ العليا ومنافعها.
المؤمن القويُّ لا يخدَعه الخادعون، ولا يغرِّر به الأعداء الحاقدون، ولا يطمع في انحرافِه الحاسِدون للأمّة، بل هو يرفضُ كلَّ ذلك؛ لأنَّ دينَ الأمة وقِيَمها وأخلاقها وانتظامَ مجتمعها وأمنها في فكرِها وأخلاقها والتزامها أمرٌ ضروريّ بالنسبة إليه، فلا يسترخِص تلك في سبيل المطامِعِ المادّية والأغراض الشخصية.
المؤمن القويّ لا تخدَعه أطماعُ الدنيا أن يضحِّيَ بمصالح أمّتِه لأجل مالٍ يأخذه وحُطام ينالُه في الدنيا، بل كلُّ هذه الأمور لا تروجُ عليه ولا تخدَعه، فقوّة إيمانه تحمله على الخير والهُدى.
أيّها المسلم، قوّةُ إيمان المرءِ تجعله لا يؤوِي محدِثًا، ولا يعين محدِثًا، ولا يتستّر على محدِث، يتمثَّل قولَ النبي : ((لعن الله من آوى محدثًا)) [2].
وإيواءُ المحدِث يكون في صورٍ عديدة، فمن إيواءِ المحدث أن تتستَّرَ عليه، وأن يعيشَ في ظلّك وأنت تعلَم حدَثَه وخبثه وشرَّه وبَلاه وعداءَه لدينك ومجتمعِك المسلم، فالمؤمن حقًّا لا يؤوي أولئك المحدثين، لا يتستّر عليهم، ولا يكون ظِلاًّ دونهم، بل هو عدوٌّ لكلِّ المفسدين مهما تكن أحوالهم ومطامِعُهم.
إيواء المحدِث يكون بالدِّفاع عنهم وتبريرِ مواقفِهم، وذاك أمرٌ لا يليق بقويِّ الإيمان. إيواءُ المحدِث يكون بالرِّضا عنهم وعن أفعالهم، فضلاً من أن يكونَ مشاركًا لهم في أفعالهم ومُعينًا لهم على باطلِهم وضلالهم.
إنَّ أمنَ الأمة في معتقدِها وأخلاقها وفضائلها واقتصادِها واستقرارها أمر يؤمن بِه المسلِم حقًّا، فلا يسترخِص تلك القِيَم في سبيل مادَّةٍ ينالها.
إنَّ قويَّ الإيمان يحترِم الأنظمة التي جيءَ بها للحِفاظ على كيان الأمّة ولسلامة مبدَئها وللدِّفاع عنها حتى يعيشَ المجتمع أمنًا واستقرارًا وطمأنينة، يعبُدُ المسلم ربَّه مطمئِنَّ القلب قريرَ العين.
إنَّ أولئك الذين استرخَصوا قِيَم الأمة وفضائلَها ولم يبالوا بذلك دليلٌ على ضعف الإيمان في قلوبهم. كم نسمع ممّن يقول ويتحدَّث عن حبِّ الوطن ومصالح الأوطان، وإذا نظرتَ إلى الأفعال والتصرُّفات وجدتَ تلك الأفعال مناقضةً للأقوال.
إنَّ المؤمِنّ القويَّ يهتمّ ببلاد الإسلام أيّما اهتمام، ولا يرضَى لبلاد الإسلام أن يعبَثَ فيها العابثون أو يطمَعَ في خيراتها ودينِها الطّامعون، بل هو ضِدّ من يريدها بشرّ، ومن يكيد لها المكائدَ، هو ضدّ لأولئك؛ لأنّه يؤمن أنّ المؤمنَ حقًّا من يدافع عن دينِ المسلمين، ويحمي عوراتهم، ويدافع عن قِيَمهم وفضائِلِهم، كأولئك الذين استرخَصوا تلك القِيَم ولم يبالوا بمصالح الأمة العليا، وإنّما همُّهم مالٌ ينالونه، ويقولون: "لَسنا مسؤولين عن أيِّ أحدٍ، وتلك مسؤوليّة غيرِنا، وذلك واجبُ غيرنا"، كلُّ هذا من ضَعف الإيمان، فإنَّ كلَّ فردٍ مسلم يغار على دينِه ثمّ يغار على بلادِ الإسلام وأمّة الإسلام وعلى قِيَم الأمّة وفضائلها غيرةً تدعوه إلى المواقِفِ المعتدِلة والآراء السديدة وعدَم الانخداع بأولئك الضالّين.
إنَّ المسلمَ يسعَى في الخير جُهدَه، يدُه ممدودةٌ لكلّ مَن يَدعون على البرّ والتقوى، يمتثل قول الله: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، مَنهجٌ للمسلم في حياته، كلُّ عمل صالحٍ يعود على الأمّة في الحاضر والمستقبل فهو مع مَن يدعو إلى الخيرِ ويعين على الخير، وكلُّ عملٍ عدوان وإِثم ومعصية لله ورسوله وفسادٍ في الأرض فالمسلمُ موقفُه معه موفقُ المضادِّ لذلك الناهي عنه المحذِّر منه؛ لأنّ الله يقول: وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
المسلِم لا يعين على العدوانِ، لا يعين على الظّلم، لا يعين المفسدين، لا يؤوي المجرمين، لا يتستَّر على المخطئين، لا يدافع عن المنحرفين، لا يرضى بأفعال الغاوين الضالين، أفعالُهم وتصرّفاتهم يرفضها دينًا يدين الله به، ويرفضها لأنَّ الأمانةَ الإيمانيّة تقتضي منه ذلك. إنَّ الله وصف المؤمنين بأنهم متواصون بالحقّ، وبأنهم متواصون بالصبر عليه، فهم كمَّلوا أنفسَهم بالإيمان والعمل، ثم كمَّلوا غيرهم بدعوتهم إلى الخير: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
إنَّ تناجي المؤمنين فيما بينَهم تناجٍ في الخير والتَّقوى، لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9].
هذا مَنهجُ المؤمِن في حياته، عندما تكون له مناجاة وعندما يعقِد اللقاءات وعندما يدبِّر الأمورَ يضَع نصبَ عينيه: هل هذه الأمور فيها خيرٌ للإسلام وأهله أم فيها ضَرَر وعداء للإسلام وأهله؟ فهو يتناجى مع من يَتَناجى معه في الخَلوة بالبرِّ والتقوى، بالعمل الصالح، بالمصالح العامّة، لا يتناجَى في الإثمِ والعدوان ومعصيةِ الرسول وإلحاق الضرَر بالأمة في أمنِها واستقرارها، إنّه ضِدّ ذلك، إنّه المسلم الفعّال الذي يقول ويصدُق في دفاعه عن دينه ثمّ عن أمّته ووطَنِه المسلم، فهو لا يرضى بجرمِ المجرمين، ولا بفسادِ المفسدين، ولا بطمع الحاقدين، بل هو ضدّ ذلك.
أيّها المسلم، فاصدق الله في قولك وعملِك، واحذر أن تكون جِسرًا للأعداء وللمغرِضين والمتربِّصين الذين يدمِّرون أخلاقَ الأمّة وعقيدَتها وفكرها الصالح، ويحدثون فيها ما يحدِثون، فكن ضدَّ أولئك بالدعوة إلى اللهِ، وأن لا تكونَ ملجأً لأيّ مجرمٍ ولا لأيّ مفسِد، لا تغرنَّك مطامِع الدنيا، لا تخدعنَّك المادّة الزائلة أن تضَحّي بمصالح أمّتك لأجل غرضٍ ماديٍّ تناله، تخالِف الأنظمةَ الموضوعة وترفُضُها ولا تبالي بها لأجل المطامِعِ المادّية، إذًا أنت شريكٌ في الإثم وشريك في العدوان.
فاتقوا الله معشَرَ المسلمين، وتعاونوا على كلِّ ما فيه خير لكم في دينكم وديناكم، فإنَّ هذه علامة الإيمان الصادِق.
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستَغفر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب القدر (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم: كتاب الأضاحي (1978) عن علي رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كمَا يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عبادَ الله، في الصحيحِ عن النّعمان بن بشير رضي الله عنهما أنَّ النبي قال: ((مثل الواقِع في حدودِ الله والقائم عليها كمَثَلِ قومٍ استَهَموا سفينة، فكان بعضُهم أعلاها وبعضهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلِها إذا استَقَوا أتَوا إلى من فوقهم فقالوا: لو خرقنا في نصيبِنا خرقًا ولا نؤذي من فوقنا)) قال النبي : ((فإن أخَذوا على أيديهم نجوا ونجَوا جميعًا، وإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا)) [1].
إنّه مثَل عظيمٌ فيمن يلتزم الواجب، وفيمن يدافع عن المصالح العامّة، وفيمن لا يرضَى إلاّ بمصلحته الخاصة، هؤلاء في السفينة طابقان: الطابق الأعلى والأسفل، والماء لدَى من فوق، ومَن في الأسفلِ يَصعدون إلى مَن فوق ويأخذون حاجَتَهم وكفايتهم مما وُفِّر لهم، أرادوا أن يخرِقوا في السفينةِ خرقًا ليأتيَهم الماء عن قرب، لكن هذا الخَرقُ ما هي نتائجه؟ نتائجُه غَرَق السفينة كلِّها، غرق مَن في الدّور الأدنى ومَن في الدور الأعلى، فالنبيّ يقول: إن أخذَ من فوق على أيدِي أولئك سلِمَ الجميع، وإن تركوهم هلكَ الجميع.
وهكذا المؤمن لا يرضَى بالشرِّ والبلاء لأهل الإسلام، يأخذ على أيدي السفاء، ويردع المجرمين، ولا يتستَّر عليهم، ولا يحفظهم، ولا يدافع عنهم، بل يرى وجودَهم خَطرًا، ويرى نشاطَهم شرًّا، فهو لا يعطِي الدنيّة في دينه، هو يحفظ أعراضَ المسلمين ودينَهم وعقيدتهم، ويدافع عنها، ويقف مع من يحمي أمنَ الأمة وسلامتها والدفاع عنها، ويرى ذلك واجبًا إسلاميًّا عليه.
فالذين يَرونَ المجرمين ويقولون: "لسنا مسؤولين عنهم، لهم جهات معيّنة، كلٌّ منّا مسؤول عن ذاته الشخصيّة فقط"، هكذا كلّه من تلاعب الشيطان، فإنَّ المجتمعَ المسلم مطالَب كلِّ فردٍ منه أن يكونَ عينًا ساهرةً على عقيدةِ الأمّة وقِيَمها وأخلاقها؛ لأنَّ هذا من التعاون على البرِّ والتقوى.
نسأل الله أن يحفظَنا وإياكم بالإسلام، وأن يجعلنا وإيّاكم من المتعاونين على البرّ والتقوى، وأن لا يجعلنا أعوانًا على الإثم والعدوان، إنه على كل شيء قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمَركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الشركة (2493) نحوه.
(1/3980)
الألفية الثالثة والاحتفال بها
أديان وفرق ومذاهب, الإيمان
أديان, الولاء والبراء
أحمد بن عبد العزيز الشاوي
بريدة
جامع المنتزه الشرقي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- احتفال المسلمين بالألفية الثالثة مظهر من مظاهر التبعية للنصارى. 2- فضل أمة الإسلام على سائر الأمم. 3- موقف المسلمين من عيسى عليه السلام. 4- بطلان التاريخ الميلادي النصراني. 5- اليوم الذي يُعد له المسلمون العدة وهو يوم القيامة. 6- الهدف من دعوة النصارى إلى تقارب الأديان. 7- منهج الإسلام في التعامل مع أهل الكتاب. 8- فتوى الإمام ابن القيم واللجنة الدائمة في حكم حضور احتفالات أهل الكتاب وتهنئتهم بها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستمسكوا بهذا الدين، فهو خير دين وأزكى ملة، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
أيها المسلمون، منذ أكثر من عام وكثير من الناس يتحدثون عن عام ألفين (2000م)، فمنهم من يتحدث عن دخول الألفية الثالثة، وأنها مناسبة عيد سعيد، ويوم عام جديد، أعد كثير من الأقوام العدة للاحتفال به، وروجت لذلك وسائل الإعلام المختلفة، وصنعت الملابس والأجهزة الكهربائية والمنزلية، وهي تحمل رمز عام ألفين (2000)، ورتب كثير من الناس برامج لاستقبال هذا العام، ومنهم من حرصَ على إعداد حفل ترويحي، أو إجراء تخفيضات وعمل دعايات، ومنهم ومنهم... كما إن كثيرًا من دول العالم وضعت برامج احتفالية بهذا العام من خلال معارض ومهرجانات مختلفة، وانساق لهذا الأمر كثير من الناس حتى المسلمين، وفريق آخر من الناس من الأحبار والرهبان يهودًا ونصارى، من الذين يعلقون على هذه الألفية آلامًا وآمالاً يجزمون بتحقيقها لما يجدونه في كتبهم المحرفة من توراة وإنجيل.
أيها المسلمون، أن يحتفل النصارى بالألفية الثالثة ويبرزونها لديهم كحدث ديني عقدي ويسخرون الإمكانات الهائلة ويصرفون المبالغ الطائلة ويتخذون الإعلام الواسع لخدمة أهدافهم فهذا أمر واضح جلي، بل قد تجاوز الحد، لكن أن يسيطر الأمر على أهل الإسلام ويأكلون ويشربون عليه، ويتسابق عليه الجميع للاحتفاء والاحتفال به فهذا أمر خطير وباب شر مستطير، وهي أوضح مظاهر التبعية والانهزام النفسي. لقد تصدت وسائل الإعلام لإبرازه وتبارى الكتاب في الحديث عنه، وأخذت الاستعدادات تغزو عواصم العالم الإسلامي ومدنهم وقراهم وبيوتهم، في مقابل ذلك ما نصيب الأحداث الإسلامية التي يمزق فيها المسلمون ويشردون ويقتلون؟!
وأمر الألفية يرَتّّب له بعناية لرفع شأن النصرانية وإظهار قوتها وإبراز رموزها، مع ما يصاحب تلك الاحتفالات من شرب للخمور وانحلال في الأخلاق وظهور للصور المحرمة، وكم من طفل مسلم مع الأسف سوف نراه يحمل شعارات وكلمات وحركات الألفية، وكم من رجل عاقل فطِن سوف يضيِّع الصلاة لمشاهدة تلك الاحتفالات، وكم من شهوة ستغرس، وكم من شُبه ستثار باسم تلك الاحتفالات والمهرجانات.
أيها المسلمون، ونتيجة لذلك فإن واجبنا أن ندرك موقف الإسلام من مثل هذه المناسبات وذلك من خلال عدة وقفات:
الوقفة الأولى: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، نحن الأعلون وعقيدتنا الأعلى لأننا نسجد لله وحده وهم يسجدون لشيء من خلقه أو لبعض من خلقه، ومنهجنا الأعلى لأننا نسير على منهج من شرع الله وهم يسيرون على مناهج من صنع البشر، ودورنا الأعلى فنحن الأوصياء على هذه البشرية كلها والهداة لهذه البشرية كلها، وهم شاردون عن النهج ضالون عن الطريق، ومكاننا في الأرض أعلى، فلأمتنا وراثة الأرض التي وعدنا الله بها، وهم إلى الفناء والنسيان صائرون.
إننا ـ نحن المسلمين ـ نملك مقومات العزة والقيادة، والعزة لأهل الإيمان والحق باقية ما استقاموا على المنهج، وأصلحوا نفوسهم، وحافظوا على الصلاح، وأخذوا بدروب الاستقامة ومسالك الفضيلة، ذلك أن العزة لا تجتمع مع السفاسف والدنايا والبعد عن الله ومحادَّاة الله ورسوله والجرأة على انتهاك حرماته والمجاهرة بالفسوق والمعاصي.
نحن خير أمة أخرجت للناس، ديننا خاتم الأديان وأكملها، وقرآننا هو المهيمن على ما سواه، ونبينا هو أفضل الرسل وأزكى البشر، فنحن الآخرون الأولون، فلم الانسياق وراء أمم الكفر بعباداتهم وتقاليدهم وأعيادهم؟! قال تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ ?للَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران:83]، وقال تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85].
الوقفة الثانية: ما علاقتنا نحن المسلمين بعيد ميلاد المسيح عليه السلام؟! لو كنا متخذين عيدًا لميلاد أحد من البشر لكان رسولنا وسيدنا وقدوتنا محمد هو الأولى والأحق، لكننا أمة محكومة بشرع الله، لا نحيد عنه، ولا نشرع لأنفسنا ما لم يأذن به الله، ولا عيد في الإسلام إلا العيدان ويوم الجمعة، وما سواها فبدعة، وكل بدعة ضلالة.
إننا ـ نحن المسلمين ـ لا يربطنا بعيسى عليه السلام إلا إيماننا بأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأنه لم يقتل ولم يصلب بل رفعه الله إليه، وأنه سينزل في آخر الزمان كما قال : ((والذي نفسي بيده، ليُوشِكن أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عدلاً، فيَكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرًا من الدنيا وما فيها)) أخرجه البخاري ومسلم.
الوقفة الثالثة: إن عام ألفين (2000) هو تاريخ نصراني صليبي، لا صلة له بتاريخ بقية الأمم في شرق الدنيا وغربها، وهو تاريخ لم تثبت صحته تاريخيًا حتى عند النصارى أنفسهم، إذ الواقع أن هذا التقويم قد تعرض لتغيرات كثيرة في عصور متفرقة، حيث زاد فيه ملوك الفرنجة حسب مصالحهم، وفي ضوء ذلك فإن التاريخ الذي يعتد به والذي يُقطع بصحته هو تاريخ هجرة نبينا محمد ، وهو التقويم الذي يجب الأخذ به واتخاذه تاريخًا لسائر المعاملات.
الوقفة الرابعة: إن كان الأحبار والرهبان يعتقدون بحدوث المصائب والنكبات في عام ألفين (2000) فهو عام شر وبلاء في معتقدات اليهود والنصارى، وهو عامٌ خاص في معتقداتهم، فهم المعنيون به.
ولكن في الإسلام تعد العدة بالعمل الصالح والحسنات وطيب القول، استعدادًا ليوم مخيف على الكافرين وغيرهم إلا من آمن واتقى، فيقول تعالى مخاطبًا جميع الناس دون تحديد بعامٍ خاص، ولكن بيوم حقيقي يعلمه الجميع، إنه يوم القيامة الذي يقول عنه سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?تَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ ?لسَّاعَةِ شَىْء عَظِيمٌ [الحج:1]، فهل تنبه الناس إلى ذلك اليوم ذي الأمر العظيم والخطب الجليل والطارق المفظع المفزع والحادث الهائل؟! ذلك اليوم الذي تنسى فيه الأمهات ولدها ممن أرضعت وحملت، ذلك اليوم الذي تبدل الأرض غير الأرض والسماوات، وبرزوا لله الواحد القهار، ذلك اليوم الذي تتعطل فيه ألسنة الناس عن الكلام، وتشخص أبصارهم، وتشهد عليهم جوارحهم، ينطقها الذي أنطق كل شيء، وليس تعطل الأجهزة الدنيوية ذا أثر كتعطل ألسنة الناس وشخوص أبصارهم في ذلك اليوم الشديد وليس من يصلحه.
الوقفة الخامسة: إذا كان الناس سيحتفلون بالألفية الثالثة عند دخولها فإننا ـ نحن المسلمين ـ نفخر ونعتز بأننا سنكون في ذلك الوقت بعون الله قائمين بين يدي الرحمن، مالك الملك والأزمان خالق الإنسان، سنكون صائمين نهار أول يوم في الألفية في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، مستقبلين ليلة الخامس والعشرين من ليالي الوتر، مؤملين أن تكون ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، سنكون ـ نحن المسلمين ـ ما بين راكعين وساجدين وعاكفين، فهل يستوي الأعمى والبصير؟! أم هل تستوي الظلمات والنور والظل والحرور؟! وهل يستوي الأحياء والأموات؟! أفنجل المسلمين كالمجرمين؟! والحمد لله أن جعلنا مسلمين موحدين.
الوقفة السادسة: يستغل النصارى هذه المناسبة للدعوة لما يسمونه زَمالة الأديان أو التقارب بين الأديان والمسيحية، ويراد من هذا التقريب والزمالة المزعومة إضاعة تميّز المسلم وانصهار شخصيته في تيار هذه الدعوة المشبوهة. وقد انطلت هذه المؤامرة على ضعفاء الإيمان والمسلمين، ودعوا إلى مثل هذه الدعوى متناسين ومتجاهلين أمثال قوله تعالى: لَّقَدْ كَفَرَ ?لَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ?للَّهَ ثَـ?لِثُ ثَلَـ?ثَةٍ [المائدة:73]، وقوله: وَقَالَتِ ?لْيَهُودُ عُزَيْرٌ ?بْنُ ?للَّهِ الآية [التوبة:30]، وقوله: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء، واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنهما يختلطان على بعض المسلمين الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصريحة فيه، فهم يخلطون بين دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة، ناسين ما يقرره القرآن من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعة المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، ولن يرضُوا عن المسلم إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
وسذاجة أي سذاجة وغفلة أية غفلة أن نظن أن لنا وإياهم طريقًا واحدًا نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار والملحدين، فهم مع الكفار والملحدين إذا كانت المعركة ضد المسلمين.
كيف ننسى أن أهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للكفار: هَؤُلاء أَهْدَى? مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَبِيلاً [النساء:51]، وهم الذين ألّبوا المشركين على المسلمين في المدينة، وكانوا لهم درعًا وردءًا، وهم الذين شنوا الحرب الصليبية خلال مائتي عام، وقتلوا آلاف المسلمين في المسجد الأقصى، حتى سالت ميازب المسجد دمًا، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم، والنصارى هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان؟! كيف ننسى ما فعله النصارى في البوسنة وكوسوفا، وأخيرًا ما يفعله نصارى الروس في الشيشان؟!
إن الدين الذي نزل على رسول الله هو الدين عند الله، والتسامح مع النصارى يكون في المعاملات الشخصية لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي، أما دعاة التقريب بين الإسلام والمسيحية فإنهم يحاولون تمييع اليقين الجازم في نفس المسلم الذي يقرر أن الله لا يقبل دينًا إلا الإسلام، وأن على المسلم أن يحقق منهج الله الممثل في الإسلام، ولا يقبل دونه بديلاً ولا يقبل فيه تعديلاً ولو طفيفًا. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85].
إن المبدأ الذي يجب الإيمان به هو أن الكفر ملة واحدة، وأنه لا مجال للتقريب بين الإسلام وغيره من الديانات، فلا تستوي الظلمات والنور، وكتاب الله يقرر أن النصارى لن يألوا جهدًا في إلحاق الضرر بالمسلمين: وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
وكلّ العداوات قد ترجَى مودَّتُها إلا عداوة من عاداك في الدين
وستبقى أفعال النصارى في إخواننا المسلمين جرحًا غائرًا في قلوبنا، لن يندمل على مرور التاريخ والأيام، ليذكرنا أنه لا ولاء إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن العداوة كل العداوة والبغض كل البغض لحزب الشيطان من اليهود والنصارى، عداوة لن يمحوها من صدورنا الدعوات المضللة ولا الدعايات المغرضة، عداوة لن تضعفها مؤتمرات السلام، ولا مرور ألفين من الأعوام، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.
أما بعد: أخي المسلم، إذا تقرر هذا وعلمت أن دين الإسلام هو الحق وأن ما سواه باطل فاعلم أنه لا يجوز حضور احتفالات اليهود والنصارى ولا تهنئتهم بها، قال الإمام ابن القيم: "أما تهنئتهم بشعائر الكفر المختصة بهم فحرام بالاتفاق، وذلك كأن يهنئهم بأعيادهم فيقول: عيدك مبارك، أو تهنأ بهذا العيد، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزله أن يهنئه بسجوده للصليب، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر، فقد تعرض لمقت الله وسخطه. ويدخل في هذا أيضًا تعظيمهم ومخاطبتهم بالسيد والمولى، وذلك حرام قطعًا، ففي الحديث: ((لا تقولوا للمنافق: سيد، فإنه إن يك سيدًا فقد أسخطتم ربكم عز وجل))" انتهى كلامه رحمه الله.
أيها المسلمون، ولأن هذه المناسبة النصرانية قد ينخدع بها بعض البسطاء من المسلمين، فيشاركون في فعالياتها واحتفالاتها، أو يهنئون النصارى بمناسبتها، لذا فقد صدر عن اللجنة الدائمة للإفتاء بيان يحذر المسلمين من الانجراف وراء هذه الدعوة الضالة، ويوضح أن هذه المناسبة لا تخلو من لبس الحق بالباطل والدعوة إلى الكفر والضلال والإباحية والإلحاد وظهور ما هو منكر شرعًا، فضلاً عن كون هذه الاحتفالات وسيلة من وسائل تغريب المسلمين عن دينهم. وتضمن البيان التحذير من مشابهة الكفار فيما هو من خصائصهم، ومن ذلك مشابهتهم في أعيادهم واحتفالاتهم بها.
وذكر البيان الآثار الناتجة عن مشاركة الكفار في أعيادهم، ومنها أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم وانشراح صدورهم بما هم عليه من الباطل، وأن المشابهة في الأمور الظاهرة توجب المشابهة في الأمور الباطنة، وأن مشابهة الكفار في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن.
وبناء على ذلك ترى اللجنة أنه لا يجوز لمسلم يؤمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا ورسولاً أن يقيم احتفالات لأعياد لا أصل لها في دين الإسلام، ولا يجوز حضورها ولا المشاركة فيها ولا الإعانة عليها بأي شيء كان؛ لأنها إثم ومجاوزة لحدود الله. ولا يجوز لمسلم التعاون مع الكفار بأي وجه من وجوه التعاون في أعيادهم، ومن ذلك إشهار أعيادهم وإعلانها ولا الدعوة إليها بأي وسيلة كانت.
ولا يجوز لمسلم اعتبار أعياد الكفار ـ ومنها الألفية ونحوها ـ مناسبات سعيدة وأوقاتًا مباركة، فتعطل فيها الأعمال وتجرى فيها عقود الزواج أو ابتداء الأعمال، ونحو ذلك نوع من الرضا بما هم عليه من الباطل وإدخال للسرور عليهم.
وخلصت اللجنة إلى أنه شرف للمسلمين التزامهم بتاريخ هجرة نبيهم محمد الذي أجمع عليه الصحابة وأرَّخوا به بدون احتفال، وتوارثه المسلمون من بعدهم، فلا يجوز للمسلم التولي عن التاريخ الهجري والأخذ بغيره من تواريخ أمم الأرض.
وأوصت اللجنة كل مسلم بالاجتهاد في تحقيق العلم والإيمان، واتخاذ الله هاديًا ونصيرًا ووليًّا، فإنه نعم المولى ونعم النصير.
أخي المسلم، احذر أن تكون بوقًا للنصارى من حيث لا تشعر، وسل عن كل شعار أو علاقة أو إشارة يستخدمونها، ولا تقلدهم فيها، فكثيرًا ما يرمزون بذلك إلى معانٍ دينية عندهم، فإن لزوم الصراط المستقيم يتقضي مخالفة أصحاب الجحيم.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
هذا، وصلوا وسلموا على خير خلق الله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه...
(1/3981)
اعقلها وتوكل
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
محمد بن عبد الجواد الصاوي
جدة
جامع الراجحي الجديد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى التوكل. 2- أثر التوكل في نفس المؤمن. 3- التوكل الحق قرين الجهد والعمل. 4- عوائق التوكل وموانعه. 5- الفرق بين التوكل والتواكل. 6- ثمرة التوكل على الله عز وجل. 7- صور من توكل الأنبياء على الله عز وجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه.
أيها المسلمون، يطالعنا الإعلام هذه الأيام بكلمة تتردد كثيرًا على الأسماع، كلمة عاش الكثير من الناس مبناها دون معناها، فُهمت على غير مرادها كثيرًا، وكثيرًا ما فهمت ولم يعمل بها.
روى الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي ومعه ناقته فقال: أعقلها وأتوكل، أم أتركها وأتوكل؟ قال النبي : ((اعقلها وتوكل)).
أيها الإخوة، لقد رجعت أحوال كثير من المسلمين إلى التخلف والضعف؛ لأنهم لم يعيشوا مع أوامر النبي قلبًا وقالبًا، وإنما عاشوها كلمات مجردة ولم يقيموها في حياتهم.
إن التوكل ـ أيها الفضلاء ـ ليس مَدعاة أبدًا للكسل والخور والضعف، أو أنه مدعاة للتهوُّر والطيش، بل التوكل مدرسة عظيمة تربي المسلم على الصلة الحقيقية والمستمرة بالله عز وجل.
أيها الأخ المبارك، لقد أوتي النبي جوامع الكلم، فرسم لهذا الرجل الذي جاءه يريد أن يترك الأسباب ويتوكل، رسم له الطريق واضحًا له وللأمة من بعده بكلمتين يسيرتين، بل كلمتين عظيمتين: ((اعقلها وتوكل)).
((اعقلها وتوكل)) ، قال ابن عباس: (التوكل هو الثقة بالله). وصدق، التوكل أن تثق في الله وفيما عند الله، فإنه أعظم وأبقى مما لديك في دنياك. وقال الحسن: "إن من توكل العبد أن يكون الله هو ثقته". وقال الإمام أحمد: "هو قطع الاستشراف بالإياس من الخلق".
((اعقلها وتوكل)) ، يقول ابن مسعود: (إن من ضعف اليقين أن تُرضي الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تطعمهم ما لم يؤتك الله. إن رزق الله لا يَجُرّه حِرْصُ حريص، ولا ترده كراهية كاره، وإن الله بقسطه وعدله جعل الروح والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط).
((اعقلها وتوكل)) ، روى الترمذي وابن ماجه والحاكم في مستدركه عن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله يقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خِماصًا وتروح بطانًا)).
((اعقلها وتوكل)) ؛ لأن التوكل هو حال المؤمن القوي الذي يجب أن يكون وثيق العزم مجتمع النية على إدراك هدفه بالوسائل الصحيحة التي تقربه إلى الله، وباذلاً قصارى جهده في بلوغ مَأْربه، ليس بالتفريط المعيب والتخاذل الذميم. عن عوف بن مالك قال: قضى رسول الله بين رجلين، فلما أدبرا قال المقضي عليه: حسبي الله ونعم والوكيل، فقال : ((إن الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكَيْس ـ العقل والفطانة ـ فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل)) رواه أبو داود وضعفه الألباني.
إذًا فالمرء إذا غُلب على أمره في أي مشكلة من أي نوع فإنه بعد استفراغ جهده يكون ركونه إلى الله عندئذ معاذا يعتصم به من غوائل الانكسار، فهو على الحالين قوي: بعمله أولاً، وبتوكله ثانيًا.
أيها الإخوة المؤمنون، التوكل على الله شعور ويقين بعظمة الله وربوبيته وهيمنته على الحياة والوجود والأفلاك والأكوان، فكل ذلك محكوم بحوله وقوته سبحانه.
((اعقلها وتوكل)) ؛ فالتوكل قطع القلب عن العلائق، ورفض التعلق بالخلائق، وإعلان الافتقار إلى محول الأحوال ومقدر الأقدار لا إله إلا هو. إنه صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة، فلا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا ينفع ذا الجَد منه الجد.
((اعقلها وتوكل)) ؛ لأن التوكل صدق وإيمان وسكينة واطمئنان، ثقة بالله وفي الله، وأمل يصحب العمل، وعزيمة لا ينطفئ وهجها مهما ترادفت المتاعب.
بالتوكل تُرفع كَبوات البؤس، وتُزجر نزوات الطمع، فلا يكبح شَرَهَ الأغنياء ولا يرفع ذلَّ الفقراء سوى التوكل الصادق على الحي الذي لا يموت، يقول سعيد بن جبير رحمه الله: "التوكل على الله جماع الإيمان".
المتوكل على الله ذو يقظة فكرية عالية ونفس مؤمنة موقنة، قال بعض الصالحين: "متى رضيت بالله وكيلاً وجدت إلى كل خير سبيلاً"، وقال بعض السلف: "بحسبك من التوسل إليه أن يعلم قلبك حُسن توكلك عليه".
التوكل الذي يَقْوى الإنسان به ضرب من الثقة بالله، ينعش الإنسان عندما تكتنفه ظروف محرجة، ويلتفت حوله فلا يرى عونًا ولا أملاً.
التوكل غذاء الكفاح الطويل الذي قاوم به النبيون وأتباعهم ودعاة دينهم مظالم الطغاة وبغي المستبدين، كما بيّنه الله تبارك وتعالى: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى ?للَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى? مَا اذَيْتُمُونَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُتَوَكّلُونَ [إبراهيم:12].
((اعقلها وتوكل))؛ فالتوكل الحق قرين الجهد المضيء والإرادة المصممة، وليس العجز والكسل، ولم يتحول معنى التوكل من القوة والحزم إلى الضعف والتواكل إلا في العصور التي ضعف فيها الدين وأصبح بين أتباعه لهوًا ولعبًا.
أيها المؤمنون، إن أول بواعث التوكل ومصادره توحيد الله وإفراده بالعبادة، فالرب المعبود سبحانه له الأسماء الحسنى والصفات العلى: وَتَوكَّلْ عَلَى ?لْعَزِيزِ ?لرَّحِيمِ ?لَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى ?لسَّـ?جِدِينَ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الشعراء:217-220].
والتوكل أجمع أنواع العبادات وأعلى مقامات التوحيد وأعظمها وأجلها، وما ذلك إلا لما ينشأ عنه من الأعمال الصالحة والرضا العميق واليقين الثابت، ولقد جاء الأمر به في كتاب الله في أوجه مختلفة وسياقات متعددة، بل لقد جعله شرطا للإسلام والإيمان، يقول سبحانه وتعالى: إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بِ?للَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ [يونس:84]. قال أهل العلم: "فدل ذلك على انتفاء الإسلام وكذلك الإيمان بانتفاء التوكل"، ويقول لنبيه محمد : وَتَوَكَّلْ عَلَى? ?للَّهِ وَكَفَى? بِ?للَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب:3]، ويقول له ولصحابته رضوان الله عليهم: ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?نًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ [آل عمران:173]، ويقول جل وعلا في جزاء المتوكلين: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ?للَّهَ بَـ?لِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ?للَّهُ لِكُلّ شَىْء قَدْرًا [الطلاق:3].
هذا هو التوكل في حقيقته وأثره، وما كان أبدًا تواكلاً ولا اتكالية، وما كان ضياعًا ولا إهمالاً للسنن والأسباب.
أيها الفضلاء، إن تحقيق التوكل لا ينافي العمل والأخذ بالأسباب البينة، فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة لله، والتوكل على الله بالغيب إيمان بالله، فالمتوكلون في كتاب الله هم العاملون، وإمام المتوكلين نبينا محمد رأينا في سيرته الأخذ بالأسباب، فقد اختفى في الغار عن الكفار، وظاهَرَ في بعض غزواته بين درعين، وتعاطى الدواء، وقال: ((من يحرسنا الليلة؟)) ، وأمر بغلق الباب وإطفاء النار عند المبيت، وقال لصاحب الناقة: ((اعقلها وتوكل))، وقال سبحانه وتعالى لنبيه لوط عليه السلام: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ ?لَّيْلِ [هود:81]، ونادى أهل الإيمان: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ [النساء:71].
((اعقلها وتوكل))؛ فليس التوكل بإهمال العواقب واطراح التحفظ، بل ذلك عند العقلاء والعلماء عجز وتفريط، يستحق صاحبه التوبيخ والاستهجان. لقد جاء أمر الله بالتوكل بعد التحرر واستفراغ الوسع حين قال سبحانه: وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159]، المؤمن هو من يجمع بين فعل الأسباب والاعتصام بالتوكل، فلا يجعل عجزه توكلاً، ولا توكله عجزًا، إن تعسر عليه شيء فبتقدير الله، وإن تيسر له كل شيء فبتيسير الله.
المسلم المتوكل يخرج من بيته متوجهًا إلى عمله ومهنته، تَزْدلف قدمه من عتبة بابه وهو يقول: "باسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أزلَّ أو أُزَلّ، أو أَضل أو أُضَل، أو أَظلم أو أُظلم، أو أَجهل أو يجهل علي".
أيها الفاضل، ثمة موطن من مواطن العمل، لا يكون على وجهه ولا تتحقق غايته إلا حينما يكون التوكل لله عموده. إنه موطن الصبر والثبات على المواقف وعدم التنازل عنها، وهو الذي يحمل عبأه أنبياء الله عليهم السلام ومن اقتفى أثرهم من أهل العلم والدعوة والإيمان والصلاح والإصلاح، فهم حين يتعرضون لمخاوف مزعجة لا يثبتون على الروع والغبن إلا لأملهم في الله واستنادهم عليه، لا يثبتون إلا بالتوكل الذي ينير أمامهم ظلمات حاضرهم، ويعينهم على مواجهة الأخطار بعزم وثقة واطمئنان، وما نراه من صبر وثقة بالله لدى بعضهم أمرٌ قد يستغربه الضعفاء الواهنون ويستنكرونه، ولذلك حين قال موسى وهارون عليهما السلام بعد أمر الله لهما بدعوة فرعون: رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى? [طه:45]، أجابهما جل وعلا: قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? [طه:46]. إنه الشعور الكبير والعميق برعاية الله وعنايته؛ ذلكم هو المؤنس في الموحشات والمشجع في الرهبات.
((اعقلها وتوكل))؛ وَقَالَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا [إبراهيم:13]، هذه المقولة التي تتردد عبر التاريخ من أعداء الدين في كل زمان ومكان، وقد جاء الجواب على لسان خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام بقوله تعالى: قَدِ ?فْتَرَيْنَا عَلَى ?للَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا ?للَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء ?للَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا عَلَى ?للَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا ?فْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِ?لْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ ?لْفَـ?تِحِينَ [الأعراف:89]. هذا هو المجد الشامخ، والذي لا يناله إلا نفر من المؤمنين المتوكلين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ هُوَ ?لرَّحْمَـ?نُ ءامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الملك:29].
اللهم بك آمنا، وعليك توكلنا، وإليك أنبنا، فاغفر لنا وارحمنا وأنت أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
المسلمون، من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف كان توكله أصح وأقوى، ومن لم يكن كذلك فهو يظن من ضلاله أن حظوظًا عمياء هي التي تقرر مصائر الحياة والأحياء.
إن المقطوعين عن الله هم عبيد الحظوظ الشاردة والأسباب المبتورة. إن التوكل على الله لا يعرفه العاطلون البطالون، لا يعرفه ضعيف التوكل الذي لا هو عند الوجود يشكر ربه، ولا هو عند العدم يرضى حالته، وهذا من الجهل بالله وصفاته وضعف الإيمان بوعده ووعيده، فلن يتوقع أحد الخذلان والضياع وهو مرتبط بربه معتمد عليه، والله يقول: أَلَيْسَ ?للَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوّفُونَكَ بِ?لَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ ?للَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ أَلَيْسَ ?للَّهُ بِعَزِيزٍ ذِى ?نتِقَامٍ [الزمر:36، 37]، ويقول جل وعلا: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَإِنَّ ?للَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:49].
أيها الإخوة، إن المتأمل في حال كثير من الناس اليوم يرى ضعفًا وخورًا وتباينًا كبيرًا في كل شيء، انظر إلى حال أقوام قعدوا عن العمل، ولم يبذلوا سببًا واحدًا، ظنًا منهم أن ذلك من التوكل، وما هو كذلك.
وانظر إلى من انغمسوا في الأسباب المادية وفي الدنيا بزخرفها وبهرجها، ولم يعد الواحد منهم يفكر في ربه وقضائه وقدره، لقد سيطر الهم على أقوام، وأطاح الكرب بآخرين، لم يعرفوا حقيقة معنى التوكل على الله عز وجل.
ألا وإن للتوكل عوائق يجب أن يتنبه لها العاقل حتى لا تطيح به وبواقعه الذي يعيش، ومن تلك العوائق الجهل بمقام الله من ربوبية وأُلوهية وأسماء وصفات، ومنها كذلك الغرور والإعجاب بالنفس، ومنها الرُّكون للخلق والاعتماد عليهم في قضاء الحاجات، وكذلك حب الدنيا والاغترار بها، مما يحول بين العبد والتوكل؛ لأنه عبادة لا تصح مع جعل العبد نفسه عبدًا للدنيا.
((اعقلها وتوكل))، فرق ـ أيها الإخوة ـ بين التوكل والتواكل؛ لأن التواكل هو ترك الكسب والطمع في المخلوقين والاعتماد عليهم بالتخلي عن الأسباب التي وضعها الله عز وجل والانقطاع عن السعي والتقاعد عن العمل وانتظار النتائج من الخلق أو القدر، أو الاتكال على الله أن يخرق له العوائد. والتواكل خِسة هِمة وعدم مروءة؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتُّب المسببات على الأسباب. ولقد حارب الإسلام التواكل وحذر منه، وهو حرام ليس من الشرع أصلاً، وهو مخالف للدين الحنيف. فها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى قومًا جالسين في ركن من المسجد بعد صلاة الجمعة , فيسألهم : من أنتم؟ فيقولون : نحن المتوكّلون على الله , فيضربهم بدِرته , وينهرهم , ويطلب منهم السعي في سبيل الله، وأن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، مذكرًا إياهم بقوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ ?لصَّلَو?ةُ فَ?نتَشِرُواْ فِى ?لأَرْضِ وَ?بْتَغُواْ مِن فَضْلِ ?للَّهِ [الجمعة:10].
والتوكل صدقٌ وإيمانٌ وسكينةٌ واطمئنان، ثقةٌ بالله في الله، وأملٌ يصحب العمل، وعزيمةٌ لا ينطفئ وهجُها مهما ترادفت المتاعب.
المتوكل على الله ذو يقظةٍ فكريةٍ عاليةٍ ونفسٍ مؤمنةٍ موقنةٍ.
توكل على الرحْمن فِي الأمر كله ولا ترغبن في العجز يومًا عن الطلب
ألَم تر أنَّ الله قال لِمريَمَ: وهُزِّي إليك الجذع يسَّاقط الرطب؟!
ولو شاء أن تَجنيه من غير هزّة ولكن كلّ شيء له سبب
أيها الفضلاء، وثمرة التوكل هنا أن المتوكل على الله حين يُقدِّم من الأسباب التي أُمِرَ بها ما يقدر عليه ويَدْخُل في وسعه تُكمل له القدرة الإلهية العليا ما يعجز عنه ولا يدخل في وسعه.
انظر إلى موسى عليه السلام وقد أوحى الله إليه: فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ [الدخان:23]، فخرج بقومه في جنح الليل، فارين من فرعون وملئه، متجهين ناحية البحر، وشعر فرعون وجنوده بخروجهم، فأتبعوهم مشرقين، يريدون أن يفتكوا بهم، فهم يملكون العَدد والعُدد مع الغيظ والغضب: إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَـ?ذِرُونَ [الشعراء:54-56]، فَلَمَّا تَرَاءا ?لْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـ?بُ مُوسَى? إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:61، 62].
لقد نظر أصحاب موسى إلى الأسباب وحدها فقالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ، سيدركنا فرعون وجنوده، وينكّلون بنا، ولا طاقة لنا بهم، ولا نجاة لنا منهم، فالبحر أمامنا وهم من خلفنا، ولكن كليم الله موسى لم يقف عند ظواهر الأسباب، بل نظر ببصيرته إلى ما هو أعلى منها، إلى خالق الأسباب وواضع السُنن ومدبر الأمر كله.
لقد فعل موسى ما أُمِرَ به وما قدر عليه، وبقي ما لا يقدر عليه، ولا حيلة له فيه، ولكنه كان موقنًا أن الله معه، ولن يتخلى عنه، وسيهديه إلى حلّ ينقذه ومن معه، لا يعرف ما هو، إلا أنه مستيقن من وقوعه. وكيف لا وقد قال الله له منذ أرسله وأخاه هارون إلى فرعون: لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى? [طه:46]؟! لا عجب أن قال موسى بكل اطمئنان: كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62].
وقد هداه الله إلى المخرج من المأزق بأمر لم يكن في حسبانه ولا في حسبان أحد: فَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى أَنِ ?ضْرِب بّعَصَاكَ ?لْبَحْرَ فَ?نفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَ?لطَّوْدِ ?لْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ ?لاْخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى? وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا ?لاْخَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لايَةً [الشعراء:63-67]. هذه هي ثمرة التوكل إذا انقطعت الأسباب.
وانظر إلى محمد يوم الهجرة، كيف أخذ بكل الأسباب الممكنة للبشر، خطَّط فأحكم التخطيط، ورتب فأحسن الترتيب، وأعدَّ لكل أمر عُدته المناسبة، هيأ من يبيت في فراشه علي بن أبي طالب، ومن يرافقه في رحلته أبا بكر الصِّدِّيق، ومن يدله على الطريق عبد الله بن أُرَيْقِط، واختار الغار الذي يختفي فيه أيامًا حتى يهدأ الطلب عنه غارَ ثور، ولم يختره ناحية يثرب تعمية على القوم، وهيأ من يأتي له بالزاد والأخبار أسماء بنتَ أبي بكر، ومن يُعفي على آثارها بغنمه بعد رجوعها عامر بن فُهَيْرَة.
ومع هذا كله استطاع القوم أن يصلوا إلى الغار، وأن يتوقفوا عنده، وهو ما جعل أبا بكر رضي الله عنه يقول مشفقًا على مصير الدعوة إن مسَّ رسول الله سوء: يا رسول الله؛ لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا! فيرد عليه النبي قائلاً: ((يا أبا بكر؛ ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)) وقال الله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
لقد فعل الرسول الكريم ما قدر عليه، وبقي ما لم يقدر عليه، فتركه لربه وراعيه، يدبره بما يشاء من الأسباب الخفية، أو بغير الأسباب أصلاً إن شاء، فَأَنزَلَ ?للَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لسُّفْلَى? وَكَلِمَةُ ?للَّهِ هِىَ ?لْعُلْيَا وَ?للَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
لقد كان الزمن الذي بين الكليم موسى والحبيب محمد عليهما الصلاة والسلام زمنًا طويلاً امتد قرونًا، ولكنّ الموقفين متشابهان، وتكاد العبارات تتفق بينهما؛ عبارة موسى عليه السلام: إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، وعبارة محمد عليه السلام: إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا ، ولا غرو فهما يصدران من مشكاة واحدة.
بَيْد أن الله أنجى موسى بآية حِسِّية منظورة هي العصا، وأيَّد محمدًا بجنود غير مرئية، نظرًا لأنّ الآيات التي أيَّد الله بها موسى عليه السلام كانت مادية حِسِّية ملائمة لتلك المرحلة في أطوار البشرية، والآية الكبرى التي أيَّد بها محمدًا عليه السلام صاحب الرسالة الخاتمة كانت آية معنوية أدبية هي القرآن الكريم.
وفي غزوة بدر خرج النبي لملاقاة المشركين، وإن كانوا أكثر عددًا وأكثر عُدةً وأعظم غرورًا، ولكن ذلك لم يضعف من عزمه، وفعل ما أمكنه فعله من إحكام وتدبير بعد الاستشارة والاستنارة، ثم ترك ما بعد ذلك لصاحب الأمر سبحانه، فأيدهم بألفٍ من الملائكة مُردفين، وغشاهم النعاس أمنة منه، ونزَّل عليهم من السماء ماءً ليطهرهم به وليربط على قلوبهم، ويثبت به الأقدام، ونصرهم الله ببدر وهم أذلة: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ رَمَى? [الأنفال:17].
وفي غزوة الأحزاب تجمع المشركون لغزو المسلمين في عقر دارهم: إِذْ جَاءوكُمْ مّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ ?لاْبْصَـ?رُ وَبَلَغَتِ ?لْقُلُوبُ ?لْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِ?للَّهِ ?لظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ?بْتُلِىَ ?لْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11].
لقد حفر الرسول الخندق حول المدينة لتعويق المغِيرِين، وبات هو وأصحابه لياليَ عدة في كرب شديد، ونقض يهود بني قريظة العهد، ووقفوا في صف المهاجمين، وهنا لم يكن أمام الرسول والمؤمنين إلا التوكل على ربهم والاستغاثة به: ((اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم)) رواه البخاري.
وها هي ثمرة التوكل تجيء: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا [الأحزاب:9]، وَرَدَّ ?للَّهُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْرًا وَكَفَى ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ ?لْقِتَالَ وَكَانَ ?للَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا [الأحزاب:25].
كذا فلنعتبر, ولنتأمل في كتاب ربنا وسنة نبيه ، ولْنسر في هذه الحياة متوكلين على الله مستعينين به في الأمر كله.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأجملوا في الطلب، وتوكلوا على الله، فإن الله يحب المتوكلين.
وصلوا وسلموا ـ يا عباد الله ـ على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
(1/3982)
أشراط الساعة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أشراط الساعة, الفتن
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
29/2/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة الدنيا. 2- الإيمان بالساعة وأشراطها. 3- أركان الإيمان. 4- علم الساعة من الغيب الذي استأثر الله به. 5- جملة من أشراط الساعة الصغرى. 6- علامات الساعة الكبرى. 7- عظم فتنة المسيح الدجال. 8- ضرورة التحصن من الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة في الدين بِدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله مع الجماعة.
وبعد: أيّها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعلموا أنّكم إليه راجعون، وبأعمَالكم مجزيّون، فلا تغرنّكم الحياة الدنيا، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:39، 40].
فسمّى الله تعالى الدنيا متاعًا، والمتاعُ هو ما يتمتَّع به صاحبُه برهةً ثم ينقطع عنه كمتاع المسافر، فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]. وما عيبَت الدنيا بأكثرَ مِن ذكر فنائِها وتقلُّب أحوالها، وهو أدلّ دليلٍ على زوالها، فتتبدَّل صحّةُ الإنسان فيها بالسّقَم، ونعيمُه بالبؤس، وحياته بالموتِ، ويؤول عمارُها للخراب، واجتماعُ أهلها للفُرقة، وما فوق التراب تراب. قد كتب الله عليها الفناءَ كما كتبَ للآخرة البقاءَ، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]، وهذا الموت الذي يفزَع منه الناس ليس فناءً أبديًّا، بل هو انتقالٌ إلى دارٍ أخرى، دارِ الجزاء والحسابِ، وذلك بعد قيام الساعة، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15]، فالساعة حقٌّ، ووقتها غيبٌ، وخفاؤها لحِكمة، والجزاء حقّ، فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16].
أيّها المسلمون، الإيمانُ بالسّاعة وأشراطها وبالبعثِ والجزاء والجنةِ والنار وجميع ما أخبر الله به من أحوالِ الآخرة وما بعد الموتِ كلُّه من الإيمان باليومِ الآخر الذي هو ركنٌ من أركان الإيمان، قال الحقّ سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:136]، وفي صحيح مسلم عن عمرَ بنِ الخطّاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوسٌ عند رسول الله ذات يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديدُ بياضِ الثياب.. إلى أن قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: ((أن تؤمنَ بالله وملائكته وكتبِه ورسلِه واليوم الآخر وتؤمنَ بالقدر خيره وشره)) ، ثم سأله عن الساعة وأمراتها، وأخبر النبيّ : ((إنّ هذا جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم)) [1] ، وفي الصحيحَين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: كان رسولُ الله يومًا بارِزًا للناس، فأتاه رجل فقال: يا رسول الله، ما الإيمان؟ قال: ((أن تؤمنَ بالله وملائكتِه وكتابِه ولقائه ورسُله وتؤمنَ بالبَعث الآخر)) الحديث [2].
أيّها المسلمون، هذه الأمور السِّتّة هي أركان الإيمان، وهي الأصول بعِثَ بها رسُل الله عليهم الصلاة والسلام، ونزلت بها الكتُب السماويّة، ولا يتِمّ إيمان أحدٍ إلاّ إذا آمن بها جميعًا على الوجهِ الذي دلّ عليه الكتاب والسنة. وما يتعلَّق بأمور الآخرةِ غيبٌ لا يعلم حقيقتَه إلا الله سبحانه، وقد أخبر جلّ في علاه عن ذلك بأخبارٍ لا يتمّ الإيمان إلا بتصديقها، قال الله عز وجل: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:1-3]، قال ابن رجب رحمه الله: "فالإيمانُ القائِم بالقلوبِ أصلُ كلِّ خيرٍ، وبه يحصل سعادةُ الدنيا والآخرة والنجاةُ من شقاوتهما، ومتى رسخ الإيمان في القلبِ انبعثتِ الجوارح كلُّها بالأعمال الصالحة كما قال النبيّ : ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلَحت صلَح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسَد الجسد كله، ألا وهي القلب)) رواه البخاري ومسلم [3] ".
عبادَ الله، إنَّ الإيمانَ بالساعة وبأشراطِها وعلامتها السّابقة لها من الإيمان بالغيبِ، وهو مطلَب من مطالِب الإيمان باليوم الآخر الذي هو ركنٌ من أركان الإيمان، وقد استأثَر الله تعالى بعلم الساعة، يَسْأَلُونَكَ عَنْ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الأعراف:187]. ومِن رحمةِ الله تعالى بعباده أن أخبرَ ببَعض علامات قُربِ وقوعها وما يسبِقها من الفتَنِ، ونبَّه النبيّ أمّتَه وحذَّرهم ليتأهَّبوا لها.
أيّها المسلمون، إنَّ الساعةَ قريب، وقد ثبَت في الصحيح أنّ النبيَّ قال: ((بعِثتُ أنا والساعة كهاتين)) وقرن بين السبابة والوسطى [4]. فبِعثتُه مِن أوّل العلامات.
ومِن العلامات ما هو جارٍ وقوعُه، أو قد وقَع، ومنه ما لم يقع وهو آتٍ لا محالة.
ومما وردَ في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ قال: ((لا تقوم الساعة حتى تقتَتِل فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلةٌ عظيمة دعوتهما واحدة، وحتى يُبعَث دجّالون كذّابون قريبٌ من ثلاثين كلُّهم يزعم أنّه رسول الله، وحتى يقبَضَ العلم وتكثرَ الزلازل ويتقارَبُ الزّمان وتظهرَ الفتن ويكثرَ الهرج وهو القتل، وحتى يكثرَ فيكم المال فيفيض حتى يهمّ ربّ المال من يقبَل صدقتَه، وحتى يعرضه عليه فيقول الذي يعرِضه عليه: لا أَربَ لي به، وحتى يتطاول الناس في النبيانِ، وحتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانَه، وحتى تطلعَ الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورءَاها الناس يعني آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنَت من قبل أو كسَبَت في إيمانها خيرًا، ولتقومنَّ الساعة ولقد نشَر الرجلان ثوبهما بينَهما فلا يتبايَعانِه ولا يطوِيانِه، ولتقومنَّ الساعة وقد انصَرف الرجل بلَبَن لِقحَتِه فلا يطعَمُه، ولتقومنَّ الساعة وهو يليطُ حوضَه فلا يسقي فيه، ولتقومَنَّ الساعةُ وقد رفَع أكلتَه إلى فيه فلا يطعمُها)) رواه البخاري وروى مسلم بعضًا منه [5].
وعن عوف بن مالكٍ الأشجعيّ رضي الله عنه قال: أتيتُ النبيَّ في غزوةِ تبوك وهو في قُبّةٍ من أدم فقال: ((اعدُد ستًّا بين يدَيِ الساعة: موتي، ثم فتحُ بيت المقدس، ثم موتان يأخذُ فيكم كقُعاص الغَنَم، ثمّ استفاضة المال حتى يعطَى الرجل مائة دينار فيظلّ ساخطًا، ثم فِتنة لا يبقى بيتٌ من العرَب إلاّ دخلته، ثم هُدنة تكون بينكم وبين بني الأصفَر فيغدِرون فيأتونَكم تحت ثمانين رايَة، تحت كلِّ رايةٍ اثنا عشر ألفًا)) رواه البخاري [6].
كما ثبت في الصحيحِ أنَّ مِن علامات الساعةِ كثرةَ النساء وقِلّة الرجال وموت العلماء وضياعَ الأمانة وانتشارَ الزّنا وشرب الخمر واستِحلال المعازف، وثبَت أيضًا أنَّ النبيّ أخبر أنّ بين يدَيِ الساعة سنوات خدّاعة، يُتَّهم فيها الأمين، ويؤتَمَن فيها الخائِن، ويَنطِق فيها الرّوَيبِضة وهم الفَسَقة والسفهاءُ الذين يتكلَّمون في أمر العامّة، ويتطاول الحفاةُ العُراة العالَة رِعاء الشاءِ والغنَم في البنيان، وتَضيع الأمانةُ فتوسَد الأمور إلى غيرِ أهلِها، ويسود كلَّ قبيلة منافقوها، ويرفَع العِلم، ويقبَض العلماء، ويكثر الجَهل، ويوضَع الأخيار، ويُرفَع الأشرار ويقرَّبون، ويتباهَى الناس في المساجد، فيحسِّنون بناءَها ويضيِّعون الصلاةَ التي بنِيَت المساجد لأجلها.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسِي بيده، لا تذهب الدنيا حتى يأتي علَى الناس يومٌ لا يدري القاتلُ فيمَ قتل، ولا المقتول فيم قتِل)) ، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: ((الهرج، والقاتل والمقتولُ في النار)) رواه مسلم [7]. قال ابن حجر رحمه الله: "وفيه التحذيرُ من الفتنة والحثُّ على اجتنابِ الدخول فيها" [8].
أيّها المسلمون، وتَمَّة علامات كبرَى سريعة التتابُع، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن أسيدٍ الغفاري رضي الله عنه قال: اطَّلع علينا النبيّ ونحن نتذَاكَر، فقال: ((ما تذاكرون؟)) قالوا: نذكر الساعة، قال: ((إنها لن تقومَ حتى ترون قبلها عشرَ آيات)) ، فذكر الدخانَ والدّجال والدابّة وطلوعَ الشمس من مغربها ونزولَ عيسى ابن مريم عليه السلام ويأجوج ومأجوج وثلاثةَ خسوفٍ: خسف بالمشرق وخسف بالمغرِب وخسف بجزيرة العرب، وآخرُ ذلك نارٌ تخرج من اليمَن تطرُد الناس إلى محشرِهم. هذا لفظ مسلمٍ وبعضه في صحيح البخاري [9].
كما روى مسلِم أيضًا عن عبد الله بن عمرو قال: حفِظتُ من رسول الله حديثًا لم أنسَه بعد، سمعت رسولَ الله يقول: ((إنَّ أوّلَ الآيات خروجًا طلوعُ الشمس من مغربها، وخروج الدابّة على الناس ضحًى، وأيّهما ما كانت قبلَ صاحِبَتها فالأخرى على إثرها قريبًا)) [10].
كما أنَّ من علامات اقترابِ الوعد الحقّ ما ذكر الله سبحانه بقوله: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]، وهم أمّةٌ كثيرة مفسِدة، تسعى في هلاكِ الناس وإفسادِ الأرض.
فتوبوا إلى الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ قبل أن يفجأكم الموت أو تأتيَكم الساعة بغتةً وأنتم لا تشعُرون.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد:18، 19].
بارَك الله لي ولكُم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائِرِ المسلمين والمسلماتِ من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (8).
[2] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4777)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (9).
[3] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (52)، صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6504)، صحيح مسلم: كتاب الفتن (2951) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[5] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7121)، صحيح مسلم: كتاب الفتن (157).
[6] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3176).
[7] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2908).
[8] فتح الباري (13/31).
[9] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2901).
[10] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2941).
_________
الخطبة الثانية
_________
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:1-4]، لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70]، وأشهد أن لا إله إلا الله الملِك الحقّ المبين، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، بلّغ الرسالةَ، وأدّى الأمانة، ونصح الأمّة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، صلّى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: روَى الحاكم بسندٍ صحيح عن جابرٍ رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((ما كانَت ولا تكون فتنةٌ حتى تقومَ الساعة أعظم مِن فتنةِ الدجال، وما مِن نبيّ إلا وحذَّر قومَه الدّجال)) [1] ، وفي صحيح مسلمٍ أنّ النبيّ قال: ((ما بينَ خلقِ آدمَ إلى قيام الساعة خلقٌ أكبر من الدّجال)) [2]. ففتنَتُه أعظم الفتن بسَبَب ما يجري على يده من الخوارق العظيمة التي تفتِن ضِعافَ الإيمان ابتلاءً وامتِحانًا منَ الله تعالى، وتمييزًا للمؤمنين عن المنافقين.
وقد وصفه النبيّ وأخبر عن أحواله، وأنه قصيرٌ أفحَج أعوَر، وأنه يدخل كلَّ قرية، ويعيثُ في الأرض فسادًا إلاّ مكّةَ والمدينة، فقد ثبت في صحيح مسلمٍ وغيره أنه لا يستطيع دخولَهما، وأنَّ على كل نَقبٍ منها ملائكةً يحرسونها [3] ، كما روى الإمام أحمد بسندٍ صحيح أنَّ الدجالَ لا يدخل أربعةَ مساجد: المسجد الحرام ومسجدَ المدينة ومسجدَ الطّور والمسجدَ الأقصى [4].
وفي صحيح مسلم أن النبيَّ قال: ((يتبَع الدجالَ مِن يهود أصبهان سبعون ألفًا، عليهم الطيالسة)) [5] ، وفي صحيحِ مسلمٍ أيضًا أنَّ الدجالَ إذا عمَّت فِتنته ثبَّت الله المؤمنين حتى ينزلَ عيسى ابنُ مريم عليه السلام على المنارة الشرقيّة بدمشق، فيلتَفّ حولَه عباد الله المؤمنون، فيَسير بهم قاصِدًا المسيحَ الدجال، ويكون الدّجّال عند نزول عيسى متوجِّهًا إلى بيت المقدس، فيلحَق به عيسى عند باب لدّ، وهي بلدةٌ قربَ بيت المقدس، فيتداركه فيقتله بحربَتِه، وينهزِم أتباعه [6] ، فيتبَعهم المؤمنون فيقتُلونهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله، هذا يهوديّ خلفي تعالَ فاقتُله، إلاّ الغرقَد فإنّه من شجَرِ اليهود [7].
أيّها المسلمون، ولِعَظم هذه الفتنة أمِرنا أن نتعوَّذ في صلاتنا منها كما في صحيح مسلم [8].
عبادَ الله، ولِكثرة الفتن في آخر الزمان ولوجودها في زماننا هذا فإنَّ على المسلم أن ينتبَّهَ من الغفلة، وأن يشتدَّ خوفه وحذرُه، وأن يحرِصَ على أسباب الثباتِ على دين الله والهرب مِنَ الفتن والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء والعبادة.
فاللّهمّ يا مقلّبَ القلوب ثبِّت قلوبنا على دينك، ونعوذ بالله من عذابِ النار وعذاب القبر ومن شرِّ فِتنة المسيح الدجال ومن فتنةِ المحيا والممات.
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي، فقد أمركم الله تعالى بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأزواجه وذريته وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين...
[1] مستدرك الحاكم (64)، وهو في مسند أحمد (3/292)، والسنة لابنه (1005)، وجوّده ابن كثير في البداية والنهاية (1/127)، وهو في السلسلة الصحيحة (3081).
[2] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2946) عن عمران بن حصين رضي الله عنه..
[3] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2942) عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
[4] مسند أحمد (5/435) عن رجل من أصحاب النبي ، وأخرجه أيضا عبد الله في السنة (1016) عن أبيه، والطحاوي في شرح المشكل (14/376)، قال ابن حجر في الفتح (13/105): "رجاله ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (7/343): "رجاله رجال الصحيح".
[5] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2944) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[6] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2937) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه بمعناه.
[7] صحيح مسلم: كتاب الفتن (2922) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] صحيح مسلم: كتاب الجنائز (588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3983)
عزّ المسلمين في التأسي بالمصطفى الأمين
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, المسلمون في العالم
محمد أحمد حسين
القدس
29/2/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الاقتداء بالرسول. 2- موقف المسلمين اليوم من الاقتداء بالرسول. 3- التأسّي طريق السيادة والعزّة والتمكين. 4- منزلة بيت المقدس. 5- خطورة تملّك اليهود أراضي القدس. 6- تحذير اليهود من العبث بالمسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذّركم وإيّاي من عصيانه ومخالفة أمره؛ لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أما بعد: فيقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، هذه الآية الكريمة أصل كبير ومبدأ أعظم في التأسّي والاقتداء برسول الله في أقواله وأفعاله وأحواله، في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته، فلا مجال للعجز ولا للخوف والهَلَع في نفس من تأسّى بأحوال رسول الله وسار على سنّته. وإن خير اقتداء بالنبي وبعثته هو الاقتداء بهديه، والأخذ بسنّته، والسير على طريقته، والله يقول: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31، 32].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أين تقف الأمة اليوم من هدي النبي ؟! وهل اقتدت الأمّة وتأسّت بهذا الهدي؟! أظنه لا يختلف اثنان أن الأمة بعيدة كل البُعْد عن منهاج ربّها وهدي نبيّها، منذ أن أعرضت عن هدايات الله، واتبعت سُبُل الشيطان، وكانت تريد تنحية دستور الإسلام عن حكم الأمة، واستبدالها الذي هو أدنى بالذي هو خير، مُقلّدة في ذلك دول الغرب وأعداء الإسلام.
لقد سادت أمتكم يوم اتبعت سنة نبيكم عليه الصلاة والسلام، وسارت على هدي كتاب الله، فكانت دولة الإسلام الأولى في المدينة المنورة يقودها النبي على هدي من الله وكتابه، وتبعه الصحابة الكرام في دولة الخلافة الراشدة التي زكّاها النبي ، وأوصى من يأتي بعدهم باتباع سنتهم وانتهاج منهجهم؛ لقوله : ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، وإنه مَن يَعِش بينكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنَّواجِذ، وإيّاكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة)).
أيها المسلمون، أيّ بدعة وأيّ ضلال تعيشه الأمة وقد تنكّرت هدي الله وسنة نبيّها، وهجرت كتاب ربها، وتنكّرت لسيرة أسلافها؟! فصدق فيهم قول ربنا: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
فهذا حال أمّتكم وما تعانيه من ضيق الحياة شاهدٌ ناطقٌ وصورةٌ حيّةٌ على جزاء من أعرض عن ذكر الله، فلم يَعُد لنا وزنٌ سياسيّ ولا اقتصاديّ ولا قوّة تهابها الأمم، لا بل غدت ديار المسلمين نهبًا للأمم المستعْمِرَة وميدانًا لاختبار ما أنتجته آلة الدمار العسكرية لدى الأمم الغازِية، وأشدّ من ذلك أصبحت مسرحًا لتطبيق مبادئ الحكم الكافرة، وميدانًا للثقافات والأفكار الغريبة عن شعوب أمّتكم من أجل إبعادها عن عزّتها وسرّ قوّتها ونهضتها، وتشويه صورة الإسلام من خلال شعارات برّاقة وسراب خادع يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
أيها المسلمون، إن الاقتداء بالرسول هو الذي مَكّن سلف هذه الأمة في الأرض، وتمكّنوا من غلبة أعداء الله والدين، وأمسكوا بأيديهم زمام العزّة والسيادة، فلم تمض بضعُ عقودٍ من الزمان حتى بسطت دولة الإسلام نفوذها من المحيط الأطلسي غربًا حتى حدود الصين شرقًا. فهذا قُتَيبة الباهِلي وقد توغّل في بلاد الصين يحذّره أحد أصحابه من هذا التوغّل بقوله: "لقد أوغلت في بلاد الترك يا قُتَيبة، والحوداث تُقبل وتُدبر"، فأجابه قُتَيبة وقد ملأ الإيمان جوارحه: "بثقتي بنصر الله توغّلتُ، وإذا انقضت المدّةُ لم تنفع العُدّة".
ومن أجوبة الخلفاء الراشدين المسلمين المشهورين حينما تردهم كتب القياصرة: "الجواب ما تراه دون أن تسمعه، لأسُيّرنّ لك جيشًا أوّله عندك وآخرة عندي".
وهذا ما فعله هارون الرشيد مع نقفور ملك الروم، والمعتصم أغاث امرأة مسلمة تعرّض لها أحد جنود الروم فاستغاثت: وامعتصماه! فلبّى الخليفة نداءها بعزّة الإيمان ومسؤولية السلطان. فكم هي ملايين الاستغاثات التي تنطلق من حناجر أطفال ونساء المسلمين اليوم، ولا تجد من يغيث!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، دون التأسّي برسول الله في القول والعمل والتزام الإسلام عقيدة وفكرًا ولاء وعملا وتحقيقًا وتطبيقًا لن تكون للمسلمين عزّة، ولن تقوم لهم دولة، وواقع المسلمين خير دليل على هذا القول.
لقد آن الأوان لأبناء الإسلام اليوم أن ينهجوا نهج الذين سبقوا في التزام الإسلام والثبات على مبادئه وتعاليمه، وبهذا السلوك وبتأييد من الله نرجع خير أمة أُخرِجت للناس. ورضي الله عن الفاروق عمر حيث قال: (نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزّة بغير ما أعزّنا الله به أذلّنا الله)، والله يقول: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [النساء:139]، وقال رسول الله: ((تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، توجيه المسلمين عند وقوع البلاء والابتلاء بملازمة بيت المقدس والسكن فيه ومجاورة المسجد الأقصى المبارك، فقد روى الصحابي الجليل ذو الأصابع قال: قلت: يا رسول الله، أين تأمرنا إن ابتلينا بعدك بالبقاء؟ قال: ((عليك ببيت المقدس؛ فلعلّه أن ينشأ لك ذرّية يغْدُون إلى ذلك المسجد ويروحُون)). فأيّ بلاء أعظم وأيّة مصيبة أكبر من وقوع القدس أسيرة الاحتلال ورهينة التهويد الزاحف إليها بوتيرة متسارعة تحت سمع وبصر عرب قحطان وعدنان ومن يزعمون أنهم من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام في دنيا المسلمين؟!
لقد نشطت الكثير من الجمعيات اليهودية من خلال سماسرة السوق بتسريب العقارات العربية إلى أيدي المستوطنين المستعمرين؛ لزرع البُؤَر الاستعمارية في قلب المدينة المقدّسة؛ لتضييق الخناق على أهلها الشرعيين. كما تلتقي هذه المحاولات مع المخطّط الرسمي لسلطات الاحتلال بمضاعفة البناء في المستعمرات المحيطة بالمدينة، خاصة من الجهة الشرقية والشمالية للمدينة. ولعلّ ما أعلنت عنه بلدية الاحتلال بهدم العديد من المنازل في رأس البستان من أرض سلوان وتشريد سكّانها في سابقة غريبة وخطيرة بمحاكمة الحَجَر نيابة عن البَشَر يصبّ في مخطط التهويد المتسارع للمدينة المقدّسة.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، إن تنفيذ هذه المخططات يهدّد مصير القدس، ويغيّر طابعها العربي والإسلامي، ويزيد من أخطار العبث بمقدّساتها، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تُشدّ إليها الرحال ومحور معجزة الإسراء والمعراج بنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام. وإزاء تهديد المنظمات اليهودية وعصابات المستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى نؤكد على ما يأتي:
أولاً: إن المسجد الأقصى المبارك هو مسجد إسلامي بكل أرضه ومُصلّياته ومَصَاطِبه وأرْوِقَته وجدرانه، لا حَقّ لأحد غير المسلمين فيه.
ثانيًا: إن المسجد الأقصى جزء من عقيدة المسلمين يرتبط بمعجزة الإسراء والمعراج، وهو محور هذه المعجزة التي تشكّل جزءًا من العقيدة الإسلامية.
ثالثًا: يرتبط المسجد الأقصى بعبادة المسلمين، حيث هو قبلتهم الأولى، وفي سمائه فُرِضت الصلاة، لهذا كله فإن المسلمين في هذه الديار وخارجها لن يسمحوا لكائنٍ مَن كان أن يمسّ عقيدتهم أو يدنّس مسجدهم، وقد شرّفهم الله أن يكونوا المرابطين في ديار الإسراء والمعراج، وأن ينهضوا بشرف السِّدَانة والرعاية لهذا المسجد المبارك.
كما نحمّل سلطات الاحتلال تَبِعَات أيّ اعتداء على المسجد من قبل المستوطنين والمتطرفين اليهود، خاصة وقد أعلنت هذه السلطات على لسان مسؤول أمني أنها لن تسمح بوصول المتطرّفين اليهود إلى أبواب المسجد بعد غد الأحد.
كما نهيب بأبناء هذه الديار المباركة على حراسة المسجد الأقصى المبارك واليقظة العالية، وتحمّل المسؤولية في المحافظة على قُدسيّة المسجد من أن يعبث بها عابث، أو يمسّها طامع، أو ينفذ إليها حاقد.
(1/3984)
التمسك بالوحيين سبيل العزة والنجاة
العلم والدعوة والجهاد, قضايا في الاعتقاد
الاتباع, قضايا دعوية
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
4/7/1422
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغريب المجتمعات الإسلامية. 2- حال المجتمعات الكافرة. 3- لا نجاة إلا في التمسك بالدين. 4- امتثال الصحابة للشرع. 5- الحث على التمسك بالدين. 6- التحذير من ترك العمل بالكتاب والسنة والتعدي على نصوصهما. 7- وجوب قتل من بدل دينه. 8- شفقة النبي بأمته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: عباد الله، اتقوا الله حقّ التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها المسلمون، تتجاذب المجتمعات الإسلامية اليوم موجات إلحادٍ وحملاتُ تنصيرٍ، وفتن عاتية وحرب سافرة، عبر وسائل إضلال يقوم عليها دعاة شر وفساد، وزيغ وعناد، في محاولات متلاحقة لتغريب هذه المجتمعات وصدها عن دينها، وحرفها عن مسارها.
أيها المسلمون، تعيش المجتمعات الكافرة في حياة مهينة، وترتكس في حمأة وبيئة، ومستنقع آسن، وتسير في درك هابط وظلام بهيم، ما بين طريح خمرة، وصريع غانية، وأسير شهوة، وما بين قوانين وضعية ظالمة جائرة، يتحاكمون إليها في الدماء والفروج والأموال، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40].
وإنّ مما يذيب القلب كمدًا، ويعتصر له الفؤاد ألمًا، أن تصل يد التغريب إلى بعض المجتمعات الإسلامية، تُغِير على ثوابتها، وتغيِّر من عاداتِها، وتعصف بمقدراتها، وتذرها وقد أسِن مشربها، وفسدت حياتها.
أيها المسلمون، إنّه لا رسوخ لقدم، ولا ثبات لمعتقد، ولا بقاء لفكر، ولا تحقق لوعد، ولا أمن من عقاب، ولا سلامة من تلك العاديات، إلاّ بالتمسك الشديد بوحي الله الذي أوحاه إلى رسوله ؛ فهو العصمة الواقية، والحجة البالغة، والسراج الذي لا يخبو ضياؤه، ولا يخمد سناؤه، إنّه الوحي إذا نزل على رسول الله ثقل وكرب لذلك، ونكّس رأسه، وتربد وجهه، وتخدَّر جبينه [1] عرقًا، تقول عائشة رضي الله عنها: (ولقد رأيته ينْزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصد عرقًا) [2].
وإنّه التنْزيل الذي كان رسول الله يعالج منه شدة، ويقول عنه: ((أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيتُ عنه ما قال)) رواه البخاري [3].
آية عظمى وقول ثقيل ومنهاجٌ عظيم، أمره ربُّه أن يتمسك به، وحذّره من الزيغ عنه، يقول تبارك وتعالى: ثُمَّ جَعَلْنَـ?كَ عَلَى? شَرِيعَةٍ مّنَ ?لأَمْرِ فَ?تَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء ?لَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [الجاثية:18]. ويقول جلّ جلاله: فَ?سْتَمْسِكْ بِ?لَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [الزخرف:43، 44].
وأخبر رسول الهدى أمته أنّ الهدى في التمسك بذلك فقال: ((إنّي قد تركتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي)) رواه الحاكم [4].
وكان أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين يتلقون الوحي بالتعظيم والتسليم، ممتثلين لأمره، منقادين لحكمه، خاضعين لإرشاده، لا يترددون في ذلك ولا يتخيرون، روى ابن جرير بسنده عن ابن بريدة عن أبيه قال: (بينما نحن قعود على شرابٍ لنا، ونحن على رملة [5] ، ونحن ثلاثة أو أربعة وعندنا باطية [6] لنا، ونحن نشرب الخمر حلاّ، إذ قمت حتى آتي رسول الله فأسلم عليه، فنَزل تحريم الخمر قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لأنصَابُ وَ?لأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء فِى ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:90، 91]، فجئت إلى أصحابي فقرأتها عليهم، وبعض القوم شربته في يده، قد شرب بعضًا، وبقي بعضٌ في الإناء، فقال بالإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجَّام، ثم صبوا ما في باطيتهم، فقالوا: انتهينا ربّنا، انتهينا ربّنا) [7].
نزلت الآية والكؤوس المتدفقة على راحاتهم، فحال أمر الله بينها وبين الشفاه المتلمظة، والأكباد المتَّقِدة، فمن كان في يده كأس حطمها، ومن كان في فمه جرعة مجَّها، وشُقَّت زِقَاق الخمر في المدينة النبويّة، وكُسِّرت قنانين [8].
إنّه أمر الله جلّ جلاله الذي لا خيار معه إلاّ التسليم والانقياد، وحين نزل قول الله جلّ جلاله: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ [الأحزاب:59]، خرج نساء الأنصار كأنّ على رؤوسهنّ الغربان من الأكسية. رواه أبو داود [9].
وصورة مشرقة أخرى يرويها حبر الأمّة وترجمان القرآن عبد الله بن عبّاس يقول: رأى رسول الله خاتمًا من ذهب في يد رجل، فنَزعه فطرحه وقال عليه الصلاة والسلام: ((يعمد أحدكم إلى جمرة من نارٍ فيجعلها في يده)) ، فلمّا ذهب رسول الله ، قيل للرجل: خذ خاتمك انتفع به، فقال: لا والله، لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله. رواه مسلم [10] ، قال ذلك مبالغة في امتثال أمره ، واجتناب نهيه، (لا والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله )، فما أحسنه من قيل، وما أروعه من جيل.
أيها المسلمون، إنّ المأمن الأمين والحصن الحصين من فتن عصركم ومغرياته، إنّما هو التمسك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمّة، وهو المخرج من كلّ فتنة، والنجاة من كلّ محنة، يقول جندب بن عبد الله البجلي في وصيته لأهل البصرة: (عليكم بالقرآن فإنّه هدى النهار، ونور الليل المظلم، فاعملوا به على ما كان من جهد وفاقة، فإن عرض بلاء فقدموا أموالكم دون دينكم، فإن تجاوزها البلاء فقدموا دماءكم دون دينكم، فإنّ المحروم من حُرم دينه، وإنّ المسلوب من سلب دينه، وإنّه لا فقر بعد الجنّة، ولا غنى بعد النّار) [11].
ويقول حذيفة بن اليمان لعامر بن مطر: (كيف أنت إذا أخذ النّاس طريقًا واحدًا وأخذ القرآن طريقًا مع أيّهما تكون؟ قال: أكون مع القرآن، وأموت معه، وأحيا معه) [12].
عباد الله، تمسكوا بهذا الوحي تمسكًا صادقًا، تُرى آثاره في أعمالكم وأقوالكم ومعاملاتكم وفي كلّ شأنٍ من شؤونكم، تعيشوا سعداء، وتموتوا لدينكم أوفياء، وليعرض كلّ واحدٍ منكم نفسه على الكتاب والسنة، ولينظر أهو من أهل الطاعة أم من أهل التفريط والإضاعة ؟!!، أمن أهل الاتباع أم من أهل الابتداع؟!!، وليأخذ الحذر، وليصلح المسار، يقول الحسن البصريّ رحمه الله تعالى: "رحم الله عبدًا عرض نفسه وعمله على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله حمد الله، وسأله الزيادة، وإن خالف كتاب الله أعتب نفسه، ورجع من قريب" [13].
أيها المسلمون، إنّ بين ظهرانيكم كنزًا لا ينفد، ومنهلاً عذبًا لا ينضب؛ كتاب الله وسنة رسوله ، فأين العاملون بهما؟ أين العاملون بهما؟ أين المنقادون لهما؟ أين المبادرون بالامتثال، المستجيبون في الحال؟
أيّها المسلمون، لقد وعظتنا مواعظ القرآن، وأنذرتنا نُذُر الزمان، وحذرنا رسول الله أن نرتكس في حمأة الجاهلية، أو نقع في أوهاق [14] العصيان، فهل انتفعنا بهذه المواعظ؟! إننا نصبح ونمسي تحت طائلة وعيد يقرع القلوب، ويخيف النفوس، فهل أخذنا حذرنا من هذا الوعيد، يقول أبو الدرداء : كنّا مع رسول الله فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال: ((هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء)) ، فقال زياد بن لبيد الأنصاريّ: يا رسول الله، وكيف يختلس منّا، ونحن نقرأ القرآن، فوالله لنقرأنّه ولنقرئنّه نساءنا وأبناءنا، فقال: ((ثكلتك أمّك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء المدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل، لا يعملون بشيءٍ ممّا فيهما؟!!)) رواه ابن ماجه والدارمي [15].
يقول بعض أهل العلم معلقًا: "فكما لم تفدهم قراءتهما مع عدم العمل بهما، فكذلك أنتم".
أيها المسلمون، إنّ التعدي على نصوص الوحي من كتاب الله وسنة رسوله بإسقاط هيبتها، وانتهاك حرماتها، أو الشعور بعدم وفائها لمستجدات الحياة، أو تطويعها وتحريفها ولوي أعناقها، وخفض شوكتها، لتكون ملائمة للعصر الحديث في قضايا يرى بعض من هان في نفوسهم دين الله أنّها تعيق الرقي والتقدم، يأتي في مقدمتها شؤون المرأة ومساواتها بالرجل في كلّ شيءٍ في مناحي الحياة، وتأنيس الربا، وتمرير معاملاته المحرمة، إلى القضاء على شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإفساح المجال لكل كافر وفاسق وماجن في المجتمع المسلم، ليلقي زبالة أفكاره باسم الأدب والفن وحرية الرأي، إلى سلسلة من القضايا جاءت النصوص الشرعية فيها حاسمة واضحة ساطعة، كالشمس في رابعة النهار، إنّ هذا التعدي يعني ضياع الأمة، وفقدها لهويتها وكرامتها، ودينها الذي شرّفها الله بحمله.
أيها المسلمون، إنّ الواجب علينا تعظيم الوحيين الشريفين، كتاب الله وسنة رسوله ، تعظيمًا يمنعنا من مخالفتهما أو موالاة من يكذب بهما، أو السكوت على من يجترئ عليهما، أو يستهزئ بشيء مما جاء فيهما، ومن سبّ الله أو سبّ رسوله أو تنقصه، أو أتى بقول أو فعل صريح في الاستهزاء بالدين، أو امتهن القرآن، أو أسقط حرمته، أو تكررت ردته، فقد كفر بما أنزل على محمد ، وخرج من ملة الإسلام، وقد قال رسول الهدى : ((من بدّل دينه فاقتلوه)) رواه البخاري [16].
أيها المسلمون، اتقوا الله في دينكم الذي هداكم إليه، وأعزّكم وشرّفكم بحمله، وفضّلكم به على سائر الأمم، وذلك باجتناب كلّ ما يناقضه أو يلوثه، وحمايته، والقيام بحقّه في أنفسكم ومن تحت ولايتكم، وفي جميع شؤونكم، حتى تسلموا من طائلة الوعيد في قول الله جل وعلا: وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أي: استترَ، فهو لا يُرى من كثرة العرق.
[2] أخرجه البخاري في بدء الوحي (2)، ومسلم في الفضائل (2333).
[3] أخرجه البخاري في بدء الوحي (2)، ومسلم في الفضائل (2333) من حديث عائشة رضي الله عنها، وهو نفس الحديث السابق.
[4] أخرجه مالك في الموطأ (1619) بلاغا، ووصله الدارقطني (4/245)، والبيهقي (10/114)، والحاكم (1/172) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال ابن عبد البر في التمهيد (24/331): "وهذا محفوظ معروف مشهور عن النبي عند أهل العلم شهرة يكاد يستغنى بها عن الأسناد"، وقواه الألباني بشواهده في السلسلة الصحيحة (4/361).
[5] أي: في رملة منبتة مريعة، كما في حاشية تفسير الطبري (10/573).
[6] الباطية ناجود الخمر، وهي إناء عظيم من زجاج.
[7] أخرجه ابن جرير في تفسيره (10/572).
[8] أي: أوعية الخمر.
[9] أخرجه أبو داود في اللباس (4101)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3456).
[10] أخرجه مسلم في كتاب اللباس (2090).
[11] أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (202)، وابن أبي شيبة في المصنف (6/125)، والبيهقي في الشعب (2/246).
[12] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/485)، ومن طريقه ابن حزم في الأحكام (4/571).
[13] ينظر من رواه.
[14] الأوهاق جمع وهق، وهو الحبل الذي تؤخذ به الدابة والإنسان.
[15] أخرجه الترمذي في كتاب العلم (2653)، والدارمي في مقدمة سننه (288)، ومن طريقه البيهقي في المدخل (854) من طريق عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه عن أبي الدرداء. قال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه الحاكم (1/179)، ووافقه الذهبي، لكن عبد الله بن صالح كاتب الليث فيه ضعف وقد خولف: فرواه أحمد (23990)، والنسائي في الكبرى (5909) من طريق الوليد بن عبد الرحمن، عن جبير بن نفير، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4572)، والحاكم (1/98-99)، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في المشكاة (1/81): "سنده صحيح". ورواه أحمد (17473)، وابن ماجه (4048) من طريق الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن زياد، وصححه الحاكم (3/590)، ووافقه الذهبي، لكن سالمًا لم يسمع من زياد فهو منقطع.
[16] أخرجه البخاري في الجهاد (3017) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
أمّا بعد: عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
أيها المسلمون، لقد كان رسول الله شفيقًا بأمته، رؤوفًا رحيمًا بهم، يخشى عليهم من الذل والهوان، ويخاف عليهم من الخطيئة والعصيان، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إنّما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها، وجعل يحجزهنّ ويغلبنه، فيتقحمن فيها، فذلكم مثلي ومثلكم، أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار، هلم عن النار، فتغلبوني، تقحمون فيها)) رواه مسلم [1].
عباد الله، هكذا يتساقط الجاهلون والمخالفون بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة، مع منعه إيّاهم، وقبضه على مواضع المنع منهم، وذلك لضعف عقولهم وتمييزهم، يتساقطون كما يتساقط الفراش في نار الدنيا لضعف تمييزه، فكلاهما ساعٍ في هلاك نفسه، حريص على ذلك لجهله، فالحذر الحذر، والوحى والوحى [2] قبل أن يأتي يومٌ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ ءامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمَـ?نِهَا خَيْرًا [الأنعام:158].
أيها المسلمون، تمسكوا بحبل الإسلام ولو أفلته الناس، وفروا إلى الله من فتن هذا الزمان، فعن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله يومًا لأصحابه: ((إنّ من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبضٍ على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)). قيل: يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟ قال: ((أجر خمسين منكم)) رواه أبو داود [3].
عباد الله، إنّ الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبحة بقدسه، وثلَّث بكم أيها المؤمنون من جنّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
[1] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (2284).
[2] أي: الإسراع الإسراع.
[3] جزء من حديث أخرجه أبو داود في الملاحم (4348)، والترمذي في التفسير (3058)، وابن ماجه في الفتن (4014)، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه ابن حبان (1850)، والحاكم (4/358)، ووافقه الذهبي، وصحح الألباني هذا الجزء لشواهده، انظر: ضعيف سنن أبي داود (934)، والسلسلة الصحيحة (494).
(1/3985)
أسباب الابتداع في الدين
الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الفتن
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
29/2/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإسلام. 2- خطورة البدع. 3- أسباب البدع: الجهل، اتباع الهوى، سوء القصد، الإعراض عن الحق، الإعجاب بالرأي، البعد عن العلماء. 4- تصدي الصحابة للبدع. 5- محاربة العلماء والأمراء للبدع. 6- أهمية نعمة الأمن. 7- نداء للخارجين على الجماعة. 8- فتنة الشهوات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ أيّها المسلمونَ ـ وأطيعوه، فتَقوَى الله يُصلِح الله بها الأمورَ، ويشرَح بها الصّدور، ويحسِن الله بها العواقبَ في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين [القصص:83].
عبادَ الله، إنَّ أعظمَ نِعَم الله تعالى على العبادِ دينُ الإسلام الذي يفرِّق بين الحقِّ والباطل والحلال والحرام والخير والشر وسبيل الهدى وسبُل الردى، قال الله تعالى: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا [الأنعام:122].
وإنَّ أعظم ما يهدم الدينَ الإسلاميّ ظهورُ البِدَع المضِلَّة التي يرَى صاحبها أنّه مصيبٌ وهو على ضلال.
وتكون البِدَع المضلة بسبَبِ الجهل كما قال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:111]، وكما قال عز وجلّ: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [الأنعام:116].
ومن أسباب البدع المضِلَّة اتباعُ الهوى، قال الله تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
ومن أسباب البدع المضِلّة سوء القصدِ والإرادةِ، قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].
ومِن أسباب البدَع المضِلَّة الإعراضُ عن تعلُّم الحقِّ والعمَل به كما قال تعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123، 124]، وقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [الكهف:57].
ومِن أسباب البدع المضِلَّة إعجاب المرءِ بنفسِه ورأيِه كما قال تعالى: أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، وفي الحديث عن النبي أنّه قال: ((إذا رأيتَ شُحًّا مطاعًا وهوًى متَّبعًا ودُنيا مؤثَرة وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برأيه فعليك بنفسِك)) [1].
ومِن أسباب البدَع المضلَّة البُعدُ عن أهل العلم وعَدَم سؤالهم عن أمور الدين، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43].
وإذا اجتمعت هذه الأسبابُ فقد استحكمَت أسباب الشَّقاوة وتحقَّقت الهلَكةُ، إلاَّ أن يمنَّ الله تعالى بتوبة منقِذةٍ.
وقد حدَثت البدَعُ في أواخر عصرِ الصحابة رضي الله تعالى عنهم تصديقًا لقول النبي : ((فإنّه مَن يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا)) [2] ، فتصدّى لها الصحابة، ودفَعوا في نحورها بالبَيان وقوَّة السّلطان، حتى ولَّت مدبِرة وانكشَفَت ظلُماتها، وحذّروا أمةَ الإسلام منها.
ففي أواخرِ عصرِ الصحابة رضي الله عنهم ظهرت بدعةُ الخوارج وبدعةُ القدريّة، ثم تتابعت البدَعُ. وفي كلِّ زمنٍ يهيِّئ الله للأمّةِ الإسلاميّة مِن ولاةِ الأمر والعلماء من يطفِئ نارَ الفتَنِ ويقمَع البدع، فالولاةُ يقمعون البدعَ ويطفِئون الفتنَ بقوّة السلطان، والعلماءُ بقوّة البيان، فينشرون السنَنَ، ويبلِّغون الأحكامَ، ويحذِّرون الأمّةَ أن تتأثّرَ بدعاة الفتنة، اقتداءً بالنبيِّ الذي كان يحذِّر من البدَعِ والفتن بمثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنه لم يكن قبلِي نبيٌّ إلاّ كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمّتَه على خير ما يعلَمه لهم، وينذِرَهم شرَّ ما يعلمُه لهم، وإنَّ أمّتَكم هذه جُعِل عافيتُها في أوَّلها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمورٌ تنكِرونها، وتجيءُ الفتَنُ فيرقِّق بعضُها بعضًا، وتجيء الفِتنةُ فيقول المؤمن: هذِه مُهلِكَتي، ثم تنكشِف، وتجيء الفِتنة فيقول المؤمنُ: هذهِ هذه، فمَن أَحبَّ أن يزَحزَح عن النارِ ويُدخلَ الجنّة فلتأتِه منيّتُه وهو يؤمِن بالله واليومِ الآخر، وليأتِ إلى النّاس الذي يحِبّ أن يُؤتَى إليه، ومَن بايعَ إمامًا فأعطاه صَفقَةَ يدِه وثمرةَ قلبِه فليطِعه إن استطاعَ، فإن جاءَ آخرُ ينازِعُه فاضرِبوا عُنقَ الآخر)) رواه مسلم [3].
وعن معاذٍ رضي الله عنه قال: (إنَّ وراءَكم فِتنًا يكثر فيها المال، ويُفتَح فيها القرآن حتى يأخذَه المؤمِنُ والمنافق والرجلُ والمرأة والعَبد والحرّ والصّغير والكَبير، فيوشِك قائلٌ أن يقول: ما للنّاس لا يتَّبعوني وقد قرَأتُ القرآنَ؟! وما هم بمتَّبعِيَّ حتى أبتدعَ لهم غيرَه، فإيّاكم وما ابتَدَع، فإنما ابتدَعَ ضلالةٌ) رواه أبو داود [4].
وعن أبي موسَى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من حمَل علينا السّلاح فليس منا)) رواه البخاري ومسلم [5] ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((سِباب المؤمن فسوق، وقِتاله كفرٌ)) رواه البخاري ومسلم [6].
أيها المسلمون، إنَّ بعضَ الناس لا يتحمَّل الصبر على النّعم، بل يحارِبها بأفعالِه، ويمَلُّها لتتابِعها، فيضرّ نفسَه ويضرُّ غيرَه، قال الله تعالى: أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ [العنكبوت:67].
والأمنُ نعمةٌ من الله تعالى ومِنّة كبرى، تتحقَّق به مصالح الدين والدنيا، حقُّه أن يشكَرَ الله عليه، ويُعبَدَ الربّ سبحانه وتعالى، ويحاطَ الأمن ويحفَظَ من كلِّ أحد، قال تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4]، وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، وعن عبيد الله بن محصنٍ الأنصاريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن أصبح منكم آمنًا في سِربِه معافًى في جسدِه عِنده قوت يومِه فكأنما حِيزَت له الدنيا)) رواه الترمذي [7] ، وعن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أنَّ النبيَّ كان إذا رأى الهِلال قال: ((اللّهمَّ أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامةِ والإسلام، ربِّي وربُّك الله)) رواه الترمذي [8].
ألا فليتَّق اللهَ هؤلاء الذين خَرَجوا على جماعةِ المسلمين وولاةِ أمرهم، وليتفكَّروا في هذه الأعمال التدميريّة التخريبيّة الإرهابيّة التي أفسدت فسادًا عريضًا وشوَّهت الإسلام، والدينُ منها بَراء، فهي إمَّا قتلٌ لنفس العابِثِ بالأمن والله تعالى يقول: وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، وإمّا قتلٌ لمواطنٍ أو مقيمٍ مسلم أو قتلٌ لرجلِ أمنٍ مسلم يسهَر على راحتهم والله تعالى يقول: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وإمّا قتل لغيرِ مسلِم مستأمَن قد حفِظَ الإسلام دمَه ومالَه وحرَّم ظلمَه والاعتداء عليه، وإمّا إتلافٌ لمالٍ خاصّ أو إتلاف لمال عامّ، وإما تخويفٌ وترويع للآمنين وإشاعةٌ للذّعر والخوف في المجتمع، وكلُّ ذلك ظلماتٌ بعضُها فوق بعض وكبائر كثيرةٌ، لو تدبَّرها المتدبِّر لكَفته واحدة منها في النّفور عنها والبعدِ عن هذا الانحراف الفكريّ الشِّرِّير.
وندعوهم أن يسلِّموا للسّلطان أنفسَهم، فذلك هو الطريق الصحيحُ، ليس من طريقٍ غيره، وأن يتوبوا إلى الله من هذا الإفسادِ، فإنَّ من تاب تاب الله عليه وعفا عنه، قال تعالى: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:33، 34]. أعاذنا الله والمسلمين من مضلاّت الفتَن.
وإنّه لا ينقضي العجَبُ كيف استدرَجَ شياطينُ الإنس والجنِّ هؤلاء الذين يرَونَ الإفسادَ إصلاحًا والشّرَّ خيرًا والباطلَ حقًّا، حتى دفعوهم إلى أعمالِ أهل النّار والعياذ بالله، قال الله تعالى: وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة:41].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود في الملاحم (4341)، والترمذي في التفسير (3058)، وابن ماجه في الفتن (4014)، والطبراني في الكبير (2/220)، وأبو نعيم في الحلية (2/30)، والبيهقي في الشعب (6/83، 7/127) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (385)، والحاكم (7912)، وهو في السلسلة الضعيفة (1025).
[2] سيأتي تخريجه.
[3] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1844) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[4] سنن أبي داود: كتاب السنة (6411)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3855).
[5] صحيح البخاري: كتاب الفتن (7071)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (100)، وفي الباب: عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة وابن الزبير وسلمة بن الأكوع وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
[6] صحيح البخاري: كتاب الأيمان (48)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (64).
[7] سنن الترمذي: كتاب الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (300)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141)، والحميدي في مسنده (439)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2318).
[8] سنن الترمذي: كتاب الدعوات، باب: ما يقول عند رؤية الهلال (3451)، وأخرجه أيضا أحمد (1/162)، والدارمي في الصوم (1688)، والحاكم (7767)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الألباني لشواهده في السلسلة الصحيحة (1816).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيزِ الوهّاب، غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ [غافر:3]، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليهِ وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، عليه توكَّلت وإليه مآب، وأشهد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، فضَّله الله بأحسَنِ كِتاب، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى الآل والأصحاب.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، فإنَّ طاعته أقوم وأقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عبادَ الله، إنَّ البدعَ المضِلَّة هي التي تضرُّ المسلمَ في دينه، كما يضرّ المسلِمَ في دينه شهواتُ الغيّ، فتتراكم على قلبه المحرَّمات حتى تطفِئَ نورَ الإيمان كما قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].
واللّذّاتُ المحرَّمة هي للقَلب كالسّمومِ للأبدان، فاحذَر ـ أيها المسلم ـ مداخلَ الشيطان عليك، وهي أبوابُ الشّبُهات وأبواب الشهوَات، واعتصِم بالصبر عن الشَّهوات، واعتصم باليقين عن الشبهات، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24]، وقال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
والزم ـ أيّها المسلم ـ جماعةَ المسلمين وإمامَهم، فإنَّ يدَ الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئبُ من الغنم القاصيةَ، والشيطانُ ذئب الإنسان، عن العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وَعَظنا رسول الله موعظةً وجلَت منها القلوب وذرَفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعِظَة مودِّع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبدٌ، فإنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّةِ الخلفاء الراشِدين المهديّين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالة)) رواه الترمذي وأبو داود [1].
عبادَ الله، إن الله أمَركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحِدة صلَّى الله عَليه بها عشرا)).
فصلّوا وسلّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمَّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آلِ محمّد كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا، اللّهمّ وارض عن الصحابةِ أجمعين...
[1] سنن الترمذي: كتاب العلم (2676)، سنن أبي داود: كتاب السنة (4607)، وأخرجه أيضا أحمد (4/126-127)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
(1/3986)
مطايا الأعداء
فقه, موضوعات عامة
الحدود, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
29/2/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الناس بقلوبهم. 2- القلب السليم والقلب المريض. 3- هدف المؤمن في هذه الحياة. 4- الشباب المسخَّرون للأعداء. 5- جريمة الإفساد في الأرض. 6- عقوبة المفسدين في الأرض. 7- الإشادة بجهود رجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول فيما صحَّ عَنه: ((إنَّ اللهَ لا ينظُر إلى صوَرِكم وأموالِكم، ولكن ينظُر إلى قلوبِكم وأعمالِكم)) [1].
أجَل أيّها المسلم، فالقَلبُ محلُّ نَظرِ الله للعَبد، فمَحلّ نظرِ الله للعَبد إنما هو لقَلبِه.
هذا القلبُ متى استقام واستضاء بنور الخير والهدَى أثَّر على الجوارح في سلوكِها واستقامتها، في الحديثِ عَنه : ((ألا وإنَّ في الجسدِ مضغةً، إذا صلَحَت صلَحَ لها الجسَد كلُّه، وإذا فسدت فسَدَ لها الجسد كلّه، ألا وهي القلب)) [2].
هذا القلبُ يكون سليمًا إذا سلِم من أمراضِ الشّبُهات والشّهَوات، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، ولَكن هذا القلبُ قد يمرض، وقد يُصاب بالعَمَى، فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10]، أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
القَلبُ إذا كانَ ذا بَصيرة عَقلَ النّافعَ من الضار، وميَّز بتوفيق الله بين الحسَن والقبيح، وبين الخير والشرّ، وبين الهدَى والضلال، وكلّما قوِيَ فيه الإيمان قوِيَت فيه معرفة الله ومحبةُ الله والانقياد لطاعتِه، وكلّما انحرَف عن مسيره الصّحيح وكلّما تلوَّث بالأفكار والآراء المضلِّلة أظلَم ذلك القلبُ وانتكس والعياذُ بالله، فتنقلِب الحقائق في نظره، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [فاطر:8]، قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
نعم أخِي المسلم، لهم قلوبٌ ولكن هذا القلبُ فقَدَ كمالَه وصِحَّته، لا يفقَه الحقَّ ولا يدري عنه، هو قلبٌ لكنّه لا يدرك الأمورَ، لا يفقه النافعَ من الضار، ولا يدرك المصالح من المفاسِدِ، وإنما هو شريكٌ لبهيمةِ الأنعام في إدراك مأكوله ومشروبِه، بل الأنعام أهدَى سبيلاً منه، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
أخِي المسلم، للمؤمِنِ في هذه الحياةِ هَدفٌ يسمو إليه وغايَةٌ يأمُّها ويبتغِيها ويريدُها، فهدَفُه طاعة ربِّه والتقرُّب إليه بما يرضيه، غايته أن ينالَ ثوابَ الله وما وعَدَ الله المطيعين من الثوابِ والعطاء الجزيلِ، إذًا فهو في هذه الحياة الدّنيا يتصرَّف التصرّف الصحيح، وينطلق من خلالِ تفكيره السليم وعقلِه المستنير، فلا تراه يجني على نفسه ولا على أهله ولا على مجتمعه، فضلاً أن يجني بأفعالِه على دينه وأسُسِ إسلامه.
أيّها المسلم، للأسَفِ الشّديد أنَّ هناك فِئةً من الناس في هذهِ الدّنيا عندما تسبُر تصرّفاتِها وعندما تتأمَّل في أحوالِها تجِد أولئك المساكين يَسيرون في ديناهم على غيرِ هدَف، ويتحرَّكون بلا إرادةٍ من تلقاءِ أنفسِهم، ولكنّ تصرُّفاتِهم وإراداتهم تابعة لغيرِهم، لمن يريد بهم الشرَّ ويريد الشرَّ لأمّتهم، فهم لا يفقهون الأمرَ ولا يدركون. إذا سبرتَ حالَهم على الحقيقة وفكَّرت فيهم تفكيرًا سَليمًا جادًّا وتأمَّلتَ: هل هذه التصرفاتُ يريدون بها إصلاحَ دنياهم؟ وإنّ جوابَك أنَّ ذلك لا؛ لأنّ هؤلاء لا يسعَونَ في رزق، ولا يبتغون الرزقَ من أبوابه، ولا يطلبون المعيشةَ الطيبة بسُبُلها. إذًا فليس سعيُهم في تحقيقِ مصالحَ مادّيّة لهم؛ لأنّ تحركاتهم كلَّها نابعةٌ مِن إرادةِ غيرهم، ممّن يوجِّههم فِكرًا ورأيًا، ممن يقودهم لما يريد بهم وبأمّتهم من البلاء. إذًا فليسوا يسعَونَ في صلاح دنياهم، وإن نظرتَ: هل هذا دينٌ يتصرّفون من خِلاله وأنَ مرادَهم الإسلام وعزّه؟ كان جوابك: لا، فإنّ مبادئهم وأفكارهم وأحوالَهم وتصرّفاتهم تدلّ على فقدان الدّين من قلوبهم، فليسوا لدنيا ولا دين، ولكنّهم الفئة الضائعة، الفِئة المخدوعَة، الفِئة المغرَّر بها، الفئة التي لا تقصِد خيرًا ولا تريد خيرًا. هذه الفئة من الناس بُلِيَ بها العالم الإسلاميّ، فما نرَى بِلادًا من بلاد الإسلامِ وللأسف الشديد إلاّ وفِئة من هذا النوعِ تشقَى بها مجتمعاتُهم، يهدِّدونها بكلّ سبيل في دينها وأمنِها واقتصادها واجتماعها.
ترى تلك الفئةَ تسير على هذا المنهجِ السّيئ الذي لا غايةَ ولا مقصودَ لأهله؛ لأنهم ليس تحرُّكهم من إرادةٍ ذاتية، ولكنها إيحاءات خارجيّة وآراء أعداء اتَّخذوا أولئك جِسرًا يعبرون عليه ليدمِّروا الأمة في صميمها. لم يستطيعوا بقواهم الخارجيّة حتى سخَّروا أناسًا جعلوهم أرضيّةً لهم في بلاد الإسلام، جعلوهم ثغرةً مِن خلالها يلِجون إلى أهل الإسلام؛ ليقولوا: نحن ندبِّر وننصَح، ونحن ندعو إلى كذا وندعو إلى كذا، ويعلَم الله أنهم ليسوا لنا بناصِحين ولا بمحبِّين.
أيّها المسلم، هذه الفئات الضالةُ المخطِئة التي تتصرَّف في تصرُّفاتها بكلّ خطأ، تصرّفاتٍ لا يقرّها عقلٌ سليم، ولا يرضَى بها صاحب فطرةٍ سليمة، ينظرُ من خلال هذه التصرّفات فيجدها تصرّفاتٍ خاطئةً بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنى.
أيَرضى مسلم أن يسترخِص نفسَه، ويضحِّي بنفسه في سبيلِ باطل، ويسفِك دمَه في سبيل باطل؟! أيرضَى أن يكونَ سببًا في قتلِ مسلِم على يدَيه إمّا بفعله أو بتسبّبه؟! أيرضى أن يكون سببًا في إخافه أمّته؟! أيرضى أن يكونَ سببًا في إضعاف كيان أمته؟! أيرضى أن يكونَ سببًا في إحداثِ الشرّ والبلاء؟!
إنهم يتصرَّفون هذه التصرّفات السيّئة، لا يعلقون حين يتصرَّفون، ولا يدركون ما يعمَلون، لكنّ الأعداءَ اتخذوهم مطايا لهم، غيَّروا أفكارَهم، ومسخوا فِطَرهم، وحوَّلوهم من إنسانٍ ذي إرادة وفهمٍ وإدراك إلى إنسانٍ لا إرادةَ له ولا فكرَ ولا وعيَ عنده. أثَّرت فيهم المخدِّرات، وقضَت عليهم البَطالة والخمولُ والكسل وقِلّة الوعي وضَعف الإيمان، حتى أصبحوا بيدِ الأعداء يسخِّرونهم كيف يشاؤون ويدبِّرونهم على ما يريدون.
فليتَّق المسلم ربَّه، وليتفكَّر في أمره، وليتصوَّر حقيقةَ كلِ أمرٍ يسعى إليه قبل أن يسعَى إليه: هل هذا السعيُ في سبيل مرضاةِ الله أم هو سعيٌ في سبيل الشرّ والفساد؟ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76].
إنَّ من يسعى في الإفساد ويدعو إلى الفساد وإلى سفك الدماء وإلى تدمير الممتَلَكات وإلى نشرِ الرّعب في البلاد ليس بحقٍّ مصلِحًا، ولكنّه المفسد مهما أراد، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
أجل، إنّ الله لا يحبّ الفساد، ولا يحبّ المفسدين، ولا يصلِح حالَ المفسدين، بل المفسدون مصيرهم العذاب الأليم، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42].
إنَّ أولئك المجرمين لو تعقَّلوا أمرَهم حقيقة لعلِموا أنَّ مسعاهم باطل، وأنهم يسعَون في باطلٍ لا في خير، وأنَّ حياتهم شقاء، وأنهم والعياذ بالله ارتضَوا لأنفسهم بهذه الحياة السيّئة وهذه الحياة الشقيّة؛ لأنهم لا يريدون بالأمة خيرًا، ولأنهم لا يدركون حقيقةَ ما أمِروا به ووجِّهوا إليه، لا يدركون، لو أَدرَكوا حقًّا لتصوَّروا الخطأ على حقيقة، لكن عمَى البصائر أحدَث فيهم هذا البلاءَ العظيم.
فلنتَّق الله شبابَ الإسلام، ولنعُد إلى رشدنا، ولنتمسَّك بديننا، ولنكُن دعاةً إلى الخير بأساليبِ الخير الذي شرِع لنا، ولنحذَر من أن نكونَ مطايا لغيرِنا أو يتَّخذنا غيرُنا لضربِ أمّتنا من غير أن نفهمَ ونفقَه، فإنَّ المسلم من يتصوَّر الأمور على حقائقها، ولا يقدم خطوةً إلا وقد علِم ما وراءَها بتوفيقٍ منَ الله والأخذ بالأسبابِ النافعة، أما الانخداع بالآراء المضلِّلة والدّعايات المغرِضة التي وراءها عدوٌّ يريد بالأمّة شرًّا.
كم نسمَع اليومَ في بلاد الإسلام هنا وهناك ماذا يحصُل على أيدي بعض أبناءِ المسلمين، ما المصلحة؟! وما الهدف؟! الهدفُ إرضاء غير المسلمين، الهدف فتحُ المجال لأعداء الإسلام ليتَّخذوا ذلك ثغرةً حتى يلِجوا منها لديار الإسلام بما يُوحون من أباطيلهم وأكاذيبهم. فلو كان الشبابُ واعيًا حقًّا ومدركًا حقًّا وفاهمًا حقًّا لرفض تلك الآراءَ المضلِّلة ولم يقبلها ولم ينقَد إليها، وأصبح فاهمًا واعيًا مدرِكًا، لا تخدَعُه الآراء الضالّة، ولا تغرِّره الأفكار المنحرِفة، بل هو يتبصَّر ويدرك، وقد بيَّن الله في كتابه أنّه يُعاقب من انصرَفَ عن الحقّ بالعقاب الأليم: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146].
كم نَصح أولئك النّاصحون، وكم حذَّرهم العلماء الصّادقون، وكم نبَّهوهم من أخطائهم، لكن المصيبة أنَّ القلوبَ في عمى وصدود عن السبيلِ المستقيم، نعوذ بالله من حالِ السوءِ، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلِّبها حيث يشاء، إذا أراد أن يقلِب قلبَ عبد قلبَه، فعياذًا بالله من زيغِ القلوب ومن تتابُع الذّنوب ومن مضِلاّت الفتن ما ظهَر منها وما بطن.
بارَك الله لي ولَكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغَفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بعدُ: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله حقَّ التقوى.
عبادَ الله، مِن نِعَم الله على الأمّة وجودُ قيادةٍ تحفَظها وتقوم بفضلِ الله بواجِبها، وترعى أمنَها واستقرارها، وتحافظ على كيانها، وتبذل كلَّ غالٍ ونفيس في سبيل أمنِ الأمّة وسلامتها، فالعيون الساهِرة على أمن الأمة وعلى اطمئنانها عيونٌ خيِّرة وتحمِل شخصيّات طيّبة ذات خلُق ودين، عيون ساهِرة على أمن الأمة، لا يرضونَ لها بمكائِدِ الأعداء، ولا يقرّون للعدوّ ضَرَره وضلاله، بل يأخذون على يده لأمن الأمة وسلامتها، والله جلّ وعلا قال لنا: إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
في عهدِ نبيِّنا وهو أرحَم الخلقِ بالخلق وأحسَن الخلق بالخلق، في عهدِه وفَدَ إليه وفدٌ من بعضِ قبائل العرب، فلما سكنوا المدينةَ استوخموها، فلم يوافِقهم مناخُها، ولم ترتَح نفوسهم بذلك، أمَرَهم أن يأتُوا إبلَ الصّدقة ليشرَبوا أبوالها وألبانها فتلك عادَتُهم في بلادهم، فلمّا فعلوا ذلك صَحّوا وسلِموا وزال كلُّ ما بهم من بلاء وعادوا على صحّتهم الكامِلة، لكن ماذا فعلوا؟ هل شكَروا نعمةَ الله عليهم بهذه العافيةِ والنعمة وهذه الرعايةِ من سيّد الأولين والآخرين وهذه الشفقة والعناية من سيّد الأولين والآخرين؟! هل قدَّروا لهذه المكرُمَة قدرَها؟! وهل عرَفوا لها مكانتها؟! لا، القلوب مريضَة، القلوبُ تطمَع في الفسادِ، النفوس جبِلَت على قطعِ الطريق والإفسادِ في الأرض ونهب الأموال وقتلِ الأبرياء.
ماذا عملوا؟ عمَدوا إلى راعي الإبل راعي النبيّ فقتلوه، كيف قتلوه؟ قطَّعوا يدَيه ورِجلَيه وكوَوا بالنّارِ عَينَيه حتّى هلك، وأخَذوا الإبلَ واستاقوها وهرَبوا وكفَروا وارتدّوا بعد إسلامهم. فعِندما بلغَ النبيَّ خبرُهم لم يمهِلهم، بل أمر بطلَبهم فأتِيَ بهم قبل ارتفاعِ النهار.
لمّا أتي بهم ماذا عمل؟ هذا محمّد أرحَمُ الخلق بالخلق، هو ذو رَحمةٍ بالعباد ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، لكن القوّةُ في وقتها والحزم في وقتِه هو رحمة أيضًا بالأمة، أمَرَ بهم ماذا؟ أمَر أن تقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف، فقطِعَت اليد اليمنى والرّجل اليسرى، ثم ماذا؟ ثمّ أمَر بهم فسمِلَت أعينُهم بالنّار أي: كوِيَت أعينهم بالنار، ثم ماذا؟ ترَكهم في الحرّة يطلبون الماءَ فلا يُسقَونَ، ويقول لهم: ((النار النار)) حتى ماتوا عطشًا وجزعًا وألمًا من كلِّ ما حلَّ بهم [1].
هذه رحمةُ محمّد بالأمة؛ لأنَّ هذه الرحمة هي التي تحفَظ للأمة كيانها، وتحفظ للأمّة أمنَها، وتحفَظ للأمة استقرارها، وتردع المجرمين، وتوقِفهم عند حدّهم؛ لأنَّ الله أرحم الراحمين، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فلا يمكن أن يستقيمَ للأمة أمنٌ ولا يستقِرّ لها قرار ولا تطمئنّ النفوس إلاّ إذا أقيمَت حدودُ الله؛ لتكون قامعةً لكلّ مفسد، رادعة لكلّ مجرم، حدود الله التي فيها الرّحمة والشفقة والإحسان للعباد، فسبحان الحكيم العليم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
أيّها المسلم، إنّ المسلمَ حقًّا يغار على أمّته ويغار على دينه، إنّه يرى أنَّ القائمين بالأمن لهم منّا حقٌّ أن ندعوَ الله لهم بالثبات والسدادِ والتوفيق بما يرضي الله؛ لأنهم بذَلوا جهدًا كبيرًا، وأنفقوا وقتًا ثمينًا، وعرَّضوا أنفسَهم وحياتهم في سبيلِ أمنِ الأمّة، فلهم منّا التقدير، ويسأل الله لهم التوفيقَ والسداد، وأن يكونوا دائمًا عندَ حسنِ ظنِّ أمّتِهم بهم، يكافحون ويجاهدون، ولا يدَعون للمفسدين سبيلاً. هذا واجب المسلم أن يدعوَ الله لهم بالتوفيق والسداد، وأن يوفِّق القائمين على أمنِ هذه الأمّة لما يرضيه، ويباركَ لهم في أعمالهم وأعمارهم، ويسدِّد على طريق الخيرِ خُطاهم، إنّه على كل شيء قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كِتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّد ، وشَرّ الأمور محدثَاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجماعة، ومَن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالَى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورَسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] قصة العرنيين رواها البخاري في الديات (6899)، ومسلم في القسامة (1671) عن أنس بن مالك رضي الله عنه بمعناها، وليس عندهما أنهم قطعوا الراعي، ولا قول النبي : ((النار النار)) ، وانظر: تفسير الطبري (6/207)، وتفسير القرطبي (6/148).
(1/3987)
حديث عن المصطفى المختار
الإيمان, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, الشمائل
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
6/3/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب عز الأمة وتمكينها. 2- سبب ذل الأمة وانهزامها. 3- الحديث عن المصطفى. 4- وجوب محبة النبي. 5- حقيقة محبة النبي. 6- فضائل النبي وشمائله. 7- ومضات من سيرة النبي. 8- جد النبي واجتهاده. 9- حقد الأعداء على النبي. 10- ضرورة الاستفادة من السيرة النبوية. 11- الحب الصادق والحب الكاذب. 12- محبة آل البيت وأزواج النبي والصحابة الكرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنَّ خيرَ ما تُفتَتح به الوصايا وتُختَتَم ويُستجلَب به الخير ويُستَتَمّ الحثُّ على تقوى الإلهِ وخشيته في السرِّ والعلن؛ فمن جعل التقوَى مرمَى بصرِه أفلح ونجَا، وفازَ بما أمَّل ورجا، وصدَر عن بهجةٍ وانشراح روح، ونفسٍ راضية مرضية في رياضِ السّعادة تغدو وتَروح.
أيّها المؤمنون، لسنا في نجوًى عن القول: إنّ أمّتَنا الإسلاميّة العتيدة إنما شدَّت ركابها شطرَ المجد والعلياء وتسنَّمت قِمَم السؤدَدِ والإباء وساقت الإنسانيّةَ إلى مرابِع الحضارة والمدنيّة والهناء وأفياءِ الأمن والرّخاء والعدل والإخاء ساعةَ استعصَمَت بالوحيَين الشريفين، واستمسَكت بالهديَين النيِّرين، وكانت مِلءَ سمعها وبصرها، ومُفعَم روحِها ومُستَولَى مشاعرها، سنّةُ نبيّها الغرّاء وسيرتُه وشمائِله الفيحاء.
خُلُقٌ كما خطَر النّسيم فهزَّ أعطافَ النبات وشمائلٌ علويّة أصفى من الماء الفرات
ويومَ أن شطَّ بها المزار عن ذلك الهديِ المتلألئ المِدرار فاءت الأمّةُ إلى يَبابِ التبعيّة والذيليّة والوهَن، وصارت والتنافُرَ والتناثرَ في قَرَنٍ، والْتأمَتْ مع الأسَى الممِضّ أمّةُ الاقتداء والوحيِ والاقتفاء على دعاوًى منَ الحبِّ مسطَّحةٍ زَيفاء، تكاد عند المحاقَقَة لا تبارِح الألسنة والشِّفاه، وذلك من مكامنِ دائها العُياء، فَدَاءُ الأمّة فيها، ولو أنها اعتصَمَت بالكتاب والسنّة ما استفحَل داؤها ولتحقَّق دواؤها.
إخوةَ الإيمان، ولئن ازدَانَت الغَبراء فَبُدِّلت وضَّاءةً خضراء منذ ما يربُو على أربعةَ عشر قرنًا من الزّمان ببعثة سيِّد الأنبياء وعطَّرت سيرته المونِقة الأقطارَ والأرجاء
فالكَونُ أشرَقَ والفَضاءُ تعطَّرَا والأُفْق ظلَّله السرور فهل تَرى
بما تضمَّنته من حقائق المهابةِ والجمال والخشية والجلال ومسدَّدِ الحِكمةِ في الأقوالِ والفِعال، فإنَّ تلكم السيرةَ المشرقة الجبين المتلألِئة المُحَيَّا لا تزال تُهيب بوُرَّادها مناشِدَةً: إليَّ إليَّ، وحيَّهَلاً عليَّ عليَّ، نهلاً وفهمًا، واقتِباسًا ورِيًّا.
معاشر المحبين، إنَّ الحديثَ عن الحبيب المصطَفى والرسول المجتبى والخاتم المقتَفَى صلواتُ الله عليه وآلِه وسلّم لهو حديثٌ عَذبُ المذاق، مُجرٍ لدموع المآق، بَلسَم لجفوة القلوب ولقَسوَتها تِرياق، كيف لا وهو رسول الملِك العلام وحامِل ألوية العدلِ والسّلام ومُخرج البشريّة بإذن ربِّها من دياجير الانحطاطِ والوثنية والظلام ووِهاد الأرجاس والآثام إلى أنوار التوحيدِ والإيمان والوئام؟! صلوات الله وسلامه عليه ما ذرَّ شارق، وحنَّ إلى إِلفِه المفارق، نبيُّ المعجِزات، وآخذُنا عن النار بالحُجُزات، أمَنّ النّاس على كلِّ مسلم ومسلمة، وأحقُّهم نَقلاً وعقلاً بالمحَبّة الوادِقة والطاعة الصادقة، صاحِبُ المقامِ المحمود واللِّواء المعقود والحَوض المورود.
تجود بالدّمع عيني حين أذكرُه أمّا الفؤاد فلِلحوض العظيم ظَمِي
لا يتمّ دينُ المرءِ إلاّ بإجلاله والانقيادِ له وحبِّه، ومن صعَّر خدَّه هدم دينَه واتُّهِم في لُبِّه، يقول عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه الشيخان: ((لا يؤمِن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وولده ووالدِه والناس أجمعين)) [1].
تِلكم هي المحبّةُ الصادقة التي أفضَت إلى أصلِ الطّاعة والتسليم الذي دلَّ عليه قول الحقّ تبارك وتعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]. أحبَّه مولاه واجتبَاه، وميَّزه على سائر الخليقة واصطفاه.
فكم حَبَاه ربُّه وفضّله وخصّه سبحانه وخوَّله
أبى الله إلاَّ رَفعه وعُلُوَّه وليس لما يُعلِيه ذو العرش واضعُ
بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام. أظهرُ الخليقَة بِشرًا وأُنسًا، وأطيبُهم نَفَسًا ونفْسًا، وأجملُهم وصفًا، وأظهرهم لُطفًا، لا يطوي عَن بَشَرٍ بِشْرَهُ، وحاشاه أن يشافِهَ أحدًا بما يكره، والبِشْرُ عنوان البشير، صلّى الله عليه ما همَى رُكام وما هَتن غَمام، كان ذا رأفةٍ عامّة وشفَقَة سابغة تامّة، أجملُ الناسِ ودًّا، وأحسنُهم وفاءً وعهدًا، تواضَعَ للناس وهمُ الأتباع، وخفض جناحه لهم وهو المتبوع المطَاع، كان شديدَ الخوف والعبادة، وافرَ الطاعة والقنوت والإفادة، له شجاعةٌ ونجدة وبسالة في الحقّ وشِدّة، يبذُل الرّغائب، ويعين على الصروفِ والنوائب، ما سئِل عن شيء فقال: لا، وما أشاحَ عن مُعتَفٍ ولا قَلَى. فيا للهِ، هل في طوقِ الأبيِنَاء من غَطارِفة البيان أن يتفرَّدوا بوصفِ نبيٍّ نُزِّه عن المثالب والنقائص وكُرِّم ببديع الشمائل والخصائص؟! كلا لعَمرو الحقِّ كلاّ.
مَلَكت سَجايَاه القلوبَ محبَّةً إنَّ الرسول إلى القلوبِ حَبيبُ
نبيٌّ تقيّ، ورسول نقيٌّ، زكَّى الباري لسانه فقال: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى [النجم:3]، وزكَّى بصره فقال: مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى [ النجم:17]، وزكَّى صدره فقال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [ الشرح:1]، وزكَّى فؤادَه فقال: مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى [ النجم:11]، وزكَّى جليسَه فقال: عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى [ النجم:5]، وزكّاه كلَّه فجاءت الشهادة الكبرى التي شرُف بها الوجود وانزَوَت لها كلُّ الحدود، إذ يقول البَرّ الودود: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [ القلم:4].
خُلُق عظيمٌ اشتُقَّ من عظمة هذه الرسالةِ العالمية الإنسانية، خُلُق لا يؤوده بلاغ الرحمة والعدل والفضيلة والقوّة والعزة والرفق والحكمة، وشعار المحِبّ دائمًا يعلو:
خيالُك في ذهني وذِكراك في فمي ومَثواك في قلبي فأين تغيب؟!
إخوةَ الإيمان، ولسيرةِ النبيِّ المختار هَديرُها ورِواؤها في سُويداءِ النفوس التي أحبَّته وأجلّته والأفئدةِ الموَلَّهَة العميدَةِ بخصالِه، وإبلالاً لذلك الصَّيهَج من الحبّ الطهور نُزجِي للعالَم ومضاتٍ ولُمَعًا من سيرتِه المنَشَّرَة بالرحمة والحنان، وهيهات أن يبلُغَ المرام بنان.
فيومَ أن اشتدَّ أذى قومِه له، فانطلَقَ وهو مهمومٌ على وجهه عليه الصلاة والسلام، فلم يستفِق إلاّ وهو بقرنِ الثعالب، فناداه ملك الجبال وقال: يا محمّد، إن شِئتَ أن أطبقَ عليهم الأخشبين، فقال وهو الرؤوف الرحيم: ((بل أرجو أن يخرِجَ الله من أصلابهم من يعبدُه وحدَه لا يشرك به شيئًا)) أخرجه الشيخان [2].
فسبحان الله عبادَ الله، انظروا كيفَ قابلوه بالتَّهَجّم والنكران، فنحَلَهم العفوَ والغفران، وصدق الله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [ الأنبياء:107]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنَّما أنا رحمةٌ مهداة)) خرَّجه البخاري [3].
هو رحمةٌ للناس مهداة فيا وَيلَ المعانِدِ إنّه لا يُرحَم
وصرخةُ مَفؤودٍ متوجِّع ولَوعةُ مصدورٍ متفجِّع ممّن يقتِّلون الأنفس المعصومةَ البريئة، لا يتلذَّذون إلا بإراقةِ الدماء وتناثُر الأشلاء، في جهالاتٍ تتلوها حماقاتٌ، فيا لها من قِحَة جريئة وقلوب قاسيَة قبيحة، معاذَ الله ثم معاذَ الله أن يكونَ الفساد والدمار والإرهابُ والبوار من هديِ النبوّة وشمائلها في وردٍ أو صدر.
وفي فتحِ مكّةَ حين اشتدَّ الفزعُ الهالِع بمشركي قريش وظنّوا كلَّ الظنّ أنّ شأفتَهم مستأصلة وقف منهم الرسولُ الشاكر الرحيم المانّ الحليم وقال: ((ما تظنّون أنِّي فاعل بكم؟)) قالوا: خيرًا؛ أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: ((اللّهمّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، اذهَبوا فأنتم الطلقاء)) [4].
الله أكبر، يا له من نبيٍّ ما أعظَمَه، ومِن رسولٍ ما أكرمه.
لَه الصلاة والسلام تترَى ما شرى برقٌ على طيبَةَ أو أمِّ القرى
إنّه المثل الأعلى للإنسانيّة؛ انتَصَر فرحِم وعفا، وقدَر فصفَح وما جفا.
مَعالٍ جازَت الجَوْزا جَوازًا وحُسْنٌ قد حَوَى الحُسْنى وجازَا
وغيرُ خافٍ ـ يا أولي الألباب ـ ممّا يسهِّدكم تفصيلُه ويؤلمكم قليله ما مُنِي به بعضُ العُلاَة حينَ استبدَّ العتاة، فأهدَروا إنسانيّةَ الإنسان، وحطَّموا في صلَفٍ وعنجهيّة كلَّ المواثيق والحقوق، فأينَ الحَضيض من السِّماك الأعزل؟! وشتّان شتّان بين الاهتداء المنير والادِّعاء المبير.
ونظيرُ ذلك مما ينتَظِم في أسلاك الصّفحِ والنّبل والشهامة من نبيِّ الرحمة والكرامة ما كان منه إزاءَ ثمامَة وهِندٍ والثلاثة، ويكفي من القلادَةِ ما أحاط بالعنق.
وصفوةُ القول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [ الأحزاب:21]، أسوةٌ في جميع ضروب الحياة وتصاريف الأمور والمعاملاتِ، اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ [ الأنعام:124]، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [ القصص:68].
إنَّها النفس التي عانَقَت السماء، وعاشَت على الثَّرى دانيةً من الناس، مِلؤُها الإحسان المدِيد والعقلُ السديد والرأي الرّشيد والقول اللطيف الوئيد، في أقصى آمالِ الحِرص والإخلاص والصّدق والأمانة.
فعن حبِّه حدِّث عن البحر إنّه لبحرٌ ولكن بالمعاني انسيابُه
معاشرَ المسلمين، ثلاثةٌ وعشرون عامًا بل دُرّةٌ مِن الدعوة والصبر والتعليم والجهاد تقِف شامخةً على قمَّة الزمنِ والحضارة والتأريخ، لا تجِد فيها ساعةً أو خطوَة توصَف بالضياع أو الإهدارِ.
يا ربَّنا فاجمَعنا معًا بنبيِّنا فِي جنّةٍ تثنِي عيونَ الْحُسَّد
في جنّةِ الفردوس فاكتبها لنا يا ذا الجلالِ وذا العلا والسّؤدَد
أمّةَ الإسلام، أحباب سيّدِ الأنام، ومع كلِّ هذا الجلاء في سيرةِ خير الورَى والبهاء لا يزالُ أحلاسُ النّفاق وشُذّاذ الآفاق ومَردَة الكُفرِ والاستشراق ومُسوخ العولمة والتغريب ينشرون أباطيلَهم وحقدَهم الأرعن عبرَ الحمَلات والشبكات حِيالَ الجناب المحمدّيّ الأطهر والهديِ المصطفويّ الأزهَر، فيا وَيحهم، يا ويحهم يَرمون من أرسلَه الله رحمةً للعالمين بالقَسوة والجفاء والإرهابِ والغِلظة والشناءَة، في رسومٍ ساخِرة ودِعايات سافِرة وحملات ماكِرة، فالله حسبنا وحسيبُهم.
وهَل أنكروا إلاّ فضائلَ جمّةً؟! وهل يبصِر الخفّاش والنورُ ساطِع؟!
وما عُدَّتهم إلاّ الافتراء والزور، ينفثُها صدرُ كلِّ مأفونٍ موتور، تشكيكًا في النبوّةِ والرّسالة، فويلٌ لهم من وَصفِهم أشرفَ الورى بما اختَلقوا مِن عندهم والتّزَعُّمِ. وقد علِموا يقينًا قاطعًا أنّ النبيَّ الأمّيَّ الهاشميّ القرشيّ صلوات ربي وسلامُه عليه قد جاء للبشريّة بأسمى الحقائِق الكونية وأزكى الآداب الخلُقُية وأرقى النُّظُم الاجتماعيّة وأجلى الشرائع التعبديّة، ولكن وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [ النمل:14]. الله أكبر، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [ الكوثر:3]، ولله درُّ حسّانَ رضي الله عنه:
هجوتَ مباركًا برًّا حنيفًا أمينَ الله شِيمتُه الوفاءُ
فإنَّ أبي ووالدَه وعِرضي لعِرضِ محمّدٍ منكم وقاء
أمّةَ الإسلام في كلّ مكان، وإذا كانَت المآسي تلفَح وجوهَنا في كلِّ شبرٍ وواد من كلِّ باغٍ وعادٍ فإنّه لِزامًا على الأمّة وقد رضِيَت بالركون إلى هذه الدنيا والإخلاد ورَثَّ حبلُ صِلَتِها بهذِه السّيرةِ الهادِية أو كاد وغدَت سيرةُ الحبيب بعد الجدّة والإشراق أشبهَ بالأخلاط أن تَنثَنِي إلى السيرة النبوية في شمولٍ وعُمق وجِدٍّ وصِدق، وأن تكونَ أشدَّ تعلُّقًا بنبيِّها وسيرتِه عليه الصلاة والسلام تأسِّيًا وفهمًا وسلوكًا واستبصارًا واعتبارًا؛ لتنتشلَ نفسَها من كلاكل العجزِ والتمزّق والفِتن والانحدار التي مُنِيت بها في هذهِ الآونةِ العصيبة، ولْتعلِنها مدوّيَة خفّاقةً وشَجًى في اللّهواتِ المغرِضة الأفّاكة أنّ السيرة النبويّةَ والمناقب المحمّديّة على صاحبها أزكَى سلامٍ وأفضل تحيّة هي مناط العِزّ والنصر وأجلَى لُغاتِ العصر التي تعرُج بالأمة إلى مداراتِ السّؤدَد والتمكين، وهي التي تقضِي على جدلٍ كلِّ عنيد وخداع كلِّ ماكر ونَزَق كلِّ دعِيّ، وهي الحجّة القاطعة لدحرِ المتقحِّمين على أصولِ الشريعة والأحكام مِن قليلِي البصيرة وسُفَهاء الأحلام.
والسيرةُ النبويّة ـ يا رعاكم الله ـ هي الشمسُ الساطعة التي تربَّى عليها الأجيالُ بمنهج الوسَطِ والاعتدال بعدَ أن تلقَّفَتهم جحافِل الغرائز والشهوات في رائِيَات وفضائيّات، وطوَّقتهم فيالِقُ الشّبهات في شبكاتٍ ومنتدَيَات، وغزَتهم كتائبُ الانهزاميّة والفرقة والشّتات، حتى جفَّت في قلوبهم ينابيعُ الحبِّ المورِقِ لنبيِّهم وشمائِلِه وصَحبهِ إلاّ مَن رحم الله. ومنهج المحبِّ الصادِق:
لي فيك حبٌّ ليس فيه تملُّق أملاه دينٌ ليس فيه تكلُّف
يا أمّة الحبيب المصطفى ، ولن يتحقَّق الحبّ النبويّ المكين في أكملِ معانيه وأحكمِ مبانيه إلاّ إذا كانت لُحمتُه الاتِّباعَ والاقتداء، وسُداه الائتِساءَ والعمل والاهتداء.
إنِّي أرى حبَّ النبيِّ عبادةً ينجو بها يومَ الحساب المسلم
لكن إذا سلَك المحبّ سبيلَه متأسِّيًا ولِهديِه يترسَّم
واضَيعتاه لأمّةٍ ضيَّعت مبعَثَ آمالها ومُنتَهى آلامها. يا لَضَيعةِ السنّة السنيّة أن تكونَ من قبيل الغلوِّ والإطراءِ وإنشادِ القصائدِ الحوليّات وسَردِ القصَصِ والرّوايات والترانيم والمدائِحِ التي لا تغادِر الشّفاه في ليلةٍ مخصوصَةٍ أو شهرٍ معيَّن، من فئاتٍ رامت الإجلالَ فوقعت في الإخلالِ، فهم أقربُ ما يكونون إلى طلبِ العافيَة والبُعد عن ميدان الدّعوة والمصابَرة وتحمُّلِ التّبِعات، والحبُّ الصادِق:
حبٌّ مدَى الأيّام يُنشَر ذكرُه ويُذاع في كلِّ البقاع وينقَلُ
إنَّ السيرةَ الفَيحَاء لهي أعذبُ الموارد وأجَلّ من أن تؤسِّنَها بِدَع الموالِد، ومن للسنّة أحَبّ نافَح عنها وذبَّ، فمن ادَّعى المحبّة أُلزِم صِدقَ الشهداء، فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكَاذِبُونَ [ النور:13].
فإن كنتَ في دَعوى المحبّةِ صادقًا ففِي شرعِنا برهان دعوَى المحبّةِ
وفِي شرعِنا أنّ الْمَحبّة طاعة وسيرٌ على منهاج خيرِ البريَّة
فيا أيّها الجيل المحِبّ في كلّ مشرِق ومغرب، خِفّوا للتحلِّي بشمائل نبيِّكم وأخلاقِه، وتزيَّنوا بمناقبِه وآدابِه، وتمثَّلوا هديَه، وترسَّموا سنّتَه، وعَضّوا عليها بالنواجذ، تغنَموا وتنعَموا وتسودوا وتقودوا.
يا مسلمون لسنّة الهادي ارجِعوا واسترشِدوا بدروسها وتعلَّموا
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [ يوسف:21].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ [ آل عمران:31، 32].
بارك الله لي ولكم في الوَحيين، ونفعني وإيّاكم بهدي سيِّد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه كان توّابًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (15)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (44) عن أنس رضي الله عنه، ليس فيه قوله: ((من نفسه)).
[2] صحيح البخاري: كتاب بدء الخلق (3231)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1795) عن عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه ابن سعد (1/192)، وابن أبي شيبة (6/325)، والدارمي في المقدمة (15)، والبيهقي في الشعب (2/144) عن أبي صالح مرسلا، ووصله الطبراني في الأوسط (2981) والصغير (264)، وابن عدي في الكامل (4/230)، والقضاعي (1160، 1161)، والرامهرمزي في الأمثال (13) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (100)، ووافقه الذهبي، وهو في السلسلة الصحيحة (490). وفي الباب عن أنس وجبير بن مطعم وابن عمر رضي الله عنهم.
[4] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال: "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال:..." فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق، وليس فيهما قوله: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعَلنا من خيرِ أمّة أخرِجت للناس، سبحانه وبحمدِه خصَّنا بشريعةٍ لا يعروهَا عِوَج ولا التباس، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له هو المجير من فِتَن الدّنيا والأرماد، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أفضل من قادَ وساس، وخيرُ من سقانا بسيرتِه السنيّة أروى كاس، وعلى آلِه وصحبه الصّفوةِ من كل الملا والناس، ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلَموا أنَّ من مقتضَى محبّة رسول الله محبّةَ آله الأطهار وصَحبه الأخيار المهاجرين منهم والأنصار، ووُدَّ أهل بيته الطيّبين الطاهرين وزَوجاته الطاهرات أمّهات المؤمنين وصحابَتِه الغرِّ الميامين، فلَيس في الأمّة كالصحابة في الفضلِ والمعروف والإصابة؛ أبرُّ الناس إيمانًا، وأهدَاهم قلوبًا، وأجفَاهم للهِ جنوبًا، انتَهَوا في محبَّتِهم لخير البريّة إلى تفديَتِه بالآباء والأمّهات، وإلى أعالي الدّرجات وسامي الغايات التي تمتنِع إلاّ على النفوسِ المشرقة باليقين.
ربَّيتَ جيلاً أبيًّا مؤمنًا يقِظًا حَسَوا شريعتَك الغرّاء في نهَمِ
فمَنْ أبو بكر قبل الوحي مَنْ عُمرُ؟! ومَنْ عَلِيٌّ ومَنْ عثمانُ ذو الرحم؟!
فمن أحبَّهم وأثنى عليهم برِئ من النّفاق وكان له من منازل الإيمان على قدرِ محبّتِه لهم والائتِساء بهم، يقول سبحانه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [ الفتح:18].
إذا الله أثنَى بالذي هو أهلُه عليهم فما مقدار ما يمدح الورى؟!
وفي صحيحِ الخبَر عن سيِّد البشَر في بيان حقِّهم وعظيمِ قدرِهم: ((لا يحبُّهم إلا مؤمِن، ولا يبغِضهم إلاّ منافق، ومن أحبَّهم أحبَّه الله، ومن أبغضَهم أبغضه الله)) [1].
أولئك أَحبابِي وصَحبِي ومَعشَري وقومي وإخواني وأعلامُ أمّتي
فمَن تطاول عليهم وافترى فقد ظلَم واجترى وجاء بأعظمِ الفِرى، فهم ـ وايمُ الله ـ لا يذكَرُون إلاّ بالجميل، ومَن ذكرهم بغير الجميل فهو على غير السّبيل.
وختامًا، فلتعلَموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ من أحبَّ شيئًا أجراه دومًا على لسانه ومكَّنه من سويداء جنانه.
ألا فأكثِروا ـ رحمكم الله ـ من الصلاة والسلامِ على الحبيب رسولِ الله كما أمركم بذلك ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه: ((مَن صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
يا ربِّ صلِّ على النبيِّ المصطفى ما غرّدَت في الأيكِ ساجِعَة الرُّبى
صلّوا على من تدخلون بِهديِه دارَ السلامة تبلغون الْمطلَبَا
يا أيّها الراجون خيرَ شفاعةٍ من أحمدٍ صلّوا عليه وسلِّموا
صلَّى وسلّم ذو الجلال عليه ما لبّى ملَبٍّ أو تَحلّل مُحْرِم
اللّهمّ فاجز عنّا نبيّنا محمّدًا خيرَ الجزاء وأوفاه، وأكمله وأسناه، وأتمَّه وأبهاه، وصلِّ عليه صلاةً تكون له رِضاءً، ولحقِّه أداءً، ولفضلِه كِفاء، ولعظمته لِقاء، يا خيرَ مسؤول وأكرمَ مأمول.
اللّهمّ إنّا نسألك حبَّك، وحبَّ رسولك محمّد ، وحبَّ العملِ الذي يقرّبنا إلى حبّك. اللهم اجعل حبَّك وحبَّ رسولك أحبَّ إلينا من أنفسنا ووالدينا والناس أجمعين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين...
[1] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3783)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (75) عن البراء رضي الله عنه، قاله في الأنصار رضي الله عنهم.
(1/3988)
فضل بيت المقدس
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
6/3/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيت المقدس في القرآن الكريم. 2- فضائل المسجد الأقصى وبيت لمقدس. 3- الارتباط الوثيق بين المساجد الثلاثة. 4- قضية القدس تعني كل مسلم. 5- القبلة الأولى. 6- معجزة الإسراء ومدلولاتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونَفسي بتَقوى الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
وصَف القرآنُ الكريم في كثيرٍ من آياتِه بيتَ المقدس ومسجدَه بالبَرَكة، وهي النّمَاء والزيادةُ في الخيرات، حيث قال سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وقال تَعَالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:71]، وقال تَعالى: وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]. وفي قصّة سليمان عليه السّلام يقول سبحانَه وتعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:81]، وقال تعالى على لسانِ موسى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]. وعند حديثِ القرآن عن رغَد عيشِ أهلِ سبَأ يقول سبحانه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ:18]، وهي قُرى بيتِ المقدس.
وصَف القرآن أرضَها بالرَّبوَة ذاتِ الخصوبَةِ، وهي أحسن ما يكون فيه النَّبات، وماءَها بالمعين الجاري، قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50]، قال الضحاك وقتادة: "هو بيتُ المقدس".
وفي قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114] قال كثير من المفسرين: "هو مسجد بيتِ المقدس". وقال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، أجمَع المفسِّرون على أنَّ المسجدَ المذكورَ هنا هو المسجدُ الأقصى.
المسجد الأقصى هو ثاني مسجِدٍ بنِيَ في الأرض، لما في الصّحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيّ مسجدٍ وضِع في الأرض أوّل؟ قال: ((المسجد الحرام)) ، قال: قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ((المسجد الأقصى)) ، قلت: كم كان بينهما؟ قال: ((أربعون سنة، ثمّ أينما أدرَكتك الصلاة بعدُ فصلِّهِ فإنّ الفضلَ فيه)) [1].
بيت المقدس لا يدخُلُه الدجّال، فقد روى جنادة بن أبي أميّة قال: أتينا رجلاً من الأنصار من أصحابِ رسول الله فدخلنا عليه، فقلنا: حدِّثْنا ما سمعتَ من رسول الله ، فذكر الحديث وفيه: ((عَلامتُه يمكُث في الأرضِ أربعين صباحًا، يبلغ سلطانُه كلَّ منهلٍ، لا يأتي أربعةَ مساجد: الكعبةَ ومسجِدَ الرّسولِ والمسجِدَ الأقصى والطّور)) رواه أحمد ورجاله ثقات [2].
وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله أيّهما أفضل: مسجِد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقالَ رسول الله : ((صلاةٌ في مسجدِي هذا أفضلُ من أربَعِ صلوات فيه، ولَنِعمَ المصلَّى هو، وليوشكَنَّ أن يكونَ للرّجل مثلُ شطنِ فرسه من الأرض حيث يَرَى منه بيتَ المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعًا)) أو قال: ((خير له من الدّنيا وما فيها)) أخرجه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبيّ [3].
وفي مسندِ أحمدَ وسُنن أبي داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبيِّ قالت: يا نبيَّ الله، أفتِنا في بيت المقدس، فقال: ((أرض المحشَر والمنشَر، ائتوهُ فصلُّوا فيه؛ فإنَّ صلاةً فيه كألفٍ فيما سواه)) [4].
تُشَدّ الرحال إلى المسجِدِ الأقصى، فعَن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((لا تشدُّوا الرحالَ إلا إلى ثلاثةِ مساجد: مسجدي هذا والمسجدِ الحرام والمسجدِ الأقصَى)) [5] ، فقد بيّن النبيّ الارتباطَ الوثيق بين هذه المساجدِ، وهو مشروعيّة شدِّ الرحال إليها لقصدِ التعبُّد فيها؛ لأنها كلَّها مساجد الإسلامِ والمسلمين مهما اختلَفَت ديارهم، وتبايَنت ألوانهم، أو تباعدَت عصورهم، فأيّ مسلمٍ أراد أن يشدَّ رحلَه إلى أحدِ هذه المساجد كان ذلك حقًّا له.
الشارِع ينهَى عن السفر إلى أيّ مكانٍ مسجدًا كان أو غيره لقصدِ العِبادة ما عدا المساجد الثلاثة المذكورة في الحديث. وحديث شدِّ الرحال يدلّ على الاهتمام الذي أولاه الرسولُ للأقصى المبارك، وربَطَ قيمتَه وبركته مع قيمةِ وبركةِ هذين المسجدَين الشريفين، ودلَّ أنه جعل هذه الثلاثةَ مساجد متقارِبةً في الفضل متنافِسَة في الأجر، فقد أخرج البزّار وحسّنه [و]الطبرانيّ وابن خزيمةَ من حديثِ أبي الدّرداء رضي الله عنه أنه قال: ((الصّلاةُ في المسجد الحرام بمائةِ ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألفِ صَلاة، والصّلاة في بيتِ المقدس بخمسمائة صلاة)) [6].
إتيانُ المسجد الأقصى بقصدِ الصلاة فيه يكفِّر الذنوب ويحُطّ الخطايا، فعَن عبد الله بن عمرو عَن النبيِّ قال: ((لمّا فرغ سليمانُ بن داود من بناءِ بيت المقدس سأل الله ثلاثًا: حُكمًا يصادف حكمَه، وملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وأن لا يأتيَ هذا المسجد أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاةَ فيه إلاّ خرج من ذنوبه كيومَ ولدَته أمُّه)) ، فقال النبيّ : ((أمّا اثنتان فقد أعطِيَهما، وأرجو أن يكونَ قد أعطِيَ الثالثة)) رواه أحمد والنسائيّ وابن ماجه [7].
بشَّر النبيُّ بفتحِ بيت المقدس، ومِن مؤيِّداتِ هذه البشارةِ حديثُ عوفِ بنِ مالك عن النبيِّ قال: ((اعدُد ستًّا بين يدي الساعة: موتِي ثمّ فتح بيت المقدِس)) رواه البخاري [8].
القدسُ حاضِرَة الخلافة الإسلاميّة في آخر الزمان، فعن عبد الله بنِ حَوالَة الأزديّ قال: وضَعَ رسول الله يدَه على رأسِي أو قال: على هامتي، ثم قال: ((يا ابنَ حَوالة، إذا رأيتَ الخلافةَ قد نزَلَت الأرضَ المقدَّسة فقد دنت الزلازلُ والبلابِل والأمور العظام، والساعةُ يومئذٍ أقربُ من الناس من يدِي هذه من رأسِك)) رواه أبو داود وأحمد [9].
إنَّ شأنَ القدس شأنُ المسلمين كلِّهم بنصِّ كتابِ الله وسنّة رسولِه ، لِكلِّ مسلمٍ حقّ في تلك الأرض المباركة، يقابِلُه واجبُ النُّصرة بكلِّ صوَرِه، فالحجّة تبقى قائمةً مع الحقِّ وأهله، وعلى الظلمِ وأهلِه إلى يوم الدين.
جمَع الله تعالى لنبيِّنا الأنبياءَ عامّة، وأنبياء بني إسرائيلَ خاصّة؛ حتى يسلِّموا له بالنبوّة، وفاءً لما عاهدوا الله تعالى عليه، كما أشار إلى ذلك قولُه سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
اقتَرَن المسجد الأقصى بالمسجدِ الحرام في قِبلَةِ التعبُّد للرحمن، وذلك في مسألةِ التوجُّه شطرَه في الصلاة، فقد كان المسجدُ الأقصى قبلةَ الأنبياء السابقين، فما مِن نبيٍّ إلاّ وأعلَنَ أنَّ دينَه الإسلام وإن اختَلَفتِ الشرائع بينهم، وقد كان على سَنَن الأنبياءِ قَبلَه: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
وكان من اقتدائه بهم أن يتوجَّهَ إلى البيتِ المقدس في صلاتِه اتِّباعًا لشرعِ الله. ظلَّ على ذلك مدَّةَ نبوَّتِه في مكّة، وهو يرَى الكعبةَ أمامَه، ويطمع في التوجُّه إليها، ولا يسَعُه ذلك لعدمِ شرعِ الله تعالى له، حتّى نزل قوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ [البقرة:144]. ولعلَّ في استقبالِ بيتِ المقدس أوّلاً ثمّ تحويله إلى بَيتِ الله الحَرَام تنبِيهَ المسلمِين إلى ما يجِبُ عليهم القِيامُ به نحوَ بيت المقدِس مِنَ الحِفاظِ عليه من أن يُدَنَّسَ برجسِ الوثنيّة أو المعاصِي السيّئة، ولِتبقَى القدس خالدةً في أذهان المسلمين حتى لا تنسَى ما بقِي فيهم القرآن الكريم وما بقيت قلوبهم عامرةً بالإيمان، وليبقَى هذا الحديثُ في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا مِن خلفِه.
لقد مكَّن الله تعالى للمسلمين فتحَ بيت المقدس في الصَّدرِ الأوّل من الإسلام، أقاموا فيه الصلاةَ، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وثبَت دين الله تعالى في الأرض، وما زال والحمدُ لله تعالى كذلك وإن قام الطغيان فيه وصال وجال ردحًا من الزمن، فإنّه لا بدَ زائل كما أذِن الله تعالى بذَلك في قوله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:5، 6].
هذا البيتُ المقدَّس الأقصى بقِي وسيبقى على الرّغم من المِحَن التي عصَفَت وتعصِف بالمسلمين حصنَ الإسلامِ معقِلَ الإيمان إلى قيامِ الساعة، قال : ((لا تزال طائفةٌ من أمّتي على الحقّ ظاهرين لعدوِّهم قاهِرين، لا يضرّهم من خالَفهم إلاّ ما أصابهم مِن لأوَاء حتى يأتيَهم أمر الله وهم كذَلك)) ، قالوا: يا رسولَ الله، وأينَ هُم؟ قالَ: ((ببيتِ المقدِس وأكنافِ بيتِ المقدِس)) رواه أحمد [10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3366)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (520).
[2] مسند أحمد (5/435)، وأخرجه أيضا عبد الله في السنة (1016) عن أبيه، والطحاوي في شرح المشكل (14/376)، قال ابن حجر في الفتح (13/105): "رجاله ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (7/343): "رجاله رجال الصحيح".
[3] مستدرك الحاكم (8553)، ورواه أيضا الطبراني في الأوسط (6983، 8230)، والبيهقي في الشعب (3/486)، قال المنذري في الترغيب (2/142): "إسناده لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (4/7): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/2/954).
[4] مسند أحمد (6/463)، سنن أبي داود: كتاب الصلاة (457)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة (1407)، ورواه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3448)، وأبو يعلى (7088)، والطبراني في الكبير (25/32) والأوسط (8445)، والبيهقي في الكبرى (2/441)، قال الذهبي في المهذب (2/869)، والألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (298): "منكر".
[5] صحيح البخاري: كتاب أحاديث الحج (1864)، صحيح مسلم: كتاب الحج (827).
[6] أخرجه ابن عدي في الكامل (3/398)، وابن عبد البر في التمهيد (6/30) من طريق البزار، ونقل تحسينه للحديث، وقال الهيثمي في المجمع (4/7): "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام، وهو حديث حسن"، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص293)، وانظر: الإرواء (1130).
[7] مسند أحمد (2/176)، سنن النسائي: كتاب المساجد (693)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة (1408)، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (8989)، والبيهقي في الشعب (3/494)، وصححه ابن خزيمة (1334)، وابن حبان (1633، 6420)، والحاكم (83، 3624)، والنووي في تهذيب الأسماء (1/233)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (4/137، 14/282)، وابن القيم في المنار المنيف (161)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1156).
[8] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3176).
[9] مسند أحمد (5/288)، سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2535)، وأخرجه أيضا البيهقي في الكبرى (9/169)، وصححه الحاكم (8309)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2210).
[10] رواه عبد الله وجادة عن خط أبيه (5/269) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (8/145)، وقال الهيثمي في المجمع (7/288): "رجاله ثقات"، لكن الراوي عن أبي أمامة فيه جهالة، ولذا وضعفه المعلمي في الأنوار الكاشفة (ص130).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وكفَى، وسلامٌ على عبادِه الذين اصطفى، أحمده سبحانَه وأشكره في الآخرةِ والأولى، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، له الأسماءُ الحسنى والصِّفات العُلا، وأشهَد أنّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسولُه، القدوة المجتبى والحبيب المصطَفى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوى الله.
لقد سجَّل القرآن الكريم مكانَةَ القدسِ حين بيَّن أنَّ الله سبحانه أسرَى بعبدِه محمّدٍ من المسجدِ الحرام إلى المسجدِ الأقصى. وقد مرّ الرّسول في رحلتِه إلى المسجدِ الأقصَى ثمّ وصَل إلى بيتِ المقدِس، فوجد فيه إبراهيمَ وموسى وعيسى في جمعٍ من الأنبياء والمرسلين، صلَّى بهم جميعًا، ثمّ عرِج به إلى السماء، رأَى من آيات ربِّه الكبرى، ولما عادَ مِن رحلتِه المباركة وأخبَرَ قومَه كان مِنهم من صدَّق ومنهم من كذَّب، وذهَب بعضهم إلى أبي بكر الصديقِ رضي الله وأخبَروه، فما كان جوابُه إلاّ أن قال لهم: والله، لئن كان قالَه لقد صدَق، قالوا: تصَدِّقه على ذلك؟! قال: إني أصدِّقه على أبعدَ من ذلك، أصدِّقه على خبَر السّماء [1].
تمادَى القومُ في لجاجهم وحوارِهم يسألونَ رسولَ الله في تعنُّتٍ عن بيتِ المقدس، ومنهم من كان قَد رَآه، وظنّوا أنهم سيوقعونه في حرجٍ، ولكنه وهو المؤيَّد من ربِّه وصَف لهم بيتَ المقدس وصفًا كامِلاً، وأخبرهم عن آياتِه، يقول : ((فذهبتُ أنعَت، فما زِلت أنعَت حتى التبَس عليَّ بعضُ النّعت)) قال: ((فجِيء بالمسجِدِ وأنا أنظر حتى وضِعَ دون دارِ عُقَيل)) ، فقال القوم: ((أمّا النعتُ فوالله لقد أصابَ)) رواه أحمد [2].
وكان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه كلّما وصَف لهم الرَّسولُ وصفًا يقول: صدقتَ أشهدُ أنّك رسول الله [3] ، ثم قال : ((ثم دخلتُ المسجد فصلَّيت فيه ركعتين، ثم خرجتُ فجاءني جبريل عليه السلام بإناءٍ من خمرٍ وإناءٍ من لبن، فاخترتُ اللّبَن، فقال جبريل : اخترتَ الفطرة)) رواه أحمد [4] ، وفي رواية أبي أمامَةَ عند الطبرانيّ مرسلا: ((ثم أقِيمَت الصلاة فتدافَعوا حتى قدَّموا محمّدًا )) [5] ، فصلّى إمامًا بالأنبياءِ جميعًا في المسجدِ الأقصى. وهكذا كانت إمامةُ الرسول للأنبياءِ والمرسلين في هذا المكانِ المقدَّس إعلانًا بختم رسالاتِ السماء، وأن رسالتَه خاتمةٌ، وأنّه خاتَم الأنبياءِ والمرسلين.
وإن حادثَ الإسراء والمعراج ليضَع في أعناق المسلمين في كلِّ الأرض أمانةَ القدس الشريف، والتفريطُ فيه تفريطٌ في دين الله، وسَيسأَل الله تعالى المسلمين عن هذه الأمانة إن فرَّطوا في حقِّها أو تَقاعَسوا عن نصرَتها وإعادَتها.
نعم، على كلِّ مسلمٍ أن يعرفَ للأقصى المبارك قدرَه، وأن يرتبطَ به ارتباطَ حبٍّ وإيمان، مدافِعًا عن طهره، منافِحًا عن كرامَتِه، باذلاً الغاليَ والرخيص في سبيل نصره وعزِّه.
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدَى، فقد أمرَكم الله بذلك في كتابِه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربَعَة الراشدين...
[1] رواه الحاكم (4407) عن عائشة رضي الله عنها وصححه، وهو في السلسلة الصحيحة (306). وعزاه ابن حجر في الفتح (8/392) وفي التغليق (4/240) لقاسم بن ثابت في الدلائل مرسلا.
[2] مسند أحمد (1/309) عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه أيضا ابن أبي شيبة (6/313-314، 7/334-335)، والنسائي في الكبرى (6/377)، والطبراني في الكبير (12/167) والأوسط (2447)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/363)، قال الهيثمي في المجمع (1/65): "رجال أحمد رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3021). وقصة وصفه بيت المقدس لكفار قريش أخرجها البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] انظر: السيرة النبوية (2/245).
[4] رواه مسلم في الإيمان (162) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[5] المعجم الأوسط (3879) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا، قال الهيثمي في المجمع (1/77): "رواه الطبراني في الأوسط هكذا مرسلا، وقال: لا يروى عن ابن أبي ليلى إلا بهذا الإسناد، ومع الإرسال فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف".
(1/3989)
الإخلاص
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أهمية التوحيد
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
6/3/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الإخلاص. 2- من صور الإخلاص. 3- خطورة التبرّج وإهمال تربية الأبناء. 4- التحذير من الزواج العرفي. 5- مكانة العلماء ودورهم. 6- القدس في خطر. 7- وقفة إجلال للمرابطين في الأقصى. 8- فضيلة الرباط في سبيل الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، حديثنا اليوم وإياكم عن الإخلاص، وهو سرٌّ بين العبد وربه، لا يطّلع عليه مَلَك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده. والإخلاص مِسْك القلب وماء حياته، ومدار الفلاح كله عليه، يقول المولى تبارك وتعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
وتذكروا ـ أيها المؤمنون ـ أن سيدنا رسول الله بيّن لنا أن الأمة الإسلامية تُحفَظ وتُنصَر بإخلاص رجالها، وقد بشّر المخلصين بالسَّناء والرّفعة والتمكين في الأرض، فقال : ((بشّر هذه الأمة بالسَّناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)).
والإخلاص ـ يا عباد الله ـ سبب من أسباب غفران الذنوب، ويجعل الأعمال مقبولة عند مقلب القلوب، فقد ورد عن أبي أمامة جاء رجل إلى النبي فقال: أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله : ((لا شيء له)) ، ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغِي به وجه الله)).
قال أهل العلم: العمل بغير إخلاص ولا اقتداء كالمسافر يملأ جِرابه رملاً ينقله ولا ينفعه. وقيل لأحد الصالحين: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟! قال: لأنهم تكلموا لعزّ الإسلام ونجاة النفوس ورضا الرحمن، ونحن نتكلم لعزّ النفوس وطلب الدنيا ورضا الخلق. فأهل العلم إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغِلوا، فإذا شُغِلوا فُقِدوا، فإن فُقِدوا طُلِبوا، فإن طُلِبوا هَرَبوا.
ومن هنا فقد نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون الحركة والسكون في السرّ والعلانية لله تعالى، لا يمازجه شيء، لا نفس، ولا هوى، ولا دنيا.
ومن صور الإخلاص ـ يا عباد الله ـ الإخلاص في الصلاة وقول كلمة التوحيد بقلب خالص، لقوله : ((ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصًا إلا فُتِحت له أبواب السماء، حتى تُفضِي إلى العرش، ما اجتُنِبت الكبائر)).
وكذلك أوصانا رسولنا أن نُخلِص الدعاء إذا دعونا للميّت وصلّينا عليه، فقال: ((إذا صلّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)). فأين نحن من هذا يا عباد الله؟! نصلي على الأموات وقلوبنا ساهية لاهية، لا نقف بخضوع وخشوع، ولا نتذكّر أننا سنموت يومًا من الأيام. نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن خشعت قلوبهم ولانت أفئدتهم وتذكّروا آخرتهم.
عباد الله، قال الفُضَيل بن عِياض رحمه الله في قوله تعال: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]: هو أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. ثم تلا قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
واستمعوا ـ يا عباد الله ـ لهذه القصة الدالّة على صدق النية وحسن الإخلاص: الإمام الجليل العالم المجاهد عبد الله بن المبارك كان في سفر لغزو الروم ومعه صاحب له، فتصَنّع صاحبه بالنوم عندما حلّ عليهما الظلام ليرى ماذا سيصنع ابن المبارك في ليلته. قال: فظنّ أني قد نمت، فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر، ثم أيقظني، وظن أني نائم، فقلت: إني لم أنم، قال: فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يكلمني، لا ينبسط إليّ في شيء من غزاته كلها، كأنه لم يعجبه ذلك مني، فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أر رجلاً أسَرّ بالخير منه.
إنه الإخلاص لله في العبادة، لا رياء ولا سمعه ولا شهرة كاذبة. هكذا كان علماء الأمة في معاملتهم مع الله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لا غش ولا خداع، ولا مظاهر براقة، كانوا لا يلتفتون إلى الدنيا وزخارفها.
عباد الله، كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، أين الآباء الذين يراقبون أولادهم وبناتهم والمحافظة عليهم من الفساد؟! إن سبب انحطاط الأخلاق تبرّج النساء والتعرّي وإظهار المفاتن، وما يُبثّ على شاشات التلفزة من مظاهر العُهْر والظلام والرقص المعيب، وما تنشره كتب الفسق، وما يُشاهَد من الصور الخليعة، لا سيما اجتماع النساء والرجال في الحفلات والأعراس، فهذ كله حرّمه الإسلام.
فيا أيها المسلمون، صونوا أعراضكم، وكفّوا عن مظاهر الفساد نساءكم، وأمروهنّ بالحِشمة في اللباس وبالتستّر الكامل، وانهوهنّ عن لبس البناطيل المجسّمة وعن تضييق الثياب ولبس الشفاف، واحجبوهنّ عن مجتمعات اللهو وشهود التمثيل الداعِر والآلات اللاقطة، حرصًا على كمال الأخلاق، وصونًا للفضائل والكمالات، ومن هنا نهيب بالتجار أن لا يجلبوا الملابس الخليعة وبيعها في أسواقنا، وخاصة أننا أقبلنا على فصل الصيف.
عباد الله، فسادٌ بدأ يدبّ في مجتمعنا، ألا وهو ما يُعرف بالزواج العُرْفي، تتعرّف الفتاة على شابّ، ثم يتزوجان من غير موافقة وليّ أمرها، وما ذلك إلا لفساد البيت والتربية، وقد بدأ ينتشر هذا النوع من الزواج الباطل والفاسد بين فئة قليلة من أبناء شعبنا وخاصة الطالبات في المدارس والجامعات، ومن هنا فإننا نحذر من هذا الفساد، نحذر من هذا النوع من الزواج، حيث فساده كما ذكرنا، ثم عدم الاعتراف بهذا الزواج رسميًّا، فتابعوا أحوال أولادكم وبناتكم في أوقات خروجهم من البيوت، وإياكم ثم إياكم والتهاون في هذا الأمر، وعندئذ ولات ساعة مندم.
عباد الله، إن المجتمع لا يكون صالحًا إلا بصلاح أولي الأمر من العلماء والأمراء والحكام والوزراء، فإذا صلح هؤلاء صلح المجتمع، وإذا فسدوا فسد المجتمع. وأنتم ـ أيها العلماء ـ كونوا كسلفكم من أبناء هذه الأمة، كونوا مخلصين صادقين مع الله، قوموا بواجبكم في حماية المجتمع من مظاهر الفساد والإفساد، تخلّوا وابتعدوا عن صفات الرياء والنفاق لحكامكم تفلحوا عند ربكم، وتنالوا المكانة السامية لدى أمتكم، انظروا إلى هذا المشهد الذي يضع العالم في مكانته السليمة بين الأمة: لما قدم هارون الرشيد الرقّة ورد ابن المبارك فانْجَفَل الناس إليه، فأشرفت زوجة الرشيد من برج القصر، فلما رأت الناس وكثرتهم قالت: ما هذا؟ قالوا: عالم خراسان، فقالت: والله هذا هو الملك، لا ملك هارون الرشيد الذي يجمع الناس إليه بالسواط والعصا والأعوان.
فبالله عليكم أيها المؤمنون، هل يوجد بالأمّة اليوم مثل ابن المبارك في علمه وإخلاصه وزهده وجهاده وعبادته؟! فالعالم ـ يا عباد الله ـ إذا أراد بعلمه وجه الله تعالى هابه كل شيء، وإذا أراد أن يُكثر به الكنوز والأموال هاب من كل شيء.
فالإخلاص الإخلاص أيها المؤمنون، فالإخلاص يجعلك تحب مولاك، وإذا أحببته أحبك، والمحبة شجرة تُغرس في الفؤاد، وتُسقى بماء الود، أصلها ثابت وثمرها لطائف الأنس، تؤتي أكلها دائمًا بإذن ربها. والمحبّ دائمًا عديم القرار فقيد الاصطبار، لا يسكن أنينُه، ولا يهدأ حنينُه، نهاره ليل، وليله نهار.
فيا أيها المسلم، أما آن لك أن تستعد بزاد التقوى؟! أما آن لك أن تمحو قبيح أفعالك؟! فإن القبيح مكتوب، أتضحك ملء فمك وعليك ذنوب؟! عُد إلى رشدك، وابتعد عن هواك، وأخلص العمل تنل جنة مولاك.
عباد الله، القدس في خطر كبير، وإسرائيل تستغلّ حالة الهُدنة أو التهدئة فتواصل إقامة الجدار العُنصري، وتصادر الممتلكات، وتعمل على توسيع المستوطنات في القدس والضفة الغربية، وهذا هو منهجهم منذ زمن بعيد: في ثورة 1936م والإضراب المشهور عملوا على تكثيف الاستيطان والهجرة اليهودية لأرض فلسطين، وفي عام 1948م استغلت الهدنة وهدمت القرى وهجرت أهلها وهددت المنطقة بأسرها، وفي عام 1967م صادرت الأراضي وهدمت القرى وأقامت المستوطنات وأبعدت من أبعدت. هذا هو سبيلهم، المزيد من الاستيطان والتوسّع، والواجب على أمة الإسلام في كل مكان أن يقفوا وقفة صادقة مع شعبنا المرابط حتى يصمد أمام مخططات المستعمرين الحاقدين.
أيها المسلمون، أيها المرابطون في هذه الرحاب الطاهرة، يا من شرفكم الله بشرف الرباط على ثغر من ثغور الإسلام إلى يوم الدين، لقد أفشلتم بوقفتكم الشجاعة ووحدتكم الإيمانية المخلصة وإرادتكم الصلبة أطماع الحاقدين من تحقيق مآربهم، لقد أثبتم أنكم أهل للدفاع عن مسجدكم المقدس، فكنتم حُماة الديار نيابة عن أمة الإسلام في كل مكان، وبالمقابل فقد أثبت زعماؤكم أنهم أمة مغلوب على أمرها، يأتمرون بأمر الغرب، ويتباكون على السلام المزعوم، ويستعجلون التطبيع والانفتاح، وقد ضنّوا عليكم مجرد الشّجْب والاستنكار! فلا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المؤمنون، ورغم وقفتكم المشرّفة المباركة إلا أن الخطر ما زال قائمًا، ومحاولات الحاقدين المتربصين لن تتوقف، ونحن ـ وبتوفيق الله ـ أمة صابرة، أمة مرابطة، فعلينا أن نكون على قدر المسؤولية، وأن نعمر مسجدنا دائمًا وفي كل الأوقات، وليس في المناسبات فقط، فالخطر لن يتوقف ما دام الاحتلال جاثمًا على صدورنا.
عباد الله، إن أي تقصير سيمهّد الطريق أمام المتطرّفين لتحقيق مآربهم وتحقيق أهدافهم، حذارِ من العملاء الذين يحاولون الإساءة إلى قدسية هذا المكان الطاهر، أو إعطاء الفرصة لإحداث أمور تسيء إلى مسجدنا. فلا تعطوا الفرصة للنيل من صمودكم وتدنيس مسجدكم، فإن الأنباء تتحدث عن عزم المستوطنين إعادة الكرّة في الشهر القادم، فالرباط الرباط يا عباد الله، فهو أفضل عبادتكم عند الله تعالى، فقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله قال: ((رباط يوم في سبيل الله خير عند الله من الدنيا وما فيها)) ، وفي صحيح مسلم عن سلمان قال: سمعت رسول الله يقول: ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأُجرِي عليه رزقه، وأمِن الفتان)) ، والفتان هو الشيطان، وفي هذين الحديثين دليل على أن الرباط أفضل الأعمال التي يبقى ثوابها بعد الموت. والرباط يضاعف أجره إلى يوم القيامة، وصاحبه يبعث يوم القيامة آمنًا من الفزع.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن انتظار الصلاة بعد الصلاة رباط، فقد يحصل لمنتظر الصلوات ذلك الفضل إن شاء الله، فها هو نبينا يقول للجالسين في المساجد ينتظرون الصلوات: ((أبشروا معشر المسلمين، هذا ربكم قد فتح بابًا من أبواب السماء يباهي بكم الملائكة يقول: يا ملائكتي، انظروا إلى عبادي هؤلاء، قضوا فريضة وهم ينتظرون أخرى)).
أيها المسلمون، تواجدوا للصلاة في مسجدكم، وعمّروه بوجودكم، علّموا أولادكم الصلاة فيه، وجنّبوه الأذى واللعب في ساحاته، جنّبوه اللعب والبيع والشراء ورفع الأصوات والتشويش واللغط، لقول رسولنا الأكرم : ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد الأقصى فقولوا له: لا أربح الله تجارتك)).
ومن هنا نهيب بمن يجمع التبرعات في ساحات المسجد الأقصى أن يكفوا عن ذلك، وأن يجمعوا خارج أبواب المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى ليس مكانًا لأمثال هذه الأمور، وإنما هو لعبادة الله، ومن أراد أن يتبرع عليه التوجّه إلى لجان الزكاة المختصة من أجل ضمان وصول المال إلى الجهات المعنيّة.
فهنيئًا لكم ـ يا أهل فلسطين ـ برباطكم، هنيئًا لكم بهذا الشرف العظيم، فقد استأثره الله لكم دون غيركم، فعاهدوا الله على المحافظة عليه، ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3990)
حق المؤمن على المؤمن
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/2/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرابطة الإيمانية أقوى الروابط. 2- امتنان الله تعالى على عباده بالأخوة الإيمانية. 3- أساس الرابطة الإيمانية. 4- حقوق المؤمن على أخيه: الحب في الله، النصيحة، ستر العيوب، تنفيس الكروب، المؤازرة في الشدائد، المشورة الحسنة، تيسير الديون، الدفاع عن عرضه، عدم النميمة، كف الأذى. 5- ((المؤمن أخو المؤمن)). 6- حب الخير للمؤمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، صِلَة الإيمان أقوَى الصِّلات، رابطَةُ الإيمان أعظَم الروابِط، أخوَّةُ الإيمان أخوّةٌ صادقة، فصِلَة الإيمان لا انفصامَ لعُراها، صلةٌ لها جذورُها في قلب المؤمن، صلةٌ منطلِقَة من الإيمان الصادِق مِن الإيمان الحقيقيّ، الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]. أجل، إنّ أُخوَّة الإيمان أخوّةٌ دائمة في الدّنيا والآخرة، أخوَّةٌ قامت على الإيمانِ الصَّادق، فهي الأخوَّة الثابتة التي لا تنفصِم عُراها، وهم يومَ القيامة أولياءٌ بعضُهم لبعض، الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ. كلُّ صِلة قامت على غير الإيمان فإنها صِلَة وقتيّة تنقضي بانقضاء موجبها ومسبِّبها، أمّا صلة الإيمان فهي الصِّلة الثابِتَة؛ إذ هي قائمة على أساسٍ من الإيمان بالله ودينه.
أيّها المسلمون، إنَّ الله جلَّ وعلا ذكَّر عبادَه المؤمنين بهذه الصِّلةِ ممتَنًّا بذلك علَيهم، قال تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، وقال أيضًا جلَّ جلاله مبيِّنًا لهم أخوَّةَ الإيمان: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، وأخبرَ جلّ وعلا ما بَين المؤمنين من موالاةٍ صادِقة فقال: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71].
أيّها المسلم، صِلَة الإيمان وأخوَّة الإيمان ورابِطَة الإسلام قامَت على أنقاضِ الجاهليّة التي بنَت صِلتَها وأخوَّتها على أخلاقِ الجاهليّة، صلَةُ النّسب أو عَلاقةُ الوطَن أو اللّغة أو الجنس، والإسلام أقام الصلةَ الحقيقيّة على الإيمان وحدَه، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63].
أخِي المسلم، لأجل هذا فللمؤمِنُ على المؤمِن حقوق، للمؤمن على أخيه المؤمن حقوقٌ أوجبها عليه الإيمان الصادقُ:
فمِن أعظم الحقوق محبّتُك لأخيك المؤمن في الله ولأجلِ الله، وتلك المحبّةُ الباقية؛ لم تقم على مادّيات، لم تَقم على مصالحَ شخصيّة وأغراضٍ دنيويّة، وإنما هي محبّة لمؤمنٍ آمن بالله ورسولِه والتزَم شرعَ الله، فأحببتَه على هذا المنهَجِ خاصّة، وتلك المحبّة الإيمانيّة الدالّة على صِدق الإيمانِ، يقول : ((ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجد بهنَّ حلاوةَ الإيمان: أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحِبَّ المرءَ لا يحبُّه إلا للهِ، وأن يكرهَ أن يعودَ في الكفر بعدَ إذ أنقذه الله منه كما يكرَه أن يُقذَف في النار)) [1] ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (من أحبَّ في الله وأبغَض في الله ووالى في الله وعادَى في الله فإنما تُنال ولايةُ الله بذلك، ولن يجِدَ أحد طعمَ الإيمان وإن كثُرت صلاتُه وصومه حتَّى يكون كذلك)، قال: (ولقد صارَت عامّةُ مؤاخاةِ الناس اليومَ على أمر الدنيا، وذلك لا يجدِي على أهلِه شيئًا) [2]. فأخبر رضي الله عنه أنّ عامّةَ أخوّة الناس قامت على الدنيا المحضَة، وهذا لا يجدي ولا يحقِّق خيرًا؛ لأنَّ من أحبَّك لأمرٍ ما فسيبغِضك عند انقطاع ذلك الأمر، أمّا من أحبَّك لله وفي اللهِ فتلك محبّةٌ باقية بتوفيقٍ من الله.
أيّها المسلم، ومن حقِّ المؤمن على المؤمِن نصيحتُه له عندما يشعر منه بخطَأ وعندما يرَى منه مخالفةً في الأقوال والأعمال، فمِن كمال محبّتِه لهذا المؤمن أن ينصَحَه نصيحةً صادقةً من قلبٍ مليءٍ بالرحمة والشفَقَة والحنانِ على هذا المسلم، والسَّعي في الحيلولة بينه وبين الوقوع في عذابِ الله، فالمؤمِن مِرآةُ أخيه المؤمن، لا يرضى له بالزَّلل، ولا يقِرّه على خطأ، ولا يفرَح بنقصه، بل يهتمّ بأخيه المؤمن، يبدي له النصيحةَ في ذات الله، نصيحةً فيما بينه وبينه، يصلِح بها أخطاءَه، ويقيم بها ما اعوجَّ مِن سلوكه، ويوجِّهه للطريق المستقيم، كلَّما رأى في أخيه عيبًا بادَر بالنّصيحة، بادر بالتوجيهِ، بادر بالتّرغيب والترهيب، بادر بالسّعي في إنقاذِه من عذاب الله، لا يرضَى بأخطائه، ولا يقرّه على مخالفاته، مهما كانت تلك المخالفات، فهو يحبّ له ما يحبّ لنفسِه، فكما لا يرضَى لنفسه بالمخالفة الشرعية فهو لا يرضَاها لأخيه المؤمن، وفي الحديث: ((الدِّين النصيحة)) ، قالوا: لمن: قال: ((لله ولكتابِه ولرسولِه ولأئمّة المسلمين وعامّتِهم)) [3] ، وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعتُ رسول الله على إقامِ الصّلاة وإيتاءِ الزّكاة والنُّصح لكلِّ مسلم [4]. والناصح لا يفضَح ولا يشهِّر، ولكن يكتُم ويسعَى في الخيرِ جُهدَه، هذا خلُق المؤمن حقًّا، غيرُ المؤمن شامِتٌ وناشرٌ للخطأ ومشِيعٌ للفاحشة وفَرِح بالنقصانِ، نسأل الله العفوَ والعافية.
من حقِّ المؤمِن على المؤمن سترُ عورته، فيستُره إذا كان هذا السِّتر يردَعُه عن إجرامه، فإذا [وقع] على خطأ مِنه ستَر عَورتَه بعدَ النّصيحة، فلا يفضَحُه أمام الأشهادِ، ولا ينشر خِزيَه، ولكن ينصَح ويستر ويحِبّ أن لا تشيعَ الفاحشة، مخالفًا لأولئك الذين يفرَحون بالأخطاء ويشيعون الباطل، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
مِن حقِّ المؤمن على المؤمِن تنفيسُ كُربَتِه وتفريج همِّه وتيسير عُسرِه قدرَ ما يمكِنُه، فذاك مِن حقِّ المؤمِن على المؤمن، وفي الحديث يقول : ((من نفَّس عن مؤمنٍ كُربة من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القِيامة، ومن يسَّر على معسِرٍ يسَّر الله له في الدنيا والآخرة، ومن ستَر مسلمًا سترَه الله في الدنيا والآخرة)) [5].
ومِن حقِّ المؤمن على المؤمن وقوفُه معه عند الأزمات ومساعدتُه في المواقف المحرِجة، وفي الحديث: ((والله في عونِ العبد مَا دامَ العبدُ في عون أخيه)) [6].
مِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن يشيرَ عليه بطُرُق الخير إن استشاره في أمورِ دينِه ودنياه، فيشيرُ عليه بما يحبّه لنفسه، فإن المستَشَار مؤتمن، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فإذا استشارك في أمرٍ ما فأشِر عليه بما تعلَمه خيرًا وما تظنُّه خيرًا على قدرِ ما وهبك الله من المعرِفة والفَهم، وإن قصُر عِلمُك وقلَّ إدراكُك في هذا فأحِله أو استَعِن بمن تعلَم أنه يهدِي إليه مشورةً طيِّبة حتى لا يقع المسلم في الخَطَأ.
مِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن ييسِّر عليه قضاءَ الدَّين إذا تعذَّر عليه ذلك، ولا يكلِّفه ما لا يطيق، ولا يرفع شكايَةً عليه، ولا يفضحه أمامَ الخَلق، بل يصبِر حتى ييسِّر الله الأمورَ، قال تعالى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280]. ويَومَ القيامة يدخِل الله عبدًا من عبيدِه الجنّة؛ عمَلُه: كان يوصي غِلمَانه أن ييسِّروا على الموسِرين وينفِّسوا على المعسِرين، قال الله: أنا أحقُّ بذلك منك فأمَر فأدخِل الجنّة [7].
مِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن يحمِيَ عِرضه عندما يَطعَن فيه الطاعنون ويقدَحُ فيه القادحون وينتَهِش عرضَه المغرِضون الفارِغون من الخيرِ، يحمي عِرضَ أخيه المسلم، ولا يدَع لحقير ولا ضعيفِ الإيمان أن ينبَسِطَ في عرض أخيه ويتَّهمه بما يعلَم الله براءَتَه منه، فمن انتُقِص عنده عرضُ أخيه المسلم فحمَاه ودافع عنه فإنَّ الله جلَّ وعلا يقِي وجهَه عذابَ النار يومَ القيامة، وينصره في موضِعٍ يحبّ فيه نصرتَه، ومن خذَل أخاه في موضعٍ يحبّ أن ينصَرَ فيه خذلَه الله في مكانٍ يحبّ أن يُنصَرَ فيه، فلا تدَع لذوي الأخلاقِ السيّئة الانبِساط في أعراض المسلمين والقَدح فيهم بما هم برَءَاءُ منه، احمِ أعراضَهم وصُن أعراضَهم يحمِك الله من عذابِه يومَ القيامة.
ومِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن لا يسعَى بنميمةٍ تفرِّق بين الأصحابِ وتحدِث بينَ الجماعة تصدُّعًا وتفرّقًا، فالنّمّام لئيم، يفرِّق بين الأخ وأخيه والصّديق وصديقهِ، وربما فرَّق بين ذوي الرحم وبين الأولاد وآبائهم وبين الزّوجات وأزواجِهِم.
ومِن حقِّ المؤمن على المؤمن أن يكُفَّ الأذى عنه قوليًّا أو فعليًّا، ففي الحديث: ((المسلِم من سلِم المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمن من أمِنَه الناس على دِمائهم وأموالهم)) [8].
أيّها المسلم، حقُّ الإيمان يقتضِي منك ما بيَّنه النبيّ بقوله: ((المؤمِن أخو المؤمن؛ لا يظلمه، ولا يكذِبه، ولا يحقره، ولا يخذله، التَّقوى ها هنا، بحسب امرِئٍ من الشرّ أن يحقِر أخاه المسلِم، كلُّ المسلِم على المسلم حرَام: دمُه وماله وعرضه)) [9].
أيّها المسلم، فمن حقِّ المسلم عليك أن لا تحدِّثَه حديثَ كذِب يظنُّك صادقًا، وربما حدَّث به فاتُّهِم بالكذب. ومِن حقِّه عليك أن لا تظلِمَه بأيّ مظلمةٍ في دمٍ أو مال أو عِرض، لا تجحَد له حقًّا، ولا تبخَس له حقًّا، أعطه حقَّه وأوفه كما تحبّ أن تُعامَل. لا تخذله بين الناس، وتنشر فضائِحَه بين الناس، وتستغِلّ علمك بما خفيَ على الغير، فتخذله في المجتمع، وتبدي لهم عورَتَه وزلاّتِه، بل استُرها، واسأل الله له العفوَ والعافية، ومن أظهَر الشماتَةَ بأخيه فربما يعافِيه الله ويبتَليه، وفي الأثَر الآخر: "مَن عيَّر أخاه بذنبٍ لم يمُت حتى يعمَلَ ذلك الذنب" [10]. ولا تحقِره، فهو أخوك المؤمن وإن علَوتَه جاهًا أو مالاً أو نسبًا، لكن أخوّة الإيمان فوقَ كلِّ هذا الاعتبار. فالمؤمنُ الصادق يرََى أخوّةَ الإيمان أخوّةً باقية، لا يحمِله جاهه ومركزُه أن يحتَقِر المؤمنين الذين أقلّ منه جاهًا ومركزًا، ولا يحمِله ماله وتجارَته أن ينظرَ إلى إخوانِه الفقراء من المؤمِنين نظرَ الازدِراء والاحتقار، ولا تحملنّه قوّتُه ونشاطه أن ينظرَ إلى الضعفاءِ نظرةَ الاحتقار والازدراء، بل المؤمن له عِنده شأنُه وقيمتُه، والتفاضلُ عند الله إنما هو بالأعمال الصالحة، وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فِيِه منَ الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستَغفِر الله العظيم الجليل لي ولَكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذَنب، فاستغفروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (16)، ومسلم في الإيمان (43) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] رواه العدني في الإيمان (56)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (396) من طريق ليث بن أبي سليم عن مجاهد عنه، وعزاه ابن رجب في جامع العلوم والحكم (ص34) للطبري. ورواه الطبراني في الكبير (12/417) من طريق ليث عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56).
[5] أخرجه مسلم في الذكر (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] هو من تتمة حديث أبي هريرة السابق.
[7] أخرجه البخاري في البيوع (2077)، ومسلم في المساقاة (1560) من حديث حذيفة رضي الله عنه نحوه.
[8] أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118). وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي موسى وجابر وأنس وعمرو بن عبسة وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم.
[9] أخرجه مسلم في البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] روي مرفوعا، أخرجه الترمذي في الرقاق (2505)، وابن عدي في الكامل (6/172)، والبيهقي في الشعب (6778)، والخطيب في تاريخه (2/340) من طريق خالد بن معدان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه مرفوعا، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل، وروي عن خالد بن معدان أنه أدرك سبعين من أصحاب النبي ، ومات معاذ بن جبل في خلافة عمر بن الخطاب، وخالد بن معدان روى عن غير واحد من أصحاب معاذ عن معاذ غير حديث"، وحكم عليه أبو زرعة بالنكارة كما في سؤالات البرذعي (ص284-286)، وابن الجوزي بالوضع، وكذا الصاغاني في الموضوعات (ص6)، والألباني في السلسلة الضعيفة (178)، لأن فيه محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني رمي بالوضع. وقد روي من قول الحسن البصري رحمه الله، أخرجه عبد الله في زوائد الزهد (ص281) بإسناد ضعيف.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، يَقولُ : ((لا يؤمِنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه)) [1].
إنّه لحديثٌ عظيم، وإنها لتَوصيَةٌ عظيمَة مِن رسول الله ، يوصينَا بأن نفعَلَ كذلك، يخبِرُنا بأنَّ كمالَ إيمانِنا يتوقَّف على حبِّنا لغيرِنا ما نحبّ لأنفسِنا، فإذا أحبَبنَا لإخوانِنا ما نحبّ لأنفسنا فإنَّنا بذلك نِلنا كمالَ الإيمان، وتلك مرتَبَةٌ لا ينالها إلاّ المتقون، أن تحبَّ لأخيك ما تحبّ لنفسك، تحبُّ لأخيك الصّحّةَ والعافية كما تحبّ لنفسك، تحبّ لأخيك الغِنى وسَعَة الرزق كما تحبّ لنفسك، تحبّ لأخيك استقامَتَه وثباتَه على الحقّ كما تحبّ لنفسِك، تحبّ لأخيك ألفَته مع زوجَتِه وأهل بيتِه كما تحبّ لنفسك، تحبّ لأخيك السعادةَ في الدنيا والآخرة كما تحبّ لنفسك، تحبّ أن ترَى أخاك تقيًّا صالحًا مستقيمًا عَلى الخير محافِظًا على الإسلام وآدابِه وأخلاقِه كما تحبّ ذلك لنفسِك، وتكره له من الشرِّ ما تكره لنفسِك، فكل أمرٍ تكرهه لنفسِك فاعلم أنَّ المطلوبَ منك أن تكرَهه لأخيك، وهذا دليل الإيمانِ الصادق.
إذًا فالمؤمن لا يغشّ أخاه في بيع وشراءٍ، ولا يدلِّس عليه، ولا يخون أمانَتَه، ولا يفشِي أسراره التي ائتَمَنه عليها، ولا يخونه في مالِه وأهله، بل هو محافظٌ على أخيه المؤمن محافظتَه على نفسِه، هكذا كان سلفُنا الصالح، وهكذا كان خِيار هذه الأمّة، وعلى رأسهم أصحابُ محمد الذين ضرَبوا أروعَ الأمثال في الأخوّة الإيمانية الصادِقة التي سبَقوا بها غيرَهم، فرضِي الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا.
فيا أخي المسلم، روِّض نفسك على الخير، واحمل نفسك على الخير، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ [البقرة:268]، فأرغِم أنفَ عدوّ الله، وكن ناصِحًا وساترًا ومُعينًا ومنفِّسًا لإخوانك المسلمين كرباتهم ومصائبَهم، وكن معينًا لهم على ما ينفعهم، حريصًا على سدِّ خلّتهم وسترِ عورتهم، حريصًا على صالحهم واستقامَتِهم وثباتهم على الحقِّ. هذا واجبُك الإيمانيّ، فإنَّ هذا علامة خير، نسأل الله أن يوفِّقَنا وإياكم لصالحِ القول والعمل، إنّه على كل شيء قدير.
اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضَلالة، وعَلَيكم بجَماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله علَى الجَمَاعة، ومَن شَذّ شذّ في النّار.
وَصَلّوا ـ رحمَكم الله ـ عَلَى عبدِ الله ورَسولِهِ محمّد كما أمَرَكم بذلِكَ ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وفي لحديث: ((من صلَّى عليَّ صلاة واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا)).
اللَّهمَّ صَلِّ وسَلِّم وَبَارك عَلَى سيّدنا محمّد سيد الأولين والآخرين وإمام المتقين وقائد الغر المحجَّلين، وَارضَ اللّهمّ عن صحابته أجمعين، وارضَ اللّهمّ عن خلَفَاء نبيّك...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس رضي الله عنه.
(1/3991)
ستار أكادمي والفحش الفضائي
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام
عبد الواحد بن محمد بن شيبر
الدمام
جامع الزيادة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تهافت الشباب والفتيات على الشاشات. 2- مكر أعداء الإسلام. 3- برنامج ستار أكاديمي. 4- موقفان من واقع الفتيات. 5- إحصائيات المتصلين بالبرنامج.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين والمسلمات، إن مما يتفطر له القلب ألمًا ويتحسّر له الفؤاد حزنًا وتبكي له العين أسفًا تساقطَ الشباب والشابات وجلوسَ الفتيان والفتيات أمام الشاشات والقنوات ليستمِعوا؛ لمحاضرة من المحاضرات؟! كلا، ليتابعوا أخبار المسلمين والمسلمات؟! كلا، ليحضروا دروس العلماء والدعاة؟! كلا، بل ليشاهدوا الساقطين والساقطات, ليتابعوا المطربين والمطربات، ليتصلوا على الفنانين والفنانات ويهنئوهم بالحصول على أعلى الدرجات في السخافة، وتضيع الأوقات.
لقد أجاد أعداء الإسلام في تخدير الشباب وصده عن السنّة والكتاب، فبثوا سمومهم عبر القنوات الفضائحية التي أصبح المسلمون لها ضحيّة، تضيع الأوقات على الشباب، وتهدر الساعات بلا حساب، وشباب المسلمين يشاهدون ما يثير غرائزهم ويحرّك شهوتهم ويميت غيرتهم، في الوقت الذي يمزق الإسلام وأهله في كل مكان، ويعذب المسلمون ويقاسون ما يقاسون، والمسلمون عما يجري لإخوانهم نائمون، همهم ملء البطون وإغماض الجفون وما يأكلون وما يشربون وعلى القنوات يسهرون، وكأنهم لا يسمعون.
يا معاشر الكرام، برنامج ساقط فاجر في القنوات الفضائية, فتَن الفتيان والفتياتِ، وشغل بال كثير من الشباب والشابات, أصبح حديث المجالس في البيوت والمدارس, برنامج فاضح، عفِن، قبيح، منحط، يبث على مدار أربع وعشرين ساعة، وعلى الهواء مباشرة، اسمه: (ستار أكادمي)، وما أدراكم ما وراء هذا البرنامج، دعوني أعرّفكم ما هو ستار أكادمي: هو برنامج هدفه تقديم فنان أو فنانة عربية جديدة للساحة، وكأننا في حاجة لمطرب أو مطرِبة عربيّة جديدة!!
فكرة البرنامج مأخوذة من برنامج فرنسي، فيه وضع مجموعة من الشباب والبنات في بيت يفترَض أنه مدرسة أكادميّة لتعليمهم الفنّ بكل أنواعه الغِناء والتمثيل والتقديم والرّقص, وهؤلاء الشباب والبنات يسكنون مع بعضهم دونَ صِلة قرابة بينهم، ثم يتم تقييمهم ووضعت أرقام للهواتف ليتّصل بهم العالم ويصوّتوا على أفضل نموذج ضائع خائب ومائع من الشباب العربي, أتدرون ما الذي يجري في ستار أكادمي؟!
سأذكر لكم موقفين أو ثلاثة لتسمعوا بآذانكم ماذا يتابع شبابنا وإلى أيّ مستوى وصل حالنا، نعم ستار أكادمي جاء ليطعن المسلمين من الخلف ويبيع العار، جاء في أسوأ تعريفات الغدر والرذيلة، سيّئ التوقيت، سيئ الفكرة، سيئ العرض، يسوء الناظرين، استمعوا لهذه الفتاة وهي تخبرنا بالمأساة، تقول: أنا فتاة أبلغ السابعة عشرة من عمري، سمعت من زميلاتي في ثانوية (كذا) عن برنامج يعرضون فيه مجموعة من الفتيات والشباب يجلسون معًا في مكان واحد ليلاً نهارا، وقالت لي صديقتي: يا فلانة، أنت دائما تقولين: إني لا أعرف أكلم شابًا ولا كيف أبدأ معه، والآن ـ يا صديقتي ـ اتبعي هذا البرنامج لكي تتعلّمي منه فنون العلاقات الشبابيّة, ركّزي في برنامج ستار أكادمي جيّدا لمدة يومين فقط، وستكتشفين أن الرّهبة والخوف والحياء الذي يتملّكك من إقامة علاقة مع الشباب ما هي إلا رهبة التخلّف، وما حياؤك إلا عبارة عن عقدة نفسية.
تقول تلك المسكينة: انتظرت أن أخرج من المدرسة بفارغ الصبر في ذلك اليوم، ولما وصلت إلى البيت جلست ليس لي شغل سوى مشاهدة ما يحصل على الهواء مباشرة, فكنت أرى، وماذا رأيت يا ترى؟! كنت أرى البنات والشباب يقبّلون بعضهم بعضًا بين ساعة وأخرى، وتارة يضمون بعضهم بعضا، فقلت: هم يفعلون ذلك وأنا لا زلت خائفة ومتردّدة من التحدّث حتى بالهاتف مع صديقٍ؟! تقول الفتاة: وأصبحت بعد أيام فقط من متابعتي لهم على الهواء أشعر أنني فعلاً فتاة متخلّفة ومحرومة من الحياة الرومانسيّة المليئة بالحبّ ودفء المشاعر.
ثم لتستمعوا جيدًا لكلامها، تقول: ثم أصبحت أتمنى في كل لحظة أن أكون أنا التي في الأكاديمية الآن لأحظى بالجلوس الساعات الطوال مع المشارك فلان، حتى يصنع معي ما صنع مع الفتيات الأخريات.
معاشر الكرام، هذه الرسالة التي أرسلتها هذه الفتاة المسكينة تجسّد لنا وبدقّة طريقة هؤلاء الساقطين في تضييع وإفساد بناتنا وشبابنا حيث إنهم يجعلونهم يألفون المنكر، وقليلاً قليلاً حتى يعتادون على الحرام، حتى يكون ذلك جزءًا من حياتهم اليومية، كما يصور ذلك هذا البرنامج العفن ستار أكاديمي، ومع ذلك العفن وتلك المهزلة والمجون تجد العالم يصوّتون لأفسق فائز وأميع منتصر وأسوَأ ديّوث وأقبح فاجر، وإن تعجب فاعجب من هذه الإحصائيات للمصوّتين والمصوّتات, جاء في إحصائيّات عدّة أن عدد الذين صوّتوا لبرنامج ستار أكادمي وهي والله إحصائيات تحزن كل غيور، فمن السعودية 11 مليون اتصال، ومن مصر 23 مليون اتصال، ومن لبنان 18 مليون اتصال، ومن الكويت 300 ألف اتصال، ومن الإمارات مليون اتصال، ومن اليمن 7000 ألف اتصال، ومن سوريا 16 مليون اتصال، ومن الأردن 8 ملايين اتصال.
ولو جمعت هذه الاتصالات لبلغت حوالي 79 مليون اتصال, فهؤلاء المتصلون المصوّتون لتشجيع وترشيح المائعين من الشباب والمتبرّجات والضائعات من البنات، ومن المستفيد إلا أعداء الإسلام؟! لقد جنَوا ملايين الملايين من تلك الاتصالات في ترشيحات سخيفة قبيحة. أنت من ترشّح ليكون الفائز بهذه الرّقصة؟ وأنتِ من ترشحين؟ ومن الذي دخل قلبك وتتمنّين أن تقضي معه أقاتًا دافئة؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومأساة أخرى ـ معاشر الكرام ـ من هذا البرنامج السافل, صدِمَ أحد الآباء حينما صرَخت ابنته في وجهه قائلة: أبي أبي أريد أن أتزوج. فتاة عمرها اثنتي عشرة سنة فقط!!
تتوقعون ما الذي دفعها لهذا الفعل؟! إنه ستار أكادمي، استمعوا لمأساة هي قاصمة الظهر. قامت قناة (إل بي سي) بحفلة تحت عنوان ستار أكادمي للمرشّحين من المطربين والمطربات من جيل الشباب الجديد، فكان أحد المرشَّحين هذا الشاب المطرب، واعتذر عن عدم المشاركة مطربتان شابّتان بسبب إصابتهما بحادث مروري إلا أنّ إحدى الشابتين المصابتين دخلت القاعة التي فيها الاحتفال سالمة من الأذى والإصابات، وهنا ولتستمعوا ماذا جرى وما الذي حصل، هنا لم يتمالك المطرب نفسَه، فقدّم قربانَ السجود على طريقة الدّيانات الوثنية الشرقية في مدّ يديه إلا الأمام والانحناء مرات ومرات لتلك المطربة.
معاشر المسلمين، لقد وقع شبابنا ضحيّة لثقافة تقديس الجسد الذي تدفع له شركات الدعاية والإعلان الملايين، لقد فقد شبابنا الهدف الأساسي الذي خلِقوا له، لقد انفصل شبابنا الحائر ليس عن الدين فحسب، بل عن قيم وأعراف المجتمع السليمة، واسألوا الآباء عن تمرد الأبناء، أسألكم: أيّ خير يرجى وشبابنا هذا حاله؟! أي نصر يرتقَب وشبابنا هذه أفعاله؟! أي غيرة تنتظر وشبابنا هذه ديانته؟! أي دين لمن ضيّع دينه؟! أي شرف لمن ميّع خلقه؟! أي ولاء وبراء لمن قلّد كافرًا واستحسن كفره؟!
أيها المسلم الغيور، إن سماحك لأهلك بمتابعة هذا البرنامج يعتبر من الدياثة التي توعّد الله عليها بالعذاب الأليم، إن من الغش للرعية تركهم للقنوات الفضائية، وما جزاء ذلك إلا أن يحرم الغاشّ لرعيته الجنة وريحها.
الله الله ـ أيها الأب وأيتها الأم ـ في التربية الصالحة، أخرجوا جهاز الدشّ من بيوتكم قبل أن تحدثَ الكارثة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3992)
الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
22/7/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحريم الظلم. 2- عواقب الظلم الدنيوية والأخروية. 3- آثار الظلم. 4- حال الظالمين في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إن من أشد الأمور حرمةً وأسرعها عقوبة وأعجلها مقتًا عند الله وعند المؤمنين، ومن أشد ما يُؤثِّر في النفس ويذهب إنسانيتها ويحيل قلب صاحبها من اللحم والدم إلى أن يصير كالحجارة أو أشد قسوة هو ذلك الداء الخطير والشر المستطير الذي انتشر في الوقت الحاضر انتشارًا ينذر بالخطر وبانتقام الجبار جل جلاله, ألا وهو الظلم.
فقد تفشى الظلم في مجتمعاتنا ليس على مستوى الأفراد فحسب, بل حتى على مستوى الأقارب والأرحام والأصهار، بل وحتى على مستوى المجتمعات والشعوب والدول، نسأل الله السلامة والعافية.
الظلم مرتعه وخيم، وعاقبته سيئة، وجزاء صاحبه النار، ولو بغى جبل على جبل لدُكّ الباغي منهما.
الظلم منبع الرذائل ومصدر الشرور، وهو انحراف عن العدالة، ومتى فشا وشاع في أمة أهلكها، وإذا حل في قريةٍ أو مدينةٍ دمّرها.
لقد حرم الله تعالى الظلم، حرمه سبحانه على نفسه وعلى عباده، وتوعد عز وجل الظالمين بعذاب أليم في الدارين، وذلك لما له من عواقب وخيمة على الأفراد وعلى المجتمعات، قال عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: ((قال الله تعالى: يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)). وأخبر عز وجل أن من الناس من هو كثير الظلم لنفسه ولغيره فقال سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، وقال جل وعز: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72].
أيها المسلمون، إن الله تعالى توعد الظالمين بعذاب أليم في الدارين، وهذا هو عزاء المظلومين، فكل من ظُلم عزاؤه في وعيد الله عز وجل بالظلمة.
أما في الدنيا فإن الظالم لا يُفلح في دنياه، من سلك طريق الظلم فإن بابه في النهاية مغلق، قال الله تعالى: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].
وقد يحرم الظالم من هداية التوفيق أيضًا، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50]، وقال تعالى: فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:41].
الظلم سبب مصائب الدنيا من أوجاع وأسقام وفقر وذهاب الأولاد والأموال والقتل والتعذيب وغلاء الأسعار وغيرها. إن ما تعانيه الأمة اليوم هو بسبب وجود الظلم بما كسبت أيدي الناس، يقول الله جل وعلا: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الطور:47]، دُونَ ذَلِكَ أي: قبل موتهم عقوبة شاملة للقرى الظالمة، عقوبة شاملة للمدن الظالمة، عقوبة شاملة للمجتمعات الظالمة.
إذا انتشر الظلم في مجتمع وجاهر أهله به وصار الصبغة العامة لهذا المجتمع هو الظلم فقد يعجل الله لهم العقوبة الشاملة التي لا يكاد يسلم منها أحد، بل تعم الصالح والطالح. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة".
إهلاك الله تعالى للظالمين في الدنيا وما أعده لهم من النكال والعذاب في الآخرة، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]. لقد ذكر لنا ربنا تبارك وتعالى ما فعله بالقرى الظالمة فقال سبحانه: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الأنبياء:11]، وقال عز وجل: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]، ويقول جل وعلا: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق:8، 9]. هذه بعض العقوبات الدنيوية.
أما في الآخرة فقد توعد الله الظالمين باللعنة وأليم العقاب، فقال جل وعلا: أَلاَ لَعْنَةُ ?للَّهِ عَلَى ?لظَّـ?لِمِينَ [هود:18]، وقال تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، وقال سبحانه: يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غافر:52]. ثم إن هذا الظالم لن يكون له يوم القيامة نصير ولا شفيع ولا حميم، يحرم الظلمة من شفاعة إمام المرسلين وشفاعة من يأذن الله لهم في الشفاعة لعباده، كما قال تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18]، ويقول عز وجل: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [البقرة:270].
ومما يصيب الظلمة يوم القيامة أيضًا الحسرة والندم، فكل ظالم سيندم هناك ولات ساعة مندم، وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [يونس:54]، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
وبعد هذا المشوار، وبعد كل هذا سيُنكس الظلمة في نار جهنم وتكون هي نهايتهم، فبئست النهاية وساءت الخاتمة، قال الله تعالى: وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ:42]، فعاقبة الظالمين جهنم، لا يموتون فيها ولا يحيون، قال : ((من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)) ، فقال رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله، فقال: ((وإن كان قضيبًا من أراك)) رواه مسلم، وعن أبي سلمة أنه كانت بينه وبين أناس خصومة فذكر لعائشة رضي الله عنها فقالت له: يا أبا سلمة، اجتنب الأرض فإن النبي قال: ((من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين)) رواه البخاري، وقال : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، ثم قرأ رسول الله : وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِيَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] متفق عليه. فمن يجرؤ بعد هذا على شيء من الظلم؟!
أيها المسلمون، لقد بين الرسول أن دعوة المظلوم مستجابة فقال: ((واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)). دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرًا؛ لأن فجوره لا يجيز التعدي عليه، وفجوره على نفسه، وعن أبي هريرة أن الرسول قال: ((ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنّك ولو بعد حين)) ، وعن أبي الدرداء قال: (إياك ودعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كشرارات نار حتى يفتح لها أبواب السماء). وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد".
ألا فليعلم كل من يقع في شيء من الظلم أن صاحب الحق وإن لم يستوفِ حقه اليوم فسوف يستوفيه في موقف أشد صعوبة وأقسى، يوم يقوم الناس لرب العالمين، يستوفيه حينئذ خيرًا من ذلك، حسنات هي خير من الدنيا وما فيها، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه)).
إنه الظلم الذي حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرمًا، إنه الظلم الذي يؤهل المعتدي للاستيلاء على حقوق الآخرين، إنه الظلم الذي يقلب الحقائق ويغيّر النتائج، إنه الظلم الذي توعد الله عليه أشد الوعيد: إِنَّمَا ?لسَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ ?لنَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي ?لأرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42].
أيها المسلمون، إن الظلم مذهِب لبركة العمر مضيِّع لجهد الإنسان ممحِق للكسب، بل إن الظلم إفلاس من كل مكسب في الدنيا والآخرة. روى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون من المفلس؟)) قالوا: المفلس من لا درهم له ولا دينار ولا متاع، قال: ((المفلس من أمتي الذي يأتي يوم القيامة بصلاته وزكاته وصيامه، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم وطرحت عليه ثم طرح في النار)) ، وعند مسلم أيضًا من حديث جابر أن رسول الله قال: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)).
أيها الظالم، أبشر بما أعده الله لك يوم القيامة: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَاء كَ?لْمُهْلِ يَشْوِى ?لْوجُوهَ بِئْسَ ?لشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]، أبشر بعد سعادتك بظلم الناس وفرحتك بأكل أموالهم وانتهاك حقوقهم، أبشر بمال كلّه ظلم كلُّه حزن كلّه حسرة كلّه ندم، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:277].
أيها المسلم، الظلم خلق ذميم، الظلم عمل سيّئ، الظلم عاقبته سيئة في الدنيا والآخرة، إنه سبب لزوال النعم، سبب لانتقاص الأعمار، سبب لحلول العقوبات والمثلات، وفي الآخرة ظلمات بعضها فوق بعض. فليتق المسلم ربه، وليلزم العدل في كل أحواله، فالعدل به قامت الأرض والسموات، والظلم ظلمات يوم القيامة.
خلص نفسك من مظالم العباد، أيّ مال دخل عليك بغير حق فتخلص منه، ردّ الحقوق إلى أهلها، تخلص من التبعات ما دمت قادرًا في هذه الدنيا قبل أن ينزل بك الموت وترى ملائكة الجبار وترى ملك الموت، عندها تتمنى ساعة تعيش في الدنيا لترد المظالم وتتخلص من الحقوق ولا ينفعك ذلك.
فيا أخي المسلم، أنت المحاسب، أنت المعذَّب، أنت المعاقب، إن ما أكلت من مظالم العباد ينساها الناس، ولكنها محفوظة عند الله، أَحْصَـ?هُ ?للَّهُ وَنَسُوهُ [المجادلة:6].
كل مذكور سيُنسى، وكل ملبوس سيبلى، وكل مدخور سيفنى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى، فإياك والمماطلة، وإياك والتسويف، وإياك واللجوء إلى الحيل والخداع، خلص نفسك فإنه لا ينقذك إلا أن تخلص نفسك في الدنيا قبل الوقوف بين يدي الله، ?لْيَوْمَ تُجْزَى? كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ ?لْيَوْمَ إِنَّ ?للَّهَ سَرِيعُ ?لْحِسَابِ [غافر:17].
أيها الظالم، ثمة مواقف تمرّ بها ضعها في بالك حين ولوغك في الظلم، حين تبلغ الروح منك الحلقوم، يوم تعالج سكرات الموت وكرباته، وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ [الأنعام:93]، فأين النصير؟! وأين المعين؟! وأين الرفيق؟! فلا أحد ينجيك إلا الله. وموقفٌ في القبر حين يفرش لك فراش من جهنم، وتغطى بغطاء من جهنم، فيما تصعد روحك فتوصد أبواب السماء دونها، فترد إلى سجّين وأسفل سافلين، ويفرش لك فراش من النار، قال الله تعالى: لَهُم مّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذ?لِكَ نَجْزِى ?لظَّـ?لِمِينَ [الأعراف:41]، نعم وكذلك نجزي الظالمين، يَوْمَ يَغْشَـ?هُمُ ?لْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:55]. فهل فكرت ـ يا عبد الله ـ في هذه المواقف؟! وهل فكرت في وقوفك أمام الجبار وسؤاله لك عن هذه المظالم؟! فهل ستعتذر أم ستفتدي نفسك أم ستطلب الرجعة إلى دار الدنيا لتتخلص من المظالم؟! كل ذلك محال وبعيد.
لماذا تظلم يا عبد الله؟! أهي قدرتك وقوتك؟! فسوف يسلط الله عليك من هو أقدر منك، أم هي عزتك ومالك وجاهك؟! فكل ذلك صائر إلى الذل والهوان، أم هو إمهال الله لك وإغداقه عليك النعم؟! فاتق الله، وأقلِع عن ظلم المسلمين، وكُفَّ عن التعدّي عليهم في أموالهم وأعراضهم ودمائهم قبل أن تلقى الله بهذا الظلم الشنيع.
الويل لأهل الظلم من ثِقل الأوزار، وذكّرهم بالقبائح قد ملأ الأقطار، يكفيهم أنهم وُسموا بالأشرار، ذهبت لذاتهم بما ظلموا وبقي العار، انتقلوا إلى دار العقاب ومَلَكَ غيرهم الدار، وخلوا بالعذاب في بطون تلك الأحجار، ولا مغيث ولا أنيس ولا جار، ولا راحة ولا سكون ولا قرار، سالت دموعهم على ما جرى منهم من الظلم كالأنهار، شيّدوا بنيان الأمل فإذا به قد انهار، فإذا قاموا في القيامة زاد البلاء على المقدار، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ وَأَنذِرْ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعْ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [إبراهيم:42- 52].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، الظلم والفساد قرينان, بهما تخرب الديار، وتزول الأمصار، وتقل البركات، ويحل الغش محلّها، وهو ظلمات في غياهبه تزل الأقدام وتضل الأفهام ويظهر الفساد وتمحق البركة، وكيف يقدس الله قومًا لا يُؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟! عن جابر بن عبد الله قال: لما رَجَعَتْ إلى رسول الله مهاجِرةُ البحر ـ أي: الحبشة ـ عام خيبر قال: ((ألا تحدّثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟)) قال فتية كانوا منهم: بلى يا رسول الله, بينا نحن جلوس مرت بنا عجوز من عجائز رهَابِينِهِم تحمل على رأسها قُلةً من ماء، فمرّت بفتًى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها فخرت على ركبتيها فانكسرت قُلتها، فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت: سوف تعلم ـ يا غُدَر ـ إذا وضع الله الكرسيَّ وجمع الله الأولين والآخرين وتكلّمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون, فسوف تعلم من أمري وأمرك عنده غدًا، قال: قال رسول الله : ((صدَقَت صدقت, كيف يقدِّسُ اللهُ أمةً لا يُؤخذ من شديدهم لضعيفهم؟!)).
قد يستبطئ الظالم العقوبة فيتمادى في ظلمه، ولا يتذكّر أن الله سبحانه يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
أيها الظالم، إن الخير يُقفل في وجهك، وإن الشر والبؤس حليفك, ألا تعلم أنّ هناك دعوات تنطلق بالأسحار، فإذا هي تخترق الحجب فتصل إلى باريها وناصرها, فيقول لها: ((وعزّتي وجلالي، لأنصرنّك ولو بعد حين)).
لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
أيها الظالم، اعلم أنّ من مات قبل ردِّ المظالم أحاط به خُصومه يومَ القيامة، فهذا يأخذ بيده، وهذا يقبض على ناصِيته، وهذا يتعلّق برقبته, هذا يقول: ظلمَني فغَشّني، وهذا يقول: ظلمني فبخَسني، وهذا يقول: ظلَمني فخَدعني، وهذا يقول: ظلمني فقذَفني، وهذا يقول: ظلَمني فأكل مالي, وهذا يقول: اغتابني، وهذا يقول: كذب عليّ, وهذا يقول: شتَمني، والجار يقول: جاوَرَني فأساء مجاورتي، وهذا يقول: رآني مظلومًا فلم ينصرني، وهذا يقول: رآني على مُنكر فلم ينهَني، وهذا يقول: جَحَد مالي، وهذا يقول: مَطَلني حقّي, وهذا يقول: باعني وأخفى عنّي عيب السّلعة, وهذا يقول: شهِد عليّ بالزور، وهذا يقول: سخِر بي، وهذه زوجة تقول: ظلمني في النفقة ولم يُحسِن عِشرتي، وتلك تقول: لم يَعدِل بيني وبين زوجته الأخرى، وهذا يقول: تعدّى على محارمي، وهذا يقول: غدَر بي، وهذا يقول: خانَني، وهذا يقول: دلّس عليّ، وهذا يقول: كادني، فبينما أنت على تلك الحال المُخيفة التي لا يُرى فيها بعضك من كثرة من تعلّق بك من المظلومين الذين أحكموا فيك أيديَهم وأنشبوا فيك مخالبهم، وأنت مُتحيِّرٌ مضطرب العقل من كثرتهم ومُطالبتهم حقوقَهم, فلم يَبْق منهم أحد ممن عاشرته في الدنيا وظلمتَه إلا وقد استحقّ عليك مَظلَمة، وقد ضعُفت عن مقاومتهم ومددتَ عنق الرجاء إلى سيدك ومولاك لعله أن يخلّصك من أيديهم إذا قَرَع سمعك نداء الجبّار جلّ وعلا: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: 17]، فعند ذلك ينخَلِعُ قلبك، وتضطرب أعضاؤك من الهيبة, وتوقن نفسُك بالخسران، وتتذكّر ما أنذرك الله تعالى به على لسان رُسُله حيث قال: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنْ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [الشورى:44، 45]، فيا لها من مصيبة، وما أشدّها من حسرة في ذلك اليوم، فعند ذلك تؤخذ حسناته التي تعِب عليها في عُمُره ليلاً ونهارًا حضرًا وسفَرًا، وتُعطى للخُصَماء عِوَضًا عن حقوقهم، فلينظر العاقل إلى المصيبة في مثل ذلك اليوم الذي رُبَّما لا يبقى معه شيء من الحسنات، وإن بقي شيء أخَذه الغُرماء، فكيف يكون حالك ـ أيها العبد ـ إذا رأيت صحيفتك خالية من حسنات طالما تَعِبت عليها، فإذا سَألت عنها قيل لك: نُقِلت إلى صحيفة خصمائك الذين ظلمتهم؟! وكيف بك إذا رأيت صحيفتك مشحونة مملوءة بسيئات لم تعملها، فإذا سَألت عنها: من أين جاءت؟! قيل: هذه سيئات القوم الذين طالما اغْتَبْتَهُم وتناولت أموالهم بالباطل وشتمتهم وخُنْتَهم في البيع والجوار والمعاملة.
أحسبت ـ يا بن آدم ـ أنّك تُهمَل وتترك فلا تعاقب، وتَظلِم وتتقلّب في النعم كيف شئت ولا تُحاسب؟! أنسيت قول النبي : ((إنّ الله لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخَذه لم يُفلِته)) ؟! كل هذا من جهالتك وعميان بصيرتك، ولكن اعمل ما شئت فإنّك مُحاسب عليه، وأحْبب من شئت فإنّك مُفارقه، واظلم من شئت فإنه مُنتصر منك يوم القيامة.
نسأل الله تعالى أن يُجنِّبنا الظلم وأن يكفينا شر الظالمين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
أيها المسلمون، هذه الخطبة مقدمة لسلسلة من الخطب ـ بحول الله وقوته ـ عن الظلم تستمرّ عدة جمع، أسأل الله تعالى التوفيق والسداد...
(1/3993)
أنواع الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, مساوئ الأخلاق
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
29/7/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشرك بالله من أعظم الظلم. 2- أنواع الظلم الواقعة بين الناس اليوم. 3- ظلم واقع من بعض العلماء والدعاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، بدأنا في الجمعة الماضية حديثًا عامًا عن الظلم، واليوم سنتحدث عن أنواع من الظلم تعجّ بها مجتمعات المسلمين محذرين ومنذرين أن يقع المسلم في نوع منها.
أيها المسلمون، الظلم يتفاوت، فليست مراتبه وعواقبه سواء عند الله تعالى، والظلم أنواع وله صور عديدة، فأعظمها وأكبرها وأشدها عذابًا ونكالاً الشرك بالله تعالى، فهو أعظم الظلم وأكبر الظلم وأشد الظلم، إذ الظلم حقيقته وضع الشيء في غير موضعه، وأي ظلمٍ أعظم من ظلم من عبد غير الله وتعلق قلبه بغير الله محبةً وخوفًا ورجاءً؟! أي ظلم أعظم ممن عبد من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ولا موتًا ولا حياةً ولا نشورًا؟! أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ [الأعراف:191، 192]، أي ظلم أعظم من ظلم من دعا من لا يستجيب له إلى يوم القيامة، من دعا من لا يسمع دعاءه، ولو سمعه ما استجاب له؟! وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْو?تٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20، 21]، أي ظلم أعظم من ظلم من تعلّق قلبه بغير الله، فطاف بقبور الأموات، وذبح لهم النذور، وقرب لهم القرابين، وهتف بأسمائهم في الشدائد، وزعم أنهم ينفعون ويضرون، وأنهم يقربونه إلى الله زلفى؟! قال تعالى عن لقمان عليه السلام أنه قال لابنه: ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]. فالمشرك ظالم، أتى بظلم لا يغفره الله له، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72].
ومن صور الظلم الأعظم الوقوع في ناقض من نواقض الإسلام التي نص عليها العلماء، كسبِّ الله ورسوله أو الاستهزاء بالدين أو السحر أو غيرها من نواقض الإسلام.
ومن الظلم الكذب على الله؛ بأن يَدّعِي أنه يوحى إليه، وقد ختم الله الوحي بموت النبي ، قال الله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ?فْتَرَى? عَلَى ?للَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيء وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ ?للَّهُ [الأنعام:93].
ومن الظلم العظيم الذي يقع في الأرض اليوم تغيير ما شرعه الله تعالى لعباده وتبديل حكمه، والتساهل في عدم تطبيق شريعة الله عز وجل، فإن هذا من أعظم الظلم، قال الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [المائدة:45].
ومن الظلم عدم تساوي الناس فيما يطبق عليهم وعدم تساوي الناس في تنفيذ الأحكام، فإن هذه صورة مشينة من صور الظلم، يؤدي إلى الفساد في الأرض، ويؤدي إلى انتشار البغضاء والشحناء بين طبقات المجتمع، ويوقف عجلة التقدم والتطور فيه، ويؤدي في النهاية إلى الهلاك، عن عائشة رضي الله عنها أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله ؟! فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيدٍ حب رسول الله ، فكلمه أسامة، فقال رسول الله : ((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) ، ثم قام فاختطب ثم قال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمدٍ سرقت لقطعت يدها)) رواه البخاري.
ومن أنواع الظلم ما بينه الله في كتابه حيث أخبر أن أموال اليتامى أمانة لدى الولي، وأنه إن تعدى على شيء منها كان ظالمًا، ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ ?لْيَتَامَى? ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [البقرة:174].
وحذر تعالى المسلم من قتل نفسه، وعدّ الانتحار جرمًا خطيرًا وظلمًا عظيمًا من الإنسان لنفسه، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ عُدْوانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذ?لِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30].
وأخبر تعالى أن التعدي على أموال المسلمين بالسرقة ظلم، قال الله تعالى بعدما ذكر عقوبة السارق: فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ ?للَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة:39].
وأخبر أن مماطلة الغني للحق الواجب عليه ظلم منه لصاحبه، إذ الواجب أن تؤدَّى الحقوق إلى أهلها بطيب نفس، وأن تأخير أداء الحق من ثمن المبيع أو القرض أو غير ذلك، أن هذا التأخير ظلم لصاحب الحق، إذ الواجب أن تعطيه حقه في وقته، فإن تأخرت لغير عذر فأنت ظالم، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه : ((مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ)) رواه البخاري.
ومن أنواع الظلم ظلم الإنسان للإنسان، ويكون ذلك بالتعدي على عرضه أو بالتعدي على بدنه أو بالتعدي على ماله أو بأي صورة من صور التعدي، فإن كل هذا محرم ولا يجوز، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟!)) رواه البخاري. فكم في عالمنا اليوم من مظلوم، ممن ظُلم في عرضه أو ظلم في بدنه أو ظلم في ماله وهو لا يستطيع أن يسترد مظلمته.
وظلم الناس بعضهم لبعض صوره لا عدّ لها ولا حصر، فمن ذلك الظلم في الولاية، فبعض أصحاب الوظائف لهم في وظائفهم ولاية على غيرهم فيقعون في الظلم، كأن يزكّي ويرشح فلانًا لشخصه لا لأمانته، ويتهاون في أداء حقوق آخرين، ويقدم فلانًا لقرابته أو لزمالته، ويتناسى أن حقوق الناس لها مُطالبون لا تسقط إلا بتنازلهم عنها، وإلا سيدفعها يوم القيامة من حسناته، وهو بظلمه في حدود ولايته قد خان من ولاّه ولم يعدل فيمن تولى عليه.
ومن الظلم ظلم العمال، وله صور عديدة، فمنهم من يكلف العامل من العمل ما يشقّ عليه ولا يتحمله، ومنهم من لا يهتم بحقوقه في الأكل والشرب والسكن وكأنه ليس بمسلم، بل كأنه ليس بإنسان له حقوق ومشاعر، ومنهم من يتأخر عن إعطائه راتبه الشهري المستحق له الذي تغرّب لأجله وخلّف أسرة تنتظر هذا المرتب، وهو حق له ليس لأحد فيه معروف، فهو جهده وعرق جبينه، ومع ذلك يتثاقل الكفيل ويسوِّف ويؤجّل، عَنْ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه : ((أَعْطُوا الأَجير أجرهُ قبل أن يَجِفَّ عَرَقُهُ)) رواه ابن ماجة.
فيا أيها الكفيل، إن هؤلاء الضعفة الذين تعاقدت معهم أوفِ عهدك معهم، ولا تستغلّ ضعفهم وغربتهم، ولا تنتهز عجزهم، فإن من عمل ذلك فإن الله توعده أن يكون هو خصمه يوم القيامة، فاتق الله، وأعط الأجير أجره، ولا تمنعه حقه وتبخسه راتبه حتى وإن قلّ.
أيها المسلمون، إن مثل هذا الظلم هو ما دفع بعض العمالة إلى السرقة أو المتاجرة بأشياء محرمة أو قتل كفيله أو الزنا بمحارمه أو التعدي على أسرته، كما نسمع ونقرأ في وسائل الإعلام، بل إن بعضهم يصل به الحال إلى أن يقتل نفسه، فيأتي ذلك العامل المسكين من بلاد فقيرة وقد باع ما يملك حتى وصل إلى هذه البلاد، ويفاجأ بالظلم المرير والبخس للحقوق، فيصل به الأمر إلى الانتحار عياذًا بالله تعالى. فمن المسؤول عن هذا؟! إنه أنت أيها الظالم، يا من بخستهم حقوقهم، فاتق الله تعالى فيمن تحت كفالتك من العمالة، واعلم أن الله تعالى يمهل وأن الأيام دول، فيوم لك ويوم عليك، فأعط كل ذي حق حقه، واتق الله تعالى وأقلع عن ظلم المسلمين وظلم العباد، وكف عن التعدي عليهم في أموالهم وأعراضهم ودمائهم قبل أن تلقى الله بهذا الظلم الشنيع، فتندم في ساعة لا ينفع فيها الندم.
ومن الظلم ظلم بعض الأزواج لزوجاتهم؛ فلا يهتم بها، ولا يقوم بما يجب لها من حقوق شرعية، سواء في النفقة أو التعامل الحسن والكلمة الطيبة والاحترام والتقدير المطلوب بين الزوجين والوفاء لها وتقدير ضعفها وعاطفتها وحاجتها، عن عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها أن النبي قال: ((إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله)) رواه الإمام أحمد.
ويظهر الظلم بصورة أوضح عند بعض الذين لديهم أكثر من زوجة؛ فينسى حقوق بعض تلك الزوجات اللاتي عاش معهن سنين طويلة، ويميل إلى البعض الآخر، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إذا كان عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقطٌ)) رواه الترمذي.
ومن الظلم ما يحصل من بعض الأزواج حينما يرغب في مفارقة زوجته التي يكرهها، فإنه لا يسرحها بإحسان، ولكنه يلجأ إلى تنغيص حياتها بشتى الطرق والوسائل لكي تفدي نفسها ويأكل مهرها، وهذا ظلم عظيم، والله تعالى يقول: ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ ?لنّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء:19]. فاتق الله تعالى أيها الزوج، وعليك أن تمسك بمعروف أو تسرح بإحسان، وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ?للَّهُ كُلاً مّن سَعَتِهِ وَكَانَ ?للَّهُ و?سِعًا حَكِيمًا [النساء:130].
ومن الظلم ظلم الأولاد، وظلمهم له صور عديدة؛ فبعض الآباء لا يحسن العدل بين أولاده، فيظلم بعضهم ويَشعر أحد الأولاد ـ ابنًا أو بنتًا ـ بميل الأب إلى غيره وعدم العدل بينه وبين إخوانه، وتلك مشكلة يغفل عنها الكثير من الآباء، عن النعمان بن بشيرٍ قال: تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله ، فانطلق أبي إلى النبي ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله : ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟)) قال: لا، قال: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم)) ، فرجع أبي فرد تلك الصدقة. رواه مسلم.
ومن صور ظلم الأولاد أن يترك الرجل أولاده بلا أمر ولا نهي، لا يُؤَدّبهم ولا يُوجّههم ولا ينصحهم، ولربما وجدته يأمر وينهى الناس البعيدين عنه، فإن هذا من أعظم الظلم للأولاد.
ومن صور ظلم الأولاد عضل البنات عن الزواج، فبعض الآباء يمنع بناته من أغلى وأعز شيء تمتلكه من الحب الحلال الذي أباحه الإسلام، فيمنعها من الحياة السعيدة والحنان والأمومة، وهمه الأكبر هو جمع الأموال والاستيلاء على رواتب بناته الموظفات، وكم هي القصص المأساوية في هذا المجال.
ومن صور ظلم الأولاد ما يقع من كثير من الآباء الذين قد ملؤوا بيوتهم من الوسائل المدمرة للدين والأخلاق، فيخربون بيوتهم بأيديهم، ويظلمون أنفسهم ويظلمون من تحت أيديهم بما يسببونه لهم من الانحراف والفساد والضياع بجلب الكتب والمجلات وأجهزة الفساد إلى أهليهم خصوصًا القنوات الفضائية المدمرة، فيحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم.
أيها المسلمون، ولئن كان ظلم الأولاد محرمًا فالأشد حرمة أن يظلم الولد أباه، أن يظلم الولد ذلك الأب المسكين الذي يبكي بدمع الدم حرقة ولوعة، مِن ظُلم مَن؟ ظلم أقرب الناس إليه، ظلم من ربّاه وخرج من صلبه، ظلم من أنفق عليه وسهر من أجله وتعب من أجل راحته حتى رآه رجلاً جلدًا يمشي على الأرض قويًا، وعندما كَبِر أصبح خصمًا عنيدًا لوالده، فظلمه بعقوقه، وظلمه بعدم احترامه، وظلمه بانشغاله بأولاده وقلة السؤال عنه، وظلمه برفع الصوت عليه وربما بالتعدي عليه بضربه أو شتمه.
فوا عجبًا لمن ربيتُ طفلاً ألقِّمه بأطراف البنان
أعلمه الرِّماية كُلَّ يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علمته نظم القوافِي فلما قال قافية هجاني
ومن الصور المشينة للظلم ظلم ذوي القربى؛ ظلم الأقارب بعضهم لبعض، واسأل القضاة في المحاكم لتقف على الحقيقة المرّة فيما يجري بين الأقارب، بل بين الأخ وأخيه على شبر من الأرض أو حفنة قليلة من المال. الأقارب الذين هم أولى الناس بنصرة بعضهم البعض، إلاّ أنهم وبسبب ما فتح الله على الناس من الدنيا تسلّل الداء إلى نفوسهم فانقطعت المودّات وانفصمت العلاقات وتسلّط القريب على قريبه إلا من رحم الله، أقلق نهاره وأسهر ليله وبدل سعادته همًا وصحته سقمًا ويسره عسرًا، وصدق الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
ومن أنواع الظلم بين الناس المعاملات الربوية، فقد بين تعالى أنها ظلم؛ لأنه أخذ مال بغير حق، قال الله تعالى: وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أَمْوالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:279]، لا تَظلمون بأخذ الزيادة، ولا تُظلمون بأخذ شيء منكم، وإنما كل يأخذ حقه، فالربا ظلم وعدوان وأكل مال بغير حق.
ومن أنواع الظلم ظلم الناس في أعراضهم؛ باغتيابهم والسعي بينهم بالنميمة وهمزهم وعيبهم والسخرية بهم والحط من قدرهم ومحاولة إلصاق التهم بهم وهم برآء من هذا كله، فكل هذا من أنواع الظلم، وفي الحديث: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام)).
ومن الظلم التعدي على كل نفس معصومة بقتل أو ضرب أو سجن أو تعذيب، ويدخل في ذلك كل من باشر الاعتداء بنفسه أو أمر به أو أعان عليه أو أشار به أو فرح به أو شمت أو قعد عن نصرة المعتدى عليه وهو يقدر على ذلك، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)) رواه مسلم. فإذا كان هذا حال العجماوات فيما بينها فكيف الحال بما يحصل في الأرض اليوم من سجن وتعذيب وتشريد لصفوة عباد الله؟!
ومن صور الظلم الاعتداء على أموال المعصومين بسرقة أو إتلاف أو بالتحايل والخداع، وسواء كان المسروق عينًا أو نقدًا، ويدخل في ذلك السرقة من الأموال العامة للمسلمين كبيت المال والصدقات وغنائم المجاهدين، قال الله عز وجل: وَمَن يَغْلُلْ يَأتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القِيَامَةِ [آل عمران:161]، ويلحق بذلك كل من استُؤمن على مال لحفظه أو استثماره ثم خان صاحب المال أو فرط في حفظه وتنميته، ويشتد الإثم إذا كان الاعتداء أو التفريط في حفظ المال العام والأوقاف وأموال اليتامى.
ومما يدخل في ظلم الناس في أموالهم ما يقع بينهم من البيوع المحرمة التي يتضرر فيها أحد المتبايعين أو كلاهما، وهي كثيرة ومتنوعة، منها بيوع الغرر أو بيع ما لا يملك أو بيع النجش. وظهرت صور جديدة في تعاملات الناس اليوم كبعض صور الإيجار المنتهي بالتمليك، وعقود أخرى تمارسها بعض البنوك اليوم، كلها من الظلم للناس في أموالهم.
ومن صور الظلم التي يمارسها بعض التجار المتاجرة في الملبوسات والأزياء النسائية المحرمة التي تصف الجسد أو تكشف بعضه تشبهًا بالكافرات، ويدخل في ذلك من يشتري مثل هذه الأزياء لأهله ويأذن لهم بالخروج فيها والتبرج بها، كما أن المرأة المتبرجة تُعد هي الأخرى ظالمة للناس بتعريضهم للفتنة.
نسأل الله تعالى أن يجنبنا الظلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المسلمون، ومن صور الظلم التسبب في صرف الناس عن دينهم وعقيدتهم وأخلاقهم، سواءً بإثارة الشبهات التي ينحرف بها العبد عن عقيدته الصافية فيقع في الكفر أو البدعة، أو بإثارة الشهوات التي توقع العبد في الرذيلة والفسق والفجور. فهذا كله من الظلم العظيم للناس في دينهم وأخلاقهم، وممن يتولى كِبرَ هذا النوع من الظلم الذين يسنون الأنظمة الجائرة والفاجرة التي تمكن للمفسدين في الأرض من نشر فسادهم والسماح لهم بل ومنحهم الإذن بما يخوّلهم تشييد صروحهم الإعلامية التي يفسدون من خلالها عقيدة الأمة وأخلاقها، سواءً بكلمة مقروءة أو مسموعة أو مرئية. وهذا من أعظم الظلم.
ومنهم الناشرون الذين يبثون من خلال كتبهم ومجلاتهم وأشرطتهم كل ما من شأنه إثارة الشبهات والانحراف في أفكار الناس أو إثارة الشهوات والانحلال، سواء بالكتابات الهابطة أو الصور الساقطة، وكل هذا من ظلم العباد في دينهم.
ومنهم الإعلاميون الذين تصدروا أماكن التوجيه في الوسائل الإعلامية المختلفة من تلفاز وإذاعة وقنوات، فنسوا دينهم ونسوا يوم الحساب، فوجهوا سمومهم إلى دين الأمة وأخلاقها بما يبثونه من شبهات ومغالطات، وبما يبثونه من أفلام قذرة وأغان خليعة تثير الشهوات وتقتل الغيرة والفضيلة. وكل هذا أيضًا من ظلم العباد في دينهم.
ومنهم التجار الذين لا يهمهم دين ولا خلق، وإنما همهم الدينار والدرهم، ولا يهمهم المصدر الذي يجلب لهم المال أمن حلال هو أو من حرام، فراحوا يتاجرون بما فيه إفساد للدين ونشر للرذيلة وقتل للفضيلة، وذلك بما نراه اليوم من تجارة الكتب الهدامة التي تضلل الناس وتحرفهم عن دينهم أو التي تنشر أسباب الخنا والفجور من كتب الغرام وعرض صور النساء الفاجرات على غلاف المجلات وفي ثناياها، كما يلحق بهذا من يتاجر ببيع الوسائل المروّجة لذلك، وغير خافٍ على أحد ما ينشر في هذه الوسائل اليوم من شر وفساد، وكل ذلك من ظلم العباد في دينهم.
كما يدخل في ظلم الناس في دينهم كل من أسهم في ذلك بندوة أو محاضرة أو مقالة أو كتاب أو مسرحية مما فيه تضليل للناس أو إفساد لأخلاقهم، قال الله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [النحل:25].
كما يدخل في ظلم الناس في دينهم من يُقَصّر من العلماء وطلبة العلم في تعليم الأمة أمر دينها فيتركها في لهوها وفسادها لا تؤمر ولا تنهى، أو يتركها حائرة فيما ينزل عليها من النوازل دون هدايتها إلى وجه الحق في ذلك، كما أن من الظلم المبين كتم الحق عنها أو لبسه بالباطل.
كما يلحق بمن سبق أولئك الذين يُقَصّرون في تعليم أبنائهم أو آبائهم أو زوجاتهم فروض العين وما ينجون به من عذاب الله تعالى، فترك هؤلاء على جهلهم مع القدرة على تعليمهم يعد ظلمًا في دينهم.
ومن ظلم الناس في دينهم فتح المؤسسات السياحية المتخصصة بتسهيل السفر إلى بلاد الكفر بقصد ارتياد أماكن الفجور بحجة السياحة والتنزه.
أيها المسلمون، ومن صور الظلم المؤلمة ما هو حاصل اليوم مع كل أسف بين عدد من الدعاة وطلاب العلم وبعض الجماعات الإسلامية من التجريح والطعن بحجة النقد وإظهار الحق، فيقع من بعضهم ظلم عظيم، خصوصًا فيما يتعلق بالنيات والمقاصد، أو تصنيف بعضهم لبعض تصنيفًا جائرًا لا حقيقة له ولا وجود.
وفي المقابل فهناك نماذج من النقد المطروح، يلحظه المتأمل نقدًا جيدًا متميزًا ولكنه قليل، والغالب يكثر فيه المبالغات والاجتهادات غير الموفقة التي لا تقوم على أساس علمي، وبعضها مما يسعه الخلاف ولا تستحق المعاداة والمفاصلة بسببه. ولا أحد ينكر بأن حقل الدعوة إلى الله والعاملين فيه لا يخلو من أخطاء وسلبيات وملحوظات في العقيدة والمنهج والسلوك، غير أن حل تلك المشكلات وعلاجها ليس بالفضح والتشهير، وإنما بالرغبة الصادقة في الإصلاح والصدق في التناصح، ثم بعقد الجلسات العلمية التي يجتمع فيها الدعاة للتدارس والتشاور بعيدًا عن الحزبيات والأنانيات والتعالم، ليكون الهدف هو مصلحة الدعوة التي مبناها على أصول الكتاب والسنة والتعاون على البر والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاعتصام بحبل الله وعدم التفرق.
نسأل الله تعالى أن يهدينا لما اختُلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
اللهم إنا نسألك رحمة تهدي بها قلوبنا...
(1/3994)
دعاء المظلومين
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
7/8/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من دعوة المظلوم فإنها مستجابة. 2- صور ممن دعا على من ظالمه فاستجاب الله دعاءه. 3- فوائد الدعاء على الكافرين والمفسدين في الأرض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: وما يزال حديثنا مستمرًا عن الظلم، وقد انتهينا في الجمعتين الماضيتين من مقدمة ثم حديث عن أنواع الظلم، وسنخصص هذه الجمعة للحديث عن دعاء المظلومين.
أيها المسلمون، لقد وردت أحاديث كثيرة تفيد أن دعوة المظلوم من الدعوات المستجابة، منها ما في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما بعث رسول الله معاذًا إلى اليمن وأوصاه قال له في آخر وصيته: ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب)) ، وعند الترمذي والإمام أحمد وأبي داود عن أبي هريرة أن النبي قال: ((ثلاثُ دعواتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لا شكَّ فيهنَّ: دَعْوَةُ الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم)).
وقد تحقق هذا الوعد الإلهي منذ آدم عليه السلام إلى يوم الناس هذا، فهذا فرعون الذي بلغ من الطغيان والجبروت والظلم ما بلغ، حتى إنه استعبد أهل مصر وبلغ به من صلفه وغروره ما قاله الله جل وعلا: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ي?أَيُّهَا الْملاَ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هَامانُ عَلَى الطّينِ فَاجْعَل لّي صَرْحًا لَّعَلّى أَطَّلِعُ إِلَى? إِلَـ?هِ مُوسَى? وَإِنّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَـ?هُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَـ?هُمْ فِي الْيَمّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـ?قِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَـ?هُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيـ?مَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مّنَ الْمَقْبُوحِينَ [القصص:38- 42]، فدعا عليه نبي الله موسى: وَقَالَ مُوسَى? رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى? أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى? يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ [يونس:88]، قال الله تعالى بعدها مباشرة: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [يونس:89].
وهذا رسول الله عندما دعا على أعدائه الذين آذوه وحاربوا دينه وظلموه ظلمًا عظيمًا، كان ذات يوم ساجدًا عند الكعبة وكان بقربه جماعة من كفار قريش فيقول بعضهم لبعض: أيكم يقوم إلى سلى جزور بني فلان فيلقيه على ظهر محمد؟ فيقوم عقبة بن أبي معيط ويأخذ السلى ويلقيه على ظهر النبي ، فيبقى النبي ساجدًا حتى تأتي ابنته وتأخذ السلى من على ظهره وهي تبكي، ثم تقبل على المشركين تسبهم، فيقوم النبي قرب الكعبة ويرفع يديه ويقول: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بأبي جهل، اللهم عليك بعقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بفلان، اللهم عليك بفلان)) ، ويعد سبعة من صناديد المشركين، كما في الصحيحين، يقول ابن مسعود : فوالله، لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قليب بدر فألقوا فيها بعدما انتفخت جثثهم، وأتبع أصحاب القليب لعنة.
إياك من ظلم الكريم فإنه مرّ مذاقته كطعم العلقم
إن الكريم إذا رآك ظلمته ذكر الظلامة بعد نَوم النُّوَّم
فجفا الفراشَ وبات يطلب ثأرَه أسفًا وإن أغضى ولم يتكلّم
أيها المسلمون، وعندما يحاصَر المسلم من كل جهة ويضيّق عليه الخناق فلا يستطيع الانتصار لنفسه ممن ظلمه ولا يقدر على التخلص من الظلم الصارخ الذي أحاط به من كل جانب يرفع يديه إلى السماء، فتَفتح له السماء أبوابها، وتأتيه منافذ الفرج ويتنزل عليه المدد، إنه مدد السماء من رب الأرباب وخالق الأسباب، مهلك الجبابرة وقاصم القياصرة، الذي أهلك عادًا الأولى وثمود فما أبقى وقوم نوح من قبل، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى.
إن رحمة الله تبارك وتعالى تتجلى في هذا السلاح الفتاك الذي منحه الله للمظلومين، بل إن الظلمة مهما بلغوا من الطغيان أفرادًا كانوا أو دولاً قد يسقطون بسبب الدعاء.
أما والله إن الظلم شؤم وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
هل يظن الظالم بأن الله غافل عنه، لا يعلم عنه، لا يقدر عليه، إن الله يمهل الظالم لكن لا يهمله، يصبر عز وجل على الظلمة ولكن إذا أخذهم لم يفلتهم، قال الله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61].
فيا أيها الظالم، اتق دعوة المظلوم، لا تعرض نفسك لدعائه؛ لأن دعوة المظلوم مستجابة. اتق دعوة المظلوم؛ فإنها تُحمل على الغمام، ويقول الله تعالى: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين. اتق دعوة المظلوم وإن كان كافرًا؛ فإنه ليس دونها حجاب، فكيف بالمظلوم إن كان مسلمًا؟! كيف بالمظلوم إن كان صالحًا تقيًا؟!
إذا ما الظلوم استحسن الظلم مذهبا ولجَّ عتوًّا في قبيح اكتسابه
فكِله إلى صرف الليالي فإنها ستبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالمًا متمرّدًا يرى النجم تيهًا تحت ظل ركابه
فعمّا قليل وهو في غفلاته أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مال ولا جاه يرتجى ولا حسنات يتلقى في كتابه
وجوزي بالأمر الذي كان فاعلاً وصبّ عليه الله سوط عذابه
أيها المسلمون، وقصص المظلومين كثيرة، منهم من دعا على من ظلمه فاستجاب الله دعوته، نذكر بعضها تسلية للمظلومين وتحذيرًا للظالمين:
فهذا سعد بن أبي وقاص ، ظُلم فدعا سعد على من ظلمه وكان مجاب الدعوة، وتفصيل القصة أن عمر بن الخطاب عيّن سعد بن أبي وقاص أميرًا على أهل الكوفة، فاشتكوه إلى عمر وقالوا: إن هذا الأمير فيه كذا وكذا حتى قالوا: إن هذا الأمير لا يحسن الصلاة، فدعاه عمر بن الخطاب فقال له: يا سعد، إن أهل الكوفة شكوك في كل شيء حتى قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي، فقال سعد: أما إني أصلي بهم كما رأيت النبي يصلي، أطيل في الأوليين وأخفف في الأخريين، فقال له عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق، ثم أرسل عمر لجنة إلى الكوفة للتأكد من الأمر وتقصّي الحقائق، فذهبت هذه اللجنة إلى الكوفة وصارت تقف في أسواق الناس وفي مساجدهم وتسألهم: ماذا تقولون في أميركم؟ فيقولون: لا نعلم إلا خيرًا، حتى دخلوا على مسجدٍ لبني عبس فسألوهم: ما تقولون في سعد بن أبي وقاص أميركم؟ قالوا: لا نعلم إلا خيرًا، فقام رجل مرائي فقال: أما أن سألتنا عن أميرنا سعدًا فإنه لا يقسم بالسوية ولا يسير بالسرية ولا يعدل بالقضية، بمعنى: أنه رجل فيه ظلم وجبن وخوف ولا يساهم في المعارك، فقام سعد بن أبي وقاص وقال: اللهم إن كان عبدك هذا قال رياءً وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن ـ والقصة في صحيح البخاري ومسلم ـ، فاستجاب الله دعوة سعد، وقد كان مظلومًا من قِبَلِ ذلك الرجل، فطال عمره حتى سقطت حاجباه على عينيه من الكبر، وطال فقره حتى إنه كان يمدّ يده يتكفّف الناس، وتعرّض للفتن حتى إنه كان على رغم فقره وشيخوخته وكبر سنه كان يقف بالأسواق يتعرّض للجواري يغمزهنّ، فإذا قيل له في ذلك قال: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
وهذه قصة أخرى لامرأة يقال لها: أروى بنت أويس، شكت الصحابي الجليل سعيد بن زيد إلى مروان بن عبد الحكم أمير المدينة، وقالت: إنه أخذ شيئًا من أرضها، فقال سعيد بن زيد: أنا آخذ شيئًا من أرضها بعدما سمعت رسول الله يقول في ذلك؟! فقال له مروان: وماذا سمعت من رسول الله ؟ قال: سمعته يقول: ((من اقتطع شبرًا من أرض طوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين)) ، فقال مروان بن الحكم: لا أسألك بعد هذا بينة، يكفيني قولك هذا، ثم قام سعيد بن زيد ودعا على هذه المرأة التي ظلمته وكذبت عليه ونسبت إليه ما هو منه بريء، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعمِ بصرها واجعل ميتتها في هذه الأرض. قال راوي الحديث عروة بن الزبير ـ والحديث في الصحيحين ـ قال: فوالله، لقد عمي بصرها حتى رأيتها امرأة مسنّة تلتمس الجدران بيديها، وكانت في هذه الأرض بئر، وكانت تمشي في أحد الأيام فسقطت في البئر، وكان ذلك البئر قبرها، وأجاب الله دعاء سعيد بن زيد وكان مظلومًا.
وما يزال الله عز وجل يتقبل دعوات الداعين ويستجيب استغاثة المظلومين.
وهذه قصة ثالثة فيها عجب وعبرة، ذكرها عدد من المؤرّخين، وقد حصلت في بلاد الأندلس، ذكروا أن حاكمًا من حكام الأندلس يقال له: ابن جهور، وكان أميرًا على قرطبة أحد كبار المدن الأندلسية، حاول بعض جيرانه أن يعتدي عليه وهو يحيى بن ذي النون، حاول أن يعتدي عليه ويأخذ ملكه، فاستنجد ابن جهور بأحد حكام الأندلس يقال له: المعتمد بن عباد وكان ملكًا قويًا شاعرًا أديبًا مشهورًا، فجاء المعتمد بن عباد وساعده وقضى على عدوه، ولكن المعتمد بن عباد لما رأى قرطبة وما فيها من المياه والبساتين والخضرة والأموال والترف طمع فيها وبدأ يخطّط للسيطرة عليها، فأدرك ذلك أمير قرطبة ابن جهور فذكّر المعتمد بن عباد بالعهود والمواثيق التي بينهم، وذكّره بالله، لكن المعتمد بن عباد كان مصرًا على احتلال قرطبة، وفعلاً تحقق للمعتمد بن عباد الاستيلاء على قرطبة بعد طول كيد وتدبير وتخطيط، فاستولى عليها وأخذ أمراءها وطردهم منها وصادر أموالهم، وقتل منهم من قتل، وسجن من سجن، وخرج أمراء بنو جهور من قرطبة بلا مال ولا جاه ولا سلطان أذلاء خائفين مذعورين، وبعدما خرجوا منها التفت ابن جهور إلى قرطبة، هذه المدينة التي طالما تمتع بحكمها، وعرف أنه ما أخرج منها ولا تسلط عليه ابن عباد إلا بسبب دعوات المظلومين وبسبب الدماء التي أسالها ظلمًا وعدوانًا، وبسبب الأموال التي أخذها بغير حق، وبسبب ظلمه للناس وحيفه في معاملته لهم، عرف ابن جهور هذا فالتفت إلى قرطبة ورفع يديه إلى السماء وقال: يا رب، اللهم كما أجبت الدعاء علينا فأجب الدعاء لنا، فإننا اليوم مسلمون مظلومون، فدعا الله عز وجل على المعتمد بن عباد، وخرج بنو جهور، وظل ابن عباد يحكم قرطبة ردحًا من الزمن يتمتع بما فيها من الترف، وقد بلغ الترف بالمعتمد أنه كان عنده جارية جميلة تسمى: اعتماد، وكان المعتمد يحبّها، أطلّت هذه الجارية في يوم من الأيام من أحد نوافذ القصر فشاهدت بعض النساء القرويات يحملن على ظهورهنّ القرب وفيها السمن وغيره، يذهبن ليبعنه في الأسواق، وقد هطل المطر من السماء وأصبحت الأرض فيها من الوحل والطين، فكانت هؤلاء النساء يطأن في الوحل والطين وعلى ظهورهنّ القرب، فأَعجب هذا المنظر هذه الجارية فقالت للمعتمد بن عباد: أريد أن أفعل مع الجواري والبنات مثل ما يفعل هؤلاء النساء، فقال ابن عباد: الأمر هين، فأمر بالكافور والمسك وماء الورد فخلط بعضه ببعض حتى صار مثل الطين في أرض القصر، طين ليس من الماء والوحل والتراب، لكنه طين من المسك والكافور وماء الورد، إلى هذا الحد بلغ به الترف، ثم جاء بقرب وحزمها بالإبريسم وهو نوع من الحرير، ثم حملتها هذه الجارية ومن معها وبدأن يطأن في هذا الطين أو بالأصح في هذا الورد والكافور والمسك، وتم لهنّ ما أردن، لكن تلك الدعوات التي خرجت من المظلوم ابن جهور ما تزال محفوظة، فما هي إلاّ فترة من الزمن وإذا بملك النصارى يهدد المعتمد بن عباد، وطلب منه مع دفع الجزية التخلّي عن بعض القصور والدور فرفض، ووجد نفسه مضطرًا أن يستعين بأحد حكام المرابطين وهو يوسف بن تاشفين، فأرسل إليه يستنجد به، فجاء يوسف بن تاشفين ودخل قرطبة وخاض معركة ضد النصارى وانتصر عليهم وطردهم، وبعدما انتصر على النصارى وجد يوسف بن تاشفين نفسه مضطرًا إلى السيطرة على قرطبة، فقبض على المعتمد بن عباد وأولاده فقتل بعضهم على مرأى من أبيهم، وأودع المعتمد السجن في مدينة في المغرب تسمى: أغمات، فبقي مسجونًا فيها عشر سنوات، ثم انتهت هذه السنوات العشر بموته، وكان فترة سجنه مجرّدًا من كل شيء والقيود في يديه ورجليه، ويرى بناته اللاتي كُنَّ بالأمس يطأن في المسك والكافور يطأن اليوم في الطين والوحل، وهنّ يغزلن للناس من أجل كسب العيش ولا يملكن شيئًا، فبكى بكاءً مرًّا ثم قال يخاطب نفسه في إحدى المناسبات وقد فرح الناس واستبشروا بالعيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيد في أغماتَ مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأن فِي الطين والأوحال حافية كأنها لَم تطأ مسكًا وكافورا
من بات بعدك فِي ملكٍ يُسَرّ به فإنما بات بالأحلام مغرورا
إنها دعوات المظلومين، فدعوة المظلوم قد تصيبك في نفسك، دعوة المظلوم قد تصيبك في مالك، دعوة المظلوم قد تصيبك في ولدك، دعوة المظلوم تقلب صحتك سقمًا, دعوة المظلوم تقلب سعادتك شقاء، دعوة المظلوم تجعلك بعد العز والغنى ذليلاً حقيرًا فقيرًا، والله على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الدعاء على الظالم أمر مشروع، لا سيما إذا كان الظلم واقعًا على المسلمين، وتزداد هذه المشروعية إذا كان الظالم كافرًا، وربما يقال بوجوب الدعاء على الظالم الذي يحارب الإسلام وأهله إذا لم يكن ثمّة سبيل لإيقاف عدوانه على الإسلام وكفّ شره عن المسلمين، قال الله تعالى: لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا [النساء: 148].
لقد قنت رسول الله شهرا يدعو على أحياء من العرب، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: إن رعلا وذكوان وعُصيَّة وبني لحيان استمدّوا رسول الله على عدو فأمدّهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي فقنت شهرا يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب؛ على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان. وفي غزوة الخندق لما حاصر الأحزاب المسلمين في المدينة واشتغل النبي وبعض أصحابه في مدافعة المشركين قال بعد ذلك: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارًا)) رواه الجماعة عن علي بن أبي طالب.
فواعجبًا من هؤلاء الظلمة! ألم يتفكروا في مصائر من قبلهم؟! أين الأمم السوالف؟! أين عاد وثمود؟! أين فرعون والنمرود؟! أين القياصرة؟! أين الجبابرة؟! أين كسرى والروم؟! أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِي الْبِلَادِ، فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6- 14].
كتب أحدهم إلى بعض الولاة الظلمة: "أما بعد: فإنكم ملكتم فأسرتم، وقدِرتم فأشرتم، ووسع عليكم فضيّقتم، وعلمتم عاقبة الدعاء فاحذروا سهام السحر؛ فإنها أنفذ من وخز الإبر، لا سيما وقد جرحتم قلوبًا قد أوجعتموها، وأكبادًا أجعتموها، وأحشاء أنكيتموها، ومقلاً أبكيتموها، ومن المحال أن يهلك المنتظِِرون ويبقى المنتظَرون، فاعملوا إنا عاملون، وجوروا إنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلِّمون، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]".
أيها المسلمون، من أوجب الواجبات في وقتنا هذا الدعاء على أعداء الدين من اليهود والنصارى وأذنابهم ومن شايعهم، ممن تسلطوا على بلدان المسلمين وأزهقوا النفوس ونهبوا الخيرات وخربوا ودمروا، فظلمهم من أعظم الظلم.
لكن لا يهولنّكم قوة عدوكم، ولا كثرة عتادهم، ولا طول طغيانهم، اجأروا إلى ربكم واستنصروه على هؤلاء الأعداء الظلمة، فلن يغلب عسر يسرين، ولن يُنصر في الأرض من حورب من السماء. أقرب الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن لَها أمد وللأمد انقضاء
وقد شاء الإله بما تراه فما للملك عندكم بقاء
إن للدعاء على أعداء الدين الظالمين من اليهود والنصارى والمنافقين والعلمانيين وأذنابهم فوائد جمة، منها أن الدعاء في حد ذاته عبادة عظيمة، بل هو لب العبادة وروحها، ولذا ثبت في الحديث الصحيح عن النعمان بن بَشير عن النبي في قوله: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ قَالَ: ((الدُّعاء هو العبادة)) وقرأ: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، فالداعي لا يدعو الله صادقًا إلا وقد انقطع من كل من سوى الله جل وعلا، وتعلق نياط قلبه بالله وحده تعلقًا أشد من أي وقت آخر، ولا يتم له ذلك إلا إذا شهد أن الله هو رب الأرباب ومصرف الأكوان ومالك كل شيء والمعبود وحده لا إله إلا هو، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:4]. فتحقيق هذا اليقين والتوحيد الذي حصل بهذا الدعاء على الظلمة والمتجبرين يخلع الخوف الذي تولّد في قلوب المسلمين من قوة المتجبرين وطغيان الكافرين، ويجعلهم يحتقرون القوى كلها بجانب قوة العزيز القهار، ويعلمون أن ميزان القوى الحقيقي هو: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [البقرة:165]، فتصغر في عيونهم كل قوة مهما عظمت إذا هم استمدوا قوتهم من الله رب العالمين.
والدعاء على أعداء الدين بشتى أنواعهم تعبيرٌ صادقٌ عن عقيدة الولاء والبراء التي هي الرحى الذي تدور عليه عقيدة التوحيد، فأوثق عُرى الإيمان الحبُّ في الله والبغض في الله, وهي العقيدة التي توجد المفاصلة في العقائد والأفكار والمناهج, ومن ثم تمايز الصفوف والنّصرة عند القتال.
والدعاء على معسكر الكفر وأهله إذكاءٌ لروح اليقين في حياة المسلمين, ليعلموا أنّ الأمر كله لله، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، فتمتلئ قلوبهم بمعية الله, فلا يشكّون في نصره ولا يخالجهم تردّدٌ في صدق وعده، وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـ?لِبُونَ [الصافات:173]، قَـ?تِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ [التوبة:14]، كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249].
والدعاء على من اعتدى على المسلمين وبغى عليهم علامةٌ ظاهرةٌ على إيمان العبد وتضامنه مع إخوانه المسلمين، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ((مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى)).
والدعاء على من يحارب المسلمين إحياءٌ لمعاني الجهاد في النفس؛ إذ إنّ مَن لم يحدّث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية، فلا بدّ من تهيئة الفؤاد لأحوال القتال وساعات النزال، فهو استحضار للمعركة المتواصلة بين الحق والباطل، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة: 217]، فالدعاء يربّي قوة العزيمة وشدة البأس في نفس المسلم ليكون مستعدًّا لدكّ حصون الباطل، ويبعث فيه الإرادة الجازمة على محاربة كيد الكافرين الذين يبتغون العزة عند الشياطين، والله جل وتعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَـ?نِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء: 76].
(1/3995)
هلاك الظالمين
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القصص, الكبائر والمعاصي, المسلمون في العالم
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
14/8/1424
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأمة اليوم. 2- عواقب الظلم. 3- صور من نهاية الظالمين. 4- وسائل إزالة الظلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، نواصل معكم سلسلة خطب الظلم، وحديثنا اليوم عن هلاك الظالمين.
أيها المسلمون، إن المؤمن يعلم أنه مهما انتشر الظلم وتفاقم الشرّ وتراقى الخطر والضرّ فإن ما قُضِي كائن وما سُطِّر منتظَر، ومهما يشأِ الله يكن، لا رافع لما وضع، ولا واضع لما رفع، ولا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وما شاء ربُّنا صنع، فلا جزع ولا هلع، وإنما صبرٌ ومصابرة، وفأل بأنَّ لأهل الإسلام السلطة والانتصار، وللظالمين الذلّة والصغار والدمار والخسار، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
أيها المسلمون، إن الأمة المسلمة تواجه اليومَ ظلمًا كبيرًا، ظلمًا بعنف وحربًا بجبروت، يقودها قومٌ لئام، أماطت عنهم اللثام الأحداثُ والوقائع والأيام، يجرّون الضغائن، ويحملون مسمومَ الدفائن، ملؤوا الدنيا عدوانًا، وأشعلوها نيرانًا، أحداثٌ تُفتعَل، وأدوارٌ تُمثَّل وتُنتحَل، إفكٌ وافتراء، واتِّهام وادِّعاء، وغطرسة وغرور، واستبداد وفجور، أدَّى إلى تفجّر العنف وانعدام الأمن وانتشار الخوف واختلال الأوضاع في كثير من الأصقاع والبقاع.
إن العالم باتت تحكمه شريعةُ الغاب وأنظمة الظلم وسياسات التهديد والإرهاب ولغة التحدّي والإرعاب، مصالح ذاتية ونظمٌ أُحاديّة وإدارة فرديّة، تتعامل مع الغير معاملةَ السيّد للمسود والقائد للمقود، سياسةُ مصالح لا قيم، سياسة لا تحكم بالسويّة، ولا تعدل في قضيّة، ولا تتعامل إلا بحيف وازدواجية، غيٌّ وبغي، وتسلّط وتمرّد، ورؤى خاصَّة يقرّرها صاحبُ القوّة وفق عقيدته ومصلحته، ومحاولاتُ إحداثِ خلخلة وضعضعة وانشقاقٍ وافتراق في صفوف الأمة المسلمة؛ لتكونَ أمصارًا متنافرة وبلادًا متناثرة متناحرة.
إنها صورةٌ واضحة المعالم جليّةُ الأبعاد للواقع المرّ الذي تأباه نفسُ كلّ أبيّ حرّ، وستظلّ المباركة والتأييد التي يلقاها الإجرام الصليبي والصلف الصهيوني وتهيئة الأجواء لهما وإفساح المجال لارتكاب مزيدٍ من الهدم والتشريد والتقتيل شاهدًا على الحقد الأعمى، وأنَّه ليس عند القوم للعدل حظٌّ ولا معنى.
أيها المسلمون، لقد بلغ السيل زُباه والكيدُ مداه والظلم منتهاه، والظلم لا يدوم ولا يطول، وسيَضمحلّ ويزول، والدهر ذو صرفٍ يدور، وسيعلم الظالمون عاقبة الغرور، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227]، أين الذين التحفوا بالأمن والدَّعَة واستمتعوا بالثروة والسَّعة من الأمم الظالمة الغابرة الظاهرة القاهرة؟! لقد نزلت بهم الفواجع، وحلّت بهم الصواعق والقوارع، فهل تعي لهم حِسًّا أو تسمَعُ لهم ركزًا؟!
فمهما بلغت قوّةُ الظلوم وضعفُ المظلوم فإنَّ الظالم مقهور مخذول مصفّد مغلول، وأقربُ الأشياء صرعة الظلوم، وأنفذ السهام دعوة المظلوم، يرفعها الحيّ القيوم، يقول رسول الهدى : ((ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الصائم حين يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبوابَ السماء، ويقول لها الرب: وعزَّتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعدَ حين)) أخرجه الإمام أحمد. فسبحان من سمع أنينَ المضطهدِ المهموم، وسمع نداءَ المكروب المغموم، فرفع للمظلوم مكانًا، ودمَغ الظالم فعاد بعد العزّ مُهانًا.
إنه ليس شيءٌ أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الظلم والعدوان، ولا يكون العمران حيث يظهر الطغيان، وإن الظالم الجائر سيظلّ محاطًا بكلِّ مشاعر الكراهية والعداء والحقد والبغضاء، لا يعيش في أمان، ولا ينعَم بسلام، حياتُه في قلق، وعيشه في أخطار وأرق؛ لأنَّ الظلم جالبُ الإحن ومسبِّب المحن، والجَور مسلبةٌ للنعم مجلبة للنقم، وقد قيل: "الأمن أهنأ عيش، والعدل أقوى جيش".
أيها المسلمون، قد يُنعم الله على الكافر نِعمَ نَفْع أو نعمَ دَفْعٍ أو نعَم رفْع، ولكنه إنعامٌ وإعطاء ما هو إلا استدراج وإملاء، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًَا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178]، وقال تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْر?تِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]، إنه إغناءٌ مشوبٌ بالمصائب والأرزاء، منغَّص بالأمراض واللأواء، مكدَّر بالخوف والرعب وعدم الهناء، وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّى? يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [الرعد:31]، وقال تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ [غافر:4]، لا يغرّنَك ما هم فيه من الاستعداد والإمداد، لا يغرنَّك ما هم فيه من التعالي والاستبداد، لا يغرنَّك ما يملكون من القوة والعدّة والعتاد، مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:197]، وقال عز وجل: فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى? جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36].
لا يخفى على أحد ما يقع اليوم على أهل الإسلام من الظلم الكثير والجور الكبير، وإنَّ الله على نصرهم لقدير. فالدهرُ طعمان حلو ومرّ، والأيام طرفان عسرٌ ويُسر، وكلّ شدّة إلى رخاء، وكل غمرة فإلى انجلاء، وإنَّ بعد الكدر صفوًا، وبعد المطر صحوًا، والشمس تغيب ثم تشرق، والروض يذبل ثم يورق، ولله أيام تنتصر من الباغي وتنتقم من العاثي، ومن عرف الله في الرخاء عرفه في الشدائد وصرف عنه المكائد وحفظه وهو نائم وقائم وراقد.
أيها المسلمون، وأما على مستوى الأفراد والأشخاص، فإن الفرد لو ظلم فإن الله تعالى قد يهلك الظالم، خصوصًا إذا كان المظلوم من أهل الصلاح والتقوى.
نعرف جميعًا المحنة التي مر بها إمام أهل السنة أبو عبد الله أحمد بن حنبل، وكيف أنه سجن ظلمًا وجرّد من ثيابه، وضرب وهو صائم حتى الإغماء ودماؤه تسيل، ويبقى في السجن لسنوات ليتنازل عن القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، فيبقى الإمام صامدًا كالجبل، فينصر الله عز وجل الحق على يديه، ثم تمضي الأيام، فيموت الإمام أحمد، ومن قبله يموت المأمون والمعتصم والواثق، ويموت أيضًا أولئك المجرمون من حاشية السلطان الذين كانوا ضد دعاة أهل السنة في ذلك الوقت، وكانوا يمثلون السلطة الدينية الرسمية لدى الدولة، أمثال أحمد بن أبي دؤاد ومن على شاكلته، لكن السؤال: ماذا حفظ لنا التاريخ من سيرة الإمام؟ وماذا حفظ لنا من سيرة ابن أبي دؤاد أو حتى الخلفاء أمثال المأمون أو الواثق؟ هذا جانب، الجانب الآخر: كيف كانت خاتمة كل واحد من هؤلاء الظلمة؟ كيف كانت خاتمة الإمام ابن حنبل؟ وكيف كانت نهاية كل من كان له دور في إشعال تلك الفتنة، سواءً كانوا من العلماء الرسميين أو الوزراء أو الحاشية أو السجانين والجلادين؟
أما حفظ التاريخ فيكفي أن الناس لا تعرف من هو ابن أبي دؤاد عند ذكره، ليس له سيرة يذكر بها، ناهيك عن النكرات أمثال ابن الزيات وهرثمة وأبي العروق وأبي ذر ومحمد بن فضيل ممن سأنبئك بأخبارهم وكيف كانت نهايتهم. أما الإمام أحمد فيكفي أن ملايين الناس منذ آلاف السنين كلما عرضت لهم مسألة في الفقه أو العقيدة سألوا عن قول الإمام أحمد، فضلاً عن أنه كلما قرأ الناس ـ ومنذ آلاف السنين ـ حديثًا وقالوا رواه الإمام أحمد في مسنده سُجل ذلك في ميزان حسناته. وأما أولئك النفر فقد كانت نهاية كل فرد شارك في تلك الفتنة نهاية سيئة والعياذ بالله، لقد ماتوا شر ميتة.
إن القضية والعبرة ليست في شخص الإمام أحمد، أحمد بن حنبل رجل من المسلمين ظلم، وقد ظلم قبله وبعده آلاف على مر التاريخ، لكنها سوء نهاية من شارك في ظلمه بسبب الوقوف في وجه الحق من أن ينتشر، ومحاولة صد الناس عن معرفة الحق والصواب، ومحاولة وضع الحواجز والسدود أمام وصول العقيدة الصافية السليمة لجمهور المسلمين.
إن من أعظم الظلم أن يكون هناك شخص يحاول أن يصلح فسادًا أو يقيم معوجًا أو يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر، وهناك من يحاول أن يضع العثرات في طريقه، أي ظلم أشنع من الوقوف في طريق الإسلام من أن ينتشر والوقوف في طريق الخير أن يتمدد؟!
إليكم أخبار النهايات المأساوية لبعض الظلمة في محنة الإمام أحمد:
أحمد بن أبي دؤاد، هذا الرجل كان من المقربين للخليفة، وكان قاضيًا، لكن مع كل أسف كان على عقيدة المعتزلة، وقد لعب دورًا كبيرًا في الفتنة، كان قاضيًا للقضاة، وبقي على هذا المنصب مدة ثلاثة من الخلفاء حتى جاء المتوكل فعزله. لقد ألّب ابن أبي دؤاد الولاة على الإمام أحمد، وكان يفتيهم بجواز ضربه وسجنه، بل حتى قَتلِه والعياذ بالله، وقد قُتل في زمن المأمون والواثق خلائق لا يحصيهم إلا الله عز وجل، وكان ابن أبي دؤاد يفتي بجواز قتل كل من لم يقل بخلق القرآن، حتى إن الواثق بعدما قتل بنفسه أحد أئمة أهل السنة وهو الإمام أحمد بن نصر الخزاعي ثم مات الواثق كُلّم المتوكل بعده بأن الإمام أحمد بن نصر قتل مظلومًا، كلّمه في ذلك الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني رحمه الله، فدخل في نفس المتوكل شيء، فسأل المتوكل ابن أبي دؤاد عن قتل أخيه الواثق للخزاعي فقال له: ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرًا، والفالج ـ عافانا الله وإياكم ـ مرض يصيب الإنسان يذهب بشقه فلا يستطيع الشخص الحركة ويبقى محبوسًا في جلده، وشاء الله جل وتعالى بقدرته وعظمته وأمره وحكمته أن يصاب ابن أبي دؤاد في آخر حياته بالفالج، ويبتليه الله عز وجل به أربع سنوات قبل موته، ويبقى طريحًا في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئًا من جسده، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح، سجنه الله عز وجل في جلده، كما تسبّب هو في سجن الإمام أحمد، فأصبح بالفالج ميتًا بين الأحياء، وقد زاد الله عليه همّه وغمه ومرضه، عزله المتوكل من وظيفته، بل أمر المتوكل بمصادرة جميع أمواله. دخل عليه عبد العزيز بن يحيى المكي أثناء مرضه فقال له: والله ما جئتك عائدًا، وإنما جئتك لأعزيك في نفسك، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشدّ عليك عقوبة من كل سجن. ثم خرج عبد العزيز المكي وهو يدعو عليه بأن يزيده الله مرضًا ولا ينقصه، فازداد مرضًا إلى مرضه، ومما زاد الله عليه أن ولده محمدًا صودر من أمواله ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار وأخذه الله قبل أبيه بشهر. إنها عقوبات إلهية لأولئك الظلمة الذين تسببوا في سجن ومضايقة أناس مظلومين.
وممن جعلهم الله عز وجل عبرة لغيرهم ممن تسبب في إيذاء الإمام أحمد أولئك الجلادون الذين كانوا يضربون الإمام بالسياط. كان هناك رجلان أحدهما يسمى أبا ذر والآخر يسمى أبا العروق، أما أبو ذر فكان ممن يضرب الإمام بين يدي المعتصم، هذا الرجل أماته الله عز وجل شر ميتة حيث أصيب بالبرص فتقطع ببرصه، نسأل الله العفو والعافية. أما أبو العروق فهلاكه كان أسوأ من صاحبه، يقول عمران بن موسى: دخلت على أبي العروق ـ الجلاد الذي ضرب الإمام أحمد ـ لأنظر إليه، فمكث خمسة وأربعين يومًا يخرج صوتًا يشبه نبح الكلاب. ابتلاه الله بهذا المرض، والناس تدخل لتنظر إليه. هذا ما أصابه في الدنيا وما رآه الناس وسمعوه، أما الآخرة فعلمها عند ربي.
وممن سألهم المتوكل عندما ساءه ما سمع عن أخيه الواثق بقتله الإمام أحمد بن نصر الخزاعي الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات وهرثمة. أما ابن الزيات فقد قال له المتوكل: في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر، فقال: يا أمير المؤمنين، أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرًا. أما هرثمه فقال: قطعني الله إربًا إربًا إن قتله إلا كافرًا. إنه الظلم، فماذا كانت نهاية كل واحد منهم؟
أما ابن الزيات فكان كما قلنا وزيرًا للواثق، وكان المتوكل يبغضه لأنه دائمًا كان يحرّض الواثق على أخيه المتوكل، وكانت له محاولات في إقناع الواثق أن يعطي الخلافة من بعده لولده محمد ولا يعطيها لأخيه المتوكل، لكن الخلافة آلت للمتوكل، وحاول ابن أبي دؤاد أن يلطف الجو بين المتوكل وابن الزيات، فمضى بعض الوقت، لكن النفس ما زالت مشحونة منذ زمن. وفي أحد المرات ساءت الأحوال بين المتوكل وابن الزيات وتعكّر الجو، فأصدر أمرًا بالقبض عليه واعتقاله، فجاءه الشرط وأخذوه من بيته بعد غدائه وهو يظن أن الخليفة بعث إليه، فذهبوا به إلى رئيس الشرطة وهناك قُيد بالحديد وأدخل السجن، ثم أمر المتوكل بتفتيش بيته ومصادرة كل ما فيه، فذهب الشرط وأخذوا جميع ما فيها من الأموال واللآلئ والجواهر والجواري والأثاث، ووجدوا في مجلسه الخاص داخل بيته آلات الشرب والسُكر، وأمر المتوكل في الحال بمصادرة بساتينه التي بسامراء، ثم أمر أن يُعذب وأن يمنع من الكلام والنوم، فصار الشرط يسهّرونه وكلما أراد الرقاد نخسوه بحديدة حتى يبقى مستيقظًا زيادة في تعذيبه، ثم وضع بعد ذلك في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله فأقيم عليها، ووكّل به من يمنعه من القعود والرقاد، فمكث كذلك أيامًا حتى مات. ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه، فنبشت الكلاب جثته فأكلت ما بقى من لحمه وجلده.
أما هرثمة الذي قال: قطعني الله إربًا إربًا إن قَتَلَه إلا كافرًا فهرب من المتوكل ولم يستطع القبض عليه، فمر بقبيلة خزاعة وهي قبيلة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي، فعرفه رجل من الحي، فصرخ بالناس: يا معشر خزاعة، هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر، فاجتمع الناس عليه وقطعوه إربًا إربًا. وجزاء سيئة بمثلها. إنها نهاية الظلم وسوء خاتمة الظالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: الظلم شنيع، ولا بد من مدافعته وتطهير مجتمعاتنا منه بالوسائل الشرعية، ومن أعظم وسائل إزالة الظلم الدعوة إلى الله بالعدل والحكمة والموعظة الحسنة واللين في القول والفعل، قال الله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال : ((إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) ، وهكذا كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يدعون أقوامهم إلى العدل والتوحيد بالحكمة والرفق مهما ظُلموا، فهذا فرعون يطغى ويتجبر ويقتل بني إسرائيل بأنواع القتل قال الله تعالى: وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]، لكن موسى وقومه قابلوا ذلك بالصبر الجميل حيث قال تعالى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، نعم إنها دعوة سامية فيها النور والحكمة، وفيها الصبر مع القوة والأمل في الله تعالى.
ومن وسائل إزالة الظلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشرط الاستطاعة، لقوله : ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فمن لم يستطع فبلسانه، فمن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). وإنما التغيير باليد يكون خاصًا بالدرجة الأولى للحاكم، ويجوز لغيره إذا كان لا يؤدي إلى ضرر أكبر، ولهذا قرر أهل العلم أن الأمر بالمعروف لا يكون إلا بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون بالمنكر، وقالوا كذلك: من نهى عن منكر فعلم أنه سيؤدي إلى منكر أكبر منه فلا يجوز له النهي عن المنكر، وهذا يرجع إلى قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد.
ومن الوسائل عدم الركون إلى الظالم؛ لأنه سبب في انتشار الظلم، قال الله تعالى: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:113]، ولأن الركون إلى الظالم سكوت عن ظلمه.
ومن الوسائل هجر الظالم وعدم إعانته على ظلمه، قال الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأنعام:68].
ومن وسائل إزالة الظلم الدعاء على الظالم والظلم بالزوال، قال : ((واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)) ، وكان الأنبياء إذا يئسوا من ظلم الظالمين دعوا الله، قال تعالى على لسان نوح: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا [نوح:28]، وكان النبي يدعو على المشركين من قومه كما في غزوة بدر: ((اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش)).
(1/3996)
الأمانة
الإيمان
خصال الإيمان
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
13/3/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمانة من أخلاق الأنبياء. 2- أمر الله تعالى بحفظ الأمانة. 3- جريمة تضييع الأمانة. 4- مجالات الأمانة. 5- أمانة النصيحة. 6- أمانة الوظائف. 7- أمانة الأموال العامة. 8- أمانة الولاية. 9- خطورة ضياع الأمانة. 10- أمانة الدعوة. 11- الشباب أمانة. 12- أمانة الفتوى. 13- بدعة الاحتفال بالمولد النبوي.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، الأمانةُ خلُقٌ مِن أخلاق الأنبياءِ والمرسَلين، وفضيلةٌ من فضائل المؤمنين، عظَّم الله أمرَها ورفع شأنها وأعلى قدرَها، يقول جلّ وعلا: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]، ويقول سبحانه في وَصفِ عبادِه المفلحين المؤمِنين: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المعارج:32].
الأمانةُ أمر الله بحفظِها ورِعايَتِها، وفرَض أداءَها والقِيامَ بحقِّها: فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]، ويقول جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ونبيُّنا يقول: ((أدِّ الأمانةَ إلى من ائتَمَنك، ولا تخُن من خانك)) رواه أبو داودَ والترمذيّ وسنده صحيح [1]. وفي قصّة هرقل مع أبي سفيان رضي الله عنه قال هِرَقل: سألتُك عن ماذا يأمركم ـ أي: النبي ـ فزعمتَ أنه يأمُر بالصلاة والصِّدق والعفاف والوفاءِ بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صِفَة نبيّ. متّفق عليه [2].
معاشرَ المسلِمين، تضييعُ الأمانة ذنبٌ عظيم وجُرم جسيم، يَقول ربُّنا جل وعلا ناهيًا عن الخيانة في الأمانةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ [الأنفال:27]، ورسولنا يبيِّن لنا أنَّ الخيانةَ في الأمانة علامة من علاماتِ المنافق، فيقول عليه أفضل الصلاة والسلام: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَد أخلف، وإذا اؤتُمِن خان)) متّفق عليه [3].
إخوة الإسلام، والأمانة المطلوبة تشمَل عِفّةَ الأمين عمّا ليس له بحقٍّ، وتتضمَّن تأدِيَةَ الأمين ما يجِب عليه من حقٍّ لغيره سواء لله أو لخلقِه، وتشمَل كذلك اهتمامَه بحفظِ ما استُؤمِن عليه من ودائعَ وأموال وحُرَمٍ وأسرار. وقال العلماء: "والمجالات التي تدخل فيها الأمانةُ كثيرةٌ، قاعدتها وأصلُها التكاليف والحقوقُ التي أمر الله جل وعلا بِرعايتها وصِيانتها، ممّا هو متعلِّق بالدِّين أو النّفوس أو العقول أو الأموال أو الأعراض".
إخوةَ الإيمان، ومِن الأمانة الواجِب مراعاتُها والقِيام بحقِّها إسداءُ النصيحةِ لمن استَنصَح وإبداءُ الرأيِ السديد المتجرِّدِ من كلِّ غَرَض لمن استشار، فنبيُّنا يقول: ((المستَشار مؤتَمَن)) حديث حسن [4] ، ويقول : ((ومَن استشارَه أخوه المسلمُ فأشار عليهِ بغيرِ رشدٍ فقد خانَه)) رواه أحمد وأبو داود بسند حسن [5].
ومن الأمانات العامّةِ التي يجب تقوَى الله عزّ وجلّ فيها الوظائفُ بشتَّى أنواعها والمسؤوليَّات بمختَلفِ صوَرِها، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله، ألا تستعمِلُني؟! قال: فضَرَب بيدِهِ على منكِبي ثم قال: ((يا أبا ذرّ، إنّك ضعيف، وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامة خِزيٌ وندامة، إلاّ من أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها)) رواه مسلم [6] ، وروى مسلم أيضًا عن النبي أنه قال: ((ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيّةً يموت يومَ يموت وهو غاشٌّ لرعيَّته إلاّ حرَّمَ الله عليه الجنة)) [7].
إخوةَ الإسلام، ومِن أعظمِ ما يُؤتمَن عليه الإنسانُ الأموالُ العامّة التي تعود للمسلِمين قاطِبَة، فرَضَ الله رعايَتَها وعدَمَ إهدارِها، وأوجَبَ حفظَها كما يحفظ الإنسان مالَه وأشدّ، قال في حديث طويلٍ: ((ومَن استعمَلناه منكم على عمَلٍ فكتمَنا مخيطًا فما فوقه كان غُلولاً يومَ القيامة)) [8] ، وفي الحديث أيضًا: ((ومن استعملنا منكم على عملٍ فليجِئ بقليله وكثيره)) الحديث رواه مسلم [9]. وقد مدَح الأمينَ على أموال المسلمين فقال: ((الخازن الأمين الذي يؤدِّي ما أمِر به طيِّبةً نفسُه أحَدُ المتصدِّقين)) متّفق عليه [10].
أيّها المسلمون، ومِنَ الأمانات العظيمةِ أن لاَ يوسَدَ أمرٌ من أمور المسلمين إلاّ فيمن يُتَوخَّى فيه خوفُ الله جل وعلا وممّن توفَّرت فيهم شروطُ الصلاحيّة العلميّة والعملية والأمانةُ على تأديَة الواجب الملقَى، فربُّنا جلّ وعلا يقول حكايةً عن عفريتِ الجن: قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل:39]، وقال حكايةً عن بنت شعيبٍ عليه السلام: قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، ويقول عن يوسف عليه السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وفي حديث حذيفةَ أنَّ النبيَّ قال لأهلِ نجران: ((لأبعثَنّ إليكم رَجلاً أمينًا حقَّ أمين)) ، فاستشرَفَ لها أصحابُ رسول الله ، فبَعث أبا عبيدةَ. متّفق عليه [11].
وإنَّ من علامات سوء الزمان وفسادِ المجتمع وخُبث السّرائر ضياعَ الأمانة والتّفريطَ في الرِّعاية والتّهاوُن في المسؤولية واتِّخاذَ المصالح الخاصّة الهدفَ والغاية ونبذَ المصالح العامّةِ من أجل المصالحِ الخاصّة والمنافع الذاتيّة، ففي مقامِ الذمّ يقول الحبي المصطفى : ((إنَّ الله يبغِض الفحشَ والتفحُّش. والذي نفسُ محمّد بيدِه، لا تقوم الساعة حتى يُخوَّنَ الأمين ويؤتَمَن الخائن، حتى يظهَر الفُحش والتفحُّش وقطيعةُ الأرحام وسوءُ الجوار)) والحديثُ رواه أحمد وغيره وإسناده صحيح [12] ، وفي صحيح البخاريّ قولُه : ((فإذا ضيِّعَت الأمانة فانتظِرِ الساعةَ)) ، قال: كيف إضاعتُها؟ قال: ((إذا وُسد الأمرُ إلى غير أهلِه فانتظرِ الساعة)) [13].
فيا من تحمَّلَ مسؤوليّةً من مسؤوليات المسلمين مِن الوظائف والأعمال والمهامِّ والمسؤوليّات، لقد استرعَاكم ربُّكم جل وعلا ثمّ وليُّ الأمر مسؤوليّاتٍ جسامًا ومهامَّ عِظامًا، واجبٌ عليكم تقوَى الله جل وعلا فيها ورِعايةُ هذِه المسؤوليّات، عليكم فَرضٌ عظيم بالقِيام بهذه المسؤوليّات بما يُرضِي الله ثم يرضِي وليَّ الأمر [وعامّةَ المسلمين]، إيّاكم وتسخيرَ هذه المسؤوليات في مصالحَ خاصّةٍ أو منافع ذاتيّة، واحذَروا من التهاونِ في مقاصِدِ هذه المسؤوليّات وأهدافِها، فلقد ائتَمَنكم وليُّ الأمر ثمّ المسلمون من بعده على هذهِ المسؤوليّات لتسخِّروها في النفعِ العامّ وتحرصُوا على الدقيقِ والكبير فيما يعودُ بالمصلَحة والمنفعةِ لكلّ مسلم، ارفقُوا بالمسلمين، اقضُوا حاجاتِهم، سهِّلوا عليهم، احذَروا من إعنَاتِهم والمشقَّة عليهم، يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا، كونوا عونًا في إفشاءِ المحبّة بين أفرادِ المجتمع، كونوا مِرآةً صادقة صالحَة في تحبيب الناس للنظامِ وللبلادِ ولوليِّ الأمر، فإنَّ من أعظم الخيانة أن تكونوا عونًا للشيطانِ على النّاس؛ لإحباطِهِم وإزعاجِهم ومضرَّتهم وتنفيرِهم عن طاعةِ وليِّ الأمر وعن محبَّته، فإنَّ صاحبَ الحاجة أعمى لا يبصِر إلا حاجتَه، والناسُ متعلِّقون بأمورِ دنياهم، ولقد قال : ((لكلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامة، يُرفَع له بقدر غَدرِه، ألا ولا غادرَ أعظم غَدرًا من أميرِ عامّة)) متّفق عليه [14]. قال العلماءُ: "لأنَّ أميرَ العامّة ـ وهو صاحبُ الوِلايةِ العامّة من حاكمٍ عامّ أو وزيرٍ ونحوِه ـ لأنّ غدرَه يتعدّى ضرره إلى خلقٍ كثير".
أمّة الإسلام، ومِن الأمانةِ العظيمةِ على كلِّ مسلم في هذه الأرض حملُ هذا الدينِ، وإبراز محاسنِه العِظام وفضائِله الجسام، وإفهامُ العالم كلِّه بالعِلم والعمَل بالسلوك والمظهر أنَّ هذا الدينَ خير ورحمةٌ عامّة للبشرية وصلاحٌ للعالَم يحمِل السعادة والسّلام والفوزَ والنجاة في الدنيا والآخرة.
ومِن الأمانة العظيمةِ شبابُ الإسلام. فيا علماءَ المسلمين ويا مفكِّريهم، يا دعاةَ الإسلام، يا رجالَ الإعلام والتربيّة، اتقوا الله جل وعلا في الشباب، وجِّهوهم لما فيه خيرُهم وخير بلدانهم وما فيه مصالِحُهم ومصالِح أمَّتهم، فقِّهوهم مقاصدَ الإسلام، وجِّهوهم لمضامين العقيدة الصحيحة ومبادئ الأخلاق المستقيمَة والأفكار السليمةِ، بصِّروهم بخطورَةِ الآراءِ المنحرِفة مثل الغلوّ والأفكارِ المتطرّفة وتبنِّي التكفير والتّبديع والتفسيق بدون حجّةٍ قرآنيّة وسنّة نبويّة وفهمٍ سديد على منهَج علماء الأمّة، كلّكم راع، وكلٌّ مسؤول عن رعيّتِه.
حذّروا الشبابَ من المعاصِي بأنواعها ومن الآثامِ بشتَّى أشكالها، وعلَى رجالِ الأعلام خَطرٌ عظيمٌ مما يقَع في قنواتٍ كثيرة من برامجَ تحمِل السُّمّ الزُّعاف والشرَّ المستطير لإفساد أخلاقِ شبابِ الإسلام وشابّاتهم، حتى وصَلَ الأمر ـ أيها المسلمون ـ إلى جمع الشّبابِ والشابّات في مكانٍ واحد لغسلِ الأدمِغة وتعليم الأغاني الماجِنَة والأخلاقِ الرَّديَّة، فليتذكَّر أولئك المالِكون لهذه القنواتِ عِظَمَ الموقف بين يدَيِ الله جل وعلا، وليتذكَّروا أن الدّنيا دارُ ممرّ والآخرة هي المستقرّ، وليتفكّروا في هذهِ الآيةِ العظيمة: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفعَنا بما فيه من الآيات والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن أبي داود: كتاب البيوع، باب: في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (3535)، سنن الترمذي: كتاب البيوع، باب: ما جاء في النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر (1264) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الدارمي في البيوع، باب: في أداء الأمانة واجتناب الخيانة (2597)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه الحاكم (2296)، وله شواهد من حديث أنس وأبي أمامة وأبي بن كعب وعن رجل عن أبيه وعن الحسن مرسلا كلها لا تخلو من مقال، قال الشافعي في الأم (5/104): "ليس هذا بثابت"، وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/593): "هذا الحديث من جميع طرقه لا يصح"، ونقل ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (2/150) عن أبي حاتم أنه قال: "منكر"، وعن أحمد أنه قال: "هذا حديث باطل لا أعرفه عن النبي من وجه صحيح"، قال الشوكاني في النيل (6/39): "لا يخفى أن وروده بهذه الطرق المتعددة مع تصحيح إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها وتحسين إمام ثالث منهم مما يصير به الحديث منتهضا للاحتجاج"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (423)، وانظر: الإرواء (1544).
[2] صحيح البخاري: كتاب الشهادات (2681)، صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[3] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (33)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أبو داود في الأدب (5128)، والترمذي في الأدب (2822)، وابن ماجه في الأدب (3745) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وهو في صحيح سنن أبي داود (4277). وفي الباب عن أم سلمة وأبي مسعود وابن عمر وجابر بن سمرة وسمرة بن جندب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير وأبي الهيثم بن التيهان والنعمان بن بشير رضي الله عنهم.
[5] مسند أحمد (2/321)، سنن أبي داود: كتاب العلم (3657) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن راهويه في مسنده (334)، وابن بشران في الأمالي، والطبراني في طرق حديث من كذب علي متعمدا، والبيهقي في الكبرى (10/112)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (1625)، والخطيب في الفقيه والمتفقه، وصححه الحاكم (349، 350)، لكن في إسناده عمرو بن أبي نعيمة مجهول، وهو في ضعيف الأدب المفرد (41)، وانظر: السلسلة الصحيحة (7/1/268-269).
[6] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1825).
[7] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (142) من حديث معقل بن يسار المزني رضي الله عنه، وأخرجه البخاري في الأحكام (7150) نحوه.
[8] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1833) عن عدي بن عميرة الكندي رضي الله عنه.
[9] هو في نفس الحديث السابق.
[10] صحيح البخاري: كتاب الإجارة (2260)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1023) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[11] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3745)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2420).
[12] مسند أحمد (2/199) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وهو في جامع معمر (11/404-405)، ومسند البزار (2435)، وصححه الحاكم (8566)، وفي سنده أبو سبرة الكوفي الراوي عن عبد الله بن عمرو مقبول.
[13] صحيح البخاري: كتاب العلم (59) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[14] صحيح مسلم: كتاب الجهاد (1738) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله كثيرًا، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له في الآخرة والأولى، وأشهَد أنَّ سيّدَنا ونبيّنا محمَّدًا عبده ورسوله النبيّ المجتبى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آلِه وأصحابه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بوصيّة الله جلّ وعلا لخلقه، وهو تقوى الله وطاعته ولزوم أمره سرًّا وجهرًا ليلاً ونهارًا.
أيها المسلمون، ومن الأمانة العظيمة التي يتحمّلها العلماء أمانةُ الفتوى، فالواجب على من صدَّر نفسه للفتوى أن يعلم عِظمَ الأمانة وأن الأمر جِدُّ خطير، فالفتوى الصادرة عن عدم علمٍ دقيق وفقه عميق بالحكم وعن عدم فهمٍ شامل للوقائع المطروحة والنوازل الواقعة المراد تنزيل الشريعة عليها يُعدُّ من عظائم الأمور، فما حصلت الانحرافات في الأمّة إلاّ بسبب التصدّر للفتوى بلا علم بالأمرين المذكورين، وقد حذّر ربنا جل وعلا من القول عليه بلا علم، ونبيُّنا يقول فيما صحَّ عنه: ((ومن أفتيَ بفُتيا بغير علمٍ كان إثمه على من أفتاه)) [1].
وليُعلَم أنَّ أشدّ الأمور إثمًا وأعظمها خطرًا تلك الفتاوى التي تصدر بلا علمٍ بالحكم أو بلا علمٍ بالواقع، ويترتّب عليها حينئذٍ ما لا يمكن أن يُتدارَك خطره ولا يستدرك ضرره.
ومن أخطر هذه الفتاوى التي تصدر بالتكفير ونحوه، فليتّق الله العلماء، وليتذكّروا سيرةَ سلف هذه الأمة، فلقد كان واقع حالهم ما ذكره أبو حصين قال: إنَّ أحدكم يقول هذا القول وهو في عصر العلم الصحيح، إنَّ أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر ـ وهو من هو في العلم والعمل ـ لجمع لها أهل بدر.
وأنّ جميعَ الغيورِين على هذا الدِّين ليُنادون المجامعَ العلمية في العالم كلِّه بالمسارعة إلى تبنِّي الفتاوى الإجماعية في كلِّ مسألة نازلةٍ مهما كان نوعها؛ لقطع الطريق على الفتاوى الأحاديّة التي تصدر في قنوات فضائية وغيرها، في مشاكل دينية أو دنيوية، حتى لا يُفتح المجال لمن قلَّ فقهه وانعدم ورعه، قال ابن أبي ليلى: لقد أدركتُ عشرين ومائةً من أصحاب رسول الله ، ما مِنهم مفتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا [2].
وإنّ من الأمانة العظيمةِ على العلماء تبصيرَ المسلمين بسنّةِ نبيِّنا محمّد وهديِ صحابته في الجليلِ والحقير، ففي ربيعٍ الأول ينتَشِر بين الناس ما يسمَّى بالمولد النبويّ، في حفلاتٍ تعبّديّة، وإنّ محبّةَ سيّدِنا ونبيّنا وحبيبِنا محمّد لرُكنٌ من أركان الدّين وأساس من أسُسِه المتينة، لا يستقيم إيمانٌ إلاّ بالمحبّة لشخصِه وسنّته عليه أفضل الصلاة والسلام، ولكن لا يجوز التقرُّب بشيءٍ لم يشرَعه لنا سيّدنا وحبيبُنا ولم يعمَله صحابته المهديّون الطّاهرون، فمن زعَم إحداثَ قربةٍ ليس فيها برهانٌ من القرآن أو حجّة من السنّة أو هدي من الخلفاء الراشدِين أو إجماع مِن الصحابة المهديِّين فقد زعم أن محمَّدًا قد خانَ الرسالةَ كما قاله الإمامُ مالك [3] ، نعوذ بالله من الخذلان.
وإنَّ من أفضل الأعمال وأزكاها عند ربنا الإكثار من الصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا محمّد.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وأنعم على سيّدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...
[1] هو في نفس حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم الذي أخرجه أحمد (2/321)، وأبو داود في كتاب العلم (3657)، وفي إسناده عمرو بن أبي نعيمة مجهول، وهو في ضعيف الأدب المفرد (41)، وانظر: السلسلة الصحيحة (7/1/268-269).
[2] رواه ابن المبارك في الزهد (58)، وابن سعد في الطبقات (6/110)، والدارمي في مقدمة السنن (135)، وابن حبان في الثقات (9/215).
[3] رواه ابن حزم عنه في الإحكام (6/225).
(1/3997)
أحداث الرس
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
بدر الدين بن محمد ناضرين
الخبر
28/2/1426
جامع السويكت
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخوف على الأعمال الصالحة. 2- تنوع ضلال السعي. 3- جريمة الخروج على ولاة الأمر. 4- استنكار ما حدث في الرس من الفساد والإفساد. 5- خطورة الهوى والحقد.6- من مقتضيات الأخوة الإيمانية. 7- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واذكروا أنّكم محاسَبون على القليل والكثير والصغير والكبير ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
أيّها المسلِمون، إنَّ الحذَرَ من خُسران العمل نهجُ أولي الألباب وسبيلُ عباد الرحمن وطريقُ الرّاسخين في العِلم، وإن سعادةَ المرء في توفيقِ الله له إلى إصابةِ الحقِّ والاهتداء إلى الصراطِ المستقيم، وذلك بعبادةِ الله على بصيرةٍ والتقرب إليه بما شرَعَه سبحانه مما أنزله في كتابِه أو جاءَ به رسوله ، ففي هذا صيانَةٌ للعبد من أن يكون من زمرةِ الأخسرين أعمالاً الذين نبّأنا سبحانَه بأحوالهم وأوضَحَ حقيقتَهم بقولِه عزّ وجل: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وهم كلُّ عامِلٍ عملاً يحسَب نفسَه فيه مصيبًا وأنّه بفعلِه ذلك مطيعٌ لله مُرضٍ له، والحقيقة أنه بفعلِه ذلك مُسخِط لله ضال عن طريق الإيمان.
ألا وإنَّ ضلالَ السعيِ أنواع وصور لا يكاد يحدُّها حدّ أو يستوعِبها بيان، غير أنَّ من أقبحها وأشدِّها نُكرًا وأعظَمها ضررًا شقَّ عصا الطاعة ومفارقةَ الجماعة والتلبّس بالتمرُّد والعِصيان واستباحةِ الدِّماء المعصومةِ وقتلِ الأنفس المحرمة بالتأويلات الباطِلةِ والآراءِ الفاسدة والفتاوَى الخاطِئة المغرِضة.
وإنّ ما وقع منذ أيام في مدينة الرسّ شاهدٌ على هذا الأمر، وإن هؤلاء الخوارج لَهم من أعظم الناس فسادًا في الأرض، ومن أضلّهم سعيًا، ومن أخسرهم أعمالاً؛ إذ متى كان القتلُ والترويع أمرًا مشروعًا في هذا الدين الذي يقول كتابُه المنزَّل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا الآية [المائدة:32]؟! ومتى كان البَغيُ والعدوان على الناس مسلِمِهم ومستأمَنِهم طريقًا إلى رضوانِ الله وسبيلاً إلى جنّاته؟! ومن المنتفِع بهذه الأعمالِ على الحقيقة يا عباد الله؟! وكيف يرضَى أحد لنفسِه أن ينقلبَ إلى أداةٍ بيد أعداءِ دينِه وخصوم أمته ووطنِه، يبلغون بها ما يريدون من الشرِّ والخَبال وهم قارّون مَوفُورون لم يمسَسهم سوء؟! وكيف لا تقَرّ أعينُ أعداء الدين وهم يرَونَ من يقاتل عنهم ويضرِب بسلاحِهم ويتحيَّز إلى فئتهم؟! ثم ألم يحذِّرنا ربّنا من طاعة الشيطان واتّباع خطواتِه فقال عز من قائل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]؟!
عبادَ الله، إنَّ لنيران الحقدِ ضِرامًا تطيش معه العقول وتَصُمّ الآذان وتَعمَى الأبصار، فلا ينتفِع صاحبه بعقلِه ولا بسمعِه ولا ببصره، لا ينتفع بعقلِه حين لا يضَع الأمورَ في نِصابها ولا يتفكَّر في مآلها ولا ينظر في عواقِبِها، ولا ينتفع بسمعه حين يصمّ أذنَيه عن سماع النصح ويولِّي مستكبرًا معرِضًا عن قَبول التّذكير الذي ينفَع المؤمنين، ولا ينتفِع ببصرِه حينَ يغلِق عينَيه عن النّظر إلى البيّنات والهدى الذي يبصِر به طريقَ الحقّ، هنالك تكون العاقبة شرًّا عليه وخسرانًا يبوء به وضلالَ سعيٍ لا يغادِره ونهايةً تعِسةً مظلِمة خائبة تنتظِره.
إن الحِقدَ لن يكون مطيّةً إلى الخير ولا طريقًا إلى الرّشد ولا سببًا إلى نفعٍ عاجل أو آجِل، وما هو إلا مركَب مآلُ راكِبِه الغَرَق هو ومن مَعه بغير أسَفٍ عليه ولا ذكرٍ حسَن له ولا ثناءٍ جميل عليه، وإنها لعاقبةٌ يا لها من عاقبة، وإنه لمآلٌ يا له من مآل، وقانا الله جميعًا شرَّ ذلك المصير، وجنَّبنا أسبابَ سخطه، وختَم لنا بخير.
ألا وإنَّ من مقتضياتِ الإيمان الحقِّ ومن حقوقِ الأخوّة الصادقة تضافر الجهود في الوقوف أمام هذه الفئة الباغية التي أفسدت في الأرض ولم تصلح، وروعت ولم تؤمن، وصدت عن سبيل الله ونفرت، ولم تدع إليه لا بحكمة ولا بموعظة حسنة، فالواجب من الجميع إنكار هذا المنكر، تحقيقا لقوله : ((المؤمِن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) وشبّك بين أصابعه، ولقوله : ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفِهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائِر الجسدِ بالسهر والحمى)) متفق عليه.
نفعَني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّة نبيّه محمد، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ الذي يقبَل التوبَةَ عن عبادِه ويعفو عن السيئات، أحمده سبحانه فاطر السماواتِ والأرضِ، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد الخلق جميعًا الأحياء منهم والأموات، اللهمّ صلّ وسلّم عليه وعلى آلِه وصحبِه صلاةً دائمةً تعمَر بها الأوقات.
أما بعد: عباد الله، أمَر سبحانه العبادَ جميعًا بالتوبة إليه، لعِظَم شأن التّوبة عندَه وشَرَف مقامِها وحَلاوة عاقِبَتها ، قال عزّ من قائل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال جلَ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] أي: خالِصة صادقةً، وهي التي تكون بندم القلب على ما مَضى من الذّنب وبالاستغفارِ باللسان والإقلاعِ بالبَدن والعَزم على عدم العَودة إلى هذا الذّنب مستقبَلاً وبردِّ المظالم إن وُجدت.
وفي سنّة رسولِ الله نظيرُ ذلك من الأمرِ بالتوبة والحثِّ عليها، ففي الحديث الذي أخرجَه مسلم في صحيحه عن الأغرّ بن يسار المزنيّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإني أتوب في اليوم مائةَ مرة)) ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((والله، إني لأستغفِر الله وأتوبُ إليه في اليَوم أكثرَ مِن سبعين مرة)). وإذا كان هذا هو حال النّبي وهو الذي غفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فما عسى أن يكونَ حال غيرِه ممّن يذنِب بالليل والنهار؟!
إنّ الأمرَ بالتوبة كما هو عامّ لكلّ الخلائق فإنّه شامِل لمن يقوم بهذه الأعمالِ الإجراميّة، فإنه مأمورٌ كذلك بالتوبةِ إلى الله والكف عن الإفساد والتخريب، وقد قال رسول الله : ((مَن تاب قبلَ أن تطلعَ الشّمس من مغربها تابَ الله عليه)) ، وقال : ((إنَّ الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلعَ الشمس من مغربها)).
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه واستغفروه، واذكروا على الدّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِهِ الأربعة...
(1/3998)
عقائد الشيعة (1): تاريخ التشيع
أديان وفرق ومذاهب, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, فرق منتسبة
لخضر هامل
وهران
16/1/1426
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصحابة رضي الله عنهم. 2- وجوب حب الصحابة رضي الله عنهم. 3- جريمة سب الصحابة. 4- خطر التنصير وخطر التشيع. 5- افتتان كثير من العوام بالشيعة. 6- الشيعة لغة. 7- إطلاقات لفظ الشيعة. 8- تاريخ التشيع. 9- مراحل التشيع. 10- فرق الشيعة. 11- الموقف الشرعي مما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فإن تقواه وقاية من عذابه، واحذروا سخطه ومعاصيه، فإنها موجبات غضبه وأليم عقابه.
أيها المسلمون، اجتبى الله جل وعلا نبينا محمدا ، واختار له أصحابا وأصهارا، مدحهم في كتابه الكريم في مواضع عديدة، وأثنى عليهم، وأرشد إلى فضلهم، وبين أنهم خير الأمم رضوان الله تعالى عنهم، وقد مدحهم رسول الله ، وأشاد بهم، وأخبر بفضلهم، ونص على أنهم خير قرون الأمة في قوله: ((خير أمتي قرني)) ، وأوجب علينا محبتهم، ونهانا عن بغضهم أو سبّهم أو إيذائهم بأي نوع من أنواع الأذى، فقال : ((الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تبارك وتعالى، ومن آذى الله فقد يوشك أن يأخذه)).
فإياك إياك ـ يا محبّ رسول الله ـ أن تبغض أصحابه، فمن أبغضهم دخل في قوله: ((ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم)) ، فتكون مبغضا لرسولك، ويا سوء عاقبتك إن كنت تبغض نبيك محمّدا، بل عليك ـ يا من أحببت رسول الله ـ أن تحب من أحب حبيبك ومن أمرك بحبه، فلقد كان لا يحب إلا طيبا، ولا يأمر إلاّ بحب الطيبين صلوات الله وسلامه عليه.
وسبُّ صحابة النبي أعظم جرما من بغضهم، فأدنى أحوال السابّ أن يكون مبغضا، فلتحذر من ذلك، ولتتأمل قول النبي : ((لا تسبوا أصحابي)) ، فستجد فيه النهي الواضح منه عن سبّ أصحابه رضوان الله تعالى عنهم، فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، قال الطحاوي في عقيدته: "ونُحبُ أصحابَ رسولِ الله ، ولا نُفرطُ في حبِ أحدٍ منهم، ولا نتبرأُ من أحدٍ منهم، ونبغضُ من يبغضهم وبغير الحقِ يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخيرٍ، وحبهم دينٌ وإيمانٌ وإحسانٌ، وبغضهم كفرٌ ونفاقٌ وطغيانٌ".
أيها الإخوة الكرام، تعيش الأمة الإسلامية اليوم بين فكي رحى: فكّ التنصير وفكّ التشييع، وكلا الفكين شر من الآخر، إلاّ أن التنصير معلوم كفره لدى الخاص والعام، أما التشيّع فإنّ حقيقته وما ينطوي عليه من عقائد لا يعلمها إلا النزر اليسير ممن بحث في الموضوع، من أجل ذلك ترى فئامًا من الناس قد فتِنوا بالشيعة حتى أحبوهم، بل ومنهم من تشيّع ظانّا أن الخلاف بين السنة والشيعة ما هو إلاّ خلاف في الأحكام الفرعية كالخلاف الموجود بين المذاهب الفقهية كالمالكي والشافعي والحنفي والحنبلي والظاهري وغيره؛ لذلك كان يجب علينا أن نبيّن بعض حقائق الشيعة الذين هم من أضرّ الطوائف على المسلمين، وهذا ما أثبته التاريخ فعلا، فما من محنة مرّت بها الأمة عبر مراحلها التاريخية إلاّ وللشيعة يد سوداء فيها، بل حتى في التاريخ المعاصر كان للشيعة يد في سقوط بعض الدول كأفغانستان والعراق، والأعجب من هذا كلّه أن بعضنا فتن بالشيعة وأحبهم لأنهم يعادون أمريكا واليهود ويحاربونهم، ونسينا أن مصلحة اليهود وأمريكا تلتقيان مع مصالح الشيعة، ألا وهي تدمير الإسلام والمسلمين، ودليل صحة هذا الكلام ما سنورده من حقائق عنهم وعن معتقداتهم.
أيها الإخوة الأفاضل، إن لفظة الشيعة لا تطلق إلا على أتباع الرجل وأنصاره فيقال: فلان من شيعة فلان أي: ممن يهوون هواه، كما قال الزبيدي: كل قوم اجتمعوا على أمر فهم الشيعة، وكل من عاون إنسانًا وتحزب له فهو شيعة له، وأصله من المشايعة وهي المطاوعة والمتابعة، فلم يكن استعمال هذه اللفظة في العصر الأول من الإسلام إلا في معناه الأصلي والحقيقي، وقد شاع استعمالها عند اختلاف معاوية مع علي رضي الله تعالى عنهما بعد استشهاد عثمان رضي الله عنه، فقد قام معاوية وأتباعه في وجه عليّ بن أبي طالب وطالبوه بالقصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، واستمال معاوية رضي الله عنه عددًا عظيمًا من المسلمين، فصار أتباعه يعرفون بالعثمانية، وصار أتباع علي يعرفون بالعلوية، مع بقاء إطلاق اسم الشيعة عليهم، واستمر ذلك مدة ملك بني أمية، وقد غلب هذا الاسم على كل من يزعم أنه يتولّى عليًا رضي الله عنه وأهل بيته، حتى صار لهم اسمًا خاصًا، فإذا قيل: مِنَ الشيعة عرف أنه منهم.
والشيعة يزعمون أن التشيّع بدأ منذ عهد النبي ، حيث يزعمون أنه لم يرسل الرسول إلا للدعوة إلى التشيّع ولإشراك عليّ وأولاده في النبوة والرسالة والطاعة، ثم يسردون لإثبات ذلك روايات كلها باطلة وموضوعة روايةً ودراية؛ رواية حيث إن الرواة الذين رووا تلك الأحاديث شيعة ضالّون ووضّاعون كذابون، ولم ترد هذه الروايات في كتب موثوقة معتمدة، ودراية حيث تعارض القرآن ونصوصه، كما تخالف العقل؛ لأن العقل يقتضي أن لا تكون الشرائع مقصودها ومهمتها الدعوة إلى الحبّ لأشخاص والولاية لهم، وبسبب هذه الولاية يدخلون الجنة وينجون من النار، كما أن الآيات القرآنية تنفي ذلك نفي باتًا، حيث لم يجعل الحب وحتى حبّ الله كافيًا للفوز والنجاح في الآخرة، حيث قال الله عز وجل: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31].
جاء في كتاب تاريخ الشيعة لحسين المظفري: إن الدعوة إلى التشيع ابتدأت من اليوم الذي هتف فيه المنقذ الأعظم محمد صلوات الله عليه صارخًا بكلمة: "لا إله إلا الله في شعاب مكة وجبالها... فكانت الدعوة للتشيع لأبي الحسن عليه السلام من صاحب الرسالة تمشي منه جنبًا لجنب مع الدعوة للشهادتين". وادعاء وجود التشيع في عصر النبي وأن الشيعة كانوا موجودين في زمنه لا ينهض به دليل ولا يقوم به برهان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الرافضة ـ وهم غلاة الشيعة ـ لما كان أصل مذهبهم مستند إلى جهل، كانوا أكثر الطوائف كذبًا وجهلاً".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، يختلف المؤرخون في التاريخ الذي برز فيه الشيعة كحركة مستقلة، فمنهم من قال: إنها برزت بموت النبي ، وذلك بعد انقسام المهاجرين والأنصار حول تحديد الخلافة، بينما كانت طائفة أخرى تفضل عليا، وقيل: إن تكوين الشيعة لم يكن إلا يوم واقعة الجمل، ومنهم من قال: اشتهر اسم الشيعة يوم صِفِّين وهو أرجح الأقوال، وقيل: إن الاصطلاح الدال على التشيع إنما كان بعد مقتل الحسين، حيث إنّ التشيع أصبح كيانًا مميزًا له طابع خاص.
ويكاد يجمع المؤرخون أنّ أول من أحدث فكرة التشيع وما تحمله من معتقدات عبد الله بن سبأ اليهودي من أهل صنعاء، وقد كان عبد الله بن سبأ يحمل في قلبه غلاّ على الإسلام الذي أزال ما كان اليهود يتمتّعون به من الهيمنة والسلطان على عرب المدينة والحجاز عامة، فادعى الإسلام في أيام عثمان، ثم تنقل في بلاد الحجاز، ثم ذهب إلى البصرة، ثم إلى الكوفة، ثم إلى الشام، وهو يحاول في كل بلد ينزل بها أن يضل ضعاف الأحلام، ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلا، فأتى مصر فأقام بين أهلها، وما فتئ يلفتهم عن أصول دينهم ويزيد لهم بما يزخرفه من القول حتى وجد مرتعًا خصبًا، وكان مما قاله لهم: إني لأعجب كيف تصدقون أن عيسى ابن مريم يرجع إلى هذه الدنيا وتكذّبون أن محمدًا يرجع إليها؟! وما زال بهم حتى انقادوا إلى القول بالرجعة، فكان هو أول من وضع لأهل هذه الملة القول بالرجعة، ثم قال لهم: إنه قد كان لكل نبي وصي، وإن علي بن أبي طالب هو وصي محمد، وليس في الناس من هو أظلم ممن احتجر وصيّة رسول الله ولم يجزها، بل تعدى ذلك فسلب الوصي حقّه، وإن عثمان قد أخذ حقّ علي وظلمه، فانهضوا في هذا الأمر، وليكن سبيلكم إلى إعادة الحق لأهله الطعن على أمرائكم وإظهار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنكم تستميلون بذلك قلوب الناس، واتخذ لهذه الدعوة وأنصارا بثهم في الأمصار، وما زال يكاتبهم ويكاتبونه حتى نفذ قضاء الله، وكان الضحية الأولى لهذه المؤامرة ذلك الخليفة الراشد الذي قتل مظلومًا وبين يديه كتاب الله، واعتدي على منزله وحرمته، وكان قضاء الله قدرًا مقدورا، ثم بويع علي بن أبي طالب فاختلف الناس في أمره، فمن بين منكر لإمامته، ومن بين قاعد عنه، وبين قائل بإمامته معتقد لخلافته.
أيها الإخوة الأفاضل، مرّ التشيع عبر التاريخ بمراحل عديدة، من أهمها:
المرحلة الأولى:كان التشيع عبارة عن حب علي وأهل البيت بدون انتقاص أحد من إخوانه صحابة رسول الله.
المرحلة الثانية: ثم تطوّر التشيع إلى الرفض، وهو الغلو في علي وطائفة من آل بيته، فالإسماعيلية تغلو في سبعة من أهل البيت، والاثنا عشرية في اثني عشر من أهل البيت، وتطعن في أهل البيت الآخرين كما تطعن في الصحابة.
المرحلة الثالثة: تأليه علي بن أبي طالب والأئمة من بعده والقول بالتناسخ وغير ذلك من عقائد الكفر والإلحاد المتسترة بالتشيع، والتي انتهت بعقائد الباطنية الفاسدة والطعن في الصحابة وتكفيرهم، مع عقائد أخرى ليست من الإسلام في شيء كالتقية والإمامة والعصمة والرجعة والباطنية.
أيها الإخوة الكرام، وفِرق الشيعة كثيرة جدا، منها ما اندرس وانمحى، ومنها ما هو باق إلى يومنا هذا، ومن أهم الفرق الكبرى المعاصرة الاثنا عشرية، وهي كبرى الفرق الشيعية اليوم، والزيدية وهم أتباع زيد بن علي بن الحسين، ويعتبرون من أقرب الفرق الشيعية لأهل السنة، ما عدا فرقة منهم تسمّى الجارودية، فهي فرقة من الروافض وإن تسمّت بالزيدية، وموطن الزيدية في اليمن، والإسماعيلية ومنها النصيرية والدروز وغيرها.
أيها الإخوة الكرام، أول مفهوم يجب أن يصحح في الأذهان هو ما كان من حرب بين الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فيجب علينا أن لا نخوض في تفاصيل هذه القضية التي لا طائل من ورائها، كما يجب علينا أن نسلم بأن الصحابة كلَّهم دون استثناء عدول كمَّل، وما جرى من حربهم مؤوّل، وكلهم مجتهدون، والمجتهد له أجران إن أصاب، وله أجر إن أخطأ، كما يجب علينا أن نعلم أن الخلاف الذي كان بينهم لم يكن خلافا دينيا ولا نزاعا قبليّا ولا عصبية الحسب والنسب، والحصيلة أن التشيع الأول لم يكن مدلوله العقائد المخصوصة والأفكار المدسوسة،كما لم تكن الشيعة الأولى إلا حزبًا سياسيًا يرى رأي عليّ دون معاوية في عصر علي، وأما بعد استشهاده وتنازل الحسن عن الخلافة فكانوا مطاوعين لمعاوية أيضًا مبايعين له، كما حصل مع إمامهم الحسن وأخيه الحسين، وكانوا يفدون على الحكام ويصلّون خلفهم كما كان الحسن والحسين يفدان على معاوية، فلما استقرت الخلافة لمعاوية كان الحسين يتردّد إليه مع أخيه الحسن فيكرمهما معاوية إكرامًا زائدًا، ويعطيهما عطاء جزيلا، وقد أطلق لهما في يوم واحد مائتي ألف، وقال: خذاها وأنا ابن هند، والله لا يُعطيكما هذا أحد قبلي ولا بعدي، فقال الحسين: والله لن تعطي أنت ولا أحد قبلك ولا بعدك رجلا أفضل منا، ولما توفي الحسن كان الحسين يفد إلى معاوية في كل عام فيعطيه ويكرمه، حتى بعض غلاة الشيعة يقرّون بأنّ العلاقة التي كانت بين الحسن والحسين ومعاوية كانت علاقة طيبة، ذكر المجلسي وهو أحد علماء الشيعة عن جعفر بن الباقر أنه قال: قال الإمام الحسن يومًا للإمام الحسين وعبد الله بن جعفر: إنَّ هدايا معاوية ستصل في أول يوم من الشهر القادم، ولم يأت هذا اليوم إلا وقد وصلت الأموال من معاوية، ومعاوية أول رجل في الأرض وهب ألف ألف، وابنه يزيد أول من ضاعفه، كان يجيز الحسن والحسين بن علي في كل عام لكل واحد منهما بألف ألف درهم، وكان يبعث إلى الحسين في كل سنة ألف ألف دينار سوى الهدايا من كل صنف.
فالحقيقة أن ما كان من خلاف بين الصحابة لم يكن خلافا عقديا، ولا يترتب عليه تكفير أحد ولا سبه، ولله ذر من قال:
لا تركنّن إلَى الروافض إنَّهم شتموا الصحابة دونما برهان
لعنوا كما بغضوا صحابة أحمد وودادهم فرض على الإنسان
حب الصحابة والقرابة سنة ألقَى بِها ربي إذا أحيانِي
احذر عقاب الله وارج ثوابه حتَّى تكون كمن له قلبان
(1/3999)
عقائد الشيعة (2): الإمامة عند الشيعة
أديان وفرق ومذاهب, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, فرق منتسبة
لخضر هامل
وهران
23/1/1426
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نشأة الاثنا عشرية. 2- الأئمة الاثنا عشر عند الرافضة. 3- خرافة المهدي المنتظر. 4- أحاديث باطلة عند الشيعة. 5- عقائد الشيعة في أئمتهم. 6- معتقدات الرافضة في عصرنا الحاضر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله تعالى، فإن تقوى الله خير لباس، وتزودوا ليوم يجمع فيه الناس فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
أيها المسلمون، تكلمنا في الجمعة الماضية عن تاريخ الشيعة والمراحل التي مرّ بها التشيع عبر التاريخ وأهم فرق الشيعة المعاصرة، وذكرنا أن أكبر طائفة شيعية اليوم هي الشيعة الإمامية، وتسمى أيضا بالاثنا عشرية أو الرافضة أو الجعفرية نسبة إلى جعفر الصادق.
نشأت هذه الطائفة في العراق وإيران، ولهم وجود في الشام ولبنان وباكستان وغرب أفغانستان والأحساء والمدينة المنورة، ومن أهم عقائدهم ما يلي:
الإمامة: يرون أن إمامة الاثني عشر ركن الإسلام الأعظم، وهي عندهم منصب إلهي كالنبوة، فالإمام عندهم يوحى إليه، ويؤيد بالمعجزات، وهو معصوم عصمة مطلقة، وأئمة الرافضة الاثنا عشر وهم: علي بن أبي طالب الذي يلقبونه بالمرتضى، والحسن بن علي ويلقبونه بالمجتبى، والحسين بن علي ويلقبونه بالشهيد، وعلي زين العابدين بن الحسين ويلقبونه بالسَّجَّاد، ومحمد الباقر بن علي زين العابدين ويلقبونه بالباقر، وجعفر الصادق بن محمد الباقر ويلقبونه بالصادق، وموسى الكاظم بن جعفر الصادق ويلقبونه بالكاظم، وعلي الرضا بن موسى الكاظم ويلقبونه بالرضا، ومحمد الجواد بن علي الرضا ويلقبونه بالتقي، وعلي الهادي بن محمد الجواد ويلقبونه بالنقي، والحسن العسكري بن علي عبد الهادي ويلقبونه بالزكي، ومحمد المهدي بن الحسن العسكري ويلقبونه بالحجة القائم المنتظر، ويزعمون بأنه قد دخل سردابًا في دار أبيه بسامراء ولم يعد، وقد اختلفوا في سِنّه وقت اختفائه فقيل: أربع سنوات، وقيل: ثماني سنوات، ويطلقون عليه لقب المعدوم أو الموهوم أو الغائب أو المنتظر أو الخائف، غير أن معظم الباحثين يذهبون إلى أنه غير موجود أصلاً، وأنه من اختراعات الشيعة.
أيها الإخوة الكرام، يروي الشيعة في أئمتهم أحاديث كثيرة كلّها تتراوح بين البطلان والضعف، كروايتهم لحديث: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) ، وهذا الحديث باطل، ذكره ابن الجوزي في كتابه الموضوعات، واستقصى جميع طرقه، وبيّن أنها باطلة، كما ذكره ابن طاهر المقدسي في كتابه تذكرة الموضوعات والسيوطي في كتابه اللآلئ المصنوعة والشوكاني في كتابه الفوئد الموضوعة، وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا حديث ضعيف بل موضوع عند أهل المعرفة بالحديث".
أو كروايتهم لحديث: ((أنت ـ يا علي ـ تبيّن لأمتي ما اختلفوا فيه بعدي)) ، وهو أيضا حديث باطل، قال النسائي والجوزجاني والأزدي والدارقطني وابن حجر: "ضعيف"، وأخرجه ابن الجوزي في كتابه الموضوعات وقال: "هذا الحديث لا يصح". أما ما يحتجون به من أحاديث صحيحة فيحملونها على غير معانيها.
أيها الإخوة الأفاضل، وينسب الشيعة إلى أئمتهم ما لا يتصوّره العقل فضلا عن الدين، وقد غلوا فيهم غلوا وصل بهم إلى حد تأليههم، جاء في الأنوار النعمانية (1/31) ـ وهو من الكتب المعتمدة عند الشيعة ـ عن علي بن أبي طالب أنه قال: (والله، لقد كنت مع إبراهيم في النار، وأنا الذي جعلتها بردا وسلاما، وكنت مع نوح في السفينة، وأنجيته من الغرق، وكنت مع موسى فعلمته التوراة، وكنت مع عيسى فأنطقته في المهد وعلمته الإنجيل، وكنت مع يوسف في الجبّ فأنجيته من كيد إخوته، وكنت مع سليمان على البساط وسخرت له الريح)، وذكر النوبختي في كتابه فرق الشيعة الكثير من هذه الفرق التي تدعي الألوهية في عليّ وأهل بيته فقال: "فهذه فرق الكيسانية والعباسية والحارثية ومنهم كان بدء الغلو في القول، حتى قالوا: إن الأئمة آلهة، وأنهم أنبياء، وأنهم رسل، وأنهم ملائكة، وهم الذين تكلموا في تناسخ الأرواح، أما فرقة الراوندية فقالت: الإمام عالم بكل شيء وهو الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وليس هذا فقط، بل وسرت هذه العدوى إلى تأليه أولاد عليّ أيضًا".
أيها الإخوة الكرام، ومن المعاصرين من الشيعة اليوم من أطنب في ذكر مناقب أئمتهم الاثني عشر، حتى جعلوا جاحد الأئمة كافرا، قال ابن بابويه القمي شيخ المحدثين عندهم: "إن منكر الإمام الغائب أشدّ كفرًا من إبليس"، ويقول أيضا: "من نفى العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم، ومن جهلهم فهو كافر"، وأفرد صاحب كتاب أصول الكافي بابا في كتابه بعنوان: "إن الأئمة تدخل الملائكة بيوتهم وتطأ بُسُطَهُم وتأتيهم بالأخبار عليهم السلام"، ثم ساق روايات لا يقبلها العقل فضلا عن الدين، وفي بصائر الدرجات لأبي جعفر محمد الصفّار باب في أنهم يخاطبون ويسمعون الصوت ويأتيهم صور أعظم من جبريل وميكائل، ثم يذكر الكليني عدّة أبواب في بيان منزلة الأئمة عندهم، وأذكر لكم الأبواب فقط لأن ما في هذه الأبواب يثير ضحك الثكلى، فمنها: باب أن الأئمة ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء الذين من قبلهم، ومنها: باب أنَّ الأئمة عليهم السلام يعلمون متى يموتون وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم، ومنها: باب أنّ الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليهم شيء، ومنها: باب في الأئمة عليهم السلام عندهم الصحيفة التي فيها أسماء أهل الجنة وأسماء أهل النار، وروى عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد الله يقول: يفقد الناس إمامهم، يشهد الموسم فيراهم ولا يرونه، وعنه أيضًا: للقائم غيبتان، يشهد في إحداهما المواسم، يرى الناس ولا يرونه، ومنهم من روى عن أئمتهم أنهم قالوا: من زار الحسين بن علي عارفا لحقِّه كان كمحدِّث الله فوق عرشه، وفي حديث آخر: كان كمن زار الله في عرشه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد: أيها المسلمون، يعتقد الشيعة الإمامية أنّ مقام أئمّتهم أفضل من مقام الرسل والأنبياء، يقول شيخهم الملقب عندهم بالمفيد: "قد قطع قوم من أهل الإمامة بفضل الأئمة من آل محمد على سائر من تقدم من الرسل والأنبياء سوى نبينا محمد"، وقد سرد الكُلَينِي صاحب كتاب الكافي الذي هو بمثابة صحيح البخاري ومسلم عندنا، سرد نصوصا كثيرة في تفضيل الأئمة على الرسل والأنبياء، منها: عن عبد الله بن بكير عن أبي عبد الله قال: كنت عنده فذكروا سليمان وما أعطي من العلم وما أوتي من الملك فقال لي: وما أعطي سليمان بن داود؟! إنما كان عنده حرف واحد من الاسم الأعظم، وصاحبكم الذي قال الله: قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد:43]، وكان ـ والله ـ عند علي علم الكتاب. وعن أبي بصير عن أبي عبد الله قال: كان سليمان عنده اسم الله الأكبر الذي إذا سأله أعطى وإذا دعا به أجاب، ولو كان اليوم لاحتاج إلينا. وكان عند أبي عبد الله جماعة من الشيعة في الحجر فقال: علينا عين؟ فالتفتنا يمنة ويسرة فلم نر أحدا فقلنا: ليس علينا عين، فقال: ورب الكعبة ورب البنية ثلاث مرات لو كنت بين موسى والخضر لأخبرتهما أني أعلم منهما ولأنبئنَّهما بما ليس في أيديهما؛ لأنّ موسى والخضر عليهما السلام أعطيا علم ما كان ولم يعطيا علم ما يكون وما هو كائن حتى تقوم الساعة، وقد ورثناه من رسول الله. وجاء في تفسير العسكري عندهم أن يونس عليه السلام أنكر ولاية الأئمة، فحبسه الله تعالى في بطن الحوت ولم يفرج عنه حتى أقر بها. وفي مرآة الأنوار عن المقداد قال: سمعت رسول الله يقول: ((والذي نفسي بيده، ما استوجب آدم أن يخلقه الله وينفخ فيه من روحه وأن يتوب عليه ويرده إلى جنته إلا بنبوّتي والولاية لعلي بعدي. والذي نفسي بيده، ما رأى إبراهيم ملكوت السموات ولا اتخذه الله خليلا إلا بنبوتي ومعرفة علي بعدي. والذي نفسي بيده، ما كلم الله موسى تكليما ولا أقام عيسى آية للعالمين إلا بنبوتي والإقرار لعلي من بعدي. والذي نفسي بيده، ما تنبأ نبي قط إلا بنبوتي والإقرار لنا بالولاية)).
وهذه العقيدة لم تكن تمثل حقبة تاريخية معينة، بل هي ركيزة من ركائز عقيدة التشيع، وليس أدلّ على ذلك من تمسّك شيعة القرن الحالي بهذه العقيدة، فالخميني ومن تبعه من شخصيات شيعيّة في العصر الحاضر يجترون ذلك الافتراء، يقول الخميني: "وإن من ضرورات مذهبنا أنّ لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل"، وقوله: "قد ورد عن الأئمة قولهم: إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل".
أيها الإخوة الكرام، ولم يكتف الرافضة بتفضيل أئمتهم على الأنبياء والرسل، بل فضلوهم على النبي ، فهم يزعمون أن زيارة الحسين في كربلاء تعادل 70 حجة، وهذا الفضل لا يعطاه من زار مسجد النبيّ ، كما يزعمون أن تربة الحسين من الجنة، لذلك ترى الشيعة يحرصون على جلبها معهم، بل استغفلوا أتباعهم، وصرحوا بفضل الحسين على النبي فقالوا: النبي أمه آمنة، والحسين أمه فاطمة بنت رسول الله، وهي أفضل من آمنة، والنبي أبوه عبد الله، والحسين أبوه علي، وهو أفضل من عبد الله، والنبي جده عبد المطلب، والحسين جده رسول الله، وهو أفضل من عبد المطلب، فأيّ استغفال هذا؟! وأية عقول يفكر بها هؤلاء؟! ويا ليتهم سكتوا عند هذا الحد، بل فضّلوا حتى مهديهم المنتظر أو مهدي السرداب الخرافي على النبيّ، يقول كبير مخرّفيهم في العصر الحديث قدوتهم الخميني: "الأنبياء جميعا جاؤوا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم، لكنهم لم ينجحوا، وحتى إن النبي محمدا خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية وتنفيذ العدالة لم ينجح في عهده، وإن الشخص الذي سينجح في ذلك ويرسي قواعد العدالة في أنحاء العالم ويقوم الانحرافات هو الإمام المهدي المنتظر... ثم يضيف قائلا: إن الإمام المهدي سيعمل على نشر العدالة في جميع أنحاء العالم، وسينجح فيما فشل في تحقيقه الأنبياء والأولياء بسبب العراقيل التي كانت في طريقهم". ويصف المهدي الخرافة بأنه الرجل الأول، والباقي من الأنبياء والمرسلين هم في المرتبة التالية منه، وإن عيد خرافة السرداب أكبر وأعظم للبشرية من ميلاد خاتم الأنبياء والمرسلين، فيقول: إن هذا العيد الذي هو عيد كبير بالنسبة للمسلمين أكبر من ميلاد النبي عليه الصلاة والسلام.
أيها الإخوة الأفاضل، هؤلاء الرافضة ـ كما قال العلماء ـ بذرة نصرانية غرستها اليهودية في أرض مجوسية، دينهم الكذب والكفر والنفاق، آذوا أهل البيت ونسبوهم إلى كل سوء وقوّلوهم ما لم يقولوه، قال الشوكاني: "وأمّا تسرّع هذه الطائفة الرافضة إلى الكذب وإقدامهم عليه والتّهاون بأمره فقد بلغ من سلفهم وخلفهم إلى حدّ الكذب على الله وعلى رسوله وعلى كتابه وعلى صالحي أمته، ووقع منهم من ذلك ما يقشعرّ له الجلد.
أيها الإخوة الكرام، ومن معتقداتهم بعد الإمامة الطعن في الصحابة رضي الله عنهم أجمعين وتشكيكهم في القرآن الكريم والتقية وغيرها مما سنتكلم عنه في الجمع القادمة إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [الجاثية:23].
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب العالمين، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال...
(1/4000)
عقائد الشيعة (3): الطعن في الصحابة وأمهات المؤمنين
أديان وفرق ومذاهب, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, فرق منتسبة
لخضر هامل
وهران
1/2/1426
مسجد الشيخ إبراهيم التازي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف الشيعة من الصحابة الكرام. 2- عداوة الرافضة للشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. 3- استمرار عقيدة الشيعة على ذلك إلى يومنا هذا. 4- عداء الشيعة لأم المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما. 5- فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. 6- الشيعة مصدر كل شر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى، فهي وصيّة الله لكم في محكم كتابه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها المسلمون، تكلمنا في الجمعة الماضية عن عقائد الشيعة، وذكرنا أن من عقائدهم الإمامة التي يعدونها ركن الإسلام الأعظم وأنها مرتبة أفضل من الرسالة، وذكرنا أقوال علمائهم في تفضيل أئمتهم على الأنبياء والمرسلين حتى على النبي ، بل وزادت سفاهتهم حتى زعم بعضهم أن الأئمة ألهة، أما اليوم سنتم ما بقي من أركان عقائدهم الباطلة الفاسدة.
أيها الإخوة الكرام، فبالإضافة إلى عقيدة الإمامة فإن الشيعة تطعن في الصحابة رضوان الله عنهم أجمعين، فقد وقفوا من الصحابة موقفًا لم ترضه اليهود في أصحاب موسى، ولا النصارى في أصحاب عيسى، فلقد اجترؤوا على الصحابة الكرام وتناولوهم بالطعن والقدح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية: "فضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلتين: سئلت اليهود: من خير أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى: من خير أهل ملتكم؟ قالوا:حواريو عيسى، وسئلت الرافضة: من شر أهل ملتكم؟ قالوا: أصحاب محمد، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم".
فهم يزعمون ردّة الصحابة إلا ثلاثة أو أربعة أو سبعة على اختلاف أساطيرهم، جاء في كتاب الكافي وكتاب الروضة عن أبي جعفر قال: كان الناس أهل الردة بعد النبي إلا ثلاثة، فقلت: ومن الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي. وروى الكليني في الكافي عن محمد بن علي أنه قال: المهاجرون والأنصار ذهبوا ـ أي: كفروا ـ إلا ثلاثة.
أيها الإخوة الأفاضل، وقد صبّ الروافض جام غضبهم وحقدهم الدفين وغلِّهم الخبيث على الصحابيين الجليلين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وابنتيهما أمهات المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين، وجعلوا من أهم عقائدهم تكفيرهم، وهم يتقربون إلى الله بسبهم والطعن في أعراضهم، جاء في كتاب الصراط المستقيم (2/88): "من شروط الإسلام عندهم البراءة من الشيخين" أي: أبي بكر وعمر، وفي (ص95) من نفس الجزء: "إن الشيخين عند الرافضة أولاد زنا"، وفي (ص333): "يقولون: الأول والثاني ـ يعني الشيخين ـ عليهما لعائن الله كلها كانا والله كافرين مشركين بالله العظيم"، وفي (ص343) من نفس الجزء: "أبو بكر وعمر وعثمان عندهم هم العجل وفرعون والسامري"، وفي كتاب بصائر الدرجات (ص274): "إن أئمتهم حينما يرمون الجمرات في الحج فإنهم إنما يرمون أبا بكر وعمر، وهم يقولون أيضا: أبو بكر وعمر وعثمان عندهم هم كلاب الجحيم وخنازيرها".
وروى الكليني في الكافي عن محمد بن جعفر أنه قال: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: من ادعى إمامتنا من الله وليست له، ومن جحد إماما من الله، ومن زعم أن لهما في الإسلام نصيب أي: أبو بكر وعمر، أي: من زعم أن لأبي بكر وعمر نصيبا في الإسلام لا يكلمه الله ولا يزكيه وله عذاب أليم.
وفي الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري (2/278): "إنا لا نجتمع معهم ـ أي: أهل السنة ـ على إله ولا على نبي ولا على إمام، وذلك أنهم يقولون: إن ربهم الذي كان محمد نبيّه وخليفته بعده أبو بكر، ونحن لا نقول بذلك الرب ولا بذلك النبي، بل نقول: إن الرب الذي خلق خليفة نبيه أبا بكر ليس ربنا ولا ذلك النبي نبينا". وفي الأنوار النعمانية (1/53) يقول كاتبهم: "ولا تعجب بهذا فقد روي في الأخبار الخاصة أن أبا بكر كان يصلي خلف النبي والصنم معلّق في عنقه وسجوده له"، وجاء في كتاب إلزام الحق أن المراد من قول الله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص:5، 6] قال: المراد من فرعون وهامان هما أبو بكر وعمر.
بل ولهم دعاء من صفحتين تقريبا ليس فيه سوى اللعن والسب للصحابيين الجليلين وابنتيهما رضي الله عنهم، وقد وضعوا لهذا الدعاء فضائل لا ينالها حتى من يبيت قائما ويصبح صائما ويختم القرآن في يومه، يقولون: هذا الدعاء رفيع الشأن عظيم المنزلة الداعي به كالرامي مع النبي في بدر وأحد وحنين بألف ألف سهم، وكأنهم استقلوا هذا الفضل فزادوا أن من دعا الله به في الصباح لم يكتب له ذنب حتى المساء، ومن دعا به في المساء لم يكتب عليه ذنب حتى الصباح، وإليكم جزءا من هذا الدعاء لتعلموا مدى حقد الرافضة على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما: "اللهم العن صنمي قريش وجبتيها وطاغوتيها وإفكيها وابنتيهما، اللهم العنهما وأنصارهما وعظّم ذنبهما وخلدهما في سقر، اللهم العنهم بعدد كل منكر أتوه وحق أخفوه ومنبر علوه ومنافق ولّوه، اللهم العنهم في مكنون السرّ وظاهر العلانية لعنًا كثيرًا دائبًا أبدًا دائمًا لا انقطاع لأمده، ولا نفاد لعدده، يغدو أوله ولا يروح آخره، لهم ولأعوانهم وأنصارهم ومحبيهم، اللهم عذّبهم عذابًا يستغيث منه أهل النار".
ولم يقف بغضهم عند هذا الحد، بل ذكروا في كتبهم أن الله خلقا طيورا تعيش على لعن أبي بكر وعمر، ومتى توقفت عن اللعن ماتت، كما يعتقد الشيعة أن أبا لؤلؤة المجوسي قد أسدى للإسلام خدمة عظيمة بقتله للفاروق، وأن الله تعالى سوف يثيبه أعظم الجزاء لقيامه بهذا الأمر، ويتخذ الشيعة هذا اليوم عيدًا يحتفلون به ويتبادلون فيه التهاني، بل يزعمون أن اليوم الذي قتل فيه عمر من أجلّ الأيام السعيدة عندهم، وأن الله تعالى أمر الكرام الكاتبين أن يرفعوا القلم عن الخلق ثلاثة أيام يعملون ما شاؤوا من المنكرات والموبقات، فلا يكتبون عليهم شيئا، فلا حساب ولا عقاب، وهذا قليل من كثير، وما خفي أدهى وأطم وأعظم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء وسيد المرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها المسلمون، لا يظنن أحدكم أن هذا الأمر إنما كان في الماضي فقط، بل لا يزال عقيدة وعبادة يتقربون بها إلى الله، فهذا محمد التيجاني الرافضي المعاصر قال في إحدى محاضراته: "الرب الذي يرضى أن يكون أبو بكر الخليفة بعد رسول الله لا نريده"، ويقول المجلسي عن الخلفاء الراشدين في بحار الأنوار (4/385): "إنهم لم يكونوا إلا غاصبين جائرين مرتدين عن الدين، لعنة الله عليهم على من اتبعهم في ظلم أهل البيت من الأولين والآخرين".
أيها الإخوة الكرام، ومن معتقداتهم أنه من أحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما هو على غير هدى، بل مشكوك في نسبه مخلد في النار، وقد كثر في كتبهم أن خروج محبّي الشيخين من النار خلاف القواعد والأخبار، فالناصبي عندهم من أقر بخلافة الشيخين أبي بكر وعمر، والسني عندهم اتخذ الشياطين أولياء من دون الله بتوليه للخلفاء الراشدين، ومن شروط الإسلام عندهم البراءة من الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي (ص340) من نفس الكتاب يقولون: "إنه لا يموت رجل يرى أنّ عثمان قتل مظلومًا إلاّ لقي الله يوم القيامة يحمل من الأوزار أكثر مما يحمل أصحاب العجل" أي: من عبدوا العجل من قوم موسى.
أيها الإخوة الأفاضل، أما أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فهي عندهم كافرة منافقة فاجرة داعرة وقحة، كانت تدير شبكة دعارة في المدينة المنورة، جاء في الصراط المستقيم (2/465): "إن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندهم هي أم الشرور"، وفي (ص468): "إن أم المؤمنين عائشة هي قرن الشيطان، (الفتنة تخرج من ههنا من حيث تطلع قرن الشيطان) وأشار إلى مسكن عائشة"، وفي (ص469) من نفس الجزء يصرحون بأن الله لم يبرئ عائشة رضي الله عنها من الزنا، بل برأ مارية القبطية التي رمتها عائشة بالزنا، وفي بحار الأنوار (28/149): "إن أكثر الروايات المذكورة تنتهي إلى عائشة... وسيأتي في أخبارنا من ذمّها والقدح فيها وأنها كانت ممن يكذب على رسول الله... وبالجملة بغضها لأمير المؤمنين أولاً وآخرًا هو أشهر من كفر إبليس، كما أنه كاف في الدّلالة على كفرها ونفاقها".
أما حفصة بنت عمر بن الخطاب فقد جاء في كتاب الصراط المستقيم (2/472): "فصلٌ في أختها حفصة، طلّقها النبي... قال الصّادق: كفرت"، وفي نفس الكتاب يفسر قوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [التحريم:10]: "لا يخفى على الناقد البصير والفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض بل التصريح بنفاق عائشة وحفصة وكفرهما".
أيها الإخوة الكرام، لولا أن المقام مقام بيان وتوضيح لما ذكرنا من سخافاتهم شيئا، ولكن هذا جزء بسيط جدا مما هو مذكور في كتبهم وما تلوكه ألسنة علمائهم ودعاتهم، وما خفي أعظم وأطم.
أيها المسلمون، إن المطلع على عقائد الروافض بعين الإنصاف ودون تحيز ولا عاطفة يدرك بما لا يدع مجالا للشك أن القوم قد ضلوا ضلالا بعيدا وكفروا كفرانا مبينا؛ إذ لا يخفى على كل من خالط الإيمان بشاشة قلبه فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ففضلهما عظيم، وخيرهما كبير، وأجرهما جزيل، وثوابهما ليس له نطير ولا مثيل، فكم من حديث صحيح بيَّن فضلهما، بل كم من آية جليلة في الكتاب المبين جاءت بمدحهما: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33] قيل: الذي جاء بالصدق رسول الله ، والذي صدق أبو بكر، وقوله سبحانه: إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40] أجمع المفسرون أن المقصود بالثاني أبو بكر رضي الله عنه.
أما عمر بن الخطاب فيكفي أنه الفاروق الذي أعز الله بإسلامه الإسلام والمسلمين، وهو من بركة دعوة نبينا ، وكم من مرة وافقه الله على كلامه فأنزل قرآنا يتلى إلى يوم الدين، قال شيخ الإسلام في الجواب الصحيح: "إنه لا يقدح أحد في الخلفاء الثلاثة أبي بكر وعمر وعثمان إلا أمكن أن يقدح بمثل ذلك وبأعظم منه في علي، فيمتنع أن يكون علي سليما من القوادح في إمامته إلا والثلاثة أسلم منه مما يقدح في إمامتهم". قال عبد الله بن مسعود: (إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب الصحابة خير قلوب العباد فجعلهم الله وزراء نبيه يقاتلون على دينه)، قال الإمام مالك: "إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبيّ، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء، ولو كان صالحًا كان أصحابه صالحين"، وقد رأينا في كتبهم من الكذب والافتراء على النبي وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب في كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل.
أيها الإخوة الكرام، الشيعة مصدر كل شر، فما من شر بدأ في الأمة إلاّ وكانوا سباقين إليه، ولا بدعة في الدين إلى كان لهم سبق فيها، فأول: من قال: إن الله جسم هو هشام بن الحكم الرافضي، ونقل ابن تيمية عن الجاحظ قوله: ليس على ظهرها رافضي إلا ويزعم أن ربه مثله، ومن المعلوم من دين المسلمين وعليه أهل السنة والجماعة أن الله ليس كمثله شيء، وأول من فتح باب تحريفات الملاحدة الباطنية في كلام الله وكلام رسوله هم الجهمية والشيعة، قالوا في قوله تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ [الإسراء:60] هم بنو أمية، وقالوا: إنّ البقرة المأمور بذبحها هي عائشة رضي الله عنها، وقالوا: المراد باللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين.
وأول من أظهر دعوى النبوة من المنتسبين إلى الإسلام المختار بن عبيد وكان من الشيعة، وقد قال رسول الله : ((سيكون في ثقيف كذاب ومبير)) ، فأما الكذاب فهو المختار، وأما المبير فهو الحجاج. وأول من أحدث المشاهد هم القرامطة العبيدية القداحية، وذلك عندما ضعفت خلافة بني العباس وتسلطت على الحكم في مصر، فنشرت بدع الشيعة من إقامة المشاهد وإقامة شعار الرفض في يوم عاشوراء وغير ذلك. وأول من أحدث النوح والحزن والصراخ واللطم في يوم عاشوراء هم الشيعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يُحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي وما يُفضي إليه ذلك من سب السلف ولعنهم وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب حتى يُسب السابقون الأولون، وتُقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب، وكان قصد من سنّ ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة؛ فإن هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرمه الله ورسوله".
اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال...
(1/4001)
الإيمان سعادة وشفاء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, خصال الإيمان, فضائل الأعمال, فضائل الإيمان
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
أبو عريش
6/3/1426
جامع التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قصة الرسول مع الأنصار حين وجدوا عليه في أنفسهم. 2- أمراض ومظاهر أفرزتها الجاهلية المعاصرة. 3- من المؤمن الحقّ؟ 4- ثمرات الإيمان بالله تعالى. 5- بعض مكفرات الذنوب. 6- من مقومات الإيمان التفكر. 7- دعوة للتفكر وللتوبة والإنابة لله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السرّ والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها المؤمنون، ننطلق اليوم من موقف عظيم كانت معالمه وحوادثه تتمّ بحضرة المعصوم ، والمكان هو الطائف بعد انتهاء غزوة هوازن، حيث بدأ النبي يقسم الغنائم فيعطي المؤلّفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم شيئًا، فوجدوا في أنفسهم: كيف يعطي النبي كل القبائل ونحن لنا السابقة في الإسلام ولم يكن لنا نصيب من تلك الغنائم؟! فذهب سيدهم وزعيمهم سعد بن عبادة إلى النبي فشكا له الأمر، وبيّن له ما وجده أصحابه في نفوسهم، فقال: يا رسول الله، إن الأنصار وجدوا في أنفسهم، أعطيت كل أحياء العرب ولم تعطهم شيئًا! قال: ((وأين أنت يا سعد؟)) قال: يا رسول الله، ما أنا إلا من قومي ـ أي: أنّي أجد ما يجدون ـ قال: ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)) ، فجُمِع الأنصار رضي الله عنهم في مكان هناك، فخرج عليهم خير من خَلَقَ الله محمد بنور وجهه وطَلْعته البهِيّة عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، جاء ليعالج هذه المشكلة وهذه الظاهرة الحديثة التي وجدت في خير من خَلَقَ الله بعد الأنبياء والمرسلين وهم الصحابة الأخيار الأبرار رضي الله عنهم وأرضاهم، فقال لهم النبي : ((يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم؟ وَجْدة وجدتموها عليّ في أنفسكم، ألم آتكم ضُلاّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟!)) وهم لا يزيدون رضي الله عنهم على أن يقولوا: لله ولرسوله المنّ والفضل، قال: ((ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟!)) قالوا: بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المنّ والفضل، قال: ((أما ـ والله ـ لو شئتم لقلتم فلصَدَقْتُم ولصُدِّقْتُم: أتيتنا مُكذَّبًا فصدّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم ـ يا معشر الأنصار ـ في أنفسكم في لُعَاعَة من الدنيا تألّفتُ بها أقوامًا ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟! ألا ترضون ـ يا معشر الأنصار ـ أن يذهب الناس بالشاء والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك الناس شعبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار. اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار)) ، فبكى الأنصار رضي الله عنهم حتى أَخْضَلُوا لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسمة ونصيبًا [1].
إنه الإيمان الذي يحلّ كثيرًا من المشكلات، عندما ذكّرهم النبي بهذا الإيمان وبهذه النعمة الكبرى وبهذه الهداية العظيمة أصبحت الدنيا لا تسوى عندهم شيئًا. إن أعظم كنز ذُكّر به أولئك النفر من أصحاب النبي أن يكون محمد رفيقهم وجليسهم وأنيسهم في سفرهم وإقامتهم، لقد رضوا برسول الله قسمة ونصيبًا، رضوا بمنهجه، رضوا بهديه.
أيها المؤمنون، إن الجاهلية المعاصرة أفرزت أمراضًا ومظاهر نَشَاز في مجتمعات المسلمين بسبب الفطرة المادّية والتهالك على الدنيا والحرص عليها، فبرزت أمراض ومظاهر لم تكن معروفة في أجيال المسلمين، فمن تلك المظاهر النشاز عدم رغبة الناس في الخير، وعدم حرصهم عليه، وعدم الرغبة في حضور مجالس الذكر وتلاوة القرآن والمحافظة على الفرائض وغير ذلك من العبادات، بل برزت مظاهر أخرى تتمثل في كثرة الأمراض النفسية التي ابتُلِي بها الناس في هذا الزمان، وراجع مستشفيات الأمراض النفسية لتجد من ذلك عجبًا، تجد مئات الملفات، بل آلاف الملفات للمرضى الذين يعانون من الأمراض النفسية والعقد النفسية والهلوسة وغير ذلك من الأمراض التي كثير منها بسبب البعد عن الله سبحانه تعالى.
إن من تلك المظاهر ـ يا عباد الله ـ كثرة المشكلات الأسرية والاجتماعية بين المسلمين، واذهب إلى المحاكم لتجد من ذلك عجبًا بين الجارَين المتحابين وبين الإخوة المتآلفين وبين أهل البلد الواحد، مشاكل عويصة بسبب التهالك على الدنيا، بسبب البعد عن الله سبحانه وتعالى، بسبب عدم استشعار النعمة العظمى نعمة الإيمان، نعمة القرب من الله سبحانه وتعالى، نعمة هذا الدين العظيم الذي منَّ الله به على المؤمنين.
أيها المؤمنون، إن الإيمان من أعظم النعم التي يمن الله بها على من يشاء من عباده، بل هي أعظم نعمة وجدت على وجه الأرض، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ [الحجرات:17]. إن من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين ويجعله مؤمنًا صادقًا، هذه من أعظم النعم ومن أعظم المنح الربانية التي يمن الله بها على من يشاء من عباده.
إن المسلم المؤمن هو الذي يتمتع بالحياة الطيبة، هو الذي يجد الأنس بالله سبحانه وتعالى، هو الذي يجد الراحة والسعادة والطمأنينة، ولو ملك الناس كل ما على ظهر الأرض من أموال ومتاع، فإنه ينظر إليهم نظرة المشفق؛ فإنه يعلم يقينًا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن ما قدر له كائن، وأن رزقه سيأتيه لا محالة، ((إن روح القدس نفث في روعي: إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها. فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)) رواه البيهقي وأبو نعيم من حديث أبي أمامة وابن مسعود وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير.
يعلم المسلم هذا الأمر علم اليقين، ويعلم أن رزقه مكتوب وأجله مكتوب، وأموره كلها قد كتبت، يعلم أن الرزق مقدر، وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22، 23]؛ فلذا ينعم المسلم بالسعادة والراحة والطمأنينة والحياة الطيبة التي فقدها كثير من الناس في عالمنا المعاصر لما تهالكوا على الدنيا، وأصبحت الدنيا كل همهم ومقصدهم ورغبتهم وغايتهم، والقضية التي يتهالكون عليها، فسل عليهم بسبب ذلك شقاءً نفسيًا بسبب الإعراض عن الله تعالى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]. إنها المعيشة الضنك التي بليت بها المدنية المعاصرة، بلي بها المتهالكون على الدنيا الذين نسوا ذكر الله تعالى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126].
بينما في المقابل تجد المؤمن الحق الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، الذي وقر الإيمان في قلبه، الذي استقر هذا الدين العظيم في قرارة نفسه، يؤمن بهذا الدين، فيجد السعادة ويجد الراحة ويجد الحياة الطيبة، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]. إنها الحياة الطيبة التي يجدها المؤمنون بالله تعالى، إنها السعادة والرضا، إنها الأنس بالله تعالى، إنها كل شيء الذي يبحث عنه الناس في هذا الزمان. "إننا في سعادة لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف" هكذا يعلنها أحد السلف الذين تلذذوا بمثل هذه الحياة الطيبة.
إن المؤمن الحق هو الذي يجد الأمن النفسي، هو الذي يجد الراحة والطمأنينة، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ [الأنعام:82]. الأمن بجميع صوره، الأمن في الأموال، الأمن في الأنفس، الأمن في الأولاد، الأمن في العتاد، الأمن في الحياة كلها، الأمن ـ كما ذكر المولى عز وجل ـ قرين الإيمان، الأمن والإيمان قرينان لا ينفكان أبدا، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ [الأنعام:82]. الطمأنينة عند الخوف وعند الشدائد وعند الكربات وعند المشاق يجدها المسلم الحقّ، يجدها المؤمن الذي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]. إنهم يعلمون الملاذ والملجأ الذي يلجؤون إليه، إنه الله سبحانه وتعالى وكفى، فمن وجد الله فماذا فقد؟! ومن فقد الله فماذا وجد؟! من وجد الله فماذا فقد يا عباد الله؟! ماذا فقد من الدنيا؟! ماذا فقد من متاعها الزائل؟! إنه وجد الله، وكفاه أن الله معه ناصرًا ومؤيدًا، قالها الصديق عندما كان كفار قريش على فوهة الغار، قال: لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لرآنا، قال : ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)) رواه البخاري ومسلم. وكفى بالله نصيرا، وكفى بالله مؤيدا، وكفى بالله حافظا، ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله تعالى)) رواه الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس وصححه الألباني.
إن المؤمن الحق يعلم أن مصائب الدنيا ومشاكل الدنيا والآفات والمصائب ما هي إلا ابتلاءات على الطريق الطويل، يعلم في قرارة نفسه أن أشد الناس بلاء هم الأنبياء، ثم العلماء، ثم الأفضل فالأفضل، ويبتلى الإنسان على قدر إيمانه وعلى قدر قربه من الله تعالى، فمن كان في دينه شدة وكان في دينه قوة شدد عليه في البلاء.
لقد كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يهنئ بعضهم بعضا بالبلاء؛ لأنهم يعلمون حقيقة شرعية قد استقرت وتأكدت في نفوسهم: ((إن الله إذ أحب قوما ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر والرضا، ومن سخط فعليه السخط)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني، ((عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له)) رواه مسلم من حديث صهيب. فكلا الأمرين على خير، كل أمره على خير: حالة السراء وحالة الضراء، يعلم أن الأمور كلها في يد الله سبحانه وتعالى.
المؤمن الحق يؤمن بقضاء الله وقدره، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويعلم أن البشر كلهم لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لن يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ولو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لن ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، رفعت الأقلام وجفت الصحف. الإيمان بالقضاء والقدر الإيمان الصادق يزرع في نفس المؤمن الرضا، يزرع في نفسه اليقين، يزرع في نفسه الثقة بما عند الله سبحانه وتعالى، ((ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر به من ذنوبه)) رواه البخاري.
إن كل الابتلاءات التي يصاب بها المسلم هي ابتلاءات وهي مكفرات على الطريق، ولهذا ـ يا عباد الله ـ نجد النبي كان يبشر أصحابه رضي الله عنهم بالنصر والتمكين والعاقبة عند شدة البلاء؛ لأنه يعلم عليه الصلاة والسلام أن شدة البلاء بداية للنصر، بداية للتمكين، بداية للفوز والنجاح، وكان يزرع هذا اليقين في نفوس أصحابه رضي الله عنهم، قالها يوم الهجرة عندما كان هو وصاحبه والعرب قاطبة تطارد هذين الرجلين ليظفر كل منهم بمائة من الإبل رصدها كفار قريش، رجل مطارد ويدركه أحد الذين أوشكوا أن يستلموا الجائزة، فيقول له في هذا الوقت المدلهم وعند هذه الصعوبة وعند هذه الشدة التي تهتز عندها النفوس: ((كيف بك ـ يا سراقة ـ إذا لبست سواري كسرى؟!)). لا إله إلا الله! إنها الثقة بنصر الله، إنه التفاؤل بما عند الله سبحانه وتعالى، وقالها عليه الصلاة والسلام عندما كان العرب يحاصرون المدينة، جميع قبائل العرب واليهود قد نقضوا العهد والميثاق، وأصبح المؤمن لا يأمن على قضاء حاجته، ويضرب النبي بفأسه صخرة اعترضت الصحابة رضي الله عنهم وهم يحفرون الخندق الضربة الأولى ويقول: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة)) ، ويقول في الثانية: ((الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس)) أخرجه أحمد والنسائي بإسناد حسن. ((لقد أضاءت لي قصور كسرى وقيصر)) ، إنه التفاؤل بما عند الله سبحانه وتعالى، إنها الثقة، إنه الإيمان الصادق الذي يجعل المسلم واثقًا بما عند الله سبحانه وتعالى.
وإننا في هذا الزمان ـ أيها الإخوة الكرام ـ في أمس الحاجة إلى هذه الثقة، وإلى هذا اليقين، وإلى هذا التفاؤل في هذا الزمان الذي تكالب فيه الشرق والغرب على الإسلام وأهله، بيد أن عند المسلم يقينًا لا يقبل المساومة أبدًا وثقة بنصر الله تعالى أن النصر لهذا الدين، وأن العاقبة للمؤمنين لا يساوره شك في ذلك أبدًا؛ لأن عدل الله سبحانه وتعالى يأبى أن يكون الأمر خلاف ذلك، يأبى عدل الله ورحمته أن ينصر المحرفين والمبدلين والمغيرين والملحدين على الموحدين الذين آمنوا بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيًا ورسولاً، يأبى عدل الله أن ينصر عباد الصليب وقتلة الأنبياء أو عباد البقر على من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يأبى عدل الله ذلك.
إنه يقين ينبغي أن لا يساور المسلم شك فيه، يقين بنصر الله، يقين بعدل الله، يقين بأن المستقبل لهذا الدين، ((ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)) رواه البخاري.
إنها من اليقينيات التي ينبغي أن يثق فيها المؤمن بأن المستقبل لهذا الدين، وأن النصر للمؤمنين، سيما عندما تدلهم الخطوب، وعندما تكثر المصائب، وعندما يكثر التآمر يأتي النصر.
إن السماء ترجى حين تحتجب، وأشد ساعات الليل ظلامًا آخره، ثم يعقبه ضوء الفجر، ويأتي الفجر بإشراقه وتباشيره ليعلن للأمة ميلاد يوم جديد، فنحن ـ بإذن الله تعالى ـ واثقون بنصر الله تعالى، واثقون أن النصر قادم لهذه الأمة بإذن الله سبحانه وتعالى، مهما ادلهمت الخطوب ومهما كثر التآمر فإن العاقبة للمؤمنين.
عباد الله، إن الله تعالى يبتلي المؤمنين بمصائب وآفات ومعاص، ولكنه سبحانه وتعالى قد ذكر لهم مكفرات كثيرة يلجؤون إليها ليتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)) رواه أبو داوود والترمذي وأحمد وحسنه الألباني.
إذا وقع المسلم في معصية من المعاصي أو وقع في قصور فليجأ إلى طاعة الله عز وجل، وليقبل على الله سبحانه وتعالى، فيكفّر الله عنه سيئاته، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201]، وثبت في الحديث: ((ما من مسلم يذنب ذنبًا ثم يتوضأ فيحسن الوضوء فيصلي لله ركعتين إلا كفر الله عنه خطاياه)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
إنها بشارة عظيمة من الله لهذه الأمة، أن الله يغفر الذنوب جميعًا، وأن الله يغفر للمؤمنين إذا عادوا إليه وإذا أنابوا إليه وإذا رجعوا. وإن من المكفرات ـ يا عباد الله ـ التي غفل عنها كثير من الناس مكفرات الأذكار، الأذكار التي يكفر الله بها المعاصي يكفر الله بها الآثام، ((ما من مسلم يقول في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة إلا غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر)) رواه البخاري ومسلم. سبحان الله وبحمده مائة مرة يكفر الله بها عنك ـ يا عبد الله ـ جميع الذنوب والمعاصي، وإن كانت مثل زبد البحر. ((من قال في دبر كل صلاة أو من قال في دبر الصلاة: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاثًا وثلاثين، والله أكبر ثلاثًا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، ثم قال: تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، كفرت وغفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر)) رواه مسلم. رحمة من الله مغفرة من الله.
المواظبة على الصلوات جماعة، ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما لم تغش الكبائر)) رواه البخاري ومسلم.
ما أكثر المكفرات التي يكفر الله بها عن المؤمنين الآثام والخطايا والزلات، وما من أحد يسلم منها يا عباد الله، ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد وحسنه الألباني. ((لو لم تذنبوا ثم تستغفروا لذهب الله بكم ثم جاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم)) صححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
الخطايا من مكفراتها الصدقة والصيام والذكر والصلوات جماعة وإسباغ الوضوء وكثرة الخطى إلى المساجد وصيام النوافل، وأمور كثيرة معروفة في كتاب الله وفي سنة رسوله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله المولى العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] ينظر: تهذيب سيرة ابن هشام (ص317)، وأصل الحديث في البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المؤمنون، إن التفكر والتأمل في هذه النعمة بل في هذه النعم التي منَّ الله بها علينا يجعل المؤمن في يقين دائم، وفي صلة بالله تعالى، وفي ثقة بما عند الله تعالى، فيعيش في سعادة وفي راحة وفي طمأنينة، ويعلم أن الأمور كلها بيد الله سبحانه وتعالى، وأن الله هو المحيي وهو المميت، وهو النافع وهو الضار، وهو الرازق وهو المبتلي لعباده سبحانه وتعالى، فإذا ألمّ به أمر أو خطب لجأ إلى ربه عز وجل فقال: يا الله، وإذا ادلهمت المصاعب والكربات قال: يا الله، وإذا افتقر قال: يا الله، وإذا أصيب بمرض قال: يا الله، فلك الله دائمًا وأبدًا، لا تلجأ لغير الله سبحانه وتعالى، فلك الله في كل الأمور.
واعلم أن الأمور كلها بيد الخالق عز وجل، إن البشر ضعاف مهازيل، لا يملكون حولاً ولا طولاً ولا قوة ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا، وإنما هم ضعاف، وإنما الأمور كلها بيد الخالق عز وجل. يتفكر المؤمن في هذا، يتفكر في نفسه، يتفكر في هذا الدين، يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، فيعود بإيمان ويقين دائم.
عبادة التفكر التي غفل عنها الناس في هذا الزمان بسبب التهالك على الدنيا وبسبب الحرص على جمع الدرهم والدينار يود أحدهم لو جمع أموال الدنيا كلها، وهو يعلم يقينًا أنه لا يمكن أن يجمع له إلا ما كتب له وهو في بطن أمه، وليس له من هذه الدنيا إلا ما أنفق في سبيل الله، إلا ما أنفق مبتغيًا به وجه الله تعالى، وأما ما عدا ذلك فهو تاركه لورثته، وهو تاركه بعده، ولن يخرج من هذه الدنيا إلا بثوبين أبيضين.
أيها المؤمنون، يقول المولى عز وجل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190، 191]. التفكر في كل شيء، قال الحسن البصري رحمه الله: "أوصيكم بتقوى الله تعالى وبعبادة التفكر"، أن يتفكر الإنسان في نفسه، وأن يتفكر في هذا الكون، وأن يتفكر في تقلبات الزمان، وأن يتفكر في كل شيء. عبادة التفكر من العبادات التي جهلها الناس في هذا الزمان، قال سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى: "التفكر مفتاح الرحمة "، وذلك عندما يتفكر الإنسان في هذا الكون. لما نزلت تلك الآية: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قال النبي : ((ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها)) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وابن حبان في صحيحه.
إن الناس بسبب زحمة الحياة وبسبب التهالك على الدنيا نسوا عبادة التفكر. من منا يجلس في ساعة خلوة بينه وبين ربه عز وجل فيتفكر في نفسه، ويتفكر في هذه الدنيا، ويتفكر في هذا الكون العظيم، ويتفكر فيما صغر وكبر، ويعود إلى ربه عز وجل، ويقر له بالوحدانية والعظمة، سبحان الخالق عز وجل؟!
إننا ـ يا عباد الله ـ في حاجة إلى أن يعود كل منا إلى ربه، وأن يتوب توبةً نصوحًا صادقة مستمرة متكررة، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. ربما يقول البعض: ممَّ أتوب؟! وما المعصية التي قارفتها حتى أتوب؟! وهذا من الجهل يا عباد الله.
تأمل ـ يا رعاك الله ـ ماذا يقول خير من خلق الله، ماذا يقول من غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ماذا يقول محمد ، يقول: ((أيها الناس، توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة)) رواه مسلم.
محمد يتوب إلى الله في اليوم أكثر من مائة مرة وهو المغفور له ما تقدم وما تأخر، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، ويقول : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم.
فباب التوبة مفتوح يا عباد الله، يقول عليه السلام: ((والله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فاستلقى تحت ظل شجرة ينتظر الموت، فغلبته عيناه فنام، فقام من نومه فإذا دابته بجواره عليها طعامه وشرابه، وقد أيس من الحياة وأيقن بالموت، فقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)) رواه مسلم.
فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من فرح هذا الرجل بدابته، وقد أيس من الحياة. الله تعالى يفرح بتوبتنا، الله يدعونا إلى التوبة ليغفر لنا وليرفع مقامنا وليرفع درجاتنا، فإن الله ليس في حاجة إلى أعمالنا. الله الغني ونحن الفقراء إليه سبحانه وتعالى. ليتُب كل منا دائمًا وأبدًا من الصغائر ومن الكبائر ومن كل الذنوب والآثام، نتوب بالليل ونتوب بالنهار، ونتوب سرًا وعلانية، لعل الله تعالى أن يرحمنا وأن يتجاوز عنا وأن يرفع درجاتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء...
(1/4002)
أين البركة؟!
الإيمان
فضائل الإيمان
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
13/3/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انبساط النعم في هذا العصر. 2- الانبساط في الماديات لا يحقق البركة والطمأنينة. 3- معنى البركة. 4- الخير كله والبركة كلها من الله تعالى. 5- مظان البركة. 6- سبيل تحصيل البركة. 7- المؤمن يربح الدنيا والآخرة. 8- بصلاح الدين تصلح الدنيا. 9- المعاصي ممحقة للبركة. 10- آثار الإيمان والتقوى. 11- بيان انحراف الفئة الضالة. 12- وقوف الأمة ضد الأعمال الخريبية. 13- الإشادة بجهود رجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتَّقوا الله رحمكم الله، ولا يغرنَّكم سهلُ الدنيا، فبعد السهلِ حُزون، والفرِحُ فيها محزون، والحُزن فيها غير مَأمون، ما ضحِكت فيها نفوس إلا وبَكَت عيون، هي داء المَنون، من ركَن إليها فهو المغبون، لم يهتمَّ بالخلاص إلا أهلُ التقى والإخلاص، أيّامهم بالصلاح زاهرة، وأعينُهم في الدُّجى ساهرة، في نفوس طاهرة، وقلوبٍ بخشية الله عامرة، يعملون للدنيا والآخرة.
أيّها المسلمون، حقٌّ على كلِّ مسلم ومتبصِّرٍ أن يقفَ موقفَ تأمُّل وتدبّر ونظرٍ وتفكّر، لقد فتح الله على أهلِ هذا العصر ما فتح من نِعَم لا تحصى، لم يعرِفها السابقون، ولم ينعَم بها الأسلاف، في العلم والتعليم والإعلام والتواصُل والطبّ والعلاج، في الكسبِ والاحتراف والمالِ والاقتصاد والنّقل والمواصلاتِ والتجارَةِ والصناعة والزراعةِ واللباس والزينةِ، في كلِّ ميادين الحياة وشؤونها، تطوّرٌ عظيم واسع، غيَّر ظروفَ الناسِ وأحوالهم، مكَّن الله لهم في الأرض ما لم يمكِّن لمن قبلهم، فتح الله الأسواقَ والأرزاق وتبادُلَ المنافع بين أهل الدنيا وأرجاءِ المعمورة.
إنَّ المسلمَ ذا القلب الحيِّ والعاقلَ المتبصِّر ممن يلقي السمعَ وهو شهيد ليتساءَل: أين البرَكة؟! أين الطّمأنينةُ؟! أين الحياةُ الطيِّبة الموعود عليها في مثل قوله سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]؟!
العلومُ والمختَرَعات والمكتشَفَات والمنجَزَات والمصنوعَاتُ والمنتجَات مهما امتدَّ رواقها واتَّسع ميدانها هل تحقِّق بذاتها الطّمأنينَة؟! وهل تجلب سعادة؟! وهل يتنزَّل بها برَكة؟! العصرُ عصرُ عِلم وعصر سرعَة وعصر تِقنيّة، ولكن هل هو عصر فضيلةٍ؟! هل هو عصر طمأنينة؟! هل هو عصر بركة؟!
كم من أمّةٍ قويّة غنيّة، ولكنها تعيش في شِقوَةٍ، مهدَّدَة في أمنها، تخشَى تقطُّع أوصالها، يسدوها قلَقٌ، يهدِّدها انحلال، قوّةٌ في خوف، ومَتاع بلا رضا، ووَفرةٌ من غير صلاح، وحاضِر نضِر ومستقبَل مظلِم، بل لعلَّه ابتلاء يعقبُه نكال.
أيّها الإخوة الأحِبّة، كلُّ هذه التأمّلات تدعو إلى التساؤل: ما هي البركةُ؟ وأين البركة؟ وأين الحياةُ الطيّبة والعيشة الهنيّة؟ حيث يقول الله عزّ وجلّ في محكم تنزيله: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96].
عبادَ الله، البركة هي النّماء والزِّيادة والسعادة والكثرةُ في كلِّ خير، وبرَكاتُ ربِّنا كثرةُ خيره وإحسانِه إلى خلقه وسَعَة رحمته. والبركةُ فيوض الخيرِ الإلَهيّ وثبوته ودوامُه، قال أهل العلم: ولما كان فضل الله لا يُحصَى ولا يحصَر ويأتي للإنسان من حيث لا يحسّ ولا يحتسِب قيل لكلِّ ما يشاهَد منه زيادةٌ غير محسوسَةٍ: هو مبارك وفيه بركة.
فالخير كلُّه من الله وإليه وبيدَيه، فربّنا سبحانه له كلُّ كمال، ومنه كلُّ خير، وله الحمد كلّه، وله الثناء كله، تبارك اسمُه، وتباركت أوصافُه، وتبارك فِعاله، وتبارَكت ذاته، فالبركة كلُّها منه وبيَدِه، لا يتعاظَمُه شيءٌ سُئلَه، ولا تنقصُ خزائنُه على كثرةِ عطائه وجزيلِ نَوَاله، أكُفُّ جميع العالم إليه ممتدَّة تطلُبُه وتسأله، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الرحمن:29]، يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، ويمينه ملأى، لا يفيضُها نفَقة، سحّاءَ الليل والنهار، عطاؤُه وخيرُه مبذول في الدنيا للأبرارِ والفجار، فللَّهِ الحمد أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا على خيرِه الجزيل وفضله العميمِ وبركاته الدائمة ونِعَمه الوافرة الظاهرةِ والباطنة، فتبارك سبحانَه بدوامِ جودِه وكثرة خَيره ومجدِه وعُلوِّ عظمَته وجلالِ قدسه.
الخيراتُ والنِّعم في الدنيا والآخرة في القديمِ والحديث كلُّها من فضله في وجودِها وثبوتها ودوامِها وكثرتها وبركتها، فالله الحمد والمنة.
وربُّنا سبحانه وضَع البركةَ في كثيرٍ من مخلوقاته، فالماء طَهورٌ مبارك، وفي السّحورِ بَركة، وبيت الله مبارَك، وطيبَةُ الطيِّبة مباركة، والمسجد الأقصَى باركَه الله وبارك ما حولَه، والقرآن أنزله ربُّنا كتابًا مباركًا في ليلةٍ مباركة، فكلُّ ما دلَّ الدليل على أنه مبارَك فقد وضَعَ الله فيه البرَكة، وهو سببُها، ففيهَا الخير والنمَاء والزيادة.
والمبارَك من الناس ـ كما يقول ابن القيّم رحمه الله ـ هو الذي يُنتَفَع به حيث حلَّ، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ [مريم:31].
بركاتٌ يضَعها الله في الأشياءِ والأنفس والأموال والبنين والأهلِين والأحوال والأزمنةِ والأمكنة والعلومِ والمعارف والمشاعِرِ والأعمال. بركاتٌ في طيِّبات الحياةِ، وبركاتٌ تنَمِّي الحياة وترفَعُها، وليست وفرةً مع شِقوةٍ وكثرةً مع تردٍّ وانحلال.
أيها المسلمون، أمّا سبيل تحصيلِ البركةِ وحصولها فالإيمانُ والتقوى والصلاحُ والعَدل والرّحمة والإحسان، ولقد قيل لآدم أبي البشَر من أوّل هبوطه إلى هذه الدنيا: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:123، 124]، وقال عن أبي البَشَر الثاني نوحٍ عليه السلام: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود:48]. الإيمانُ والتَّقوى واتّباعُ الهدَى هو الطريق إلى بركاتِ السماء والأرض واستدرارِ الأرزاق والخيرات، وعدٌ من الله حق، ومن أوفى بعده من الله؟!
عبادَ الله، الدينُ بعقائدِه وشرائعِه يقتضِي سعادةَ الدنيا قبل الآخرةِ مِن أوَّل نشأةِ البشريّة، من عهدِ آدم ونوح وإبراهيمَ وموسى وعيسَى ومحمّد عليهم الصلوات والسلام إلى أن يرِثَ الله الأرضَ ومن عليها، وأهلُ الإيمان يتلقَّونَ هذا بقلبٍ مؤمِن مصدِّق مسلِّم، لا يتردَّدون في ذلك لحظة، ولا يشكّون في وقوع مدلولِه طَرفَة.
الإيمان والتقوَى والصلاح والهدى قوَةٌ دافِعة دافِقَة تنطلِق لعمارةِ الأرض وبنائها وابتغاءِ خَيراتها وبركاتها في رقِيِّ الحياة ونمائها وتطوُّرها، في دفعِ الفساد والفِتنة، في مسيرةٍ صالحة منتِجة، تحوطها عنايةُ الله ومددُه وبركاته، ويعمُّها خيرُه وتوفيقُه وعنايَتُه. بالصّلاح والهدَى يفتح الله بركاتِ السّماء والأرض، ويأكل الناس من فوقِهم ومن تحت أرجلهم، في فَيضٍ غامِر ومَدَد لا ينقطع.
إنَّ المؤمنَ بالله واليوم الآخرِ لا يخاطر بدنياه ليربَح آخرتَه، كلا، إنّه بإيمانه يربَح الحياتين ويفوز بالحُسنَيَينِ، مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النساء:134]، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ [النحل:30]، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الأعراف:32].
حريٌّ بالمؤمنِ أن ينظرَ ويتأمَّل في الآثار المباركةِ للدين والطاعات في حياةِ المسلم، بل في حياة الإنسانيّة كلِّها. العبادات والطاعاتُ وحُسن الخلق والتعامُل وسائلُ تزكيةٍ لنفس المؤمن وترقية لروحِه وتهذيب سلوكِه، تثمِر الخيرَ والبركة، وتورِث الطمأنينةَ والسّكينة.
تأمَّلوا هذا الحديثَ العظيم في شأن المتبايِعَين، يقول عليه الصلاة والسلام: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا، فإن صدَقا وبيَّنا بورِك لهما في بيعِهما، وإن كذبا وكتمَا محِقَت بركةُ بيعِهما)) حديث صحيح رواه الإمام مسلم من حديث حكيمٍ بن حزام رضي الله عنه [1].
يصدُق البائع في سِلعته وصفاتِ المبيع ومِقدار الثمن، ويصدق المشتري في الوفاءِ وسَلامة الثّمن، ويدلُّ الحديث على أن الدنيا لا يتِمّ حصولها إلاّ بالعمل الصالح، وشُؤمُ المعاصي يذهَب بخيرَيِ الدنيا والآخرة.
ويظهَر ذلك ويتأكَّد ـ أيها المسلمون ـ في الحديث الصحيح الآخر في قولِه : ((الحلِف منفقةٌ للسلعة ممحقَة للكَسب)) أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [2]. وقارِنوا ذلك ـ رحمكم الله ـ واربطوه بما يمحَق الله من الربا ويزيد في الصدقات كما قال سبحانه: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، وفي قولهِ سبحانه: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، قال مقاتل: "ما كان من رِبا وإن زاد حتى يغبَط صاحبه فإنَّ الله يمحَقه" [3] ، وفي حديثٍ حسَن مرفوع: ((إنَّ الربا وإن كثُر فإنَّ عاقبتَه إلى قِلّ)) [4].
إنَّ كلَّ هذه المخالفات والمعاصِي تمحَق البركة في المعاملاتِ وإن بدَت في عدَدِها وكمّيّتها زائدةً متكاثرة، فمَحقُ البركة يفضي إلى اضمِحلال العدَد وقِلَّة النّفع وتلاشي الفائدة، ناهيكم ثم ناهيكم باضمحلال الأجرِ في الآخرة.
عباد الله، إنَّ معيشةَ التّقي والصلاح والطاعةِ والعبادة تورِث الصّحّةَ البدنيّة والنفسيّة، وتثمر الراحة المادية والبدنيّة، وتنتِج البركة والطمأنينةَ، وتحفَظ لصاحبها في عاجلِ أمرِه وآجله ذخائرَ من الخير لا تكون لغيره، مَن كانتِ الدنيا همَّه فرَّق الله عليه شمله، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأتِه من الدّنيا إلا ما كتِب له، ومن كانت الآخرة همَّه جمع الله عليه أمرَه، وجعل غِناه في قلبه، وأتَته الدنيا وهي راغمة.
إنَّ الشواهد متكاثِرةٌ على ما للإيمانِ والصلاحِ من آثارٍ وبركات في النّفس وفي الحياة، في الزمان والمكان، في الأهلِ والدّار. ولا ريبَ أنَّ مسلَكَ التّقى يفتح على الإنسان أبوابَ الرّضا والقناعة والبركةِ والسعادة، فالقاعِدةُ المقرَّرة التي لا تتخلَّف: إنَّ الدينَ الحقّ والإيمان الصحيح والعمل الصالح سَببٌ لسعادة الدنيا وبركاتها، وأهلُ الإيمان حين يفتَح الله عليهم من بركاتِه ونِعَمه يكون أثرُه فيهم من الشّكرِ لله والرّضَا عنه والاغتِباط بفضله وصَرف النعم في سبيلِه ورضاه وفي طريقِ الخير لا في الشرّ وفي الصلاح لا في الفساد، ويكون جزاؤُهم زيادةَ النّعم وبركاتها، أمانٌ في النفوس وطمأنينةٌ في القلوب ونفعٌ في الممتلَكات وحسنُ ثوابِ الآخرة، فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].
ومِن سنَنِ الله في عباده أنَّ الأمانَ جزاء الإيمان، وأنَّ الخوفَ جزاءُ الكفران، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
وبعد: فلا ريبَ أنَّ حياة الإيمان والفضيلةِ هي البركةُ والاستقرار والسّكينة. الإيمانُ الراسخ يشرِق على القلوبِ سناه، ويخُطُّ في أعماقِ النفوس مجراه، إيمانٌ عميق وعقيدَة راسخة تتَّسِع للروح والمادّةِ والحقِّ والعِزَّة والعِلم والدين والدّنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ [الروم:6-8].
نفعني الله وإيَّاكم بالقرآنِ العظيم وبهديِ محمَّد ، وأقول هذا القول، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب البيوع (1532)، وهو أيضا عند البخاري في البيوع (2079، 2082، 2108، 2110، 2114).
[2] صحيح البخاري: كتاب (2087)، وهو عند مسلم في المساقاة (1606).
[3] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (2907).
[4] رواه أحمد (1/395، 424)، وابن ماجه في التجارات (2279)، والبزار (2042)، وأبو يعلى (5042، 5348، 5349)، والشاشي (808، 809)، والطبراني في الكبير (10/223) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2262، 7892)، والبوصيري في الزوائد (3/35)، وحسنه ابن حجر في الفتح (4/315)، وهو في صحيح الترغيب (1863).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله، خلَق آدمَ بيده وسوّاه، ثم تاب عليه واجتباه وهداه، سبحانه وبحمده، لا هاديَ لمن أضلّ، ولا مضلّ لمن هداه، وأشكره على سوابغ نِعَمه وجزيلِ عطاه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله، ولا نعبدُ إلا إياه، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن ولاه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا حدَّ لمنتهاه.
أما بعد: أيّها المسلِمون، ومِن مِواقفِ التأمّل والتدبُّر في هذا العصر في علومِه ومعارفه وإيمانيّاته وانحرافِه ما طبِعَ فيه على قلوبِ بعضِ الأغرار الصِّغار أُغيلِمَة الضلال والزيغ ممَّن ينتمون إلى الإسلام وأهل الإسلام وديارِ الإسلام، يعيشون حياةَ الاضطراب والحَيرة والتبرُّم والقلَق والتشرّد والهروب والإرهاب، وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125].
فئةٌ ضالّة، سُفهاء الأحلام، حدَثاء الأسنان، قليلو البِضاعة في العلم، أهلَكوا أنفسَهم، وأفسدوا في ديارهم، ومكَّنوا لأعداء الدّين، وروَّعوا الآمنين، وفتَحوا التمكينَ للمتربِّصين ومن في قلوبهم مرَض. وَيحَهم، هل يريدون جرَّ الأمّة إلى ويلاتٍ تحلِق الدينَ وتزعزِع الأمنَ وتشيع الفوضَى وتحبِط النّفوس وتعطِّل مشاريعَ الخير ومسيرةَ الإصلاح وعِزَّة الدين؟! هل يريدون أن يذلَّ الأحرار وتُدَنَّس الحرائر ويخرج الناسُ من ديارهم؟! هل يريدون أن يكثُرَ القتل والهرجُ وتضطرِبَ الأحوال وتنتَهَك الحرُمات وتتفرَّق الناس في الولاءاتِ وتتعدَّد في المرجعيّات حتى يغبِطَ الأحياءُ الأمواتَ كما هو واقعٌ ـ مع الأسف ـ في بعض الدِّيار التي عمَّتها الفوضى وافترسَها الأعداء؟! يريدون إثارةَ فِتن وقودُها الناس والأموال والثمراتُ، ونِتاجها نَقصُ الدّين ونَشر الخوف والجوعِ والفرقة، ولكن لن يكونَ ذلك بإذن الله وحولِه وقوّته، فأهلُ العلم والإيمان ورجالاتُ المجتمع وقادَة الأمّة لن تسمحَ لحفنةٍ من الشّاذّين أن تمليَ عليها تغييرَ مسارِها أو التشكيك في مبادئها ومسلَّماتها في دينِها وعقيدتها أو التفريط في منجَزاتها ومكتسَباتها ووحدتها، وهذا جلِيٌّ ـ ولله الحمد ـ وظاهر في هذه الوقفةِ الحازمة الصادِقة التي وقَفتهَا الأمّة بقيادتها وبكلِّ فئاتها ضدَّ هذا التطرُّف المشين والانحراف المفسِد والعمل الإجراميّ الظالم الآثم.
وقَفَت الأمّة خلفَ قيادتها وولاةِ أمرِها تستنكِر هذا العملَ وتدينه، ولا تقبَل فيه أيَّ مسوِّغ أو مبرِّر، وتتعاوَن في كشف أصحابه وفَضح مخطَّطاتهم والدّلالة على مخابِئِهم والبراءة منهم ومن أفعالهم، فكلُّنا بإذنِ الله وعونِه وتأييده حرّاسٌ للعقيدةِ حُماة للدّيار غَيارى على الدين والحرمات.
ويأتي في مقدّمة هؤلاء الحراس إخواننا وأبناؤنا رجال الأمن، أهل الشجاعة والإقدام، وأصحاب الإنجازات البطولية والمواقف الحازمة والتعامل القويّ والحكيم، في إخلاص وتفانٍ وإتقان وكفاءة؛ لأنهم مطمئنون أنهم على الحق والهدى، من عاش منهم عاش سعيدًا، ومن مات منهم مات شهيدًا، ففي سبيل الله ما يعملون، ومن أجل حماية الديار ما يفعلون، يفقهون معنى قول الله عز وجل: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، فالقتال من أجل الأوطانِ والديار هو قتال في سبيل الله.
رجال الأمن بأعمالهم وبطولاتهم ويقظتهم وشجاعتهم وحكمتهم ـ بإذن الله ـ تبقى هذه البلاد عزيزةً محفوظة، رافعة لمنار الدين وراية الإسلام، إنهم مصدر القوة والاعتزاز، بل هم ـ بإذن الله ـ صمام الأمان في حماية دار الإسلام بلاد الحرمين الشريفين مهدِ مقدَّسات المسلمين، إنهم بفضل الله وتوفيقه وعونه حماة الدين وحماة الديار وحماة مهبط الوحي، وسيظلّون تاجَ الرؤوس ومصدرَ طمأنينة النفوس، فأحسن الله إليهم، وبارك في أعمالهم، وآتاهم الله ثوابَ الدنيا وحسنَ ثواب الآخرة، والله يحبّ المحسنين.
هذا، وصلّوا وسلّموا على نبيِّكم محمّد المصطفى ورسولِكم الخليل المجتبى، فقد أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال عزَّ قائلا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد الأمين وآله الطيّبين الطاهرين وأزواجه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4003)
لا يعلم الغيب إلا الله
التوحيد
الشرك ووسائله
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
6/3/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إيمان المسلم بالغيب. 2- انفراد الله تعالى بعلم الغيب. 3- ادِّعاء المشعوذين علم الغيب. 4- تلبيس السحرة والكهّان على الناس. 5- الالتجاء إلى العرافين يخدش التوحيد. 6- استعانة السحرة بالشياطين. 7- التحذير من أبراج الصحف. 8- تحصّن المؤمن بالله تعالى وبالأوراد الشرعية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: فيا أيَّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عبادَ الله، إنَّ مِن أخلاق المؤمِنين إيمانَهم بالغَيب، فهم يؤمِنون بما غابَ عَنهم ممّا مضَى وممّا سيكون ويحدُث، وقال جلَّ وعلا: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:2، 3]، فيؤمِنون بأخبارِ الماضين ممّا أخبرهم به ربُّهم في كتابِه أو أخبَرهم به نبيُّهم ، فالله أصدَقُ القائلين، ولا أصدَق منَ الله حديثًا، ومحمَّد هو الصادِق المصدوق أصدَقُ الخلق مَقالاً ، قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49]، وقال: وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران:44].
أيَّها المسلِم، فنؤمِن بأخبارِ الماضين ممّا بيَّنَه الله في كتابِه عِظَةً وعِبرة، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف:111]. ونُؤمن بما أخبَر به الله ورسولُه عمّا سَيَكون في آخرِ الزمان وعن يَومِ الآخرة وما سَيكون في ذلك اليومِ من الأمور العِظام.
أيّها المسلم، وإنَّ مِن كمال علم الله علمَه بأعمالِ الخَليقة أجمعين، فهو جلّ وعلا عالمٌ ما العبادُ عامِلون، كتَب هذا العلمَ عنده في كتابٍ قبلَ أن يخلقَ الخليقة بخمسين ألفَ سنَة، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]. وعِلمُه تعالى عامّ للسِّرِّ والجهر، فاستَوى في علمِه ما أُسرَّ وما جهِرَ به، قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ [آل عمران:29]، وقال: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوْ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:13، 14]، وأَخبرَ تعالى عن كمالِ عِلمِه بدقيقِ أعمالِ العِباد وجَليلها: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].
أيّها المسلِم، وأخبر تعالى عن استِئثار عِلمِه بخمسةِ أحوالٍ، قال جلّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
أيّها المسلم، إنَّ علمَ المغيَّبَات ممّا استأثر الله بعلمِه، ولا يستطيع أحدٌ كشفَ ذلك، قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، وقال جلّ وعلا لنبيِّه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]، فلا محمّد يعلَم الغيبَ، ولا سائرُ الأنبياء والمرسلين، ولا الملائكةُ المقرَّبون، قال تعالى عنهم أنهم قالوا: سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة:32].
أيّها الإخوةُ، وفي هذا الزّمَن يدّعي مدَّعون ويتقوَّل متقوِّلون أنهم يستطِيعون أن يحدِّدوا للعبد مسارَ حياته ويخبروه بمستَقبَله وحظِّه وماذا سيكون له وماذا سيَجني وماذا سيصيرُ عليه، وهؤلاء الضَّرب من النّاس من مدَّعِي الكِهانة والاطِّلاع [على] علمِ الغَيب سواءً كانوا جَهَلةً أو على مستوًى من الثّقافة والعِلم لكنهم على ضلالٍ في أمورهم كلِّها، هؤلاء يأتيهم الجهلةُ والحمقَى والمغفَّلون، فيقول له: أعطِني حظِّي وصِف لي حَظّي في هذه الدّنيا، ماذا سأجني؟ وماذا سيكون؟ وماذا سيحصُل؟ فيُعطيه قيلاً وقال، كلُّها كذِبٌ وافتراء وادِّعاء عِلمِ غيبٍ لا يعلمه إلا الله، يظنّ الظّانُّ أنّ هؤلاء صادقون، وأنَّ لديهم قدرةً على الاطلاع على المغيَّبات، وهذا من الجهلِ والضّلال، بل اعتقادُ ذلك كفرٌ والعياذ بالله.
لقَد كانتِ الشياطين قبل مبعَثِ محمّد يسترِقون السمعَ، فربّما سمعوا كلمةً فأضافوا إليها تسعًا وتسعين كلِمة، كذبوا معها، فلمّا اقترب المبعَث النبويّ حرِسَت السّماء ورُمِيَت الشياطين بالشُّهب، فلم يستطيعوا أن يتطرَّقوا إلى الوحي، قال تعالى عنهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعْ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:8-10]. نَعم، لقد أرادَ الله بالخلقِ الرشَّد بمبعَثِ محمّد ، فحمايةً للوحيِ وصيانةً له مِن أن تطرَّق إليه أيدي الشياطين حرِسَت السماء وحفِظَت، فلا يمكِن لشيطانٍ أن يستَرِق، قال تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [الشعراء:210، 211].
أيّها المسلِم، السَّحَرة والمشعوِذون لهم في هذا البابِ حِكايات ضالّة وأخبارٌ سيِّئة، يأتيهم المريضُ فيقول له: ائتِني بثيابِك وملابسِ آبائِك أو أهلك، ثمّ يقول له: لقد سَحَرك فلان وفلان وفلانةٌ بنت فلان في موضِع كذا.. وإلى آخره، فيظنّ الظّانّ أنّ هؤلاء صادقون وأنهم مطَّلعون على علمِ الغيب، وكذَبوا واللهِ، ولو صَدقوا حِينًا فَهم الكَذَبة دائمًا وأبدًا؛ لأنَّ هذا لا يعلمه إلا الله، لكن اتِّصال القرين بالقرينِ الشيطان بالشيطان ربما ينقُل له أخبارًا، فيظنّ الظّانّ أنَّ هذا علمُ الغيب، وعلم الغيب لا يعلمه إلا الله.
أيّها المسلِم، الكُهَّان والعرَّافون وأمثالُهم كلُّ هؤلاء يبتَزّون أموالَ الناس ويأكلونَها ظلمًا وعُدوانًا؛ بِدعواهم أنهم يشخِّصون الأمراضَ ويعلَمون العائنَ والسّاحر ويخبِرون ويخبِرون، وكلُّ هؤلاء كذَّابون دجَّالون آكلو أموالِ الناس بالباطل، ليسوا بصادقين، ولكنهم الكذَبَة الضالون، ولهذا نُهينا عن إتيانهم، فيقول لنا نبيُّنا : ((مَن أتى كاهنًا فسأله عن شيءٍ لم تقبَل له صلاةٌ أربعين يومًا)) [1] ، وقال: ((من أتى كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزِلَ على محمّد )) [2].
أيّها المسلِم، استقِم على طاعةِ الله، وخذ بالأسبابِ التي تنجيك من عذاب الله، وخُذ بالأسباب التي شرِعَت لك في تحقيقِ مصالح دنياك وسلامةِ بدنِك وأهلك من البلاء، وفوِّض أمرَك إلى الله، واعلم أنَّ الأمر كلَّه بيد الله، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].
إنَّ تعلُّقَ القلوب بهؤلاء ودعوَى الالتجاء إليهم والفزَع إليهم عند كلِّ المصائب ممّا يضعِفُ التوكّلَ على الله، ممّا يقوِّض التوكُّل على الله، ويجعل هذا العبدَ متعلقًا قَلبُه بغير الله، يظنّ أنَّ غيرَ الله عنده الشفاءُ وعنده رفعُ البلاء، ولا يعلَم المسكين أنَّ هذا من تلبيسِ الشيطان.
كَم نسمَع عن كهّانٍ هنا وهناك تدفَع إليهم أموالٌ طائلة، ويصدَّقون بما يقولون، وربَّما أخذوا مالاً ودلُّوا على أمرٍ ثمّ عادوا ثانيًا ليجعَلوا هذا الإنسانَ متعلِّقًا بهم يدِين لهم بالولاءِ ويأخذونَ أموالَه ويستعبِدونه لغير الله.
أيّها المسلِم، إنَّ الشياطين لا ينفعونَ إلاَّ من عبدَهم من دون الله واستمتَعوا به من دونِ الله، قال تعالى عنهم: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا [الأنعام:128]، فيستمتِع الجنِّيُّ بالإنسيّ بأن يعبدَه الإنسيّ ويذبَحَ له من دون الله وينذرَ له من دون الله وينفِّذ أوامرَه، ويستمتِع الإنسيّ بالجنّ بأن يبلِّغَه بعضَ الأخبار وينقُلَ له الأمورَ البعيدة التي عمِلها بعضُ النّاس؛ لما أعطى الله أولئك من قوّةِ الحرَكة وسرعةِ الانطلاقِ، فيظنُّ الظانّ أنّ هذا علمُ غيب.
فلنَحذر ـ أيّها المسلم ـ من خداعِ أولئك، ولنحذَر من الاغترار بهم، ولنجعَل ثقتَنا بربِّنا والتجاءَنا إلى ربِّنا وتوكّلَنا على ربِّنا واعتمادَنا على ربّنا، وأن تتعلَّقَ قلوبنا بربِّنا خوفًا ومحبّة ورجاءً، وأن نعلمَ أنَّ الله مالك النّفع والضّرّ، والأمورُ بيدِه، والأسبابُ التي شرَعَها لنا نأخذُ بها، وأمّا الأسباب الباطلةُ التي تفسِد عقيدتَنا وتبعِدنا عن ربِّنا وتشكِّكنا في كمال قدرتِه وعلمه فلا يجوز لنا أن نلتجِئ إليها، ولا أن نأخذَ بها، ولا أن نغترَّ بأولئك المشعوِذين الدجّالين الكذّابين.
تقرَأُ في بعضِ الصحف أحيانًا، يسمّونَه الفلكيّ، يتوقَّع هذا الفلكيُّ في برجِ كذا سيحدثُ كذا وفي برجِ كذا سيحدثُ كذا وإن كان برجُك كذا لك كذا، كلُّ هذه دِعايات ضالّة، وكلُّها أكاذيبُ، وكلّها افتِراء، وكلُّها ادِّعاء لعلمِ غيبٍ، فمَن صدَّق أولئك في دَعواهم أنَّهم يعلمون الغيبَ فهذا كافرٌ بالله مكذِّب لله ورسولِه؛ لأنَّ علمَ الغيبِ ممّا استأثر الله به، ولا يجوز لأحدٍ أن يدَّعيَ ذلك، أسأل الله لي ولَكم التوفيقَ والسداد، إنّه على كلِّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنبٍ، فاستغفروه وتوبُوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في السلام (2230) عن صفية عن بعض أزواج النبي نحوه.
[2] أخرجه البزار (3045 ـ كشف الأستار ـ) من حديث جابر رضي الله عنه، وجوَّده المنذري في الترغيب (3/619)، وقال الهيثمي في المجمع (5/117): "رجاله رجال الصحيح خلا عقبة بن سنان وهو ضعيف"، وصححه الألباني في غاية المرام (285). وله شواهد منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه زيادة، أخرجه أحمد (9290، 9536)، وأبو داود في الطب (3904)، والترمذي في الطهارة (135)، والنسائي في الكبرى (9017)، وابن ماجه في الطهارة (639)، والدارمي (1136)، وابن الجارود (107)، والحاكم (1/8)، وقال الترمذي: "ضعف البخاري هذا الحديث من قبل إسناده"، ونقل المناوي في الفيض (6/24) تضعيفَ البغوي وابن سيّد الناس والذهبي لهذا الحديث، ووافقهم على ذلك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في الحديث عنه قال: ((مَن تعلَّقَ بِشيءٍ وُكِلَ إليه)) [1]. نعم، من تَعلَّق بالسّحَرة من تعلَّق بالكهّان مَن تعلَّق بالعرّافين مَن تعلَّق بالمنجّمين مَن تعلَّق بأولئك الضالّين وكِل إليهم وتعلَّق قلبُه بهم، ولن ينفَعوه ولن يدفَعوا عنه ضرَرًا، وصار قلبُه متعلِّقًا بهم، وربما أعطاهم شيئًا من حقِّ الله وأشرَكهم في عبادةِ الله، أمّا المؤمن فهو متعلِّق بالله، واثقٌ بالله، مفوِّض أمرَه إلى الله، راضٍ بما قضَى الله وقدَّره، عالمًا أنَّ ما يجرِي فبقضاءِ الله وقدَرِه، فهو مؤمنٌ مطمئنّ، يسأل الله العفوَ والعافيَة دائمًا في الدّنيا والآخرة، ويصبِر ويرضَى ويحتسِب كلَّ ذلك في سبيلِ الله.
هكذا المؤمنُ حقًّا، لا تراه متعلِّقًا بأولئك، وإنما يعلَم أنَّ له ربًّا مدبِّرًا، آمَن به ربًّا وإلهًا، عبَده وأخلَص العبادةَ لله، وتعلَّق قلبُه به، وأيقَنَ أنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، فلَم يلتفِت لأولئك، ولم يغترَّ بهم، ولم ينخدِع بهم، وإنما هو دائمًا: "حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، لا حولَ ولا قوّةَ إلاّ بالله، تحصَّنتُ بالله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم، واستدفعتُ الشرَّ كلَّه بلا حول ولا قوة إلا بالله"، يحصِّن نفسَه بالأوراد، فيقرأ الأورادَ الشرعيّة مما في كتابِ الله أو صحَّ عن رسول الله ، يقول إذا أصبحَ وإذا أمسى ثلاثَ مرات: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، أعوذُ بكلمات الله التامّة التي لا يجاوِزها برٌّ ولا فاجر من غضَبِه وعقابه وشرِّ عباده ومن همَزات الشياطين وأعوذ بكَ ربِّ أن يحضرونِ، أعوذ بكلِمات الله التامّة من شرِّ ما خلق وذرَأ وبَرأ ومن شرِّ ما يلج في الأرض وما يخرُج منها وما ينزِل من السماء وما يعرُج فيها ومِن طوارق الليل والنهار إلا طارقًا يطرُق بخير يا رحمن، أعوذُ بكلمات الله التامّة من كلِّ شيطانٍ وهامّة ومن كلّ عين لامّة. فيحصِّن نفسَه بالأوراد التي في القرآنِ والسنّة، فيكون ذا سببًا لراحةِ قلبِه وطمأنينةِ نفسِه، ويعلم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، والأمور كلُّها بيدِ الله، لكن أولئك الضالّون ولكن أولئك الأدعياء للغيب لا يصغِي إليهم، ولا يلتفت إليهم، ولا يتعلَّق قلبُه بهم، بل يبغِضهم لله ويكرَهُم ويبتعِد عنهم ويعلَم كذِبَهم وضلالَهم.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعَة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى عبد الله ورسوله محمّد كما أمرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللَّهمَّ عن خلَفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/311)، والترمذي في الطب، باب: ما جاء في كراهية التعليق (2072)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2576)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/117)، والحاكم (7503)، والبيهقي في الكبرى (9/351) من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه بلفظ: ((من تعلّق شيئا)) ، وقال الترمذي: "حديث عبد الله بن عكيم إنما نعرفه من حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد الله بن عكيم لم يسمع من النبي ، وكان في زمن النبي يقول: كتب إلينا رسول الله "، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1691). وفي الباب عن عقبة بن عامر وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(1/4004)
ضرورة العناية بالنشء
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/3/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مسؤولية الأبناء والبنات. 2- أمر الأولاد بالصلاة لسبع. 3- ضرب الأولاد على الصلاة لعشر. 4- التفريق بين الأولاد في المضاجع. 5- أهمية تربية النشء على الأخلاق والفضائل. 6- أمر الأولاد بالاستئذان في البيوت. 7- صيانة الإسلام للمرأة. 8- خطورة انغماس المجتمع في الرذائل. 9- استنكار برنامج ستار أكاديمي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الأبناءُ والبنات أمانةٌ في أعناقِ الآباء والأمَّهات، استرعَى الله الأبَوَين على هذا النّشءِ، والله سائلٌ كلَّ راعٍ عمّا استرعاه، أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6].
أيّها المسلم، فعلى الأبِ وعلى الأمِّ واجبٌ كبير نحوَ تربيةِ هذا النشءِ في أوَّل أمرِه؛ لينشَأَ محِبًّا للخَير آلفًا له، ماقتًا للشرِّ كارهًا له.
أيّها المسلم، في السّنَن عنه قال: ((مُروا أولادَكم بالصَّلاة وهم أبناءُ سبع سنين، واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عَشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع)) [1].
أدبٌ نبويّ وتربيّة صالحة ودعوةٌ صادِقة للفضائلِ والأخلاق القيِّمة. هذا الحديثُ تضمَّن أمرَين:
أوَّلهما: قولُه موجِّهًا الخطابَ إلى الأبوين: ((مُروا أبناءَكم بالصّلاة وهم أبناءُ سبع سنين)) ، مروهم بالصَّلاة في هذا السّنِّ المبكِّر، يأمر الأب ابنَه أو بنتَه بالصلاة في هذا السن المبكِّر، لماذا هذه المبادَرة؟ أجل، لعِظَم الصلاة، لعَظيم شأنها في الإسلام، لأهمّيَّتها، لكبير قدرِها، إذ هي عمودُ الإسلام والرّكن الثاني من أركانه، بها تقوَى صِلة العبد بربِّه، وبها تزكو أخلاقه وتصلُح أعماله وتستقيمُ أحواله، وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. إنَّها الفريضةُ التي يطالَب العبد بها في يومِه وليلتِه خمسَ مرّات، إنها البرهانُ الصادق على الإيمان، إنها البرهان الصادق على أنَّ في القلب إيمانًا بالله ورسولِه.
أيّها الأب، أيّتها الأم، فأمرُ الأطفال بالصلاةِ لسبع سنين من الأمور المهمَّة حتى ينشأَ النشءُ محِبًّا لهذه الصلاة مرتاحًا لها عارفًا كبيرَ شأنها وعظيمَ قدرها في الإسلام.
ثانيًا: ((واضرِبوهم عليها وهم أبناءُ عشر)) ، يُنتقَل من الأمر إلى الضّرب، لماذا وهم لم يبلغوا سنَّ البلوغ والتكليف؟! لكن توطِئَة لأنَّ هذه الصلاةَ يجب أن يحافِظَ عليها العبد إلى أن يلقَى الله، ما دام عقلُه حاضرًا فهو مطالَب بها على أيِّ حالٍ كان لأنَّها التي توقِظ في قلبه ذكرَ الله والتعلُّقَ بالله جلّ وعلا.
ثانيهما: ((وفرِّقوا بينهم في المضاجع)).
أيّها المسلم، كُن معِي قليلاً في هذا الأمرِ الخاصّ، فرِّقوا بينهم في المضاجعِ بعد عشرِ سِنين، فرِّقوا بين الأبناء فلا يكن الابنان في مضجعٍ واحد، ولا الابن ولا البنتُ في مضجعٍ واحد، لماذا؟ السنُّ مبكِّر والغرائِزُ قد لا تكونُ ظاهِرة، والأبناء قد لا يتفكَّرونَ الأشياء، لكن حماية الأعراض حمايةُ الأخلاق حمايةُ المجتمع من الرّذيلة الأخذُ على أيديهم من الصِّغَر تنشئتُهم النشأةَ الصالحة وتربيتُهم على القِيَم والفضائل ممَّا يطالَب به الآباء؛ لأنَّ هذه وظيفتُهم حتى الآن، فليس الأمر متعدِّيًا لهم، بل الأمر هم مختصّون به، يختصّ بذلك الأمّ والأب، فيفرّقونَ بينهم في المضاجع؛ خوفًا من تسرُّب وساوِسِ الشيطان الذي يجرِي من ابنِ آدمَ مجرَى الدم، ولأنَّ الهدف أن تكونَ النشأة نشأةً صالحة صادِقة، ينشأ المسلم في مجتمَعٍ محافِظ، يؤمِن بالفضيلة، ويرفُض الرذيلة، ولا يقرُّها بنفسِه ولا بيتِه ولا مجتمعِه.
أيّها المسلم، هذه التربيةُ للنشء لينشؤوا معظِّمين لحرماتِ الله، معظِّمين لأوامرِ الله، معظِّمين لحرمات الله بالبعدِ عنها، معظِّمين لأوامر الله بفِعلها والتمسّك بها.
أيّها المسلم، إنَّ [النشءَ] إذا رُبِّي على الفضائل والأخلاق نشأَ نشأةً طيّبة، وصار بعد كِبَره ذا خلُق فاضل وعطاءٍ جزيل، يُعوَّل عليه في المهمّات، وتطمئنّ إليه أمّتُه، ويسعد به مجتمعُه، فيصبح ذا خلق ودينٍ وفضائلَ وأخلاق كريمة، همّتُه عليا، نفسُه زكيّة، طَلبُه للفضائل، هكذا ربَّى النبيّ مجتمعَ المسلمين تربيةً طيّبة، فلماذا خرَج الرعيل الأول؟ ليفتَحوا القلوبَ والبلاد، وليكونوا قادةَ البشرية، ذاك بدينهم وأخلاقِهم وقِيَمهم، وإنما تذلُّ الأمم وإنما تسقط كرامتُها وإنما يستخِفّ بها عدوُّها إن هي أهملَت فضائلَها وأهملت أخلاقَها وسمحَت للرّذيلة أن تروجَ في مجتمعِها.
أيّها المسلم، ((فرِّقوا بينهم في المضاجع)) ، فسبحان الحكيم العليم، هذا التوجيه العظيمُ يدلّ على عنايةِ الإسلام بالأخلاقِ وعنايتِه بالفضائِل ونأيه بمجتَمَعه عن الوقوعِ في الرذائل، ألا ترَى أنّه جلّ وعلا خاطبَ المؤمنين بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ [النور:58]. فأمَر من لم يبلغِ الحلم بالاستئذان في تلك الأوقاتِ التي يمكن أن يكونَ بين الرجل وامرأته شيء، كلُّ هذا لتربية أخلاقِهم، لإعدادهم الإعدادَ الصحيح، ثم قال: وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [النور:59]، وهذا رسولُ الله يقول: ((فرِّقوا بينهم في المضاجع)) ، دعوةٌ للفضائل، وتربيةُ النشء إلى أن يعظِّموا حرماتِ الله، فيبتعِدوا عنها.
أيّها الشابّ المسلم، أيّتها الفتاةُ المسلمة، أوصِي الجميعَ بتقوى الله والتحلّي بالفضائل والبعدِ عن دعاة الرذيلةِ والفَساد الذين يسعَونَ في الأرض فسادًا؛ لتدمير أخلاقِ الأمّة، لتدمير كيانها، لإفساد أخلاقِها، بإضعاف تمسّكِها بدينها.
أخي المسلم، إنَّ الإسلامَ عندما أمرَ المرأة بالحجاب وحرَّم عليها التبرّجَ ونهاها عن السفرِ وحدها بلا محرم وحرَّم خلوتَها بالأجنبيّ الذي ليس من محارمها ونهاها من الخضوع بالقول خوفًا عليها من طمَعِ مرضى القلب بالشّهوة فيها، كلّ هذا حماية للأخلاقِ والفضيلة، حراسَة للفضيلة مِن أن تتطرّقَ إليها أيدِي العابثين والمفسِدين والمجرمين.
أيّها المسلم، إنّ انغماسَ المجتمع في الرذيلة أمرٌ خطير وأمرٌ مشين، أمرٌ يحمل في طيّاتِه الدمارَ والبلاء.
أخي المسلم، عندما تسمع التوجيهاتِ الإسلامية العاليَة وتسمع أحيانًا من بيئةٍ فاسدة تدعو إلى التقاء الذّكورِ والإناث في أماكنَ محدودة وزمان طويل ما الفائدة منه؟ الفائدةُ يقولون فيما يعلّل به دعاةُ الرذيلة والانحلال من الأخلاق: إنَّ هذا للتّعارُف بين الجنسَين وتحطيمِ الحواجز بين الجنسَين، وحدِّث ما شئتَ عن هذه اللِّقاءات المشبوهة وعن هذه القنوات الرّذيلة وماذا يُعمَل فيها، حقًّا إنها دعوةٌ للفُجور مهما تبرّرَ أهلُه ومهما قالوا، دعوةٌ للفجورِ والفسادِ والانحلال وفُقدان الغَيرة من القُلوب، فإذا فُقِدت غيرةُ العَبدِ على محارِمِ الله فإنَّ تلك مصيبةٌ، ولهذا قال رسول الله في خطبةِ يوم كسوفِ الشمس: ((يا أمّةَ محمد، ما أحد أغيَر من اللهِ أن يزنيَ عبده أو تزنيَ أمَتَه)) [2].
أمّةَ الإسلام، إنَّ الدعاةَ إلى هذه الرذيلة والمعينون عليها والمحبِّذون لها والمساعدون لها والمنفِقون عليها والمدافِعون عنها لا شكَّ أنهم أعداءٌ للأمّة، أعداء لدينِها، وأعداء لأخلاقها، وأعداء لفضائلِها، وأعداء لكلِّ خلُقٍ قيِّم فيها، وإنَّ من يحول بين أولئك وبين مرادِهم ويردَعهم عن باطلهم ويحفِزُهم عن إجرامهم ويوقفُهم عند حدِّهم لدليلٌ على ما في قلبِه مِن خيرٍ وغَيرة على الإسلام وأهلِه.
أيّها المسلم، إنَّ المجتمعات المسلمةَ ما ذلَّت إلا لمّا انحرَفت أخلاقها، وما هانت إلاّ لما فسَدَت فضائلها، وما ضعُفت إلاّ لما بعُدت عن دينها، فالدّين والأخلاق هما قوّةُ الأمة وعزُّها وسِلاحها القويّ الذي لا يستطيع قوّةٌ أن تهزِمَه. التمسُّكُ بهذا الدين قولاً وعملاً المحافظةُ على أخلاقه وفضائله أن لا يُسمَح لأيِّ رذيلٍ أن ينشُرَ رذيلتَه بين المجتمع أو يشيعها بين المجتمع المسلم، فعلى الفتَيَات المسلمات تقوَى الله في أنفسِهنّ، وأن لا ينخَدِعن بهذه الأفكارِ السيّئة وهذه الدعاياتِ المضلِّلَة، وأن يكونَ للفتاةِ المسلمة موقف مشرف؛ تمسُّكًا بالدّين والأخلاق وبُعدًا عن هذه الرذائل، وعلَى الشابِّ المسلم أن يتذكَّر ويتدبَّرَ في أمره ويعلَمَ أنَّ أولئك دعاةُ الرذيلة لا يريدون له خيرًا، لا يريدون به خَيرًا، هم دعاةٌ على أبوابِ جهنَّم، من أطاعهم ألقَوه فيها، هم أعداءٌ لك، أعداء لدينك، أعداء لأخلاقك، أعداء لفضائلِك، أعداءٌ لكلِّ خلُق قيِّم تتمسَّك به.
إنها بيئةٌ فاسِدة ومجتمَعات سيِّئة تريدُ أن تنقلَ رَذيلَتَها إلى بلادِ الإسلام، ويأبى الله والمؤمِنون ذلك، فلنتمسَّك بأخلاقنا، ولنُرَبِّ نشأنا تربيةً صالحة، لنجدَهم إن شاءَ الله بعد غدٍ رجالاً في الميدان، ذوي دينٍ وأخلاقٍ وقيادةٍ للمجتمع على أسُسٍ من الفضائل والأعمال.
أسأل الله أن يحفَظَ الجميع بالإسلامِ، وأن يثبِّتَنا وإيّاكم على صراطه المستقيم، وأن لا يزيغَ قلوبَنا بعد إذ هدانا، إنّه ولي ذلك والقادر عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقولُ قولي هذَا، وأستغفِر اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولِسائر المسلمين مِن كلّ ذنب، فاستَغفروه وتوبوا إِليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/187)، وأبو داود في الصلاة (495)، والدارقطني (1/230)، والحاكم (1/311)، والبيهقي (2/228، 229) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء (247).
[2] رواه البخاري في الكسوف (1044)، ومسلم في الكسوف (901) عن عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدّين.
أمّا بعد: فيَا أيّها النّاس، اتَّقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى، وتمسَّكوا بآدابِ الإسلام؛ لتكونوا على المستوى اللائِق بكم، ربُّوا الأبناءَ والبنات التربيَة الصالحة، حذِّروهم من دعاةِ السوء، أبعدوهم عن دعاةِ السوء، بيِّنوا لهم ما في هذه من مفاسدَ وأضرارٍ في الدّين والدنيا، حذِّروهم من الانغماس في الرَّذائل، وأن تتعلَّق القلوب بأولئك الذين لا خلاقَ لهم ولا خيرَ فيهم، تعلُّقُ القلوب بمن لا خلاقَ له ولا خيرَ فيه مصيبةٌ عظيمة، فلتتَعلَّق القلوب بربِّها وبنبيِّها ثم بأخلاقِ دينها وكرامَتِها، لتجدَ العزَّ والتّمكين.
أيّها الشابّ المسلم، فاتَّق الله، وحافظ على دينِك، ولا تكن إمّعةً يقودك أولئك إلى رذائِلِهم وفسادِهم، تمسَّك بدينك، فأنت في عزٍّ وكرامة، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديثِ كِتاب الله، وخيرَ الهَدي هدي محمَّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجمَاعة، ومَن شذَّ شذَّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائه الرّاشدين...
(1/4005)
خطبة استسقاء 28/2/1426هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
28/2/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء. 2- نعمة المطر. 3- تقدير الله على العباد. 4- شؤم الذنوب والمعاصي. 5- ضرورة التوبة والاستغفار. 6- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه؛ إذ بها المعتَصَم، ومنها الرِّبحُ والمغنَم، وبسبَبِها يدفع الله البلاءَ والمغرم، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
أيَّها النّاس، الابتلاءُ سنّةٌ ربانيّة ماضِية، يقلِّبها الله بين عباده في الخير والشرّ؛ ليبلُوَهم أيعبُدون ويشكرون أم يجحدُون ويكفرون، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35].
ألا إنَّ مما يبلو الله به عبادَه نزولَ القطر من السماء لتصبِحَ الأرضُ مخضرَّة، فيُحيِي الله به بلدةً ميتًا، ويسقيَه مما خلَق أنعامًا وأناسيَّ كثيرًا، بل جعَل البارِي سبحانه مِنَ الماءِ قِوامَ حياةٍ للناسِ، فقَد ذكرَه سبحانه على وجه الامتنان بقوله: وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، وقوله: أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70]، وقوله: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى:28]، وقوله: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الروم:48-50].
عبادَ الله، أَلا إنَّ مِن حِكمةِ الله تعالى وعِلمِه بعبادِه أن يقدِرَ عَليهم القَطرَ والرِّزق مِن السَّماءِ؛ ليَتوبَ تائب ويستغفِرَ مُستغفر ويَؤوبَ شارِد، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27]، فينزِل الله المطرَ لأمّةٍ ويحجبه عن أخرَى، وينزِله على أرضٍ ويمنعه من أخرى، قال ابن مسعودٍ وابن عباس رضي الله تعالى عنهم: (ليس عامٌ بأكثرَ مطرًا من عام، ولكنَّ الله يصرِّفه كيف يشاء)، ثم قرءا الآية: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا [الفرقان:50] [1].
نستغفِر الله، نستغفر الله، نستغفِر الله، اللهم إنّا نستغفرك إنّك كنتَ غفارًا، فأرسل السماء علينا مِدرارًا.
أيّها المسلمون، إنَّ ما يشاهَد في هذه الآونة من شحٍّ في الأمطارِ على بعضِ البلاد وقِلَّة في النبات إنما هو بسبَبِ الذنوب والمعاصِي التي تمنَعُ الرِّزقَ وتمحَقُ البركة، وإنَّ شؤمَ المعاصي ليعمُّ الصالحَ والطالحَ، حتى البهائِم والحشرات، فقد قال عكرمة: "دَوابُّ الأرضِ وهوَامهَا حتى الخنافِس والعَقارب يقولون: مُنِعنَا القطرَ بذنوب بني آدم" أخرجه ابن جرير في تفسيره [2]. فلِلَّه كم فشا الجهلُ بالدين وكِتمان الحقِّ وظهور الباطل، وكم قلَّ العدلُ والإنصاف والتّحكيم بشرعِ الله، لقد كثُر الهرج، وعمَّ الجدَل، وانتشرت الفواحِش، وذهبَت البركات، وتكدَّرت الحياة، وقلَّتِ الخيرات في كثيرٍ من المجتمعات إلاّ من رحِم الله وقليلٌ ما هم، وقد جاء في الحديثِ أنَّ مثل هذه المعاصي تمنَع القطرَ منَ السماء، ولا يغُرَّنَّ المرءَ ما يشاهِده بين ظهرانَي الكفّار منَ الأمطار والخيرات ثم يقول: ما علاقةُ منعِ القطر من السماء بالمعاصي وها هم الكفّار أكثر معاصٍ منا؟!
ألا فليعلَم أنَّما هي استدراجٌ وتعجيل لحظوظِ الدنيا، وليس بعد الكفر ذنبٌ، أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55، 56]، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55].
ولِذا ـ عبادَ الله ـ جعَل الباري جلَّ شأنُه إنزالَ المطر بكثرةٍ علامةَ الرضا على عبادِه ودلالة على استقامَتِهم على دينه سبحانه كما قال تعالى: وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا [الجن:16، 17]، والمعنى ـ عباد الله ـ على أحد التفسيرين: أنَّ الناس لو استقامُوا على طريقةِ الإسلام وعدَلوا إليها واستمرّوا عليها لأسقيناهُم ماء كثيرًا لنختَبِرهم ونبتليَهم؛ من يستمِرُّ على الهداية ممن يرتدّ على الغِواية.
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله، اللهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا.
أيّها المسلمون، إنَّ ما نشكوه من شحٍّ في الأمطار وقِلّة بركةٍ فيها لهو بلاءٌ وعقوبة، أحوَجُ ما نكون فيهما إلى الرجوعِ إلى الله وكثرةِ التضرّع وبذلِ الاستغفارِ للكريم الرحيم وحدَه، إذ أوصى به نوحٌ قومَه بقوله: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، وأوصَى به هودٌ قومَه بقوله: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52]، وأَوصَى به صالحٌ قومَه بقوله: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، وأوصَى به شُعَيب قومَه بقولِه: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، ولَقَد أوصَى الله نبيَّه محمدًا بالاستغفارِ في قولِه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وجاء في الحديثِ الذي رواه أحمدُ والترمذيّ والنسائيّ أن النبيَّ قال: ((إنَّ المؤمن إذا أذنَب كانت نُكتَة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزَع واستغفَر صقِل قلبه، فإن زاد زادت ، فذلك الرَّان الذي ذكرَه الله في كتابه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )) [3].
ألا فاتقوا الله معاشرَ المسلمين، وأكثِروا من الاستغفار واللجوءِ إلى الكريم الغفّار؛ إذ لا ملجأَ من الله إلا إليه، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
نستغفِر الله، نستغفر الله، نستغفِر الله، اللهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفّارًا، فأرسل السماءَ علينا مدرارًا.
الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إلهَ إلا الله، لا إله إلا الله، يفعَلُ ما يريد.
اللّهمّ أنت الله، لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانطين، اللّهمّ أنت الله، لا إله إلا أنتَ، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللّهمّ أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللّهم أغثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، واجعل ما أنزلتَ علينا قوّةً لنا وبلاغًا إلى حين.
اللّهمّ إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يكشَف إلا بتوبة، وهذه أيدينا إليك بالذّنوبِ ونواصينا إليك بالتّوبة، فأسقِنا الغيثَ يا ذا الجلال والإكرام، اللّهمّ اسقِنا غيثًا مغيثًا هينئًا مريئًا غدَقًا مجلِّلاً سحًّا طبَقًا، نافعًا غيرَ ضارّ، عاجلاً غير آجل، اللّهمّ لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا.
اللّهمّ إنّا خلق من خلقك، فلا تمنَع عنّا بذنوبنا فضلك، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا هدم ولا بلاءٍ ولا غرق، اللهم لتُحيِيَ بها البلادَ وتسقي بها العبادَ ولتجعلَها بلاغًا للحاضر والباد.
سبحان ربِّك ربِّ العزة على ما يصفون، وسلام على المرسلين، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.
نستغفِر الله، نستغفِر الله، نستغفِر الله، اللّهمّ إنا نستغفِرك إنك كنت غفّارًا، فأرسل السماءَ علينا مدرارًا، وأمدِدنا بأموالٍ وبنين، واجعل لنا جنّاتٍ واجعل لنا أنهارًا.
[1] أخرجه عنهما مفرقًا ابن جرير في تفسيره (19/22).
[2] جامع البيان (2/55)،
[3] مسند أحمد (2/297)، سنن الترمذي: كتاب التفسير (3334)، سنن النسائي الكبرى (10251) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الزهد (4244)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2787)، والحاكم (3908)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2469، 3141).
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/4006)
الوصية بالنساء
الأسرة والمجتمع
قضايا الأسرة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تنظيم الإسلام للعلاقات الأسرية. 2- حقوق الزوجة على زوجها: المهر، النفقة، العدل، حسن العشرة. 3- التحذير من ظلم الزوجات. 4- أسوار تحمي العلاقة الأسرية وتحفظها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، لقد عني الإسلام ـ في جملة ما عني به من تشريعات ومبادئ ـ بتنظيم الحياة الزوجية وما يترتب عليها من الحقوق والواجبات بين الزوجين مما تقتضيه فطرة الرجل وفطرة المرأة بما يحقق الانسجام في الحياة الزوجية، فقال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ ?لَّذِى عَلَيْهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، هذا التوجيه الرباني من الحق تبارك وتعالى الذي خلقنا من عدم وأبرزنا إلى حيز الوجود المشاهد وجعل لنا أزواجًا نسكن إليها، وجعلهن لباسًا لنا ونحن لباس لهن.
والحقوق والواجبات ـ أيها الناس ـ كثيرة ومتنوعة، سنوجز منها في خطبتنا هذه بعض الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها مع الإشارة إلى الطاعة الملزمة لها المقدَّمة حتى على والديها.
وأول هذه الحقوق المهر، وهو رمز لإعزاز المرأة ورفعة شأنها ومكانتها وقدرها، وإشعار لها بأنها موضع رغبته وبره ورعايته وعطفه وشموله ومسؤوليته وحنانه وقوامته، قال الله تعالى: وَءاتُواْ ?لنّسَاء صَدُقَـ?تِهِنَّ نِحْلَةً [النساء:4].
وقد أرشد الإسلام إلى عدم التغالي في المهور وإن لم يرد دليل من الشرع على تحديده بحدّ أعلى، فقال : ((خير الصداق أيسره)) [1]. فإن المغالاة في المهور وتكاليف الزواج الباهظة تقف حائلاً أمام الزواج وعائقًا للزواج وسببًا في عنوسة النساء وتكدّسهن في المنازل وتعطيل لكثرة الحرث والنسل وتفويت وضياع للنساء ومخالفة لما أرشدنا إليه المشرع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الحقوق الواجبة للزوجة على زوجها النفقة، وهي حق يترتب على عقد الزواج، ويشمل كل ما تحتاج إليه الزوجة من الطعام والكسوة والسكنى، وهو أمر يختلف باختلاف حالة الزوج يسارًا وفقرًا، فقال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ ?للَّهُ لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا ءاتَاهَا [الطلاق:7]، ولا يمنع أن تساعده هي إذا كان لها مورد من مال أو راتب.
ومن الحقوق أيضًا العدل والمعاشرة الحسنة، فعلى الزوج أن يراعي العدل في معاملة زوجته، وأن يحسن عشرتها في أقواله وأفعاله وتصرفاته، فيغمرها بحسن خلقه وجميل أدبه وكريم رعايته لقول الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقوله : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [2] ، فلا يحق له أن يسمعها البذيء والفحش والتقبيح والتبرم وتعمد الإساءة إليها بالكلام بما يجرح كرامتها، وأن لا يكون معها غليظًا، ولا يكسر نفسها بالحط من منزلتها وإهانة كرامتها وتحطيم معنويتها أو العبوس في وجهها أو التكدير عليها أو ضربها في غير مبرر منصوص عليه.
وإذا تزوج أكثر من واحدة فعليه العدل والتسوية بينهن فيما لهن من حقوق النفقة وحسن الكلام وطيب المعاملة ولطف العشرة، أما الميل القلبي فهذا مما لا طاقة له به ولا يؤاخذ عليه، فقد كان رسول الله يقسم بين زوجاته فيعدل ويقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)) [3] ، يعني بذلك ميل القلب في الحبّ والمودة، فهو أمر بيد الله جل وعلا، ولا حرج فيه إن شاء الله تعالى.
فاتقوا الله عباد الله، واحفظوا حقوق النساء عليكم، وتلطفوا معهن، واذكروا دومًا وصية رسول الله بالنساء حيث قال: ((إنما النساء عندكم عوان ـ أي: أسيرات ـ أخذتموهن بأمانةِ الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرًا)) [4] ، فالله الله في العض بالنواجذ على هذه الوصية.
وإياكم والحيف وعدم العدل بين النساء، فإن ذلك يؤدي إلى الندامة في الدنيا والآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله قال: ((من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه ساقط)) ، وفي رواية: ((جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل)) [5] ، اللهم إنا نسألك السلامة والعافية.
فبئس الرجل يظلم أهله ويتخلق بأخلاق الجاهلية باحتقار المرأة وظلمها، ونعم الرجل يسير على السياسة الحكيمة التي رسمها الإسلام، فبها تستقيم البيوت والأسر، ويسود الوئام والتفاهم، وتعم البركة، ويتربى الأولاد تربية صالحة، وتصلح البيت، وتتّسم بالرفق واللين والسماحة والمحبة والمودة والخير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسيرة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الحاكم في المستدرك (2/182) وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
[2] رواه الترمذي في المناقب، باب: فضل أزواج النبي (3892)، والدارمي (ص292)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
[3] رواه أبو داود في النكاح، باب: في القسم بين النساء (2134)، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر (1140)، والنسائي في عشرة النساء (7/64)، وصححه الحاكم (2/187)، ووافقه الذهبي.
[4] جزء من حديث في وصية رسول الله في حجة الوداع, رواه الترمذي في التفسير، باب: ومن سورة التوبة (3087).
[5] رواه أبو داود في النكاح، باب: القسمة بين النساء (2132)، والترمذي في النكاح، باب: ما جاء في التسوية بين الضرائر (1141)، والنسائي في عشرة النساء (7/64)، وصححه الحاكم (2/187)، ووافقه الذهبي.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أتم علينا نعمه وأكمل لنا الدين، وشرع لنا من الحقوق والواجبات ما تستقيم به حياة الأسر والزوجات والبيوت والجماعات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير البرية وأهداها، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن سار على هديهم واتبع نهجهم إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الإسلام لم يقف عند بيان الحقوق والواجبات فقط، بل يدفع بالإنسان لاستجاشة مشاعر الصدق والمحبة والودّ والإلفة في نفسه، وطلب منه أن يرد مقابلة السيئة بالحسنة مهما كان الحال والأمر، حتى يعيش البيت في جو من السعادة والطمأنينة، فقال الله تعالى: ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [فصلت:34]، إنه لتوجيه سام رفيع عظيم وحكيم.
بل جعل الإسلام العشرة بالمعروف فريضة على الرجال حتى في حالة كراهية الزوج لزوجته ما لم تصبح العشرة متعذرة، فقال الله تعالى في كتابه العزيز الكريم: وَعَاشِرُوهُنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى? أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ ?للَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
وكل ذلك حتى لا تكون العلاقة الزوجية ريشة في مهبّ الرياح تتأثر بأدنى النزوات وأقل التصرفات وأصغر الكلمات، ولذلك قال معلم البشرية وهاديها عليه الصلاة والسلام: ((لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر)) [1].
إنه لحق ورب الكعبة، وعلى الزوجة فهم ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ((لو أمرت أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها)) ، وما أعظم قول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرجل أراد أن يطلّق زوجته لأنه لا يحبها، فقال له: (ويحك، وهل كل البيوت تبنى على الحب؟! فأين الرعاية؟! وأين الذمم؟!).
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحذروا الكلام الرخيص الذي ينعق به المتحذلقون باسم الحب، واستمسكوا بعقيدتكم الإسلامية التي فيها مصالح العباد في الدنيا والآخرة ورابطة المودة والمحبة بين الزوجين الواردة في كتاب الله جل وعلا، وليحسن الرجل قيادته لمن استرعاه الله فيهم، وليتق الله في ذلك، وليعلم أنه موقوف ومسؤول أمام الله جل وعلا وبين يديه عن هذه الرعية، وعمن ولاه الله عليهم، فليحسن التربية والتوجيه والإرشاد ومعاشرة زوجته بالمعاشرة التي أمره الله بها، وفي مقدمة ذلك تعليمهم القرآن والسنة وتخصيص جزء من وقته من ليل أو نهار لذلك.
وتعليمهم أمور دينهم ومتابعتهم وحثهم ومراقبتهم حتى يستقيموا على دين الله أمر مهمّ واجب عليه ومتحتّم، ذلك براءة لذمته يوم الوقوف بين يدي الله جل وعلا كما قال الله تعالى عن ذلك اليوم العظيم: يَوْمَ يَفِرُّ ?لْمَرْء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وَصَـ?حِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلّ ?مْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37]، وكما قال الله تبارك وتعالى عن ذلك اليوم: وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ?لْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـ?حِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ?لَّتِى تُوِيهِ وَمَن فِى ?لأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:10-14]، فليربِ كل واحد منا زوجته وأولاده على طاعة الله تعالى وتذكيرهم وتخويفهم بالله جل وعلا والخوف من الله والرجاء فيما عنده والله المستعان، ثم الدعاء لهم بالهداية والتوفيق والصبر على ذلك حتى يلقى الله جل وعلا، نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
[1] رواه مسلم في الرضاع، باب: الوصية بالنساء (1469).
(1/4007)
أم الخبائث
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الخمر أم الخبائث والشرور. 2- الملعونون في الخمر. 3- عقوبة شارب الخمر في الآخرة. 4- أضرار الخمر الصحية. 5- حد شارب الخمر. 6- الخمر سلاح عدونا الموجّه في صدورنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي كرّم بني آدم وميزه بالعقل على سائر المخلوقات، وأرشده إلى ما فيه صلاح دينه ودنياه، وحرم عليه كل ما يضره، فزجره عنه ونهاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الموصوف في القرآن ومن قبل في التوراة والإنجيل بأنه يحل لأمته الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، فصلِّ اللهم على محمد عبدك ورسولك وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيا عباد الله، إنه غير خاف عليكم ما أصاب المسلمين من نكسة وانحطاط بسبب المسكرات وغزو الكفار لديار المسلمين بصب المسكرات عليهم، ما وصل إليه المسلمون من الحالة السيئة من الانحلال الخلقي والتحلل من قيود الدين، حتى تهاونوا بالصلوات والصيام والزكاة وفشت فيهم المنكرات.
وإن من أقبح هذه المنكرات وأخبثها شرب الخمور وسائر المسكرات، فإنها أم الخبائث وأصل الفواحش ومنبع الرذائل، ولهذا شدد الله في تحريمها فأمر بتجنبها على الإطلاق، وبين لنا أنها سلاح الشيطان لغوايتنا، وبين لنا أنها مصدر العداوة والوقيعة والبغضاء والصد عن ذكر الله جل وعلا وعن الصلاة، فقال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لاْنصَابُ وَ?لاْزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةَ وَ?لْبَغْضَاء فِى ?لْخَمْرِ وَ?لْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ [المائدة:90، 91].
وكذلك فإن نبينا ومعلمنا ومرشدنا قد بين لنا تحريم شربها واستعمالها وعصرها أو مجالسة شاربيها أو مسايرتهم في ذلك، واعتبرها كبيرة من الكبائر المهلكة حيث وضع لنا فيها حدًا لمرتكبها واستحقاقه اللعن والطرد من رحمة الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لعن الله الخمر وشاربها وساقيها ومبتاعها وبائعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه)) [1] ، وقد جاء عن رسول الله أنه قال: ((إن على الله عهدًا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) ، قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار ـ أو ـ عصارة أهل النار)) [2].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى لم يحرم علينا الخمر إلا لما فيها من الضرر البالغ على الدين والعقل والنفس والمال والأهل، وإن كان يجب علينا ـ أيها الإخوة المسلمون ـ الانقياد لطاعة أمر الله ورسوله سواء عرفنا الحكمة من ذلك أم لم نعرف، ولكننا بمعرفة بعض الحِكم من ذلك نزداد يقينًا بعظمة هذا الدين الحنيف ومحاسنه التي بهرت العالم وسدّت ذرائع الشرور والفساد وكل طريق يوصل إلى الهلاك والدمار.
فالخمرة ـ أيها المسلمون ـ تفسد المعدة، وتسبب أمراضًا خطيرة في الكبد والكلى، وتؤدي غالبًا إلى تصلب الشرايين، إلى جانب ضررها البالغ في العقل، وهذا ملموس لكل إنسان، إذ إن الخمر تفسد التصور والإدراك وتؤدي بالمدمنين عليها إلى الجنون وتورث الأمراض المستعصية التي لم يسبق لها مثيل.
وإلى جانب ضرر الخمرة في الصحة فهي تؤدي إلى جرائم اجتماعية خطيرة كالزنا والقتل والعداوة والبغضاء في المجتمع، ومن أجل هذا سميت: أم الخبائث، فهي تفقد الرجل الغيرة والرجولة والشهامة والنخوة والالتزام بالدين، فيتردى في حمأة الرذيلة وذنب المعصية.
والأخطر من هذا كله ـ أيها الناس ـ أن الخمر تفسد الدين، إذ هي تبعد شاربها عما افترض عليه من سائر العبادات، وبالأخص ذكر الله والصلوات التي هي عماد الدين والفيصل بين الكفر والإيمان، كما قال تعالى: وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَعَنِ ?لصَّلَو?ةِ [المائدة:91].
فاتقوا الله عباد الله، واستجيبوا لداعي الهدى، وترّفعوا عن كل ما يشوبكم ويستنقص من دينكم، واسموا بأنفسكم عن التدني والهبوط في هذه الرذيلة التي جعل الإسلام عقوبة شاربها أن يضرب بالنعال احتقارًا له وتقليلاً من شأنه وإهانة له، وكفى بها من ضعة وخيبة وهوان وضياع حياة وحسرة وندامة، كما روى البخاري عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله وإمرة أبي بكر وصدر من خلافة عمر فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر فجلد أربعين، حتى إذا عتوا وفسقوا جلد ثمانين [3] ، نسأل الله السلامة والعافية. هذا في الحياة الدنيا، وأما في الآخرة فقد قال : ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان بما أعطى)) [4] ، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
جعلني الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أبو داود في الأشربة، باب: العنب يعصر للخمر (3674)، وابن ماجه في الأشربة، باب: لعنت الخمر على عشرة أوجه (3380) من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما.
[2] رواه مسلم في الأشربة، باب: بيان أن كل مسكر خمر (2002).
[3] رواه البخاري في الحدود، باب: الضرب بالجريد والنعال (8/13).
[4] جزء من حديث رواه النسائي في الزكاة، باب: المنان بما أعطى (5/80).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم الوهاب، غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أنه صح موقوفًا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: (اجتنبوا الخمر؛ فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبّد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إني ـ والله ـ ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ أو تشرب من هذه الخمرة كأسًا أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقيني من هذا الخمر كأسًا، فسقته كأسا قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها ـ والله ـ لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه) [1].
فاتقوا الله عباد الله، وتيقنوا أن الخمر وسيلة وسلاح عدوكم الشيطان لإخراجكم من دينكم، واعلموا أن من شربها فقد شرب في بطنه الخبث والرجس، فإياكم ـ عباد الله ـ من الخمر، ألا فاجتنبوها، وتوبوا إلى الله ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون، فإن الخمر خبيثة نتنة قذرة ومستقذرة مفحشة وفاحشة، فكم داست من كرامة وأهانت من معنويات وحطّمت من رجولة وأفقدت من فضيلة، كم فرّقت من أسر وخرّبت من بيوت وشتّت من شمل وضيّعت من مال وانتهكت من عرض وأوقعت من فتن وسببت من عقوق وشرّدت من أصناف الناس ما الله به عليم.
فكفى بها أنها أم الخبائث، حرمها الله جل وعلا وحرمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لضررها الخطير وشرها المستطير، وهي كبيرة من الكبائر، موبقة من الموبقات، فالله الله ـ يا عباد الله ـ في البعد عنها وعن متعاطيها، وليتّق الله امرؤ خالط الإيمان بشاشة قلبه مقارفتها أو مجالسة أهلها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[1] رواه النسائي في سننه في الأشربة، باب: ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر من ترك الصلوات (8/315).
(1/4008)
أهمية الزكاة في حياة المسلم
فقه
الزكاة والصدقة
داود بن أحمد العلواني
جدة
الأمير منصور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الزكاة في الإسلام. 2- مقدار الزكاة الواجبة في الأموال والأنعام. 3- حكم مانع الزكاة وجزاؤه. 4- فوائد الزكاة والحكمة منها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن إيتاء الزكاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (ثلاث مقرونة بثلاث، لا تقبل واحدة منهن إلا بالأخرى: لا تقبل طاعة الله إلا بطاعة رسوله، ولا تقبل الصلاة إلا بأداء الزكاة، ولا يقبل الله شكره إلا بشكر الوالدين).
وإن الزكاة دعامة أساسية من دعائم الإسلام العظيمة، وهي العبادة المالية الاجتماعية الهامة في المجتمع الإسلامي، ولذا فقد قرنها الله سبحانه وتعالى بالصلاة في عشرات المواضع، وذكرها أحيانًا بلفظ الزكاة، وأحيانًا أخرى بلفظ الصدقة، وأحيانًا بلفظ الإنفاق.
ولأهمية الزكاة في الحياة الاجتماعية فرضها الله تعالى على جميع أصحاب الشرائع السماوية، فذكرها الله في وصاياه إلى رسله، وفي وصايا رسله إلى أممهم، فيقول تبارك وتعالى عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ ?لْخَيْر?تِ وَإِقَامَ ?لصَّلو?ة وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ وَكَانُواْ لَنَا عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:73]، وامتدح بها إسماعيل بقوله: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55].
وذكرها جل ذكره في مواثيقه لبني إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَـ?قَ بَنِى إِسْرءيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ?للَّهَ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِى ?لْقُرْبَى? وَالْيَتَـ?مَى? وَ?لْمَسَـ?كِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ [البقرة:83]، ويقول على لسان المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام في مهده: وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31].
وكما ذكرنا فهي ركن من أركان الإسلام، وعنوان على الدخول في الإسلام واستحقاق أخوَّة المسلمين كما قال تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11]، كما أنها صفة عباد الله المتقين كما قال جل وعلا: ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:3].
واعلموا أن الزكاة فريضة لازمة يكفر من جحدها، ويفسق من منعها، ويقاتل من تحدّى جماعة المسلمين بتركها، وحسبنا أن الخليفة الأول أبا بكر رضي الله عنه جهز أحد عشر لواء لمقاتلة قوم امتنعوا عن أداء الزكاة وقال كلمته المشهورة: (والله، لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة. والله، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه) [1].
والزكاة ـ عباد الله ـ ليست تبرّعًا يتفضل به غني على فقير أو كبير على صغير، وإنما هي حق في أموال الأغنياء، لا بد أن يدفع لأصحابه المستحقين على وجه الإلزام.
ومن أجل هذا حدّد الإسلام الأموال التي تجب فيها الزكاة، ومتى تجب الزكاة على المال، والمقدار الذي يجب إخراجه على كل منها. فهناك مال يجب فيه العشر كالزروع التي يخرجها الله من الأرض بغير جهد يذكر من الإنسان، فإن كانت تسقى بالآلات كان فيها نصف العشر، وهذه الزكاة تجب في كل زرع.
وهناك مال يجب فيه ربع العشر: 2.5 بالمائة، كالنقدين الذهب والفضة, وهذه الزكاة تجب في المال كلما حال عليه الحول، وهناك مال يتمثل في الحيوانات مثل الإبل والبقر والغنم، وقد وضع لها الإسلام نظامًا خاصًا منضبطًا.
فاتقوا الله عباد الله، وسارعوا لأداء هذه الفريضة طيّبة بها نفوسكم، لتفوزوا برضا ربكم الذي قال في محكم كتابه: وَأَقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَمَا تُقَدّمُواْ لانْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ [البقرة:110]، وقال نبيكم عليه الصلاة والسلام: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه)) [2].
وإياكم ـ إخوة الإسلام ـ من ترك الزكاة؛ فإن تركها مصيبة كبرى وعواقبها وخيمة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ يَكْنِزُونَ ?لذَّهَبَ وَ?لْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ?للَّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى? عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى? بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـ?ذَا مَا كَنَزْتُمْ لانفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35]، وحذار من التهاون بها أو التسويف في إخراجها، فإن ذلك قد يكون السبب في إتلاف المال كله، كما ورد عن بعض أهل العلم أنه ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة.
واسمعوا إلى الوعيد حيث يقول الرسول : ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مثّل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع [3] له زبيبتان [4] يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني شدقيه ـ ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك)) ، ثم تلا: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180] [5].
وفقنا الله لأداء الزكاة طيبة بها نفوسنا، وأعاذنا الله من الشح والبخل امتثالاً لما ورد في السنة والكتاب.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه البخاري في الزكاة، باب: وجوب الزكاة (2/108)، ومسلم في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله (20).
[2] رواه مسلم في البر والصلة، باب: استحباب العقو والتواضع (2588).
[3] هو الحية الذكر الذي انحسر الشعر عن رأسه من كثرة سمه.
[4] هما النكتتان السوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات.
[5] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة (2/110).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: عباد الله، فإن لكل عبادة من العبادات حِكَمًا ومزايا حميدة وفوائد جمة في حياة الناس، والزكاة من جملة هذه العبادات، لها حكم متعدّدة وأهداف سامية ومقامات رفيعة تتمثّل في الأمور التالية:
فهي أولاً: تطهر الناس من آفة الشح الخطيرة، كما أنها تطهر المال وتنميه وتزيده بركة، كما قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْو?لِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا [التوبة:103].
وهي ثانيًا: تحمي المجتمعات من الفساد والجرائم الخلقية التي تتولد عن الفقر والعوز والحاجة، كما أن في الزكاة توطيدًا لدعائم المحبة والمودة بين أبناء المجتمع الفقراء والأغنياء من المسلمين.
وكذلك ـ يا أخي المسلم ـ فإن للزكاة دورًا عظيمًا في نشر الدعوة الإسلامية، فكما أن الإسلام ينتشر بالإقناع والبيان، فهو كذلك ينتشر بالبذل والإحسان والعطاء، ولهذا جعل الله جلت حكمته نصيبًا من أموال الزكاة للمؤلفة قلوبهم، وهم الذين يرجى تأليف قلوبهم باستمالتهم إلى الإسلام ودخولهم في دين الله عز وجل، أو لتثبيت أقدامهم فيه، أو رجاء نفعهم في الدفاع عن المسلمين، أو كفًا لشرهم عنهم، وعلى كل حال فنفع الزكاة متنوع ومتعدد الفوائد.
وها نحن أولاء نشاهد أعداء الإسلام قد كرّسوا جهودهم واستنفروا جنودهم وأهدروا أموالهم لتنصير أبناء المسلمين مستغلين الفقر وحاجة الشعوب للمال، فما أحرانا نحن المسلمين بالقيام بواجب الدعوة الإسلامية الملقى على عاتقنا وتنفيذ أمر الله بصرف سهم المؤلفة قلوبهم من أموال الزكاة لنفوز بسعادة الدارين الدنيا والآخرة.
ومن أدى زكاة ماله ذهب عنه شرّه، وما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة، وهي ركن من أركان الإسلام الخمسة التي بني عليها الإسلام، فالحذر من عدم أدائها أو التسويف في أدائها أو التهاون في إخراجها، فإن من منعها جاحدًا لوجوبها كفر، وعلى ولي الأمر قتال من لم يؤدّ الزكاة، فإن إخراجها نماء للمال وبركة في الرزق، كما أن منعها ممحقة لبركة الرزق ومفسدة للمال وذهاب لدين المسلم عياذًا بالله تعالى. اللهم سلمنا يا رب، اللهم آمين.
فإن الزكاة ـ أخي المسلم ـ أمرها مهم، وكثيرًا ما يأتي ذكرها مقترنًا بالصلاة، وكما ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: (ثلاث لا تقبل إلا بثلاث: لا تقبل طاعة الله تبارك وتعالى إلا بطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا تقبل الصلاة إلا بإخراج الزكاة، ولا يقبل الله شكره إلا بشكر الوالدين)، والنصوص من الآيات والحديث في هذا الموضوع كثيرة ومشهورة.
اللهم وفقنا للالتزام، اللهم آمين.
(1/4009)
الدعاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
10/9/1423
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصلة الوثيقة بين الصيام والدعاء. 2- دعاء الأنبياء عليهم السلام ربهم جل وعلا. 3- شروط تجب في الداعي والدعاء والمدعو به.
_________
الخطبة الأولى
_________
فإن أصل كل خير توفيق الله للعبد، وتوفيقه أن لا يكله إلى نفسه، وإن أصلَ كل شر خذلانه له، وهو أن يُخْلي بينه وبين نفسه.
وإذا كان الخير وأصله التوفيق بيد الله تعالى لا بيد العبد فإن مفتاحه الدعاء والافتقار وصدق اللجوء والرغبةِ والرهبةِ إليه؛ لأن العبد إذا علم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن تيقّن حينئذ أن الحسنات من نعمه سبحانه، فشكره عليها وتضرع إليه أن لا يقطعها عنه، وأن السيئات من خذلانه وعقوبته، فابتهل إليه أن يَحول بينه وبينها وأن لا يَكِلَه في فعل الحسنات وترك السيئات إلى نفسه.
ومتى أعطى الله العبد هذا المفتاح فقد أراد أن يَفتح له، ومتى أضلّه عن المفتاح بقي باب الخير والتوفيق مقفلاً دونه؛ لذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن أحمل هم الدعاء، فإذا أُلهمت الدعاء فإن الإجابة معه).
وعلى قدر نية العبد وهمته ومراده ورغبته في ذلك يكون توفيقه سبحانه وإعانته، فالمعونة من الله تنزل على العباد على قدر هممهم وثباتهم ورغبتهم ورهبتهم، والخذلان ينزل عليهم على حسب ذلك، فالله سبحانه أحكم الحاكمين وأعلم العالِمين؛ يضع التوفيق في مواضعه اللائقة به، والخذلان في مواضعه اللائقة به، وهو العليم الحكيم.
عباد الله، ولما كان شهر رمضان حريًّا أن تُعمَر أوقاته بالعبادة فإن الدعاء أولى ما عُمرت به؛ لأن الدعاء هو العبادة، أخرج أبو داود والترمذي بسند صححه الألباني عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي قال: ((الدعاء هو العبادة)) ، ثم تلا: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
قال العلماء: "أي: هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمّى عبادة، لدلالته على الإقبال على الله والإعراض عما سواه، بحيث لا يرجو ولا يخاف إلا إياه، قائمًا بواجب العبودية، معترفًا بحق الربوبية، عالمًا بنعمة الإيجاد، طالبًا لمدد الإمداد على وفق المراد.
وانتبه ـ يا رعاك الله ـ إلى قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، كيف جاء بين آيات الصيام؟!
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "إن الصيام مظنة إجابة الدعاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذه الآية في أثناء آيات الصيام، ولا سيما أنه ذكرها في آخر الكلام على آيات الصيام. وقال بعض أهل العلم: إنه يستفاد منها فائدة أخرى: أنه ينبغي الدعاء في آخر يوم الصائم، أي: عند الإفطار" اهـ [1].
عباد الله، إن الدعاء حبل مديد وعروة وثقى وصلة ربانية، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62]، وهو روضة القلب وجنة الدنيا، و((ليس شيء أكرمَ على الله من الدعاء)) ، وكفى الدعاء شرفًا قرب الله من العبد الداعي.
والدعاء صفة صفوة الخلقِ من الأنبياء والمرسلين، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90]، والخليل عليه السلام يقول: وَأَدْعُو رَبّى عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا [مريم:48].
هذا نوح عندما لاقى الصد والإعراض من قومه توجه إلى السماء، فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَ?نتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْو?بَ ?لسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ?لأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى ?لمَاء عَلَى? أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:10-12].
وهذا أيوب نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:83، 84].
وهذا زكريا يدعو: رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ ?لْو?رِثِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى? وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:89، 90].
ويونس يتضرع داخل بطن الحوت، فيسمع دعاءه ذو العزة والجبروت، وَذَا ?لنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَـ?ضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87، 88].
عبادة ميسورة مطلقة، لا تقيّد بزمان أو مكان، دعاء في الليل والنهار، وتضرع في البراري والبحار، وابتهال حال الإقامة والأسفار، نفعه يلحق الأحياء في دنياهم والأموات في لحودهم، ((أو ولد صالح يدعو له)).
والرب سبحانه لا يعبأ بالعباد لولا دعاؤهم: قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [الفرقان:77]، بل إنه سبحانه ينادي عباده ليدعوه، ويطلب منهم أن يسألوه: ?دْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وَ?دْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا [الأعراف:56]، وينزل سبحانه إلى السماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله وعظمته حين يبقى ثلث الليل الآخر من كل ليلة، فيقول: ((هل من سائل يعطى، هل من داع يستجاب له، هل من مستغفر يغفر له)) ، و((من لم يدع الله سبحانه غضب عليه)).
لا تسألن بنيّ آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجَب
الله يغضَب إن تركتَ سؤاله وبنيُّ آدم حين يُسأل يغضب
فيا أيها الصائمون، أكثروا الدعاء، وألحوا في الطلب، وثقوا بعطاء الله، فإنه لا مكره له، واعلموا أن أعجز الناس من عجز عن الدعاء.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاهٍ، ومروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإن رسولكم قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمُرن بالمعروف ولتنهُون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتَدْعُنَّه فلا يستجيب لكم)) رواه أحمد والترمذي عن حذيفة رضي الله عنه وحسنه الألباني.
واعلموا أن إجابة الدعاء تستلزم شروطًا في الداعي والدعاء والمدعو به.
فمن شرط الداعي أن يعلم أن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره.
يا ربّ عفوك ليس غيرُك يُقصد يا من له كل الخلائق تصمد
أبواب كل مُمَلَّكٍ قد أوصدت ورأيت بابك واسعًا لا يوصد
ومن شرطه أن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، وأن يكون مجتنبًا أكل الحرام، وأن لا يمل من الدعاء ولا يستعجل.
ومن شرط المدعو به أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعًا، فلا يجوز أن يدعو بإثم أو قطيعة رحم، ويدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم.
وأما شروط الدعاء فقال سهل بن عبد الله التُسْتَري: "شروط الدعاء سبعة: التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال".
قيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟! قال: "لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس".
اللهم إنا نسألك قلبًا خاشعًا ولسانًا ذاكرًا وعينًا دامعة ودعاءً مستجابًا.
[1] تفسير القرآن الكريم (الفاتحة والبقرة) (2/344).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4010)
النصر قادم
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
20/12/1423
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله عز وجل بنصر دينه في كتابه وعلى لسان نبيه. 2- قد يكون البلاء نعمة. 3- كيف تكون نصرة الله عز وجل؟
_________
الخطبة الأولى
_________
تعيش أمة الإسلام في هذه الأيام مرحلة حرجة وفترة عصيبة، تتجرع فيها ألوانًا وأصنافًا من الذلة والهوان، قلما مر أو يمر عليها مثلها، فأمم الكفر ترميها عن قوس واحدة، وكان عداؤهم قبل اليوم تلميحًا، فأضحى الآن تصريحًا، ومع ذلك فإنك ترى كثيرًا من المسلمين لا يزالون يستدرون عطف أعدائهم ويسترضونهم ويستجدونهم ويتوددون إليهم.
لقد تاهت أمة الإسلام في ظلمات بحر لجّي، من ضعف الدين والتوحيد والبعد عن هدي القرآن، يغشاه موج من حبّ الدنيا وكراهية الموت، من فوقه موج التفرّق والتناحر، من فوقه سحابُ التودّد إلى الكافرين والاغترار بحضارتهم الساقطة، ظُلُمَـ?تٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ، وصدق الله: وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40].
ورغم كل تلك المصائب والكروب التي تحلّ بأمة الإسلام في شتى بقاع المعمورة فإنها يقينًا زائلة منقشعة مهما اشتدّت، ولا بد أن يتلوها نصر من الله وعز للإسلام والمسلمين، نسأل الله أن يعجّل به، وهل تنشق دياجير الليل وحَنَادسه عن فجر باسم وضاء إلا بعد أن تشتد ظلمتها وتزداد حُلكتها؟!
لقد مضت سنة الله التي لا تتبدّل ولا تتغير أن هذا الدين هو المنتصر أخيرًا، طال ليل الباطل أم قصر، ومهما تقدّم العدو وتطوّر عسكريًا وتقنيًا وفكريًا، فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ?للَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
يقول الله عز اسمه: يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَيَأْبَى? ?للَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [التوبة:32]، ويقول جل شأنه: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا ?لْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ ?لْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ ?لْغَـ?لِبُونَ [الصافات:171-173].
وعن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((بشّر هذه الأمة بالسَّناء والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض)) رواه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه الألباني، وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)) رواه مسلم، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)) رواه مسلم، وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعِزِّ عزيز أو بذل ذليل، عزًا يُعِز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر)) رواه أحمد.
فينبغي للعبد المسلم في خضم هذه الأحداث المُدْلَهمة والتداعيات الخطيرة أن يثق بوعد الله بالنصر، وَمَا ?لنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ?للَّهِ [آل عمران:126]، وعليه أن ينأى بنفسه عن مستنقعات اليأس والقنوط؛ فإن نصر الله قادم ولو كره الكافرون، أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، فلما كان الفرج عند الشدة وكان النصر بقدر الشدة وكان الأمر كلما ضاق اتسع قال الله: أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ ؛ فيجيء الفرج من الله، وتنقلب المحنة منحة، وتتبدل المشقات راحات، ويتنزل النصر فينهزم الأعداء، ويُشْفَى ما في القلوب من الداء، ويقول الله سبحانه: حَتَّى? إِذَا ?سْتَيْئَسَ ?لرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ مَن نَّشَاء [يوسف:110].
فعلى العبد أن يحسن ظنه بربه ويعلمَ ((أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا)) رواه أحمد.
إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما به الصدر الرحيب
وأوطأت المكاره واطمأنّت وأرست في أماكنها الخطوب
ولَم تر لانكشاف الضرّ وجهًا ولا أغنَى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث يمنّ به اللطيف المستجيب
كذاك الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب
ومهما تلاحقت الخطوب وتتابعت فإن نصر الله قريب وكيد الشيطان ضعيف والعاقبة لجند الله، فَأَمَّا ?لزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ?لنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ?لأرْضِ [الرعد:17]، وقد كتب الله: لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ?للَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
وحسبك ـ يا عبد الله ـ من هذه المحن التي تحل بالمسلمين نعمة تمحيص الذنوب وفضح عدوهم وظهور صورته الحقيقية لهم، خاصة أمام المنخدعين به اللاهثين وراءه، لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى? مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ [الأنفال:42].
لقد ظهر زيف شعارات أعداء الدين التي ينادون فيها، بما يسمونه الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، فها قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:117].
إن كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، والله سبحانه ناصر دينه وأولياءه وهازم أعداءه أولياء الشيطان.
عباد الله، لقد قضى الله أنّ ذلكم النصر سيتحقق على أيدي أوليائه المتقين وحزبه المفلحين المؤمنين الصادقين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فهلاّ اجتهدنا في أن نكون منهم؟! وَ?للَّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء [آل عمران:13].
فهنيئًا لمن اختاره الله واصطفاه ليكون جنديًا من جنود الدين الذين يجعل الله نصرة دينه على أيديهم؛ وإن لم يكن بيننا من هو كذلك فليجتهد المرء أن يجعل في بنيه وذريته من يشرفه الله بذلك الشرف، وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
عباد الله، لقد أخبر الله تعالى في غير ما موضع من كتابه أنه ينصر من نصره ونصر دينه، يقول تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، ويقول عز اسمه: وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].
ونصرة دين الله تتحقق من خلال قول الله تعالى: ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [الحج:41]، وقوله تعالى: وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55].
فمن جمع تلك الخصال وحصّلها نصر دين الله، والله قد وعد ـ والله لا يخلف الميعاد ـ أن ينصر من نصر الدين، فيا ليت قومي يعلمون.
إذا صدق العبيد ربهم وامتثلوا أمره واجتنبوا نهيه ثم سألوه النصر واستغاثوه وطلبوا منه العون والمدد والتأييد فإن النصر يتنزل عليهم من عنده، وَهُوَ خَيْرُ ?لنَّـ?صِرِينَ [آل عمران:150]، ويمدهم سبحانه بجنوده التي لا يعلمها إلا هو، وحينئذ فلن يقف أمام جند الله كلّ قوى الباطل مهما بلغ عددها وعُددها، وستتهاوى أمام التأييد الإلهي كلّ الأرقام الفلكية والحسابات الضوئية في رصيد القوة الكافرة، إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4011)
لماذا سقط المسلمون؟
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
23/10/1423
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب قيام الحضارة الإسلامية السابقة. 2- بُعد المسلمين عن دين الله عز وجل سبب ما حل بهم من البلايا. 3- تصحيح العقيدة والرجوع إلى الدين القويم سبب نصر هذه الأمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
حين انتصر المسلمون على الروم في وقعة اليرموك وقف ملك الروم يسائل فلول جيشه المنهزم والمرارة تعصر قلبه والغيظ يملأ صدره والحنق يكاد يذهب عقله: ويلكم، أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم، أليسوا بشرًا مثلكم؟! قالوا: بلى أيها الملك، قال: فأنتم أكثر أم هم؟ قالوا: بل نحن أكثر منهم في كل موطن، قال: فما بالكم إذًا تنهزمون؟! فأجابه عظيم من عظماء قومه: إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل ويصومون النهار ويوفون بالعهد ويتناصفون بينهم.
ولقد صدق وهو كذوب. إن تلكم السجايا العظيمة والخصال الكريمة كانت هي أسباب ذلك العز والمجد التليد، وكانت هي نفس الأسباب التي صنعت ملحمة الجهاد الكبرى، ورسمت أقواس النصر الباهرة، وأقامت حضارة الإسلام العالمية، ومكنت المسلمين من رقاب عدوهم حتى دانت لهم الأرض وأهلها، وأتتهم الدنيا وهي راغمة.
هذه الخصال الرفيعة هي التي انتقلت بأسلافنا تلك النقلة الضخمة، من عتبات اللات والعزى إلى منازل إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ حيث الأرواح المتطلعة إلى السماء والنفوس السابحة في العلياء.
تلك السجايا هي التي صنعت أبطالاً لا كالأبطال، ورجالاً لا كالرجال، خَطُّوا بدمائهم الزكية صفحات أمتهم الماجدة.
ثم تغيرت الحال، وهوت الأمة من عليائها؛ لتستقر في غبرائها، وكم يتألم المسلم الغيور على أمته وهو يرى زمام القافلة ينتقل إلى غيرها بعد أن كان في يدها.
كم صَرَّفَتنا يد كنا نُصَرِّفها وبات يملكنا شعب ملَكناه
إن الخصوم والأعداء لم ينالوا ما نالوا بسموهم ورفعة أخلاقهم، ولكن ـ والله ـ بتخاذلنا وبعدنا عن منهج ربنا، أَوَلَمَّا أَصَـ?بَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى? هَـ?ذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
إن كثيرًا من المسلمين اليوم قد مالوا عن الجادَّة، وأصبحوا لا يحملون من الإسلام إلا اسمه، تراهم يدّعون الإسلام والإيمان وهم أبعد الناس عن ذلك؛ احتفالات بالموالد وأعياد الكفار وبناء على القبور وحج للأضرحة واحتكام إلى غير شرع الله، عقائدهم تغرق في أوحال الخرافة، وتصرخ من تفاقم البدعة.
تهالك على المادة، وطمع في المغانم، وإقبال على الدنيا، ونسيان للآخرة، وحين تنزل بهم نازلة أو تحل بهم مصيبة فعند القبور الملتجى وإليها المشتكى عياذًا بالله.
أما تحكيم غير شرع الله فيعدّه الكثيرون ممن يزعم الإيمان مظهرًا من مظاهر التقدم والمدنية، وبابًا إلى الحضارة والانفتاح والعولمة.
لقد أعرض هؤلاء عن قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى ?لَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى ?لطَّـ?غُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ ?لشَّيْطَـ?نُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَـ?لاً بَعِيدًا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى? مَا أَنزَلَ ?للَّهُ وَإِلَى ?لرَّسُولِ رَأَيْتَ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا [النساء:60، 61].
قال ابن كثير: "هذا إنكار من الله عز وجل على من يدّعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، وهذه الآية ذامة لمن عَدَل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل، وهو المراد بالطاغوت هنا" اهـ.
ويقول ابن القيم: "لمّا أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليها واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما عرض لهم فساد في فِطَرهم وظلمة في قلوبهم وكَدَر في أفهامهم ومحق في عقولهم، فإذا رأيت هذه الأمور قد أقبلت وراياتها قد نُصبت وجيوشها قد رُكبت فبطن الأرض ـ والله ـ خير من ظهرها، ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس" اهـ، ولكأنه ـ والله ـ ينظر إلى حالنا اليوم؛ فسدت فطر كثير من الناس وأظلمت قلوبهم، فإلى الله المشتكى.
عباد الله، لقد أخبر رسول الله وهو الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، أخبر عن حال أمة الإسلام اليوم، فقال فيما رواه أبو داود وغيره بسند حسن عن أبي هريرة: ((توشك أن تداعى عليكم كما تداعى الأَكَلَة إلى قَصْعَتها))، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟! قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوَهْن))، قال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
والناظر إلى أحوال المسلمين اليوم يجد هذه السمة هي الغالبة على أكثر الناس، فليعلم أولئك وغيرهم أن الله لن يمكّن للمسلمين في الأرض حتى يصلحوا من حالهم ويرجعوا إلى دينهم، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
لقد وعد الله عباده بالنصر والتمكين إذا هم صححوا عقيدتهم وأصلحوا حالهم بالرجوع إلى كتاب ربهم وسنة نبيهم : ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، وَعَدَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ?لأرْضِ كَمَا ?سْتَخْلَفَ ?لَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ?لَّذِى ?رْتَضَى? لَهُمْ وَلَيُبَدّلَنَّهُمْ مّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئًا [النور:55]، وَلَيَنصُرَنَّ ?للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِى ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [الحج:40، 41].
إن سلفنا الصالح حين حققوا شرائط هذه الآيات تحقق لهم مضمونها وما وُعدوا فيها. حينما حققوا التوحيد الصافي والإيمان الخالص ونصرة الله بإقامة شرعه صَدَقهم الله وعده، فنصرهم وثبت أقدامهم ومكّن لهم واستخلفهم في الأرض وأبدلهم من بعد خوفهم أمنًا. كانوا لا يرهبون الأعداء، ولا يخافون من قواهم المادية، يقابلون عَددهم بالشجاعة، وعُددهم بالإيمان والثقة بنصر الله.
وحينئذ تتهاوى أمام ذلك كله كل الأرقام والحسابات والمعادلات المادية والبشرية، إِن يَنصُرْكُمُ ?للَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا ?لَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160].
فلنَعُد ـ عباد الله ـ لربنا، ولنكن صادقين في عودتنا، صادقين في عقيدتنا، صادقين في عبادتنا، صادقين في تعاملنا.
إننا إن فعلنا ذلك مكّن الله لنا كما مكّن للذين من قبلنا، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ إِنَّ فِى هَـ?ذَا لَبَلَـ?غًا لّقَوْمٍ عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:105، 106]، إِنَّ ?لأرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4012)
واجبنا تجاه الفتن (1)
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
30/10/1423
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختلال الموازين والتباس الحقائق عند الفتن. 2- عموم الفتن. 3- الواجب على المسلمين فعله حال حدوث الفتن. 4- حث النبي صحابته على تجنب الفتن وعدم الخوض فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد أمر الله عباده أن يستقيموا على شرعه القويم، ويلتزموا صراطه المستقيم الذي لا يضل سالكه؛ لأنه طريقٌ واضح لا لبس فيه، ومستقيمٌ لا التواء فيه، وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
فصراط الله المستقيم هو كتابه الكريم وهدي رسوله الأمين الذي سار عليه، وربّى عليه أصحابه، ووجّه أمتَه إلى السير عليه والعمل وِفقَه في الاعتقاد والعمل، دون غلو ولا جفاء، ومن غير إفراط ولا تفريط، وإنما وسطٌ واعتدال، وتلك فضيلةٌ عظمى امتازت بها شريعة الإسلام الحنيفية السمحة، وهو الحق والعدل الذي يجب أن يُسلك ويُنهج، كما قال سبحانه: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112].
وإن من صدق الإيمان ودلائل التوفيق أن يستقيم المرء على دين الله وشرعه أيام حياته وعلى كل حالاته، في حال السراء والضراء، وفي حال الشدة والرخاء، فيكون عابدًا شاكرًا لله في حال السراء، وصابرًا محتسبًا في حال الضراء، ملتزمًا نهج رسول الهدى الذي سار عليه، ووجَّه أمته إليه، إذ ما من خير إلا دل الأمة عليه، ولا شرٍّ إلا حذرها منه، ولم ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى أكمل الله تعالى به الدين وأتمّ به النعمة على الخلق أجمعين، حتى ترك أمته على المحَجَّة البيضاء الواضحة.
لقد أخبر عليه الصلاة والسلام بما يكون في الأمّة بعده إلى قيام الساعة من تفرّق واختلاف ونزاع وشقاق، ينشأ عنه فتنٌ عظمى ومحنٌ كبرى، يوقد نارَها ويُذكي جذوتَها أعداءٌ متربّصون وكفرةٌ حاقدون أو جهلةٌ قاصرون منحرفون عن منهج الحق والعدل، فتتأجّج نار الفتن في الأمة، وتشتدّ ضراوتها، ويستشري ضررها، ويتفاقم خطرها، ويَجلّ خطبها، وتلتبس عندئذ كثير من الحقائق، وتختلط كثير من المفاهيم، وتختلّ الموازين، ويهلك بسببها خلق كثير، ويحتار جرّاءها ذوو العقول والبصائر.
وهكذا شأن الفتن إذا عظمت في الأمة؛ كما وصفها بذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: (تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية، فتزيغ قلوب بعد استقامة، وتضلّ رجال بعد سلامة، وتختلف الأهواء عند هجومها، وتلتبس الآراء عند نجومها، من أشرف له قَصَمَته، ومن سعى فيها حطمته، تغِيض فيها الحكمة، وتنطق فيها الظلمة، وتُثْلِم منارَ الدين، وتنقض عقد اليقين، تهرب منها الأكياس، وتدبّرها الأرجاس، مِرْعادٌ مِبْراق، كاشفة عن ساق، تقطَّع فيها الأرحام، ويفارَق عليها الإسلام). ثم يوجّه رضي الله عنه بعد ذلك إلى اجتناب الفتن فيقول: (فلا تكونوا أنصاب الفتن وأعلام البدع، والزموا ما عُقد عليه حبل الجماعة، وبُنيت عليه أركان الطاعة، وأقدموا على الله مظلومين، ولا تقدموا عليه ظالمين، واتقوا مدارج الشيطان ومهابط العدوان) اهـ.
فما أعظمه من وصف بليغ وبيان دقيق لحقيقة الفتن وواقعها، وما أجلّّها من نصائح صدرت من قلبٍ امتلأ إيمانًا ويقينًا وبصيرةً وعلمًا، ابتُلي بالفتن فخبرها، واصطلى بنارها فصبر عليها، وأبلى بلاء عظيمًا في القضاء عليها، وسنّ فيها للأمة سننًا باقيات إلى أن تقوم الساعة.
عباد الله، وما تزال الفتن في الأمة تظهر عبر عصور الإسلام بين الحين والآخر، حتى ابتليت أمة الإسلام بما يحدث الآن على الساحة العالمية من أحداث وتداعيات، وما أبرزته من فتن تلاطمت أمواجها ومحنٍ هاجت أعاصيرها، وطال بلاد الإسلام وأهلَ الإسلام منها عظيم الأضرار وبالغ الأخطار، حتى تحيَّر جراء ذلك ذوو الرأي والنُّهى والعارفون بمجريات الأحداث، وعسُر عليهم التنبُّؤ بما تؤول إليه الأحوال في مستقبل الأيام، واشتغل عامة الناس بالمتابعة والتحليل لما يسمعون ويقرؤون، واستغلَّ المُرْجِفُون هذه الأحداث ببثِّ الأكاذيب واختلاق الأباطيل وإشاعة الأراجيف، بالتوقعات والتكهنات التي لم تُبنَ على حقائق ثابتة، ولا تستند إلى معلومات موثقة، وإنما هي تخرّصات وأوهام، تُشيع في المجتمعات البلبلة، وتشغل العامة بما لا طائل تحته، وما هكذا يكون حال الأمة عند تأجج الفتن، ولا هكذا يكون شأن المسلم عند حلول المحن.
لقد حذر الله الأمة المسلمة إن هي خالفت ربها ونبيها وبعدت عن شريعتها أن يفتنها، قال تعالى: فَلْيَحْذَرِ ?لَّذِينَ يُخَـ?لِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فتنة عامة تشمل مختلف أنواع العقوبات، كانتشار القتل فيما بينهم أو الزلازل والبراكين أو تسلط السلطان الجائر عليهم أو ظهور أنواع من الأمراض أو الفقر أو الشدة في الحياة إلى غير ذلك.
وهذه الفتنة إذا نزلت فإنها تعم الجميع، فلا يستثنى منها أحد لقوله تعالى: وَ?تَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، يقول المفسرون في معناه: "واحذروا فتنة إذا نزلت بكم لم تقتصر على الظالمين خاصة، بل تتعدى إليكم جميعًا، وتصل إلى الصالح والطالح، أما الطالح فهي عقوبة لذنبه، وأما الصالح فلأنه سكت ولم ينكر على الظالم ظلمه".
إن الواجب على أمة الإسلام في مثل هذه الأحوال أن تراجع دينها، وتصحِّح مسيرتها، وأن تحكّم شرع الله على عباد الله في جميع الشؤون وعلى كل المستويات، وأن تعود إلى ربها، وتقبل على طاعته والإنابة إليه، وأن تكثر من الاستغفار والتوبة والتضرع إلى الله جل وعلا بأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، وأن يحفظ الإسلام وأهله من كيد الكائدين وشر الأعداء المتربصين، فإن ذلك من أسباب تنزل الرحمات الإلهية والألطاف الربانية وزوال الخطوب المدلهمَّة وارتفاع البلاء عن الأمة، كما قال عز وجل: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].
إن من الواجب على المسلمين زمن الفتن أن يكفوا عن الخوض فيها، وأن يُقبل كل فرد منهم على ما يعنيه أمرُه ويهمه شأنُه في خاصة نفسه من عبادات دينية وواجبات دنيوية، وأن يحفظ لسانه وسائر جوارحه عن الدخول في شيء من أمر الفتنة؛ إذ بهذا وجَّه رسول الهدى أمتَه، مبينًا عليه الصلاة والسلام أن العمل بذلك دليل سعادة المرء وتوفيقه، ومن أسباب نجاته وسلامته، فقد روى أبو داود بسند صحيح عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: وايم الله، لقد سمعت رسول الله يقول: ((إن السعيد لمن جُنّب الفتن، إن السعيد لمن جنِّب الفتن، إن السعيد لمن جُنّب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهًا)) ، وروى أيضًا بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: بينما نحن حول رسول الله إذ ذكر الفتنة، فقال: ((إذا رأيتم الناس قد مَرِجَت عهودهم وخفّت أماناتهم وكانوا هكذا)) وشبّك بين أصابعه، قال: فقمت إليه فقلت: كيف أفعل عند ذلك جعلني الله فداك؟ قال: ((الزم بيتك، واملِك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)) ، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن بين أيديكم فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي)) ، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ((كونوا أَحْلاَس بيوتكم)) أي: لازموا بيتكم. رواه أبو داود وسنده صحيح.
ووفق هذه التوجيهات النبوية سار أعلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام البصيرين، وأرشدوا الأمة إلى ذلك، فقد قال حذيفة بن اليَمَان رضي الله عنه وهو أعلم الأمة بأمر الفتن: (إياكم والفتن، لا يشخص إليها أحد، فوالله ما شخص فيها أحد إلا نسفته كما ينسف السيل الدِّمَن، فإذا رأيتموها فاجثموا في بيوتكم، وكسِّروا سيوفكم، واقطعوا أوتاركم، وغطوا وجوهكم)، وكذلك فعل عدد من خيار الصحابة كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما وغيرهما من أفاضل الصحابة الذين اجتنبوا الفتن، واعتزلوها في زمانهم، وحمدت الأمة صنيعهم، وعُدَّ ذلك من أعظم مناقبهم، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4013)
واجبنا تجاه الفتن (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الفتن
عبد الله بن عبد العزيز التميمي
الرياض
7/11/1423
الأمير حسن بن عبد الله آل سعود
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العلماء هم مرجع الأمة عند الفتن. 2- جرأة بعض الناس على الفتوى. 3- الواجب حال الفتن الحذر من الشائعات ونشرها.
_________
الخطبة الأولى
_________
لما كانت الفتن تورث الفرقة والاختلاف بين الناس بسبب التباس الآراء حولها واضطراب الأفهام تجاهها ونظرًا لحيرة كثير من أولي الألباب في أمرها ـ فضلاً عن عامة الناس ـ كان الواجب على عامة المسلمين أن يكفوا عنها ألسنتهم وأيديهم، وأن يعلموا أن ما أصابهم بسبب ذنوبهم، فيرجعوا إلى ربهم ويتوبوا ويستغفروا لعلهم يرحمون.
وأما شأن الفتن من المنظور الشرعي فهو موكول إلى العلماء الراسخين في العلم، ويجب على الناس رد ذلك إليهم وعدم التقدم بين أيديهم، فهم مرجع الأمة في كل حال ومفزعها حين يحزبها أمر ذو بال، يقول الله تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ?لأمْنِ أَوِ ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِى ?لاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
يقول الشيخ ابن سعدي رحمه الله: "هذا تأديب من الله تعالى لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يَتَثَبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها..."، ثم يقول: "وفي هذا دليل لقاعدة مهمة، وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يوكل إلى من هو أهل لذلك، ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب للصواب وأحرى للسلامة من الخطأ" اهـ.
ولا غَرْوَ في ذلك، فالعلماء هم العارفون بشرع الله، المتفقهون في دينه، العاملون بعلمهم على هدى وبصيرة، الذين وهبهم الله الحكمة، وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].
إنك لتعجب أشد العجب من جرأة كثير من الناس على إصدار الفتاوى الشرعية وبصورة سريعة قطعية، وما عرِفوا بالعلم ولا مجالسةِ أهله، بل ويزيدون المصيبة ضررًا وإثمًا؛ فتجدهم يُخَطِّئون العلماء الراسخين، ويرفعون من منازلهم ويخفضون.
والأعجب أن جرأتهم هذه لم تدفعهم إلى الخوض في الأمور الطبية والمعمارية، تراهم لا يقبلون وصفة ولا دواء إلا من طبيب حاذق؛ ولا يشرع أحدهم في مشروع معماري إلا بعد رأي مهندس عارف؛ بل ويزجرون من تكلم في أمر الطب والبناء، وهو جاهل بذلك، فما كل هذا التناقض؟! أيحتاطون لأمر دنياهم ولا يحتاطون لأمر دينهم؟؟ إن هذا لشيء عجاب!!.
قال ابن رجب رحمه الله: "لو ادعى رجل معرفة صناعة من صنائع الدنيا؛ ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها، لكذّبوه في دعواه ولم يأمنوه على أموالهم، ولم يمكّنوه أن يعمل فيها ما يدّعيه من تلك الصناعة، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول ، وما شوهد قط يكتب علم الرسول ، ولا يجالس أهله ولا يدارسهم؟ فيا لله العجب! كيف يقبل أهل العقل دعواه ويحكّمونه في أديانهم، يفسدها بدعواه الكاذبة" اهـ.
ولك أن تتأمل ـ يا عبد الله ـ حال هؤلاء المتجرئين على الله تعالى القائلين عليه بغير علم؛ وتتأمل حال سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان؛ فإنهم مع علمهم وفقههم كانوا يتدافعون الفتوى ويتورعون عن أن يفتوا في المسائل؛ وإن أُلزم أحدهم بذلك عَلَته الرُحَضاء ـ أي العرق الكثير ـ خوفًا من الله تعالى؛ وجلس ينظر في المسألة وربما جمع إخوانه حتى تكون فتواه على علم وبصيرة.
عن نافع أن رجلاً سأل ابن عمر عن مسألة، فطأطأ رأسه ولم يجبه، حتى ظن الناس أنه لم يسمع مسألته، فقال له: يرحمك الله، أما سمعت مسألتي؟ قال: بلى، ولكنكم كأنكم ترون أن الله تعالى ليس بسائلنا عما تسألونا عنه، اتركنا يرحمك الله حتى نتفهم مسألتك، فإن كان لها جواب عندنا، وإلا أعلمناك أنه لا علم لنا به.
إن العلماء الراسخين هم أبصر الناس بالشر ومداخل الشر، يقول الله سبحانه في قصة قارون: وَقَالَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ ?للَّهِ خَيْرٌ [القصص:80]، فأهل العلم كانوا متميزين عن غيرهم؛ فهم بصراء بالخير وعلماء بالخير، لما رأوا الناس يتمنون مثل ما أوتي قارون؛ حذروهم من الشر وبينوا لهم الخير؛ وأن ثواب الله خَيْرٌ لّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا [القصص:80].
ولم يعرف أولئك الذين يريدون الحياة الدنيا أن العلماء على الحق، إلا حينما حلت عقوبة الله بقارون: وَأَصْبَحَ ?لَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِ?لاْمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ ?للَّهَ يَبْسُطُ ?لرّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ [القصص:82].
عباد الله، إن من الناس من يطالب العلماء بعمل من الأعمال هم عنه ممتنعون، وما امتناعهم عنه إلا لنظرهم في مآلات الأمور وعواقبها، إذ بعض الصالح قد يمتنع عنه العالم لما يؤدي إليه في المآل من المفاسد العظمى، والدين الإسلامي دين المصلحة، فلا يقر اعتبار مصلحة دنيا على حساب وقوع مفسدة عظمى.
وانظر ـ يا رعاك الله ـ إلى رأس النفاق عبدالله بن أبي، الذي ثبت نفاقه وعُرف باستهزائه بالله وبرسوله وبالمؤمنين، لقد كان قتله مشروعًا؛ بل واجبًا لردته، ومع ذلك امتنع النبي عن ذلك لما يفضي إليه قتله من المفاسد.. فحين قال المنافق: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز ـ يعني نفسه ـ منها الأذل ـ يعني رسول الله والمؤمنين ـ). فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال رسول الله : ((دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)) رواه الشيخان.
فظهر من هذا أن النبي امتنع عن قتل رأس النفاق، خشية أن يُتحدث عنه أنه يقتل أصحابه، مما قد ينفّر الناس عن الإيمان به، في وقت كانت الدعوة فيه في طور انتشارها، وهذا المحذور أعظم فسادًا من المصلحة المتحققة من قتل ذلك المنافق الخبيث.
ومما يجب على الناس أيضًا حين وقوع الفتن، الكف عن إذاعة الأكاذيب واختلاق الأباطيل، وإشاعة الشائعات التي ترجف بالأمة وتزيدها اضطرابًا، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـ?ذَا [النور:16].
إن هناك فئات وأصنافًا من الناس في كل مجتمع، قلوبها مريضة، وأرواحها ميتة، وذِمَمُها مهدرة، لا تخاف من الله، ولا تستحي من عباد الله، مهنتهم ووظيفتهم وهوايتهم نشر الشائعات في أوساط الناس، تتغذى على لحوم البشر، وترتقي على أكتاف وحساب غيرها.
وإن الموقف الصحيح من تلك الشائعات والأخبار، التي تنقل، هو التثبت والتحقق قبل قبول الخبر وقبل نشره، يقول الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6].
كم أقلقت الشائعات من الأبرياء؟ ?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ [آل عمران:173]، وكم آذت من عباد الله الأولياء؟ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْو?هِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15].
هل أوذي رسول الله بالقول، أشد من الأذى الذي ناله بسبب شائعة ذلك المنافق، الذي اتهم عرضه الشريف؟!
وهل كان تولي بعض المسلمين يوم أحد، وإلقاؤهم السلاح، إلا بسبب شائعة مقتل الرسول ؟!
وهل قُتل عثمان رضي الله عنه إلا بشائعة المنافقين التي افتروها عليه؟!
ولو قرأت التاريخ لوجدت صفحاته مليئة بشائعات غيرت حياة كثير من الناس، وربما ألغتها ودفنتهم تحت التراب.
عن سَمُرَة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق... )) ثم ذكر الحديث، وكان مما قال : ((فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكَلُّوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه، فيشَرْشِر شِدْقَه إلى قفاه، ومَنْخِرَه إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرُغ من ذلك الجانب، حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى)) ثم جاء خبره في آخر الحديث؛ حيث قال له الرجلان: ((فأن الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة فتبلغ الآفاق)) رواه البخاري.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/4014)
في ظلال الثقة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الثقة بالله. 2- نماذج حية من الثقة بالله عز وجل. 3- من مقتضيات الإيمان بالله تعالى الثقة به. 4- أنواع الثقة بالله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى كما أمر، واتركوا الفواحش ما بطن منها وما ظهر، وأعلموا أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار المقر، ي?أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
سنعيش ـ عباد الله ـ وإياكم في ظلال الثقة بأنواعها.
الثقة بالله ـ أيها الأحباب الكرام ـ هي خلاصة التوكل على الله، وهي قمة التفويض إلى الله، وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [غافر: 44].
الثقة ـ أيها المسلمون ـ هي الاطمئنان القلبي الذي لا يخالطه شك.
الثقة هي التسليم المطلق للملك جل وعلا، هي الاستسلام لله عز وجل؛ فهو الأعلم بما يصلحنا، وهو الأعلم بما ينفعنا وما يضرنا، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
الثقة بالله هي كما قال شقيق البلخي: "أن لا تسعى في طمع، ولا تتكلم في طمع، ولا ترجو دون الله سواه، ولا تخاف دون الله سواه، ولا تخشى من شيء سواه، ولا يحرك من جوارحك شيئًا دون الله"، يعني: في طاعته واجتناب معصيته. وقال بعض السلف: "صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء".
الثقة بالله تعالى هي التي شجّعت أم موسى، وفي ذلك يقول تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]؛ إذ لولا ثقتها بربها لما ألقت ولدها وفلذة كبدها في تيار الماء تتلاعب به أمواجه، وينطلق به الموج إلى ما شاء الله، لكنه أصبح في اليمّ في حماية الملك جلّ وعلا ورعايته، وما كان جزاء هذه الثقة العظيمة؟ قال تعالى: فرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون [القصص:13].
الثقة بالله نجدها جليّة عندما انطلق موسى ومن معه من بني إسرائيل هاربًا من كيد فرعون، وتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدونًا، فقال بنو إسرائيل وهم مذعورون مستسلمون: لا مهرب ولا نجاة إنا لمدركون؛ فرعون وجنوده من خلفنا والبحر من أمامنا، لكن موسى الواثق بالله وبمعية الله أراد أن يبعد الخوف والهلع ويضع مكانه السكينه والطمأنينة، فأجاب بلسان الواثق: قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، إن معي ربي يساعدني ويرعاني ويحفظني ولن يسلّمني، فما كان جزاء هذه الثقة العظيمة؟ جاء الفرج من الله جل وعلا: فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء:63]. ونجّى الله موسى وبني إسرائيل من كيد فرعون.
عباد الله، الثقة بالله تنجلي جليّة واضحة في سيرة نبينا محمد ، فهو سيد الواثقين بالله فبينما هو في الغار والكفار بباب الغار قال أبو بكر خائفًا: يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، فقال بلسان الواثق بالله: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا)). وعندئذ تنجلي قدره ذي العزة والجبروت؛ فيرد قوى الشر والطغيان، ويُسجِل القرآن هذا الموقف، قال تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40].
وفي عزوة الأحزاب نرى صورة المؤمنين الواثقين بربهم وبتأييده وعونه، قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
ها هو النبي يلقن الأُمة درسًا في الثقة بالله، فيقول لابن عباس: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"، وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)).
إن المسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن ُيتركه ولن يُضيعه، إذا ما تخلى عنه كل من في الأرض فثقته بما عند الله أكبر من ثقته بما عند الناس.
والإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأنه لا حول لأيّ قوّة في العالم ولا طول لها إلا بعد أن يأذن الله. الإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأن هذا الكون وما فيه من أنواع القوى ما هي إلا مخلوقات مسخرة لله، تجري بأمر الله وتتحرك بقضائه وقدره، وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى? آمَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقا [الجن:13].
الواثق بالله تراه دائمًا هادئ البال ساكن النفس، إذا ادلهمت وزادت عليه الخطوب والمشاكل فهو يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولسان حاله: قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
عباد الله، من أنواع الثقة الثقة بالنفس، فعلى المسلمين أن يثقوا بأنفسهم ثقة ليس فيها خور ولا ضعف، قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، قال الألوسي: "فلا تهنوا ولا تحزنوا أيها المؤمنون؛ فإن الإيمان يوجب قوة القلب ومزيد الثقة بالله تعالى وعدم المبالاة بأعدائه".
الثقة بالنفس، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله. لماذا الخور والضعف والهوان؟! نحن الأعلون مبدأ، والأعلون سندًا، والأعلون منهجًا، ربنا الرب الكريم العظيم، ورسولنا النبي الرحيم، وكتابنا القرآن الحكيم.
ها هو إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وابنه في واد غير ذي زرع في صحراء خالية، لا ماء ولا طعام ولا جيران، فتقول زوجته: يا إبراهيم، لمن تتركنا؟! لمن تدعنا يا إبراهيم؟! فلم يجب، فقالت: يا إبراهيم، آلله أمرك بهذا؟ فأشار نعم، قالت: إذا لن يضيعنا. والكريم جل وعلا حقًا ما ضيّعهم.
قيل لإبراهيم بن أدهم: ما ِسر زهدك في هذه الدنيا؟ فقال: "أربع: علمت أن رزقي لا يأخذه أحد غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لا يقوم به أحد سواي فانشغلت به، وعلمت أن الموت لا شك قادم فاستعددت له، وعلمت أني لا محاله واقف بين يدي ربي فأعددت للسؤال جوابًا"، وقال عامر بن قيس: "ثلاث آيات من كتاب الله استغنيت بهن على ما أنا فيه: قرأت قول الله تعالى: وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ [الأنعام:17] فعلمت وأيقنت أن الله إذا أراد بي ضرا لم يقدر أحد على وجه الأرض أن يدفعه عني، وإن أراد أن يعطيني شيئًا لم يقدر أحد أن يأخذه مني، وقرأت قوله تعالى: فاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152] فاشتغلت بذكره جل وعلا عمّا سواه، وقرأت قوله تعالى: وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ [هود:6] فعلمت وأيقنت وازددت ثقة بأن رزقي الله لن يأخذه أحد غيري".
أسال جل وعلا أن يجعلنا وأياكم من أهل الايمان والتقوى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، إنه تعالى جواد كريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، ومن أنواع الثقة الثقة بثواب الله؛ فالمسلم يعتقد أن أي خطوة يخطوها في سبيل الله، أي تسبيحه أو تحميده أو صدقه أو حركة يتحركها لعز الإسلام فسيكتب الله له الأجر على ذلك، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120].
عباد الله، هل نحن واثقين كل الثقة فيما عند الله من جزاء وجنة ونعيم؟! إذًا لماذا لا نعمل لننال ذلك الجزاء؟! قال الربيع بن خيثم: "إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك في كتاب الله: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَـ?عِفْهُ لَكُمْ [التغابن:17]، وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
ومن أنواع الثقة الثقة بنصر الله، فالله وعدنا بنصره إن كنّا مؤمنين ونصرنا دينه ورفعنا رايته، فالمسلم يوقن بأن الله ناصره وناصر دينه مهما طال الزمن، ومهما قويت شوكة الباطل، قال تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، وقال تعالى: وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [الصافات:173]، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]، وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51].
هذا وصلوا وسلموا على المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله، فمن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشرا...
(1/4015)
مع الحافظين (1)
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, خصال الإيمان
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة العبد إلى مولاه. 2- احفظ الله يحفظك. 3- كيف يتم حفظ الله في الجوارح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله وراقبوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
سنقف وإياكم ـ عباد الله ـ مع الحافظين الذين مدحهم الله في كتابه: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112]، مع الذين حفظوا الله فحفظهم.
عبد الله، احفظ الله يحفظك، هذا واجبك، هذه مهمتك وذلك منته وفضله؛ أنت عبده وليس لك ربٌّ سواه، وهو سيدك ومولاك، ونجاتك في رضاه، وأنت الفقير إليه الحقير بين يديه، وهو الغني عنك المقتدر عليك فلن تعجزه في ملكه، وأنت في قبضته وتحت سطوته وجبروته ولن تغيب عن سمعه وبصره، وأنت في علمه وتمضي بعنايته ورعايته ولن تستغني عنه، وأنت من خلقه وتأكل من رزقه وتتقلب في نعمته، فأنت إما إلى غضبه ونقمته وذلك من تمام عدله، أو إلى رحمته ومنته وذلك من كمال فضله.
احفظ الله يحفظك؛ احفظ الله يعني: حفظ حدوده وأوامره ونواهيه، فأوامره بالالتزام بها ونواهيه بالاجتناب وحدوده بالوقوف عندها، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه جل وعلا، فقال تعالى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ [ق:33، 32]، وقال تعالى: التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة:112].
عبد الله، احفظ الله بطاعته يحفظك من معصيته، احفظ الله بأكل الحلال يحفظك من الحرام، احفظ الله بصحبة الصالحين يحفظك من الطالحين، احفظ الله يحفظك في العاجلة والآجلة، احفظ الله يحفظك من كل شبهة وشهوة، من حفظ الله في صباه حفظه الله عند ضعفه وقوته، من حفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى حفظه الله، من حفظ ما بين فكيه وفخذيه حفظه الله. احفظ الله يحفظك، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].
اسمع إلى وصية النبي لابن عباس، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي يومًا فقال: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"، وفي رواية غير الترمذي: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك)).
احفظ الله في إيمانك، واعلم أن الله لم يخلقك عبثا ولن يتركك سدى، أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون: 115]، إنما خلقك ـ يا عبد الله ـ لغاية عظيمة ومهمة جسيمة، ألا وهي عبادته التي هو في غاية الغنى عنها وأنت في أمس الحاجة إليها، وأيّ شرف أعظم وأي مكانة أرفع من أن تكون عبدًا لله؟!
ومِمَّا زادنِي شرفًا وتيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثريّا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيّرت أحمدَ لي نبيًّا
احفظ الله في صلاتك فإنها الفيصل بين الإسلام والكفر، وأداؤها علامة الهداية، وتركها علامة الغواية والضلالة، فهي الصلة بين العبد وربه، فإذا تركت انقطعت الصلة، ولا يبالي الله في أي واد هلك تاركها. أمرنا الله بحفظها والمحافظة عليها بقوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، وقال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون:9]، وقال : ((من حافظ عليهن كنّ له نورا ونجاة يوم القيامة)).
أخي المسلم، ستكون من الحافظين للصلاة بثلاث: أن تؤدّيها في وقتها، وتكون في جماعة، وتؤديها بخشوع وسكينة.
احفظ الله في طهارتك؛ فإن الوضوء أمانة والغسل أمانة، قال : ((لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)). فيا عبد الله، كن متطهرا طاهرا يحفظك الله من شياطين الأنس والجن.
ولا تنس أن تذكر الصحابي الجليل بلال بن رباح حين قال النبي له: ((يا بلال، إني أسمع دف نعليك في الجنة، فما أرجى عمل عملته في الإسلام؟)) ، قال: يا رسول الله، ما أحدثت في ساعة من نهار إلا توضأت، وما توضأت إلا صليت بذاك الوضوء ركعتين. الله أكبر، أين المشمّرون للجنان ولرضا ربهم المنان؟!
احفظ الله في جارحة النظر؛ فلا تقلب البصر فيما حرم الله، ولا تتبع به عورة مسلم؛ فإنه من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره.
احفظ الله في بصرك فلا تنظر إلى امرأة لا تحلّ لك من أولئك النساء المتبرجات اللائي نزع منهن الحياء وكشفن الغطاء وعرّين أجسادهن وأصبحن مطمعا لكل فاجر، مبتذلات لكلّ ناظر، فهن كاسيات عاريات مائلات مميلات، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها.
فيا عبد الله، لا تتبع النظرة النظرة؛ فإن الأولى لك والثانية عليك، قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30].
كلّ الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت فِي قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
يسرّ ناظره ما ضرّ خاطره لا مرحبًا بسرور عاد بالضّرر
احفظ الله في سمعك فلا تسمع به ما حرم الله، نزه سمعك عن كلّ ساقط من القول وقبيح من الحديث، فإنه عارية مستردَّة ونعمة مستوفاه، وأنت مسؤول عنها يوم القيامة، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
أخي، احذر كل الحذر من أن تصغي بسمعك للمعازف والغناء؛ فإنها تصدّ عن ذكر الله، وتزين للمحرمات، وتغري بارتكاب الموبقات، وتفقد الإنسان مروءته وعدالته ورجولته، فهي رقية الزنا ومهاد الفاحشة، تقود إلى البلية وتوقع في الرزية.، فيسقط العبد بها في غضب الله، وتوقعه فيما لا يحمد عقباه.
احفظ الله في فرجك فلا تقضي وطرك في فرج لا يحلّ لك، وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]. عبد الله، كن من الحافظين لفروجهم، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المؤمنون:5].
احفظ الله في عقلك فلا تغطّه بالمسكرات، ولا تحجبه بالمخدارت، ولا تتلفه بالخمور، قال تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 90]، وقال : ((لا تشرب الخمر فإنها مفتاح كل شر)) ، وقال : ((من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب)). وشارب الخمر إن لم يتب يسقى من ردغة الخبال وهي عصارة أهل النار.
احفظ الله عند نومك. عبد الله، هل تريد أن تنام في حفظ الله ورعايته؟ نم على طاعة وذكر، ولا تنم على معصية، واقرأ آية الكرسي والمعوذات وامسح بهم على جسدك، وادع الله وقل: بسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي أنه أمره أن يقول عند منامه: ((إن قبضت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) ، وجاء في حديث عمر أن النبي علمه أن يقول: ((اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، واحفظني بالإسلام راقدا، ولا تطمع فيَّ عدوا ولا حاسدا)).
عبد الله، كي تكون في حفظ الله ورعايته طوال اليوم ما عليك إلا أن تصلّيى الفجر جماعة، فقد قال النبي : ((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله)).
احفظ الله في زوجتك وبناتك؛ فأنت راع ومسؤول عن رعيتك، فألزمهن بالستر والعفة والطهارة، فالمرأة الصالحة مملكتها بيتها، المرأة الشريفة ليست بالولاّجة الخرّاجة المخالطة للأجانب المزاحمة للرجال، فتقع عرضة لذئاب البشر ينهشون أغلى ما فيها ثم يلقونها تحت أقدامهم، وما ذلك إلا لأنها خالفت أمر ربها وعصت رسولها، ولم تحافظ على نفسها وخرجت من بيتها بغير محرم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
احفظ الله في أولادك وعلّمهم آداب الإسلام وسنة رسوله ، جنبهم بؤر الفساد ومسببات الانحراف، وأحطهم بسياج الرفقة الصالحة، وحفّظهم القرآن الكريم، وعلّمهم السنة، وأطعمهم الحلال، فإنهم يصبرون على جوع الدنيا ولا يصبرون على نار جهنم.
وينشأ ناشئ الفتيان منّا علَى ما كان عوّده أبوه
واعلموا: أن الله قد يحفظ العبد بصلاحه بعد موته في ذريته كما قال تعالى في سورة الكهف: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [الكهف:82] أي: أنهما حفظا بصلاح أبيهما. روي أن سعيد بن المسيب قال لابنه: "لأزيدنّ في صلاتي رجاء أن أحفظ فيك"، ثم تلا هذه الآية من سورة الكهف.
حفظ الله في قدمك فلا تمش إلى حرام، ولا تخط بها إلى خطيئة، وإياك إياك أن تحملك هذه الأقدام إلى كاهن أو ساحر أو مشعوذ، فمن ذهب إلى منجم أو مشعوذ لا تقبل منه صلاته أربعين يوما، ومن صدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ، هذا ما صحّ عن النبي المصطفى. وإياك إياك أن تحملك قدمك إلى دعاة المعصية ودعاة الفاحشة فتضل وتزيغ.
احفظ الله في بطنك فلا تأكل أموال الناس بالباطل، ولاتغذيه إلا بطريق الحلال، والله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وأمرنا أن نأكل من الطيبات.
احفظ الله في بطنك فلا تأكل مال اليتيم، ولا تأخذ مالك عن طريق الرشوة، فقد قال النبي : ((لعن الله الراشي والمرتشي والرائش بينهما)). ومالك ستسأل عنه يوم القيامة: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟
احفظ الله في لسانك فإنه صغير الحجم عظيم الجرم، وقد أوكل الله بك من يسجل كل كلمة، قال تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18].
فيا عبد الله، لا تتكلم بالغيبه والنميمة والسخرية والاستهزاء، ولا تطعن في مسلم، ولا تلعن مؤمنًا؛ فالمؤمن ليس بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش البذيء، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!
احفظ الله في أَيمانِكَ فلا تكثر الحلف وعظّم الله، قال الشافعي: "ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا تعظيما لله عز وجل".
احفظ الله في أيمانك فلا تحلف بغير الله، لا تحلف بالأمانة فقد قال : ((من حلف بالأمانة فليس منا)) ، ولا تحلف بالطلاق قال : ((من كان حالفا فليحلف بالله أوليصمت)).
أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الحافظين المحفوظين بحفظ الله ورعايته.
هذا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/4016)