من حسن الإسلام
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, خصال الإيمان
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
16/1/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل حرص المسلم على دينه. 2- عظم حديث: ((من حسن إسلام المرء)). 3- صور من اشتغال المرء بما لا يعنيه. 4- السبيل لترك المرء الاشتغال بما لا يعنيه. 5- أهمية حفظ اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله فتقوى الله خيرُ زادٍ في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
أيّها المسلِمون، إنّ حرصَ المرءِ على سلامةِ دينه وحسنِ إسلامه وصِحّةِ إيمانه دليلٌ ظاهر وآية بيِّنة وبرهان شاهدٌ على رجاحةِ عقلِه واستقامة نهجِه وكمالِ توفيقِه، فدينُ المسلم ـ يا عبادَ الله ـ هو دليلُه وقائده إلى كلِّ سعادةٍ في حياته الدّنيا وإلى كلِّ فوز ورفعةٍ في الآخرة بما جاءَ فيه من البيِّنات والهدى الذي يستعصِم به من الضّلال وينأَى به عن سبلِ الشقاءِ ومسالك الخيبةِ والخسران.
ولقد أرشَدَ رسول الله وهو الحريصُ على كلِّ خير لأمّته الرؤوفُ الرحيم بها، أرشد إلى أدبٍ جامع وخَصلة شريفة وخلَّة محمودة وخُلُق كريم يحسُن به إسلام المرء ويبلُغ به الغايةَ من رضوان الله، وذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذيّ وابن ماجَه في سننهما وابن حبانَ في صحيحه بإسنادٍ حسن عن أبي هريرةَ عن رسولِ الله أنه قال: ((مِن حُسن إسلامِ المرء تركُه ما لا يعنيه)) [1].
وهذا الحديثُ ـ كما قال الإمام الحافظُ ابن عبد البر رحمه الله ـ مِنَ الكلام الجامِع للمعاني الكثيرةِ الجليلة في الألفاظِ القلِيلة، وهو مما لم يقُله أحد قبلَه ؛ لأنَّ مَن حسُن إسلامه ترَك ما لا يعنيه من الأقوالِ والأعمال، إذِ الإسلامُ يقتضي فعلَ الواجبات وتركَ المحرمات، وإذا حسُن الإسلام استَلزَم ذلك تركَ ما لا يَعني من المحرَّمات والمشتبِهات والمكروهات وفضولِ المباحات وهي القدرُ الزائد على الحاجةِ، فإنَّ هذا كلَّه لا يَعني المسلمَ إذا كمُل إسلامه وبَلغَ درجةَ الإحسان الذي أوضَحَ رسول الله حقيقتَه في حديث عمرَ بنِ الخطاب في سؤال جبريلَ عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: ((أن تعبدَ الله كأنّك تراه، فإن لم تكُن تراه فإنّه يراك)) أخرجه مسلم وغيره [2] ، ومَن عبَد الله على استحضار قُربِه من ربِّه أو قربِ ربّه منه فقد حسُن إسلامه، ولزِم من ذلِك أن يترك كلَّ ما [لا] يعنِيه في الإسلامِ واشتَغَل بما يعنيه من صحّةِ اعتقادٍ وكمال إيمان وصلاحِ عملٍ وطَلَب ما هو من ضروراتِ معاشه لا قيامَ لحياته بدونِه مِن ألوانِ المباحات، وعلى العكسِ مِن ذلك من أضاعَ نفائسَ الأوقات فيما لم تُخلَق له باشتِغاله بما لا يَعنيه، فانصَرَف به عمّا ينفعه ويرتفِع بمقامِه ويبلُغ به صحيحَ الغايات وشريفَ المقاصد وكريمَ المنازِل، فخسِر هنالك خسرانًا مبينًا.
ألا وإنَّ من اشتغال المرءِ بما لا يَعنيه تعلّمَ ما لا يهمّ من العلومِ وتَركَ الأهمِّ منها مما فيه صلاحُ قلبه وتزكيةُ نفسه ونفعُ إخوانه ورَفعُ شأن وطنِه وأمّته، ومنه أيضا عدَمُ حِفظ اللسان عن لغوِ الكلام وعن تتبُّع ما لا يهمّ ولا ينفَع تتبُّعه من أخبار الناسِ وأحوالهم وأموالهم ومِقدارِ إِنفاقهم وادِّخارهم ومن إحصاءِ ذلك عليهم والتنقيبِ عن أقوالهم وأعمالهم داخلَ دورهم وبين أهليهِم وأولادهم، بغَير عرضٍ شرعيّ سِوى الكشفِ عمّا لا يعني من خاصِّ أمورهم وخفيِّ أمورهم.
ومن ذلكَ أيضًا ـ يا عبادَ الله ـ تكلُّمُ المرء فيما لا يحسِنه ولا يتقنه ممّا لم يعرَف له تخصّصٌ فيه ولا سابِق إلمامٍ أو خِبرة به، ولم يكن مطلوبًا منه التحدُّث أو إبداء الرأيِ فيه، وما ذلك إلاّ لطلبِ التسلِّي وإزجاءِ الوقتِ وإضاعتِه وتصدُّرِ المجالس وصرفِ الأنظار إليه، وقد يخرُج به ذلك إلى الخوضِ فيما لا يجوز الخوضُ فيه من أحاديث الفواحشِ والشّهوات ووصفِ العورات وقذفِ المحصَنات المؤمناتِ الغافلات ونشرِ قالَةِ السوءِ وبَثِّ الشائعاتِ والأكاذيب والأخبارِ المفتَريَات، وقد يجتَمع إلى ذلك وَلعٌ بما يسمَّى بالتّحليلات والتوقُّعات المبنيَّةِ في غالبها على الظنونِ والأوهام، وكلّ ذلك ممّا لا يصحّ تتبُّعه ولا الخوض فيه ولا الاستِنادُ إليه ولا الاغتِرار به ولا العمَلُ بمقتضاه.
ألا وإنَّ مما يعين على تركِ المرء ما لا يَعنيه تذكّرَ أنَّ الواجباتِ أكثرُ من الأوقات وأنَّ العمرَ قصير كما أخبر بذلك رسول الهدَى في الحديثِ الذي أخرجَه الترمذيّ وابن ماجه في سننِهما والحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرةَ وأنسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ أنه قال: ((أعمارُ أمّتي ما بين السّتِّين إلى السّبعين، وأقلُّهم من يجوز ذلك)) [3]. فمِثل هذا العُمر الذي لا يكاد يتَّسِع لما يلزَم ويجِب ـ كما قال بعض أهل العلم ـ أفيَتَّسع للفضول وما لا يعني؟!
والمرءُ أيضًا مسؤول عن عمُره: فيم أفناه؟ كما جاء في الحديث الذي أخرجَه الترمذيّ في جامعه بإسناد صحيحٍ عن أبي برزَةَ الأسلميّ أنه قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدَما عبدٍ يومَ القيامة حتى يسألَ عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن عِلمِه: ما فعل فيه؟ وعن مالِه: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جِسمه: فيم أبلاه؟)) [4].
ومَا يلفِظ الإنسان من قولٍ إلاّ وهو مسطَّر في صحائِفِه مجزيٌّ به؛ ليعلَمَ أنّ للكلمة مسؤوليةً وتَبِعَة كما قال عزّ من قائل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18]. وظاهِرُ الآيةِ ـ كما قالَ العلاّمة الحافظ ابن كثير رحمه الله ـ أنّ الملَكَ يكتب كلَّ شيءٍ من الكلام، ويؤيِّده عمومُ قوله سبحانه: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ؛ إذ هو شاملٌ لكلِّ قول.
وقد أخرَج مالك في الموطّأ وأحمدُ في مسندِه والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه في سننهم بإسنادٍ صحيح عن علقمةَ الليثيّ عن بلال بن الحارث أنه قال: قال رسول الله : ((إنّ الرجلَ ليتكلّم بالكلمةِ من رضوان الله تعالى، ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغت، يَكتب الله بها رضوانَه إلى يوم يلقاه. وإنّ الرجلَ ليتكلَّم بالكلمةِ مِن سخَط الله تعالى، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلَغَت، يكتُب الله عليه بها سخَطَه إلى يوم يلقَاه)) ، فكان علقمةُ الليثيّ يقول: كم من كلامٍ قد منَعَنِيه حديثُ بلال بن الحارث [5] ، أي: هذا الحديثُ وما فيهِ من الوعيدِ. أمّا حبُّ التصدُّر وصرفِ الأنظار فهو مقصودٌ مذموم وخَصلَة مرذولة، لا يجتَني من بُلِي بها سوى المقتِ مِن الله ومِن الذين آمنوا.
فاتقوا الله عبادَ الله، واعملوا على الاقتداء بالصّفوة من عبادِ الرحمن في ترك ما لا يَعني من الأقوال والأعمال؛ تكونوا مِن المفلحين الفائزين في جناتِ النعيم، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّةِ نبيِّه محمد ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذَنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2317)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (3976)، صحيح ابن حبان (229)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي إلا من هذا الوجه"، ثم أخرجه من طريق علي بن الحسين مرسلا وقال: "وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي نحو حديث مالك مرسلا، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة، وعلي بن حسين لم يدرك علي بن أبي طالب"، وممن رجح إرساله أحمد وابن معين والبخاري والدارقطني وابن رجب، انظر: جامع العلوم والحكم (1/287-288).
[2] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (8).
[3] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3550)، سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4236)، مستدرك الحاكم (3598)، وهو عندهم جميعا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقط، وأخرجه أيضا أبو يعلى (5990)، والبيهقي في الكبرى (3/370)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (2980)، والحاكم، وحسنه ابن حجر في الفتح (11/240)، وهو في السلسلة الصحيحة (757).
[4] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة (2417)، وأخرجه أيضا الدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد انظرها في السلسلة الصحيحة للألباني (946). تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي، والله أعلم.
[5] موطأ مالك (1848)، مسند أحمد (3/469)، سنن الترمذي: كتاب الزهد (2319)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (3969)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الذي يهدِي من يَشاء إلى صراطٍ مستقيم، أحمَده سبحانَه وهو البَرّ الرَّؤوفُ الرحيم، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شرِيكَ له، وأشهَد أنّ سيِّدنا ونَبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورَسوله صاحبُ النّهجِ الراشِد والخُلُق القويم، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلَى آله وأصحابه أفضل صلاةٍ وأتمَّ تسليم.
أمّا بعد: فيَا عبادَ الله، نقِلَ عن الحسنِ البصري رحمه الله قولُه: "من علامةِ إِعراض الله عن العبدِ أن يجعلَ شغلَه فيما لا يَعنيه" [1].
فعلى العاقلِ الذي يرجو الله والدارَ الآخرة أن يكونَ مقبِلا على شأنه، حافظًا للسانِه، بصيرًا بزمانه، وأن يعُدَّ كلامه من عملِه، فإنَّ مَن عدَّ كلامَه من عمَلِه قلَّ كلامُه إلاّ فيما يَعنيه؛ ذلك أنَّ أكثَرَ ما يُقصَد بترك ما لا يعني كما ـ قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله ـ حِفظُ اللسان عن لغوِ الكلام، وحَسبُه ضررًا أن يشغلَ صاحبَه عن ألوانٍ كثيرة من الخير الذي يسمو به مقامُه ويعلو به قدرُه وتشرُف به منزلته وتطيب به حياتُه وتحسُن به عاقِبته.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على ما ينفعكم في دنياكم وأُخراكم.
واذكُروا على الدّوَام أنَّ الله تعالى قد أمَرَكم بالصّلاة والسّلام على خاتَمِ النبيّين وإمَامِ المتّقين ورحمةِ الله للعالمين، فقالَ سبحانه في الكتابِ المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عبدك ورسولكَ محمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائِه الأربعة...
[1] اتظر: التمهيد (9/200)، وجامع العلوم والحكم (ص116). ونسب هذا الكلام للجنيد كما في صفة الصفوة (2/418).
(1/3814)
وأنيبوا إلى ربكم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التوبة, القرآن والتفسير
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
16/1/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال كثير من الناس مع الكتاب والسنة. 2- دعوة إلى التوبة والرجوع إلى الله قبل فوات الأوان. 3- حالنا وحال السلف الصالح. 4- ذم الحرص على الدنيا والرياسة. 5- واجب المسلمين تجاه إخوانهم الأسرى والمبعدين الذين تم الإفراج عنهم من سجون الاحتلال. 6- واجب المسلمين في داخل فلسطين وخارجها تجاه تهديدات اليهود الأخيرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:54- 61].
أيها المسلمون، إننا نعيش في زمان يأبى كثير من المسلمين فيه إلا التعرض للمزيد من سخط الله وغضبه واستحقاق عقوبته؛ وذلك بعدم الالتفاف حول تعاليم القرآن الكريم ومنهج السنة النبوية، فقد غدا القرآن الكريم والسنة النبوية يعيشان في المجتمعات الإسلامية في غربة تامة، لا ندري شيئا عما بين تعاليمهما إلا من رحم الله منا، وخصوصا فيما يتعلق فيهما بما يدل على قدرة الله تعالى على كل شيء، وعلى ما يجب له من التعظيم والتوقير، فالله تعالى له صفة الكبرياء والعظمة، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الحشر:23]، فأصبحنا نرى الكثير قد أعرضوا عن هذا القرآن الكريم الذي يهدي للتي هي أقوم، وهجروه بعدم تطبيق تعاليمه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه والاستعاضة عن ذلك بقوانين وضعيه لا تحقق السعادة للإنسان، ولا تضمن الهداية له، وباختصار لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم يكن حظ السنة النبوية بأقل من ذلك، وقد جاء في القرآن الكريم على لسان الرسول : وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
والأمر الذي يندى له الجبين وتقشعر له الأبدان ما نراه من تهالك عند البعض على الأمور الدنيوية، وفي مقدمتها الجاه والمنصب، متناسين ما تعيشه بلادنا وبلاد المسلمين من ظلم واضطهاد واحتلال، وكأن الأمور في طريقها إلى الحل إذا تسلمنا هذا المنصب أو ذاك.
إن العجب لا ينقضي من مثل هذه الأمور، أإلى مثل هذا الحد يصل المسلمون، وبخاصة العلماء والأكاديميين في عدم الاهتمام بأحوال هذه الأمة وبالنكبات المحيطة بها من كل اتجاه والتركيز على أعراض الحياة الدنيا؟! وإلى هذا الحد يصل الإعراض عن الحقائق الربانية والتوجهات النبوية، متناسين عذاب الله ومكره؟! وما أحداث الزلازل والهزات الأرضية المتتابعة عنا بعيدة.
أيها المسلمون، وفي ظل التيه والضلال يأتي الأمر الرباني إلى عباده الذين أسرفوا على أنفسهم بعدم القنوط من رحمته وبالإنابة والإسلام والعودة إلى ظلال الطاعة والاستسلام. هذا هو كلّ شيء بعودته إليه تعالى بلا مراسم ولا طقوس ولا وسطاء ولا شفعاء، إنه حساب مباشر بين العبد وربه، وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق.
من أراد الأوبة والرجوع من الشاردين والضالين فليؤب وليرجع، ومن أراد الاستسلام من العصاة فليستسلم فالباب مفتوح، وهيا هيا قبل فوات الأوان.
هيا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ، فما هنالك من نصير، هيا فالوقت غير مضمون، وقد يفصل الأمر وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار. هيا وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ، وهو هذا القرآن الذي بين أيديكم، مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. هيا قبل أن تتحسروا على فوات الفرصة وعلى التفريط في حق الله وعلى السخرية بوعد الله، أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ ، أو تقول: إن الله كتب علي الضلال ولو كتب علي الهدى لاهتديت واتقيت، وهذا تعليل لا أصل له وعذر غير مقبول، فالفرصة ها هي ذي مهيأة وسانحة، ووسائل الهدي ما تزال حاضرة، وباب التوبة ها هو ذا مفتوح، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ ، وهي أمنية لا تنال، فإذا انتهت هذه الحياة فلا كرّة ولا رجوع، وها أنتم أولاء في دار العمل، وهي فرصة واحدة إذا ضاعت لا تعود، وستسألون عنها مع التوبيخ، بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ.
أيها المسلمون، ثم يمضي سياق هذه الآيات وقد وصل بالقلوب والمشاعر إلى ساحة الآخرة، يمضي في عرض مشهد المكذبين والمتقين في ذلك الموقف العظيم ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وهذا هو المصير الأخير، فريق مسود الوجوه من الخزي ومن الحزن ومن لفح الجحيم، إنه فريق المتكبرين في هذه الأرض الذين دُعُوا إلى الله ـ حتى بعد الإسراف في المعصية ـ فلم يلبّوا هاتف النّجاة، ولم يركبوا سفينَتها، واستجابوا لنداءِ الشيطان وأعوانه، فهم اليومَ في خزيٍ تسودّ له الوجوه.
أيّها المؤمنون، وأمّا الفريق الثاني فهو فريق الناجين الفائزين المتقين الذين عاشوا في حذر وخوف من الآخرة، وعاشوا في طمع في رحمة الله، فهم اليوم يجدون النجاة والفوز والأمن والسلامة، لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
أيها المؤمنون، وقد حذر الرسول من معصية الله ومن عمل السيئات بقوله لابن عمر: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وكان ابن عمر يقول: (إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء). كما روى الترمذي أن النبي قال له أيضًا: ((وعدَّ نفسك من أهل القبور)).
أيها المؤمنون، فهل الحال الذي نحن فيه حال أناس غرباء في الدنيا يشعرون بالغربة؟! وهل هو حال عابر سبيل أو حال إنسان يدخر من صحته لمرضه، ومن حياته لموته؟! وهل هو حال إنسان يظن أنه لا يصبح إذا أمسى، ولن يمسي إذا أصبح؟! وهل هو حال إنسان عد نفسه من أهل القبور؟!
أيها المؤمنون، وقال الحسن البصري رحمه الله: "لقد أدركنا أقواما أشفق على حسناتهم من أن ترد عليهم منكم على سيئاتكم أن تعذّبوا عليها". يا لله! أقوام كانوا يخافون من ردّ الحسنات ومن عدم قبول الطاعات، كانوا يخافون من ذلك أكثر من خوف العصاة والمذنبين من أن يعذّبوا على سيئاتهم ومعاصيهم. أرأيتم إلى أي حد أصبح الفارق بيننا وبين السلف الصالح؟! كانوا يخافون من رد حسناتهم أكثر من أن نخاف من العذاب على سيئاتنا.
إن المسلم السوي يخاف من المؤاخذة والمحاسبة على سيئاته، لكن الأوائل كانوا يخافون من عدم قبول حسناتهم وطاعاتهم. فتعلموا ما ينفعكم في دنياكم وآخرتكم يحقق لكم الله تعالى السعادة فيهما، ويباعد بينكم وبين الخسران فيهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
: فإن الحرص على شرف الدنيا أشد هلاكا من الحرص على المال، وإن طلبَ شرف الدنيا والرفعة والرياسة على الناس والعلو في الأرض أضر على العبد من طلب المال، كما أن ضرره أعظم والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف، قال تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص:83].
أيها المؤمنون، وقل من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولاية فيوفق فيها، بل يوكل إلى نفسه، جاء ذلك في قول النبي لعبد الرحمن بن سمرة: ((يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها من مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها)) ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة)).
أيها المؤمنون، ومن دقيق الشرف طلب المنصب لمجرد علوّ المنزلة على الخلق والتعاظم عليهم وإظهار حاجة الناس إليه وافتقارهم إليه، فإن ذلك يعدّ مزاحمة لربوبية الله تعالى. والحقيقة التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار أن العاقل هو الذي ينافس في العلو الدائم الباقي المصحوب برضوان من الله تعالى وجواره، ويرغب عن العلو الفاني الزائل المصحوب بغضب الله وسخطه، وعلى كل حال فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف في الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه.
أيها المرابطون، إن من أبسط الحقوق الواجبة لإخواننا الأسرى والمبعدين الذين تم الإفراج عنهم من سجون الاحتلال وعادوا إلى بيوتهم وأهليهم وأطفالهم سالمين أن نحمد الله تعالى على سلامتهم وأن نتوجه إليهم بالتهنئة الخالصة، إن فرحتنا عظيمة إلا أن هذه الفرحة لا تكتمل إلا بالإفراج عن بقيتهم ليعودوا إلى بيوتهم، ويكونوا إلى جانب آبائهم وأمهاتهم وأطفالهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الفرحة يجب أن لا تبعدنا أو تنسينا ثوابتنا الإسلامية المتمثلة بتحرير الأرض والمقدسات وفي مقدمتها المسجد الأقصى وإزالة المستوطنات وجدار الفصل العنصري.
أيها المؤمنون، لقد ازدادت وارتفعت في الآونة الأخيرة نغمة تهديد المتطرفين بالتعرض إلى المسجد الأقصى، فلا يكاد يمر يوم إلا وتطالعنا وسائل الإعلام بمثل هذه التهديدات اللامسؤولة، والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على تصميم هؤلاء على اقتراف جريمتهم، وإزاء ذلك فإننا نطالب العرب والمسلمين بحمل هذه التصريحات على محمل الجد، حتى لا تقع أمور لا تحمد عقباها، كما نطالبهم بتحمل مسؤوليتهم والتحرك العاجل للحيلولة دون ذلك.
كما نهيب بإخواننا وأهلنا ببيت المقدس أن يتواجدوا باستمرار داخل المسجد الأقصى، ونناشدهم العمل على تربية أبنائهم وبناتهم على الأخلاق الفاضلة ومراقبة سلوكهم حتى لا يقعوا في حمأة الرذائل، وفي مقدمتها تعاطي المخدرات والمحرمات وانتشار ظاهرة الاختلاط في بعض المدارس، فإن هذه الظاهرة تفسد الأخلاق وتقضي على الفضيلة.
(1/3815)
التحذير من فتنة الاختلاط
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
16/1/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام بتأسيس المجتمع المسلم العفيف. 2- أحكام الإسلام صالحة لكل زمان ومكان. 3- دعوة أذناب الغرب إلى الاختلاط. 4- تحذير الإسلام من الاختلاط والتبرج. 5- مفاسد الاختلاط. 6- العفاف في مجتمع الصحابة. 7- العزة بدين الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في كتابِ ربِّنا وسنّةِ نبيِّنا دعوةُ المجتمعِ المسلِم إلى الأخلاقِ الفاضلة والقِيَم الكريمة، وإنَّ المجتمعَ المسلمَ عندما يقوم على أسُسٍ مِنَ الأخلاق والفَضائِلِ يكون ذلكَ المجتمعُ مجتمعًا سَعيدًا ومجتَمعًا محافِظًا على أخلاقِ دينِهِ وقيَمِه، وإنَّ المؤمن حقًّا ليعتقِد كمالَ هذا الدين، وأنَّ محمّدًا بعِثَ بالهدَى ودينِ الحقّ، أكمَل الله به الدينَ، وأتمَّ به النعمةَ، ورضِيَ به لنا دينًا، وإنَّ المؤمنَ ليعتقِد حقًّا كمالَ هذه الشريعةِ، وأنَّ هذه الشريعةَ التي عاش بها النبيّ مع أصحابه وعاش بها الصحابةُ مع نبيِّهم هي الشريعة الصالحةُ لكلِّ القرون لكلِّ الأجيالِ منذ بعَثَ الله عبده ورسولَه محمّدًا إلى أن يرِثَ الله الأرض ومَن عليها وهو خيرُ الوارثين، ولن يصلِحَ آخرَ هذه الأمة إلاّ ما أصلَحَ أوَّلَها، وإنَّ المؤمنَ ليقبَل أوامرَ الله التي جاءَ بها الكتاب والسنّةُ فيمتَثِلها، ويقبَل النواهيَ التي نُهِيَ عنها فيجتنبها، ويَدين لله بتحريمِ المحرَّمات والتِزام الواجباتِ، هكذا المؤمِن حقًّا.
أيّها المسلم، أيّها المؤمن، إنَّ اختِلاطَ الجنسين الرّجال والنّساء في ميادينِ الحياةِ المختلِفة سواء كانت منها المؤسَّساتُ الماليّة أو العلميّة أو اختلاف ميادينِ العمل المختَلِفة، إنَّ اختلاط الجنسين بعضهما مع بَعض منكرٌ جاءَت شريعتُنا بتحريمه، وبلاءٌ جاءت شريعتُنا بالتحذير منه، ومصابٌ أصاب الأمّةَ المحمديّة فصار بابًا واسِعًا لهدمِ القِيَم والأخلاق والفضائل. إنَّ اختلاطَ الجنسَين الرجال والنساء على رأسِ الأولَويَّات التي يدعو لها دعاةُ التغريبِ مِنَ المنافقين من هذهِ الأمّة المسلمة؛ لأنَّ هذه الدّعوة إلى الاختلاط دعوةٌ لسلخِ الأمة من دينها وأخلاقِها وبُعدِها عن مبادئ دينها. إنَّ الأمّةَ يجب أن تعتقدَ أنَّ العزّةَ الحقيقيّة إنما هي باتِّباع هذا الدّين، ليس عيبًا على الأمّة أن تتمسَّكَ بدينها، ليس عيبًا عليها أن تحافِظَ على أخلاقِها، ليس عيبًا عليها أن تجعَلَ مجتَمَعَها مجتمعًا أخلاقيًّا كريمًا، ليس ذا عيبًا عليها، بل هذا مصدرُ عزِّها وكرامتها. إنَّ أولئك الذين يدعون إلى اختلاطِ الجنسَين وتحطيم الحواجِزِ الفارقة بينهما كما يزعمون إنها محادَّةٌ للهِ ورسوله وسبَبٌ للذّلِّ في الدّنيا والآخرة، إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ [المجادلة:20].
أمّةَ الإسلام، دين الإسلام جاء ليقيمَ مجتمعًا طاهرًا نظيفًا، مجتمعًا طاهرًا عَفيفًا، لا يتأثَّر بالفواحِشِ، ولا يروج فيه سوقُ الخنا، ولا يُعَطَّل فيه الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر، جاء ليقيمَ المجتمع المسلمَ على أُسُس من القِيَم والأخلاق والفضائل، دعا إلى الحياءِ، وجعل الحياءَ من أخلاق المؤمنين، الحياءُ شعبةٌ من شُعَب الإيمان، والحياءُ مطلوبٌ من الجميع وإن كان في جانِب النساء أشدّ، فهذا الإسلام ينهى المرأة عن التبرّجِ والسفور: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، ينهاها من أن تخضَعَ بالقول: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32] يأمرها بغضِّ البصر وتحصينِ الفرج، وينهاها عن إبداء زينَتِها إلاّ ما ظهر منها ولمن أباح الله له النّظرَ إليها كما بيَّن الله ذلك في كتابه العزيز. وهذه سنّةُ محمّد تدلّ على أمور، فمنها ـ أولاً ـ أمرُ المؤمن بغضِّ البصر، يقول الله: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، ويقول النبيّ لعليّ رضي الله عنه: ((لا تُتبِعِ النظرةَ النظرةَ، فإنّ لك الأولى، وليست لك الثانية)) [1] ، وها هو يمنَع المؤمنَ مِن أن يدخلَ على امرأةٍ ليست من محارِمِه، فينهى عن دخولِ الرّجل على من ليسَت محرمًا له، ولما قيل له في الحمو قريبِ الزّوج قال: ((الحموُ الموت)) [2] ، وها هو ينهاهَا عن السّفَرِ بلا محرَمٍ [3] محافظةً على كرامَتِها وفضائلها.
أيّها المسلم، أيّها المؤمن، إنّ الدعوةَ لاختلاط الجنسَين هو بلاء ومصيبةٌ عظيمة، وهو فَتح لأبواب الشرِّ على مصرَاعَيه. وإنَّ الدعاةَ للاختلاط لو ناقشتَ بعضَهم لا يرضاه لابنتِه ولا لأخته ولا لأمّه، ولكن يتفوَّه بهذه الكلماتِ البذيئةِ تقليدًا واتِّباعًا لغيره. إنّ أولئك يريدون أن يحوِّلوا المجتمعاتِ المسلمة إلى مجتمعات تابعةٍ لغيرِها لا تتقيَّد بخلقٍ ولا بفضيلة، ولكن تكون تابعةً لغيرها، ينفِّذ الأعداء فيها مرادَهم، ويُملون عليهم ما يريدون أن يفعَلوه. إنَّ الله أعزَّ الأمةَ بالإسلام كما قال عمرُ رضي الله عنه: (نحن أمّة أعزَّنا الله بالإسلام، ومتى ابتَغَينا العزّةَ من غير الإسلام أذلَّنا الله) [4].
إنَّ الله جلّ وعلا حرَّم على المرأةِ المسلمة أن تخالطَ غيرَ محارِمِها محافظةً على كرامَتِها. إنَّ الذين خلَطوا الجنسَين المرأةَ بغيرها يشكون من ويلاتِ ذلك الاختلاطِ وآثاه السيّئة القبيحة عليهم جميعًا. إنّ بها انتشَرَتِ المنكرات، وبها فشا الزّنا وكثُر اللّقطاء، وبها عمَّت الجرائِم وضعُف الإنتاج وصار عليهم مِنَ البلاء ما الله به عليم. فما حرَّمَ الله ورسوله شيئًا إلاّ وضررُه واضح ضرَرُه ظاهِر، ولا منفعةَ فيه مطلَقًا. إنَّ أولئك الزّاعِمين أنَّ الاختلاطَ لا يؤثِّر وأنّ التربيَة تحمي الإنسانَ من الانزلاق كلُّ هذه مكابَرات، وكلّ هذه مغالَطات. فالواجِب على المسلمين جميعًا تقوَى الله، وأن يعلَموا أنّ العزّةَ والرّفعة إنما هو باتباعِ شريعة الله، وأنَّ الذلَّ والهوان بالتّخلِّي عن مبادِئِ الإسلام وتعاليمِه.
ليس عيبًا على الأمّةِ أن تحافظَ على شرفِها وكرامَتِها، ليس عيبًا عليها تمسُّكها بدينها، ليس عيبًا عليها ثباتُها على أخلاق إسلامِها، مهما قال الأعداء ومهما تفوّهوا، فهم لن يَرضَوا عنّا إلاّ بمفارقةِ هذا الدين والعياذ بالله، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].
أمّةَ الإسلام، الدّعوةُ إلى الاختلاط دعوةُ إجرام ودعوةُ نفاق ودعوة ضَلالٍ ودعوة بُعدٍ عن الهدى، لا تصدُرُ من قلبٍ فيه إيمان بالله واليومِ الآخر، فمَن في قلبه الإيمانُ الصّادق يعلم أن الدعوةَ إلى الاختلاط دعوةٌ ضالّة مضلَّة، ومن سعى فيها أو حبّذها فليراجِع نفسَه، وليتُب إلى الله من أخطائهِ، وليعلَم أنّه تفوَّه بأمرٍ أسخَطَ اللهَ عليه جلّ وعلا. فليتَّقِ المسلمون ربَّهم، وليحافظوا على قِيَمهم وفضائلهم.
نبيُّنا يقول في الصّلاة: ((خيرُ صفوف الرجال أوّلُها وشرُّها آخرها، وخير صفوفِ النّساء آخرُها وشرّها أوّلها)) [5] حثًّا للمرأةِ على البُعد عنِ الرجال. وكان النساءُ في عهدِ النبيّ يشهدن الصلوات، تقول عائشة: يشهَد نساءٌ مع النبيّ الصلاة يرجِعنَ في غايةٍ مِنَ التحفُّظ، لا يعرِفُهنّ أحدٌ مِن حسنِ سِترهنّ وعفافِهن، متلفِّعاتٍ بمروطهِنّ، لا يُعرَفنَ من الغَلَس [6]. إنّه في عهد النبي كانت المجتمعاتُ مجتمعاتٍ نظيفةً ومجتمعاتٍ طيّبة، ومع هذا حُذِّروا من كلِّ وسيلة توقِع في الشرّ والفساد.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنحافِظ على ديننا. وعلى من ينادي بالاختلاط أو يدعو إليه أو يحبّذه أن يعلمَ أنه على طريقٍ خاطئ ومنهج سيّئ، فليتُب إلى الله، وليستغفِرِ الله ممّا زلَّ بهِ اللسان والقلَم، وليحاسِب نفسَه؛ فإنَّ الله سائلٌ كلَّ قائل عن قوله، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
إنَّ الله جلّ وعلا فاوتَ بين الرجال والنساء، ولكلٍّ خصوصيّاتُه وقُدُراته، فمتى خلَطنا الأوراقَ ومتى حاولنا عبثًا أن نصيِّرَ الجنسين جنسًا واحدًا ومتى تغاضَينَا عن النتائجِ السيِّئة فإنَّ هذا دليل على سوءِ الفهم وقلّةِ اليقين.
أسأل الله للجميع الثباتَ على الحقِّ والاستقامة عليه، وأن يرزقَنا جميعًا الفقهَ في دين الله والتمسّكَ بشريعته والثباتَ على ذلك إلى أن نلقاه، إنه على كلِّ شيء قدير.
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلّ ذَنب، فاستغفروه وتوبوا إلَيه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/353)، وأبو داود في النكاح (2149)، والترمذي في الأدب (2777) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث شريك"، وصححه الحاكم (2788)، وحسنه الألباني في غاية المرام (183).
[2] أخرجه البخاري في كتاب النكاح (4831)، ومسلم في كتاب السلام (4037) عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه.
[3] كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري في كتاب الحج (1729)، ومسلم في كتاب الحج (2391).
[4] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/10، 93)، وهناد في الزهد (817) بنحوه، وصححه الحاكم (207، 208)، وهو في صحيح الترغيب (2893).
[5] أخرجه مسلم في كتاب الصلاة (440) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في كتاب المواقيت (544)، ومسلم في كتاب المساجد (1020، 1021، 1022) بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عباد الله، إنّ التمسّكَ بشريعة الإسلام سبَبٌ لعِزِّ الأمّة ورِفعتها، وسبب لرُعب أعدائها مِنها، فتمسُّك الأمّة بهذا الدين يجعل لها المكانةَ العالية والرفعةَ والسّؤدَد، ويلقي الله الرعبَ في قلوب أعدائها إن هِي تمسَّكَت بهذا الدين حقَّ التمسّك.
إنَّ ما أصاب العالمَ الإسلاميَّ من نقصٍ كان أوّله السماحَ للنّساء بالاختلاطِ في ميادينِ الأعمال، فهذا سبَبٌ عظيم فتح أبوابَ الشرِّ على مصراعَيه، ولذا يقول النبيّ : ((ما تركتُ [في] أمتي فتنةً هي أضرّ من فتنةِ [النساء على الرجال])) [1] ، ويقول: ((اتَّقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإنّ هلاكَ بني إسرائيل كان في النساء)) [2].
هذه القضيّةُ هي التي فتحَت أبوابَ الشرِّ على مصراعَيه، وتداعت الشرورُ والمصائب على الأمّة لما استخفّوا بمحارمِ الله وتساهلوا في ذلك، وفُقِدت الغَيرة من القلوب على محارمِ الله، فعند ذلك وقَعَ المسلمون في شرورٍ عظيمة ومصائبَ وبلايا نتيجةً لهذا التّساهُل، ونتيجةً لهذا التهاوُن، وطاعةً لمن ينادي: "إنّ المرأةَ شقيقة الرجل، دعوها والرجلَ يقفان صفًّا واحدًا، دعوها تعمل ويَعمل على جانبٍ واحد"، فلا حياءَ ولا سمتَ ولا مروءة، إنّه الشرّ بعَينه حينما يختلط الجنسان في الأماكن، تذهَب الغَيرة من القلوب، وتخفّ قيمةُ المحرَّمات في قلوبِ الناس، وتلك مصيبةٌ عُظمى، نسأل الله أن يعافيَ المسلمين من هذا الداءِ العضال، وأن يمنَّ عليهم بالاستقامةِ عَلى الهدَى.
فالحقيقةُ أنَّ مصائبَ العالم الإسلاميّ سببُها بُعدهم عن دينهم، ولهذا تسلَّط عليهم الأعداءُ من كلِّ جانب بأسباب بُعدهم عن دينهم، فإنَّ تمسُّكَ الأمة بدينها هو السّبَب في عزَّتها وقوّتها ورَهبةِ أعدائها منها، فنسأل الله أن يوفِّقَ المسلمين جميعًا للفِقه في دين الله، وأن يعيدَهم للطّريق المستقيم، وأن يرزقَنا جميعًا الثباتَ على الحقّ والاستقامة عليه، وأن يهديَ ضالَّ المسلمين ويثبِّتَ مطيعَهم ويحفَظ الجميع بالإسلام، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبدِ الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائِهِ الرّاشدين الأئِمّة المهديّين...
[1] أخرجه البخاري في النكاح (4706)، ومسلم في الذكر (4923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في الذكر (4925) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: ((فإن أول فتنة بني إسرائيل)).
(1/3816)
الثبات وأسبابه
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن. 2- أسباب الثبات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المؤمنون ـ كما أمركم ربكم فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه حيث يشاء)) ، ثم قال رسول الله : ((اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم [1] ، وقد قال النبي مبينًا شدة تقلب قلوب العباد: ((لقلب ابن آدم أشد انقلابًا من القدر إذا اجتمعت غليانًا)) رواه أحمد بسند لا بأس به [2] ، وقد قيل:
وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ ولا القلب إلا أنه يتقلب
ومصداق هذا كله مشاهد ملموس في واقع الناس، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم، أصبحت وزهرها يابس هشيم، فبينا ترى الرجل من أهل الخير والصلاح، ومن أرباب التقى والفلاح، قلبه بطاعة ربه مشرق سليم، إذا به انقلب على وجهه، فترك الطاعة، وتقاعس عن الهدى. وبينا ترى الرجل من أهل الخنا والفساد أو الكفر والإلحاد، قلبه بمعصية الله مظلم سقيم، إذا به أقبل على الطاعة والإحسان، وسلك سبيل التقى والإيمان.
أيها الإخوة المؤمنون، إن تذكّر هذا الأمر لتطير له ألباب العقلاء، وتنفطر منه قلوب الأتقياء، وتنصدع له أكباد الأولياء، كيف لا؟! والخاتمة مغيّبة، والعاقبة مستورة، والله غالب على أمره، والنبي قد قال: ((فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) متفق عليه [3] ، فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فيا عباد الله، عليكم أن تجتهدوا في أخذ أسباب الثبات، وأن تحتفوا بها، علمًا بأن المقام جد خطير، والنتائج لا تخالف مقدماتها، والمسببات مربوطة بأسبابها، وسنن الله ثابتة لا تتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
أيها المؤمنون، إننا في هذه العصور أحوج ما نكون إلى معرفة أسباب الثبات والأخذ بها، فالفتن تترى بالشبهات والشهوات، والقلوب ضعيفة، والمعين قليل، والناصر عزيز، وقد أخبر النبي عن سرعة تقلب أهل آخر الزمان لكثرة الفتن، فقال: ((إن بين يدي الساعة فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا)) [4].
لكل واحد منكم ـ أيها الحاضرون ـ أذكر بعض أسباب الثبات، عسى الله أن ينفعنا بها، وأن يثبتنا بالقول الثابت.
فمن أسباب حصول الثبات على الحق والهدى والدين والتقى الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى، وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين، فإن لم يثبتنا الله زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها، وقد قال سبحانه مخاطبًا خير خلقه وأكرمهم عليه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً [الإسراء:74]، وقال تعالى: إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال:12]، وكان نبينا يكثر من قوله: ((لا، ومصرف القلوب)) كما روى ابن ماجه بسند جيد [5] ، مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.
ومن أسباب الثبات على الخير والصلاح الإيمان بالله تعالى، قال عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة [إبراهيم:27]. والإيمان الذي وعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب، وينطق به اللسان، وتصدقه الجوارح والأركان، فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء:66]. فالمثابر على الطاعة والمداوم عليها المبتغي وجه الله بها موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.
ومن أسباب الثبات على الطاعة والخير ترك المعاصي والذنوب، صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب، فقد قال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن)) [6].
وأما الصغائر فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إياكم ومحَقّرات الذنوب، كقوم نزلوا في بطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى أنضجوا خُبزتهم، وإن محقّرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)) [7].
خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
ومن أسباب الثبات على الإسلام والإيمان الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلمًا وعملاً وتدبرًا، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد تثبيتًا للمؤمنين وهداية لهم وبشرى، قال الله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:102]، فكتاب الله هو الحبل المتين والصراط المستقيم والضياء المبين لمن تمسك به وعمل.
ومن أسباب الثبات على الصالحات عدم الأمن من مكر الله، فإن الله سبحانه وتعالى قد حذر عباده مكره، فقال عز وجل: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
وقد قطع خوف مكر الله تعالى ظهور المتقين المحسنين، وغفل عنه الظالمون المسيئون، كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعًا بالأمان، وقال الله تعالى: أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ [القلم:39-40].
يا آمنًا معَ قبحِ الفعل منه أَهَل أتاك توقيعُ أمْنٍ أنت تملكه
جمعت شيئين أمنًا واتباع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكه
أما المحسنون من السلف والخلف فعلى جلالة أقدارهم وعمق إيمانهم ورسوخ علمهم وحسن أعمالهم فقد سلكوا درب المخاوف، يخافون سلب الإيمان وانسلاخ القلب من تحكيم الوحي والقرآن، حتى صاح حاديهم يقول:
والله ما أخشى الذنوب فإنها لعلى سبيل العفو والغفران
لكنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن
فالحذر الحذر من الأمن والركون إلى النفس، فإنه م ادام نَفَسُك يتردد فإنك على خطر.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه تعالى كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويخفض من يشاء، فما يؤمّنه أن يقلب الله قلبه، ويحول بينه وبينه، ويزيغه بعد إقامته، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا [آل عمران:8]، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم".
ومن أسباب الثبات على الهدى والحق سؤال الله التثبيت، فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك، قال الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
فألحوا على الله تعالى بالسؤال أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم، فالقلوب ضعيفة، والشبهات خطافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة، فإن من دعائهم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، وما ذكره الله تعالى عنهم: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250]، وقد كان أكثر دعاء النبي : ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) [8].
[1] أخرجه مسلم في القدر (4798).
[2] أخرجه أحمد من حديث المقداد بن أسود (22699).
[3] أخرجه مسلم في كتاب القدر (4781).
[4] أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم (3715), والترمذي في الفتن (2123), وسنده جيد (جامع الأصول 105/9).
[5] أخرجه ابن ماجه في الكفارات (2083).
[6] أخرجه البخاري في الأشربة (5150).
[7] أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة (3627), وسنده جيد (السلسلة 389).
[8] أخرجه الترمذي في الدعوات (3444).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مقلب القلوب والأبصار، ومثبت عباده المتقين الأبرار في الدنيا والآخرة دار القرار، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المختار، وعلى آله وأصحابه الأطهار.
أما بعد: فمن أسباب الثبات على الإيمان نصر دين الله الواحد الديان، ونصر أوليائه المتقين وحزبه المفلحين، قال الله تعالى: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. ونصر دين الله تعالى وأوليائه يكون بطرائق عديدة لا يحدها حد، ولا تقف عند رسم. فالدعوة إلى الله بجميع صورها نصر لدين الله، وطلب العلم نصر لدين الله، والعمل بالعلم نصر لدين الله، وجهاد الكفار والمنافقين والعصاة نصر لدين الله، والرد على خصوم الإسلام وكشف مخططاتهم نصر لدين الله، والبذل في سبيل الله والإنفاق في وجوه البر نصر لدين الله، والذب عن أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة نصر لدين الله. فطرائق نصر دين الله وأوليائه كثيرة، جعلنا الله وإياكم من أوليائه وأنصار دينه، ولا تحقرن من هذه الأعمال شيئًا، فقاعدة الطريق: اتق النار ولو بشق تمرة. قال ابن القيم رحمه الله:
هذا ونصر الدين فرض لازم لا للكفاية بل على الأعيان
بيد وإما باللسان فإن عجز ت فبالتوجه والدعاء بجنان
ومن أسباب الثبات على الهدى الرجوعُ إلى أهل الحق والتقى من العلماء والدعاة الذين هم أوتاد الأرض ومفاتيح الخير ومغاليق الشر، فافزع إليهم عند توالي الشبهات وتعاقب الشهوات، قبل أن تنشب أظفارها في قلبك، فتوردك المهالك. قال ابن القيم رحمه الله حاكيًا عن نفسه وأصحابه: "وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت بنا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه ـ أي: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ـ، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة".
ومن أسباب الثبات على الحق والتقى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي، فإنه لن يحصل العبد الخيرات إلا بهذا، وقد أمر الله تعالى نبيه بالصبر فقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، وقد قال النبي : ((وما أعطي أحدٌ عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)) [1].
فالصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
ومن أسباب الثبات على الدين والصلاح كثرة ذكر الله تعالى، كيف لا؟! وقد قال عز وجل: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وقال : ((مَثَل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مَثَل الحي والميت)) [2].
وقد أمر الله تعالى عباده بالإكثار من ذكره فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب:41-43]. فذِكر الله كثيرًا وتسبيحه كثيرًا سبب لصلاته سبحانه، وصلاة ملائكته التي يخرج بها العبد من الظلمات إلى النور.
فيا حسرة الغافلين عن ربهم، ماذا حرموا من خيره وفضله وإحسانه؟!
ومن أسباب الثبات على الحق والهدى ترك الظلم، فالظلم عاقبته وخيمة، وقد جعل الله التثبيت نصيب المؤمنين، والإضلال حظ الظالمين، فقال جل ذكره: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
فاتقوا الظلم أيها المؤمنون، اتقوا ظلم أنفسكم بالمعاصي والذنوب، واتقوا ظلم أهليكم بالتفريط في حقوقهم والتضييع لهم، واتقوا ظلم من استرعاكم الله إياهم من العمال ونحوهم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة.
هذه بعض أسباب الثبات على الحق والهدى والدين والتقى، من أخذ بها فقد أخذ بحظ وافر، ووقاه الله سوء العاقبة والمآل.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك.
[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1376).
[2] أخرجه البخاري في الدعوات (5928).
(1/3817)
وفاة النبي
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- قيامه بواجب الدعوة أتم قيام وأكمله. 2- خبر مرضه. 3- ذكر وفاته. 4- حال المسلمين بعد سماع نبأ وفاته. 5- الدروس والعبر المستفادة من حادث موته.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، حكم سبحانه بالموت على جميع الأنام، فكل ذي روح لا بد وأن يذوق طعم السام، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]، وإن طال بها المقام. أحمده سبحانه فقد قال: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالبقاء والكمال دون نقصان، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد ولد آدم، خير من صلى وصام، بعثه الله بالهدى والفرقان.
أيها المؤمنون، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واشكروا الله تعالى على نعمه الكثيرة التي من أجلها وأعظمها بعثة النبي وإرساله إليكم؛ ليخرجكم من الظلمات إلى النور.
فإن الله تعالى قد أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، أنعم به على أهل الأرض نعمة لا يستطيعون لها شكورًا، فإنه بلغ وأنذر، وقام لله قومة لم يقمها أحد من الناس قبله، ولن يقومها أحد بعده، فما زال منذ قال له الله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ [المدثر:2] قائمًا بأمر الله يبلغ الرسالة ويؤدي الأمانة وينصح الأمة، فأتم الله به النعمة، فأشرقت برسالته الأرض بعد ظلماتها، وتألفت به القلوب بعد شتاتها، وامتلأت به الدنيا نورًا وابتهاجًا، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. فلما أكمل الله به الدين وأتم به النعمة على عباده المؤمنين استأثر به جل وعلا، ونقله إلى الرفيق الأعلى والمحل الأسنى.
أيها المؤمنون، إن حياة النبي كلها من أولها إلى آخر لحظة فيها من أعظم دلائل صدقه وعلامات نبوته، فهي تقتضي تصديقه ضرورة وتشهد بأنه رسول الله حقًا.
أيها المؤمنون، إن خطبة اليوم عن نبأ عظيم وخطب جليل، بل هو من أعظم الأحداث التي مرت بأمة الإسلام.
إنه نبأ وفاة النبي ، ذلك النبأ الذي أذهل العقول وطير الألباب، ففي سنة إحدى عشرة من الهجرة النبوية دهى المدينة خطب لا عزاء له، ففي أواخر صفر في تلك السنة بُدئ المرض برسول الله ، وكان أول ذلك صُداع ألمّ برأسه ، ثم حرارة متقدة كانوا يجدون سورتها ـ أي: شدتها ـ فوق العصابة التي عصب بها رأسه، وثقل برسول الله المرض، فجعل يسأل أزواجه: ((أين أنا غدًا؟ أين أنا غدًا؟)) ، ففهمن مراده، فأذن له أن يكون حيث شاء، فانتقل إلى بيت عائشة معصوب الرأس تخط رجلاه في الأرض، واشتدت وطأة المرض على رسول الله في بيت عائشة، فقال : ((أهريقوا علي سبع قرب لم تحلل أوكيتهن؛ لعلي أعهد إلى الناس)) [1] ، ففعلن رضي الله عنهن، ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم، وكان ذلك يوم الأربعاء قبل خمسة أيام من وفاته، وكان مما قال في خطبته تلك: ((إن عبدًا خيره الله بين الدنيا وبين ما عند الله فاختار ما عند الله)) [2] ، فبكى أبو بكر، فعجب الصحابة لبكائه، قال الراوي: فكان المخيَّر رسول الله، وكان أبو بكر أعلمنا. فقال رسول الله : ((لا تبك يا أبا بكر، إن أمنّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، لا يبقى في المسجد باب إلا سد إلا باب أبي بكر)) [3] ، وكان مما قاله في خطبته تلك: ((أوصيكم بالأنصار، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم)) [4] ، ثم عاد النبي إلى بيته بعد خطبته تلك.
وفي يوم الخميس اشتد برسول الله وجعه فقال: ((ائتوني أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده أبدًا)) [5] ، فاختلفوا عنده في المجيء بالكتاب، فقال: ((دعوني، فالذي أنا فيه خير مما تدعونني إليه)) [6].
ومع شدة مرضه كان يخرج يصلي بالناس، حتى كان ذلك اليوم فصلى بهم المغرب، وعند العشاء زاد عليه الوجع فلم يستطع الخروج إلى المسجد، فأرسل إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فصلى بهم أبو بكر ما بقي من الصلوات في حياة النبي ، وفي أثناء تلك الأيام العصيبة وجد من نفسه خفة، فخرج بين رجلين لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي أن لا تأخر، فجلس جنب أبي بكر، فجعل أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله، والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي قاعد. واستمر المرض بالنبي.
وفي فجر يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام أحد عشر من الهجرة أقبل المؤمنون إلى مسجد رسول الله ، واصطفوا لصلاتهم خلف أبي بكر رضي الله عنه، فبينا هم كذلك رفع رسول الله الستر المضروب على منزل عائشة، وبرز للناس، فكاد المسلمون يفتتنون في صلاتهم ابتهاجًا برؤيته ، فأخذوا يفسحون له مكانًا، فأشار بيده أن اثبتوا على صلاتكم، وتبسم فرحًا بهم.
قال أنس رضي الله عنه: ما رأيت رسول الله أحسن هيئة منه في تلك الساعة، ثم رجع وأرخى الستر، وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله قد أفاق من وجعه وبرأ، إلا أن الأمر كان بخلاف ذلك حيث لم يأت على النبي وقت صلاة أخرى، بل اشتد المرض عليه ونزل به في صباح يوم الاثنين، فطفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك: ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) [7] يحذر ما صنعوا، فكانت هذه إحدى وصاياه عند موته، وكان يقول: ((اللهم أعني على سكرات الموت)) [8] من شدة ما نزل به، وكان يردد وهو في تلك الحال: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، قال أنس: حتى جعل يغرغر بها في صدره وما يفيض بها لسانه [9] ، وكان مما أوصى به عند موته أن أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، فلما ثقل رسول الله جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة رضي الله عنها لما رأت ما نزل بأبيها: وآكرب أبتاه! فقال : ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)) [10] ، فلما ارتفع ضحى ذلك اليوم نزل برسول الله، فأسندته عائشة رضي الله عنها إلى صدرها، قالت رضي الله عنها: إن من نعم الله علي أن رسول الله توفي في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري، وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته؛ وذلك أن عبد الرحمن بن أبي بكر دخل وبيده سواك يستاك به، فنظر إليه رسول الله، قالت عائشة: فعلمت أنه يريده، فأخذته فقضمته وطيبته ثم دفعته إليه، تقول عائشة رضي الله عنها: فاستن به أحسن ما كان استنانًا، فما عدا أن فرغ من السواك حتى رفع يده أو إصبعه، ثم قال: ((في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى)) ، ثم قضى رسول الله [11].
وتسرب النبأ الفادح، وأظلمت على أهل المدينة أرجاؤها وآفاقها، كيف لا؟! وقد انطفأ ضياؤها وخبأ سراجها، قال أنس: فما رأيت يومًا قط أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه رسول الله ، وما رأيت يومًا كان أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله.
فضجت المدينة بالبكاء، وكان موته قاصمة الظهر ومصيبة العمر، فاشتدت الرزية بموته وعظم الخطب وجل الأمر وأصيب المسلمون بنبيهم، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، وقام عمر في الناس وأنكر موته، وماج الناس واضطربوا، وكان أبو بكر في أطراف المدينة فلما بلغه الخبر أقبل إلى المسجد فدخل وعمر يكلم الناس، فلم يلتفت إليه حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة، فوجده مسجى ببردٍ حبرة، فكشف عن وجهه وأكب عليه يقبله، ثم بكى، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله لا يجمع الله عليك موتتين أبدًا، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إنه خرج رضي الله عنه والناس على الحال التي وصفنا، فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]. فلما سمع الناس ذلك من أبي بكر علموا أن رسول الله قد مات.
قال ابن عباس: فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، ثم غُسل رسول الله وكُفن، وصُلي عليه، ودُفن يوم الثلاثاء في مكانه الذي توفي فيه؛ لقوله : ((ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض)) [12].
وصدق الله ومن أصدق من الله قيلاً: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30].
[1] أخرجه البخاري كتاب الوضوء (195) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[2] أخرجه البخاري كتاب المناقب (3691)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2382) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري كتاب المناقب (3691)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2382) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري كتاب المناقب (3588)، ومسلم في كتاب فضائل الصحابة (2510) من حديث أنس رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري كتاب العلم (114)، ومسلم كتاب الوصية (1637) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري كتاب العلم (114)، ومسلم كتاب الوصية (1637)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (1265)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (529) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[8] أخرجه الحاكم في المستدرك (3731) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
[9] أخرجه أحمد (12190)، وابن ماجه كتاب الوصايا (2697) من حديث أنس رضي الله عنه.
[10] أخرجه البخاري في كتاب المغازي (4193) من حديث أنس رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في المغازي (4438)، ومسلم في فضائل الصحابة (2444) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[12] رواه البزار في مسنده (3) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فما زال الناس بعد وفاة النبي في أمر مريج، حتى جاد الله بالصديق المؤيَّد المنصور رضي الله عنه، فبعد أن تحقق من وفاته خرج رضي الله عنه إلى المسجد وعمر يكلم الناس، فقال أبو بكر: اجلس يا عمر، فأبى رضي الله عنه، فقال: اجلس فأبى، فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، فمن كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا [آل عمران:144]، فكأن الناس لم يعلموا من شدة ما أصابهم أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فتلقاها منه الناس كلهم. قال ابن عباس: فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، وقال عمر: والله، ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى إني أهويت إلى الأرض، وعرفت حين تلاها أن رسول الله قد مات.
فما لبث الصحابة رضي الله عنهم أن اجتمعوا على أبي بكر رضي الله عنه وبايعوه بالخلافة قبل أن يدفنوا رسول الله.
وفي يوم الثلاثاء اليوم التالي لموته غسل وكفن وصلي عليه، ثم دفن في مكانه الذي توفي فيه لقوله : ((ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض)) [1]. فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًا عن أمته.
جزى الله عنا كل خير محمدًا فقد كان مهديًا وقد كان هاديا
أيها المؤمنون، هذا نبأ وفاة نبيكم ، وفيه من العبر والعظات الشيء الكثير:
من أبرزها ما قاله الغزالي رحمه الله: "فما بالنا لا نتعظ بمصرع محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وحبيب رب العالمين، لعلنا نظن أننا مخلدون، أو نتوهم أنا مع سوء أفعالنا عند الله مكرمون، هيهات هيهات!!".
فأعدوا ـ عباد الله ـ عدة الرحيل قبل فوات الأوان، فإن الآجال تنزل بلا استئذان، وتحل بلا إعلان، وأكثروا ـ عباد الله ـ من ذكر هادم اللذات، فليس بعد موت نبينا محمد خالد، ولا في البقاء مطمع، بل الأمر كما قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35].
ومن الفوائد الظاهرة في هذا النبأ شدة حرص النبي على أمته؛ حتى وهو في آخر لحظات حياته يوصي وينصح، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فما أصدق ما قاله الله تعالى فيه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].
ومن فوائده شدة اعتناء النبي بأمر التوحيد؛ وذلك يتضح في أن النبي افتتح دعوته بالدعوة إلى عبادة الله وحده سبحانه، واختتم حياته بالتحذير من الشرك وتعظيم غير الله، فإن من آخر وصاياه قوله : ((لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) [2].
ومن فوائد هذا النبأ عظم شأن الصلاة وخطرها، فإن النبي كرر الأمر بها وحث على الاهتمام بها وهو يعاني سكرات الموت، فالله الله بالصلاة يا عباد الله، فإنها عمود الإسلام، ولا إسلام لمن لا صلاة له.
ومن فوائد هذا النبأ خطورة بقاء الكفار من المشركين واليهود والنصارى في جزيرة العرب؛ فإن النبي أوصى بإخراجهم في آخر حياته، وما ذلك إلا لخطر بقائهم في هذه الجزيرة، فإن هذه الجزيرة جزيرة الإسلام وحصنه الحصين.
ومن فوائد هذا الحدث العظيم عظم منزلة أبي بكر رضي الله عنه، فقد نصر الله به الدين وثبت به المؤمنين، وليس في الناس بعد الأنبياء خير منه؛ فهو أعمق الصحابة إيمانًا، وأثبتهم يقينًا، وأعلمهم بالله ورسوله، وأحزمهم في دين الله، وأطوعهم لله ورسوله، رضي الله عنه وجزاه عنا وعن المسلمين خير الجزاء.
[1] رواه البزار في مسنده (3) من حديث أبي بكر رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (1265)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (529) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(1/3818)
وقفات مع الإجازة الصيفية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
اغتنام الأوقات, السياحة والسفر, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مشكلة الفراغ. 2- آثار الفراغ ومفاسده. 3- وقفات مع الإجازة الصيفية: مع الشباب والشابات، مع أولياء الأمور، مع المسافرين إلى بلاد العهر والدعارة، مع الدعاة وطلاب العلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، إن مرجع كثير من المشكلات الدينية أو الاجتماعية أو الأخلاقية والسلوكية في فترات الإجازات الصيفية ذلك الفراغ الهائل الذي يخيم على أكثر الناس في هذه الفترة، فما الإجازة عند أكثر الناس إلا كمٌ كبيرٌ من الوقت الفارغ الذي لا يحسن استعماله ولا تصريفه، فهي أوقات سائبة وطاقات معطلة من خير الدنيا أو الآخرة، ولقد صدق رسول الله حين قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)) [1].
أيها المؤمنون، إنما كان الفراغ نعمة لأن استغلاله في الطاعة والبر يرفع درجة العبد عند ربه، ويحصل له بذلك سعادة الدنيا ونعيم الآخرة، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر كسبها وربحها يوم يقوم الناس لرب العالمين، ولذلك وجّه الله تعالى نبيه والأمة بعده إلى استثمار الفراغ بالاجتهاد في الطاعة والنصب والتعب فيما يقرب إلى الله تعالى، فقال جل وعلا: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح:7، 8].
وسرّ هذا التوجيه ـ أيها المؤمنون ـ أن العبد إنما خلق لعبادة الله تعالى وحده لا شريك له في كل وقت وحين، فقال جل وعلا: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [آل عمران:41]، وقال سبحانه: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم:17-18]، وقال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، فإذا فرغ الإنسان مما لا بد له منه من أشغال الدنيا فليعد إلى غاية وجوده وهي عبادة الله تعالى.
أيها المؤمنون، إن الفراغ نعمة مهدرة مضيعة عند كثير من الناس، بل هو سبب كثير من المفاسد والشرور الدينية والدنيوية، فمن ذلك:
أن الفراغ المهدر سبب لتسلّط الشيطان بالوساوس الفاسدة التي ينشأ عنها كثير من الانحرافات والمعاصي، فنفسك إن لم تشغلها بالحق والخير شغلتك بالباطل والشر.
أيها المؤمنون، إن الفراغ السائب سبب لكثير من الأمراض الجسمية والنفسية، الحسية والمعنوية، فحق على كل مؤمن أن يأخذ بما أمر الله تعالى به وبما أوصى به النبي : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) [2].
أيها المؤمنون، إن كيفية قضاء الإجازة الصيفية أمر يحتاج إلى أن نقف معه عددًا من الوقفات:
الوقفة الأولى: مع الشباب ذكورًا وإناثًا:
أيها الشباب، أنتم عماد الأمة ورصيدها وذخرها وسر نهضتها وبناة مجدها ومستقبلها، فبصلاحكم واستقامتكم تصلح الأمة وتستقيم، ومن أهم عوامل تحقيق صلاحكم واستقامتكم وعيكم بواجبكم وملؤكم أوقاتكم بالنافع المفيد، وها أنتم ـ أيها الشباب ـ تستقبلون إجازتكم السنوية، فإياكم إياكم والفراغ والبطالة، فإنهما أصل كثير من الانحراف ومصدر أكثر الضلال، كما قال الأول:
إن الشباب والفراغ والجِدة مفسدة للمرء أي مفسدة
فاملؤوا أوقاتكم في هذه الإجازة بالنافع والمفيد في دين أو دنيا، ولا تتركوها نهبًا لشياطين الإنس والجن. وقد يسر الله تعالى لكم في هذه الأزمان قنوات عديدة، تستغلون من خلالها أوقاتكم، وتنمون قدراتكم وعلومكم ومعارفكم، بل وإيمانكم، فمنها حِلق القرآن الكريم المنتشرة في المساجد، فإنها من رياض الجنة وفيها خير عظيم.
ومن هذه القنوات التي تحفظون بها أوقاتكم تلك الدروس العلمية والدورات التي تقام هنا وهناك، وفيها يتعلم الشاب ما يجب عليه معرفته من علوم الشريعة والدين.
ومن هذه القنوات أيضًا المراكز الصيفية التي يشرف عليها أساتذة فضلاء ومربون نجباء، يعملون على إشغال أوقات الشباب بما يفيدهم وينفعهم، ففيها الأنشطة الترويحية والمهنية، وفيها الدورات العلمية والثقافية.
فاحرصوا ـ أيها الشباب ـ على الانضمام إليها، والاستفادة منها، فإن فيها خيرًا كثيرًا، وغالب المشتركين فيها هم أهل الخير والصلاح من الشباب.
شباب كما الإسلام يرضى خلائقًا ودينًا ووعيًا في اسوداد المفارق
أقاموا لواء الدين من بعد صدعه وأعلوا لواء الحقّ فوق الخلائق
فإن أبيت هذا فاحرص على شغل وقتك بتجارة أو زراعة أو صناعة، تملأ وقتك، وتحفظك من شرور الفراغ وأهله، فإن نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ولا بد.
وإياك ـ يا أخي الحبيب ـ ورفقةَ السوء وقرناءَ الشر الذين يزينون لك المنكر ويدعونك إليه، ففر منهم فرارك من الأسد.
الوقفة الثانية: مع أولياء الأمور من الآباء والأمهات، فأقول لهم:
أيها الأفاضل، إن الله تعالى منّ عليكم بالولد، ذكورًا وإناثًا، وتلك من مننه الكبار.
منن الإله على العباد كثيرة وأجلّهنّ نجابة الأولاد
وحمّلكم الله تعالى مسؤولية تربيتهم وحفظهم وتنشئتهم على العبادة والطاعة، كما قال النبي : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجِّسانه)) [3] ، فما تقومون به اليوم من حسن التربية والرعاية والحفظ والصيانة لفلذات أكبادكم تجنونه ثوابًا وأجرًا عند الله في الآخرة، وبرًا وإحسانًا في الدنيا، وقد كلفكم الله وأمركم بحفظهم ووقايتهم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقد قال النبي : ((والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسؤولة عن رعيتها)) رواه الشيخان [4]. فمحافظتك على أولادك ورعايتك لهم والاجتهاد في إصلاحهم وإبعادهم عن الفساد وأهله مقدمة ضرورية لاستقامتهم وصلاحهم.
وينشأ ناشئ الفتيان منّا على ما كان عوّده أبوه
فالأب الذي أدار ظهره لأولاده وبيته، فلم يجلس فيه إلا ساعات قصارًا، في نوم أو أكل، وقد أخذت مشاغله بتلابيب قلبه، وشغلت لبه وقلبه، فلم يلتفت لأولاده، ولا لتربيتهم وإصلاحهم، هل قام بما أوجب الله عليه؟!
والأب الذي ترك الحبل على الغارب لأولاده ذكورًا وإناثًا، يخرجون متى يشاؤون، ومع من يريدون، يسهرون إلى الفجر، وينامون أكثر النهار، ويصاحبون أهل السوء، ويهاتفون أهل الشر، هل قام بحفظهم ورعايتهم؟!
والأب الذي أدخل إلى بيته وسائل الإفساد والدمار، وامتطت صحون الشر وأطباق البلاء صهوة بيته، وانتشرت مجلات الشر وأشرطة الخراب في حجر أولاده، هل قام بتنشئة أولاده على البر والتقوى؟!
إن الجواب على هذه الأسئلة ما ترونه من أحوال أبناء هؤلاء لا ما تسمعون.
فيا أولياء الأمور، اتقوا الله فيمن استرعاكم الله إياهم، مروا أولادكم بالمعروف، ورغبوهم فيه، وانهوهم عن المنكر، ونفروهم منه، احفظوهم عن قرناء السوء وأصحاب الشر، أبعدوهم عن وسائل الإعلام الفاسد، أشغلوا أوقاتهم في هذه الإجازة بما يعود عليهم بالنفع في دينهم ودنياهم، وبادروا بذلك كله في أوائل أعمارهم، فإن الأمر كما قيل:
إن الغصون إذا عدّلتها اعتدلت ولا تلين إذا قوّمتها الخشب
[1] أخرجه البخاري في الرقاق (933)
[2] رواه الحاكم بسند جيد.
[3] أخرجه البخاري في الجنائز (296).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (844), ومسلم في الإمارة (3408).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، الوقفة الثالثة: مع أولئك الذي قد شدوا حقائبهم، وأعدوا أمتعتهم، وحجزوا مراكبهم للسفر إلى بلاد الكفر والبلاء، ومواطن الفتنة العمياء في الغرب أو الشرق، وما شابهها من البلدان العربية أو الإسلامية، إلى هؤلاء أقول:
اتقوا الله في أنفسكم وأهليكم، فإن السفر إلى تلك البلاد محرم لا يجوز، لما فيه من تعريض النفس والأهل والولد للفتنة التي أعلاها الكفر بالله تعالى، وأدناها موافقة المعاصي والذنوب، أو على أقل الأحوال استساغة المنكر والفجور، فإن تلك البلاد والمصايف قد تعرت قلوب أهلها عن الإيمان، وانسلخت أجسادهم عن زي أهل الحشمة والحياء والإسلام، وانتشرت بين أهلها الخمور، وظهر الزنا والخنا، فعدّ المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولا شك أن من ذهب إلى تلك الأمصار فقد عرض نفسه للفتن والأخطار، وأنت ـ يا عبد الله ـ مأمور بالنأي عن الفتن صغيرها وكبيرها، فقد أخبر النبي في فتنة الدجال أن خير مال المسلم في آخر الزمان غنم يتبع بها شعف الجبال، يفر بدينه من الفتن [1] ، أعاذنا الله وإياكم من الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
وليعلم هؤلاء المفتونون بالسفر إلى تلك البلاد أن عليهم وزر كل ذنب يقارفه أولادهم وأهلوهم، قال النبي : ((ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا يَنقص ذلك من آثامهم شيئًا)) [2].
الوقفة الأخيرة: هي مع ورثة الأنبياء من الدعاة وطلبة العلم، فأقول لهؤلاء:
أنتم يا من عقد الأمة عليكم آمالها، ورنت إليكم بأبصارها، وهوت إليكم بأفئدتها، إن المسؤولية التي أنيطت بكم وألقيت على كاهلكم في توجيه الناس وتربيتهم ودعوتهم وتبصيرهم أعظم من مسؤولية غيركم، لا سيما في هذا الزمان الذي كثر فيه الباطل والفساد، ونفقت فيه سلع أهل الكفر والإلحاد، ونشط دعاة التغريب والإفساد، وقويت فيه أسباب الزيغ والانحراف، فالأمة مهددة بجحافل هؤلاء المفسدين المتربصين الذين يجرون الناس إلى الفساد جرًا، ويأطرونهم على الكفر والفسوق والعصيان أطرًا.
فواجبكم إزاء هذا الواقع المفزع المرير كبير خطير، لا يسوغ لكم التخلي عنه ولا الرجوع عنه، فسابقوا ـ بارك الله فيكم ـ أعداءكم، واعملوا بمضاء وجدٍّ، فاجتهدوا في الدعوة إلى الله تعالى، اسلكوا كل سبيل، واطرقوا كل باب لنشر الخير بين الناس، سافروا إلى القرى والأمصار، وعلموا الجاهل، وأرشدوا التائه، ودلوا الحائر، مُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، حذروا الناس من الفساد والعصيان، عَرُّوا لهم الباطل، واهتكوا ستره، واكشفوا زيفه، واجهوا الغارة الشعواء التي يشنّها خصوم الإسلام وأعداؤه بالعلم والبيان والدعوة والصبر والإيمان، قاوموا وسائل التدمير والإفساد بوسائل البناء والإرشاد، انشروا الكلمة الطيبة والمحاضرة النافعة والكتاب المفيد، أقيموا الدروس والكلمات في مساجدكم وأحيائكم ومجالسكم واجتماعاتكم، وليبذل كل منكم في مجاله؛ فالمدرس في حلقته، والمربي في مركزه، والإغاثي في مواطن الاحتياج إليه، أخلصوا في ذلك كله لله تعالى، فإن ما كان لله يبقى، وما كان لغيره يذهب أدراج الرياح، لا تحقروا من أعمال البر والدعوة شيئًا، ولو أن تلقى أخاك المسلم بوجه طلق.
واعلموا أنكم إذا أخذتم بذلك كنتم من أحسن الناس قولاً، قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3055).
[2] أخرجه مسلم في العلم (4831).
(1/3819)
الدعاء وأثره في حرب أمريكا
موضوعات عامة
جرائم وحوادث
محمد الشعراني
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطغيان والظلم عاقبته المحق والهلاك. 2- بعض جرائم أمريكا بحق شعوب العالم المختلفة. 3- الدعاء من وسائل نصرة المستضعفين. 4- الجهاد سبيل النصر. 5- دعوة المظلوم لا تُرد.
_________
الخطبة الأولى
_________
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
لا يقع في هذا الكون حادث صغير ولا كبير مما يفرح له الناس أو يحزنون أو يتفرقون فيه إلا بقدر سابق سطره القلم في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرش الرحمن على الماء.
أيها المؤمنون الموقنون بصدق وعود الله ومواعيده، أقول لكم: إنه لا يخرج عن سنة الله الكونية فرد ولا أمة، مهما تقادمت الدهور أو تأخرت العصور، مهما طغى من طغى أو أوتي من العلو في الأرض والعتو عن أمر الله، فما الحضارات المتعاقبة إلا قرون أو قرى تجري عليها السنة التي لا تبديل فيها ولا تحويل، وما أمريكا إلا قرية من القرى التي أسرفت على نفسها بالمعاصي، كما فعلت عاد وثمود وقرون بين ذلك كثيرة، فأحلّ الله عليهم سخطه وأنزل بهم عذابه، فما أهون الخلق على الله إذا عصوه وتعرضوا لانتقامه، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ?لصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ?لأرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت:40]، وترك الله مساكنهم داثرة، وآبارهم معطلة، وقصورهم مشيدة، وخاطبهم حين ولوا مدبرين: لاَ تَرْكُضُواْ وَ?رْجِعُواْ إِلَى? مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَـ?كِنِكُمْ [الأنبياء:13]، ولكن هيهات! فقد جعلها الله أنقاضًا وركامًا، لتكون حسرة عليهم في الدنيا قبل الآخرة، والعجب كل العجب من حلم الله على هذه الأمة الطاغية التي جمعت بين جبروت عاد وعدوان ثمود واستكبار فرعون وخبائث قوم لوط وتطفيف أهل مدين، وضمت إلى ذلك مكر اليهود وحرصهم على حياة وتلاعبهم بالألفاظ وتزكيتهم لأنفسهم على كل أحد سواهم، فماذا ينتظر الناس لهذه الأمة إلا أن تحل بها سنة الذين خلوا من قبل وأن تتابع عليها أيام الله؟! ولا غرابة أن يقول قسيسها الكبير يوم الحادي عشر من سبتمبر يومَ أراهم الله تعالى شيئًا من عقابه: "هذه هي البداية فقط".
أي بني عمي، إخوة ملتي، عندما يردّد الناس بأن كل إناء بالذي فيه ينضح، وأن التاريخ يعيد نفسه، لم يكذبوا، فالولايات المتحدة الأمريكية التي أسستها ثلاث طوائف من المهاجرين، امتزجوا امتزاجًا فريدًا غير مسبوق، من طائفة البروتستانت الأنجلوساكسونيين المتعصبين للنصوص التوراتية المحرفة، وطائفة اليهود النازحين، والطائفة الثالثة من الهاربين من العدالة من أوروبا، اختلط المزيج مُوَلِّدًا أعظم ما مر في التاريخ البشري من أنواع الجريمة.
ندعوكم إلى جولة تاريخية تشمئز منها النفوس الأبية، وتمرض القلوب الحية، وتعجز عن فهمها أكبر العقول الذكية، تحيّر فيها العقلاء، واتفقت البشرية جمعاء بعد مشاهدتها على أنه قد آن أوان ذبح الزانية الكبرى التي زَهمت من زناها الأنوف.
أولاً: هذه جولة في بعض جرائمها بحق البشرية، لقطات فقط أعرضها عليكم، والعرب تقول: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق:
1- قاموا بإبادة ملايين الهنود الحمر وهم السكان الأصليون لأمريكا.
2- في ليلة من ليالي عام 1944م في الحرب العالمية الثانية دمرت 334 طائرة أمريكية ما مساحته 16 ميلاً مربعًا من طوكيو، بإسقاط القنابل الحارقة، وقتلت 100 ألف شخص، وشردت مليون نسمة، ولاحظ أحد كبار جنرالاتهم بارتياح أن الرجال والنساء والأطفال اليابانيين قد أحرقوا، وتم غليهم وخبزهم حتى الموت، وكانت الحرارة شديدة جدًا حتى إن الماء قد وصل في القنوات درجة الغليان، وذابت الهياكل المعدنية، وتفجر الناس في ألسنة من اللهب، وتعرضت أثناء الحرب حوالي 64 مدينة يابانية ـ فضلاً عن "هيروشيما وناغازاكي" ـ إلى مثل هذا النوع من الهجوم، ويشير أحد التقديرات إلى مقتل زهاء 400 ألف شخص بهذه الطريقة.
4- وبين عامي 1952م و1973م ذبحت الولايات المتحدة في تقدير معتدل زهاء عشرة ملايين صيني وكوري وفيتنامي ولاووسي وكمبودي.
5- وبحلول منتصف عام 1963م سببت حرب فيتنام مقتل 160 ألف شخص، وتعذيب وتشويه 700 ألف شخص، واغتصاب 31 ألف امرأة، ونزعت أحشاء 3000 شخص وهم أحياء، وأحرق 4000 حتى الموت، وهوجمت 46 قرية بالمواد الكيماوية السامة، وغزاها نحو مليون جندي، ولمدة أحد عشر عامًا، واستخدمت فيها أنواع الأسلحة المحرمة دوليًا، وفي نهاية حرب فيتنام عام 1975م بعد أن وضعت الحرب أوزارها اتضح أن عدد القتلى على يد الأمريكيين بلغ نحو 3.6 مليون قتيل.
هذا وكان الرئيس الأمريكي "ريتشارد نيكسون" حسب تقارير سرية يريد أن يكمل ضرب الفيتناميين بقنبلة نووية، كل ذلك لأن أمريكا خسرت 55 ألف عسكري دفعت بهم إدارة "نيكسون" لغزو فيتنام، الأمر الذي يمس المصلحة الأمريكية، حيث يضر بسمعتها ويهون من قوتها وهيبتها كقوة عظمى، والآن بعد ثلاثين عامًا من توقف الولايات المتحدة عن رش المواد الكيماوية هناك كشف حديثًا عن معاناة مليون شخص من بينهم مائة وخمسون ألف طفل مشوه من آثار المواد الكيماوية التي كانت تلقيها الطائرات الأمريكية على الغابات؛ لحرمان المقاتلين من الاحتماء بها.
عام 1964م قامت الولايات المتحدة الأمريكية بالأعمال العدوانية المسلحة ضد لاوس، بهدف دعم الحكومة الموالية لها. شارك في هذا العدوان 50 ألف جندي وضابط من الجيش الأمريكي و1500 طائرة و40 سفينة حربية، واستخدمت أمريكا أيضًا السلاح الكيماوي بصورة كبيرة.
6- وأدى القصف الأمريكي "لهانوي وهايفونغ" في فترة أعياد الميلاد عام 1972م إلى إصابة أكثر من 30 ألف طفل بالصمم الدائم.
في 1973م المخابرات المركزية الأمريكية تنفذ انقلابًا ضد "سلفادور أليندي" في تشيلي. وكانت نتيجة الانقلاب مقتل "سلفادور" وإعدام 30 ألفًا واعتقال 100 ألف.
يوليو 1977م وافق مجلس الشيوخ الأمريكي على إنتاج قنابل النيترون، وهي قنبلة خطيرة تقتل البشر دون أن تلحق أضرارًا بالمنشآت أو المباني، والتي أكد الرئيس الأمريكي كارتر أن تطوير إنتاجها سيكلف الخزانة الأمريكية 46 مليون دولار من الآن وحتى عام 1980م.
يناير 1979م طلبت الحكومة الأمريكية من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إعداد دراسة شاملة حول الحركات الإسلامية في جميع أنحاء العالم.
9 أغسطس 1979م صرح "بريجنسكي" مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي أن الولايات المتحدة بدأت منذ عامين في تشكيل قوة التدخل السريع، بهدف حماية مصالحها ومصالح حلفائها بصورة فعالة في المناطق التي تنشب فيها الاضطرابات.
في عام 1989م غزا الأمريكيون بنما، وقتلوا المئات وربما الآلاف في سبيل إعادة السلطة بزعامة السفاح عميل المخابرات الأمريكية وتاجر المخدرات الكبير "مانويل نوريجا"؛ لأنه الممثل الشرعي الوحيد للمصلحة الأمريكية في بنما.
20 ديسمبر 1989م قامت القوات الأمريكية بغزو بنما بأمر من الرئيس الأمريكي "جورج بوش" لاعتقال الجنرال "مانويل نوريجا" لمحاكمته في الولايات المتحدة.
في 14 أكتوبر 1946م أصدر الرئيس الأمريكي "ترومان" بيانًا يدعو إلى هجرة يهودية كبيرة إلى فلسطين، دون انتظار التوصل إلى تسوية دائمة لمستقبل انتداب فلسطين.
استخدمت أمريكا ما يسمى بحق الرفض "الفيتو" 29 مرة من عام 1967م إلى يونيو 1990م ضد الفلسطينيين وغيرهم من المسلمين، لإلغاء قرارات من مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، منها: في 1986م "الفيتو" ضد مشروع قانون لمجلس الأمن يدين الانتهاكات الإسرائيلية لحرمة المسجد الأقصى، ويرفض مزاعم إسرائيل باعتبار القدس عاصمة لها، وفي 1988م "الفيتو" ضد اقتراح في مجلس الأمن يطالب بالحد من عمليات الانتقام الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
7- وقتل الجيش الأمريكي المدرب في "غواتيمالا" أكثر من 150 ألف فلاح، بين عامي 1966م و1986م.
وما بين تاريخ 1412هـ و1414هـ قتل الجيش الأمريكي الآلاف من الصوماليين أثناء غزوهم للصومال.
وفي عام 1419هـ شنت أمريكا هجومًا عنيفًا بصواريخ كروز على السودان وأفغانستان، وقصفوا خلاله معمل الشفاء للدواء في السودان، وقتلوا أكثر من مائتين.
واليوم يصرح الرئيس الأمريكي "بوش" بأن مجرم الحرب السفاح شارون رجل سلام.
هذه بعض أعمال من أطلق على البنتاجون في 11 سبتمبر أنه بريء، وهو بتعبير المفكر الأمريكي الشهير "غور فيدال" وأمثاله بل عند العامة هناك: "وكر جهنم" أو "وكر المؤامرات الشريرة في العالم" أو "عش الشياطين". وصدق الله: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة:2]. ومن أمن العقوبة أساء الأدب.
يقول اليهودي "نعوم تشو مسكي": إن هناك ما يكفي من الأدلة لاتهام كل الرؤساء الأمريكيين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية بأنهم مجرمو حرب. وقد وصف المؤرخ الشهير "إرنولد توينبي" الحضارة الغربية بأنها أكثر الحضارات إجرامًا في التاريخ. وقال الإنجليزي "جيف سيمونز" في كتابه (التنكيل بالعراق): "إنني أشعر بالعار المتسم بالعجز إزاء ما حكمت به حكومتي والمتواطئون معها في الإبادة الجماعية، أولئك المشلولون نفسيًا".
وبلا ريب أن العاقبة والدائرة لهم لا عليهم: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ ?لْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ وَتِلْكَ ?لاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ?لنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ وَلِيُمَحّصَ ?للَّهُ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَمْحَقَ ?لْكَـ?فِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ ?للَّهُ ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ ?لصَّـ?بِرِينَ [آل عمران:139-142].
وقد أجاد من قال:
فلا عجب للأسد إن ظفرت بها كلابُ الأعادي من فصيح وأعجم
فحَرْبَة وحشيّ سقت حمزة الردى وموت عليّ من حسام ابن ملجم
وبعد هذا كله يقول بعض مرضى القلوب: إن الأمريكان عندما يحكموننا سيأتون بالخير والتكنولوجيا!! سبحان الله، ما أحلم الله، أي كفر بعد هذا؟! أيرضى مسلم يزعم أنه يؤمن بالله وبرسوله أن يحكمه كافر مشرك يدعي أن الله اتخذ صاحبة وولدًا؟! ألم نسمع كلمة المعتمد بن عباد ملك الأندلس حين قال: "لئن أرعى الجمال لابن تاشفين أحبّ إليّ من أن أرعى الخنازير للفونسو" الفنسو أمير النصارى الإسبان.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد: أيها المسلمون، إن الانتقام الرباني ليس له حدود، ولا لصوره نهاية، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]، ولكن نهاية الظالمين إلى اضمحلال، وعاقبتهم إلى سفال، فأين عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟! وأين ثمود الذين ينحتون الجبال بيوتًا؟! وأين فرعون ذو الطغيان والحنق، والذي قال تكبرًا وغرورًا: أنا ربكم الأعلى؟! وأين قارون الذي تعجز الإبل عن حمل مفاتيح خزائنه؟! فبظلم يكون سقوط الدول ونهاية الظالمين، والعاقبة للمتقين.
انظروا شيئًا من عقاب الله لأمريكا في غزوها للعراق بالريح الصفراء لثلاثة أيام، وفي الحديث الصحيح: ((الريح تبعث عذابا لقوم ورحمة لآخرين)).
أيها الإخوة، الدعاء الدعاء، والقنوت على أعداء الله.
إن يكن للكفر آلات قتال فلنا في هجعة الليل القنوت
عن أبي هريرة عن النبي قال: ((ليس شيء أكرم على الله سبحانه من الدعاء)) رواه أحمد وهو حديث حسن، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجرًا ففجوره على نفسه)) رواه أحمد والطيالسي بإسناد حسن.
وإن العراق اليوم مظلوم يجب نصرته، كما نصرنا الكويت يوم ظلمها العراق، وفي الحديث الصحيح: ((اتقوا دعوة المظلوم؛ فإنها تحمل على الغمام، يقول الله جل جلاله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين)) ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((اتقوا دعوة المظلوم، فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرارة)) رواه الحاكم وهو صحيح.
وهذه أمريكا أؤكد لكم بأن نهايتها وتخليص العالم من شرها سيكون على يد المجاهدين الذين يجاهدون لأجل إعلاء كلمة الله، نعم الجهاد، يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب)).
وعن أسلم أبي عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم مُلْصِقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مَهْ مَهْ، لا إله إلا الله يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه وأظهر الإسلام قلنا: هلمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ?لتَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية. رواه أبو داود.
وهو باب النصر وزوال الهموم والكروب، كما في الصحيحة: ((عليكم بالجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى؛ فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغم)) ، وقال : ((اطلبوا إجابة الدعاء عند التقاء الجيوش وإقامة الصلاة ونزول المطر)).
أكثروا من الدعاء، واحرصوا على القنوت خاصة بعد الصلوات، عن أبي هريرة قال: والله، لأُقَرِّبنَّ لكم صلاة رسول الله ، قال: فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الآخرة من صلاة الظهر وصلاة العشاء الآخرة وصلاة الصبح، بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، فيدعو للمؤمنين ويلعن الكافرين.
وعن أنس أن رسول الله قنت شهرًا، قال شعبة: لعن رجالاً، وقال هشام: يدعو على أحياء من أحياء العرب، ثم تركه، بعد الركوع، هذا قول هشام، وقال شعبة عن قتادة عن أنس: أن النبي قنت شهرًا يلعن رِعْلاً وذَكْوان ولَحْيان. رواه النسائي.
وما يدريكم أن الله تعالى قد عَلِمَ حاجة هذه الأمة إلى اليقين والإيمان، فجاء بهذا الحادث ليكون آية من عنده على أن القوة لله جميعًا، وأنه تعالى قادر على أن يفعل بكل عدو للإسلام ما فعل ببني النضير الذين ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فَأَتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ ?لرُّعْبَ [الحشر:2].
تقول أمريكا كما قالت عاد: لا أحد أشد منها قوة، فَأَمَّا عَادٌ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ ?لَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت:15].
فلو أن لزعمائها أدنى ذرة من ضمير لما استأسدوا على شعب محاصر منكوب، أكثره أطفال وأرامل يعانون الجوع والتشرد والبرد والمرض، كنا نتوقع أن يستقيل بعض وزرائهم أو قادتهم بسبب هذا، ولكن تبين أنهم سواء في التجرد من الإنسانية والعدل. وقد عاقبهم الله بأن جعلوا أنفسهم في أصعب موقف، والعالم كله يبغضهم، بل يبغض رموز حضارتهم، كالمطاعم وغيرها كما نشاهده في القنوات، وهذه بداية النهاية السريعة في تفكك أمريكا من داخلها، وحرب الناس عليها من كل أقطار الدنيا.
اللهم زلزل أمريكا...
(1/3820)
الروح
موضوعات عامة
مخلوقات الله
محمد الشعراني
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الروح مخلوقة. 2- معنى موت النفوس. 3- حال الأرواح ومستقرها في البرزخ. 4- أقسام الأرواح. 5- دُور الروح الأربع.
_________
الخطبة الأولى
_________
السؤال1: هل الروح مخلوقة؟
قال شيخ الإسلام: "روح الآدمي مخلوقة مُبْدعة باتفاق سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة"، وقد حكى إجماع العلماء على أنها مخلوقة غير واحد من أئمة المسلمين، مثل محمد بن نصر المروزي الإمام المشهور الذي هو أعلم أهل زمانه بالإجماع والاختلاف أو من أعلمهم.
وكذلك أبو محمد بن قتيبة لما تكلم على خلق الروح، قال: النَّسَم الأرواح، قال: وأجمع الناس على أن الله خالق الجثة، وبارئ النسمة، أي: خالق الروح، وقال أبو إسحاق بن شاقلا فيما أجاب به في هذه المسألة: سألت ـ رحمك الله ـ عن الروح مخلوقة أو غير مخلوقة؟ قال: هذا مما لا يشك فيه من وفق للصواب... إلى أن قال: والروح من الأشياء المخلوقة، وقد تكلم في هذه المسألة طوائف من أكابر العلماء المشائخ، وردوا على من يزعم أنها غير مخلوقة.
وصنف الحافظ أبو عبد الله بن منده في ذلك كتابًا كبيرًا في الروح والنفس، وذكر فيه من الأحاديث والآثار شيئًا كثيرًا، وقبله الإمام محمد بن نصر المروزي وغيره، والشيح أبو يعقوب الخراز، وأبو يعقوب النهرجوري، والقاضي أبو يعلى وغيرهم، وقد نص على ذلك الأئمة الكبار، واشتد نكيرهم على من يقول ذلك في روح عيسى بن مريم، لا سيما في روح غيره، كما ذكره أحمد في كتابه في الرد على الزنادقة والجهمية.
السؤال2: هل تموت النفوس وتفنى؟
قال الإمام ابن القيم في كتاب (الروح): "والصواب أن يقال أن موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتضمحل وتصير عدمًا محضًا فهي لا تموت بهذا الاعتبار".
وذكر الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) أن الموت تغير حال فقط، وأن الروح باقية بعد مفارقة الجسد، إما معذبة وإما منعمة، ومعنى مفارقتها للجسد انقطاع تصرفها عنه، بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلات للروح، والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وانتهى إلى القول: "لا يمكن كشف الغطاء عن كنه الموت، إذ لا يعرف الموت من لا يعرف الحياة". وقال الشيخ الدكتور بكر أبو زيد رئيس مجمع الفقه الإسلامي في بحثه القيم عن هذا الموضوع: "إن حقيقة الوفاة هي مفارقة الروح البدن، وإن حقيقة المفارقة هي خلوص الأعضاء كلها عن الروح، من حيث لا يبقى جهاز من أجهزة البدن فيه صفة حياتية".
السؤال3: مَن خلِق أولاً؟
الذي خلق أولا الأجساد لقوله تعالى: إِنّى خَـ?لِقٌ بَشَرًا مّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَـ?جِدِينَ [ص:71، 72].
الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت، فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهم متفاوتون في منازلهم، كما رآهم النبي ليلة الإسراء.
ومنها أرواح في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه أو غيره، كما في المسند عن محمد بن عبد الله بن جحش أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: ما لي ـ يا رسول الله ـ إن قتلت في سبيل الله؟ قال: ((الجنة))، قال: فلما ولى قال: ((إلا الدَّين، سارَّني به جبريل آنفا)).
ومنهم من يكون محبوسًا على باب الجنة كما في الحديث الآخر: ((رأيت صاحبكم محبوسا على باب الجنة)) صححه الألباني.
ومنهم من يكون محبوسًا في قبره، كحديث صاحب الشملة التي غلها ثم استشهد، فقال الناس: هنيئًا له الشهادة، فقال النبي : ((والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم ولم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نارًا)).
ومنهم من يكون مقره باب الجنة، كما في حديث ابن عباس: ((الشهداء على بارق نهر بباب الجنة، في قبة خضراء، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشية)) رواه أحمد. وهذا بخلاف جعفر بن أبى طالب حيث أبدله الله من يديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.
ومنهم من يكون محبوسًا في الأرض لم تُعْل روحه إلى الملأ الأعلى، فإنها كانت روحًا سفلية أرضية، فإن الأنفس الأرضية لا تجامع الأنفس السماوية، كما لا تجامعها في الدنيا، والنفس التي لم تكتسب في الدنيا معرفة ربها ومحبته وذكره والأنس به والتقرب إليه هي أرضية سفلية لا تكون بعد المفارقة لبدنها إلا هناك، كما أن النفس العلوية التي كانت في الدنيا عاكفة على محبة الله وذكره والقرب إليه والأنس به تكون بعد المفارقة مع الأرواح العلوية المناسبة لها، فالمرء مع من أحب في البرزخ ويوم القيامة، والله تعالى يزوّج النفوس بعضها ببعض في البرزخ ويوم المعاد، كما تقدم في الحديث، ويجعل روحه ـ أي: المؤمن ـ مع النسم الطيب أي: الأرواح الطيبة المشاكلة، فالروح بعد المفارقة تلحق بأشكالها وأخواتها وأصحاب عملها، فتكون معهم هناك.
ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتُلْقم الحجارة، فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد، بل روح في أعلى عليين، وروح أرضية سفلية لا تصعد عن الأرض.
وأنت إذا تأملت السنن والآثار في هذا الباب وكان لك بها فضل اعتناء عرفت حجة ذلك، ولا تظن أن بين الآثار الصحيحة في هذا الباب تعارضًا، فإنها كلها حق يصدق بعضها بعضًا، لكن الشأن في فهمها ومعرفة النفس وأحكامها، وأن لها شأنًا غير شأن البدن، وأنها مع كونها في الجنة فهي في السماء، وتتصل بفناء القبر وبالبدن فيه، وهي أسرع شيء حركة وانتقالاً وصعودًا وهبوطًا، وأنها تنقسم إلى مرسلة ومحبوسة وعلوية وسفلية، ولها بعد المفارقة صحة ومرض ولذة ونعيم وألم أعظم مما كان لها حال اتصالها بالبدن بكثير، فهنالك الحبس والألم والعذاب والمرض والحسرة، وهنالك اللذة والراحة والنعيم والإطلاق، وما أشبه حالها في هذا البدن بحال ولد في بطن أمه، وحالها بعد المفارقة بحاله بعد خروجه من البطن إلى هذه الدار.
فلهذه الأنفس أربع دور، كل دار أعظم من التي قبلها:
الدار الأولى في بطن الأم، وذلك الحصر والضيق والغم والظلمات الثلاث.
والدار الثانية هي الدار التي نشأت فيها وألفتها، واكتسبت فيها الخير والشر وأسباب السعادة والشقاوة، وهي الدنيا.
والدار الثالثة دار البرزخ، وهي أوسع من الدار الثانية وأعظم، بل نسبتها إليها كنسبة الدار الثانية إلى الأولى.
والدار الرابعة دار القرار، وهي الجنة أو النار، فلا دار بعدها، والله ينقلها في هذه الدور طبقًا بعد طبق، حتى يبلغها الدار التي لا يصلح لها غيرها، ولا يليق بها سواها، وهي التي خلقت لها، وهيئت للعمل الموصل لها إليها، ولها في كل دار من هذه الدور حكم وشأن غير شأن الدار الأخرى، فتبارك الله فاطرها ومنشئها، ومميتها ومحييها، ومسعدها ومشقيها، الذي فاوت بينها في درجات سعادتها وشقاوتها، كما فاوت بينها في مراتب علومها وأعمالها، وقواها وأخلاقها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3821)
إفساد أمريكا في الأرض
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
محمد الشعراني
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دور أمريكا في الفساد الأخلاقي في العديد من البلدان. 2- بعض صور الفساد المنتشر في أمريكا. 3- وعي أبناء الأمة بخطط أعدائهم أحد ضرورات النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي استخلص الحمد لنفسه، واستوجبه على جميع خلقه، الذي ناصية كل شيء بيديه، ومصير كل شيء إليه، القوي في سلطانه، اللطيف في جبروته، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، خالق الخلائق بقدرته، ومسخّرهم بمشيئته، وَفِيّ العهد، صادق الوعد، شديد العقاب، جزيل الثواب. أحمده وأشكره على ما أنعم به، مما لا يحصيه غيره، وأتوكل عليه توكل المستسلم لقدرته، المتبرئ من الحول والقوة إلا به، وأشهد شهادة لا يشوبها شك أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهًا واحدًا صمدًا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وأشهد أن محمدًا صفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بالمعروف آمرًا، وعن المنكر ناهيًا، وإلى الحق داعيًا، على حين فترة من الرسل، وضلالة من الناس، واختلاف من الأمور، وتنازع من الألسن، حتى أكمل به الدين، وتمم به النعمة، وأنذر به أهل الأرض، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
خلت بغداد من أبنائها النجب وأقفرت من بني أبنائها الشهب
طارت على الشاطئ الخالي حمائمه أقلعت سفن الإسلام والعرب
يا أخت أندلس صبرًا وتضحية وطول صبر على الأرزاء والنوب
ذهبت في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلس من قبل في الحقب
وطوحت ببنيك الصيد نازلة بمثلها أمة الإسلام لم تصب
سبحان المتفرد بالتدبير الحكيم الخبير، أنا أريد وأنت تريد، والله يفعل ما يريد.
يقول الناس: لقد أصبنا بالإحباط، وأضربت عندنا الثوابت، واختلت في عيوننا الموازين، نشعر باليأس ونرى النصر بعيدًا والحلقات الضيقة ازدادت ضيقًا، فلا نرى الفرج. أمريكا وبريطانيا والغرب ينتصرون، بالرغم من فسادهم وإفسادهم!!
فنقول: يا أمتنا صبرًا، أقسم بالله الذي رفع السموات بلا عمد، إن هذه المشاعر علامة على أن النصر قريب، أخي تأمل معي قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214]، أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ ، أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ.
بلى، المعادلة اتضحت الآن، أمة كافرة مفسدة تعيث في الأرض فسادًا، تزيد الآن فسادًا، وأمة مغلوبة قانطة يائسة محبطة، الأولى تصيح الآن كما صاحت عاد، تقول أمريكا كما قالت عاد: لا أحد أشد منا قوة، فَأَمَّا عَادٌ فَ?سْتَكْبَرُواْ فِى ?لأَرْضِ بِغَيْرِ ?لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ?للَّهَ ?لَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يَجْحَدُونَ [فصلت:15].
نعم أيها المسلمون، كثر إفساد أمريكا في الأرض، بالرغم من أن أحمقها بوش يتجرأ على الرب سبحانه وعلى عباده الصالحين، فيعلن حربه على المجاهدين والمسلمين، بدعوى أنهم يحاربون حريتهم وحضارتهم، أيّ حرية يتكلم عنها هذا العلج؟! أمريكا لو كان فسادها قاصرًا عليها لكانت تستحقّ من العقوبات الإلهية الشيء العظيم، فكيف وقد تعدى فسادها إلى غيرها، فعاثت في الأرض فسادًا.
إن الفساد الأخلاقي والانحلال في كثير من المجتمعات كانت أمريكا تقف وراءه، تأمل معي:
1- هذه بانكوك عاصمة الفساد الجنسي في العالم، كان الوجود العسكري الأمريكي العامل الرئيس في تفشي الفساد والانحلال فيها.
2- أكبر مصدر للأفلام الخبيثة في العالم هي "هوليود" عاصمة السينما في أمريكا.
3- أكبر دولة من حيث عدد قنوات الجنس والمواقع الإباحية في الإنترنت هي أمريكا التي تفسد الملايين الملايين.
4- أكبر الشركات المصدرة للخمور والدخان توجد في أمريكا.
5- أكبر مصانع الأسلحة التي يقتتل بها البشر توجد في أمريكا.
وغير ذلك من أسباب نشر الفساد والرذيلة في المجتمعات.
فإن من نعم الله التي لا تعد ولا تحصى أن جعل قيادة هذا التحالف الكافر بيد هذه الدولة الظالمة، حتى يستبين الطريق، ولا يلتبس على أحدٍ ممن يريد الحق، فتاريخها مليء بالظلم والخبث والفساد والإفساد، وملفها الأسود معروف لكل الناس، وهذا مما يجعل الحق أشد وضوحًا، ولله الحمد والمنة.
وأمريكا رأس الكفر والإلحاد، وأصل الفساد والانحلال، وبلاد العهر والفجور والفواحش والمنكرات، قد عشش عليها الشيطان، وضرب فيها قبابه.
أكثر دول العالم في عدد دور الدعارة واللواط والسحاق وأندية العري وحمل السفاح ومواليد الزنا وزنا المحارم وجرائم الأخلاق وقنوات الانحلال وشرب الخمور وأندية اللهو والميسر والرقص والفسق، وسأذكر فيما يلي قليلاً من الإحصائيات تشير إلى ما ذكرت مع العلم أن هذه الإحصائيات قديمة:
1- فيها أكثر من 20 مليون شاذ جنسيًا، أي: ممن يعمل بعمل قوم لوط من الرجال والنساء.
2- يباع فيها أكثر من 5000 طفل كل سنة.
3- حوالي ثلث المواليد هناك من الزنا، واللاتي يلدن سفاحًا من المراهقات فقط أكثر من نصف مليون مراهقة سنويًا.
4- من كل 20 شخصًا في أمريكا يوجد لقيط واحد.
5- قتل فيها أكثر من 15 مليون طفل من خلال الإجهاض القانوني.
6- تعتبر مدينة سان فرانسيسكو عاصمة اللوطية، ويمثلون ربع ناخبي المدينة.
7- فيها نحو من 100 مليون من المدمنين على شرب الخمر.
8- تنتج شركات الخمور في أمريكا ما قيمته أكثر من 24 مليارًا من الدولارات.
وأما الجرائم فيها فأكثر من أن تحصر، ومن ذلك:
1- في إحصائيات الحكومة الأمريكية بلغ عدد الجرائم عام 2000م حوالي 26 مليون جريمة.
2- وفي إحصائيتهم للجرائم عام 1999م كان ما يلي: كل 3 ثوان يحصل جريمة على ممتلك عقار، جريمة سرقة كل 15 ثانية، جريمه بشعة كل 22 ثانية، جريمة قتل كل 34 ثانية، جريمة اغتصاب كل 6 دقائق، جريمة اعتداء جسدي كل 34 ثانية.
وما ذكرته هنا شيء يسير جدًا من فساد هذه الدولة الكافرة. هذه هي حرية بوش ومَلَئِه التي عنها ينافحون، وفي الحفاظ عليها يناضلون، وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?للَّهَ غَـ?فِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ?لظَّـ?لِمُونَ [إبراهيم:42].
وإذا علمت ـ أخي المسلم ـ أن الله سبحانه ذكر ما ذكر عن قوم لوط فقال تعالى عنهم: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ?لرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ ?لسَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ ?لْمُنْكَرَ [العنكبوت:29]، وأكثر ما وجدت من سردٍ للمنكرات التي كان عليها قوم لوط هو ما رواه ابن عساكر عن أبي أمامة قال: كان في قوم لوطٍ عشر خصال يعرفون بها: لعب الحمام، ورمي البندق، والمُكاء، والخذف في الأنداء، وتبسيط الشعر، وفرقعة العلك، وإسبال الإزار، وحبس الأقبية، وإتيان الرجال، والمنادمة على الشراب.
وإذا قرنت هذه العشر بجانب الأرقام الفلكية للفساد الأمريكي تبين لك الفرق العظيم، وأن فساد أمريكا قد زاد على فساد قوم لوط بأضعافٍ مضاعفة.
وإذا علمت أن الله سبحانه عاقب قوم لوطٍ بعقوبة لم يعاقب بها أحدًا غيرهم، فقال تعالى عنهم: قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى? قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن طِينٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ [الذريات:32-34]، وقال تعالى: فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَـ?لِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنْضُودٍ [هود:82]، وقال تعالى: وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِى وَنُذُرِ [القمر:37]، وقال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ ?لصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر:73]، فعاقبهم الله سبحانه على منكراتهم بأن طمس على أعينهم، وأخذتهم الصيحة، وجعل أرضهم عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل. فما ظنك بالعقوبة التي تستحقها أمريكا ومن سار على دربها؟! وهل تستحق مثل هذه البلاد أن يبكي عليها أحد من ذوي الإيمان؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو البر الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله تبارك وتعالى، يقضي بما يشاء ويفعل ما يريد، وربك يخلق ما يشاء ويختار، أحمده سبحانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكفى بالله حسيبًا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، خير من سعى وطاف، وأفضل من بكى وخاف، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أيها المسلمون، إن غرور القوة الذي أصيب به أعداء الأمة جعلهم يُقدِمون ـ وما زالوا ـ على حماقات وأخطاء لا يستهان بها، قد تصدر هذه الحماقات والأخطاء منهم بقصد توجيه عدة صعقات كهربائية نفسية، تجهز على ما تبقى من روح في الأمة، ولكنا نراها بإذن الله لأننا نعرف حقيقة هذه الأمة صدمات كهربائية تقدر أمتنا على استيعابها، بل تساعدها على إفاقتها من غيبوبتها، وذلك بتنبيه مراكز الإحساس في منطقة الشعور الباطن لديها.
كما أن هذه الأمة بجميع فئاتها تشهد نموًا متزايدًا في الوعي، جعل أفرادها يدركون حقيقة الحرب الدائرة، وأنها حرب حضارية دينية في بعض جوانبها، وأنهم مستهدفون في هذه الحرب، وأن خيرات بلادهم محل أطماع من عدوهم، وجعلهم يدركون حقيقة مواقف زعماء الشعارات والتخدير الذين يتاجرون بقضايا الأمة، ولا يعملون إلا لاستمرار جثومهم فوق صدور أبنائها.
ويزيد من هذا الوعي وينميه تلاحق الأحداث، وسهولة التعرف عليها وعلى تفاصيلها ومشاهدتها ومتابعتها؛ فالناس يتابعون الحدث صورة بصورة، دقيقة بدقيقة، ويشاهدون بلاد الحرية وحقوق الإنسان ماذا تصنع بالأطفال والنساء والشيوخ بصواريخهم الذكية، بل حتى الإعلاميين لم تشأ بلاد الحرية المزعومة أن يصبحوا أحرارًا في نقل الفظائع، فكم صورة حجبوها، وكم موضوع منعوا طرحه، وكم مصوّر منعوه من تصوير جثث الأطفال والبيوت المدنية المهدمة، بل وكم من الإعلاميين قتلوه، بل وأرادوا أن يوقفوهم عن البث.
إن الظن بأن هذه الأمة ماتت أو ذبحت ولم يبق إلا التهامها هو محض وهم، ويجعلنا نقول بثقة إن ما قدَّر الله هو الخير الذي يحوي في طياته الرحمة والنعمة، وإن كان ظاهره الألم والمشقة؛ فهذه عقيدة إيمانية راسخة، تستضيء بنور الكتاب العزيز، وتستهدي بهدي النبي المصطفى ، وَ?للَّهُ غَالِبٌ عَلَى? أَمْرِهِ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
فهل من عودة إلى دين الله يا عباد الله؟! هل من توبة؟! هل من صحوة؟! فوالله، ما سلط علينا الأعداء إلا بذنوبنا، وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مّن دُونِهِ مِن وَالٍ [الرعد:11].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء الدين وسائر الطغاة والمفسدين، وألف بين قلوب المسلمين، ووحد صفوفهم، وأصلح قادتهم...
(1/3822)
المخرج من الفتن
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
سعد بن سعيد الحجري
أبها
جامع آل غليظ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتقال الإنسان من الدنيا إلى البرزخ ثم الآخرة. 2- كيف يكون جهاد النفس؟ 3- معركة الإنسان مع الشيطان مستمرة. 4- مراتب إنكار المنكر. 5- الفتنة في الدين أعظم الفتن. 6- الأمور التي تحصل بها النجاة من الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله ذي الفضل والمنن، طهر قلوب المؤمنين من الإحن، وأعاذهم من الفتن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي سن في خلقه السنن، يعلم السر والعلن، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الذي تعوذ من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، صلى الله وسلم عليه كلما زاد الإيمان والثبات، وزالت الفتن والمضلات.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ لاَ يَسْتَوِى أَصْحَـ?بُ ?لنَّارِ وَأَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ هُمُ ?لْفَائِزُونَ [الحشر:18-20]، وَسَارِعُواْ إِلَى? مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ?لسَّمَـ?و?تُ وَ?لأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، إِنَّ ?لَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ?للَّهُ ثُمَّ ?سْتَقَـ?مُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَـ?بُ ?لْجَنَّةِ خَـ?لِدِينَ فِيهَا جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13، 14].
واعلموا أن حياة المؤمن حياة متميزة، تميزت بأنها حياة ابتلاء واختبار، عاقبتها الجنة دار القرار، محفوفة بالمكاره والمخاطر، يمر فيها المؤمن بعدة عقبات:
العقبة الأولى: دار الدنيا التي فيها العمل والزرع الشاق، وفيها اغتنام الأعمال قبل حلول الآجال.
والعقبة الثانية: دار البرزخ التي هي إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، إما أن يقول ساكنها: رب أقم الساعة لأرجع لأهلي، وإما أن يقول: رب لا تقم الساعة.
والعقبة الثالثة: دار الحشر والجزاء والحساب، وفيها تبيض الوجوه أو تسود، وفيها تخف الموازين أو تثقل، وفيها تؤخذ الكتب بالإيمان أو بالشمائل.
والعقبة الرابعة: الصراط المنصوب على قمة جهنم، أحدّ من السيف، وأدق من الشعرة، يمر الناس عليه بقدر أعمالهم، فإما ناج أو مكدوس في نار جهنم، قال عبد الله ابن الإمام الأحمد لأبيه: متى نستريح؟ قال: نستريح إذا وضعت أول قدم في الجنة، وخلفت النار وراءك.
وكانت حياة المؤمن محفوفة بالمخاطر؛ لأنها حياة جهاد دائم وعمل صالح مستمر، يبذل فيها المؤمن جهده في الطاعة، فيسكت من فضول الكلام، ومن فضول النظر، ومن فضول السمع، ومن فضول الصحبة، ومن فضول الأكل، ومن فضول النوم، ويجاهد أعداءه الذين ضيعوا عمله وعمره.
وأول أعدائه النفس الأمارة بالسوء، يجاهدها بأربعة أمور:
بالعلم الشرعي الذي أرسل الله به رسوله ورفع درجات أهله وجعله الميراث الذي ورثه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، وجعله الطريق الذي يوصل إلى الجنة، وأهله لا يشبعون منه كما في قول ابن عباس: (منهومان لا يشبعان: طالب دنيا وطالب علم)، وجعله مانعًا لأهله من اللعنة، يقول : ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالما أو متعلمًا)). والعلم نور لأهله وحجة لهم، لا يناله إلا الأخيار الأتقياء، ويقول : ((من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين)) ويقول: ((خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)).
ويجاهدها بالعمل الصالح، فإنه أمر الله لرسله عليهم السلام ولأممهم، وهو وظيفة الدنيا وحسنة الآخرة، وهو خير زاد يتزود به العبد، وخير لباس يتزين به، وهو الصديق عند الضيق، وهو الذي يضاعف الله به الحسنات، ويغفر به السيئات، ويرفع به الدرجات، وتحفظ به الأوقات، وهو الربح من الدنيا والآخرة، وهو الذي يحفظ القلوب من أمراضها والألسن من آفاتها، يفتح الله به أبواب الخير، ويغلق أبواب الشر.
ويجاهدها بالدعوة إلى الله تعالى، فإنها أمر الله لرسوله وأمره لأوليائه، وهي أحسن القول، وأهلها هم أهل الجمال، وأكثر الناس أجرًا، وأكثر المخلوقات محبة للخالق والخلق، وبذلها أولى من بذل المال، يقول : ((إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)).
ويجاهدها بالصبر؛ لأنه النصر على النفس وعلى الأعداء، وهو خير لجام لها وهو صفة أهل الجنة، يقول الله تعالى: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر].
وثاني أعدائه الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، والذي وقف للإنسان بكل طريق، وأتاه من كل جهة، وأقسم أن يغويه، وطلب الإنظار إلى يوم الدين ليواصل الحرب للإنسان، وليضله عن سواء السبيل، عداوته ظاهرة بينة، يدعو إلى المعصية، ويحذر من الطاعة، لا يزال مع الإنسان حتى الموت، فإما أن يسلسل الإنسان، وإما أن يسلسله الإنسان، إما أن ينتصر على الإنسان، وإما أن ينتصر عليه الإنسان، ويجاهد بشيئين: باليقين لتدفَع الشبهات والوساوس عن الإنسان، وبالصبر لتدفع الشهوات، وبهذين السلاحين تنال الإمامة في الدين، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَـ?تِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24].
وثالث الأعداء أهل الفسق والعصيان الذين كثرت سيئاتهم وقلت حسناتهم، وزادت منكراتهم وقلت مراقبتهم لربهم، غلّبوا الرجاء على الخوف، فأمِنوا مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الفاسقون، ومن أمن في الدنيا أخافه الله يوم القيامة خوفًا لا ينقطع، واعتمدوا على نصوص الترغيب وأعرضوا عن نصوص الترهيب، فاستحوذ عليهم الشيطان حتى أنساهم ذكر الله، أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَـ?نِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَـ?نِ هُمُ الخَـ?سِرُونَ [المجادلة:19].
ويجاهد هؤلاء بثلاثة أمور: باليد لإنكار منكرهم ورد باطلهم، وهذه المرتبة لأهل الولاية العامة من الولاة والحكام، ولأهل الولاية الخاصة كالآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأعمام والعمات ونحوهم والأسياد والمعلمين ونحوهم، ويجاهَدون باللسان، وهذه المرتبة للعلماء والدعاة الذين يبلغون رسالة الله ويرثون رسل الله، فإن المواعظ للقلوب كالسياط للأبدان، وإن القلوب لا تفتح إلا بالمواعظ، ولا توصل إلا بها، ولا تذرف العيون إلا بها، ولا تقشعر الأبدان إلا بها، ويجاهَدون بالقلوب ببغضهم وعدم محبتهم وعدم الرضا بفعلهم وعدم القعود معهم، فهذا الحب في الله والبغض في الله، يقول : ((من رأى منكم منكرًا فلْيغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
والعدو الرابع هم الكفار من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين وغيرهم، ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وممن أفسدوا في الأرض ولم يصلحوا، وممن نشروا الرذائل وحاربوا الفضائل، يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم، وجهادهم بأربعة أشياء: بالقلب، نبغضهم ولا نحبهم، ونتقرب إلى الله بكرههم، وباللسان نحذِّر منهم ونبين عداوتهم، وندعو عليهم، وبالمال نبذله في حربهم، وبالنفس في قتلهم وتشريدهم.
وكانت حياة المسلم محفوفة بالمكاره والمخاطر؛ لأن الحياة مليئة بالفتن، وبسدّ هذه الأبواب الأربعة يسلم الإنسان من الفتن التي تفسد على الإنسان دينه ودنياه، وما نراه من كثرة الفتن في القلوب، حتى أظلمت وانتكست، ومن الألسن حتى استحقت غضب الله واستوجبت النار وبئس القرار، وفي الأبصار حتى أفسدت الأعمال الصالحة، وفي الأسماع حتى طمست الفطرة السليمة، وفي الجوارح كلها بترك أوامر الله والوقوع في نهيه، وفتن في الأموال بكسبها من الحرام وإمساكها عن حقوقها، وفتن في الأولاد بانحرافهم وضلالهم واتباعهم لخطوات الشيطان، وفتن في المجتمع كله بانتشار المنكرات وكثرة الاعتداءات وتسابقهم في المنكرات، ويوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده، وفتن في البيوت بجلب وسائل الدمار التي دمرت الرجال والصبيان والنساء، ودمرت الأخلاق والحياء والآداب، وخرب الناس بها بيوتهم بأيديهم، وفتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، فتنٌ القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي.
وإن أشد الفتن أن يقوم الأعداء بتشكيك المسلم في دينه، ويزهدونه فيه، ويصفونه بأوصاف لا تليق، ولا يزالون به حتى يردوه عن دينه إن استطاعوا، ويدعونه إلى نقض عرى الإسلام عروة عروة، وإلى خلع الإسلام من عنقه، قال تعالى عن فتنة هؤلاء الأعداء: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217], ويقول: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8].
وفتنة الإنسان في دينه هي أشد الفتن؛ لأنها تضيّع الدنيا والآخرة، وتجعل الإنسان كالحيوان، لا همّ له إلا بطنه وفرجه، وتخرج الإنسان من النور إلى الظلام، ومن الهداية إلى الضلالة، ومن الحياة إلى الموت، ومن النعيم إلى الحميم، ومن السعادة إلى الشقاء، ومن عبادة رب العباد إلى عبادة العباد، ومن عدل الإسلام إلى جور الأديان، ومن سعة الدنيا إلى ضيقها، والسعيد من سلم من الفتن، يقول : ((إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن)).
والفتن تعرض على القلوب؛ لأن افتتانها افتتان للجسد كلّه، وسلامتها سلامة للبدن كله، يقول : ((تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشْربها نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أَنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادًا كالكوز مجخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشْرب من هواه)).
ولنعلم ـ عباد الله ـ أن المخرج من هذه الفتن عدة أمور:
الأمر الأول: الاعتصام بالكتاب والسنة والتمسك بهما، فإنهما حِفظٌ لمن تمسك بهما، والتمسك بهما يقتضي قراءتهما والعمل بهما والتحاكم إليهما وتقديمهما على كل كتاب وعلى كل قراءة وإشغال المجالس بهما وتذكير الناس بهما، فإنهما مصدرا الشريعة، وهما حبل الله القويم وصراطه المستقيم، من تمسك بهما رشد، ومن تركهما ضل، يقول تعالى: فَمَنِ ?تَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى? [طه:123]، ويقول: إِنَّ هَـ?ذَا ?لْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ [الإسراء:9]، ويقول : ((تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي)).
والأمر الثاني: كثرة العبادة لله الواحد القهار، فإنها اتصال دائم بالله، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وهي وظيفة الإنسان في الدنيا، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وهي حق الله على العبيد، قال لمعاذ: ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا)).
والعبادة دوام للتوبة، ودوام للطاعة، وحفظ من الشيطان، ومضاعفة للحسنات، ومغفرة للسيئات، ورفعة في الدرجات، وحفظ للأوقات، يقول تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ?لشَّيطَـ?نَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ ?عْبُدُونِى هَـ?ذَا صِر?طٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ [يس:60-62]، ويقول : ((العبادة في الهرج كهجرة إليّ))، والمراد بالهرج الفتنة واشتغال الناس بها، فالعبادة تشغل عن الفتنة وتسد أبوابها.
الأمر الثالث: الاستعاذة بالله تعالى والالتجاء إليه والتحصن به وتفويض الأمور إليه والتوكل عليه؛ لأنه الذي يفعل ما يريد، وهو الذي يقول للشيء: كن فيكون، وهو الذي له الأمر من قبل ومن بعد، وهو الذي له مقاليد السماوات والأرض، وهو الذي كل شيء بأمره، وقد وعد تعالى أولياءه بإعاذتهم إذا استعاذوه، يقول تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)). وقد كان يتعوذ بالله من الفتن فيقول: ((تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) , وكان يقول: ((وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات)) , ويقول: ((وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون)).
الأمر الرابع: الصبر على طاعة الله والمداومة عليها وعدم الملل، فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن الطاعة باب حصين يتحصن بها العبد من الفتن، وهي رضوان الله الذي يكتب به رضوانه إلى يوم القيامة، وهي حفظه الذي يحفظ بها عبده، وهي النور في القلب والبياض في الوجه والصبر عن المعصية؛ لأنها طريق إلى النار، وخطوة من خطوات الشيطان، ونافذة من نوافذ الهلاك، والصبر عن المعصية أهون من الصبر على النار، والصبر على أقدار الله التي قدرها على العبد من قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، يقول تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى ?لأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَـ?بٍ مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ?للَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، ويقول : ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)).
وقد أمرنا الله بالاستعانة بالصبر يقول تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153]، ومن حديث خباب بن الأرت قال له لما شكا فتنة الأذى: ((لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيُحفر له في الأرض، فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيُجعل نصفين، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه)) رواه البخاري.
الأمر الخامس: الثبات على دين الله، وذلك بالاستقامة على التوحيد وعلى الأمر وعلى الإخلاص وعلى العمل الصالح وعلى الدعاء الدائم: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وأمر الاستقامة عظيم، لكثرة الفتن وضعف الإيمان، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، والرجل يمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، وقد أمر الله رسوله بالاستقامة فقال: فَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، وأمر بها عباده المؤمنين فقال: فَ?سْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَ?سْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6]، وقد قال عليه الصلاة والسلام لسفيان الثقفي: ((قل: آمنت بالله ثم استقم)).
الأمر السادس: الاقتداء بالصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم من السلف الصالح، فإنهم خير القرون، وهم أسلم الناس من الأهواء، وأبعدهم عن الشهوات والشبهات، وهم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, يقول : ((فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، فتمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة)) , وقال: ((وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة)) ، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)).
وقد ورد أن ابن حذافة أسر عند الروم، وأرادوا فتنته عن دينه فأبى، وأرادوا حرقه فأبى إلا الإسلام، فأطلق هو ومن معه، وآخر أسر عند الروم فقيل له: إما أن تتنصر وإما سُحِلت عيناك، قال: تُسحل عيناي ولا أضيع ديني.
الأمر السابع: الفرار من الفتن بسلامة القلب منها، وسلامة الأبصار منها، وسلامة الأسماع منها، وسلامة الجوارح منها، وسلامة البيوت منها، وسلامة الأولاد منها، وترحيل الفتن من الجوارح، وترحيلها من البيوت، ومن المجتمع، وتطهير الجوارح لتبقى على الفطرة، وتطهير البيوت لتشتغل بالقرآن والسنة والمواعظ وكل خير، وتطهير المجتمع ليبقى كالبنيان المرصوص وكالجسد الواحد، وفي الحديث أن رجلاً قتل مائة نفس، فأرشد إلى الفرار من بلد الفتنة، فصلحت أحواله وتاب الله عليه، فهلا هرب الصادقون من الفتن، وهلا طهروا منها الأنفس والأولاد والبيوت والمجتمعات...
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3823)
دعوة المظلوم مستجابة
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر, الكبائر والمعاصي
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1 ـ نماذج من دعاء المظلومين. 2 ـ صور من ظلم العمال اليوم
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إن العبد المؤمن إذا توجه إلى ربه بالدعاء، وكان مخلصًا صادقًا في دعائه، وقد أتى بشروط استجابة الدعاء، وكان هذا الدعاء خاليًا من الموانع، فإن الله جل وتعالى لا يرد هذا الدعاء، قال الله تعالى: ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وقد تحقق هذا الوعد الإلهي منذ آدم عليه السلام إلى يوم الناس هذا، فما من عبد ولا أَمة دعا الله عز وجل بصدق وبإخلاص وكان هذا الدعاء سالمًا من الموانع إلا أجابه الله تعالى.
فهذان موسى وهارون يدعوان على فرعون وقومه: رَبَّنَا إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلاَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ?طْمِسْ عَلَى? أَمْو?لِهِمْ وَ?شْدُدْ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى? يَرَوُاْ ?لْعَذَابَ ?لألِيمَ [يونس:88]، قال الله عز وجل: قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا [يونس:89].
وهذا موسى مرة أخرى يسأل الله جل وعلا أن يجعل له وزيرًا من أهله، فقال: وَ?جْعَل لّى وَزِيرًا مّنْ أَهْلِى هَـ?رُونَ أَخِى ?شْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى كَىْ نُسَبّحَكَ كَثِيرًا [طه:29-33]، قال الله تعالى في آخر هذه الدعوات المباركات: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ي?مُوسَى? [طه:36].
وهذا يونس عليه السلام يخرج من البلد الذي أُرسل إليهم غاضبًا حيث لم يستجيبوا دعوته، فيشاء الله جل وتعالى أن تقع عليه القُرعة عندما ركب في السفينة، وصارت تميل بهم يمنة ويسرة، فألقوه في البحر، فيلتقطه الحوت، يقول الله عز وجل: فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ?لْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى? يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143، 144]، فَنَادَى? فِى ?لظُّلُمَـ?تِ أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَـ?هُ مِنَ ?لْغَمّ وَكَذ?لِكَ نُنجِى ?لْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:87، 88].
ثم هذا رسول الله عندما دعا على أعدائه الذين آذَوه وحاربوا هذه الشريعة وصاروا أعداءً لهذه الملة، كان ذات يوم ساجدًا عند الكعبة، وكان بقربه جماعة من كفار قريش، فيقول بعضهم لبعض: أيكم يقوم إلى سلى جَزور بني فلان فيلقيه على ظهر محمد؟ فيقوم عُقْبة بن أبي مُعَيط ويأخذ السَّلى ويلقيه على ظهر النبي ، فيبقى النبي ساجدًا، حتى تأتي ابنته وتأخذ السَّلى من على ظهره وهي تبكي، ثم تُقبل على المشركين تَسبُّهم رضي الله عنها وأرضاها، فيقوم النبي قرب الكعبة ويرفع يديه ويقول: ((اللهم عليك بالملأ من قريش: أبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وعقبة بن أبي مُعَيط)) ، ويعد سبعة من صناديد المشركين، كما عند مسلم. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: فوالله، لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قَلِيب بدر فألقوا فيها بعدما انتفخت جثثهم، وأتبع أصحاب القليب لعنة. ويدعو رسول الله على غيرهم ويستجيب الله دعاءه صلوات ربي وسلامه عليه.
أيها الأحبة في الله، إن العبد المؤمن إذا توجه إلى الله بالدعاء، وكان مخلصًا صادقًا، فإن الله جل وعلا لا يرد هذا العبد، فكيف لو كان هذا العبد مظلومًا؟! فإن الإجابة حينئذٍ لهذا العبد تكون أقرب، ودعوة المظلوم كما تعلمون أنها مستجابة، ليس بينها وبين الله حجاب.
أيها الأحبة، ما مناسبة هذا الكلام؟ مناسبته أنه جاءني رجل قبل فترة، وكان من خارج هذه البلاد، فكان يشكو إليّ حاله وموضوعه، أنه يعمل عاملاً بسيطًا لدى أحد التجار في البلد في مؤسسة صغيرة، وقضايا ومشاكل العمال لا تخفى عليكم، والظلم الذي يوقَع عليهم من قبل أصحاب الأعمال من هضم حقوقهم وتخفيض مرتباتهم الذي سبق أن اتفق معهم عليها في بلده، والحالة السَّكَنية السيئة التي يعيشون فيها، وتأخير رواتبهم لعدة أشهر، وقد لا يعطيهم، ويكون قد وعده بمميزات وأشياء هناك، فإذا جاء إلى هنا صارت كل تلك الوعود هباءً منثورا.
والأقبح من هذا، أولئك الذين يلزمون العامل أن يدفع هو لهم قدرًا معينًا من المال، ويتركونهم يسيحون في الشوارع، يبحثون هم لأنفسهم عن أعمال، وهو ملزم بدفع مبلغ شهري للكفيل. وهو بذلك يأكلها ظلمًا، يأكل عرق هذا المسكين، وسيُجَرجرهُ في بطنه نارًا يوم القيامة، إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
ومنهم من يجعل العَشرة في غرفة واحدة، ودورة مياه واحدة، وكأنهم بهائم، ومنهم من يمنعهم من السفر وتمتعهم بالإجازة الرسمية لهم، ويؤخرونهم إلى عدة سنوات، ويكون هذا المسكين متزوجًا وله أولاد، ويُهدَّد إذا طلب إجازة بالفصل والطرد من العمل، إلى غير هذه القضايا التي بعضكم يعرف تفاصيلها أكثر مني.
وفي المقابل، يكون هذا العامل المسكين قد دفع مبالغ طائلة ليأتي إلى هنا، بل ربما تَسَلَّف أموالاً كثيرة، ودفعها إلى جهات معينة في بلده ليتمكن من المجيء، ثم يفاجأ بالوضع السيئ عند صاحب العمل هنا وبالظلم وبإخلاف الوعود، فيرجع بعضهم إلى بلده وقد تحمل ديونًا، ربما بقية عمره كله لا يكفي لسدادها.
أعود إلى صاحبنا، فقصته لا تخرج عن شيء مما ذكرت لكم، فقد جاء من بلده بعد الاستدانة، ووُعد بأشياء هنا ولم يجدها، ثم أصبح راتبه يَقِلُّ شيئًا فشيئًا، إلى أن وصل إلى نصف العقد المبرم معه، وأخيرًا فُصل المسكين من عمله. وقد وقفت على حقيقة أمره بنفسي، وذهبت معه، وحاولنا مع بعض الطيبين في هذا المسجد تدارك شيء، لكن لا جدوى. فما كان منه إلا أن رجع إلى بلده، بعد أن كتب خطابًا قويًا لصاحب العمل، وقرأت خطابه بنفسي قبل إرساله لكفيله، ذكَّره بالله سبحانه وتعالى، وأن هذا الظلم سوف يجده عند الله يوم القيامة.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، يا من تحت ولايتكم ضعفاء ومحتاجون، إن ظلم هؤلاء عظيم عند الله. كيف بكم لو توجه هؤلاء إلى ربهم وخالقهم، ودعَوا عليكم؟! ما الذي يمنع من استجابة دعوة هؤلاء عليكم؟!
إياك من ظلم الكريم فإنه مرّ مذاقته كطعم العلقم
إن الكريم إذا رآك ظلمته ذكر الظلامةَ بعد نوم النوَّم
فجفا الفراش وبات يطلب ثأره أنِفًَا وإن أغضى ولم يتكلّم
أيها المسلمون، سأذكر لكم ثلاث قصص ظلم فيها أصحابها ثم توجه المظلومون إلى ربهم، فاستجاب الله دعوتهم، لعل في ذكر هذه القصص رادعًا لكل ظالم، لكل من يتعرض للناس في أرزاقهم، تكون رادعًا لكل من يفصل إنسانًا من عمله بدون ذنب، ويؤذيه في مصدر رزقه ورزق أولاده. ولْيكن له عبرة في هؤلاء الذين رفعوا أيديَهم إلى الله، فاستجاب الله دعاء هؤلاء المظلومين، ورأى الناس قدرة الله سبحانه وتعالى تتحقق في هؤلاء. ولا يزال الله يستجيب للمظلومين.
القصة الأولى: قصة ذلك الرجل الذي ظلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فدعا سعد عليه فأجاب الله دعاء سعد، وقد كان مستجاب الدعوة، وتفصيل القصة أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان أميرًا على أهل الكوفة فشكّوه إلى عمر وقالوا: إن هذا الأمير فيه كذا وكذا وكذا، حتى قالوا: إن هذا الأمير لا يحسن الصلاة، فدعاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأمير العادل المنصف، فقال له: يا سعد، إن أهل الكوفة شكوك في كل شيء حتى قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي، فقال سعد: أما إني أصلي بهم كما رأيتُ النبي يصلي، أطيل في الأُولَيَينِ وأُخِفُّ في الأُخريين، فقال له عمر: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق.
ثم أرسل عمر رضي الله عنه لجنة إلى الكوفة للتأكد من الأمر وتقصِّي الحقائق، فذهبت هذه اللجنة إلى الكوفة وصارت تقف في أسواق الناس وفي مساجدهم وتسألهم: ماذا تقولون في أميركم؟ فيقولون: لا نعلم إلا خيرًا، حتى دخلوا على مسجد لبني عبس فسألوهم: ما تقولون في سعد بن أبي وقاص أميركم؟ قالوا: لا نعلم إلا خيرًا، فقام رجل مراءٍ، فقال: أما أن سألتنا عن أميرنا فإن سعدًا لا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسَّرية، ولا يعدل بالقضية، بمعنى أنه رجل فيه ظلم وجبن وخوف ولا يساهم في المعارك. فقام سعد بن أبي وقاص وقال: اللهم إن كان عبدك هذا كاذبًا قام رياءً وسُمعة فأطلْ عمره، وأطلْ فقره، وعرضْه للفتن، والقصة في صحيح البخاري.
فاستجاب الله دعوة سعد، وقد كان مظلومًا من قِبَلِ ذلك الرجل، فطال عمره حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وطال فقره حتى إنه كان يمدّ يده يتكفف الناس، وتعرّض للفتن حتى إنه كان على رغم فقره وشيخوخته وكبر سنه، كان يقف بالأسواق يتعرض للجواري يغمزهن، فإذا قيل له في ذلك قال: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد.
القصة الثانية: قصة سعيد بن زيد رضي الله تبارك وتعالى عنه، كانت هناك امرأة يقال لها أروى بنت أويس، شكته إلى مروان بن عبد الحكم أمير المدينة وقالت: إنه أخذ شيئًا من أرضها، فقال سعيد بن زيد: ما أنا آخذ شيئًا من أرضها بعدما سمعت رسول الله يقول في ذلك، فقال له الأمير مروان: وماذا سمعت من رسول الله ؟ قال سمعته يقول: ((من أخذ شبرًا من الأرض ظلمًا طُوِّقَه إلى سبع أرضين)) ، فقال مروان بن الحكم: لا أسألك بعد هذا بينة، يكفيني قولك هذا.
ثم قام سعيد بن زيد يدعو على هذه المرأة التي شوّهت سمعة أصحاب النبي ونسبت إليهم ما هم منه أبرياء من الظلم والحَيْف والطمع في الدنيا، فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأَعْمِ بصرها، واجعل ميتتها في هذه الأرض. قال راوي الحديث عروة بن الزبير والحديث في الصحيحين، قال: فوالله، لقد عمي بَصَرُها حتى رأيتها امرأة مسنّةً تلتمسُ الجدران بيديها، وكانت في هذه الأرض بئر، وكانت تمشي في أحد الأيام فسقطت في البئر، وكان ذلك البئر قبرها، وأجاب الله دعاء سعيد بن زيد وكان مظلومًا رضي الله عنه.
ولا يزال الله عز وجل يتقبل دعوات الداعين ويستجيب استغاثة المظلومين.
اللهم إنا نسألك رحمتك في السر والعلن، ونسألك اللهم بِرَّكَ وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: القصة الثالثة: هذه القصة فيها عجب وعبرة، ذكرها بعض المؤرخين، وقد حصلت في بلاد الأندلس، ذكروا بأن حاكمًا من حكام الأندلس يقال له الوليد بن جهور وكان أميرًا على قرطبة أحد كبار المدن الأندلسية، حاول بعض جيرانه أن يعتدي عليه وهو يحيى بن ذي النون، حاول أن يعتدي عليه ويأخذ ملكه، فاستنجد الوليد بن جهور بأحد حكام الأندلس يقال له المُعْتَمِد بن عَبَّاد، وكان ملكًا قويًا شاعرًا أديبًا مشهورًا، فجاء المعتمد بن عباد وساعده وأنجده وقضى على عدوه، ولكن المعتمد بن عباد لما رأى قرطبة وما فيها من المياه وما فيها من البساتين والخضرة والأموال والترف طمع فيها وبدأ يخطط للسيطرة عليها، فأدرك ذلك أمير قرطبة ابن جهور، فَذَكَّّرَ المعتمد بن عَبَّاد بالعهود والمواثيق التي بينهم وذكره بالله، لكن المعتمِد بن عباد كان مُصِرًّا على احتلال قرطبة، وفعلاً تحقق للمعتمد بن عباد الاستيلاء على قرطبة بعد طول كيد وتدبير وتخطيط، فاستولى عليها، وأخذ أمراءها وطردهم منها، وصادر أموالهم وقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، وخرج أمراء بني جهور من قرطبة بلا مال ولا جاه ولا سلطان، أذلاء خائفين مذعورين.
وبعدما خرجوا منها التفت الأمير إلى قرطبة، هذه المدينة التي طالما تمتع بحكمها، وعرف أنه ما أُخرج منها إلا بسبب دعوات المظلومين، وبسبب الدماء التي سالت ظلمًا وعدوانًا، وبسبب الأموال التي أُخذت بغير حق، وبسبب ظلمه للناس وحَيفه ومعاملته لهم، عرف ابن جهور هذا فالتفت إلى قرطبة، ورفع يديه إلى السماء، وقال: يا رب، اللهم كما أجبْتَ الدعاءَ علينا فأجِبْ الدعاءَ لنا، فإننا اليوم مسلمون مظلومون، فدعا الله عز وجل على المعتمد بن عباد.
وخرج بنو جهور، وظل المعتمد بن عباد يحكم قرطبة ردحًا من الزمن، يتمتع بما فيها من الترف، وبلغ الترف بالمعتمد بن عباد أنه كان عنده جارية جميلة، وفي يوم من الأيام أطلت هذه الجارية من أحد نوافذ القصر، فشاهدت بعض النساء البدويات يحملن على ظهورهن القِرب وفيها السمن وغيره، يذهبن لِيَبِعْنَهُ في الأسواق، وقد هطل المطر من السماء، وأصبحت الأرض فيها من الوحل والطين، فكانت هؤلاء النسوة البدويات يطأن في الوحل والطين وعلى ظهورهن القِرب، فأعجب هذا المنظر هذه الجارية فقالت الجارية اعتماد للمعتمد بن عباد: أريد أن أفعل مع الجواري والبنات مثل ما يفعل هؤلاء النساء، فقال الأمير: الأمر هين، فأمر بالكافور والمسك وماء الورد فخلط بعضه ببعض، حتى صار في أرض القصر طينًا، ليس من الماء والوحل والتراب، لكن طين من المسك والكافور وماء الورد.
إلى هذا الحد بلغ الترف بالمعتمد بن عباد، ثم جاء بقِرَب وحزمها بالإِبْريسَم، وهو نوع من الحرير، ثم حملتها هذه الجارية ومن معها، وبدأن يطأن في هذا الطين، أو بالأصح في هذا الورد والكافور والمسك، وتم لهن ما أردن، إلى هذا بلغ الحد في ترف المعتمد بن عباد.
لكن تلك الدعوات التي خرجت من المظلوم ابن جهور ما تزال محفوظة، فما هي إلاّ فترة من الزمن وإذا بملك النصارى يهدد المعتمد بن عباد، وطلب منه مع دفع الجزية التخلي عن بعض القصور والدور فرفض، ووجد نفسه مضطرًا أن يستعين بأحد حكام المرابطين، وهو يوسُف بن تاشْفِين، فأرسل إليه يستنجد به، فجاء يوسف بن تاشفين ودخل قرطبة، وخاض معركة ضد النصارى، وانتصر على النصارى في موقعة الزّلاقَة وطردهم.
وبعدما انتصر على النصارى وجد يوسف بن تاشفين نفسه مضطرًا إلى السيطرة على قرطبة، وقبض على المعتمد بن عباد وأولاده، فقتل بعضهم على مرأى من أبيهم، وأودع المعتمد بن عباد السجن في مدينة في المغرب تسمى (أغْمات)، حتى جلس فيها عشرَ سنوات مسجونًا.
ثم انتهت هذه السنوات العشر بموته، وكان فترة سجنه مجردًا من كل شيء، والقيود في يديه ورجليه، ويرى بناتِه اللاتي كُنَّ بالأمس يطأن في المسك والكافور يطأن في الطين والوحل اليوم، وهن يغزلن للناس من أجل كسب العيش، ولا يملكْنَ شيئًا، فبكى بكاءً مرًا، ثم قال يخاطب نفسه في إحدى المناسبات وقد فرح الناس واستبشروا بالعيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورًا فساءك العيد في أغماتَ مأسورا
ترى بناتِك في الأطمار جائعةً يغزلْنَ للناس، ما يملكْنَ قِطميرا
برزْنَ نحوك للتسليم خاشعَةً أبصارُهن حسيراتٍ مكاسيرا
يطأْنَ في الطينِ والأوحالِ حافية أقدا مهنّ كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا
من بات بعدك في مُلكٍ يُسَرُّ به فإنما بات بالأحلام معرورا
اللهم إنا نسألُك رحمة تهدي بها قلوبنا، وتلمُّ بها شعثَنَا، وتَردُّ بها الفتن عنَّا.
(1/3824)
خطبة استسقاء 8/1/1426هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
8/1/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فقر العباد إلى الله تعالى. 2- فضل التضرع إلى الله تعالى. 3- فضل الطاعات والعمل الصالح. 4- الأمر بالتوبة والاستغفار. 5- وجوب شكر الله على نعمه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنّكم قد شكَوتم إلى الله عزّ وجلّ جَدبَ دياركم واستئخارَ المطر عن إِبّان زمانه عنكم، وقد وعدَكم الله عز وجل بفضلِه، أمَرَكم الله تعالى أن تَدعوه وأن تتضرّعوا إليه، ووعَدَكم الإجابةَ في قوله تبارك وتعالى: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر:60].
أيّها الناس، أنتم الفقراءُ إلى الله في كلِّ أمرٍ مِن أموركم، في أصلِ نشأتِكم، وأنتم الفقراءُ إلى الله تبارك وتعالى في أرزاقِكم وفي ما تقومون به من أعمالكم، فلولا أنَّ الله تعالى سخَّر لكم وأعانَكم وأعطاكم فإنّه لا يقدِر أحدٌ من الخَلق أن يجلِبَ لنفسه نفعًا أو أن يدفعَ عنها ضرًّا، قال الله تبارك وتعالى لنبيِّه أفضلِ خلقه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]، وقال تعالى عن نبيِّه : قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:21، 22]. فإذا كان هذا في سيِّدِ المرسَلين وأكرمِ مخلوقٍ على الله عزّ وجلّ فكيف بمن هو دونه؟! إنّ الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17].
إنَّ الله تبارك وتعالى يحِبّ مِن عبادِه أن يظهِروا له الفاقَةَ إليه والتضرُّعَ إليه، ويحِبّ منهم أن يسألوه وأن يرغبوا إليه، ففي الحديث عن النبي : ((من لم يسأَل اللهَ يغضَب عليه)) [1] ؛ لأنّه هو الغنيّ، ولأنه هو القدير والجوادُ الكريم، وفي الحديثِ عن النبيِّ : ((ليسأَل أحدكم ربَّه شِسعَ نَعله)) [2]. فاسألوا اللهَ مِن فضله، تضرَّعوا إليه وارغَبوا إليه في أمورِكم كلِّها.
فيا أيّها الناس، إنَّ الله تبارك وتعالى جعَل الطاعة سببًا لكلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة، وجعل المعصيةَ سببًا لكلِّ شرٍّ في الدنيا والآخرة. وإنَّ ممّا جعله الله من أسبابِ الرحمة والغيث هو الإكثارُ من الاستغفار وبَذل الصدقة والمعروف وكفُّ الأذى والتبرُّؤ من مَظلمَةِ المسلم، قال الله تبارك وتعالى عن نوحٍ عليه الصلاة والسلام: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:11-12]، وقال تعالى: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [هود:52]. فاستغفروا الله عز وجل، استغفروه أيّها الناس، وابذلوا المعروفَ، وكفّوا الأذى، واحذروا ظلمَ أحدٍ منَ المسلمين فإنّ الظلمَ ظلمات يومَ القيامة.
وإنّ ممّا قضاه الله وقدَّره أنَّ الإيمان والعملَ الصالح سببٌ في صلاحِ الفَرد وفي صلاح المجتمَع كلِّه، قال الله تبارك وتعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وقال تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، وقال تبارك وتعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، وقال عزّ وجلّ: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
ولما نزَل قولُ الله تبارك وتعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:65]، لما نزلت قال الرسول : ((أعوذ بوجهك، أعوذ بوجهك)) ، ولما قرأ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال: ((هذه أهوَن)) [3].
فاتّقوا الله أيّها المسلمون، اتقوا الله تعالى فيما تَأتون وما تَذَرون، واعلموا أنّ لكلِّ عملٍ صالح ثوابًا عند الله عزّ وجلّ، واعلموا أنّ لكلّ عمَل سيّئ ولكلّ معصية طالبًا عند الله عز وجل، قال تبارك وتعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
وقد خلَق الله بني آدمَ بصفاتٍ ليسوا فيها بمعصومين عن المعصيةِ، ولكن الله تبارك وتعالى أمَرَهم أن يتوبوا إليه وأن يستغفِروه، وفي الحديث عن النبيِّ في مسلِمٍ: ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنِبوا لذهب الله تعالى بكم، ولجاء بقومٍ آخرين يذنبون، فيستغفِرون الله فيغفِر لهم)) [4] ، وفي الحديث عنه : ((لولا أطفالٌ رُضَّع ولولا شيوخ رُكَّع وبهائمُ رُتَّع لصُبَّ عليكم العذاب صبًّا)) [5].
فيا أيّها الناس، اذكروا نِعَم الله عليكم الظاهرة والباطنة التي لا يحصيها غيرُه، ولا يقدِر الخلقُ أن يحصوها، اذكروه واشكروه عليها، واحمدوه تبارك وتعالى على نِعمةِ الأمن، على نعمة الإيمان، على نعمة الصّحَّة في الأبدان وعلى تيسُّر الأرزاق وعلى تيسُّر عبادةِ الله عز وجل وعلى اندفاع الفتن؛ فإنَّ الله تبارك وتعالى أمَرَ أن يشكَرَ، وأمر أن يذكَرَ عزّ وجلّ، ووعد بالثّوابِ لمن عمِل شكرًا، ووَعَد بالزيادة لمن أدَّى شُكرَ هذه النّعَم، فقال تبارك وتعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
فاستديموا ـ عبادَ الله ـ نِعَم الله عليكم بدوام شكرِه والاستغفار من الذنوب؛ فإنّ الله بارك وتعالى يغفِر الذنوبَ جميعًا، وارغبوا إلى اللهِ عزّ وجلّ واسألوه وتضرَّعوا إليه، فإنه تبارك وتعالى يحبّ الملحِّين والسائلين، فإنه جوادٌ كريم.
اللّهمّ إنّا خلق من خلقك، اللّهمّ إنّا نحن الفقراء إليك في أمورِنا كلِّها، ونحن ـ يا ربَّ العالمين ـ نتضرَّع إليك ونتوجَّه إليك، اللّهمّ إنّا نسألك أن تصلحَ لنا شأننا كلَّه، اللهم أصلح لنا شأنَنا كلَّه، وأصلح شأن المسلمين يا ربَّ العالمين، اللّهمّ لا تكِلنا إلى أنفسنا طرفةَ عين ولا أقلَّ من ذلك، اللّهمّ تولَّ أمورَنا كلَّها، ويسِّر أمورَنا، واشرَح صدورنا، اللهمّ إنّا نشكو إليك ـ يا ربَّ العالمين ، أحوالنا، ولا يصلح أحوالَنا غيرك، أنت الله لا إلهَ إلا أنت.
اللّهمّ أنزل علينا الغيث ولا تجعَلنا من القانطين، اللّهمّ أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من الآيسين، اللّهمّ أغثنا، اللّهمّ أغثنا، اللهم أغثنا، اللّهمّ إنا نسألك يا ربَّ العالمين يا أرحم الراحمين، نسألك غيثًا مغيثًا عاجِلاً غيرَ رائث، اللّهمّ إنا نسألك غيثًا مغيثًا غَدَقًا سَحًّا عامًّا مجلِّلاً نافعًا، اللهم سُقيا رحمة لا سقيَا عذابٍ ولا هدم ولا غرق، اللهمّ إنّا نسألك ـ يا ربّ العالمين ـ غيثًا تحيي به البلادَ وتنفع به العباد وتجعله نافعًا ـ يا ربّ العالمين ـ للحاضر والباد.
اللّهمّ إنا نسألك من فضلك العظيم، وأنت الله لا إله إلا أنت الجواد الكريم، اللهم لا ترُدَّنا خائبين، اللهم لا تردَّنا خائبين، اللهم إنا خلق من خلقك، لا غنى بنا عن رحمتك، اللهم إنا لا نستغني عن رحمتك طرفةَ عين ولا أقلَّ من ذلك، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا يا أرحم الراحمين، اللهم لا تحرِمنا من رحمتِك ولا تحرِمنا من فضلك ولا تمنَع عنا نعمةً من نعمك بسببٍ منا أو بسببٍ من غيرنا يا أرحم الراحمين.
توجَّهوا إلى الله أيّها المسلمون، وأقلبوا لباسَكم تأسِّيًا بسنّةِ رسول الله [6] ، وأخلِصوا لربِّكم الدعاءَ، فإنه تبارك وتعالى يقول: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55، 56]. اللّهمّ هذا دعاؤنا، والإجابة عليك يا أرحم الراحمين.
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا يا ربَّ العالمين.
سبحانَ ربِّك ربِّ العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] رواه أحمد (2/442)، والبخاري في الأدب المفرد (658)، والترمذي في الدعوات (3373)، وابن ماجه في الدعاء (3827)، وأبو يعلى (6655)، والطبراني في الأوسط (2431)، والبيهقي في الشعب (2/35) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1807)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2654).
[2] أخرجه الترمذي في آخر الدعوات (3612 – المستدرك في آخر الكتاب)، والطبراني في الدعاء (25)، وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (2/289) من طريق قطن بن نسير الصيرفي قال: حدثنا جعفر بن سليمان قال: حدثنا ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (866)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن النبي ، ولم يذكروا فيه عن أنس". ثم أورده من طريق صالح بن عبد الله عن جعفر بن سليمان عن ثابت عن النبي ، وقال: "هذا أصح من حديث قطن عن جعفر بن سليمان". ورواه البزار في مسنده (3135) عن سليمان بن عبد الله الفيلاني عن سيار بن حاتم عن جعفر عن ثابت عن أنس عن النبي ثم قال: "لم يروه عن ثابت سوى جعفر". وذكره الهيثمي في المجمع (10/150) وقال: "رجاله رجال الصحيح، غير سيار بن حاتم وهو ثقة"، وحسنه الحافظ ابن حجر في زوائد البزار، وانظر: السلسلة الضعيفة (1362).
[3] أخرجه البخاري في التفسير (4628) عن جابر رضي الله عنه.
[4] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2749) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه الطبراني في الكبير (22/309)، والبيهقي في السنن (3/345) من حديث مسافع الديلي رضي الله عنه، وضعفه الذهبي كما في فيض القدير (5/344)، والهيثمي في المجمع (10/227)، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (4860). وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو يعلى (6402)، والطبراني في الأوسط (7085)، والبيهقي (3/345)، قال الحافظ في التلخيص (2/97): "في إسناده إبراهيم بن خثيم بن عراك وقد ضعفوه"، وبه أعله الهيثمي في المجمع (10/227). وله شاهد مرسل عن أبي الزاهرية عند أبي نعيم في الحلية (6/100). وله شاهد من حديث ابن مسعود عزاه القرطبي في تفسيره (3/260) إلى الخطيب في السابق واللاحق من طريق الفضيل بن عياض عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه رضي الله عنه.
[6] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3825)
العفّة والعفاف
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
23/1/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العفّة والعفاف. 2- حقيقة العِفّة. 3- من قصص العَفاف. 4- صيانة الأعراض. 5- مفاسِد الإباحيّة وأضرارها. 6- الحرية الحقيقية. 7- من آداب الإسلام في الستر والعفاف. 8- الرد على مزاعم دعاة التحرر. 9- خطورة الإعلام. 10- سبيل العفة والعفاف.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى أيها المسلمون، واعلموا أنّكم إليه راجعون، وبأعمالكم مجزِيّون، وعليها محاسَبون، وأنّ المصيرَ حقٌّ إلى جنّةٍ أو نار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ [الأحزاب:15، 16].
عباد الله، ما طعِمَ الطّاعِمون كالحلالِ الكفافِ، وما رِداءٌ خيرٌ من رِداء الحياءِ والعفاف. العَفافُ والعِفَّة ـ أيّها المسلمون ـ سِيمَا الأنبياءِ وحِليةُ العلماء وتاجُ العُبَّاد والصّلَحاء. العفافُ سلطان من غيرِ تاجٍ وغِنًى من غير مالٍ وقوّة من غيرِ بَطش وخُلُق كريم وصِفة نبيلة. هو عنوان الأسَرِ الكريمة والنفوسِ الزّكية الشريفةِ ودَليل التربية الصالحة القويّة. هو موجِبٌ لظلِّ عرش الرحمنِ ذِي الجلال كما في حديثِ الذي دَعَته امرأةٌ ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله [1]. والعِفّة والعَفاف سببُ إجابة الدعاءِ وتجاوز الأخطارِ كما ورَد في حديثِ الثلاثة الذين انطبَقت عليهم صخرةُ الغار [2]. الحِرصُ عليه جِبِلّة في البشر وطبعٌ عند أصحابِ العقول وسليمِ الفِطَر.
العِفّة ـ أيّها المؤمنون ـ كفُّ النفس عمّا لا يحِلّ ولا يجمُل وضبطُها عن الشهواتِ المحرَّمة وقصرُها على الحلال مع القناعةِ والرِّضا. إنّه خلُق زَكِيّ، يَنبُت في روضِ الإيمان، ويُسقى بماءِ الحياء والتقوى. إنّه سُمُوّ النفس على الشّهواتِ الدنيئة وترفُّع الهِمّة عما لا يليق، بل يفيض هذا الخلُق بكلِّ الخصال النبيلةِ، فصاحبُه ليس بالهلوعِ ولا الجَزوع ولا المنوع، كما في سورة المعارج: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ [المعارج:29]، ثم قال: أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:35]. إنها جنّةٌ وكرامة؛ لأنّ العفيفَ كريمٌ على الله حيث أكرَمَ نفسَه في الدنيا عن الدّنَايَا، فأكرمه الله في الآخرةِ بأعلى الدرجاتِ وأحسَنِ العطايا، واستحقَّ ميراثَ الجِنان؛ لأنَّ الميراثَ للطاهرين كما في سورة المؤمنون: أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10، 11] بعد أن حقَّقَ لهم الفلاحَ في أوّلِ السورة. وفي صحيح مسلم لما ذكَر النبيّ أهلَ الجنة قال: ((منهم عفيفٌ متعفِّف)) [3].
وحين تُعرَض القصَصُ فإنّ أحسَنَها قصّةُ يوسفَ الكريم ابن يعقوبَ ابن خليلِ الله إبراهيم حين يكون العفافُ سيّدَ الموقِف في ظرفٍ تتهاوَى فيه عزائمُ الرّجال الأشدّاء، فضلاً عن فتًى غريبٍ نائي الأهلِ والديار، حين راودته التي هو في بيتها عن نفسه، وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]. مَعَاذَ اللَّهِ ، إنها كلِمةٌ عظيمة في موقفٍ عصيب لا يقوَى عليه إلا صاحبُ الإيمان فيصبِر عليه السلام رغمَ الوَعدِ والوعيد والسّجنِ والتهديدِ، ويتجاوَزُ المحنةَ، فآتاه الله الملكَ وعلَّمه من تأويل الأحاديث، وأعظم من ذلك أنّه من عبادِ الله المخلَصين.
وفيه من العِبَر أنّ العِفَّةَ عاقبتُها الغناءُ والاستغناء ونورُ القلب والبصيرةُ والضياء والعِلمُ والفراسة والتّوفيق؛ ذلك أنَّ العِفّةَ في حقيقتها مراقبةُ الله تعالى وخوفُه، ومَن راقب الله في خواطِرِه عصَمَه في حركاتِ جوارحه وأسبغ عليه رضاه، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:8]، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40، 41].
أيّها المسلمون، ولاهتِمامِ الإسلام بهذا الجانِبِ العظيم ولامتداحِ الله المؤمناتِ بقوله: فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ [النساء:34] فقد حمى الله تعالى أعراضَ المؤمنات، وصانَ سُمعَتَهن أشدَّ صيانةٍ لكرامتِهن عند الله وحرمةِ جنابِهنّ فقال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [النور:23-26].
بل إنّ مَن قدح في عِرض العفيفة فقد استوجَبَ الحدَّ وسقوطَ العدالة واستحقَّ صِفةَ الفِسق، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:4].
ثمّ تأمّلوا ـ رعاكم الله ـ كيف وصَف العفيفاتِ بالغافلات، وهو وصفٌ في محلِّه لطيفٌ محمود يصوِّر المجتَمَع البريء والبيتَ الطاهر الذي تشِبّ فيه فتياتُه في الأكمامِ بعيداتٍ عن الدنايا والآثام، يصوِّرُهنّ غافلاتٍ عن لوثَاتِ الطِّباع السّافلة غائباتٍ عن المعاني الرّديئة، ثمّ تأمَّل كيف تتعاوَن الأقلام السّاقِطة والأفلام الهابِطة لتمزِّقَ حجابَ الغفلةِ هذا، ويتسابقون ويتنافَسون في هَتكِ الأستار وفتحِ عيونِ الصّغار على ما يستحِي منه الكبار، وصدق الله العظيم: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
أيّها المسلمون، إنَّ الحديث عن صيانةِ الأعراض وتزكيةِ النفوس وتطهيرِ الطِّباع وتنمية دواعِي العِفّة والطهارة ليست شعاراتٍ عاطفيّة أو مجرَّدَ كمالاتٍ خُلُقيّة، إنها أصلُ تماسُك المجتمع وبِنية أساسٍ لبقائه ومقصد عظيمٌ من مقاصِدِ الشرع الحنيف، وانظر كيف جعَل الله تعالى العفافَ والأمن في آيةٍ واحدة مع توحيدِ الله سبحانه، وجعل إزهاقَ الأرواح وانتهاكَ الأعراض قرينَ الشرك، فقال سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا [الفرقان:68، 69].
فليس الأمرُ قابلاً للتهاون أو للمسَاومة، والمجتمَع يجِب أن يؤسَّس على الضمائر اليقِظَة والفضائلِ الشريفةِ والصيانةِ والحِراسة المشدَّدة مِن الرأيِ العامّ والقوّة الحاكمة جميعًا. كما أنَّ العجز عن ضَبطِ العَواصف والصّلاتِ الجنسيّة في الحدود التي شرَعَها الله والتذرُّع بهذا العجزِ إلى ترك الشّهوةِ البهيميّة تنساح كيف تشاءُ هو سقوطٌ بالفِطرة والخُلُق وتمرُّد على اللهِ وشرعِه.
إنَّ العالَم المنفَتِح على الجنسِ المتحلِّلَ منَ الفضيلةِ يئِنّ اليومَ تحت وطأةِ الأمراضِ الوبائية ويجأرُ من التشتُّت الاجتماعيّ والتفكُّك الأسريّ والتحلّل الأخلاقيّ، كما تشكو نساؤه وأطفالُه آلافَ الحالات من الاغتصابِ وتجارةِ الرذيلة، والتي نافَسَت تِجارةَ الأسلحة والمخدِّرات، ويسمّونها تجارةَ الرقيقِ الأبيض، فأين الحرّيّة والأمان؟! وأين الطّمأنينةُ والاستقرار في هذه الفوضَى العارِمة في اختلالِ الأخلاق والقيَم؟!
إنَّ الحريّةَ الحقيقيّة التي بناهَا الإسلام هي عندَما يحِسّ أفرادُ المجتمع بالأمنِ في حياتهم وأعراضِهم، فيتحرَّكون بحرّيّةٍ وأمن، وتنتشِر الثِّقة والطمأنينة وحُسنُ الظنّ، ويتفرَّغ الناس لمعاشِهِم وما يصلِح دينَهم ودنياهم، وذلك حين يتربَّى المجتمعُ رجالاً ونساء وينشؤونَ أجيالاً على مظاهِرِ العِفّة والحِشمة والورَع ولزومِ أمر الله تعالى، فلا شكَّ ورِيبةَ ولا خيانةَ ولا خَوف، إنه الأمنُ والطمأنينةُ والحريّة، ولذلك في صدرِ الإسلامِ الأوَّل لم يمنَع ذلك صلاةَ المرأة في المسجِد ومشاركتَها الجيشَ في المعركة وطلَبَها للعِلم ومداواةَ الجَرحى وطلَبَ الرِّزق، ولم يكُن في أحكامِ الشَّرع ما يمنعُها مصلحةً لها أو لغَيرها، بل كلُّه حِفظٌ وصيانة كما قال تعالى: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]. وإذا تحرَّكتِ المرأة الطاهرةُ والرجلُ الطاهر في البِيئة الطاهرة وفقَ ما رسمَه الله من أحكامٍ بعيدًا عن الشّبُهات والملوِّثات فلا سبيلَ لجرثومةٍ أن تنفذَ.
أيّها المسلمون، ولأجل هذه المقاصدِ السامية جاءت شريعةُ الإسلام بما يكفَل هذه الحرّيّة وهذا الأمنَ الخلقيّ، بل بايع النبيُّ نُقَباء الأنصارِ ليلةَ العقبة الأولى على التوحيدِ وتركِ الزنا كما في صحيحِ البخاريّ من حديثِ عبادةَ بن الصامت رضي الله عنه [4] ، وفي آخرِ الممتحنة أمر الله تعالى رسولَه أن يبايِعَ المؤمناتِ على التوحيدِ والعفاف، وفي الكتابِ العزيز والسنّةِ المطهَّرة آدابٌ شتَّى للنظرِ والاستئذان والتستُّر والتكشُّف والزِّينةِ وسفَر المرأة وخَلوَتها وعودةِ الرجل إلى بيتِه وموقف المرأةِ من أقاربها وأقاربِ زوجها وحقِّ الوالدين وحقوقِ الأولاد وآدابِ الاستماع والظنّ والنهي عن الاطِّلاع على عوراتِ البيوت وتتبُّع العَثَرات، وهي آدابٌ مفصَّلة يجب على المسلمينَ أن يلتَزِموهَا ويربُّوا أهلَهم عليها؛ ذلك أنَّ من أعظم مقاصِدِ الشريعة إقامةَ المجتمَع الطاهِر المحاطِ بالخُلُق الرفيع والمُبَطَّن بالعِفّة والحشمة والوقار.
وحيثَّ إن أعظمَ أبوابِ الشّرّ وأوّلَ مدخلٍ للشيطان هو إطلاقُ البَصَر والاختلاط لذا صارت أحكامُ الحجابِ والقَرار في البيوت والأمر بغَضِّ البصر للرجال والنساء، قال الحقّ سبحانه: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]، بل حتى في الحديثِ العابِر بين الرّجل والمرأة الأجنبيّة عنه: إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]. إنّه سدٌّ لمنافِذِ الشيطان كما في قولِ الله سبحانه: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53].
أيّها المسلمون، وحيث جاءَ الإسلام بكلِّ ما يحفَظ ويصون هذا السياجَ فقد حرَّم كلَّ ما يهتِكه ويفسِده، وقد علِم كلُّ مسلمٍ حرمةَ ما يعارِضه ويناقضه مِن دعواتِ السّفورِ والاختلاطِ في الأعمال والجامِعات والمجالِسِ والمؤتمَرات لئلاَّ يُكسَر حاجِز الحياء وتُنبَذ الحِشمة. ولقد علِم الراشِدون أنَّ التقدّمَ والتخلّفَ له أسبابُه وعوامِله، وإنَّ إقحامَ السَّترِ والاحتشام والخلُق والالتزام والعِفّة والفضيلة وجعلَها عواملَ للتخلُّف لهو خِداع مكشوف وتمريرٌ مفضوح لا ينطلي على متبصِّر.
إنَّ الحياةَ الطاهِرة تحتاج إلى عزائِمِ الأخيارِ، وأمّا عيشةُ الرذيلة فطريقُها سهلُ الانحدار، والبيوتُ التي تظِلّها العفّةُ والحِشمة تورِق بالعزِّ والكرامة، أمّا البيوتُ التي يملؤهَا الفحشاء والمنكرُ فلن تنبُتَ إلاّ بالذّلِّ والمهانة، وإذا أمَر الله تعالى بوقايةِ النفس والأهل من النارِ التي وقودُها الناس والحجارة وأخبر النبيُّ أنَّ كلَّ راعٍ مسؤول عن رعيّته [5] فإنَّ المسلِمَ يجب أن تكونَ له وقفةٌ للهِ لتجنيبِ نفسِه ومن يَليه ما جلبته وسائلُ الاتِّصال والبَثِّ مِن ذبحٍ للفضيلة ونشرٍ للرذيلة وإماتةٍ للغيرة، وكيف يستسيغُ مسلمٌ هذا الغثاءَ المدمِّر؟! أين الحياء؟! أين المروءةُ؟! أين الحِفظُ والصِّيانة مِن بيوتٍ هيَّأت لناشِئَتها أجواءَ الفتنة وجلَبت لها محرِّضاتِ المنكَر؛ تجرُّها إلى مستنقَعات الفُحش جرًّا وتَدُعُّها إلى الخطيئةِ دَعًّا؟! ومع أنَّ شهوةَ الجِنس كشهوةِ الطّعام قد تمتلِئ المعِدة فتفتُر وقتًا عن طلَبها إلاّ أنَّ الذين يحِبّون أن تشيعَ الفاحشة في الذين آمنوا لم يَفتروا، بل ملَؤوا الفضاءَ بكلِّ أنواع المثيراتِ والمغرِيات، وتفنَّنوا في إثارةِ الشّهَوات وإيقادِ لهيبِ الغرائزِ في سُعارٍ أذهل الشيطان.
وأمام هذه الأمواجِ المتلاطمةِ منَ الفتن الضاربةِ مهدِّدةً سفينةَ المجتمعاتِ المسلمة تعظُم الأمانةُ والمسؤوليّة على المسلمين للحِفاظ على زكاءِ مجتَمَعهم وطهارةِ حياتهم وبما لا زالُوا متميِّزين به على أهلِ الأرض بحمد الله.
ولا أحدَ ينكِر ما صارَ للإعلامِ من مكانةٍ خطيرة في توجيهِ الأمَمِ والشّعوب والسياسات وصياغةِ مفاهيمِها وتصوُّراتها وسلوكيّاتها. وإذا طغتِ الشهواتُ واختلطَتِ النيات فسدَتِ الأوضاع واضطَرَبت الأحوال وحقَّ العذاب، وتَضيع الأمّة إن تُرِك الحبلُ على الغارِب، يعيش الناسُ بشَهَواتهم ويعبَثون بأخلاقِهم متجاوِزين حدودَ الله بلا وازعٍ ولا ضابطٍ وبلا رادِعِ ولا زاجر، وإنها سُنّةٌ من سنَنِ الله، إذا فشَا الظلم والفسادُ ولم ينهَض مَن يدافِعُه فإنَّ سنّةَ الله تعالى تحِقّ ولا تحابِي أحدًا، فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116].
وفي هذا البابِ ينبغي أن يشكَرَ ويذكَرَ بالتّقدير والدّعاء كلُّ جهدٍ مبذولٍ من أهلِ الحِسبة ورجال أمن ومن وراءَهم، وكذا القائِمون على تنقيَةِ المطبوعات والموادّ الإعلاميّة وشبكة المعلوماتِ العالميّة في مدينةِ التِّقانَةِ وغيرها، إنهم حُرّاس الفضيلة وحُماة الدّينِ والمرابطون في وجهِ العاصفة.
ومع هذا فإنَّ التحصين من الداخلِ والتربيةَ الذاتية وزرعَ المراقبةِ لله في السّرِّ والعلَن مسؤولية الجميع، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بسنة سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] هذا حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، أخرجه البخاري في الحدود (6806)، ومسلم في الزكاة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة في الغار فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3465)، ومسلم في الذكر والدعاء (2743) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2865) عن عياض بن حمار رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (18).
[5] أخرجه البخاري في العتق (2554، 2558)، ومسلم في الإمارة (1829) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمده تعالى وأشكره، وأثني عليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، إنَّ الغريزةَ الجنسيّةَ مطبوعةٌ في دمِ الإنسان، والله تعالى هو الذي خلَقَها بأمرِه وعِلمِه وحِكمتِه وابتلائِه لخَلقِه، وجعلها وسيلةَ البقاء البشريّ، وهو سبحانه أعلَمُ بما يُصلِحها، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
إنَّ الإسلامَ لم يتجاهَل هذه الغريزةَ، ولم يقتُلها بالرّهبانيّة، ولا أطغاهَا بالإباحيّة، بل جَعَل لها شاطئًا آمنًا تسبَح إلى بحره وتطهُر في مائِه وتحيَا ببقائِه، إنّه الزواج، أنبلُ صِفةٍ عرَفَتها الإنسانيّة لتكوينِ الأسرةِ وتربيةِ الأولاد ونشرِ الألفةِ والرّحمة وسكينةِ النفس في جوٍّ زّكيٍّ طهور، مع ضبطِ المشاعر وترشيدِها نحوَ مكانها الصّحيحِ المنتج بدلاً من ضَياعِها وتيهِها في العَبَث والفساد. والمسلمُ مأمورٌ ببلوغ هذا المدَى حتى يتحصَّنَ بالحلال: وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:33]، وفي الحديثِ المتَّفق عليه أنّ النبيَّ قال: ((يا معشرَ الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ فليتزوج؛ فإنّه أغضّ للبصر وأحصَن للفرج، ومَن لم يستطِع فعليه بالصّوم؛ فإنّه له وجاء)) [1] ؛ وذلك أنَّ الصومَ مع تضييقِه لمجاري الشيطان فإنّه ينمِّي روحَ المراقبة والخشيةِ والتقوى، وهي أصولُ وبواعث العِفّة، ومِن دعاءِ عباد الرحمن: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
وحتى بعدَ الزواج فينبغِي تنميةُ جانبِ العفّة والصيانة، ومِنه ما يُشرَع للمرأة مِنَ التحبُّب لزوجِها والتودُّد وحُسن التبعُّل وقصرِ عينه لئلاَّ يتطلَّع لغيرها. وكذلك الزوجُ، يكفِي زوجتَه، ويشبِع عاطفتَها بالكَلِمة الطيّبة والعِشرة الحسنة وجبرِ الخواطر وسدِّ مداخل الشيطان وأداءِ أمانة القِوامة في الأهل والأولادِ والقيام بأمرِ الله في كل شؤون الحياة. والمؤمنُ أسيرٌ في الدنيا يسعَى في فكاكِ رقبته، لا يأمن نفسَه حتى يلقَى الله عزّ وجلّ، يعلَم أنّه مأخوذٌ عليه في سمعِه وبصرِه ولسانِه وجوارحِه، ومن يستعفِف يعفّه الله، وفي الحديث: ((احفَظِ اللهَ يحفَظك)) [2] أي: في نفسِك ودينِك وأهلِك وذرّيّتك، ومَن كرُم عند الله فلن يخزيَه ولن يسوؤَه. أسأل الله تعالى لي ولكم الهدى والتّقَى والعفافَ والغنى.
ثمّ اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ الله تعالى أمَركم بأمرٍ بَدَأ فيه بنفسه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وأزواجِه وذرّيته وصحابتِه ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللّهمّ أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاةَ والملاحِدة والمفسدين...
[1] أخرجه البخاري في النكاح (5065، 5066)، ومسلم في النكاح (1400) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (1/293)، والترمذي في صفة القيامة (2516) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المختارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وصححه الألباني في صحيح السنن (2043).
(1/3826)
الثبات حتى الممات
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الابتلاء سنة الله في خلقه. 2- أسباب الثبات على الدين: تجديد الإيمان في القلوب، الاعتصام بالكتاب والسنة، الاقتداء بالسلف، الالتفاف حول العلماء، لزوم الجماعة، الدعاء، الذكر. 3- توجيهات في التعامل مع الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتّقوا اللهَ تعالى وأطيعوه، وأنيبوا إليه واستغفروه، فتقوى الله خيرُ عملٍ وأحسن أمَل.
أيها المسلمون، إن في مسيرةِ السائرينَ إلى الله والحاثِّين خُطاهم على مِنهاجه وسبيل هداه والداعين إلى دينه القويم والتمسُّكِ بصراطه المستقيم في سيرهم ومسيرهم عقباتٌ كأْداء وخصومٌ ألدَّاء ولأواءٌ وأدواء، لا يخْلُصُ منها إلا من أراد الله له الثبات. وإن المتأمل في التاريخ يرى في فتراتٍ منه غلبة الإسلامِ وظهورَه وعزَّ المسلمين، وفي فترات أخرى يرى انحسار مدِّه وهيمنةَ غيرِ المسلمين، ويرى ضعفًا داخليًّا وهوانًا خارجيًّا وتداعيًا من الأمم وتسلُطًا من الكفار، كما هو واقع هذه الحِقبةِ من الزمن، حتى إنه ليكادُ يتسللُ اليأسُ والإحباط إلى نفوسِ بعض المسلمين.
ويتساءل الحائر: ألم يكتُبِ الله العزةَ والنُصرةَ لهذه الأمة والصغارَ والذلّةَ على الكافرين؟! وينسى هذا المتسائل قول الله عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2] وما يماثلُها من الآياتِ الكريمة التي تبين أن هذه الدار دارُ ابتلاء وامتحان للمؤمنين، وليست دارَ جزاء وخلود، وأن الأيامَ دول، والدهرّ قُلَّب، وأن الفوزَ والفلاح ليس بتحصيلِ الرخاء فحسب، وإنما عملك في الشدةِ والرخاءِ والمنشطِ والمكره، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]، وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا [الفرقان:20]، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن في تمكينِ أهل الكفرِ والفسوق إيصال أولياءِ الله إلى الكمال الذي يحصُلُ لهم بمعاداةِ هؤلاء وجهادِهم والإنكارِ عليهم، والموالاةِ فيه والمعاداةِ فيه، وبذلِ نفوسِهم وقُواهُم له... ـ إلى أن قال: ـ فلولا خلق الأضداد وتسليطُ أعدائه وامتحانُ أوليائه لم يستخرجْ خاصَّ العبوديةِ من عبيده، ولم يحصُل لهم عبوديةُ الموالاةِ فيه والمعاداةِ فيه، والحبِّ فيه والبغضِ فيه، والعطاءِ له والمنعِ له".
أيها الأخ المبارك، وإذا كان قَدَرُ الله لجيلٍ من الأمة أن يعيشوا في مرحلةٍ من ضعفها وفترةٍ من فتورها وظهورِ غيرها عليها، فإن المتعيِّنَ التعلُّقُ بما يثبتُها على دينها؛ لأن الإسلامَ في زمان قوته كفيلٌ بذاته في ثباتِ أهله، أما في زمنِ الانكسار وعهدِ الانحسار فهذا هو زمنُ الابتلاء الذي يُميزُ الله فيه الخبيثَ من الطيب والصادقَ من الكاذب والمؤمنَ من المنافق، وكلَّما زادَ الضعف وكثرت الفتن استطال عنُق النفاق وظهرَ المنافقون، وربما جاهروا في قلوبهم، وأظهروا خفايا صدورهم. وإليك ـ أخي الكريم ـ أسبابًا تعينك بعد الله عز وجل على الثبات على دين الله حتى تلقاه:
أولاًً: تجديد الإيمانِ بهذا الدين، وملأ القلبِ منه باليقين. نعم، اليقينُ التامُ بصدقِ وأحقِّيةِ ما نحن عليه، والإيمانُ الجازمُ بصواب ما نعتقده، فمن امتلأ قلبه إيمانًا بعقيدته وقناعةً بصحة منهجه لم تُزعزعه الخطوب، ولم تُثنه الكروب، وهذا هو موقفُ النبيُ في دعوته حين حاربه الأقاربُ قبل الأباعد وطوردَ وشُرِّد وحوصرَ وقوطع وطُلبَ للقتل واجتمع عليه الأحزاب، لكن ذلك لم يُثنه عن مراده حتى بلَّغ دين الله، وكذلك كان أصحابه رضوانُ الله تعالى عليهم، قُيِّدوا بالحديد، وقُطعت أجساد بعضهم، وصُلبَ آخرون، وأوُذوا، ومسّتهم البأساء والضراء، وزلزلوا، فلم يزدهم ذلك إلا صلابةً في دينهم، وثباتًا على منهجهم، وصدقًا في سيرهم إلى الله حتى لقوا ربهم على ذلك، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً [الأحزاب:23].
وهذا نتاجُ الإيمانِ واليقين والقناعةِ والتصديق والثقةِ بما هم عليه، وكذلك كان السلفُ الصالح بعدهم، ويكفيك مثالاً ثباتُ الإمام أحمدَ رحمه الله عند الفتنة، وما ذاك إلا بالعقيدةِ الراسخة بما يؤمنُ به من صواب، أما أهلُ الخَورِ والشك وضعيفو الإيمان فهم الذين إذا أصابتهم مصيبة رجعوا على دينهم باللائمة، يُقلّبونَ بحيرةٍ في ثوابته، ولو كانوا يعقلون لتفقدوا أنفسهم كيفَ يدينون، ولعلموا أن دينَ الله كامل، وأنْ لا صلاحَ حقيقةً بغيره في كلِّ زمان ومكان، بلا استثناء ولا تجزئة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]. إلا أن النقصَ يحصُل من أحدِ أمرين: إما عجزٌ وجهل عن تطبيقهِ التطبيقَ الصحيح، أو لأجلِ شهوة وهوى يمنعانِ إرادةَ التطبيق في أيِّ تفاصيلِ الحياة مهما صغُرت أو كبُرت، وعلى هذين المركبين: الجهلِ والهوى أسرجَ بعض المنافقين بِغالهم، فشدّوا على الإسلامِ وأهله، وأظهروا مكنونَ صدروهم وما كانت تُخفي قلوبُهم، في وقتٍ أحوجُ ما تكونُ فيه الأمةُ إلى تثبيتِها على دينها والمحافظةِ على إسلامها وهُويتِها وتماسُكِها ووحدتِها.
إن المجتمع بجميعِ طبقاته بحاجةٍ إلى إعادةِ الاهتمام بتقريرِ أساسِ هذا الدين، من عقيدةِ وتوحيد ودعوة إلى تبصيرِ الأمة وتوجيهها، بإِرساء قضايا الإيمانِ بالله وشريعته بعيدًا عن مظاهرِ الغلوِ والتطرف أو التساهُلِ والتميُّع المفضي إلى الإرجاء أو بعضِ صوره.
إن ترسيخَ معاني الإيمانِ والاعتقاد واليقينِ والثقة يُنتجُ العملَ الصالح والولاءَ لهذا الدين والصبرَ عليه والثبات حتى الممات، مهما عصفتِ الفتنُ أو ادلهمَّت الخطوب، ولقد مرّت بديارِ الإسلام أزماتٌ شديدة ونكباتٌ عديدة، انتهت فيها الخلافةُ الراشدة، وسقطت الدولةُ الأمويةُ والعباسية وغيرُ ذلك، ومع كلِّ هذا فلم يُورث ذلك في نفوسِ المسلمين شكًّا في عقيدتهم، ولم تدفعهم إلى التطلّع إلى ما عند أعدائهم من أفكار ومبادئ وأساليبَ حياةٍ وأنماطِ سلوك تُخالفُ شريعتَهم ويأباها دينَهم، ولم يروا الحقَّ إلا في دينِ الله عقيدةً وسلوكًا ونظامَ حياة، وهذا هو معنى الاستعلاء في قول الله عز وجل: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] أي: أن العزةَ والعُلو بالإيمانِ والثباتِ عليه، لا بالغلبةِ والظهور.
ثانيًا: الاعتصامُ بالكتابِ والسنة والتمسكُ بما فيهما واتباعُ هديِهما، وحسبك في ذلك قول النبي : ((تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدًا: كتابَ الله وسنتي)) ، وقول الله عز وجل: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59] أي: الاحتكامُ إلى الكتابِ والسنة.
ثالثًا: الاقتداءُ بسلف الأمة من الصحابة ومن سار على نهجهم، وفي طليعتهم الخلفاءُ الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمانُ وعلي رضي الله عنهم أجمعين، ففي السنن بسند صحيح: ((عليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ)).
رابعًا: الالتفافُ حول العلماءِ الصالحين والدعاةِ الصادقين الذين عُرفوا بنُصحهم وسلامةِ منهجهم، فإنهم ورثةُ الأنبياء ومصابيح الدجى، أهدى الناسِ طريقًا، وأقربُهم من الله توفيقًا، فاجعل العلماءَ الربانيين لك صحْبًا ورِفاقًا.
خامسًا: لزومُ جماعةِ المسلمين وإمامِهم واعتزالُ الفتنة، وهذه وصيةُ النبي لحذيفةَ كما في الحديثِ المتَّفَقِ عليه، قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فقلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهليةٍ وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: ((نعم)) ، قلت: وهل بعد ذلك الشر من خيرٍ؟ قال: ((نعم، وفيه دخنٌ)) ، قلت: وما دخنه؟ قال: ((قومٌ يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)) ، قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاةٌ إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)) ، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، فقال: ((هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)) ، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ((تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)) ، قلت: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ، قال: ((فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرةٍ حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)).
كما أن التثبُت في الأخبار والنقل وتركَ الشائعات وهجرَ الخوضَ فيما لا يعني مطلوبٌ في كلِّ وقت، وتعظُمُ الحاجةُ لحفظ اللسان وصيانةِ السمع والتثبُت في حالِ الفتنة، وكفى بالمرء إثمًا أن يحدِّثَ بكلِ ما سمع.
سادسًا: دعاءُ الله وسؤالُه والإلحاحُ عليه بطلبِ الثبات، فلا غِنى للعبد عن ربه، وفي الحديث الصحيح: كان أكثرُ دعاء النبي : ((يا مقلب القلوب، ثبّت قلبي على دينك)) ، فقيل له في ذلك، فقال: ((إنه ليس آدميٌ إلا وقلبُه بين أُصبُعين من أصابعِ الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ)).
سابعًا: كثرةُ ذكر الله تعالى، فللذكر أسرار عجيبة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45].
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر من نصر هذا الدين، واخذل الطغاة والملاحدة والمفسدين والمنافقين، يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الحليم العظيم، أحمد ربي وأشكره على آلائه ونعمه التي لا تُحصى، تبارك ربنا وتقدس له الأسماء الحسنى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الرب الكريم، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه البررة الأتقياء.
أما بعد: فيا عباد الله، إن مِن كمالِ شريعة الإسلام إيجابُها وافتراضها على المسلمين اجتماعَ كلمتهم ولزومَ جماعتهم وإمامِهم؛ ليكونوا كالجبال الرواسي أمام رياح الفتن والشدائد، وليحافظوا على دينهم من التغيير والتبديل، وليحافظوا على مصالحِ دنياهم التي هي قِوام حياتِهم، فعن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله موعظةً وجِلت منها القلوب وذرفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنّها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة وإن تأمّر عليكم عبد، فإنّه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عضّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلَّ بدعة ضلالة)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".
ومن أعظمِ ما نهى عنه الإسلام الخوضُ بالباطل في الأحداث والفتن، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء:36]، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إيّاكم والفتن؛ فإنَّ اللّسان فيها كوقعِ السيف)) رواه ابن ماجه. فالواجبُ على المسلم أن يكفَّ يدَه ولسانَه عمَّا حرَّم الله عز وجل وقتَ كثرة القيل والفتن.
ونُحذِّر المسلمين عامّة وشبابَنا خاصّة من التأثّر بالشائعات الكاذِبة والأراجيف المُغرضة والأفكار الوافِدة الهدّامة التي تُنشَر عبرَ الفضائيّات وعبرَ شبكة المعلومات، والتي تستهدِف الطعنَ في الدّين والأخلاق، وتبثّ الفُرقة والاختلاف والخوفَ والهلع والجزَع، وتقدَح في الولاة والعلماء، فالعلماء والولاةُ إذا صلحوا صلحَ الناس، فيُدعَى لهم بالصلاح والخير، ولا يُدعَى عليهم، ويُعانون على مهمّتِهم الكبيرة، فيُعان ولاةُ الأمور على تنفيذِ الشريعة ورعاية المصالح، ويُعان العلماء على بيَان الشريعة وتفصيل أحكامِها والقيامِ بما وُكِل إليهم من أمور الشريعة ومصالحِ الناس.
واعتصموا ـ عباد الله ـ بالصّبر واليقين، كما نحذِّر بعضَ الشباب المغرَّر بهم من القيام بأعمالٍ تخريبيّة محرَّمَة تضرّ ببلادهم، يُدفَعون إليها بمكرِ ماكر أو بحماقَة حاقِد أو اجتهادِ سفَه من أشخاصٍ، وإن لبسوا لباسَ الدّين للوصول إلى منافعهم الشخصية، فتزهَق نفوسٌ آمنة، وتُراقُ دماء محرّمة. وعلى الأمّة كلِّها حكّامِها وعلمائها وشعوبِها أن تكون يدًا واحدةً أمام التحديات التي تهدِّد كيانَهم.
أيّها المسلمون، اشكُروا نعمَ الله عليكم الظاهرة والباطنة، وحاسبوا أنفسَكم قبلَ العرض على الله، واعمَلوا الخيراتِ في الرّخاء يتولّ الله أمرَكم في الشدائد والمحن، والزَموا التّوبة في كلّ حالٍ من جميع الذنوب يدفع الله عنكم المكروهاتِ والكربات، قال الله تعالى: وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًَا ثُمَّ ?هْتَدَى? [طه:82].
وعليكم بالدعاء الخالِص ـ أيّها المسلمون ـ أن يكشفَ الله الكربات عن هذه الأمة، وأن يوفِّق ولاتَها وعلماءَها والمسلمين عامّة لما يحبّ ويرضى، واذكروا في دعائكم أن يحفظَ الله المسلمين والمؤمنين في العراق، وأن يحفظَ شعبَ العراق من ضرَر الحرب، وأن يحفظَ أعراضَهم وأموالَهم، واذكروا في دعائِكم أن يحفظَ المسلمين في فلسطين من شرِّ الصهاينَة الظالمين، وأن يحفظَ أعراضَهم وأموالهم، وأن ييسِّر للمسلمين أرزاقَهم، وأن يؤمِّن روعاتِهم، وأن يستُر عوراتِهم في كلِّ مكان، وأن يخذلَ أعداءَ الإسلام، ويجعَل كيدَهم في نحورهم، ويخالفَ بين كلمتهم، ويكفَّ شرَّهم دائمًا، وتحرَّوا أوقاتَ الإجابة، فإنَّ الأمرَ كلَّه لله، فقد وصف النبيّ الفتنَ فقال فيما روي عنه: ((استقبِلوا بالدعاء أمواجَ البلاء)) ، وفي الحديث: ((الدعاء مخُّ العبادة)).
عبادَ الله، جدِّدوا التوبةَ في كلِّ وقتٍ وحين، فذلك هو العدّة لكلِّ شدّة، وصلّوا على نبيّ الهدى ورسوله المصطفى، كما أمركم الله بذلك في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
(1/3827)
الإرهابيون وقتلهم رجال الأمن بالرياض
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية نعمة الأمن. 2- بشاعة غدر الفئة الضالة برجال الأمن. 3- الفرق بين الجهاد والإفساد. 4- واجبنا تجاه الفئة الضالة. 5- كلمة لرجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ بتقوى الله عز وجل في السرّاء والضرّاء والفقر والغنى والخوف والأمان، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120].
أمة الإسلام، إن من نعم الله العظمى ومننه الكبرى الأمن في الأوطان والسلامة في الأبدان ورغد العيش والاجتماع على أخوة الإيمان، قال جل شأنه في معرض الامتنان: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:4]، وقال سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون [الأنفال:26]، ولما كان الأمن من أهم الأولويات ومن ضروريات الحياة والذي تسعد به الإنسانية وتحتاجه البشرية قدّم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في دعائه لربه وسؤاله لخالقه نعمة الأمن على نعمة العيش والرزق، فقال الله عنه: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِير [البقرة:126].
أمة الإسلام، ويمضي الأنبياء والمرسلون والعلماء والمصلحون في تحصيل الأمن لأوطانهم وطلبه لمجتمعاتهم عبادة ودعاءً ومنهجًا وأخلاقًا ودعوةً وإصلاحًا وتربيةً وثباتًا، وهذا ما حصل ـ ولله الحمد والمنة ـ لمملكتنا السعودية الحبيبة، بلاد المسلمين العزيزة، بلاد الحرمين الشريفين، مهبط الوحي، وبلاد النبي ، والتي ترفل بنعمة الأمان والأمان ورخاء العيش في الأوطان منذ تأسيسها على التوحيد والسنة وإقامتها على الشريعة الإسلامية، مع رفع راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في سائر أنحائها وبلدانها، مما جعل لها من القوة والتمكين والهيبة والتعظيم في نفوس أعدائها فضلاً عن أهلها وأحبائها، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، وقال جل شأنه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النور:55، 56].
أيها المسلمون، فالتوحيد والسنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ركائز الأمن الأولى وقواعده الأساسية ومقوماته الضرورية، والذي يقوى بإقامتها الأمن، ويضعف الأمن بضعفها في نفوس أهلها ودعاتها. ومما يجب الإشارة إليه والتنبيه عليه في مثل هذه الأيام ما يحصل من محاولات يائسة ونزغات طائشة لزعزعة أمن المسلمين والاعتداء على حرمات المؤمنين بسفك دمائهم وتدمير ممتلكاتهم، مع ما في ذلك من نشر الرعب في ديارهم وإشغالهم عن التصدّي لأعدائهم بحق.
أيها المسلمون، لقد أجرمت هذه الجماعة المنحرفة وأصحاب الأهواء الضالة جرمًا عظيمًا، وضلّت ضلالاً بعيدًا بسفك الدماء البريئة وقتل الأنفس المعصومة، تارة بالأسلحة الخفيفة، وتارة بالأسلحة الثقيلة، حتى صدق عليها حكم الباري عز وجل: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
أيها المسلمون، إنه لحدث تحزن له القلوب المؤمنة، وتبكي عليه الأنفس الزكية، لما يحمله هذا الحدث من الغدر المشين والحقد الدفين والفكر المنتن الأثيم ضد رجال الأمن، الذين يراقبون على الخطوط الطويلة والطرق السريعة من أجل مصلحة الإسلام والمسلمين، فلا يسعنا إلا أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وأحسن الله عزاءنا وعزاء ذوي المصابين وعزاء دولتنا وجميع المسلمين، وجعلهم في عداد الشهداء المقبولين، وأجرى عليهم أجر المرابطين إلى يوم الدين، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو أرحم الراحمين.
أمة الإسلام، إن هؤلاء القتلة الذين غدروا برجال الأمن على الطريق السريع بين الرياض والقصيم على حين غفلة وغرة لعلى خطر عظيم وعمل سيئ وخيم، فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46]، وإلا فأين هؤلاء من قول الحق سبحانه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! وأين هؤلاء من قول الرب جل شأنه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]؟! لكن هؤلاء المنحرفين بأفكارهم والمصابين في قلوبهم ـ نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوبة وتسليم النفس للسلطة والعودة ـ يتخبّطون في الشبهات ويغرقون في الجهالات كما قال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران:7].
أيها المسلمون، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟! والنبي يقول: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) ، وقال في خطبة حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) ، فأعادها مرارًا ثم رفع رأسه فقال: ((ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد)) متفق عليه. ونظر ابن عمر يومًا إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك) أخرجه الترمذي.
أيها المسلمون، إن الخطر يكمن في زعم أصحاب هذه الاعتداءات الدموية والتفجيرات التدميرية أنه جهاد في سبيل الله، وهذا من أعظم الكذب على الله والفرية على رسول الله ، فإن الله جعل هذا العمل فسادًا، وسمّاه إفسادًا في الأرض وإهلاكًا للحرث والنسل، والله لا يحب الفساد. ولا عجب ولا غرابة، فما أشبه الليلة بالبارحة، فإن الخوارج قتلوا عثمان وهو الخليفة الراشد الثالث، وقتلوا عليًا وهو الخليفة الراشد الرابع باسم الجهاد، والله المستعان، الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ [النساء:76].
أيها المسلمون، والمطلوب منا والحالة هذه أن نعتصم بالكتاب والسنة، وأن نرجع إلى علماء الأمة، وأن نحذر الخلاف والفرقة، وأن نبتعد عن الضلالة والفتنة، وأن نسمع ونطيع لولاة أمورنا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى الدين القويم، والهادي إلى صراط مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، إن نعم الله علينا كثيرة لا تحصى، ومن أجلّ هذه النعم وأكبر هذه المنن نعمة الإسلام، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، فالشكر قيد النعم الموجودة، والاستغفار صيد النعم المفقودة.
ولا بد ـ أيها المسلمون ـ أن نحرّر العبارة، وأن نصدقكم النصيحة في هذه الأحداث المؤلمة التي يباشرها أعداد قليلة ممن ضيعوا في الأسفار الطويلة بأسنانهم وأعمارهم الصغيرة حتى تلقاهم أهل المناهج المنحرفة والأفكار الهدامة من حدثاء الأسنان وسفهاء الأحلام، فربوهم على بغض العلماء والمفتين والحكام والسلاطين، بل ولم يكتفوا بهذه التربية حتى سلطوهم على مجتمعاتهم، تارة بالتخوين والتكفير، وتارة بالقتل والتفجير.
فيا أيها الآباء الكرام، أدركوا أبناءكم، واحذروا على فلذات أكبادكم من خطر هذا الفكر المشين والضلال المبين، ولا تدفعوهم إلى من لا تعرفونهم.
ويا شباب الأمة، ويا أبناء الصحوة، الحذر الحذر، فإن الأمر خطير جدًا، أبغضوا هذه الأعمال الضالة والمبادئ الباطلة، وتبرؤوا منها إلى الله، والتزموا منهج الكتاب والسنة وعلماء الأمة، واصبروا أنفسكم على الطاعات والقربات، واحضروا دروس العلماء والمحاضرات، وخذوا بمنهج الرسول والخلفاء الراشدين، وسيروا على الصراط المستقيم، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، والنبي يقول: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)) ، وادعوا الله في صلاتكم يا شباب الإسلام، واستحضروا هذه الآيات في تلاوتكم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6، 7]، وأكثروا من قول الرسول : ((يا مقلّب القلوب والأبصار، ثبّت قلوبنا على دينك)) ، ومن قول الله عز وجل: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]، واستحضروا هذا الدعاء العظيم وكرّروه اقتداء بالرسول الكريم والسراج المنير الذي كان يدعو به في افتتاح صلاة الليل: ((اللهم رب جبرائيل وإسرافيل وميكائيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) ، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، فإذا أراد الله أن يقلب قلب عبد قلبه، فاللهم يا مقلب القلوب، ثبّت قلوبنا على دينك، ويا مصرّف القلوب والأبصار، صرّف قلوبنا على طاعتك.
أيها المسلمون، لا بد من إنكار هذا المنكر وبغض أهله، والتحذير منهم ومن منهجهم، والبراءة من أعمالهم التي تخالف نصوص القرآن والسنة، وتضرب بهما عرض الحائط. نعم أيها الإخوة المسلمون والأحبة المؤمنون، لا بد من إنكار هذا المنكر وبغض أهله، والتحذير منهم ومن منهجهم، والبراءة من أعمالهم التي تخالف نصوص القرآن والسنة، وتضرب بهما عرض الحائط. أعمالهم التي تخالف نصوص القرآن والسنة، وتضرب بهما عرض الحائط. لا بد من اعتزال أصحاب هذه المناهج الباطلة والجماعات المسلحة، والحذر من اتباع الهوى والأخذ بالشبه وسلوك مسالك أهل البدع والتحزب والتفرق، نسأل الله السلامة والعافية، إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].
ومما لا شك فيه ولا ريب، أن الله حرم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرمًا، كما قال في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرمًا، فلا تظالموا)). ومن كان عنده أدنى شك في أن هذه الأعمال الإجرامية من سفك دماء رجال الأمن والاعتداء عليهم بأي نوع من أنواع الاعتداء والظلم فقد انتكست فطرته، وانحرف منهجه ومسلكه، وانتقص في عقله، وضعفت قيادته، فما رجال الأمن إلا حراس أمن المسلمين وحماة بيضتنا وأموالنا، وهذه وصيتي لهم، وفقهم الله وسدّدهم:
يا رجال الأمن، اللهَ اللهَ بإصلاح النية واحتساب الأجر عند رب البرية سبحانه وتعالى، احتسبوا أعمالكم وحراستكم وحمايتكم للأمن. نعم، احتسبوا هذه الأعمال عند الله قربة وعبادة وطاعة، إن عملكم شريف، ورسالتكم عظيمة في القضاء على الفساد والحرص على حفظ أمن البلاد. رجال الأمن، اسألوا الله العافية، وتحصنوا بالأذكار والأوراد الواردة في الكتاب والسنة، وحافظوا على صلاة الفجر في جماعة، فمن صلى الصبح فهو في ذمة الله، لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموه فاصبروا، احرصوا في هذه الأيام وفي ظل هذه الأحداث على التحلي بالصبر والآداب والأخلاق، فأنتم إن شاء الله محل ثقة الأمة ومحل إكرام البلاد والأئمة.
أسأل الله أن يحفظ أمننا وأمتنا وأئمتنا وبلادنا، كما أسأله أن يوفّق رجال الأمن لما يحبه ويرضاه، وأن يجعلهم مباركين صالحين مصلحين، رحماء بالأمة رفقاء بالمسلمين، وأن ينفع بهم الإسلام والمسلمين، وأن يحفظهم من الأشرار وغدر الفجار.
أيها الأحبة، إن الأمر الذي حدث تعجز العبارات عن وصفه، وتعجز والله الأقلام عن رصده، فمن يصدق أن بعض أبناء الأمة يقومون وبدون أي داع ومبرر بفتح رشاشاتهم على رجال الأمن غدرًا وخيانة وظلمًا وعدوانًا. نعم، لقد رمّلوا النساء، ويتّموا الأطفال، وأدخلوا الحزن على المسلمين، فيا فرحة شارون ويا فرحة الصليبيين بهذه الجماعات المسلحة وبهذه الأفكار المنحرفة، والله إنها فرحة لليهود والنصارى، وإنها والله مصيبة على أهل الإيمان والإسلام، فتوبوا إلى الله جميعًا، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فوّتوا الفرصة على أعداء الدين والملّة، احذروا الخلاف فإنه شر، نعم احذروا الفرقة فإنها مصيبة، اعتبروا بالبلاد المجاورة، اعتبروا بالأمم السالفة، فالاجتماع رحمة والخلاف شر.
اللهم صلّ وسلّم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداءك أعداء الدين من اليهود والنصارى والملاحدة الدهريين والهنادكة الوثنيين والعلمانيين والحداثيين. اللهم إنا نسألك في جمعتنا هذه أن تهدي هذه الفئات المنحرفة وهذه الجماعات المسلحة...
(1/3828)
الإسلام بريء من أفعال التفجير والانتحار
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
15/3/1424
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استنكار الجريمة الشنعاء في التعدي على مبنى المرور. 2- تحريم الأنفس المعصومة في الكتاب والسنة. 3- التشديد في النهي عن ترويع الآمنين. 4- الإشارة إلى أول جريمة قتل في الأرض. 5- الجرأة على الدماء جرأة على محارم الله. 6- عظم نعمة الأمن. 7- الواجب علينا تجاه هذه الأحداث. 8- نصيحة للغلاة المنحرفين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى بفعل مرضاته والبُعد عن محرماته تكونوا من عبادِه المتّقين، الذين وفَّقهم وأسعدهم ربُّهم في الدنيا، وآتاهم حسنَ الثواب في الأخرى.
أيها المسلمون، حقيقة إن الفكر ليقف حائرًا أمام هذه الأحداث المؤلمة التي تتعرض لها هذه البلاد المباركة بين الفينة والأخرى، ولا أدري بماذا أبدأ؟ وكيف أبدأ؟ للحديث عن الاعتداء الآثم الذي استهدف مبنى الإدارة العامة للمرور بالرياض بعد ظهر يوم الأربعاء الثاني عشر من شهر ربيع الأول الجاري، بل استهدف الأمن في هذا البلد ورجاله.
ولا شك أن هذا العمل إجرامي مقيت، وعدوان فاحش، وظلم عظيم، ولون من ألوان الفساد والإفساد في الأرض، وصورة من صور المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، فأفّ ثم أفّ ثم أفّ لنفس تتوق لقتل الأبرياء، وتستمرئ إراقة الدماء المعصومة، وتفرح بتناثر الأشلاء؛ ذلكم أن قتل النفس المعصومة من أعظم الذنوب، وقد عدّه النبي من أكبر الكبائر، هذا إذا كان القتل موجهًا لنفس واحدة معصومة، فكيف إذا استهدف دولة العقيدة والمجتمع المسلم، واستهدف رجال الأمن الذين نذروا أنفسهم للدفاع عن وطنهم وحماية أهله وخدمتهم، وتضرر منه المارة والمجاورون؟!
ولقد حرم الإسلام قتل النفس المعصومة بغير حق، وشدّد فيها تشديدًا قطعيًا، فنهى عن قتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151].
أيها المسلمون، لقد شدّد الله على حرمة الدماء في القرآن الكريم، ووردت آيات كثيرة تنهى عن قتل النفس وسفك الدماء، وتبيّن عِظَم هذه الجريمة البشعة، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، ويقول النبي : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق عن الدين التارك للجماعة)) متفق عليه، وعن ابن عمر عن النبي أنه قال: ((لا يزال المؤمن في فُسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) ، ونظر ابن عمر يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك)، وعن أبي سعيد أن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)) ، وروي عن البراء أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)). ومما جاء في خطبة الوداع تشديد النبي على حرمة هذه الأشياء حين سأل الناس: ((أتدرون في أي يوم أنتم؟ وفي أي شهر؟ وفي أي بلد؟)) فقالوا: في يوم حرام، وفي شهر حرام، وفي بلد حرام، فقال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)).
كما أن نشر الرعب والترويع في أوساط المجتمع يعد فسادًا عظيمًا، ولذا صح عن رسول الله أنه قال: ((لا يحل لمسلم أن يروّع مسلمًا)) ، ولا أن يحمل السلاح عليه؛ لما روي عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((من حمل علينا السلاح فليس منا)) رواه البخاري، وفي رواية لمسلم: ((من سلّ علينا السيف فليس منا)) ، فإن هذه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله تؤكد تأكيدًا جازمًا تحريم ترويع المسلمين وحمل السلاح عليهم، فكيف بمن تسبب في إزهاق أرواح الأبرياء من المسلمين ويتّم الأطفال وأرمل النساء؟! إن عاقبته لوخيمة، وسينال جزاءه العادل في الدنيا، والنكال والعذاب من رب لا يظلم أحدًا في الآخرة.
عباد الله، وتمعنوا ـ أيها المسلمون ـ أول حادثة غدر وقتل وقعت على هذه الأرض بين ابني آدم هابيل وقابيل، عندما قتل قابيل أخاه هابيل ظلمًا وعدوانًا وتشهيًا وتشفيًا وحسدًا وانتقامًا، أنزل الله شرعًا ينفذ وأحكامًا تتلى إلى يوم القيامة، قال الله تعالى بعد حكايته هذه القصة: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32] الآيات، فالله جل وعلا يبين أن من قتل نفسًا بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض بأي نوع من أنواع الفساد فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل وعلا. فالحفاظ على حرمة إنسان واحد حفاظ على حرمات الناس كلهم، فانظروا ـ معاشر المسلمين ـ عظمة الإسلام، وانظروا ـ حفظكم الله ـ عظمة التشريع، قتل نفس واحدة يعادل قتل الناس من أول خلق آدم إلى قيام الساعة، بلايين أو مليارات أو عدد لا يعلم به إلاّ الله، فإن من قتل نفسًا واحدة ظلمًا فكأنما قتل هذا العالم جميعًا.
يا لها من جريمة، ويا لها من مصيبة، ويا لها من فعلة نكراء وعدوان بشع وتسلط قذر، يقع فيه أولئك المجرمون المفسدون في الأرض الذين تسلطوا على عباد الله المؤمنين الآمنين المطمئنين وروعوهم، بل سفكوا دماءهم ظلمًا وعدوانًا، وأتلفوا الأموال والممتلكات، وأفسدوا في الأرض، وشوّهوا صورة الإسلام الناصعة وسمعة التدين وسمعة الدعوة بأعمالهم الإجرامية وموبقات ارتكبوها باسم الإصلاح، وأتاحوا الفرصة لأعداء الإسلام باتهامه مما هو بريء منه من الإرهاب وإزهاق الأنفس البريئة بغير حق، وليس لهم أي مبرر أو أي حجة في ذلك، إن جميع التأويلات التي يستند إليها من يرتكب هذه الأعمال الإجرامية الإرهابية باطلة؛ لأنها تخالف نصوصًا ثابتة وقطعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
أيها المسلمون، إن الجرأة على الدماء والتساهل في أمرها إنما هو جرأة على محارم الله، واعتداء على حدود الله، وتلاعب بشرع الله، وخروج على ولي الأمر في هذه البلاد المباركة، وهذا في الحقيقة يعتبر جرمًا عظيمًا وخطرًا جسيمًا، وهو محرم في شرع الله تبارك وتعالى؛ لما يترتب على الخروج على ولي الأمر من فساد كبير وشر عظيم، ومن مقتضى البيعة النصح لولي الأمر لا الخروج عليه، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
أيها المسلمون، لقد آلمنا وأقض مضاجعنا ما قامت به هذه الفئة الباغية ـ عليها من الله ما تستحقه ـ من أعمال إجرامية لا تمت إلى الإسلام بصلة، ولا ترضي الله سبحانه وتعالى ولا رسوله ، ولا ترضي أمة الإسلام. ولا يعمل هذه الأعمال الإجرامية إلاّ أناس تجرّدوا من إنسانيتهم ومروءتهم وفطرتهم التي فطرهم الله عليها، بل وتجرّدوا من إيمانهم، وانتكست عقولهم. إن من يقوم بهذه الأعمال الإجرامية المشينة قوم طبع الله على قلوبهم، وزيّن لهم الشيطان أعمالهم البشعة، حتى تنكروا لهذه البلاد المباركة وما تقوم به من جهود خيّرة وأعمال مشكورة لخدمة الإسلام ونصرة قضايا المسلمين في كل مكان، وهذا ينمّ في الواقع عن حقد دفين وسم زعاف يُكاد لهذا الدين وهذه البلاد الطاهرة التي تنعم بنعم لا توجد في غيرها؛ مما أثار حفيظة أعدائها، وغاظهم ما تنعم به من سلامة العقيدة وتحكيم الشريعة ووفاق ووئام وأمن واستقرار ورغد عيش واتحاد وجمع كلمة وتوحيد صف والتحام بين الراعي والرعية، الأمر الذي أغاظ الأعداء، وجعلهم يخططون لإزالة ما تنعم به هذه البلاد، ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل إيجاد الفرقة والخلاف بين صفوف الأمة، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ونعمته على هذه البلاد ولو كره الكافرون، ولو كره الحاقدون، ولو كره المغرضون.
وما علموا أن هذه الأحداث وهذه الجرائم مهما كانت جسامتها فلن تزيد المجتمع ـ ولله الحمد ـ إلاّ تماسكًا وترابطًا وتلاحمًا، ولكن هذه الطغمة الفاسدة ومن وراءها من أعداء الإسلام والمسلمين لا يريدون للأمة أن تعيش في أمن وأمان وعيش رغيد، إنهم يريدون زعزعة أمنها وانتهاك حرماتها وإتلاف ممتلكاتها وإزهاق الأنفس البريئة، ضاربين بأحكام الشريعة الإسلامية وآي القرآن الكريم خلف ظهورهم، وقد كشفوا وأفصحوا بهذا العمل المشين عن شعاراتهم المزيفة، وأظهروا خزيهم، وبينوا عوارهم، فقد كانوا من قبل يتذرعون بالمستأمنين والمعاهدين بحجة إخراج غير المسلمين، وثنّوا بمن خالطهم بحجة أنهم تترّسوا بهم، وثلّثوا بالمصلين الموحّدين من رجال الأمن أصحاب الأعمال البطولية الذين كشفوا أوكارهم. فما هي حجة هؤلاء المجرمين يوم يقفون بين يدي أحكم الحاكمين وأعدل العادلين حينما سفكوا دماء الأبرياء وروعوا الآمنين؟! وبأي دليل وبرهان يواجهون به رب الأرض والسموات حين دمّروا البناء بمن فيه؟! ولماذا اختاروا يومًا يعج بالموظفين والمراجعين؟! ولماذا حددوا ساعة يزدحم فيها الموجودون عند باب المبنى وقت نهاية الدوام؟!
أيها الإخوة، فالأمان نعمة عظيمة لا يعرف قدرها إلاّ من فقدها، وإذا فُقِد الأمن انشلت حركة الحياة، واختلت الموازين، فلا قيمة للإنسان ولا ما يملكه، الكل يعيش في قلق وخوف وذعر، وأهم ما يفكر فيه الإنسان في هذه الحالة كيف يأمن على نفسه. والفتن من أهم أسباب فقدان الأمن، ولذلك استحق صاحب الفتنة اللعن والطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى؛ لقوله : ((الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها)).
معاشر المسلمين، إن الواجب علينا إزاء هذه المحن وهذه التفجيرات أن نقف صفًا واحدًا وصوتًا واحدًا، كلٌّ من قِبَله ومن موقعه ومن منبره ومن ميدانه ومن بيته وحيه الذي يسكن فيه، وأن نعلن أننا أبرياء من هذه الأفعال الشنيعة، وأن الإسلام بريء من مرتكبيها، وأن نكون على بيّنة من خطط أعدائنا، وعلى حذر ويقظة تامة لما يُحاك لنا، وأن نلتفّ حول قيادتنا الرشيدة وعلمائنا الربانيين ودعاتنا الشرعيين، وأن نكون عونًا للجميع في أداء أعمالهم بما يعود على بلادنا وأمتنا بالخير والصلاح، متعاونين على البر والتقوى.
فالمجتمع المسلم لا يقوم إلاّ على هذه الركائز الثلاث: الحاكم والعلماء وسائر الرعية، والجميع اليوم ـ مواطنين ومقيمين ورجال حسبة وشبابًا وشيبًا - مدعوون للتكاتف والتعاون مع رجال الأمن، كلٌّ على حسب قدرته واستطاعته في الكشف عن هؤلاء المجرمين ومن يتستر عليهم ويقف وراءهم ويؤويهم ويتعاطف معهم، ولنتذكر دائمًا حديث رسول الله : ((لعن الله من آوى محدثًا)) ، حتى تكشف مخططاتهم، ويُقضى على بذور الشر والفساد، وتسلم منها البلاد والعباد. فمتى تكاتف الجميع على الخير والصلاح سادت المحبة والمودة بينهم، وصاروا صفًا واحدًا أمام جحافل الهدم والتدمير والتخريب، امتثالاً لقول الله تبارك وتعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
أيها المسلمون، وعلينا مسؤولية جسيمة تجاه أبنائنا، بأن نربيهم التربية الحسنة ونرعاهم الرعاية الحقة لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، وقوله : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، فالتربية والتعليم أصلان عظيمان في تنشئة الجيل، قال تعالى: اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]. إننا نريد جيلاً ربانيًا مؤمنًا بالله، يعبد الله في المسجد والجامعة والعيادة والثكنة العسكرية والمعمل والمصنع، ولا نريد أن نربي في بلادنا ملحدًا زنديقًا يحارب الله ويستهزئ بالدين ويغمز الصالحين ويصد عن منهج الله، ولا نريد بالمقابل أن نربي غاليًا متنطعًا منفرًا مكفرًا يحمل السلاح في بلاد الإسلام ويفجر نفسه ويقتل الأبرياء ويهدد أمن المؤمنين ويزعزع الثقة فيما بينهم ويورث الفتنة ويزرع الشر في المجتمع، وإنما يُخشى على أبنائنا من مسلكين خطيرين: مسلك الانحراف والفجور والإعراض عن طاعة الله وتعطيل أوامره وارتكاب نواهيه، ومسلك الغلو والانحراف والخروج على الولاة وجماعة المسلمين ونبذ إجماعهم وشق صفهم وتفريق كلمتهم، فعلينا أن ندرك أبناءنا، وأن نحافظ عليهم من الانزلاق في مهاوي الرذيلة والانجراف في الفكر التكفيري المنحرف.
ونقول للغلاة أهل الغلظة والجفاء متتبعي الأخطاء المستهزئين بالعلماء المكفرين للحكام الخارجين على إجماع الأمة، ونقول لكل مشترك في هذه الجرائم البشعة سواء بجلب هذه المتفجرات أو الإعانة على نقلها أو التواطؤ في تهريبها أو السكوت على أصحابها: توبوا إلى الله توبة نصوحًا، واعترفوا بأخطائكم، وعودوا إلى رشدكم، اتقوا الله في أنفسكم، اتقوا الله في دماء المسلمين، اتقوا الله في الأبرياء، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله وفي ذممكم دماء لأرواح بريئة، فماذا أنتم قائلون؟! وما حجتكم إذا وقفتم بين يدي الله أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، حافية أقدامكم، عارية أجسادكم، شاخصة أبصاركم؟! وما موقفكم من حديث رسول الله وأنتم تفجرون أنفسكم: ((من قتل نفسه بشيء في الدنيا عُذّب به يوم القيامة)) ، وقوله : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا فيها أبدًا، ومن شرب سُمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردّى من جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، فصلاة الله وسلامه عليه.
أما بعد: فيا عباد الله، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ثم أما بعد: فيا عباد الله، وإن البيان لهذه الأفعال القبيحة المنكرة يوضح لنا عدة أمور:
منها: أن دين الإسلام يحارب هذه الأفعال ولا يقرّها، وهو بريء مما ينسبه إليه أولئك الضالون المجرمون.
ومنها: أن الله قد فضح أمر هذه الفئة الضالة المجرمة، وأنها لا تريد للدين نصرة، ولا للأمة ظفرًا، بل تريد زعزعة الأمن وترويع الآمنين وقتل المسلمين المحرّم قتلهم بالإجماع والسعي في الأرض فسادًا.
ومنها: أنه لا يجوز لأحد أن يتستّر على هؤلاء المجرمين، وأن من فعل ذلك فهو شريك لهم في جرمهم، وقد دخل في عموم قول النبي : ((لعن الله من آوى محدثًا)) ، فالواجب على كل من علم شيئًا من شأنهم أو عرف أماكنهم أو أشخاصهم أن يبادر بالرفع للجهات المختصة بذلك؛ حقنًا لدماء المسلمين وحماية لبلادهم.
ومنها: أنه لا يجوز بحال تبرير أفعال هؤلاء القتلة المجرمين.
ومنها: أن هذه البلاد ـ ولله الحمد ـ متماسكة تحت ظل قيادتها وولاة أمرها، وأننا جميعًا ندين لله عز وجل بالسمع والطاعة لولاة أمرنا في غير معصية الله عز وجل، اتباعًا لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقول النبي : ((عليكم بالسمع والطاعة)).
ومنها: أن ما أصاب المسلمين من شيء فبسبب ذنوبهم، يقول الله عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير [الشورى:30].
فالواجب على الجميع تقوى الله والمبادرة بالتوبة من الذنوب والمعاصي، ونبشّر إخواننا رجال الأمن في هذه البلاد الطاهرة بأنهم على خير عظيم، وهم في ثغر من ثغور الإسلام، فعليكم بالحرص واليقظة والعزيمة في الدفاع عن دينكم أولاً، ثم عن بلاد المسلمين ضد هؤلاء الضالين. سدّد الله خطاهم، وأعانهم على خير.
ثم إنه من سولت له نفسه القيام بمثل هذه الأفعال الإجرامية المحرمة أو زلت قدمه بذلك أو تعاطف مع أولئك عليه المبادرة بالتوبة إلى الله عز وجل قبل حلول الأجل، وأن يراجعوا أنفسهم، ويتأملوا نصوص الكتاب والسنة مما سقناه وغيره، وأن لا يعرضوا عنها، فإن الله سائلهم عنها وعما اقترفوه، يقول الله عز وجل: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُون [البقرة:281].
هذا وصلوا على البشير النذير، كما حثّكم بقوله حين قال: ((من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم دمّر الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الملة والدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم انصرهم في كل مكان يا حي يا قيوم...
(1/3829)
التحذير من التستر على الإرهابيين
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بشاعة التفجير في مبنى المرور بالرياض على ضوء الوحيين. 2- تغليظ الشريعة الإسلامية في شأن الدماء. 3- تحريم التستر على المجرمين بجميع أصنافهم. 4- كلمة لرجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون.
ثم أما بعد: فيا عباد الله، لقد تابعنا ببالغ الأسف والألم حادث التفجير الذي وقع في مبنى الإدارة العامة للمرور بوسط مدينة الرياض، وما نتج عنه من قتلٍ لأنفس مسلمة معصومة وإصابات متنوعة لعدد كبير من المسلمين العاملين في المبنى أو المراجعين أو من كانوا في الطريق أو في المباني المجاورة، وإتلاف للممتلكات من مبان وسيارات وغيرها. وإن هذا العمل محرّم، بل هو من أكبر الكبائر لأدلة كثيرة، منها قول الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ويقول سبحانه وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، ويقول عز وجل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70]. ويقول النبي : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قيل: يا رسول الله، وما هنّ؟ قال: ((الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق)) الحديث أخرجه البخاري ومسلم، ويقول : ((أول ما يُقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) أخرجه البخاري ومسلم، ويقول : ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) ، وقال ابن عمر : (إنّ من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حلّه) أخرجه البخاري، ويقول : ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلاّ الرجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمّدًا)) ، ويقول : ((من قتل مؤمنًا فاعتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً)) ، ويقول : ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبّهم الله في النار)) ، ويقول وهو يطوف بالكعبة : ((ما أطيبك وما أطيب ريحك! وما أعظمك وما أعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك؛ ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرًا)) ، ويقول : ((لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم)) ، ويقول : ((يأتي المقتول متعلقًا رأسه بإحدى يديه متلببًا قاتله باليد الأخرى، تشخب أوداجه دمًا، حتى يأتي به العرش، فيقول المقتول لرب العالمين: هذا قتلني، فيقول الله للقاتل: تعست، ويُذهب به إلى النار)).
عباد الله، إن من القواعد المقررة في الأصول أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وقد أجمع المسلمون إجماعًا قطعيًا على عصمة دم المسلم وتحريم قتله بغير حق ، وهذا مما يُعلم من دين الإسلام بالضرورة، ومما سبق من النصوص الثابتة الصريحة تتضح عدة أمور، أهمّها:
أولاً: تحريم قتل المسلم بغير حق وأنه من أكبر الكبائر.
ثانيًا: أن النبي جعله قرينًا للشرك في عدم مغفرة الله لمن فعله.
ثالثًا: أن من قتل مسلمًا متعمّدًا فقد توعده الله بالغضب واللعنة والعذاب الأليم والخلود في النار.
رابعًا: أن الدم الحرام هو أول المظالم التي تُقضى بين العباد، وحصول الخزي يوم القيامة لمن قتل مسلمًا بغير حق.
خامسًا: أن قتل المسلم بغير حق من أعظم الورطات التي لا مخرج منها.
سادسًا: عظم حرمة المسلم، حتى إنه أعظم حرمة من الكعبة، بل زوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم.
سابعًا: أن الإعانة أو الإشارة أو تسهيل قتل رجل مسلم كلها اشتراك في قتله، وهؤلاء جميعًا متوعّدون بأن يكبّهم الله في النار، حتى لو اشترك في ذلك أهل السماء والأرض؛ لعظم حرمة دم المسلم.
ثامنًا: أن من فرح بقتل رجل مسلم بغير حق لم يقبل الله منه صرفًا ولا عدلاً.
تاسعًا: أن قتل المسلم من أعظم ما يرضي عدو الله إبليس عليه لعنة الله.
هذا كله ـ يا عباد الله ـ في قتل المسلم بغير حق، فكيف إذا انضمّ إلى ذلك تفجير الممتلكات وترويع الآمنين من المسلمين والانتحار وغير ذلك من كبائر الذنوب التي لا يُقدِم عليها إلاّ من طمس الله على بصيرته وزيّن له سوء عمله فرآه حسنًا؟! كما قال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد الله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلّغ الرسالة، وأدّى الأمانة، ونصح الأمة، فصلاة الله وسلامه عليه.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون.
ثم أما بعد: فيا عباد الله، وإن البيان لهذه الأفعال القبيحة المنكرة يتضح لنا بعدّة أمور:
منها: دين الإسلام يحارب هذه الأفعال، ولا يقرها، وهو بريء مما ينسبه إليه أولئك الضالون المجرمون.
ومنها: أن الله قد فضح أمر هذه الفئة الضالة المجرمة، وأنها لا تريد للدين نصرة، ولا للأمة ظفرًا، بل تريد زعزعة الأمن وترويع الآمنين وقتل المسلمين المحرم قتلهم بالإجماع والسعي في الأرض فسادًا.
ومنها: أنه لا يجوز لأحد أن يتستر على هؤلاء المجرمين، وأن من فعل ذلك فهو شريك لهم في جرمهم، وقد دخل في عموم قول النبي : ((لعن الله من آوى محدثًا)). فالواجب على كل من علم شيئًا من شأنهم أو عرف أماكنهم أو أشخاصهم أن يبادر بالرفع للجهات المختصة بذلك حقنًا لدماء المسلمين وحماية لبلادهم.
ومنها: أنه لا يجوز بحال تبرير أفعال هؤلاء القتلة المجرمين.
ومنها: أن هذه البلاد ـ ولله الحمد ـ متماسكة تحت ظل قيادتها وولاة أمرها، وأننا جميعًا نَدين لله عز وجل بالسمع والطاعة لولاة أمرنا في غير معصية الله عز وجل اتباعًا لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقول النبي : ((عليكم بالسمع والطاعة)).
ومنها: أن ما أصاب المسلمين من شيء فبسبب ذنوبهم، يقول الله عز وجل: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، فالواجب على الجميع تقوى الله والمبادرة بالتوبة من الذنوب والمعاصي.
ونبشّر إخواننا رجال الأمن في هذه البلاد الطاهرة بأنهم على خير عظيم، وهم في ثغر من ثغور الإسلام، فعليكم بالحرص واليقظة والعزيمة في الدفاع عن دينكم أولاً، ثم عن بلاد المسلمين ضد هؤلاء الضالين. سدّد الله خطاهم، وأعانهم على الخير.
ثم إنه من سوّلت له نفسه القيام بمثل هذه الأفعال الإجرامية المحرمة أو زلت قدمه بذلك أو تعاطف مع أولئك عليه المبادرة بالتوبة إلى الله عز وجل قبل حلول الأجل، وأن يراجعوا أنفسهم، ويتأمّلوا نصوص الكتاب والسنة مما سقناه وغيره، وأن لا يعرضوا عنها، فإن الله سائلهم عنها وعما اقترفوه، يقول الله عز وجل: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
هذا وصلوا على البشير النذير كما حثّكم بقوله حين قال: ((من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم دمّر الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الملة والدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم انصرهم في كل مكان يا حي يا قيوم...
(1/3830)
الإعلام بأنواع الكلام
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
16/1/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الكلمة وخطورتها. 2- الكلمة الطيبة. 3- كلمة الكفر. 4- كلمة النفاق. 5- كلمة الشرك. 6- كلمة الفسوق. 7- كلمة الإرجاف والتحريش. 8- كلمة الغيبة والنميمة والطعن واللعن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله فإنّ تقواه أفضلُ زاد وأحسَنُ عاقبة في معاد، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
أيّها المسلمون، الكلمةُ عنوان المرءِ، تُتَرجِم عن مُستَودعاتِ صَدره، وتبرهِن على مكنوناتِ قَلبِه، وتدَلِّل على أصله وعقلِه، وفَمُ العاقِل ملجَم، إذا همَّ بالكلام أحجَم، وفَم الجاهِلِ، مطلَق كلّما شاء أطلَق، والعاقِلُ من لزِم الصمت إلا عن حقٍّ يوضِحه أو باطلٍ يَدحضه أو خيرٍ ينشُرُه أو علمٍ يذكره أو فضلٍ يشكره، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخرِ فليقل خيرًا أو ليصمُت)) متفق عليه [1]. وبِتركِ الفضول تكمُل العقول، والخَرصُ خيرٌ من التفوُّه بالباطل، والبكمُ خيرٌ منَ النّطقِ بالكذِب والزّور، وشرّ الناس مائِلٌ بمقاله مميلٌ بلسانِه مُبطِل بكلامِه، وشرّ الكلام ما خالَفَ كتابَ الله وسنّةَ رسوله ممّا تنبو عن قبولِه الطِّباع وتتجافى عن استِماعه الأسماع.
أيّها المسلمون، عثراتُ القولِ طريقُ الندَم، والمنطِق الفاسِد الذي لا نِظام له ولا خِطام عنوانُ الحرمان ودليل الخذلان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ ما يتبيَّن فيها يزِلّ بها في النارِ أبعدَ ما بين المشرق والمغرب)) متفق عليه [2] ، وعند الترمذيّ: ((إنَّ الرجل ليتكلَّم بالكلمةِ لا يرى بها بأسًا يهوِي بها سبعينَ خريفًا في النار)) [3] ، وعن بلالِ بن الحارث رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((إنّ أحدَكم ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، فيكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه، وإنّ أحدَكم ليتكلَّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، فيكتب الله عليه بها سخطَه إلى يوم يلقاه)) أخرجه الترمذي وابن ماجه [4] ، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلَّم به؟! فقال: ((ثكِلتكَ أمّك يا معاذ، وهل يكُبّ الناسَ في النار على وجوهِهم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!)) أخرجه الترمذي [5].
أيّها المسلمون، الكلمة الطيّبة مغنَم، والكلِمة الخبيثة مأثم، وقد ضرَب الله لهما مثلاً وشبَّه لهما شبهًا: أَلَمْ تَرَى كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:24-26].
والكلمة الطيِّبة ـ أيّها المسلمون ـ هي شَهادة أن لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمّدًا رسول الله، كلمةُ الإسلامِ وأصدَقُ الكلام، الحجَّة الواضِحَة العظمَى والعروةُ الوثقى وكلِمة التقوَى، الكلمة العادِلَة السّواء، عاصِمَة الأموالِ والدّماء. شروطها:
العلم واليقين والقبولُ والانقياد فادرِ ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبّه وفّقَك الله لما أحبَّه
معناها: لا معبودَ حقٌّ إلاّ الله، فلا يجوز السّجودُ ولا الذّبح ولا النّذر ولا الدعاء إلا لله، ولا الحلِف إلاّ به، ولا التوكّل إلا عليه، ولا يُلجَأ في الشدائدِ إلا إليه، وتحرُم الاستعَانَة والاستعاذَة والاستغاثة بمخلوقٍ ميّت أو غائبٍ أو فيما لا يقدِر عليه إلا الله، ويجِب على كلِّ مكلَّف إخلاصُ العبادة كلِّها لله وحده، ومن عمِل عملاً يلتَمِس به الدّنيا أو اجتلابَ المِدحةِ أو الفَخرَ والرّياء كان عملُه عليه مردودًا، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاءِ عن الشرك، من عمل عملاً أشركَ فيه معِيَ غيري تركتُه وشركَه)) أخرج مسلم [6] ، ((وأفضل الذكر لا إله إلا الله)) أخرجه الترمذي وابن ماجه [7].
فلتَلهَج ألسنتُكم بالمساء والصباحِ والغدوِّ والرَّواح بالتهليل والتوحيدِ والتقديس والتمجيدِ والتسبيح والتحميدِ، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لأن أقولَ: سبحان الله والحمد لله ولا إلهَ إلا الله والله أكبر أحبُّ إليَّ ممّا طلعت عليه الشمس)) أخرجه مسلم [8] ، ((ومَن كان آخرَ كلامه لا إلهَ إلا الله وجبت له الجنة)) أخرجه أحمد وأبو داود [9] ، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه [فاطر:10]، وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ [الحج:24].
أيّها المسلمون، وأمّا الكلِمَة الخبيثة فكلِمَة الكفر، وهي تفوُّهٌ بما يناقِض التصديق وتلفُّظ بما ينافي التّسليمَ وطَعنٌ وسُخريّة واستهزاء وتنقُّص للدِّين وازدِراء، ومَن استهزَأ باللهِ أو آياتِه أو أمره أو وعدِه أو وعيدِه أو استهزأَ برسولِه محمّد أو بشيءٍ مِن أحكام دينِه فقد خرَج عن إيمانه وكفَر بعد إسلامه، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66]، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التوبة:74]. ومَن رأى تحكيمَ شرعِ الله وسنّةَ رسوله محمّد انغِلاقًا فكرِيًّا وتحجُّرًا حضارِيًّا وجمودًا عَقلِيًا واحتِكارًا ثِيُقراطيًّا ومَسلكًا كَهَنوتيًّا ورِدّةً حَضاريّةً فقد قال كلِمَة الكفر المحبِطة وأتى المقحِمَة والموبِقة.
وكلِمَة أهلِ النّفاق باديةٌ في لحنِ قولهم وفلتَات ألسِنَتهم مهما تقنَّعوا بالنُّصح والإصلاح وتظاهَروا بالصِّدق والإحسان، والله مخرِج ما يكتُمون ومظهِر ما يضمِرون، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:29، 30]. كلامُهم كلامٌ غَثٌّ، وفِكرُهم فكرٌ رثٌّ، هَذيان ممجوجٌ، ومنطِق محجوج، يدلّ على فسادٍ باطِن ومَكرٍ كامِن، الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67].
أيّها المسلمون، والقولُ الشّطَط والكلِمة الغَلَط التي لا يقولها إلاّ هالك حائِر وجاهِل بائر وضالٌّ خاسِر كلِمة الشركِ والتنديد التي هي أعظمُ الكذِب والزور وأشدُّ البُهتان والفُجور. ومَن زعَم جوازَ الاستعانةِ بأرواح الأمواتِ وطلَب المدَد من أصحابِ الأضرِحَة والمزاراتِ أو زعَم أنَّ الأمواتَ يتصرَّفون في الكونِ والأمور أو يعلَمون الغيبَ المستور أو زعم أنهم يخرُجون بأبدانهم وأرواحِهم من القبور لإغاثةِ مَلهوفٍ وإنقاذِ غريقٍ ومَضرور فهو السّفيهُ الذي قال على الله شَططًا، وافترَى على الله كذِبًا، وبَثَّ شرَّ الأقاويل، ونشَر في الأمة أخبثَ العقائدِ والأضاليل، وصدَّ الناسَ عن سواء السبيل، داعيةُ خُرافة، ما قدَرَ الله حقَّ قدرِه ولا خافه، حتى أبان ضلالَه وانحرافَه، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأنعام:144].
أيّها المسلمون، إنَّ دعاءَ الأموات والهُتافَ بهم عند الشدائدِ والملِمّات والصراخَ بأسمائهم عند البلِيَّات لقضاءِ الحاجات وتفريجِ الكُرُبات شِركٌ صراح وكفرٌ بواح، جاءت دعوةُ المصطفى محمّدٍ ـ وهو الماحِي الذي يمحو الله به الكفرَ ـ بهَدمِه ومحوِه ووقايةِ الأمّةِ من خبثِه وشرِّه، فعن أبي تميمة عن رجلٍ من قومه قال: شهدتُ رسولَ الله وأتاه رجلٌ فقال: أنتَ رسول الله؟ فقال: ((نعم)) ، قال: فإلام تدعو؟ قال: ((أدعو إلى الله وحده، من إذا كانَ بِك ضرٌّ فدَعوتَه كشَفَه عنك، ومَن إذا أصابَك عامُ سنةٍ فدعوتَه أنبتَ لك، ومَن إذا كنتَ في أرضٍ قفرٍ فأضللتَ فدعوتَه ردَّ عليك)) ، فأسلم الرجل. أخرجه أحمد وأبو داود [10].
أيّها المسلمون، وأما كلِمةُ الفسوق فهي ميلٌ إلى المعصيةِ وخُروج عن الاستقامة واستِرسال في الحوبِ وإفاضةٌ في الخنا وإشاعةٌ لكلام الفحشِ ولَهو الحديث وإذاعةٌ لصوتِ المنكَر الذي يبعَث على الهوَى والعَبَث والمجون، وعبادُ الرحمن لا يتدنّسون باللّغو الفاجر، ولا يجاهِرون بالمعاصي والمناكِر؛ لأنَّ المعاصي إذا ظهَرَت وانتشَرَت بلا تَغييرٍ ولا إنكارٍ حلَّ العذابُ والخَسار وحاقَ العِقاب والدَّمار، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]، وعن زينَبَ بنتِ جحش رضي الله عنها قالت: خرَج رسول الله يومًا فزِعًا محمَرًّا وجهُه يقول: ((لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب من شرِّ قد اقترب، فُتِح اليومَ مِن ردمِ يأجوجَ ومأجوج مثلُ هذه)) وحلَّقَ بإصبعِه الإبهام والتي تليها، فقلتُ: يا رسولَ الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثر الخبَث)) متفق عليه [11] ، ويقول رسولُ الهدى : ((ما مِن قومٍ يُعمَل فيهم بالمعاصي ثمّ يقدِرون على أن يغيِّروا ثم لا يغيِّروا إلاّ يوشك أن يعمَّهم الله بعقاب)) أخرجه أبو داود [12] ، ويقول عليه أفضلُ الصلاة والسلام: ((إنَّ الله لا يعذِّب العامّةَ بعمل الخاصة حتى يرَوا المنكرَ بين ظهرانيهِم وهم قادِرون على أن ينكِروه فلا ينكروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّب الله الخاصّةَ والعامّة)) أخرجه أحمد [13].
فاستدفِعوا العقوباتِ والنّقمات بإنكارِ المنكراتِ والتخلُّص من المحرَّمات والحذَرِ مِنَ المجاهرة بالمعاصِي والمحظورات، واستديموا النّعَم بتركِ أسباب زوالها ودواعي اضمِحلالها واندثارِها.
أيّها المسلمون، وكلِمَة الإرجافِ والتحريش إظهارٌ للشّناعةِ على رؤوسِ الأشهاد وإشاعةٌ لأراجيفِ الأخبار والتماسٌ للفرقة وتفوُّه بما يفضِي لانقصام العَصا وانفصَام العُرى وإثارَةِ الدهماء والغوغاء وتحريك القلوبِ بالسوءِ والفتنة ضدَّ جماعةِ المسلمين وأئمّتهم وعلمائِهم وبلادِهم ومناهجِهم، قال سهل بن عبد الله التستريّ رحمه الله تعالى: "لا يزال الناس بخيرٍ ما عظَّموا السلطانَ والعلماء، فإن عظَّموا هذَين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإن استخفّوا بهذين أفسَدوا دنياهم وأخرَاهم"، وعن عياض بن غَنم رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مَن أراد أن ينصَحَ لسُلطان بأمرٍ فلا يبدِ له علانية، ولكن ليَأخذ بيدِه فيخلو به، فإن قبِل منه فذاك، وإلا كان قد أدَّى الذي عليه له)) أخرجه أحمد وابن أبي عاصم وله شواهد [14].
ونصيحةُ الأئمّة واجبة على اليقين، والإنكار عليهم فيما يخالِف الشرعَ حَتمٌ مِنَ الدين، ولكن بالحكمة والموعِظَة الحسنة واللِّين، ويُدعَى لهم بالصلاح والمعافاةِ، ويُصبر على جَورِهم وظلمِهم، ولا يجوز الخروجُ عليهم أو قتالهم أو منابذَتهم، ومَن فعل ذلك فهو مبتدِعٌ على غير السنّةِ وطريقِ السلف، فعن عوف بن مالكٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خيارُ أئمّتكم الذين تحبّونهم ويحبّونكم ويصلّون عليكم وتصلّون عليهم، وشِرار أئمّتهم الذين تبغِضونهم ويبغِضونكم وتلعَنونهم ويلعنونكم)) ، قيل: يا رسولَ الله، أفلا ننابذهم بالسيف؟! فقال: ((لا ما أقاموا فيكم الصلاةَ، وإذا رأيتُم من ولاتِكم شيئًا تكرهونه فاكرَهوا عمَلَه ولا تنزِعوا يدًا من طاعة)) أخرجه مسلم [15].
جعلَني الله وإياكم من الهداة المهتدين المتبعين لسنّة سيّد المرسلين محمَّد ، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6475)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (47).
[2] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6477)، صحيح مسلم: كتاب الزهد (2988).
[3] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2314).
[4] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2319)، سنن ابن ماجه: كتاب الفتن (3969)، وأخرجه أيضا مالك في الموطأ (1848)، وأحمد (3/469)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن أم حبيبة، وهذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (281)، والحاكم (1/107-108)، وهو في السلسلة الصحيحة (888).
[5] سنن الترمذي: كتاب الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، وأيضا أخرجه أحمد (5/231)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2110).
[6] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2985).
[7] سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3383)، سنن ابن ماجه: كتاب الأدب (3800) عن جابر رضي الله عنه ، وأخرجه أيضا النسائي في عمل اليوم والليلة (831)، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (846)، والحاكم (1834، 1852)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2694).
[8] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2695).
[9] مسند أحمد (5/233، 247)، سنن أبي داود: كتاب الجنائز (3116) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البزار (2626)، والطبراني في الكبير (20/112)، والبيهقي في الشعب (1/108، 6/546)، وصححه الحاكم (1299، 1842)، وحسنه النووي في المجموع (5/111)، والألباني في الإرواء (687).
[10] مسند أحمد (5/377)، سنن أبي داود: كتاب اللباس (4084)، وهذا لفظ أحمد وإسنادُه، أما أبو داود فأخرجه من طريق أبي تميمة عن أبي جري جابر بن سليم قال: رأيت رجلا.. وذكر القصة نحو رواية أحمد، وهو في صحيح الجامع (244) وصحيح سنن أبي داود (3442).
[11] صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3346)، صحيح مسلم: كتاب الفتن (2880).
[12] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (4338) عن أبي بكر رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (1/2، 7، 9)، والترمذي في الفتن (2168)، وابن ماجه في الفتن (4005)، قال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وصححه ابن حبان (305)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3644).
[13] مسند أحمد (4/192)، ورواه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2431) والطبراني في الكبير (17/138، 139)، قال ابن كثير في تفسيره (2/300): "فيه رجل مبهم، ولم يخرجوه في الكتب الستة، ولا واحد منهم، والله أعلم"، وحسن ابن حجر إسناده في الفتح (13/4)، وقال الهيثمي في المجمع (7/267): "رواه أحمد من طريقين، إحداها: عن عدي بن عدي حدث عن مجاهد قال: ثنا مولى لنا أنه سمع عدي، والأخرى: عن عدي بن عدي حدثني مولى لنا، وهو الصواب، وكذلك رواه الطبراني وفيه رجل لم يسم، وبقية رجال أحد الإسنادين ثقات"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (3110).
[14] مسند أحمد (3/403)، السنة (1096، 1097، 1098)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (17/367)، والبيهقي في الكبرى (8/164)، وصححه الحاكم (5269)، والألباني في ظلال الجنة.
[15] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1855).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيما لشأنه، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ورسوله الداعِي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، واعلَموا أنَّ عليكم ملَكَين كريمَين، يكتبان كلَّ كلامِكم، ويحفظان كلَّ أقوالكم، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
أيّها المسلمون، المسلمُ مَن سلِم المسلِمون من لسانِه ويدِه، والقَالَةُ بينَ النّاس نميمةٌ وأَفيكَة وبهيتةٌ وعَضيهَة وقالَة قبيحة، إفسادٌ لذاتِ البين وتفريق بين المتحَابَّين ونفثٌ في عُقَد المكارِهِ بين الزوجين، صاحِبُها متوعَّد بالنار وسوءِ القرار، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يدخُل الجنّةَ نمام)) متفق عليه [1].
وكلِمةُ الغيبَةِ لسانٌ مقراضٌ وفَريٌ في الأعراضِ، همز ولمزٌ وغَمز وطعن وثلبٌ، مستنقَع آسن ودَرَك هابِط وولوغٌ في الجِيَف والأنتان، عِقابها شديد ومصيرُها رهيبٌ، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لمّا عرِج بي مررتُ بقومٍ لهم أظفار من نحاس، يخمِشون وجوهَهم وصدورَهم، فقلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلُون لحومَ الناس ويقَعون في أعراضهم)) أخرجه أحمد وأبو داود [2]. فهل بعدَ هذا الوعيدِ من وعيد؟! فمتى تكُفّ منّا الألسُن عن هذا السقط؟! ومتى نتوب ونمتنِع عن هذا الخضَض واللغط؟!
أيّها المسلِمون، خاب الطّعّانُ وخسِر اللّعّان وباء بالخيبةِ الفاحش وبذيء اللسان، فعن ابن مسعود رضي الله عنه: ((ليس المؤمِن بالطّعّان ولا باللّعّان ولا الفاحِش ولا البذيء)) أخرجه الترمذي [3].
وقانا الله وإياكم من جميع الآثام، وحمانا من الحرام، وعفا عن تقصيرنا وخطئنا فيما مضى من الأيّام.
أيّها المسلمون، إنّ تمرةَ الاستماع الاتّباع، فكونوا من الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه.
واعملوا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسِه، وأيَّه بكم أيّها المؤمنون من جنّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:59].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمّد صاحب الحوض المورود والمقام المحمود...
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6065)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (105) واللفظ له.
[2] مسند أحمد (3/224)، سنن أبي داود: كتاب الأدب (4878)، وأخرجه أيضًا والطبراني في الأوسط (8)، والبيهقي في الشعب (6716)، وصححه الضياء في المختارة (2285، 2286)، وهو في السلسلة الصحيحة (533).
[3] سنن الترمذي: كتاب البر، باب: ما جاء في اللعنة (1977)، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (6/162)، وأحمد (1/ 404)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193)، وقال الترمذي: "حسن غريب"، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم (29)، ورجح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وهو في السلسلة الصحيحة (320).
(1/3831)
خطر الشائعات والأراجيف وقت الحروب
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, قضايا المجتمع
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المعنى اللغوي والاصطلاحي للشائعة والأراجيف. 2- الأثر السلبي للشائعات على المجتمع. 3- موفق الإسلام من الشائعات. 4- صفات مروج الشائعة. 5- سهولة رواج الشائعات في العصر الحاضر. 6- منهج التعامل مع الشائعات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة الكرام الأحبة، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى؛ فإن التقوى هي خير زاد وهي خير وصية.
أيها الإخوة الكرام الأحبة، ظهرت في مجتمعنا آفة اجتماعية خطيرة ابتلي بها كثير من الناس إلا من رحم الله تعالى. هذه الآفة تفتت من عضد المجتمعات، فهي من أخطر الحروب المعنوية والأوبئة النفسية، بل من أشد الأسلحة تدميرًا، وأعظمها وقعًا وتأثيرًا، وليس من المبالغة في شيء إذا عُدَّت ظاهرة اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية، وأنها جديرة بالتشخيص والعلاج، وحريةٌ بالتصدي والاهتمام لاستئصالها والتحذير منها، والتكاتف للقضاء على أسبابها وبواعثها، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة، التي هي عماد نجاح الأفراد، وأساس أمن واستقرار المجتمعات، وركيزة بناء أمجاد الشعوب والحضارات.
إنها ـ إخواني في الله ـ الشائعات، فما هي الشائعة؟ وما هو خطر الشائعة؟ وماذا فعل الإسلام للشائعات؟ وما هي مفاسد الشائعات؟ وما هي الشائعات في العصر الحاضر؟ وكيف نواجه هذا الشائعات؟ هذه أسئلة وغيرها من الأمور التي تتعلق بهذه الآفة الاجتماعية سوف نتناولها معا في هذه الخطبة بمشيئة الله تعالى.
أيها الإخوة الكرام الأحبة، ما أكثر الشائعات التي تطلق في أوساطنا ونسمعها هذه الأيام، شائعات مقصودة، وشائعات غير مقصودة، فلا يكاد يشرق شمس يوم جديد إلا وتسمع بشائعة في مكان ما، من هنا أو من هناك.
فما هي الشائعة؟ الشائعة مصدر أشاع، وأشاع ذكر الشيء: أطاره وأظهره، وشاع الخبر في الناس شيوعا، أي: انتشر وذاع وظهر. ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللغوي. وقد تطلق الشائعة على الأخبار التي لا يعلم من أذاعها. وكثيرا ما يعبر الفقهاء عن هذا المعنى بألفاظ أخرى غير الشائعة؛ كالاشتهار والإفشاء والاستفاضة.
والشائعة اصطلاحا: نشر الأخبار التي ينبغي سترها، لِشَيْنِ الناسِ.
واعلموا ـ إخواني في الله ـ أنه يحرم إشاعة أسرار المسلمين وأمورهم الداخلية مما يمس أمنهم واستقرارهم، حتى لا يعلم الأعداء مواضع الضعف فيهم فيستغلوها، أو قوتهم فيتحصنوا منهم؛ كما يحرم إشاعة ما يمس أعراض الناس وأسرارهم الخاصة، قال الله تعالى في محكم التنزيل: إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19]. هذا هو الحكم الأخروي، وبالنسبة للحكم المترتب على الشائعة الكاذبة فهو حد القذف إن توفرت شروطه، وإلا فالتعزير.
والإرجاف في اللغة: الاضطراب الشديد، ويطلق أيضا على الخوض في الأخبار السيئة وذكر الفتن؛ لأنه ينشأ عنه اضطراب بين الناس. والإرجاف في استعمال الفقهاء: التماس الفتنة، وإشاعة الكذب والباطل للاغتمام به. والإرجاف حرام، وتركه واجب؛ لما فيه من الإضرار بالمسلمين، وفاعله يستحق التعزير. قال تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إلا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً [الأحزاب:60،61]. قال القرطبي: " لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ : لسلطناك عليهم فتستأصلهم بالقتل".
وبلغ رسول الله أن ناسا من المنافقين يثبطون الناس عنه في غزوة تبوك، فبعث إليهم طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه، وأمرهم أن يحرقوا عليهم البيت، ففعل طلحة ذلك.
هذا هو معنى الأراجيف والشائعات، فكم للشائعات والأراجيف ـ يا عباد الله ـ من خطر عظيم في انتشارها وأثر بليغ في ترويجها، فهي تعتبر من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص. فكم أقلقت الشائعة والأراجيف من أبرياء، وكم حطمت الشائعة والأراجيف من عظماء، وكم هدمت الشائعة والأراجيف من وشائج، وكم تسببت الشائعات والأراجيف في جرائم، وكم فككت الإشاعة والأراجيف من علاقات وصداقات، وكم هزمت الشائعة والأراجيف من جيوش، وكم أخرت الشائعة والأراجيف في سير أقوام.
وإن الشائعة لها أثر كبير على نفسية الإنسان، بل ربما يصل تأثيرها إلى دين المسلم وخلقه، ولها تأثير كبير كذلك على المجتمعات بأسرها، ولا أكون مبالغا إذا قلت: إن الشائعة ربما تقيم دولاً وتسقط أخرى.
أيها الإخوة الكرام الأحبة، إن المستقرئ للتأريخ الإنساني يجد أن الشائعات وُجدت حيث وُجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التأريخ، والشائعة تمثّل مصدر قلقٍ في البناء الاجتماعي والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات.
ولما جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها؛ لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه وسلامة لُحْمته، والحفاظ على بيضته، بل لقد عدّ الإسلام ذلك سلوكا مرذولاً، منافيا للأخلاق النبيلة والسجايا الكريمة والمثل العليا التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودّة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء، وهل الشائعة إلا نسف لتلك القيم ومعول هدم لهذه المثُل؟!
كما حذر الإسلام من الغيبة والوقيعة في الأعراض، والكذب والبهتان والنميمة، والقالة بين الناس، وهل الشائعة إلا كذلك؟! وأمر بحفظ اللسان، وأبان خطورة الكلمة، وحرّم القذف والإفك، وتوعّد محبّي رواج الشائعات بالعذاب الأليم، فقال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِي ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ [النور:19]. وحث على التثبت والتبيّن في نقل الأخبار، يقول سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6]، وقرأ حمزة والكسائي: فتثبَّتوا. وأخبر سبحانه وتعالى أن الإنسان مسؤول أمام الله عز وجل ومحاسب عن كل صغير وجليل: مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]. والشائعات مبنية على سوء الظن بالمسلمين، والله عز وجل يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيرًا مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث أبي هريرة، أن رسول الله قال: ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا)).
كما نهى الإسلام أتباعه أن يطلقوا الكلام على عواهنه، ويُلغوا عقولهم عند كل شائعة، وتفكيرَهم عند كل ذائعة، أو ينساقوا وراء كل ناعق، ويصدّقوا قول كل دعيٍّ مارق، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع)) ، وفي رواية: ((كفى بالمرء إثما)). ويقول الإمام مالك رحمة الله تعالى: "اعلم أنه فساد عظيم أن يتكلم الإنسان بكل ما سمع"؛ وذلك سدًّا للباب أمام الوشاة المغرضين ونقلة الشائعات المتربّصين، ومنعًا لرواج الشائعة والبلاغات المجهولة الكيدية المغرضة والأخبار الملفقة المكذوبة على البرآء الغافلين، يقول فيما رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: ((ألا أخبركم بشراركم؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت)).
أيها الإخوة الكرام الأحبة، إن مروّج الشائعة لئيم الطبع دنيء الهمة، مريض النفس منحرف التفكير، صفيق الوجه عديم المروءة ضعيف الديانة، يتقاطر خسَّة ودناءة، قد ترسّب الغلّ في أحشائه، فلا يستريح حتى يزبد ويُرغي، ويفسد ويؤذي، فتانٌ فتاكٌ، ساع في الأرض بالفساد، يؤذي البلاد والعباد.
ومنذ فجر التأريخ والشائعات تنشب مخالبها في جسد العالم كله، لا سيما في أهل الإسلام، يروّجها ضعاف النفوس والمغرضون من أعداء الديانة، ويتولى أعداء الإسلام عبر التأريخ ـ لاسيما اليهود قتلة الأنبياء ونقضة العهود ـ كبر الشائعات؛ بغيةَ هدم صرح الدعوة الإسلامية والنيل من أصحابها والتشكيك فيها، ولم يسلم من شائعاتهم حتى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فقد تعرّضوا لحملة من الافتراءات والأراجيف ضد رسالتهم، تظهر حينا وتحت جُنح الظلام أحيانًا، فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87]. فهذا المسيح عليه السلام تشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمة الصديقة: ي?أُخْتَ هَـ?رُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ?مْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28]. والكريم بن الكريم بن الكريم يوسف عليه السلام نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].
أيها الإخوة الكرام الأحبة، لقد تطوّرت الشائعات بتطور العصور، ويمثّل عصرنا الحاضر عصرًا ذهبيًا لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لكثرة وسائل الاتصالات التي جعلت العالم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية والقنوات الفضائية والشبكات المعلوماتية تتولّى كِبرَ نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية المحمومة، في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي والتحطيم المعنوي، له دوافعه المشينة وأغراضه المشبوهة، ضد عقيدة الأمة ومُثلها وثوابتها وقيمها.
وإنك لتأسف أشد الأسف ممن يتلقى الشائعات المغرضة وكأنها حقائق مسلّمة، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام أجهزة الشبكات المعلوماتية بوجهها الكالح، وما يعرف بالإنترنت عبر مواقعه المشبوهة فيلطّخ سمعه وبصره من الشائعات الباطلة، وتلفيق التهم ضد أمن الأمة ومجتمعاتها الإسلامية؛ فاحذروا ـ يا عباد الله ـ من الإشاعة والأراجيف واقضوا عليها في مهدها.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحبة، أحذر نفسي وإياكم من خطورة الشائعات، واعلموا ـ أيها الإخوة الكرام الأحبة ـ أننا نعيش في زمن كثر فيه ترويج الشائعة، ولكي لا تؤثر هذه الشائعات على المسلم بأي شكل من الأشكال، فلا بد أن يكون هناك منهج واضح محدد لكل مسلم يتعامل فيها مع الشائعات، ألخصها في أربعة نقاط مستنبطة من حادثة الإفك، التي رسمت منهجًا للأمة في طريقة تعاملها مع أية إشاعة إلى قيام الساعة.
النقطة الأولى: أن يقدم المسلم حسن الظن بأخيه المسلم، قال الله تعالى: لَّوْلا? إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَـ?ذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ [ سورة النور:12].
النقطة الثانية: أن يطلب المسلم الدليل البرهاني على أية شائعة يسمعها، قال الله تعالى: لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـ?ئِكَ عِندَ ?للَّهِ هُمُ ?لْكَاذِبُونَ [النور:13].
النقطة الثالثة: أن لا يتحدث بما سمعه ولا ينشره؛ فإن المسلمين لو لم يتكلموا بأية شائعة لماتت في مهدها، قال الله تعالى: لَّوْلا? إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَـ?ذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ [النور:12].
النقطة الرابعة: أن يرد الأمر إلى أولى الأمر، ولا يشيعه بين الناس أبدًا، وهذه قاعدة عامة في كل الأخبار المهمة، والتي لها أثرها الواقعي، قال الله تعالى: وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ?لأَمْنِ أَوِ?لْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ?لرَّسُولِ وَإِلَى? أُوْلِي ?لأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ?لَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
فإذا حوصرت الشائعات بهذه الأمور الأربعة، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها بإذن الله عز وجل.
واحذروا أن تكونوا أنتم الانطلاقة لكل شائعة، واحذروا أن تكونوا مروجين لهذا الشائعات، فإذا ما سمعت ـ أخي المسلم ـ بخبر ما سواءً سمعته في مجلس عام أو خاص، أو قرأته في مجلة أو جريدة، أو سمعته في إذاعة، وكان ما سمعته يتعلق بجهة مسلمة، سواء كانت طائفة أو مجتمع أو شخص، وكان الذي سمعته لا يسُرّ، أو فيه تنقص أو تهمة، فاحتفظ بالخبر لنفسك لا تنقله لغيرك، مع أن الذي ينبغي أن يبقى في نفسك هو عدم تصديق الخبر؛ لأن الأصل ـ كما قلنا ـ إحسان الظن بالمسلمين حتى يثبت بالبرهان والدليل والأدلة صدق هذا الاتهام؛ لأن القضية قضية دين والمسألة مسألة حسنات وسيئات.
فليحافظ كل منا على دينه، وليحافظ كل منا على حسناته، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
(1/3832)
حماية المجتمع وأخذ الحذر في السلم والحرب
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
أحمد بن محمود الديب
العين
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الحذر في اللغة والاصطلاح. 2- لماذا يجب علينا الحذر؟ وممن نحذر؟ 3- أساليب الأعداء في محاربة الإسلام والمسلمين. 4- من أعداء الإسلام؟ 5- وجوب إعداد العدة لمجابهة أعداء الإسلام في جميع الميادين. 6- الحث على التعاون مع رجال الأمن في حفظ النظام. 7- وجوب الوعي الكامل بمكائد الأعداء وخططهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة الكرام الأحبة، أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى؛ فإن التقوى هي خير زاد وهي خير وصية، ولا يخفى على الجميع ما تمر به أمتنا اليوم من هجمة شرسة من أعدائها، وما تمر به من محن وخلافات وحروب طاحنة في بلاد المسلمين، وهذا يستوجب منا أن نأخذ حذرنا في السلم والحرب؛ لحماية مجتمعنا من كيد أعدائنا؛ فما هو الحذر؟ وممن نحذر؟ ولماذا الحذر؟ وما هو واجبنا أمام ما حذرنا منه؟ هذه أربعة أسئلة نتعرف من خلال الإجابة عليها على مفهوم الحذر في كتاب ربنا وفي سنة نبينا.
فما هو الحذر؟ إن الحذر في اللغة يعني: اليقظة والتأهب، واصطلاحًا: هو أخذ الحيطة للأمر قبل وقوع المكروه، والحذر ثابت بالكتاب والسنة، ثابت بالكتاب فإن الله تعالى أمرنا بأخذ الحذر من أعدائنا فقال: يَا أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَ?نفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ ?نْفِرُواْ جَمِيعًا [النساء:71]. فعلينا أن نأخذ حذرنا امتثالا لأمر ربنا عز وجل.
والحذر ثابت في السنة المطهرة من أفعاله في هجرته وأعماله العسكرية التي واجه بها أعداء الله تعالى.
وممن نحذر؟ علينا أن نحذر من أعدائنا، فأعداء الله تعالى حريصون كل الحرص على زعزعة أمن بلادنا وإثارة الفتن، وهم لا يتحرجون من أن يستخدموا أي أسلوب لتحقيق هدفهم.
لماذا الحذر؟ لا بد من الحذر؛ لأن أعداء الإسلام والمسلمين يريدون القضاء على الإسلام بكل وسيلة، وهذا ما أخبرنا الله تعالى به وبما يدبرونه من مكايد فقال تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَافِرُونَ.[الصف:8].
ولقد تنوعت أساليب أعداء المسلمين في محاولات شتى للقضاء على ديننا، ووجهوا إلينا ألوانا من الأسلحة وغزوا المسلمين من كل جهة، وأنا أذكر هنا أنواعًا من أسلحتهم التي غزوا بها المسلمين:
غزوا المسلمين بالسلاح العسكري، غزوهم بالسلاح الفكري، غزوهم بالسلاح الخلقي، غزوهم بالسلاح العاطفي.
غزوا المسلمين بالسلاح العسكري؛ فأعلنوا الحرب على المسلمين وشنوا الغارة عليهم بأقوى الأسلحة التي تمكنهم الفرصة من استعمالها.
وغزوا المسلمين بالسلاح الفكري فأفسدوا أفكاراهم وعقائدهم إلا من رحم الله تعالى، يحاولون تشكيك المسلمين في دينهم، وزعزعة العقيدة من قلوبهم بما ينشرونه من كتب ورسائل، وما يلقونه من خطب ومقالات بالطعن في الإسلام وقادته أحيانا، وبتزيين ما هم عليه من الباطل أحيانا أخرى؛ فإن اعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال فذلك غاية مناهم وتمام رضاهم، قال الله تعالى وهو العالم بما تخفي صدورهم: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً [النساء:89]، وقال عالم الغيب والشهادة: وَلَنْ تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَارَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ ?لَّذِي جَآءَكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
وإذا لم يعتنق المسلم ما هم عليه من الكفر والضلال اقتنعوا منه بالشك في دينه والارتياب، وفي ذلك خروجه من الدين؛ فإن الشك في الدين كفر، ولقد صرح بعضهم بذلك فقالوا: "إننا نستبعد من المسلم أن يدخل في ديننا، ولكن يكفينا أن يشك في دينه ثم يخرج منه إلى أي دين شاء" لأنهم يعلمون أن عِزّ الإسلام هو ذلهم.
وغزوا المسلمين بالسلاح الخلقي؛ فنشروا بين المسلمين ما تفسد به أخلاقهم وتسفل به آدابهم وتكسد به قيمهم، نشروا فيهم ما يثير الغرائز والشهوة إما بالأغاني والألحان، وإما بالكلمات الماجنة والقصص الخليعة، وإما بالصور الفاتنة والمجلة الساقطة، حتى يصبح المسلم فريسة لشهوته، يتحلل من كل خلق فاضل، وينزل إلى مستوى البهائم، ولا يكون له هم سوى إشباع غريزته من حلال أو حرام، وبذلك ينسى دينه ويهدر كل فضيلة، وينطلق مع شهواته ولذاته إلى غير حدود شرعية ولا عرفية فيتنكر للشرع والعادة.
وغزوا المسلمين بالسلاح العاطفي: سلاح المحبة والعطف؛ فيتظاهرون بمحبة المسلمين والولاء لهم والعطف عليهم ومراعاة مصالحهم حتى يغتر بهم من يغتر من المسلمين وتنزع من قلوبهم العاطفة الدينية فيميلون إلى هؤلاء الأعداء بالمودة والإخاء والقرب والولاء وينسون قول الله عز وجل: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ?لْحَقِّ [الممتحنة:1]، وقوله: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَارَى? أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ منكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَهْدِي ?لْقَوْمَ ?لظَّالِمِينَ فَتَرَى ?لَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى? أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ?للَّهُ أَن يَأْتِيَ بِ?لْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى? مَآ أَسَرُّواْ فِي? أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51، 52]، وينسون قول الله تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22].
ما هو واجبنا أمام ما حُذِّرنا منه؟ إنه يجب علينا مع هذه التوجيهات الإلهية الصادرة عن علم وحكمة ورحمة أن لا نتجاهل دليلا واقعيا يوجب علينا الحذر من أعدائنا ومن موالاتهم. ولنعلم أن أعداء الإسلام لا ينحصرون في طائفة معينة ولا حزب معين، إن الكافرين كلهم أعداء الإسلام وأولياء بعضهم لبعض، يقول الله تعالى: وَ?لَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ?لأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:73]. فالكفر أنواع ولكل نوع منه أمة تدين به ما بين يهود ونصارى ومجوس وصابئين ومشركين ودهريين، وكلهم أولياء بعض لاتفاقهم على الخروج عن طاعة الله تعالى، تشابهت قلوبهم واختلفت عباراتهم وأساليبهم، فقالت اليهود: "عزير ابن الله"، وقالت النصارى: "المسيح ابن الله"، وقالت اليهود: "إن الله فقير ونحن أغنيآء"، وقالت النصارى: "إن الله ثالث ثلاثةٍ"، وقالت اليهود: "يد الله مغلولة"، وقالت النصارى: "إن الله هو ?لمسيح ابن مريم".
إن علينا أن ننتبه وعلينا أن نحذر، وإن علينا أن نعتبر بالأحداث، وإن علينا أن نكون أقوياء في التخطيط والعمل، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف كما ثبت ذلك في مسند أحمد وصحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((المؤمن القوي خير وأحب إلى? الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير. احرص على? ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)).
إن علينا أن نعد لأعدائنا لكل نوع من هجومهم سلاحه المقابل له حتى نتمكن من صد هجماتهم في كل وجه، وأن نأخذ بالحذر البالغ خصوصا في هذا العصر؛ فإن هذا هو ما أمر الله تعالى به حيث قال: وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى? أَن تَضَعُو?اْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [النساء:102]، هكذا يقول الله سبحانه وتعالى في دفاعهم، ويقول في طلبهم: وَلاَ تَهِنُواْ فِي ?بْتِغَآءِ ?لْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ ?للَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104].
وعلينا بتقوى الله تعالى، وعلينا بالصدق مع الله تعالى. وخذوا حذركم من عدوكم من اليهود وأعوانهم، وأن نحاسب أنفسنا، وأن نتوب إلى ربنا من كل ما يخالف دين الإسلام من مبادئ وعقائد وأعمال، وأن نصدق في مواطن اللقاء، وأن نؤثر الله تعالى والدار الآخرة، وأن نعلم أن النصر المبين والعاقبة الحميدة ليست للعرب دون العجم، ولا للعجم دون العرب، ولا لأبيض دون أسود، ولا لأسود دون أبيض، ولكن النصر بإذن الله تعالى لمن اتقاه واتبع هداه وجاهد نفسه في الله تعالى، وأعد العدة ما استطاع من القوة كما أمره بذلك مولاه، حيث قال تبارك وتعالى في محكم التنزيل: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ ?لْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ ?للَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ ?للَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ [الأنفال:60]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ ، وقال عز وجل يخاطب رسوله الأمين : وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ ?لصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُو?اْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى? لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَّرْضَى? أَن تَضَعُو?اْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ ?للَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [النساء:102].
فلنتأمل أمر الله عز وجل لعباده أن يعدوا لعدوهم ما استطاعوا من القوة، ثم لنتأمل أمره لنبيه وللمؤمنين عند مقاتلة الأعداء والقرب منهم أن يقيموا الصلاة ويحملوا السلاح، وكيف كرر الأمر سبحانه في أخذ السلاح والحذر لئلا يهجم عليهم العدو في حال الصلاة، لنعرف بذلك أنه يجب على المجاهدين قادة وجنودًا أن يهتموا بالعدو وأن يحذروا غائلته، وأن يعدوا له ما استطاعوا من قوة وأن يقيموا الصلاة ويحافظوا عليها مع الاستعداد فيها للحرب عند الحاجة إلى ذلك، وفي ذلك جمع بين الأسباب الحسية والمعنوية.
هذا هو الواجب على المجاهدين في كل زمان أن يتصفوا بالأخلاق الإيمانية، وأن يستقيموا على طاعة ربهم، ويؤمنوا بأن النصر بيده لا بيد غيره، هذا هو السبب الأول والأساس المتين والأصل العظيم، وهو قطب رحى النصر وأساس النجاة والفلاح، وهذا هو السبب المعنوي الذي خص الله تعالى به عباده المؤمنين وميزهم به عن غيرهم، ووعدهم عليه بالنصر إذا قاموا به مع السبب الثاني حسب الطاقة وهو إعدادهم لعدوهم ما استطاعوا من القوة، والعناية بشؤون الحرب والقتال والصبر والمصابرة في مواطن اللقاء، مع الحذر من مكائد الأعداء.
وبهذين الأمرين يستحقون النصر من ربهم عز وجل فضلاً منه وكرمًا ورحمة ً وإحسانًا ووفاءً بوعده وتأييدًا لحزبه، كما قال تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47]، وقال تبارك وتعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ الحج:40].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفي، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحبة، هذا واجب كل مسلم عليه أن يحمي المجتمع من كل خطر، فإذا علم بحادثة في مكان ما عليه أن يبلغ الجهات المعنية للحفاظ على أمن مجتمعه وسلامته، وعليه أيضًا أن يكون متعاونًا مع رجال الشرطة والأمن؛ لأن من مهام رجال الشرطة والأمن الحفاظ على الأعراض من المساس بها أو انتهاكها. وإلى جانب تلك الأعباء والمهام من الحِفاظ على النفس البشرية والعقل والأعراض، فهم يحافظون على أموال الدولة من الضياع والاختلاس والسرقة والتبديد، حتى تستقر الأوضاع بين الأفراد والمجتمع، وتسمو الدولة بتمسكها بشرع ربها.
فالمسلم الحق هو الذي يحترم رجل الشرطة والأمن، ويساعدهما على القيام بواجبهما الوطني. ولا شك في أن أول مظهر من مظاهر التعاون مع رجال الشرطة والأمن هو الالتزام بتقوى الله تعالى والإخلاص في السر والعلن، فمن التزم بتقوى الله تعالى أمنه الناس واستقام سلوكه وحسنت أخلاقه، فلا يؤذي أحدا، يلتزم بالنظام، ويحترم القوانين التي أمر بها ولاة الأمر للحفاظ على المجتمع وسلامته، والمسلم يعرف حدوده فلا يتجاوزها، يكون مجانبا لارتكاب المحرم والفجور والغش والخداع.
وإن الواجب على أبناء الأمة الوعي الكامل والإدراك الشامل بمخاطر الأعداء ومخططاتهم في استهداف عقائد المسلمين، وزعزعة استقرارهم وتهديد مقدراتهم، فكم من أمور غامضة تجري، وتخطيط ضخم يُرتب في الخفاء الله أعلم بما يحوي وعليه ينطوي، فالصهيونية العالمية اليوم تقود العالم إلى الكوارث والمحن، تريد بأمة محمد القلاقل والفتن، والأضرار والإحن. فالحذر الحذر، والحرصَ الحرصَ على هذا الدين.
الواجب على المسلمين أن يدركوا أن الهدف والغاية النهائية من كل تلك المحاولات هو ضرب الأمة في عمقها، والتأثير عليها في أكبر ركيزة من ركائز وجودها، وصدق الله تبارك وتعالى إذ يقول في محكم التنزيل: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء [النساء:89].
فعلى الأمة الإسلامية أن تدرك مقاصد دينها، وأغراض وأهداف كلام خالقها، وأن تستبصر مبادئ وتعاليم إسلامها، وإلا فستكون ـ لا قدر الله تعالى ـ ضحية تخاذلها، وبعدها عن مشاعل هداية ربها، والله جل وعلا يقول: وَقُلِ ?عْمَلُواْ فَسَيَرَى ?للَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:205].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/3833)
المكاسب الخبيثة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
23/1/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أساس المعاملات المالية. 2- حرمة المسلم. 3- حيل أهل الجشع والطمع. 4- ذم الحرص على المال. 5- عاقبة المكاسب الخبيثة ومفاسدها. 6- ذم الحلف الكاذب. 7- التحذير من منع أهل الحقوق حقوقهم. 8- النهي عن الخصومة بالباطل. 9- التحذير من الديون. 10- فضل إنظار المعسر والوضع عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، خيرُ العطَا الإيمان والتّقى، ولا بأس بالغنى لمن اتَّقى، والصّحة لمن اتّقى من الغِنى، وما قلَّ وكفى خير مما كثُر وألهى، وما يغني عن الظالم الثرا، وما يغني عنه مالُه إذا تردَّى، ليس الغِنى عَن كثرةِ العَرَض، ولكنّ غنى النفسِ هو الغِنى، ومن اشتدَّ حِرصه أوشَكَ وقصُه، ومن مدَّ عينَيه إلى ما ليس في يدَيه أسرعَتِ الخيبةُ إليه وتمكَّنت الحزونةُ عليه، ورسوله الهدى يقول: ((قد أفلَحَ مَن أسلم ورزِقَ كفافًا وقنَّعه الله بما آتاه)) أخرجه مسلم [1].
أيّها المسلِمون، مِن قواعدِ المعامَلات وأسُسِ المعاوَضات وأركانِ التّبادُلات والبياعَات التي تُبنى عليها جلُّ الأحكام ويعتَمد عليها كلُّ الحُكّام قولُ الملِك العلاّم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188].
وأخو المسلم كنَفسِه في الحُرمَة، لا يجوز أن يأكلَ مالَه بما حرُم في الشَّرع تعاطِيه أو بباطلٍ لا فائدةَ فيه؛ لأنَّ أخوّةَ الدّين تقتضيه وشفقةَ الآدميّة تستدعيه، فعن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضكم عليكم حَرام)) متفق عليه [2] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلُّ المسلِم على المسلمِ حَرام: دمُه وعِرضه وماله)) أخرجه مسلم [3] ، ورسول الهدى حين باعَ العدَّاءَ عَبدًا أو أمَة كتَب له: ((هذا ما اشترَى العدّاء بن خالدٍ بن هوذة مِن محمّدٍ رسول الله ، اشتَرى منه عبدًا أو أمَة لا داءَ ولا غائلَةَ ولا خِبثَة، بَيعَ المسلم للمسلم)) أخرجه البخاري معلَّقًا ووصله الترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه [4]. ((لا داء ولا غائِلةَ ولا خِبثَة)) : لا عيبَ يُكتَم، ولا فجورَ ولا حيلة تتلِف مالَ المشتري، ولا خديعةَ ولا خلابة، ((بيعَ المسلم للمسلِم)) الذي يستشعر الإقساط ويتّقي الإشطاط.
أيّها المسلمون، لقد سلك الجِشاع وأهلُ الأطماع طرقًا مِن المكر والغدرِ والخِداع للسَّيطرةِ على أموال الضعفاء والاستحواذِ على حقوقِ الفُقراء واستغلالِ الرّعاع والدَّهماء الذين أخنعتهمُ الحاجةُ واضطرَّتهم الفاقةُ وحمَلَهم حسنُ الظّنّ وابتغاءُ الفضلِ والرّزق للوقوع في الشَّرَك المنصوب والشَّبَك المضروب، حتى إذا انكشَفَ الغِطاء وانكشَفَ الغِشاء ظهرت أماراتُ الغدرِ ولوامِحُ المخاتَلة؛ حِرصٌ بلا عِفّة ورَغبة بلا مخافَة، تُرَوَّج عقودٌ وتضرَب وعودٌ، لا تجارَى في العرضِ والتّسويق، ولا تُبارى في التمويه والتّشويقِ، بأساليبَ ماكرةٍ ومسالكَ فاجرة، لا تعدو أن تكونَ حُبلةً متلفة ومكيدةً مهلِكة وسَلبًا ونهبًا باسم المساهَمَة والاتِّجار والعَقارِ والاستثمار والتوفيرِ والادِّخار، ولن يعدمَك منَ اللّئيمِ خلابة، وصدَق رسول الهدَى : ((ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يبالي المرءُ بما أخَذَ المال، أمِن حلال أو مِن حرام)) أخرجه البخاري [5].
وللحِرصِ علَى المالِ قُحَمٌ ومهالِك ومخاطرُ ودربٌ شائك، فعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((ما ذِئبان جائعانِ أُرسلا في غنَمٍ بأفسَدَ لها من حرصِ المرء على المالِ والشَّرفِ لدينه)) أخرجه أحمد والترمذي [6].
فيا مَن باع دينَه بحفنةٍ منَ المال، يا مَن أكل أموالَ الناس بالباطلِ وطرُق المكرِ والاحتيال، تذكَّر يوم العرضِ والأهوال، تذكَّر يوم الوقوفِ بين يدي الكبير المتعالِ، تذكَّر يومَ لا ينفع الثرا ولا الأموال، تذكَّر يوم تصفَّد بالسلاسلِ والأغلال، ولكلِّ غادرٍ لواءٌ يومَ القيامة يقال: هذه غدرةُ فلان.
فيا حسرةَ من اشترَى النارَ وغضَبَ الجبارِ بمتاعٍ رخيص يضمحلّ ويزول ويحولُ، فعن كعبِ بنِ عجرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله قال: ((لا يربو لحمٌ نبَت من سحتٍ إلا كانت النارُ أولى به)) أخرجه الترمذي [7]. فأين من رَبا لحمُه على عظمِه بمكاسِب الميسر والقمار وحُلوان الكهَنَة والسّحرة والعرّافين والمشعوذين وكَسبِ البغايا والقَينَات وأثمانِ ما حرُم بيعُه من الدّخان والخمور والمخدِّرات وأطباقِ القنوات والسّرِقة والخِلسة والغُصوب وجحدِ الحقوق وكِتمان العيوبِ والتلاعبِ بأثمان السّلَع والغشِّ والنّجش والتطفيفِ في المكاييلِ والموازينِ وصَفَقات الرّبا الخاسرة بزياداتِه الظالمة ومضاعفاتِه الفاحشة وأكلِ أموال اليتامى والتّعدِّي على أموالِ الأوقافِ والوصايا وما يُدفَع في ضُروبِ المراشاةِ والمحاماة، عالَمٌ مشحونٌ بالجَشَع والطّمع والمكرِ والخُدَع والأنانيّة والرّوح النّفعيّة، وصدَق رسول الله حين قال: ((فوالله، ما الفَقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشَى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلِكَكم كما أهلكتهم)) متفق عليه [8].
أيّها المسلمون، آكلُ الحرامِ مطرود، ودعاؤه مردُود، فعَن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله ذكَر الرجلَ يطيل السّفرَ أشعثَ أغبر يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمُه حرام، ومَشرَبه حرَام، ومَلبسُه حرام، وغذِي بالحرام: ((فأنَّى يُستجَاب لذلك)) أخرجه مسلم [9].
يا مَن أمِنتُم الحسابَ والعقاب في دنيا الغاب، إنَّ ورائكم قَضاءً وقِصاصًا وتَدقيقًا وحِسابًا وتَكريرًا وسُؤالاً وعِقابًا، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أتَدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلِس فينا من لا درهمَ له ولا متاع، فقال رسول الله : ((إنَّ المفلس مِن أمّتي من يأتي يومَ القيامة بصلاةٍ وصيام وزكاة، ويأتي قد شتَم هذا وقذف هذا وأكلَ مال هذا وسفَك دم هذا وضرَب هذا، فيُعطَى هذا من حَسَناته وهذا من حَسَناته، فإن فنِيَت حسناته قبل أن يُقضَى ما عليه أخِذَ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثمّ طرِحَ في النار)) أخرجه مسلم [10].
أيّها المسلمون، إنّ مدارَ حكمِ الحاكم إنما هو علَى الظاهر من كلامِ الخَصمَين وحُجَج المتداعِيَين، ولا حظَّ له في الباطنِ؛ لأنّه لا يبلغه علمه، فلا ينفُذ فيه حكمه، والحرامُ لا يصير حلالاً بقضاءِ قضاءٍ أو حُكم حاكم، فعن أمّ سَلمةَ رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إنّكم تختصمون إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أن يكونَ ألحنَ بحجّتِه من بعض، فأقضي له علَى نحو ما أسمعُ منه، فمن قطعتُ له من حقِّ أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعةً من نارٍ)) متفق عليه [11]. فويلٌ لمن أكل مالَ أخيه بدعاوَى كاذبة وحجَجٍ ملفَّقة.
يا مَن حلَف اليمينَ الغموس، يا مَن أقسم بالمحرِجَة العَبوس، لقد حلفتَ بأيمانٍ لا تطيقها الجبالُ وأقسامٍ تقصّ أعناق الرجال، تدمِّر حياةَ عاقِدِها، وتبتُر عمُر حالِفِها، فعن أبي أمامةَ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله قال: ((من اقتَطَع حقَّ امرِئ مسلِم بيمينه فقد أوجَبَ الله له النارَ وحرَّم عليه الجنّةَ))، فقال له رجل: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: ((وإن قضيبًا من أَراك)) أخرجه مسلم [12] ، وللشّيخين: ((مَن حلَف على يمينِ صبرٍ يقتطِع بها مال امرِئ مسلم هو فيها فاجِر لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان)) [13] ، وعن وائل بن حجرٍ رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ من حضرموت ورجلٌ من كندة إلى النبيِّ ، فقال الحضرميّ: يا رسول الله، إنَّ هذا قد غلَبني على أرضٍ لي كانت لأبي، فقال الكنديّ: هي أرضي في يدي أزرعُها ليس له فيها حقٌّ، فقال النبي للحضرميّ : ((ألك بيّنة؟)) قال: لا، قال: ((فلك يمينُه)) ، قال: يا رسول الله، إنَّ الرجل فاجرٌ لا يبالي علَى ما حَلَف عليه، وليس يتورَّع من شيء، فقال رسول الله : ((ليس لك منه إلاّ ذلك)) ، فانطلَقَ ليحلف فقال رسول الله لمّا أدبَر: ((أما لئن حلَف على مالِه ليأكلَه ظلمًا ليلقَينَّ الله وهو عنه معرِض)) أخرجه مسلم [14].
فيا من حلفتَ الأيمانَ الفاجرة، قد حلَّت بك الخيبةُ والخسارُ والذّلّة والقِلّة والبوارُ. يا من ضيّعتُم الحقوقَ بشهادةِ الزور وأدليتُم بأقوالِ كذبٍ وفجور، ويلكم يومَ يُنفخ في الصور، وَيلكم يومَ يُبَعثَر ما في القبور، وَيلكم يومَ يحصَّل ما في الصدور، فعن أبي بكرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراكُ بالله وعقوق الوالدين)) ، وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور)) ، فما زال يكرّرها حتى قلنا: ليته سكت. متفق عليه.
يا مانِعِي العُمّالِ أجورَهم، ويا باخسِي الأُجَرَاء حقوقَهم، نُزِعَت الشّفَقة مِن قلوبكم، وغارَت الرحمة مِن صدوركم، حتى أكَلتم حقَّ كَسير وحَسير وملهوفٍ وفَقير ومهيضٍ وأجير، أرَضَّ التّعبُ منهُ العرَق، له زوجةٌ ترِنّ وطِفلٌ يحنّ ومَريضٌ يئنّ، فتبًّا لكم أيّها الظالمون، وسُحقًا لكم أيها الجائِرون، وبُعدًا لكم أيّها الماكِرون، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خصمهم يومَ القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجلٌ باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يعطِه أجره)) أخرجه البخاري [15].
فيا عبد الله، لا تكن ممّن ظلَم وألهَد وجارَ وألحَد ولا توالَد، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الهدى : ((أعطوا الأجيرَ أجرَه قبلَ أن يجِفَّ عرقُه)) أخرجه ابن ماجه [16] ، ((هم إخوانُكم وخوَلُكم، جعلَهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحتَ يدِه فليطعمه مما يأكُل وليلبِسه مما يلبَس، ولا تكلِّفوهم ما يغلِبهم، فإن كلّفتموهم فأعينُوهم)) متفق عليه [17].
يا عبدَ الله، لا تخاصِم وأنت تعلم أنك ظالِم، لا تدلي بالحجَجِ وأنت تعلم أن الحجَّة عليك والحقَّ ليس إليك، فالمكاسِب المحرّمة مستخبَثةُ الأصول ممحوقَة المحصول، واللُّقمة الحرام غصَّةٌ طولَ الأيام وحَسرَة على مدِ الأعوام، وعِفّةٌ في طُعمة واكتسابُ قليلٍ من حِلِّة ذخيرةٌ ليس لها نفاد وبَرَكة تتضاعَف وتزداد.
يا من أصيب بماله، لا تعرِّض أجرَك للإحباط، ولا تتعرَّض من ربك للإسخَاط، اصبِر على الرّزيّة، واشكر العَطيّة، فما جلَّت رزيّة إلاّ أفادَت ذخرًا، ولا اشتدَّ بلاءٌ إلا أفادَ صبرًا، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما منَ البيّنات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئَة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1054) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] صحيح البخاري: كتاب العلم (67، 105)، صحيح مسلم: كتاب القسامة (1679).
[3] صحيح مسلم: كتاب البر (2564).
[4] صحيح البخاري: كتاب البيوع، باب: إذا بيَّن البيِّعان ولم يكتما ونصحا، سنن الترمذي: كتاب البيوع (1216)، سنن ابن ماجه: كتاب التجارات (2251)، وأخرجه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1501)، وابن قانع في معجم الصحابة (807)، والدارقطني (3/77)، والطبراني في الكبير (18/12)، والبيهقي في الكبرى (5/327، 328) وغيرهم، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن الجارود (1028)، وحسنه ابن حجر في الفتح (12/367)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (972).
[5] صحيح البخاري: كتاب البيوع (2083) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] مسند أحمد (3/456، 460)، سنن الترمذي: كتاب الزهد (2376)، وأخرجه أيضا الدارمي في الرقاق (2730)، والطبراني في الكبير (19/96)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3228)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1935).
[7] سنن الترمذي: كتاب الجمعة، باب ما ذكر في فضل الصلاة (614)، وقال: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (5567)، وله شاهد من حديث جابر أن النبي قال لكعب بن عجرة: ((أعاذك الله من إمارة السفهاء...)) في حديث طويل أخرجه عبد الرزاق (20719)، وأحمد (3/321)، والبزار (1609)، وصححه ابن حبان (1723)، والحاكم (4/422)، ووافقه الذهبي، وكلاهما في صحيح الترغيب (867، 1728، 1729). وفي الباب عن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن عمر وعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهم.
[8] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6425)، صحيح مسلم: كتاب الزهد (2961) عن عمرو بن عوف رضي الله عنه.
[9] صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1015).
[10] صحيح مسلم: كتاب البر (2581).
[11] صحيح البخاري: كتاب الشهادات (2680)، صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1713).
[12] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (137).
[13] صحيح البخاري: كتاب الشهادات (2667، 2670، 2673، 2677)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان (138) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
[14] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (139).
[15] صحيح البخاري: كتاب الإجارة، باب: إثم من منع أجر الأجير (2270).
[16] سنن ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب: أجر الأجراء (2443)، وأخرجه أيضا القضاعي في مسند الشهاب (744) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا سند ضعيف من أجل عبد الرحمن بن زيد، لكن للمتن شواهد من حديث أبي هريرة وجابر وأنس رضي الله عنهم لا يخلو كل منها من ضعف، قال المنذري في الترغيب (3/58): "وبالجملة فهذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة. والله أعلم"، وقد صححه الألباني في الإرواء (1498)، وانظر: نصب الراية (4/129).
[17] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية (30)، صحيح مسلم: كتاب الأيمان، باب: إطعام المملوك.. (1661).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له علَى توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لاَ شريكَ له تَعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله الدّاعي إلى رِضوانه، صلّى الله عليه وعلَى آلِهِ وأَصحابِه وإخوانِه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
أيّها المسلمون، حاذِروا الديون وجانِبوا القروض إلاّ عن ضرورةٍ واقعة وحاجَةِ ملِحّة باقِعة، واعلَموا أنَّ صاحب الدَّين مأسور بدَينه مرهون بقرضِه حتى يؤدَّى عنه، فعَن أبي قتادةَ رضي الله عنه قال: قام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتِلتُ في سبيل الله أتكفَّر عني خطاياي؟ فقال رسول الله : ((نعم وأنت صابِر محتسِب مقبلٌ غير مدبِر إلاّ الدين، فإنَّ جبريلَ عليه السلام قال لي ذلك)) أخرجه مسلم [1] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((نفسُ المؤمِنِ معلَّقة بدَينِه حتى يُقضَى عنه)) أخرجه الترمذي [2].
أيها المسلمون، من أنظَر معسِرًا أو أمهَل غريمًا أو أجَّل مدينًا أو وضَع عنه أو محا عنه قليلاً كان في ظلِّ الله يوم يلقاه، فعن أبي اليَسَر رضي الله عنه قال: أشهَدُ بَصَرُ عينيَّ هاتين ـ ووضع أصبعيه على عينيه ـ وسَمعُ أذنيَّ هاتين ووعاه قلبي هذا ـ وأشار إلى مناط قلبه ـ رسولَ الله وهو يقول: ((من أنظر معسرًا أو وضَع عنه أظلَّه الله في ظلِّه)) أخرجه مسلم [3] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((كان رجل يداين الناس، فكان يقول لفتاه: إذا أتيتَ معسِرًا فتجاوز عنه لعلَّ الله يتجاوز عنا، فلقي الله تعالى فتجاوز عنه)) أخرجه مسلم [4]. فارحموا المسكينَ والضعيف يتجاوز عنكم الرّحمن اللطيف.
واعلموا أنّ الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنّى بملائكته المسبِّحة بقدسه، وأيّه بِكم أيّها المؤمِنون من جِنِّه وإنسه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد صاحب الحوض المورود والمقام المحمود...
[1] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1885).
[2] سنن الترمذي: كتاب الجنائز، باب: أن نفس المؤمن معلقة بدينه... الحديث (1078، 1079)، وأخرجه أيضا أحمد (2/508)، وابن ماجه في الأحكام، باب: التشديد في الدين (2413)، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وصححه الحاكم (2/32)، وهو في صحيح سنن الترمذي (860).
[3] صحيح مسلم: كتاب الزهد (3014).
[4] صحيح مسلم: كتاب المساقاة (1562)، وهو في البخاري أيضا في كتاب أحاديث الأنبياء (3480).
(1/3834)
التوكل على الله سبيل النصر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
23/1/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من صور الصبر والتوكل في معركة بدر وحمراء الأسد. 2- لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. 3- موعدة بدر الصغرى. 4- أثر الخشية في التغلب على المحن. 5- محاولة اليهود تشويه صورة المسلمين وتاريخهم. 6- تواصل الاعتداءات اليهودية على مقابر المسلمين وأراضيهم. 7- خطورة المحاولات اليهودية للنيل من المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى في سورة آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
أيها المسلمون، قد ذكرت كتب التفسير وكتب السيرة النبوية المطهرة أنه بعد أن وقعت أحد في السنة الثالثة للهجرة وحصل مع المسلمين ما حصل انتشى أبو سفيان زعيم المشركين في مكة المكرمة وقتئذ فرحًا، ونادى بأعلى صوته: يا محمد، موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، أي: نتلاقى في العام القادم في مكان بدر، فأجابه مباشرة: ((نعم، إن شاء الله)).
أيها المسلمون، لما رجع الرسول إلى المدينة المنورة أصبح حِذَرًا من زحف المشركين إلى المدينة ليتمّموا غلبتهم وفرحتهم، فنادى في أصحابه بالخروج خلف العدو، وأن لا يخرج معه إلا من شارك فقط في غزوة أحد، فاستجاب الصحابة رضوان الله عليهم إلى ذلك بعزيمة وإصرار بعد أن أصابهم القرح وضمدوا الجراح، وساروا حتى وصلوا إلى موقع يُعرف بحَمْرَاء الأسَد، وكان ما توقّعه الرسول قد حصل فعلاً، فقد كان المشركون يجهزون أنفسهم بالتوجه إلى المدينة المكرمة، ولكن لما علّموا بخروج النبي من المدينة باتجاه مكة ظنوا وتوهموا أنه قد حضر معه جيش كبير، فألقى الله عز وجل الرعب في قلوبهم، ورجعوا القَهْقَرَى إلى مكة، وعَدَلوا عن التوجه إلى المدينة.
أيها المسلمون، بينما كان في موقع حَمْرَاء الأسَد أُلقِي القبضُ مرّة أخرى على المشرك أبي عزّة الشاعر الذي سبق أن وقع أسيرًا في غزوة بدر الكبرى، وقد مَنّ عليه الرسول وقتئذ وأطلق سراحه بعد أن تعهّد أن لا ينظم شعرًا يحرّض فيه المشركين على مقاتلة المسلمين، إلا أن أبا عزّة الشاعر لم يلتزم بوعده وعهده، فاستمرّ في نظم الشعر ضد الإسلام والمسلمين، فأمر بقتله، فأخذ أبو عزّة الشاعر يتوسل ويتَمَسْكَن ليمنّ عليه الرسول مرة أخرى، فقال له: ((لا والله، لا تمسح عارضيك بالكعبة وتقول: خدعت محمدًا مرتين، لا يُلدغ المؤمن من جُحر واحد مرتين)). هذا، وتعتبر غزوة حمراء الأسد أول رد اعتبار للمسلمين عما حصل لهم في أحد.
أيها المسلمون، هذا درس بليغ للمسلمين في كل زمان ومكان بأن لا ينخدعوا بالذين ينقضون العهود والمواثيق، فالمؤمن كَيّسٌ فَطِنٌ، وليس كِيْسَ قُطْنٍ، ينبغي عليه أن لا يُلدغ من جُحر واحد مرتين. أما الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي فقد لُدِغت من جُحر واحد مرات ومرات، ولم تتعظ إلى الحين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون، لقد تمكّن رسولنا الأكرم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير الميزان لصالحهم بعد عام واحد فقط، وذلك في غزوة بدر الآخرة، وتعرف بغزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة، حيث عَسْكَرَ المسلمون فعلاً في موقع بدر، في حين أن المشركين لم يحضروا في المكان والزمان اللذين سبق لأبي سفيان أن حدّدهما بنفسه، وحاول أبو سفيان إخافة وإرجاف المسلمين واللعب بأعصابهم حتى لا يخرجوا إلى موقع بدر، إلا أن محاولاته قد باءت بالفشل، وإن الحرب النفسية والإشاعات لم تؤثر على المسلمين، واستمروا متوجّهين إلى مكان بدر وهم يردّدون: حسبنا الله ونعم الوكيل، فازداد المؤمنون إيمانًا مع إيمانهم.
أيها المسلمون، إذا وقع المسلم في كرب شديد فإنه يلجأ إلى الله رب العالمين داعيًا: حسبنا الله ونعم الوكيل؛ لقول رسولنا الأكرم : ((إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)) ، وقد سبق وأن ردّد هذا الدعاء سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما أُلقِي في النار، فكانت النار بردًا وسلامًا عليه.
أيها المسلمون، لقد خرج المسلمون فعلاً، ومكثوا في موقع بدر ثلاثة أيام، وقاموا بأعمال تجارية بأمن وأمان، ثم عادوا غانمين سالمين، ويشير الله عز وجل إلى ذلك بقوله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، هذه الآيات الكريمة تدعو إلى الثبات والصمود في المواقف الصعبة والحرجة، وتدعو إلى التوكل على الله واللجوء إليه والخشية منه مع العمل الجاد، فإنه لا ملجأ إلا إليه سبحانه وتعالى، وأن المؤمن الذي يتصف بخشية الله فإن الله رب العالمين يُطوّع له المخلوقات كلها، سئل الإمام الحسن البصري رحمه الله: كيف تخاف من ربنا؟ فقال للسائل: "لو ركبت أنت البحر، فتحطّمت سفينتك، فلم يبق منها إلا لوح، فأمسكت به فوق الموج العالي، كيف يكون حالك؟" قال السائل: خوف شديد، قال البصري: "أنا هكذا مع الله، في خوف منه ليل نهار".
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لم ييأس المسلمون مما حلّ بهم وما أصابهم في معركة أحد، لم يناموا، ولم يستكينوا، ولم يستسلموا، لم يتهرّبوا من المسؤولية، لم يتخاصموا على الكراسي والمناصب والعروش، لم يستعينوا بالفرس أو الروم، لم يربطوا مصيرهم باجتماعات أمنية ولا بمؤتمرات سياسية ولا بقرارات، لم يُوكلوا أمرهم للأوهام والتمنيات.
وما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قوم منال إذا الأقدام كانت لهم رِكَابا
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، لقد مرّت مِحَن ومصائب على المسلمين في الماضي أيام التتار والصليبيين وغيرهم، فكان أجدادنا يجتازون الصعاب بكل صمود وإصرار وتضحية؛ لأنهم كانوا يخافون الله ويخشونه، وقد ورد عن البطل الإسلامي صلاح الدين الأيوبي رحمه الله أنه كان يحثّ جُنده على تلاوة القرآن الكريم، وكان يطرد اليأس من قلوب ونفوس المواطنين امتثالاً لقوله عز وجل: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].، فلا بد من الرجوع إلى الله العلي القدير في كل وقت وحين، وأن يدفعنا ذلك للأخذ بالأسباب، فمن ينصرنا؟ إنه هو الله، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، ومن يرزقنا؟ إنه هو الله، ومن يميتنا ويحيينا؟ إنه هو الله، لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ورد في الأثر: إن أربعة من الملائكة يحملون عرش الرحمن، وإن هؤلاء الملائكة سَبَق أن منحهم الله عز وجل قوة السماوات والأرض والجبال والرياح، إلا أنهم لم يتمكّنوا من حمل العرش حتى قيل لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فحينما قالوها استطاعوا حمل العرش.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، هناك أربع نقاط تهمّ أمور المسلمين ومصالحهم العامة، أشير إليها بإيجاز:
أولاً: محاولة التشويه لصورة العرب والمسلمين بأنهم يهتمّون بالجنس ويشربون الكحول، وأنهم حمقى لم يقدّموا أيّ مساهمة للإنسانية. هذا ما يزعمه محاضر يهودي في جامعة حَيْفا، وكان الأحرى بهذا المحاضر اليهودي أن يُحاسب نفسه قبل أن يحاسب وينتقد غيره، ويتوجب عليه أن يكون موضوعيًا وأمينًا في الحكم على غيره، وأن يطلع على الحضارة الإسلامية من مصادرها الموثوقة قبل أن يتطفّل ويتكلّم في هذا الموضوع، والأنكى من ذلك أن الطالب الذي ناقش هذا المحاضر واعترض على هذه الافتراءات ستحاكمه إدارة الجامعة، وتحيله إلى لجنة تأديبية، أي: إن موقف إدارة الجامعة كان مع المحاضر ضد الطالب العربي. وإننا إذ نقف إلى جانب هذا الطالب الذي تصدّى للمحاضر الجاهل العنصري، ونطالب الأساتذة والطلاب العرب في جامعة حَيْفا وغيرها من الجامعات أن يبرزوا الوجه الحضاري للشريعة الإسلامية عبر التاريخ والإنجازات التي قدمتها للحضارة الإنسانية جمعاء.
ثانيًا: المقابر الإسلامية في فلسطين، هناك انتهاكات متواصلة لحرمة المقابر الإسلامية، وكان من آخرها ما أُثير حول مقبرة الاستقلال في حَيْفا، وقد أصدرنا مؤخّرًا فتوى شرعية تأكيدًا لفتاوى سابقة، تتضمن وجوب المحافظة على حرمة هذه المقابر وصيانتها من العبث ونبش القبور، وذلك بإقامة أسوار حولها وإعادة دفن الموتى.
ثالثًا: توسيع المستوطنات ومصادرة آلاف الدونمات، لقد قررت الحكومة الإسرائيلية خلال هذا الأسبوع بناء 6400 وحدة سكنية في المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية، بالإضافة إلى توسيع المستوطنات في محيط مدينة القدس، وشقّ طرق جديدة للربط فيما بين المستوطنات لمحاصرة مدينة القدس وخنقها، وهذا يؤدي إلى مصادرة آلاف الدونمات من أراضي المواطنين الفلسطينيين، وهذا يؤكد أن السلام المطروح هو سلام مزعوم للخداع وللمراوغة وكسب الوقت، ونؤكد على عدم شرعية هذه المستوطنات، وأن حق المواطنين في أراضيهم سيبقى قائمًا إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، رابعًا وأخيرًا: المسجد الأقصى المبارك تاج القدس ودرّة فلسطين ورمز ثباتنا ومرابطتنا، تواصل الشرطة الإسرائيلية تحذيراتها من هجوم محتمل للمتطرفين اليهود. ونتساءل: هل الشرطة الإسرائيلية لا تعرف هؤلاء المتطرفين؟! ولماذا تتركهم يصِلُون ويفسدون ويعربدون دون أن تعتقلهم اعتقالاً على الأقل؟! وهل يستطيع هؤلاء المتطرفون تنفيذ مخططاتهم العدوانية دون علم الحكومة الإسرائيلية المحتلة؟! المسؤولة [مسؤولية] كاملة عن أي مسّ بحرمة المسجد الأقصى المبارك، كما نحمّل الأنظمة الحاكمة في العالم العربي والإسلامي المسؤولية لحماية المقدسات وتحرير البلاد والعباد.
(1/3835)
خطبة استسقاء 8/1/1426هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
8/1/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استسقاء النبي. 2- أهمية الماء. 3- فضل الإيمان والتقوى. 4- شؤم المعاصي. 5- استعاذة النبي من زمان ظهور الفاحشة. 6- لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. 7- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أنس بنِ مالك رضي الله عنه قال: أصابتِ الناسَ سَنةٌ على عهد رسول الله ، فبينا رسول الله يخطب على المنبرِ يومَ الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلَك المال وجاعَ العيال، فادعُ اللهَ لنا أن يسقيَنا، قال: فرفَع رسول الله يدَيه، وما في السماءِ قزَعة، قال: فثارَ سَحابٌ أمثالُ الجبال، ثم لم ينزل عن منبرِه حتى رأيت المطرَ يتحادر على لحيته، قال: فمطِرنا يومَنا ذلك وفي الغدِ ومِن بعد الغدِ والذي يليه إلى الجمعة الأخرى، إلى آخر الحديث، وهذا لفظ البخاري [1].
أيّها المسلمون، الماء أصلُ الحياة، وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30]، ولو اجتمع الإنسُ والجن على أن يؤتوا به لم يستطيعوا إلاّ بإذن الله، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك:30]، أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70]. وهو نعمةُ عظيمة أنعَمَ الله تعالى بهِ علَى عِبادِه، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:18]. وحين يغفَل الناس عن ربِّهم تنقُص الأرزاق وتمسِك السماء قطرَها بأمر ربِّها؛ ليعودَ الناس لربهم، وليتذكَّروا حاجتهم إليه، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى:27].
أيّها المسلِمون، الإيمانُ والتّقوى سببُ النعم والخيراتِ، وبهما تفتَح بركات الأرض والسماء ويتحقَّق الأمن والرخاء، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]. والتّقوى هي الخوف من الجليلِ والعمَلُ بالتنزيل والاستعداد ليوم الرحيل. نعم، الاستعداد للحياةِ الآخرة، والتي نسيها كثير من الناس في غمرةِ السعي اللاهِث وراءَ حُطام الدنيا والتنافس في زخرُفها الزائل، غافِلين عن الاستعداد ليومٍ لا ريبَ فيه، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران:30]، يومٌ لا بيع فيه ولا خُلَةٌ ولا شفاعَة، يومٌ تشخَص فيه الأبصار، يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [النحل:111]، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:52]، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا [سبأ:42]، يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16]، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:17] يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:9، 10]، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:18].
أيّها المؤمِنون، ولأجلِ ذِكرِ ذلك اليومِ والعَمل له فإنَّ الله تعالى يذكِّر عبادَه إذا غفلوا، وينذرهم إذا عصَوا، وقد أخبر سبحانَه أنّ ما يحلُّ بالبشر إنما هو من أنفسهم، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]. فاتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، وتوبوا إليه واستغفروه.
ألا وإنَّ شؤم المعاصي وبيل، وقد قال الله تعالى في محكم التنزيل: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، قال مجاهد: "إنَّ البهائم لتلعَن عصاةَ بَني آدم إذا اشتدَّت السَّنة وأمسك المطر، وتقول: هذا بشؤمِ معصيةِ ابن آدم" [2] ، وعَن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّه قال: (إنَّ الحبارَى لتموت في وكرِها من ظلمِ الظالم) [3]. كما أنَّ الشركَ مِن أعظمِ أبوابِ الفّقر واندثارِ الخيرات ومحق البركات، يليه سفكُ الدمِ الحرام كما في آية الفرقان: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68].
وقد استعاذ النبيُّ بالله أن يدركَ أصحابُه زمانَ ظهور الفاحشةِ والإعلان بها ونقصِ المكيال والموازين ومنعِ الزكاة، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: أقبَل علينا رسول الله فقال: ((يا معشرَ المهاجرين، خمسٌ إذا ابتُليتم بهنّ وأعوذ بالله أن تدركوهنّ: لم تظهر الفاحِشة في قومٍ قطّ حتى يعلِنوا بها إلاّ فشا فيهم الطاعون والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافهم الذين مضَوا، ولم ينقُصوا المكيالَ والميزان إلاّ أخِذوا بالسِّنين وشدَّة المؤونةِ وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاة أموالهم إلاّ منِعوا القطرَ من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقُضوا عهدَ الله وعهد رسولِه إلاّ سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذَ بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُم أئمّتهم بكتابِ الله ويتخيَّروا ممّا أنزل الله إلا جعَل بأسَهم بينهم)) رواه ابن ماجه وصححه الحاكم [4].
وسنّةُ الله في العصاةِ لا تتخلِّف، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:52، 53].
إنَّ الله لا يبدِّل أمنَ الأمم قلَقًا ولا رخاءَها شِدّةً ولا عافيتَها سَقامًا لأنه راغبٌ أن يذيقَ الناسَ المتاعبَ ويرميهم بالآلام. كلا، إنّه بَرٌّ بعبادِه، يغدِق عليهم فضلَه وسِتره، ويحيطهم بحفظِه، ويصبِّحهم ويُمَسّيهم برزقه، ولكنّ الناسَ يأخذون ولا يحسِنون الشكرَ، ويمرحون من النِّعَم ولا يقدِّرون ولِيَّها ومُسديها سبحانه. وعندما يبلغ هذا الجحودُ مداه وعندما ينعقِد الإصرارُ عليه فلا ينحلّ بندمٍ، عندئذٍ تدقُّ قوارعُ الغضبِ أبوابَ الأمم، وتسودّ الوجوهُ بمصائبِ الدنيا قبل نكالِ الآخرة، وما المصائب التي أحاطَت بالأمّة إلاّ سياطٌ تسوقها إلى العودةِ لباريها والبراءةِ من الذنوب ومخازيها والتنادي بالرجوعِ إلى الله بالتزامِ أمره واجتناب نهيِه وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاةِ وحربِ الربا ونبذِ الظّلم وإيقافِ وسائلِ الرّذيلة ودُعاتها والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر؛ لتسلَمَ سفينةُ المجتمَع وتُرَمَّم خروقُها وتسَدَّ ثقوبها، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، وإلاّ فإنّ فشوَّ المنكراتِ وإعلانَها مؤذنٌ بسيلِ عذابٍ قد انعقَد غَمامُه ومُؤذنٌ بليلِ بلاءٍ قد ادلهمَّ ظلامه، فبادِروا بتوبةٍ نصوح ما دام في العُمر فسحة والباب مفتوح، وأكثِروا من الاستغفار فبِه تُستَجلَب رحمة الله، لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، وقد قال نوح عليه السلام لقومه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، وقال هودٌ عليه السلام: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52].
عبادَ الله، أما وقد خَرجتُم تستغيثونَ وتستَسقون فأظهِروا الحاجةَ والافتقارَ، واعقِدوا العزم والإصرار على اجتنابِ المآثِم والأوزارِ، وقد روَى أهل السنَن وأحمد عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أنَّ النبي خرج للاستسقاءِ متذلِّلاً متواضِعًا متخشِّعًا متضرِّعًا [5] ، والله تعالى أمر بالدعاءِ ووعَد بالإجابة وهو غنيٌّ كريم سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
فاستغفِروا وادعوا، وأبشِروا وأمِّلوا، وارفعوا أكفَّ الضّراعة إلى الله مبتهلين.
الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمنِ الرحيم، ملِك يوم الدّين، لا إله إلاّ الله يفعل ما يرِيد، لا إلهَ إلا الله الوليّ الحميد، لا إله إلا الله غِياثُ المستغيثين وراحِم المستضعفين، نستغفِر الله، نستغفِرُ الله، نستغفِر الله الذي لا إلهَ إلاّ هو الحيّ القيوم ونتوب إليه.
اللّهمّ أنت ربّنا، لا إلهَ إلا أنت، خلقتَنا ونحن عبيدك، ونحن على عَهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شرِّ ما صنعنا، نَبوء لك بنعمتِك علينا ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا فإنّه لا يغفِر الذنوب إلا أنت.
لا إلهَ إلاّ أنت سبحانك إنّا كنا من الظالمين، لئن لم يَرحمنا ربُّنا ويغفِر لنا لنكوننّ من الخاسرين، ربّنا ظلَمنا أنفسنا وإن لم تغفِر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين، ربنا لا تؤاخِذنا إن نَسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملتَه على الذين من قبلنا، ربَّنا ولا تحمِّلنا ما لا طاقةَ لنا به، واعفُ عنا واغفِر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
اللّهمّ اغفر لنا ما قدّمنا وما أخَّرنا، وما أسررنا وأعلنّا، وما أنت أعلم به منا، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر لا إله إلا أنت. نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفِر الله.
اللّهمّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغثنا، غثيًا هنيئًا مَريئًا غَدَقًا طبَقًا مجلِّلاً سحًّا عامًّا دائمًا نافعًا غيرَ ضار عاجلاً غير آجل، اللّهمّ تحيي به البلادَ وتسقِي به العبادَ وتجعله بلاغًا للحاضِر والباد، اللهم اسقِ عبادك وبهائمَك وأحيِ بلدَك الميت، اللهمّ سقيا رحمة، اللهم سقيا رحمة، اللهمّ سقيا رحمة، لا سقيا عذابٍ ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللّهمّ إنَّ بالعباد والبلادِ مِنَ اللواء والجَهد والضّنك ما لا نشكوه إلا إليك، اللهم أنبِت لنا الزرع وأدِرَّ لنا الضّرع وأنزِل علينا من بركاتك، اللّهمّ ارفَع عنا الجهدَ والجوعَ والعُري، واكشِف عنا من البلاءِ ما لا يكشفه غيرك.
اللّهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا. اللّهمّ إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنّا بذنوبِنا فضلك. اللهم أنزل علينا الغيثَ، واجعل ما أنزلتَه قوّةً لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين. اللّهمّ أسقِنا الغيثَ وآمِنّا من الخوف ولا تجعلنا آيسين ولا تهلِكنا بالسنين واغفِر لنا أجمعين واكشِف ما بالمسلمين من بلايا يا أرحم الراحمين.
ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا عذاب النار.
هذا وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المهداة محمّدِ بن عبد الله، فقد أمركم الله تعالى بذلك فقال جلّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدِك ورسولك محمّد وعلى آلِه وصحبه أجمعين.
عبادَ الله، اقتَدوا بسنّةِ النبيِّ ، فقد كان يقلِب رداءه حين يستسقي [6] ، وتفاؤلاً بقَلب حالِ الشّدّةِ إلى الرخاء والقحط إلى الغيث، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابةِ.
ربَّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، سبحان ربِّك ربِّ العزة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
[1] صحيح البخاري: كتاب الاستسقاء (933، 1033)، صحيح مسلم: كتاب الاستسقاء (897).
[2] أخرجه سعيد بن منصور (236)، وابن جرير في جامع البيان (2/54، 55) بنحوه.
[3] أخرجه ابن جرير في جامع البيان (14/126)، والبيهقي في الشعب (7479).
[4] سنن ابن ماجه: كتاب الفتن، باب: العقوبات (4019)، مستدرك الحاكم (4/540)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، والبيهقي في الشعب (3/197)، قال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[5] مسند أحمد (2039)، سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1165)، سنن الترمذي: كتاب الجمعة (559)، سنن النسائي: كتاب الاستسقاء (1489)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة (1266) نحوه، وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1408)، وابن حبان (2862)، وابن الجارود (253)، والضياء في المختارة (9/501)، والنووي في المجموع (5/67)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1032).
[6] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الاستسقاء (969)، ومسلم في الاستسقاء (1489) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3836)
التحذير من ظلم العمال
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
9/1/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوفاء بالعهد من أخلاق المؤمن. 2- الحكمة من تفاوت الناس في هذه الدنيا. 3- وجوب الالتزام بالعقد. 4- إرشادات نبوية للعمال وأرباب العمل. 5- صور من ظلم العمال. 6- فضل الصدق والأمانة. 7- ذم الغدر والخيانة. 8- حسن خلق النبي. 9- الحث على دعوة العمال إلى دين الله تعالى. 10- نصيحة لأصحاب المنتديات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن خُلُق المؤمن وفاءَه بالعهودِ والتِزامَه بالعقود، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ [المؤمنون:8]، فهو إذا وعَد أوفَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]. هَكذا خلُق المؤمن، صِدقٌ في تعاملِه، فلا كذِبَ ولا غِشَّ ولا خيانة ولا غَدر، ولكن التزامٌ بما التزَم به ووفاءٌ بهذا كلِّه، طاعةً لله وعبادةً يتقرَّب بها إلى الله.
أيّها المسلم، وإنَّ المؤمنَ ليلزَم العدلَ في أقوالِه وأفعالِه، فبالعدلِ تُحفَظ الحقوق وتطمئِنّ النفوس، والظلمُ محرَّم على العباد، حرّمَه الله على نفسه، وجعَله بين عباده حرامًا، في الحديث القدسيّ: ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلته بينكم محرّمًا، فلا تظالموا)) [1]. إذًا فالمؤمِن لا يظلم أحدًا بجحدِ حقِّه أو خيانة في وعدِه وعدم وفاءٍ بما بينه وبينه منَ العقد، بل هو ملتزمٌ بالوفاء طاعةً لله وإظهارًا لمحاسن هذا الدين الذي جاء بما يحقِّق للبشرية السعادة في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلم، مِن حكمةِ ربِّنا جلّ وعلا أن جعَل هذا الخَلقَ متفاوتين في أخلاقهم وأرزاقِهم وقُدُراتهم، وبهذا يعمُر الكون فسبحانَ الحكيم العليم، فلو أنَّ الناس كلَّهم أغنياء لما انتفع بعضُهم ببَعض، ولو كانوا فقراءَ لما نفَع بعضُهم بعضًا، ولكن لله حكمَة في التّفاوت بين عبادِه، وأعظم التفاوتِ وأكبرُه هو ما بينَهم من تفاوتٍ في دينهم وتقواهم لربِّهم.
أيّها المسلم، إنَّ الله يَقول: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32]، ففي الخَلقِ الأغنياءُ، وفيهم الفُقراء، وفيهم العالم، وفيهم الجاهِل، وفيهم القادِر ببدنه والعَاجز، وفيهم القادِر بفِكره والعاجِز ببَدَنه، وسبحانَ من له الحكمةُ في هذا التفاوتِ والتباين.
أيّها المسلم، ومما ينبغِي أن يهتمَّ به المسلم ويراعيَه أن يكونَ ملتزِمًا بالعَقد الذي بينَه وبين من استَأجرَه مِن عُمّال، فيلتزِم بالعقد الذي بينه وبينهم، ويعطيهم حقوقَهم كاملةً كما اتَّفق بينه وبينهم، يعطيهم الحقوقَ كاملةً التي جرى الاتفاق بينه وبين العامل [عليها]، فيعطيه أجرَه كاملاً موفَّرًا من غير نقصٍ وإخلال. هذا هو واجب المسلم؛ لأنَّ العقدَ الذي بينك وبينه كما يلزَمُه القيام بالعمَل فإنه يلزمك أيضًا أداءُ الحقّ الواجب له، فهو يلزَمُه تنفيذُ العقدِ الذي أبرمتَ بينك وبينه، يجِب أن يلتَزِمه ويقومَ بالواجب، وفي ضمن ذلك أن تلتزِمَ أنت بما التزَمتَ به بينَكَ وبينه مِن أجرةٍ شهريّة يجب أن تعطيَها كاملةً موفّرة غير منقوصة، وإن انتقصتَ شيئًا منها فقد ظلمتَ وأكلتَ مالاً بغيرِ حقّ. هذه شريعة الإسلام.
فالواجبُ على الجميع التعاونُ على الخير والتّساعد على الخير وأن لا يظلِمَ أحدٌ أحدًا، فكما أنّ العامِلَ يحرم عليه ظلمُ من استأجره وعدمُ القيام بالواجِب فأيضًا صاحِب العمَل يحرم عليه أن يظلمَ العاملَ ويبخسَه حقَّه ويقتطعَ مِن راتبِه بلا حقٍّ، فإنّ هذا ظلم له. وكذا يحرُم عليه أيضًا أن يقتطعَ شيئًا من حقِّه، فهو يحرُم عليه تأخيرُ الوفاءِ بلا عذرٍ شرعيّ، فمَطل الغنيِّ ظلمٌ يحلّ عرضَه وعقوبته.
أيّها المسلم، في شريعةِ محمّد إرشادُ الجميع إلى الخير وَحَثُّهم على التعاون على الخير، فمحمّد يرسم لأمّتِه الطريق السويَّ الذي يجب أن يسيرَ عليه العُمّال وأربابُ العمَل؛ لكي يؤدِّيَ كلٌّ ما وجب عليه بطيبِ نفس.
فأوّلاً: يحثّنا نبيُّنا على الوفاءِ بحقوق العاملِ فيقول : ((أَعطوا العامِلَ أجرَه قبلَ أن يجفَّ عرقُه)) [2] ، بمعنى أن تبادِرَ في إيفاء حقّه، وأن لا تؤخِّرَ الوفاءَ بلا عذر، بل يجِب المبادرة بالوفاءِ، فهو حقٌّ له لا يجوز أن تؤخِّره ظلمًا وعدوانًا.
ثانيًا: أرشَدَ صاحبَ العَمَل كيف يتعامل معَ العامل، فيقول : ((إخوانُكم خَوَلُكم، جعَلهم الله تحت أيديكم، ومن كان أخوه تحت يدِه فليطعِمه مما يأكُل وليلبِسه مما يلبَس، ولا تكلِّفوهم ما لا يطيقون، وأن كلَّفتموهم فأعينوهم)) [3]. فانظروا إلى هذا الأدبِ العظيم والتعامل الجمِّ، ((إخوانُكم خوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم)) ، نعم هم تحت يدِك لفقرِهم وحاجَتِهم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبِسوهم مما تلبسون، ولا تكلّفوهم ما يغلِب عليهم، فإن كلَّفتموهم ما يغلِب عليهم فأعينوهم.
وثالثًا: رسولُ الله أرشَدَ إلى التعامُل بالحقِّ وحُسن الخلُق وعدَم الأذى، فأبو مسعودٍ رضي الله عنه ضرب غلامًا له، قال: فما شَعرتُ إلاّ ورجل من خلفي يقول: ((أبا مسعود، للهُ أقدَر عليك من قدرَتِك عليه)) ، قال: فألتفتُّ فإذا رسول الله ، فقلت: يا رسول الله، هو حرٌّ لوجه الله، قال: ((لو لم تفعل هذا للَفحَتك النار يوم القيامة)) [4]. هذا في العبد المملوك فكيف بغيره؟!
ورابعًا: أنَّ النبيَّ قال: ((للخادِم كسوتُه ونفقتُه، ولا يكلَّف ما لا يطيق)). هذا هو الواجِب على المسلم؛ أن يكونَ صادقًا في تعامله، بعيدًا عن الغِشّ والخيانة.
أيّها المسلم، إنّ هناك أخطاءً عديدة تقَع بين العامل وربِّ العمل، أساسه الظلمُ من الجميع، فأحيانًا يظلِم صاحبُ العمَل عمّالَه، وظلمه يتكوَّن في أمور:
فمِنها محاولَةُ بخسِ الحقوق، ويكتُب عَقدًا بينه وبينه، ثم إذا حضَر العامل حاولَ التخلّصَ من هذا العقدِ ليجعله أقلَّ مرتَّبًا مما اتُّفِق عليه من قبل، فيضطرّ هذا المسكينُ الذي بذَل قصارى جهدِه ليصلِ إلى أن ينتفِع بشيء من المال تحت هذا الضّغط السيّئ، فربَّما وقَّع على عقد ثانٍ وهو مرغَم عليه من غير اختيار، وهذا من الظلم العظيم.
وثانيًا: أنَّ من أخطاء أرباب العمل أحيانًا أنهم يظلِمون العامل، فربما أجَّروه على غيرهم وأعطَوه لمن ينتَفِع به مقابلَ شيءٍ يأخذه صاحبُ العمل، وذلك مقتَطَعٌ مِن راتِب العامل، فيكون العامِل مثلاً أجرتُه في الشّهر ألفَ ريال، فربما أجَّرَه بألفِ وخمسمائة ليأخذَ هذه الخمسمائة التي يأخذُها ذلك العامل، وكأنَّ هذا العاملَ عبد من عبيدة يتحكَّم فيه كيف يشاء، وهذا مِن الظلم والعُدوان.
ومِن أخطاءِ أولئك إتيانهم بعمّالٍ وتسريحُهم في الشوارعِ يعمَلون ما يشاؤونَ تحت مؤسَّساتٍ وهميّة وأمور وهميّة لا حقيقةَ لها، فيدخِلهم باسم مؤسَّسة وهميّة، فيدعهم في الطرقاتِ يعملون ما يشاؤون وهو يمتصّ من دَخلهم ومن عَرقِ جبينهم أحيانًا كلَّ شهرٍ أو عندما يحتاجُون إلى السفر، وهم يعمَلون ما يشاؤون، وربما ضرّوا أنفسَهم أو أضرّوا بغيرهم تحت مظلّةِ صاحب هذه المؤسّسة الوهميّة التي ألحقت الضّررَ بالأمّةِ في حاضِرِها ومستقبلها.
ومِن أخطاءِ أولئك أيضًا المماطَلةُ في الحقوقِ وعدَمُ الوفاء بها وتأخيرُها شهورًا عديدة، حتى ربما ملَّ العاملُ وسئِم ووافق على اقتطاعِ جزءٍ منه مقابِلَ إعطاء بقيّة الحقوق، وهذا منَ الظلمِ والعدوان وأكل أموال الناس بالباطل.
ومِن أخطائهم أيضًا أن يكونَ في العقود بعضُ المميِّزات لذلك العامل، لكن ترى ربَّ العمل يحاوِل التخلّصَ من هذه كلِّها بأيّ حيلة يحتالها، فيقف هذا العامل ضعيفَ القدرة قليلَ التصرّف، لا يستطيع الدّفاعَ عن نفسه؛ لأنَّ [صاحبَ العمل] ظالم لا يخاف الله ولا يرجوه.
فالواجِبُ على الجميع تقوى الله، وإنَّ التعامل بالصّدق والأمانة دليلٌ على قوّة الإيمان، والخيانة والغِشّ والتلاعبُ بالعقودِ دليل على ضَعف الإيمان وقِلّة الحياء والخوف من الله.
أيّها المسلم، اسمَع ـ وفّقك الله ـ ثوابَ الأمانة والصّدقِ في التّعامل، أخبرنا عن الثلاثةِ الذين آواهم المبيتُ إلى الغار، فانطبقت عليهم الصَخرة، فأصبحوا لا يستطيعون الخروجَ من هذا الغار، فقال كلٌّ منهم: كلٌّ يتوسَّل إلى الله بصالح عمله، فقام الثّالث فقال: اللّهمّ إني استأجرتُ أجراءَ، فأعطيتُهم حقوقَهم إلا واحدًا ترَكَ الذي له وذهَب، فثمَّرتُه له حتى كان منه إبلٌ وبَقَر وغنم وزرع، فجاءني بعد حين وقال: يا هذا، أعطني حقّي، فقلتُ له: كلّ ما ترى من إبلٍ وبقر وغنم وزرعٍ فهو لك، قال: أتستهزئ بي؟! قلت: لا، كلُّ ذلك لك، قال: فأخَذَه كلَّه ولم يدَع لي منه شيئًا، اللّهمّ إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرُج عنّا ما نحن فيه، فانفَرَجت الصخرةُ شيئًا [5]. فانظر إلى هذه الأمانةِ وهذا الصدق وهذا التعامُل الخالِص، ذهب ذلك العامِل وترك حقَّه لأمرٍ ما، وهذا الأمينُ ثمَّره له ونمَّاه له وأعطاه كلَّه ولم يطلب منه شيئًا، تركَه ابتغاءَ مرضاةِ الله وتقرّبًا إلى الله، فصار عملاً صالحًا نفعَه في تلك المضائق.
أيّها المسلم، إنَّ بخسَ العامل حقَّه من كبائر الذنوب، يقول : ((قال الله: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثمّ غدَر، ورجلٌ باع حرًّا وأكل ثمنَه، ورجلٌ استأجَر أجيرًا فاستوفَى منه ولم يعطِه أُجرته)) [6] ، هؤلاء خصمُهم الله يومَ القيامة، فلا يغرّنّك قوّتُك وقوّة لسانك وحجَجِك وضعفُ هذا العمل وقِلّة حيلته، لا يغرّنّك هذا، راقِبِ الله وخَفِ الله، الذي أغناك وأعطاك قادِرٌ أن يسلِبَ نعمتَه منك، فتعود فقيرًا كما كان هذا العامل فقيرًا.
أيّها المسلم، إنَّ الاتّفاقَ بين المسلمين يجِب أن ينفَّذَ بكلِّ بنوده، انظر إلى موسَى عليه السلام لمّا طلب منه صاحِبُ مَديَن أن يزَوِّجَه إحدى ابنتَيه على أن يجعلَ المهرَ أن يقوم موسَى عليه السلام برعايةِ الغنَم ثمانِ سنين أو عشرًا، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ [القصص:27، 28]، فالأجرَةُ المحدَّدة ثمان سنوات، وصاحبُ مَديَن أرادها عشرًا، فاتّفقَا على الثّمان، وموسَى وعد بالثِّنتَين إن تمكَّن، ولكنه أكمَل المدَّةَ عليه من الله وعلى نبينا أفضلُ الصلاة وأتمّ التسليم.
أيّها المسلم، إنّ حُسنَ الأخلاق دليلٌ على قوّة الإيمان، وإنَّ محمدًا كان أحسنَ الخلق خلُقًا، وكان أحسنَ الخَلق تعاملاً، قال أنس بن مالك: قدِم النبي المدينة، فأخذني أبو طلحةَ ـ زوجُ أمّه ـ وقال: يا رسول الله، هذا أنَس رجلٌ لبيب لِيَكن خادمًا لك، قال: خدَمتُه حَضرًا وسفرًا، فما قال لي لشيءٍ فعلتُه: لمَ فعلتَه؟ ولا لشيءٍ لم أفعَله: لمَ لَم تفعله؟ [7] قال: فوالله، ما مسَّت يدي خزًّا ولا حريرًا أنعم مِن يدِ رَسول الله ، ولا شَمَمتُ مسكًا ولا عطرًا قطّ أطيبُ مِن ريح عَرَق النبيّ [8] ، فصلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
فعلى المسلِمِ أن يتّقيَ الله في تعامُلِه مع الآخرين، وأن يكونَ الصّدق والأمانة خُلُقَنا وشعارًا لنا؛ لأنّا نحن المسلمون يجِب أن نمثِّلَ ديننا في أقوالنا وأعمالنا.
أيّها المسلم، أيّها المؤمن، هؤلاء العمّال الذين أَتَونا مِن أقطار الدنيا قد يكون عندَ بَعضِهم جهلٌ أو مخالَفة أو سوءُ فهم، فلِماذا لا يستغِلّ المسلم هذه الفرصةَ ويدعو إلى الله ويوضح الحق؟ فلعلّ أولئك أن يرجِعوا بخير مما جاؤوا، ولعلّهم أن يتزوَّدوا عِلمًا وعملاً، فمن دعا إلى هدًى كان له مِن الأجرِ مِثلُ أجور من تَبِعه من غيرِ أن ينقصَ ذلك منه شيئًا. فاستغلَّ وجودَ هؤلاء؛ علِّم الجاهل وبصِّره وعلِّمه وأيقِظه من غَفلَتِه، اهدِه لأداء الواجِبات، وأوضح الواجبات والفرائضَ، وبيِّن له المحرَّمات، وأدِّبه بالأدبِ الإسلاميّ، ولتكُن قدوةً له، يراك تصلّي، ويراك تفعَل الخيرَ، ويسمع منك الكلماتِ الطيبة، ويرى تربيةَ أولادك وتربيةَ بناتك وزوجاتِك على الأخلاق الكريمة، فيستفيد منك خُلقًا جمًّا وعملاً طيّبًا، أمّا أن يراك على خلافِ الحقِّ وعلى خلافِ الهدى فإنّه يسيء الظنَّ بك وبأمّتك.
فلنكن ـ إخواني ـ دعاةً إلى الخير بأقوالِنا وأعمالِنا وقدوَتِنا الصالحة، أسألُ الله لي ولكم التوفيق والسدادَ والعونَ على كلّ خير، إنّه على كلّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في البر (2577) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[2] أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام، باب: أجر الأجراء (2443)، والقضاعي في مسند الشهاب (744) من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهذا سند ضعيف من أجل عبد الرحمن بن زيد، لكن للمتن شواهد من حديث أبي هريرة وجابر وأنس رضي الله عنهم لا يخلو كل منها من ضعف، قال المنذري في الترغيب (3/58): "وبالجملة فهذا المتن مع غرابته يكتسب بكثرة طرقه قوة. والله أعلم"، وقد صححه الألباني في الإرواء (1498)، وانظر: نصب الراية (4/129).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية (30)، ومسلم في كتاب الأيمان، باب: إطعام المملوك.. (1661) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في كتاب الأيمان (1659).
[5] حديث الثلاثة الذين أطبقت عليهم الصخرة في الغار فتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3465)، ومسلم في الذكر (2743) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] أخرجه البخاري في كتاب الإجارة، باب: إثم من منع أجر الأجير (2270) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في كتاب الوصايا (2768)، ومسلم في كتاب الفضائل (2309) نحوه.
[8] أخرجه مسلم في كتاب الفضائل (2330) بمعناه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحِبّ ربنا ويرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ لَه، وأشهَد أنّ محمَّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلَى آله وصَحبه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، خلُق المؤمنين في سرِّهم وفي علانيّتهم فيما يتناجَونَ به وفيما يظهِرونه ويعلِنونه خلُقُهم التعاوُنُ على البرِّ والتقوى، قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2]. المؤمِن حقًّا يغار على دينِه، ثمّ يغار على أمّتِه ومجتمعه. المؤمِن حقًّا لا يرضى أن يكونَ داعيًا للضّلال، ولا ناشرًا للخطأ، ولا سانًّا في الأمّة سنّة سوء، ((من سنَّ في الإسلام سنّةً حسنَة فله أجرُها وأجرُ من عمل بها بعدَه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنّةً سيّئة فعليه وِزرها ووِزر من عمِل بها من بَعدِه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيء)) [1].
أيّها المسلم، إنّ المؤمنَ يتناجَى بالخيرِ ويظهِر الخير، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة:9].
إنّ منتدياتِنا ومجتمعاتِنا يجب أن تتحَلَّى بالأخلاقِ الكريمة والصّفات الحميدة، وأن تحترِمَ ثوابتَ الأمة وقِيَمَها وأخلاقها، وأن لا تنطلقَ بلا زِمامٍ ولا خِطام لتنشُر رَذيلة أو تعالج قضَايَا الأمّة على خِلاف كتاب الله وسنّة رسوله. إنَّ قضايا المجتمعِ المسلم لا يحلُّها إلاّ كتابُ ربِّنا وسنّة نبيِّنا، اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3].
فيا أيّها المسلم، ويا مَن يقوم على أيِّ منتَدى من منتَدَيات الأمّة، تَقوَى الله وصِيّةُ الجميع والحِرص على المحافظةِ على الخلُق والقِيَم والفضائل، وأن لا تكونَ منتدياتُنا منطلَقًا لتحلُّلٍ من القِيَم والأخلاق ولا لدعوةٍ إلى الرذيلةِ والفساد، ولكِن لنتّقِ الله في أنفسِنا، فالله سائلٌ كلَّ فرد عمّا تولَّى، والله محاسِب كلاًّ منّا على ما عمِل، فليتَّقِ المسلم ربَّه، وليراقِبِ الله قبلَ كل شيء، فإنّ المؤمن إذا انطَلَقت أعمالُه مِن إيمان صادقٍ من إيمانٍ خالِص من قلبٍ مليء بالإيمان واليقين كانت التصرّفات تصرّفاتٍ صالحة، ولكن المصيبةُ إذا ابتُلِي قلبه بالمرض وظنَّ أنَّ التجَرّدَ من الفضائلِ والقِيَم عنوانُ الرّقيِّ والتقدّم وعنوان كذا وكذا، فانطلَق بلا مبالاةٍ وبلا خَجَل، في أنديةٍ قد تكون أحيانًا منتدًى لشرٍّ وبلاء.
فليتّقِ المسلمون ربَّهم، وليراقبوا الله في أحوالهم كلِّها، وليعلموا أن الله مطَّلع على السرائرِ والضمائر، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، لا يخفى عليه شيءٌ من أحوالِ عِباده، وسيجازِيهم ويحاسبهم على كمال عِلمه بهم. فليتّقِ العباد ربَّهم، وليراقبوا ربَّهم، ولتكن أمورُهم منطلِقة من محافظةٍ على هذا الدين وعلى قِيَمِه وفضائله وعلى أخلاقِه الكريمة وصفاته الحميدة التي بعَث الله بها محمّدًا عبده ورسوله، بعثَه بالهدَى ودين الحقّ، بعثه بما يسعِد البشريّةَ في دنياها وآخرتها، فلا خيرَ إلا دلَّنا عليه وبيَّنه لنا، ولا شرَّ إلا بيَّنه لنا وحذَّرنا منه، صلوات الله وسلامة عليه، فأيّ منتدًى وأيّ مجتمع لا تحكُمُه شريعة الله ولا ينطلِق من منطلَقِ الإسلامِ الصحيح فإنّه يُخشَى على أهله من زيغِ القلب والعياذ بالله، فنسألُ الله للجميعِ الثّباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، إنّه على كلِّ شيءٍ قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهديِ هَدي محمَّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النّار.
وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى عبد الله ورسوله محمّد كَما أمَركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلَى عبدِك ورَسولِك محمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في كتاب الزكاة (1017) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.
(1/3837)
جزء من النص مفقود
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الاستقامة وما تشتمل عليه. 2- أهمية الاستقامة. 3- حقيقة الاستقامة. 4- منزلة الاستقامة في الإسلام. 5- يجب الحرص على تجديد الاستقامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله.
أيها المسلمون، (جزء من النص مفقود) هذا عنوان خطبتي اليوم بهذه الجملة التي يعرفها أهل الجوالات إذا وصلته رسالة ناقصة طلعت عليهم هذه العبارة، وهي تعني أن هناك جزءًا من الرسالة مفقودا، ومن خلال ذلك نعلم أن الرسالة غير مكتملة، وأحيانًا تكتمل بعض الرسائل بالتحديث التلقائي. وهناك كثير من الناس يوجد لديهم (جزء من النص مفقود) في حياتهم، ومن يشاهد ما عليه كثير منهم وأحوالهم في هذه الأيام يرى بالفعل أن هناك جزءًا من النص مفقودا لديهم، وأقصد بذلك الجزء المفقود الاستقامة. نعم، إن هذا الجزء هو من أهم الأمور التي ينبغي على كل أحد منا العناية بها، بل هو الأصل؛ لأن الأصل في المسلم الاستقامة على دين الله.
الاستقامة تعني الثبات على الحق والوقوف عند حدود الله والابتعاد عما حرّم الله والسير في الطريق إلى الأمام وعدم التوقف، فإن المتوقف لا يسمّى مستقيمًا، ولا تنحرف يمينًا ولا يسارًا. فالناس ـ ولله الحمد والمنّة ـ فيهم الخير الكثير، ولكن ينقص الكثيرين منهم هذا الجزء، ولا بد على كل واحد منا القيام بعمل (تحديث) لهذا الجزء المفقود، وذلك بالاستقامة على دين الله. فلنبادر ـ أيها الإخوة ـ من هذه اللحظات بالاستقامة، فإنها خير طريق سار عليه من قبلنا من الأنبياء والصالحين، فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير [هود:112].
عباد الله، يقول الله عز وجل في محكم التنزيل: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13، 14].
أيها المسلمون، الاستقامة كلمة جامعة تأخذ بمجامع الدين، الاستقامة قيام بين يدي الله بما أمر الله، والتزام بالصدق مع الله، والوفاء بعهد الله، فالاستقامة لله وبالله وعلى أمر الله. قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ، كما استقاموا إقرارًا استقاموا إسرارًا، وكما استقاموا قولاً استقاموا عملاً، لقد جمعوا بين أصلي الكمال في الإسلام: الإيمان والاستقامة، فالإيمان بالله كمال في القلب بمعرفة الحق والسير عليه، معرفة بمقام الربوبية والألوهية، معرفة بالله ربًّا حكيمًا إلهًا مدبّرًا معظمًا في أمره ونهيه، قد عُمِر القلب بخوفه ومراقبته، وامتلأ منه خشية وإجلالاً ومهابة ومحبة وتوكّلا ورجاءً وإنابة ودعاءً، أخلص له في القصد والإرادة ونبذ الشرك كله، وتبرأ من التعلق بغير ربه.
والاستقامة اعتدال في داخل النفس من غير عوج يمنة أو يسرة، انتهاج للتقوى والعمل الصالح، والتزام بالصواب من الرأي والعلم والعمل، وقيام بأداء الفرائض واجتناب المناهي، وقول بالحق وحكم به، وبعد عن مواضع الشبه وموارد الفتن، قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ، إذا تمكن ذلك في العبد وتحقق ظهر ذلك طمأنينة في النفس ورقة في القلب وقربًا من الرب، إيمان واستقامة ينجلي بها الليل البهيم لذي البصر السقيم، ينسكب على القلوب الظمئة فترتوي، ويغشى النفوس العاصية فتستكين، ويهيمن على العقول الشاردة فترجع وتؤوب. بالاستقامة أُمِر نبينا محمد وأصحابه رضوان الله عليهم: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [الشورى:15]، وبالاستقامة أُمِر النبيان الكريمان موسى وهارون عليهما السلام: قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس:89].
أيها المسلمون، استقيموا كما أُمرتم ولا تطغوا، استقيموا ولا تتبعوا الهوى، استقيموا ولا تتبعوا سبيل الذين لا يعلمون.
أيها المسلمون، الاستقامة شاقّة، فالنفس معها تحتاج إلى المراقبة والملاحظة، استقامة لا تتأثر بالأهواء، استقامة تحقّق العدل والتوحيد، استقامة بعيدة عن المجاوزة والطغيان. يقول عمر : (الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب). وأوضح من ذلك وأبلغ إرشاد النبي عبد الله بن عمرو بن العاص إذ قال له: ((يا عبد الله بن عمرو، إن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك)). ويقول بعض السلف: "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط، وإما إلى مجاوزة، ولا يبالي بأيهما ظفر، زيادة أو نقصا".
الأمر خطير أيها الإخوة، فبعض الناس قد لا يفوته علم أو عبادة، ولكن يفوته التوفيق والصواب، استقامة في اقتصاد، وعمل بعد علم، وإخلاص في القلب، ومتابعة للسنة، اقتصاد يعصم عن بدعة التفريط والإضاعة، ويحفظ من حدّ الغلو والإسراف والمجاوزة، ونظرًا لعظم الأمر ودقّته فقد وجّهكم نبيكم محمد بقوله: ((استقيموا ولن تحصوا)) ، وبقوله: ((سدّدوا وقاربوا)) ، وأمركم ربكم عز شأنه بقوله: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6].
فالمطلوب الاستقامة، وهي السداد والإصابة، فإن لم يقدر فليجتهد في المقاربة وليستغفر الله، فإن نزل عن ذلك فالخوف عليه من التفريط والإضاعة. استغفار مقارن لمسيرة الاستقامة، جبرًا للنقص البشري، وتسديدًا للقصور الإنساني، استغفار وتوبة تعيدان إلى جادة الاستقامة، وتردان إلى مسلك الحق والعدل، وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114، 115]. ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها)) ، استقامة مقرونة باستغفار، مما يعني يقظة دائمة ومحاسبة صادقة وضبطًا للانفعالات البشرية.
إذا كان الأمر كذلك ـ أيها الإخوة المسلمون ـ فإن مدار تحقيق الاستقامة على وجهها حفظ القلب واللسان، فقد جاء عند أحمد من حديث أنس عن النبي أنه قال: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه)) ، ولقد كان من دعاء النبي : ((أسألك قلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا)). من صلح قلبه استقام حاله، فلم ينظر ببصره إلى محرم، ولم ينطق لسانه بإثم، ولم يبطش بيده في مظلمة، ولم ينهض بقدمه إلى معصية، ((والأعضاء كلها تكفّر اللسان، وتقول له في مطلع كل صباح: اتق الله، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)) بهذا جاء الخبر عن رسول الله مرفوعًا وموقوفًا.
أيها الإخوة والأحبة، هذه هي الاستقامة في حقيقتها وطريقتها، أما جزاء أهلها فتنزل عليهم ملائكة الرحمن أن لا تخافوا ولا تحزنوا، أمْنٌ من المخاوف، وسلامة من المكاره، لا يأسون على فائت، ولا يشفقون على مستقبل، مسددون موفقون محفوظون بملائكة الله من أمر الله بإذن الله، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31]، لهم الأمن في الحال والمآل والنعيم المقيم، نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32].
أيها الإخوة، الاستقامة في الدين مقام من أعلى المقامات، به يُرتقى لأسمى الكمالات وأفضل الطاعات، مراقبة لله على دوام الأوقات، أهل الاستقامة لا يصبح الدين عندهم فريسة العابثين ولا ميدان المتلاعبين، وليس لعبة للمنحرفين وتقلبات المنافقين، أهل الاستقامة يتواصلون بالدين، لا يحمل بعضهم على بعض ضغينة، ولا تشوبهم ريبة، ولا تسرع إليهم غيبة، في الله يتحابّون، وفي دين الله لا يغلون أو يزيدون، ومهما طال عليهم الطريق فلغير دين الله لا يدينون، غير ناكثين في عزيمة، ولا منحرفين عن وجهة، ولا زائغين عن عمل.
أما من قلّ نصيبه واختلّت استقامته واعوجّت مسيرته فتجرفه أهواء عاتية، وتحرفه أغراض متباينة، لا يحمل رسالة، ولا يقيم دعوة، ينحرف عند أدنى محنة، ويضل عن أدنى شبهة، ويزلّ لأول بارقة شهوة، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، دينه ما تهوى نفسه، وعقيدته ما يوافق هواه، هذا حال الفريقين، وهذا مسلك النجدين.
فليجاهد العبد نفسه في تحقيق الإيمان والاستقامة، وليسأل ربه الثبات بعد الممات والحفظ من فتن الشهوات والشبهات، وليعرض عن الجاهلين، وليصفح عن المسيئين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التواب الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، وأرسل نبيه محمدًا لِيبيِّنَ للناس ما نُزِّل إليهم بقوله وفعله، وآتاه جوامع الكلم وأصول الحكم، وجعل أحسنَ الهدي هديه، وأعظم الخلق خلقه، صلى الله وسلم عليه وعلى جميع المرسلين، وسائر الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن تبعهم وسار على نهجهم، واقتفى أثرهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أوصيكم ـ عبادَ الله ـ وإيَّايَ بتقوى الله، وأحثكم على طاعته وطاعة رسوله، وأستفتح بالذي هو خير.
ثم اعلموا أن الاستقامة من حيث أصلها مأخوذة من القيام، وهو الاعتدال وعدم الاعوجاج، يقال: قام الأمر أي: اعتدل، فهي إذًا سلوك الطريق القويم الذي لا عِوَجَ فيه ولا انحراف، وهو ما ليس بإفراط ولا تفريط، وهي إذا أطلقت ـ كما في قوله تعالى في أواخر سورة هود: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير [هود:112] ـ استوعبت الأصول والفروع، فلم تغادر وراءَها عملاً من أعمال الجوارح ولا حالاً من أحوال القلوب إلا شملته وأتت عليه؛ إذْ هي السير على الطريق المستقيم، وهو الدين القيم الذي ابتعث الله به محمدًا ، من عقائد وعبادات وأخلاق وشرائع، فهي كلمة جامعة شاملة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل والأقوال والأفعال والأحوال والنيات.
والاستقامة بعد ذلك هي التزام المنهج الذي لا عوج فيه ولا التواء، وقد عبر عنه في القرآن الكريم بالصراط المستقيم، وهو لفظ شامل لكل ما هو حق وفضيلة، يكون في العقيدة وفي الخلق وفي العمل، هو في العقيدة تسليم وإذعان ويقين بالله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وهو في الخلق وسط بين طرفين، لا جبن ولا تهور، لا إسراف ولا تقتير، لا تسرع ولا تبلد، ولكنْ قوامٌ بين ذلك، تصلح به النفوس، وتستقيم به الأمور. وهو في العمل اعتدال لا يعرف الإفراط والتفريط، فالذين يكلفون أنفسهم ما لا يطيقون من الأعمال ليسوا على الصراط المستقيم، والذين يتحللون من جميع الواجبات ليسوا على الصراط المستقيم، والذين يحرمون على أنفسهم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ليسوا على الصراط المستقيم، والذين يستبيحون لأنفسهم جميع الفواحش ما ظهر منها وما بطن ليسوا على الصراط المستقيم. وهكذا كان الإسلام في عقائده وأعماله وأخلاقه هو الصراط المستقيم، قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:161]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، ثم لأمرٍ ما كان أول ما أرشد الله عباده أن يدعوه به في كل صلاة هو قوله في فاتحة الكتاب: اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِمَ [الفاتحة:5].
هذه هي الخطوط الأولى للاستقامة، والتي عبّر عنها القرآن بالصراط المستقيم، وإذا كانت هذه هي الحقيقة فليس بعد الحق إلا الضلال، وليس بعد الاستقامة إلا الميل والانحراف، وإذا كان الأمر كذلك فالواجب الديني الذي يقضي به العقل المجرد من الهوى والشهوة هو اتباع الصراط المستقيم وامتثاله واتخاذه دستور الحياة، وهذا هو قوله تفريعًا على البيان السابق: فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]. وهكذا نرى أن الآية الكريمة لم تقف عند حد الأمر بالصراط المستقيم والأمر بالاستقامة في آية أخرى، بل أمرت بالاتباع، وحظرت اتباع غيره، وكان بذلك لها أمران بالاتباع: أمر ٌصريح وهو قوله سبحانه: فَاتَّبِعُوهُ ، وأمر ضِمني وهو تحذير اتباع غيره وهو قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ، ثم لا يقف الأمر عند هذا النهي، وإنما بين آثاره السيئة من تفرق الكلمة وتشتت الأمة وهو قوله سبحانه: فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه ، وفيه إشارة إلى أن الحق واحد لا تعدد فيه، والباطل متعدد منابع الشر.
فهذه هي الاستقامة التي قال عنها بعض العارفين: كن صاحب الاستقامة، لا طالب الكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطالبك بالاستقامة، وقال آخر: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة، والاستقامة عين الكرامة، وهذا هو الصراط المستقيم الذي لا يضل سالكه ولا يهتدي تاركه.
فينبغي للمسلمين وقد تعددت فرقهم وتفرقت سبلهم أن يعتصموا بحبل الله جميعًا، ولا يتفرقوا، ويسلكوا صراطه المستقيم، ويحافظوا على الفرائض والواجبات، ويجتنبوا المعاصي والمنكرات، ويصبروا ويصابروا ويرابطوا ويجاهدوا، وصدق الله العظيم حيث يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، ويقول: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء:66-68].
فيا أخي المسلم، حدّث هذا الجزء (الاستقامة) إن كان مفقودًا فيك، فلا صلاح ولا فلاح إلا بالاستقامة على دين الله، نسأل الله تعالى أن يهدينا إلى الحق، وأن يرزقنا اتباعة، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، آمين.
عباد الله، إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنبي ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلّموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلّم تسليم كثيرًا. اللهم وارض عن الصحابة أجمعين...
(1/3838)
لن يحرر القدس تفجير الرياض وقتل المسلمين
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
القتال والجهاد, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ما أهداف الفئة الضالة؟ 2- استنكار تفجيرات الرياض. 3- ما جاء من النصوص في وحدة الصف وجمع الكلمة. 4- التغليظ في شأن الدماء المعصومة. 5- كيف يكون الإفساد إصلاحًا؟! 6- قصة الخارجي الذي قتل علي بن أبي طالب &.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى بفعل مرضاته والبُعد عن محرماته تكونوا من عبادِه المتّقين الذين وفَّقهم وأسعدهم ربُّهم في الدنيا، وآتاهم حسنَ الثواب في الأخرى.
عباد الله، إنّ زعْمَ المجرمين أن التفجير والتدمير إصلاح وجهاد يمثل غاية الافتراء على الله وعلى شرعه وعلى سنة رسوله. في خطبة الجمعة الماضية بيّنا أن من صدّق هؤلاء أو عذرهم أو برّر فعلهم فهو مشارك لهم فيما اقترفته أيديهم الآثمة من شر. ولكل فكر إرث، وقد ورث هؤلاء البغاةَ المحاربين قتلةَ الخلفاء الراشدين الأئمةِ المصلحين بحجة القربى إلى الله.
ونقول: إن ما يفعله الأعداء في أي مكان من العالم أمر غير مستغرب ولا مستنكر، فلا ننتظر من العدو إلا مثل ذلك وأكثر منه، والتاريخ شاهد بمثل تلك الفظائع أحيانًا، وأحيانًا أخرى بأفظع منها. ولكن ماذا يريد منّا بنو جلدتنا والمتكلمون بألسنتنا؟! ماذا يريد منّا من نستقبل قبلتهم ونأكل ذبيحتهم؟! ماذا يريد من يزعم الإسلام واتباع منهج من سلف من بلاد شعارها "لا إله إلا الله" ودستورها كتاب الله وأهلها لا يعرفون إلا الإسلام دينًا؟! ماذا يريدون؟! وإلى ماذا يسعون؟! أتُرى قد عادت العزة للمسلمين؟! أتُرى قد دبّت الروح في الميتين؟! أتُرى دحر عدوّ المسلمين إذ وجهت سهمك لجسد الأمة، وجعلت الجهاد فيها لا من أجلها ولا معها؟!
عباد الله، إن الحرب إن وجّهت للمسلمين فإن أول مقصود بها أنتم، وإن حرابًا توجّه لجسد هذه البلاد حتمًا نتيجته نصر تلك الحرب ودعمها، فلن يحرر القدس تفجير في الرياض، ولن يطعِم أهلَ الفلوجة قتلُ المسلمين في هذه البلاد، بل هو والله جزء من تلك الحرب، يسعر نارها أولئك الجهلة الحاقدون؛ ليضعفوا قلب الأمة النابض، وليشغلوا قادتها في أمور فرعية، ويشغلوا أبناءها في أنفسهم فلا يلتفتون لإخوانهم، ولا يشعرون بآلام أمتهم.
أيها المسلمون، إن روعة الرياض الأخيرة خنجر يطعن قلب الأمة، ويضعف قوتها، ويجعلها لقمة سائغة للعدو، إذ به تتفرق الكلمة، وتضعف الهمة، وتصبح المصيبة مضاعفة، إذ إن الجهاد ليس فيه قتل الآمنين، ولا الاعتداء على المسالمين، ولا ترويع عباد الله المسلمين، مشيرًا إلى أن من أراد أن يرفع راية الجهاد خفّاقة في سماء العز والسؤود يجب عليه أولاً أن يجمع الكلمة ويوحّد الصف، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "فهذا إخبار منه تعالى بمحبة عباده المؤمنين إذا اصطفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى، يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله؛ لتكون كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان"، قال: "وقوله: بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ ملتصق بعضه في بعض، من الصف للقتال"، قال ابن عباس: (مثبت لا يزول)، وقال قتادة: "ألم تر إلى صاحب البنيان كيف لا يحب أن يختلف بنيانه؟! فكذلك الله عز وجل يحب أن لا يختلف أمره". وإن الله صفّ المؤمنين في قتالهم وصفّهم في صلاتهم، فعليكم بأمر الله، فإنه عصمة لمن أخذ به.
عباد الله، وعلى هذا فإن من قام بفعلته الشنيعة في الرياض العزيزة لم يرصّ الصفّ أبدًا، بل أراد خلخلته، وأراد تفريقه، وكان ـ شاء أم أبى، علم أو جهل ـ حربة من حراب العدو، وسهمًا من سهامه، وخنجرًا في يده، يفتك به ويقتل، وما فعله ينصر الأعداء ولا يخذلهم، ويقوّيهم ولا يضعفهم، وإن سمّاه جهادًا فهو ـ وايم الله ـ جهاد منكوس، واتجاه معكوس، وتفكير منحوس، فهو جهاد مع العدو لا ضده، وصدق الله إذ يقول: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [فاطر:8].
عباد الله، وإلا فكيف يقتل امرؤ نفسه وهو يراها مسلمة ويرجو لها الشهادة، ويقتل معها أنفسًا معصومة ويسفك دماءً محرمة بغير حق ظلمًا وعدوانًا، ويسلّط بندقيته على من جعلهم الله له إخوانًا؟! أين هو من وعيد الله تعالى لمن قتل نفسًا مؤمنة متعمدًا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! فإذا نادى المنادي يوم القيامة أن قفوهم إنهم مسؤولون، ووقف هذا القاتل الأثيم بين يدي رب العالمين، وجيء بابنة الثالثة عشرة، تلك الطفلة التي كانت في محضن أهلها، آمنة مطمئنة، ترجو أن تمتد بها الحياة فتتزوج وتنجب رجالاً يعبدون الله ويسبحونه، فقيل لها: قدّمي شكواك، فسألته والرب يسمع، وهو الحكم في تلك الساعة العصيبة: لم قتلتني؟ لم حرمتني الحياة؟ لم أحرقت فؤاد والدي علي حزنًا؟ ما ذنبٌ جنيته؟! ما إثمٌ فعلته؟! فهل أعددت ـ أيها الجاني ـ لذلك الموقف جوابًا؟ّ أتُراك ستحلف بالله إن أردت إلا إحسانًا وتوفيقًا؟! فمن أفتاك؟! فمن علمك؟! أتُراك سألت أهل العلم بالكتاب والسنة، أم اتبعت هواك ونسيت جهلك ومستواك؟! أما علمت أن القضاء في الدماء أول ما يقضى فيه يوم القيامة؟! أما علمت أن زوال الدنيا أهون عند الله من سفك دم مسلم بغير حق؟! أتُراك جهلت وصية المصطفى وخطبته: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) ، وقال: ((وستلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلاّلاً يضرب بعضكم رقاب بعض)).
أيها الإخوة، ألا إنه لا يمكن أن يكون تفجير المباني في بلاد الحرمين جهادًا، بل هو فساد، بل من أعظم الفساد، وإفساد وأي إفساد؟! ومحاربة لله ولرسوله، كما لا يصح أن يكون منهجًا لنبي الرحمة قتلُ الأبرياء وسفك الدماء وتلويث الماء والهواء، وهو الذي نهى أن يشار إلى المؤمن بحديدة أو أن يُروّع، ونفى الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه، وفي الكتاب الذي أنزل إليه هذه الآية: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، فكتاب الله يوصي بالجار ذي القرابة أو الجار اليهودي أو النصراني، كما قال ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم، ويؤثّم من بات وجاره في جواره جائع، أيعقل أن يبيح سفك دمه وترويعه في منزله ونشر الرعب في طريقه وفي مكتبه وعمله؟! وختمت هذه الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا أي: مختالاً في نفسه، معجبًا متكبرًا فخورًا على الناس، يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض، وهذا كلام ابن كثير رحمه الله تعالى. وإن هذه الصفة لا ريب أنها منغرسة في أذهان أولئك المفسدين، إذ لو كانوا يرون الناس بعين الرحمة لما فعلوا ما فعلوه، ولكن أكثرهم يجهلون.
عباد الله، نحن أمة أعزّنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلّنا الله، ونحن أمة ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وما فعله الجهلة فتنة للذين كفروا، وصد عن سبيل الله، يمنع الناس من اعتناق هذا الدين ويبغضهم، ولكي يتحقق لنا إخراج الناس من ظلمات الكفر والجهل إلى نور الإسلام وعدله فلا بد من اتباع منهج السلف والسير على صراطهم المستقيم والوقوف عند حدود شرع الله، لا نقترب، ولا نتعدى. وإن قتل النفس بغير حق قرين للشرك في كتاب الله تعالى، كما تقرن الزكاة بالصلاة وبر الوالدين بعبادة الله والحج والعمرة، وسفك الدم الحرام تعد لحدود الله واستهتار بأوامر الله.
فاتقوا الله عباد الله، كونوا على حذر، فلا يزال المرء منكم في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا، ويوم القيامة يقتص من الشاة القرناء للشاة الجماء نطحتها، ودخلت امرأة النار في هرة حبستها، فكيف يأمن النار سفاك الدماء؟! وأول دم يسفكه دم نفسه ودم حرمه الله عليه، نبئوني بعلم إن كنتم صادقين، قال تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
وإليكم ـ أيها الإخوة ـ قصة الخارجي عبد الرحمن بن مُلجِِم حيث قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمته لعبد الرحمن بن مُلجِم المرادي قاتل علي بن أبي طالب رضي الله عن علي، قال: "خارجي مفتر، شهد فتح مصر، وكان ممن قرأ القرآن والفقه، وقرأ القرآن على معاذ بن جبل، وكان من العباد، وقيل: إن عمر كتب إلى عمرو بن العاص أن قرب دار عبد الرحمن بن مُلجِم من المسجد ليعلّم الناس القرآن والفقه، فوسع له مكان داره. ذكره ابن يونس في تاريخ مصر". قال الذهبي: "ثم أدركه الكتاب، وفعل ما فعل"، يعني بإدراكه الكتاب ما جاء في حديث ابن مسعود : ((إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) الحديث، قال: "وهو عند الخوارج من أفضل الأمة، وكذلك تعظمه النُّصَيْرية. قال ابن حزم: يقولون إن ابن مُلجِم أفضل أهل الأرض، خلّص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره. قال: فاعجبوا ـ يا مسلمون ـ من هذا الجنون". وفي ابن مُلجِم يقول أحد الخوارج:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينًا فأحسبه أوفى البرية عند الله ميزانا
وإن علينا جميعًا أن نحذر دعاة الضلال والفتنة والفرقة، وتحذير من سار في ركابهم، وعلينا السير على الصراط المستقيم المبني على كتاب الله وسنة نبيه. وقى الله بلادنا وجميع بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه، وجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وكبت أعداء هذه الدولة، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى الدين القويم، والهادي إلى صراط مستقيم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أيها المؤمنون، كيف تقلب الحقائق في فكر ورثتهم حتى رأوا حسنًا ما ليس بالحسن، وظنوا كما ظن أسلافهم أنهم شهداء، وأن ما يفعلون جهاد ونصرة للدين، وإعلاء لكلمة الله؟! إن يقولون إلا كذبًا، أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ [محمد:14].
عباد الله، تأمّلوا قصة نبينا مع أسامة بن زيد حين أخبره أنه قتل الرجل بعد أن قال: لا إله إلا الله، وهو يقول له: إنما قالها وقاية من السيف، فما زال رسول الله يردد: ((أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟! فماذا تصنع بلا إله إلا الله؟! أشققت عن قلبه؟! فماذا تصنع بلا إله إلا الله؟!)).
أيها المغترّون، أتقتلون أناسًا ما زالوا يلهجون بلا إله إلا الله؟! ومجرّد قول: لا إله إلا الله يعصم دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحسابهم على الله، أما سمعتم قول النبي : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) أخرجه الشيخان؟! فأحضروا لربكم جوابكم، وانتظروا يوم العرض عليه كتابكم، وثقوا أن من حرضكم أو استعملكم أو غرر بكم لن يغني عنكم من الله شيئًا، فكل نفس بما كسبت رهينة، إذ تبرأ الذين اتُبعوا من الذين اتَبعوا.
اللهم اجعل هذا البلد آمنًا رخاءً سخاءً وسائر بلاد المسلمين...
(1/3839)
المواطنة والإصلاح
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا المجتمع
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
1/2/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الناس إلى الأوطان. 2- غريزة حب الأوطان. 3- تقرير الإسلام لفطرة حب الوطن. 4- لا للعصبية والإقليمية. 5- سبيل تعمير الأوطان. 6- حسن التعامل مع المتغيرات. 7- حق الوطن على أهله. 8- تلبية نداء الإصلاح. 9- شروط المصلح وصفاته. 10- التحذير من أدعياء الإصلاح. 11- ركائز الإصلاح وضوابطه. 12- التحذير من الحملات الإعلامية المغرضة. 13- التذكير بعظم الأمانة والمسؤولية. 14- كلمة للمغرمين بالنقد والتجريح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فإنها وصيّةٌ لي ولكم جامعة، وموعِظة لأولي الألباب موقِظة نافِعة، وأحثّكم على اغتنامِها فإنَّ الأوقات سيوفٌ قاطِعة، والمنايا سِهامٌ في كلِّ آنٍ واقعة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيّها المؤمنون، في عالَمٍ تسوده الأوضاع المضطَرِبة وفي زمنٍ تعصِف به الأحوال الملتَهِبة يحتاج النّاسُ مع ثباتهم على ثوابِتِهم إلى مِظلَّة آمنَة تحمي تلك الثوابتَ وبيئةٍ صالحة ترعَى الأصول والمبادِئ، وهل يُرَى الغريبُ المتنقِّل قادرًا على بناءِ مقدَّراتٍ وإنماءِ مكتسبات، فضلاً عن تحقيقِ أمجاد وصُنع حضارات؟!
ما مِن غريبٍ وإن أبدى تجلُّدَه إلا سيذكرُ بعدَ الغُربَة الوطنَا
إخوةَ الإسلام، المتأمِّلُ في تأريخِ الأمَم والمجتمعات وأحوالِ الشّعوب والحضارات يجِد أنها لم تكن لتقدِّمَ حضاراتها للعالَم إلاّ من خِلال بلادٍ وكياناتٍ نمت وترعرَعَت فيها تلك المثُلُ والمبادئ، وأرضٍ وديارٍ انطلقت منها تلك القِيَم والثوابت؛ إذ لا قيمةَ للمرء فضلاً عن حضارةٍ إلا بوطنٍ يؤويهِ وبلادٍ تحتَويه، ولذلك فقد جُبِلت النّفوس السّليمَة على حُبِّ بلادِها، واستقرَّت الفِطر المستقيمة على النّزوع إلى ديارِها.
حسبُ الغريب من الدّنيا ندامَتُه عَضُّ الأنامِل من شَوقٍ إلى الوَطَن
بل إنَّ الطيورَ لتحنّ إلى أوكارِها، والبهائمَ العجماواتِ لتحافِظ على زرائبِها، غريزةً وجبِلَّة وفطرةً، فسبحان الذي أعطَى كلَّ شيءٍ خَلقَه ثمّ هدى.
معاشِرَ المسلمين، وهذا الأمرُ الفطريّ جاءت الشريعة الغرّاء بتقريره والعناية به بل والمحافظةِ عليه، يقول الله عزّ وجلّ: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66]، فجعل سبحانَه الإخراجَ مِن الدّيار بإزاءِ القتل، وهو بمفهومِه أنَّ الإبقاءَ في الديار عديلُ الحياةِ، ويقول سبحانه: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، ويقول تقدَّست أسماؤه: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا [الحشر:3]، فقرن سبحانه القتلَ بالجلاءِ عن الدّيار، وهذا رسول الله يُعلِن عن حُبِّه لوطَنِه مكّة، وهو يغادِرها مهاجرًا إلى المدينة فيقول وهو واقفٌ بالحَزوَرَة [1] : ((والله، إنّكِ لأحَبّ البقاعِ إلى الله وأحبّ البقاع إليَّ، ولولا أني أُخرِجتُ منك ما خَرَجتُ)) خرّجه الإمام أحمد وأهل السنن [2] ، ويُؤثر عن عمَرَ رضي الله عنه قوله: (لولا حبُّ الوَطَن لخرِب بلدُ السّوء) [3] ، وكان يُقال: بحُبِّ الأوطان عُمِرت البلدان، ويقول حكيم: يتروَّح العليل بنسيمِ أرضه كما تتروَّح الأرض الجدبة ببَلِّ المطَر، ومن الحِكَم السّيّارة: حبُّ الوطَن مِن الإيمان، نعمتان محجودتان: الأمنُ في الأوطان والصّحّة في الأبدان، غيرَ أنه لم يصحّ رفعهما إلى النبيّ ، ويقول إبراهيم بن أدهَم: "ما قاسَيتُ فيما تركتُ من الدّنيا أشدّ عليَّ من مفارقة الأوطان" [4].
سلِّم على قَطَنٍ إن كنتَ تألَفه سلامَ مَن كان يهوَى مرّةً قطَنًا [5]
ومِن روائِع الحِكَم قولُ بعضهم: أحقُّ البلدان بنزاعِك إليها بلدٌ أمصَّك حَلبَ رِضاعه، وقيل: احفَظ أرضًا أرسَخَك رِضاعها وأصلَحَك غذاؤها، وارعَ حِمًى اكتَنَفك فِناؤه وروَّحَك هواؤه، وقيل: مِن علامة الرُّشد أن تكونَ النفوس إلى أوطانها مشتاقةً وإلى مولِدِها توّاقة، وقيل لبعض الحكماء: ما الغِبطة؟ قال: الكفايةُ ولزوم الأوطانِ والجلوس مع الإخوان، قيل: فما الذّلَّة؟ قال: النزوحُ عن الأوطانِ والتنقّلُ بين البلدان.
وللأوطانِ في دَمِ كلِّ حرٍّ يدٌّ سَلَفت ودَينٌ مستَحَقّ [6]
وإذا كان هذا المعنى في كلِّ الديار والبلدانِ فما بالُكم بغُرَّة جبينِ الأوطان وعِقد جيدِ البلدان وقرّةِ عيون الزمان والمكان بلدِ التوحيد والعقيدةِ ومَهدِ السنة والرِّسالة وموئلِ القرآن ومأرِز الإيمان وأرضِ الحرمين وقِبلة جميع أهل الجَحفَلين؟!
هنا بمكّةَ آيُ الله قد نزلت هنا تربَّى رسولُ الله خيرُ نبيّ
هنا الصّحابَةُ عاشوا يصنَعون لنا مجدًا تليدًا على الأيّام لم يشِبِ [7]
ولي وطَنٌ آلَيتُ أن لا أبيعَه وأن لا أرَى غيري له الدّهرَ مالكًا [8]
إني أرى هذِي البلادَ وأهلَها عِقدًا ثمينًا لا يُنال بسوءِ ظنّ
أرضٌ لها في المكرُمات عراقَةٌ مشهودَة والمجدُ فيها مختَزَن
رسَم الإمامان الطريقَ فَعَلَمُها يمحو الضّلال وسيفُها يمحو الفِتَن
غير أنَّ ذلك كلَّه ينبغي أن لا يحمِلَ المحبَّ ـ لا زال مكلوءًا بالرّعاية والتوفيق ـ أن يَسوءَ ظنّه أو ينِدَّ فهمُه عن المقاصِدِ الشرعيّة في هذه القضيّة، فلا يحمِلها على عصبِيّةٍ للتراب والطين على حساب العقيدة والدّين، ولا يحمِّلها لوازِمَ لا تلزَم من نظرةٍ عصبيّة وشعارات جاهليّة وغمطٍ لأخوّة العقيدةِ الإسلامية العالميّة التي تتسَامى عن الحدودِ الجغرافيّة والنظراتِ الإقليميّة معاذَ الله، فلا تنافيَ بين هذا وذاك، وهل المسجِد الأقصى يُقصَى ويُستَقصى؟! وهل تنسَى فلسطينُنا الصامِدة وقُدسُنا المقدَّسة وبِلادُ الرافدين الجريحة وغيرُها؟! حاشا وكلاّ.
وأينما ذُكِر اسمُ الله في بلدٍ عَدَدتُ أرجاءَه من صُلبِ أوطاني
فلا تضِق ذَرعًا بما ثبت شرعًا، ودعني من بُنَيّات الطريق.
وأمّا إن ألقَاك فهمُك في مهاوٍ فلَيتَك ثمّ ليتَك ما فهِمتَ [9]
أمّةَ الإسلام، ما أحوجَ الأمّةَ اليومَ وقد أحاطَت بها الفِتَن وحلّت بها المحَن أن تعِيَ خطورةَ ما تمرّ به أوطانها، فيحمِلها ذلك على الأخذ بعوامِل عمرانها والتمكينِ لها والحذَر من أسباب عَطَبها، وما عُمِرت الأوطان ـ يا رعاكم الله ـ بمثلِ رَفرَفة رايةِ العقيدة الإسلاميّة السلفيّة الصحيحة على جَنَباتها وتحكيمِ الشريعةِ على أرضها وأهلِها، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96]، والتّلاحمِ الوثيق بين رعيّتها ورُعاتها، وإعلاءِ صروح الدّعوة وكياناتها وشأنِ الحسبة ورجالاتها كما قال سبحانه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، ورَفع عَلَم القِيَم والفضائل، وإقصاء المخالَفَات والرّذائل، فإنَّ الذنوبَ والمعاصي تقضّ المضاجِعَ وتَدَع الديارَ بلاقع، وتحقيقِ وَحدة أبنائها، وغَرسِ الانتماء الحقيقيّ لها في نفوسهم، والحِفاظِ على سفينَتِها كيلاَ تَغرق بين طرفٍ يريد أن يجرَّها إلى دوّامةٍ مِن أعمال العُنف والتّخريب وآخر يمَّمَ وجهَه قِبَل خصومِها، فعَبَّ من ثقافتهم عبًّا، فسطَّر بالأقلام وبثَّ في بعض وسائل الإعلامِ فِكرًا منهزِمًا يطعَن في ثوابت البلادِ وقِيَمها ويُغفِل خصائِصَها ومميّزاتها، ولا يستشعِرها شعورًا يمتزِج بلَحمِه ودمِه وتنطلِق منه آمالُه وتطلُّعاته. وبين هذا وذاك تضيع المواطنةُ الصّالحة التي ينشدُها كلُّ غيورٍ على بلادِه ومجتَمَعه؛ إذِ المواطنة الصالحة ليست كلماتٍ تُردَّد ولا شعاراتٍ ترفَع، وإنما إخلاصٌ وتفاعل وإيجابيّات وشفافيّة ومصداقيَّات، لا تقبَل التلوّن، ولا ترضى بالسّلبيّات، ولا تُصغِي للأكاذيب والشّائعات، ولا تلوِي على الملاسنَة والمهاتَرات، ولا تخضَع للمسَاوَمات والمزايَدات.
إخوَةَ العقيدة، وحينما تتسارَع عجلَةُ المستجدّات وتعيش الأمّة بين الثوابتِ والمتغيِّرات فإنها واجِدةٌ في شريعَتِنا الغرّاء التي لا تعرِف الانعزاليّة والانغلاق والتَّقَوقُع والجمودَ كلَّ إيجابيّة وتفاعلٍ في حُسنِ تعامُل مع المتغيّرات بميزانِ الكتاب والسنة، استشرافًا للنُّقلَةِ الحضاريّة على ضوءِ الضوابط الشرعيّة والمقاصد المرعيّة، تحقيقًا للمصالح العُليا للأمّة والمقاصِدِ والأولويّات العظمى في هذه الملّة، وتجاوزًا لمرحلَةِ الأزماتِ، وفِقهًا لأبعادِ التّحدّيات، وهل حقِّقَتِ المصالح ودُرِئت المفاسد وحُفِظت الضرورات الخمس في الدين والنّفس والعقل والمال والعِرض إلاّ بتوفّر الأمن والأمان في الدّيار والأوطان؟!
معاشرَ المسلمين، إنَّ مِن حقِّ أوطاننا علينا أن نكونَ لتحقيق مصالِحها سعاةً، ولدَرء المفاسد عنها دُعاة، ولأمنِها ورخائها واستقرارِها حُماة، ولوحدةِ شرائِحِها وأطيافِها رُعاة، وإذا دعا داعِي الإصلاح ونادَى منادي السّعي في مراقي التألُّق والنّجاح في وثبةٍ حضاريّة ونُقلةٍ نوعيّة ومنظومَة إصلاحيّة فيما فيه تحقيقُ مصالح المجتَمَع العظمى فحيّهلاً دونَ تراجُع وتَعَثّر أو تَوانٍ وتقهقُر، منطلقين من الركائز الشرعيّة التي تنظِّم أمورَ البلاد وتنتَظِم مصالح العبادِ في أمور المعاشِ والمعاد، وهي من صميمِ المنطلَقَات الشوريّة المصطَفَويّة قبل أن يعرِفَ العالم شِعارات الديمقراطيّة العصريّة؛ إذ الإصلاحُ وجهٌ من وجوه حكمةِ بَعثِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يقول تعالى على لسانِ شعيبٍ عليه السلام: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود:88].
والذين يتوجَّهون شَطرَ الإصلاح المعتَبَر ويحملون لواءَه هم رجالٌ بَرَرة بالأمة، يسلِمونها إلى ساحات الخير والقوّة، ولا يقود هذه الركابَ إلاّ مَن هو كبير الهمّةِ مضّاء العزيمة، وسيكون الإصلاحُ مَغنمًا إذا انطلَقنَا فيه من إصلاحِ النّفس والنظر في عيوبها وتهذيبِها، وسيكون للعَليَاء مَرقاةً إذا بَسطنا ظِلاله على الأمّة بما تقتضيه الحِكمة والمصلحةُ من التدرّج والرِّفق والأناة.
ولما كانت الأهواءُ تجمَح والمدارك تختلِف وتطمَح كان لِزامًا اعتبارُ صلاحِ المصلِح وصفاءُ منهَجِه واستقامة آرائه؛ إذ لا يشفَع في هذه القضيّة الجُلَّى مجرَّدُ حُسن النّيّة وحُبّ الخير ـ على أنهما محمَدَتان ـ مع ضحالةِ العِلم وقصورِ الترجيح بين المفاسِدِ والمصالح والثّوابت والمتغيِّرات، وبهذا تتَفَتَّق أكمامُ الإصلاح على قولِ الحقِّ سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
ويؤكَّد هنا على التحذيرِ مِن الجانب المزعومِ للإصلاح الذي يركبُ مطيّتَه بعضُ المزايدين على الشريعةِ وذوي المغامَرات الطائِشة والأطروحات المثيرة المتَّسمة بالمخالَفات الشّهيرة واللاهثِين وراءَ موجةِ حبِّ الظهور والشّهرة، وقد أوضحَ لنا القرآنُ الكريم ذلك غايةَ الإيضاح في جانبِ قومٍ لا خَلاقَ لهم من المنافقينَ بقوله سبحانه: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
إخوةَ الإيمان، ومِن أهمِّ ركائز الإصلاحِ وضوابِطه ـ يا رعاكم الله ـ الإخلاصُ لله ومراقبَته، فبالإخلاص يُرسَم طريق الخيرِ والخَلاص، مجانبَةً لمن لا يوثَق بإخلاصِه لله ثم لدينِه وولاةِ أمرِه وبِلاده، ولا يتحرَّى موافقةَ الشّريعة في جميع تصرّفاته وأعمالِه وأحواله، ومنها اليقينُ بأن السّعيَ في مواردِ الإصلاح أمانةٌ ومسؤوليّة أمام الله سبحانه، ثم هي مَسؤولية أمامَ المجتمع، فهلاَّ تذكَّرنا واستشعرنا أنها من المسؤوليّات والأماناتِ التي عظّم الله شأنها بقوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58]، فهل بعدَ هذا يسوغ إطلاقُ دعاوَى الإصلاح لمجرَّد مطامِعَ شخصيّة أو مصالح مادّيّة أو غَرضٍ أو عَرضٍ أو هَوى أو لمجرَّدِ انتماءاتٍ فكريّة وحزبيّة ونحوها؟! فإنَّ ذلك مِن أوجهِ الخيانةِ لله ثم لولاةِ الأمر وللمجتمَع بأسره، والله عزّ وجلّ يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
وممّا تجدر ملاحظتُه أنَّ المقياسَ في صدقِ أدعياء الإصلاح يرجِع إلى الكفاءةِ في الدين والأمانة، وقد قال إمامُ الحرمَين رحمه الله: مَن لا يوثَق به في باقةِ بَقل كيف يُرَى أهلاً للأمانة؟! ومَن لم يتَّقِ الله لم تؤمَن غوائِلُه، ومَن لم يصُن نفسَه لم تنفَعه فضائله.
ومِن ركائز الإصلاحِ المهمَّة الشورَى لأهل العدالة والعِلم والرّأي والحِكمة وذوي النوايَا الصّادقة والحِجَى الرّاجِحة والمعارِف النّافعة والنُّهَى السّديدة الرّاشِدة والنزاهة ونظافة القَلب واليَد واللِّسان، في معتقدٍ صحيح ومَنهَج سليم وخُلُق كريمٍ وأسلوب قويم والحَذَر من اتِّباع الأهواء والانسياق وراءَ العواطف والرَّغبات، حِفاظًا على المجتَمَع أن يدخلَه النقص ويتطرَّقَ إليه الخلَل بأيِّ وجهٍ مِن الوُجوه، فهذا لا يليق بالمسلِم ولا ينبغي أن يؤثِّرَ على أخلاقيَّات وثوابت المجتمَع الذي تتعيَّن المحافظةُ عليه وعدَم التغرير بأفرادِه، ممّا يُربَأ بالمسلِم عن الوقوع فيه والانزلاقِ في هوّتِه، فهل من حقِّ مجتمعٍ نشأتَ فيه وترَعرَعتَ بين جنباته وارتَضَعتَ مِن لبانِه أن يَقلِب له أقوامٌ مِن الرّويبِضة وسُفهاء الأحلامِ ظَهرَ المجَنّ في السوء والفَساد والخيانةِ إفراطًا أو تفريطًا، فما اسطاعَ هؤلاء، وما استطاع أولئك، والله وحدَه أمنّ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ [البقرة:220]، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [يونس:81]. وقولوا لي ـ بربِّكم ـ مَن تؤويه دارٌ فيجحَد فضلَها ويتنكَّرُ لها ماذا يكون؟ حقًّا إنّ الجنونَ فُنون.
معشَرَ الإخوةِ الأكارِم، وممّا ينبغِي التفطُّن له الحذَرُ مِن الاغتِرارِ بالحَمَلات الإعلاميّة المغرِضَة والقنوات الفضائيّة المسِفَّة بدعوَى الإصلاح زعَموا أو الانسياقِ وراء الطعون المجرَّدَة والتُّهَم الملفَّقَة أو النّيل مِن رموز المجتَمَع وصالحي الأمّة والطّعن في الناجِحين والحطّ مِن أقدار الطامحِين ومحاولة إسقاطِهم والخَدش فيهم بغَير وجهِ حقّ أو التّحريشِ بين المسلِمين أو التّهييج والإثارةِ والتشنّج وإثارةِ بواعِث الفِتن وأسبابِ الفرقة والإحَن وإحياء النّعرات والعِرقيّات والقَبَليّات والأبعاد الطائفيّة والمذهبيّة وبَذر بذورِ الشقاق والاختلافِ والتجافي عن موارِدِ الاجتماعِ والائتلاف، ومَن فعل ذلك فهو على خطَرٍ في دينه ومروءتِه والعياذ بالله، كما أنّه قدح في أصلٍ من أصول الدّين كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "ثمّ إنّ الاعتصامَ بالجماعة والائتلاف مِن أصولِ الدين" انتهى.
ومِن القواعد المقرَّرة في الشريعةِ دَرءُ المفاسد وتقليلُها وجَلب المصالح وتكميلها والأخذ بأعلَى المصلحَتَين وارتكابُ أدنى المفسدَتَين والعمَل بأخفِّ الضّرَرين ومَا لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، فما أحوجَنا إلى التعاونِ على البرّ والتقوى والتعامُل مع المستجِدّات والسّير في دروبِ الإصلاح بأخلاقيّاتِ وآداب المجتمَع المسلم في حبٍّ مشترَك وودٍّ مشاع، دونَ انتقاصٍ وتحقير أو استهزاءٍ وتشهير، والتوفيق بيَدِ الله سبحانه، وما يدري العبدُ أين يكمُن الخير له، فهو دائرٌ بين عمَلِ الخير وخَير العمَل، وذلك ممّا ينبغي أن تتَّسِع له الآراء والصدورُ وتستوعِبَه العقول تفاديًا للشّرور، والمسلم يرضَى بما قسَم الله له، ويسلِّم لحكمِه، ففيه الخيرُ كلّه وإن بدا للناس على خلافِ ذلك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((ما ذِئبان جائعان أُرسِلا في زريبةِ غنمٍ بأفسَدَ لها من حِرصِ المرء على المالِ والشّرَف لدينه)) خرجه الإمام أحمد وأهل السنن [10]. قال الحافظ ابن رجَبٍ رحمه الله: "فهذا مَثَلٌ عظيم ضربَه النبيّ لفساد دينِ المسلم بالحرصِ على المال والشّرَف في الدنيا".
ألا فليعلم ذلك من يتهافَتون تهافتَ الفراش على النارِ على حُبّ الظهورِ بزعمِ الإصلاح والتطلُّع والاستشراف للشهرة، فإنها في ظاهِرِها مغانم، وفي عواقبها مغارِم، وكفى بالشّهرة وحبِّ الظهور قاصِمًا للقلوب والظهور، وإنّك لراءٍ في حلائِبِ الناس من ذلك عجبًا.
ألا فلنتَّق الله عبادَ الله، ولنتحلَّ بالإيجابيّة والبناء والتفاعُل والإعمار والنّماء لأوطاننا الإسلاميّة، سَيرًا في ركاب الصلاح والإصلاح، فهذه ـ والله ـ ميادينُ العمَل والشموخ وساحاتُ المواهِب والطموح.
أيّها المغرَمون بالنَّقد والتجريحِ المولَعون به بالتّصريح والتلمِيح والتشهير بالمثالِبِ والتّنقيبِ عن المعائب وسردِ القبائح ونشرِ الفضائح وتتبُّع السّقطات وتضخيم الهِنات وإن زيَّنَه الشيطان لأصحابِه وأظهرَه لهم بمظهَرِ النصح للأمّة وإصلاح أوضاعِها، فهذه بِضاعة كلِّ فارغٍ بطّال ممّن تسمَّروا أمامَ شَبَكات المعلومات وتنسَّموا عَفَن الفضائيّات ونَتنَ تقانات المنتَدَيات، حتى أعياهم ذلك عن الجِدِّ والتمسُّك بالعزَمَات.
وإلاّ فمَن ذا يبارِز فليقدِّم نفسَه أو مَن يسابِق يبدُ في الميدانِ [11]
سدَّد الله الخطى، وبارَك في الجهود، وحفِظ بلادَنا وسائر بلادِ المسلمين من شرِّ الأشرار وكيدِ الفجّار وشرِّ طوارقِ الليل والنهار، ورزَقَ الجميع صلاحَ الحال والمآل، إنّه وليّ الجود والكرَم والنّوال.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فإنه الغفور ذو الرحمة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، فيا لفوزَ المستغفرين، ويا لَبشرَى التائبين.
[1] قال في معجم البلدان (2/255): "الحَزْوَرَة بالفتح ثم السكون وفتح الواو وراء وهاء، وهو في اللغة الرابية الصغيرة، وجمعها حزاور. وقال الدارقطني: كذا صوابه، والمحدّثون يفتحون الزاي ويشدّدون الواو وهو تصحيف. وكانت الحزوَرة سوق مكة، وقد دخلت في المسجد لما زيد فيه".
[2] مسند أحمد (4/305)، سنن الترمذي: كتاب المناقب (3925)، سنن النسائي الكبرى (4252، 4253، )، سنن ابن ماجه: كتاب المناسك (3108) عن عبد الله بن عديّ بن حمراء الزّهريّ رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح، وابن حبان (3708)، والحاكم (4270)، وابن حزم في المحلى (7/289)، وابن عبد البر في التمهيد (2/288)، وابن حجر في الفتح (3/67)، وهو في صحيح سنن الترمذي (3082).
[3] ينظر من أخرجه، فقد عزاه بعضهم لإبراهيم بن محمد البيهقي في المحاسن والمساوئ.
[4] أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (7/380).
[5] قطن جبل أشمّ يقع بين القصيم والمدينة المنوّرة، وبالتحديد إلى الغرب من منطقة القصيم، وعلى بعد حوالي 10 كيلومترات من (عقلة الصقور) الواقعة في أقصى غرب منطقة القصيم، حيث تبعد حوالي 150 كيلومترا إلى الغرب من بريدة حاضِرةِ منطقة القصيم، وهذا الجبل على يمين الذاهب إلى المدينة المنورة، ويُرى على مسافةٍ بعيدة حيث إنه جبل متفرّد.
[6] هذا البيت من قصيدة لأحمد شوقي مطلعها:
سَلامٌ مِن صَبا بَرَدى أَرَقُّ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
[7] هذان البيتان للشاعر مصطفى عكرمة في قصيدة له نظمها في رحلته من سوريا إلى بلد الله الحرام.
[8] هذا البيت من قصيدة لابن الرومي مطلعها:
أعوذ بحقْوَيْك العزيزينِ أن أُرى مُقِرًّا بضيمٍ يتركُ الوجهَ حالِكا
[9] هذا البيت من قصيدة لأبي إسحاق الألبيري عنوانها: ليتك ما فهمت.
[10] مسند أحمد (3/456، 460)، سنن الترمذي: كتاب الزهد (2376)، سنن الدارمي: كتاب الرقاق (2730) عن كعب بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه أيضا والطبراني في الكبير (19/96)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3228)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1935).
[11] هذا البيت من نونية ابن القيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، تعاظم ملكوته فاقتدر، وعزّ سلطانه فقهر، أحمده حمدًا كثيرا كما أمر، وأشكره وقد تأذّن بالزيادة لمن شكر، والصلاة والسلام الأزكَيَان الأشرفان على النبي المصطفى خير البشر، الشافع المشفَّع في المحشر، القائل فيما صحّ عنه: ((لا عدوى ولا طِيَرةَ وهامةَ ولا صفر)) [1] ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغُرَر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اتَّصلت عين بنظر وأذنٌ بخبر، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أصدق الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله، إشراقات الحياة بجماليات الدين، وجماليات الدين بتألّقات العقيدة، وإن أهمَّ مشكلة تُبتَلى بها الأمة دخول النقص عليها من جهة ثوابتها وعقيدتها، ومن المقرَّر أن الله عز وجل أبطل معتقدات الجاهليّة، ومن ذلك ما يعتقده بعض الناس أن لبعض الشهور والأعوام والليالي والأيام تأثيرا في جلب المنافع ودفع المضار والأسقام كما يتوهّمه بعض العامّة ي شهر صفر، وقد جاء الإسلام فأبطل ذلك، وقضى على مظاهر التشاؤم والتطيّر، وفتح أمام الناس آفاق التفاؤل؛ لينطلقوا في الأعمال فتتحقّق لهم الآمال، أخرج أبو داود في سننه بسند صحيح عن [عروة] بن عامرٍ مرفوعا قال: ذُكرت الطيرةُ عند رسول الله فقال: ((أحسنُها الفأل، ولا تردُّ مسلمًا، فإذا رأى أحدكم ما يكرَه فليقل: اللّهمّ لا يأتي بالحسنات إلاّ أنت، ولا يدفع السيّئات إلا أنت، ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بك)) [2].
فيا أهلَ الإسلام، عقيدتَكم عقيدتَكم، وإنه لغريبٌ حقًّا أن تعبث ببعض العقول الخيالاتُ والأوهام، فتستسلمَ للتشاؤم والتطيّر ببعض الشهور والأيام وذوي العاهات والأسقام، وما هي في الحقيقة إلا أضعاث أحلام، وقد أبان المولى سبحانه وتعالى الحجةَ وأوضح المحجّة فقال عز من قائل: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
هذا وصلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على خير الورى نبيِّ الرحمة والهدى كما أمركم بذلك ربّكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على الهادي البشير والسّراج المنير نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الطب (5757)، ومسلم في السلام (2220) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] سنن أبي داود: كتاب الطب (3919)، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة (5/310، 6/70)، وابن قانع في معجم الصحابة (2/262)، والبيهقي في الشعب (2/63)، وصححه النووي في شرح صحيح مسلم (14/476)، لكن عروة بن عامر مختلف في صحبته، وقد جزم أبو أحمد العسكري والبيهقي في الدعوات بأن روايته مرسلة، وكذا الذهبي في المهذب (6/3234)، وابن حجر في الإصابة (6/415)، وأورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (843).
(1/3840)
حرمة الدماء المسلمة والمستأمنة
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, محاسن الشريعة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمن في حياة الفرد والمجتمع. 2- تغليظ الشريعة في قتل الأنفس المعصومة. 3- الجرأة على الدماء جرأة على محارم الله. 4- استنكار أعمال الفئة الضالة التي وقعت. 5- واجبنا تجاه هذه الأحداث. 6- دور رجال الأمن في استقرار المجتمع. 7- لا يكون المنكر سبيلاً للإصلاح أبدًا. 8- كلمة لرجال الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الأمن مطلب إنساني وحاجة ضرورية للبشر جميعًا، فالأمن هو الدوحة التي يستظل بها الناس، فتطمئن نفوسهم، وتستقر أحوالهم، وينتشرون في الأرض لإصلاح أمورهم وطلب معاشهم. في ظل الأمن واستتبابه واستقراره تهدأ النفوس، ويتطلع الناس إلى تحقيق الآمال وما يصبون إليه. في ظل الأمن ينجح اقتصاد البلاد، ويتآلف العباد، وينتشر العلم، ويتسابق الناس في ميادين الخير والفضل. في ظل الأمن يعبد الناس ربهم في اطمئنان، وتعمر المساجد، ويتسابق الناس إلى مجالات الخير، ولهذا يمتن الله تعالى على أهل مكة حيث جعلها بلدًا حرامًا يأمن الناس فيها، فيقول عز وجل: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش:3، 4]، وفي آية أخرى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67].
الأمن ـ أيها الإخوة ـ حاجة فطرية للناس جميعًا، مسلمهم وكافرهم، صغيرهم وكبيرهم، مسافرهم ومقيمهم، الناس جميعًا يحتاجون إلى الاطمئنان والأمن والراحة النفسية، ولهذا جاءت الشريعة الإسلامية الكاملة الخاتمة التي أكملها الله تبارك وتعالى وأتمها علينا ورضيها لنا دينًا، جاءت بتحصين كل سبب يحقق الأمن ويحفظه، وجاءت بالندب إلى العناية بالأمن، وحذرت من كل وسيلة تخل بأمن الناس أو تجلب لهم الخوف والاضطراب، إلى درجة أن الشرع حرم على المسلم أن يروّع أخاه المسلم، انظروا إلى أدنى حد وصلت العناية بالأمن، لا يجوز للمسلم أن يروّع أخاه، ولا يجوز للمسلم أن يحمل السلاح في أسواق المسلمين، ومن دخل بسيف أو سهم فليمسك بنصالها حتى لا يؤذي بها أحدًا من عباد الله. انظروا إلى أي حد بلغت عناية الشرع المطهر بأمن الناس حتى في المناظر المخيفة، وحتى في الإزعاج الذي ربما يتسبب فيه بعض الناس من غير قصد، فما بالكم بما هو أكثر من ذلك؟!
لقد شدد الشرع المطهّر على حرمةِ الدماء والأعراض والأموال وحرمةِ أمن الناس، وشدد في تحصين كل مصلحة تعين على الأمن، وشدد في تحريم كل مفسدة تضرّ بالأمن، كل ذلك من أجل أن يأمن الناس ويطمئنوا في معاشهم، فيعبدوا الله على بصيرة، ويقيموا شعائر الله وهم مطمئنون مرتاحون، لا يخافون في الله لومة لائم.
أيها الإخوة الكرام، إنّ وجود الإنسان على هذه الأرض هبة من الله تبارك وتعالى، والحياة منّة من الله، لا تؤخذ ولا تسلب ولا تزهق الروح إلا بشرع من الله تبارك وتعالى، شدّد الله عز وجل في حرمة الحياة لابن آدم، حيث بيّن جلّ وعلا أنه لا يجوز الاعتداء على حياة الناس ولا قتلهم ولا سفك دمائهم، بل قد عد الملائكة الكرام عليهم السلام في نقاشهم مع ربهم وسؤالهم له عز وجل سؤال المستفهمين والمتعلمين عندما أخبرهم جل وعلا بخلق آدم: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ [البقرة:30]، فانظروا إلى هذا الأمر المتقدّم جدًا، حتى إن ملائكة الرحمن عدوا سفك الدماء من الفساد في الأرض الذي ينافي الحكمة من خلق الأرض وخلق الناس وخلق الحياة على هذه البسيطة، أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ.
أيها الإخوة في الله، في أول حادثة غدر وقتلٍ وقعت على هذه الأرض بين ابني آدم هابيل وقابيل، عندما قتل قابيل أخاه عدوانًا وظلمًا وهوَى نفسٍ وتشهّيًا وتشفّيًا وحسدًا وانتقامًا أنزل الله تبارك وتعالى شرعًا ينفّذ إلى قيام الساعة، ووحيًا يتلَى إلى نهاية العالم، قال الله تعالى بعد حكايته هذه القصة في سورة المائدة: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. انظروا عظمة الإسلام، انظروا عظمة التشريع، يا عباد الله، قتل نفس واحدة يعادل قتلَ الناس جميعًا، ومن ذا الذي يستطيع أن يحصر الناس من أول خلق آدم وإلى قيام الساعة؟! بلايين أو مليارات أو عدد لا يعلمه إلا الله، من قتل نفسًا واحدةً ظلمًا فكأنما قتل هؤلاء العالم جميعًا، يا لها من جريمة! ويا لها من مصيبة! ويا لها من فعلة نكراء وعدوان بشع وتسلّط قذر! يقع فيه أولئك المجرِمون المفسِدون الذين يقتلون الآمنين والمطمئنّين ويعتدون على الناس بغير وجه حق.
أيها الإخوة الكرام، يكفي ما جاء في القرآن من وعيد: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93].
أيها الإخوة الكرام، إنّ هذا الوعيدَ وهذا التشديد مقصده سلامة الناس جميعًا، ومقصده أن يتقي الناس ربهم في إخوانهم، وأن يرتدعوا، وأن يتذكروا مسؤوليتهم أمام الله، وأن يخافوا الله قبل أن يقدموا أو يعينوا أو يفكّروا في الاعتداء على أي حي بغير حقّ شرعي، قال النبي : ((لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) ، يعني إذا أصاب المؤمن دمًا حرامًا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وصار في ضيق من دينه، وصار في حرج مع ربه، فماذا يفعل بإزهاق هذه الروح؟! وماذا يفعل بهذا الدم الحرام الذي سفكه، والذي تعدّى عليه بغير إذن من الله تعالى؟! قال النبي : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) ، أما غير هذه الأسباب فلا يجوز سفك الدم، ومَن الذي يسفك الدم في هذه الحالات الثلاث؟! إنه الحاكم المسلم بحكم القضاء العادل، بإقامة البينات وتكامل الشروط والأسباب التي تجعل القاضي يحكم بإراقة دم هذا الفاعل الثيب الزاني أو النفس بالنفس، القاتل يقتل قصاصًا، أو التارك لدينه المفارق للجماعة، فليس هذا الأمر لعبة ينفذها بعض الناس على من يريدون، أو يتصورون أنه يحل لهم أن يقتلوا الزاني الثيب أو يقتلوا القاتل من عند أنفسهم أو يقتلوا المرتد من عند أنفسهم، الذي يحدد أن هذا ثيب زان أو يحدد أن ذاك مرتد أو ذاك قاتل يستحق القصاص هي المحاكم الشرعية والقضاة الشرعيون الذين يطبقون معالم الشريعة وينفذون شروط الشرع المطهر، فليست الأمور لعبة بيد أحد السفهاء، وليست المسائل هينة حتى يجترئ عليها الجهلاء.
أيها الإخوة الكرام، لقد شدد الشرع في حفظ الدماء، قال النبي في آخر وصاياه وآخر توجيهاته في حجة الوداع، تلكم الحجة العظيمة التي اجتمع لها الناس من كل فج عميق، أذّن مؤذّن رسول الله يستنصت الناس ويسمعهم في ذلك الموقف العظيم، وردّدها النبي ثلاث مرات: في يوم عرفة، وفي يوم النحر، وفي اليوم الحادي عشر، كلها يذكر فيها النبي حرمة الدماء والأعراض: ((ألا إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟)) نعم قد بلغ ، ورمى بها في أعناقنا، وألقى بمسؤوليتها في ذممنا، وكلّنا مسؤولون عنها أمام الله يوم القيامة، هل رعينا تهديده وحذرنا وعيده؟! هل احترمنا ما أمرنا الشرع باحترامه؟! هل خفنا الله في دماء المسلمين وأعراضهم؟!
أيها الإخوة الكرام، إن الجرأة على الدماء وتساهل الناس في أمرها ولو بالكلام ولو بالتبرير ولو بالسكوت إنما هو جرأة على محارم الله واعتداء على حدود الله وتلاعب بشرع الله واجتراء على سلطان المسلمين وولاية المسلمين وخروج على أئمة المسلمين، وكل هذا محرم في شرع الله يا عباد الله، لا يجوز لمسلم أن يخرج عن طاعة أمير المسلمين ولا ولي أمرهم المبايع، ولا يجوز لمسلم أن يعين على ذلك، ولا يجوز لمسلم أن يسعى بإراقة معصوم، ولا أن يعين على ذلك؛ لأن هذا كله من التعاون على الإثم والعدوان، ومن الجرأة على محارم الله، قال الله تبارك وتعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30].
أيها الإخوة المسلمون، لقد حزّ في نفوسنا وآلم قلوبنا تلكم الجرائم البشعة والأفعال المنكرة التي أقدم عليها بعض السفهاء وبعض الجهال ممن ينتسبون إلى فئة الضلال والخروج والمروق على جماعة المسلمين، تلكم الجرائم التي ذهب ضحيتها تسعة من رجال الأمن في ظرف ثمان وأربعين ساعة، في أعمال جريئة وأفعال قبيحة وجرائم منكرة، لا مستند لها في شرع ولا في عقل ولا في تصرفات.
أيها الإخوة الكرام، إنها لمصيبة عظمى على مجتمع المسلمين أن يجترئ بعضهم على بعض، وأن يتجاوز بعضهم الخطوط الحمراء في الاعتداء على ولاية المسلمين وعلى رجال الأمن وعلى من يقومون بتنفيذ شرع الله في عباد الله.
أيها الإخوة الكرام، إن هؤلاء الجناة، إنّ هؤلاء المجرمين الذين أجرموا في حق بلدهم وفي حق إخوانهم المسلمين وفي حق دينهم وفي حق ولايتهم ينفذون ما يراه أعداء الإسلام ببلاد المسلمين، إذا كان أعداء المسلمين يقتلون إخواننا في فلسطين، ويقتلون إخواننا في العراق أو في غيرها من بلاد الإسلام، ونحن نتألّم ونضجّ ونرفع أيدينا إلى الله داعين لإخواننا بالنصر، وداعين على أعداء المسلمين بالذلّ، فماذا نفعل بمن يعتدون علينا في بلادنا؟! ماذا نقول لمن يحقّقون ما يريده أعداؤنا؟! إن ما يريده أعداء هذه البلاد أن تقوّض من داخلها، وأن يهدمها أبناؤها، وأن يضطرب الأمن فيها على أيدي بعض سفهائه، فهؤلاء لا يرضون بأفعالهم إلا أعداء الإسلام، ولا يحققون إلا مراد أعداء الدين، كأنهم يقومون بنفس الفعل الذي يقوم به اليهود وأعداء الإسلام في بلاد الإسلام الأخرى، لقد كفت هذه الشرذمة الضالة وهذه الفئة المخطئة وقامت بما يريده أعداء الإسلام في زعزعة أمن بلاد المسلمين وبلاد الحرمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها الإخوة الكرام، ينبغي أن نعيدَ النظر في كثير من المواقف تجاه هذه الأحداث، وأن لا تمر علينا مرور الكرام، وأن نتحمّل مسؤوليتنا جميعًا ولاةً وعلماء وعامّة ومربين ودعاةً ومثقَّفين وغير ذلك، كل مسؤول على ثغر، كل منا على ثغر، فلا بدّ أن يؤدِّي مسؤوليته.
نسأل الله تعالى أن يصلِحَ الأحوال، وأن يبصِّرنا وإياكم بالحق، وأن يهدينا لاتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى، المعظمين لحرمات الله، المحافظين على أمن المسلمين في أوطانهم وفي ديارهم، القائمين بحق الله تبارك وتعالى، المجتمعين على طاعته، إنه تعالى سميعٌ مجيب الدعوات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، والسائرين على سنته بإحسان إلى يوم القيامة، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن الجرأة على الدماء والجرأة على الحرمات علامة من علامات الفساد والضياع، وبداية لتفكك المجتمع، وبداية لأخطار وشرور تلوح في الأفق، فينبغي للناس أن لا يتساهلوا، وينبغي للناس أن ينتبهوا، وينبغي للناس أن يعلموا أن هذه الأمور محرمة في شرع الله، وقد أفتى علماؤنا رحم الله من مات منهم ومن بقي من الأحياء أفتوا بحرمة هذه الأعمال، وبأنها من الخروج على جماعة المسلمين، راجعوا الفتاوى التي صدرت بعد تفجيرات الرياض في عام 1416هـ، أو بعد التفجير الذي حصل في العام الماضي في الحادي عشر من شهر ربيع الأول في السنة الماضية، واقرؤوا ما كتبه العلماء الأجلاء وما ذكروه من الأدلة التي تحرم هذه الأعمال، هذه التفجيرات، هذه الاعتداءات، هذه الاغتيالات، إنها أعمال جبناء ومجرمين ومفسدين في الأرض، مهما زعموا من مقاصد، ومهما ادعوا من تبريرات، فهي تبريرات مرفوضة وتصرفات محرمة شرعًا، لا تخدم إلا أعداء الإسلام والمسلمين، ولا ترضي إلا من يبغض هذه البلاد. إنها تسبب الفرقة، وتسبب الخوف والرعب، وتسبب الوهن، وتجعل المسلمين جماعات وفرقًا وأحزابًا، إنها أعمال منكرة لم يسبق إليها إلا الخوارج الذين خرجوا في صدر الإسلام على أمير المؤمنين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وانتهت تلك الأعمال الجريئة بقتل الخليفتين الراشدين قتلاً قبيحًا يندى له جبين التاريخ، وتتألم له النفوس المؤمنة. وهذه نهايات أفعال الخوارج، لا ينتهي أمرهم إلا عندما يقوضون الدولة، ويضرّون بأمن المجتمع.
فينبغي لنا أن لا نتساهل أيها الإخوة؛ لأن هذه الأعمال لا تؤدي إلى الإصلاح، ولا تؤدي إلى الخير، ولا تمنع الفساد، بل هي الفساد بعينه، بل هي الشر بعينه، إنها اعتداء على الآمنين وترويع للأبرياء وقتل للأنفس المعصومة. بالله عليكم، ما ذنب رجال الأمن الذين أوكل إليهم أن يقوموا بحراسة الأمن؟! إن رجال الأمن رجال لهم حقوق علينا، فهم أبناؤنا وإخواننا، وهم الذين ارتضوا بأن يعملوا في هذا السلك الخطر وفي هذا المجال الذي يقومون فيه بحفظ الأمن. إن اهتزاز الأمن لا يخدم إلا اللصوص وقُطّاع الطريق وتجار المخدرات وتجار الفساد والبغاء والدعارة. إن الأمن إذا قوي انقمعت الشرور وانكفّ أهلها، ودخلت الفئران إلى جحورها، وإذا اهتز الأمن أطل الشر برأسه، وتسابق أهل الفساد، وأمنوا لنشر فسادهم، فمن المستفيد يا عباد الله؟! بالله عليكم، أسألكم بالله، راجعوا أنفسكم، واسألوا نفوسكم بصراحة: من المستفيد من اهتزاز الأمن، ومن المستفيد من إخافة رجال الأمن، ومن المستفيد من الإضرار بأمن البلاد إلا أهل الفساد والشر والخمور والدعارة والمخدرات وتجار السلاح؟!
أيها الإخوة الكرام، إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، هكذا قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وهي مقولة صحيحة، إن قوة السلطان وعزته وهيبته هيبة للأمة جميعًا، ونشر للأمن وقطع للفساد والإجرام، وإن التعدي على ولاية المسلمين والاجتراء على رجال الأمن ومؤسسات الدولة جريمة وأي جريمة، جريمة مضاعفة؛ لأنها تضر بالناس جميعًا، وتتسبب في فساد البلاد وانتشار الفساد.
فلنتق الله يا عباد الله، ولنكن أعينًا ساهرة في حفظ أمن بلادنا، ولنكن أعوانًا صادقين لرجال الأمن من أبنائنا وإخواننا، رجال الأمن الشرفاء الأبطال، الذين حملوا أرواحهم على أكفهم في مطاردة تجار المخدرات وحفظ الأمن على حدود البلاد وفي شوارعها وفي طرقات الأسفار، يقومون بالليل والنهار ونحن نائمون مطمئنون في فرشنا، يقومون على حراسة طرقاتنا وعلى قمع المجرمين وملاحقتهم، فحسبنا الله على من يعتدي عليهم، وحسبنا الله على من يوجه سلاحه إلى رجال الأمن أو إلى غيرهم من الأبرياء، إن هذا إجرام ما بعده إجرام.
يا عباد الله، بالله عليكم، هل هذه المكافأة التي يكافأ بها الشباب الذين انخرطوا في سلك الجندية وفي سلك العسكرية ليقوموا بعمل شاق في تعقب المجرمين والمفسدين؟! لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنه بلاء وشر أن يتحول تفكير بعض أبناء المسلمين إلى هذا الإجرام وهذا الإفساد في الأرض، ولكن نسأل الله تعالى أن يُمكِّن من المجرمين، وأن يعاجلهم بعقوبة من عنده، وأن يكشف أستارهم، ويفضح خططهم، ويوقعهم عاجلاً غير آجل في قبضة رجال الأمن.
أيها الإخوة الكرام، ليس الإصلاح بهذه الوسيلة، وليس الإنكار للمنكرات بهذه الطريقة، ليس الإصلاح بأن نقتل الآمنين ونعتدي على هيبة الدولة، إن الإصلاح يكون بالدعوة إلى الله على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة، إذا كان هناك أشخاص حاقدون على الولاية أو مقهورون من السلطان فلا يحقّ لهم أن يستخدموا بعض الجهلاء في زعزعة الأمن واضطراب الحال، إذا كان هناك أناس لهم مظالم فعليهم أن يسلكوا الطرق المشروعة لاسترداد مظالمهم، إلا أن يكونوا دعاة سياسة أو يكونوا طلاب حكم أو أصحاب هوى، فهؤلاء لا حيلة لنا معهم؛ لأنهم يريدون أمرًا لا يجيزه الشرع، لا يجيز الشرع الخروج على الحاكم، ولا يجيز الشرع الإضرار بأمن الناس من أجل أنك تريد منصبًا أو تريد حاجة من حاجات الدنيا أو حانق على هذا الوالي أو هذا الأمير أو هذا الإنسان الذي حصل مالاً أو اغتصب أرضًا أو غير ذلك، وأنت محروم ليس لك حجة، ليس لك برهان، ليس معك دليل أن تسلك طريق الإفساد والإضرار بالأمن، إما أن تصبر وتسأل الله أن ينصفك، وإما أن تسلك الطرق المشروعة في التظلمات وفي الشكاوى والمحاكم، أو أن تصبر، أو أن تلجأ إلى جمعية حقوق الإنسان التي أقامها بعض الأخيار وأقرها ولي الأمر وفّقه الله بابًا من أبواب رفع المظالم ودفع الظلم عن الناس، أما أن يتجه الناس إلى حمل السلاح فهذا عمل الخوارج، وهذا هو الإفساد في الأرض بعينه. نسأل الله تعالى أن يديم علينا وعليكم نعمة الأمن والأمان، وأن يحفظ بلادنا من كل سوء ومكروه، وأن يحفظ رجال الأمن البواسل، ويعينهم على أداء عملهم.
إن من مات من رجال الأمن غدرًا برصاص هؤلاء المجرمين يعتبر من الشهداء إن شاء الله تعالى؛ لأنه قتل وهو يؤدي واجبه، يحرس المسلمين، وقد قال النبي : ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)). وأقول لرجال الأمن البواسل: إنكم تحرسون في سبيل الله، إنكم إن شاء الله تعالى تجاهدون في سبيل حفظ أمننا وأمن أطفالنا وأموالنا، فجزاكم الله عنا خيرًا، وبارك في أعمالكم، وشدّ من أزركم.
إن هذه الأعمال لن تزيدنا إلا إصرارًا مع رجال الأمن، ولن تزيدنا إلا إصرارًا على السمع والطاعة لولاة أمورنا ومناصحتهم والصدق معهم والدعاء لهم، هذه عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذا دين الإسلام واضح لا مواربة فيه، لا نرجو من ذلك جزاءً ولا شكورًا، ولكن نعمل بما أملاه علينا ديننا وبما يحفظ علينا وعلى إخواننا أمنهم واستقرارهم، نسمع ونطيع لولاة أمور المسلمين، ونعظم حرمات المسلمين، ونحافظ على دماء المسلمين وأعراضهم، ونتعاون مع رجال الأمن وموظفي الدولة، فإنهم نوّاب السلطان والنبي يقول: ((من يطع الأمير فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعص الأمير فقد عصاني)). فنحن نطيع الله ورسوله، ونطيع ولاة أمور المسلمين، ونتعاون معهم على البر والتقوى، وننصح لهم ونناصحهم، ونصبر على ما يحصل من التقصير ابتغاء أعظم الأجر، ونسأل الله الصلاح والمعافاة لنا ولولاة أمور المسلمين.
أيها الإخوة، نبرأ إلى الله من كل تستر على محدث وعلى مبتدع وعلى مفسد، ونبرأ إلى الله ممن يرضى أو يسكت أو يبرر هذه الاعتداءات على الأمن ورجال الأمن وعلى هيبة السلطان. ونسأل الله تعالى أن يهدي القلوب، ويصلح النفوس، ويبصرنا وإياكم بما ينفعنا، إذا كنا ندعو الله تعالى بالنصر لإخواننا في العراق وفي فلسطين، فمن باب أولى أن ندعو الله تعالى بالنصر لنا على أهوائنا وعلى شهواتنا وعلى أبنائنا الذين صدروا من طاعتنا، وخرجوا على ولايتنا، إذا كان بعض الناس يقنت في صلاته لإخواننا في فلسطين وفي العراق فهذا عمل جليل، ولكن لا ينبغي أن ننسى أننا في هذه الأيام بحاجة للقنوت لبلادنا بأن يحفظها الله تعالى من الشرور والأخطار المحدقة بها من الداخل والخارج، وأن يعيننا جميعًا على حفظ الأمن واستتبابه، إننا بأمس الحاجة أن ندعو الله تعالى على كل ظالم ومفسد وعلى كل مجرم ومخرب وعلى كل معتد على الأمن أن يكشف الله ستره، وأن يريح الله المسلمين من شره، وأن يرد الله الظالمين إلى جادة الصواب. وأوصيكم ونفسي بالكتاب العزيز والسنة المطهرة، تمسكوا بهما، وعضوا عليهما بالنواجذ، واحذروا ـ يا عباد الله ـ من البدع والمحدثات في دين الله، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة.
أيها المسلمون، حافظوا على أمن المجتمع، حافظوا على ترابطه، حافظوا على سلامة وحدته. هذا معنى: (عليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة)، واحذروا أسباب الفرقة وأسباب البغضاء وأسباب الإخلال بالأمن، فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله سيدنا وإمامنا محمد عليه الصلاة والسلام إرضاء لله جل وعلا الذي قال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من صلّى عليّ صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلّ وسلم وبارك على الحبيب محمد الذي عظّم الحرمات، ونهى عن الاعتداءات عليها، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه ما تعاقب الليل والنهار، وارض اللهم عن آل بيته الطيبين وزوجاته أمهات المؤمنين وخلفائه الأربعة الراشدين وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم بعفوك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين...
(1/3841)
وماذا بعد الحج؟!
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الحج والعمرة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحج فرصة لتصحيح العمل. 2- وقفات مع النفس بعد الحج: تذكر نعمة الله، كيف نشكر هذه النعمة؟ الاستمرار على العمل الصالح. 3- أهمية التفكر في قبول العمل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله، فإن تقواه أفضلُ زاد وأحسنُ عاقبةٍ في معاد، واعلموا أن الدنيا مِضْمَارُ سِباق، سبق قومٌ ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فرحم الله عبدًا نظر فتفكر، وتفكر فاعتبر، وأبصر فصبر، ولا يصبر على الحق إلا من عرف فضله ورجا عاقبته، إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
عباد الله، في الأيامِ القليلةِ الخاليةِ قضى الحجاجُ عبادةً من أعظم العبادات وقربةً من أعظم القربات، تجرّدوا لله من المخيطِ عند الميقات، وهلّتْ دموع التوبةِ في صعيد عرفاتٍ على الوجنات، خجلاً من الهفوات والعثرات، وضجتْ بالافتقار إلى الله كلُ الأصواتِ بجميع اللغات، وازدلفتِ الأرواحُ إلى مزدلفةَ للبَيَات، وزحفتِ الجموع بعد ذلك إلى رمي الجمرات، والطوافِ بالكعبة المشرفة والسعيِ بين الصفا والمروة في رحلةٍ من أروع الرَحلات، وسياحةٍ من أجمل السياحات، عادَ الحجاج بعد ذلك فرحين بما آتاهم الله من فضله، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
نعم، لقد ودَّع المسلمون قبل أيام مناسبة عظيمة هي مناسبة الحج، وسعد الناس بأداء هذه الفريضة العظيمة، فلله الحمد والمنة على ما منّ به على حجاج بيته من إتمام نسكهم، وله الحمد والمنة على ما يسر لهم وأعانهم على إكمال هذه الشعيرة العظيمة، ونسأله سبحانه أن يتقبل من الحجاج، وأن يرزقنا ويرزقهم الاستقامة على دينه، إنه جواد كريم.
أيها المؤمنون، سؤال ينبغي لكل مسلم أن يسأل نفسه: وماذا بعد الحج؟! كيف هي حال العبد بعد هذه الفريضة؟! هل يعود الناس كما كانوا عليه قبل الحج؟! هل تغير سلوك المؤمن من سيئ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن؟!
إن الحج ميلاد جديد، فيجب على الحاج أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يجعل حجه فرصة لتصحيح أعماله، قال تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التحريم:8].
وإن من الخطأ ـ عباد الله ـ أن يظن الإنسان أن مواسم الطاعات فرصة للتخفيف من الذنوب، ثم إذا ذهبت هذه المواسم وقع في غيرها من المخالفات، وتنتهي فترة إقباله على الله تعالى بانتهاء هذه المواسم. يجب أن يعلم المسلم أن مواسم الخير هي تحوّل كامل لواقع المسلم، من حياة الغفلة والإعراض عن الله إلى حياة الاستقامة والإقبال على الله. وإن من إضلال الشيطان وخداع النفوس الأمّارة بالسوء أن ينتكس كثير من الناس على عقبيه، ويعود إلى معاصيه.
أيها المؤمنون، ها هو ربكم يناديكم بنداء الإيمان أن تستقيموا على شرعه، وتستجيبوا له ولرسوله، وتتقوه حق تقاته، وتعبدوه حق عبادته في حياتكم إلى مماتكم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عباد الله، يا من أكرمكم الله بحج بيته، يا من وقفتم موقفًا تمنى ملايين المسلمين أن يقفوه، يا من اصطفاكم ربكم من بين خلقه لتقفوا على صعيد عرفة، يا من باهى بكم الملك الديان ملائكته، يا من قال لكم ربكم حين نفرتم من عرفات: أفيضوا عبادي مغفورًا لكم، لقد أرضيتموني ورضيت عنكم، أيها الأحبة في الله، بعد هذه النعمة العظيمة من الله وهي أن بلغنا الحج فلا بد من وقفات مع النفس:
الوقفة الأولى: نتذكر فيها عظيم نعمة الله علينا، حيث إنه مع كثرة ذنوبنا وعظيم خطايانا وزللنا يكرمنا الرحيم الرحمن بالوقوف بين يديه، يكرمنا بأن نستغفره ونستهديه، يكرمنا بأن ييسر لنا الحج ليغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، فما أكرمه من إله واحد أحد، وما أعظمه من رب غفور رحيم تنزه عن الصاحبة والولد.
الوقفة الثانية: كيف يقابل المؤمن هذه النعمة الإلهية والمنحة الربانية؟! هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ [الرحمن:60]، فلا بد أن يكون شاكرًا لربه منيبًا إليه، وليس الشكر كما يتصوّره البعض بأنه الشكر اللساني فقط، لكنه في حقيقة الأمر هو الشكر القلبي، حيث يظل قلبك متعلقًا بخالقك، مستشعرًا نعمته عليك، ومعه الشكر العملي، فتكون بعيدًا عن كل ما يغضب المنعم عليك، قريبًا من كل ما يحبه ويرضاه، قال تعالى مبينًا هذا المعنى: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13]، ولنا في رسول الله قدوة حسنة، فقد كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه الشريفتان فداه نفسي وأبي وأمي والناس أجمعين، فيقال له: يا رسول الله، لم تفعل ذلك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيجيب صلوات ربي وسلامه عليه معلمًا للأمة حقيقة الشكر: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا)) ، ولنتخذ ـ عباد الله ـ من هذه الكلمات شعارًا لنا في تعاملنا مع ربنا جل جلاله.
الوقفة الثالثة: أبتدئها بسؤال: لو أنا رأينا رجلاً شيّد عمارة فنمّقها وزينها وجوّدها، ثم جاء رجل آخر وأخذ يشوّه ويهدم في ذلك البناء فماذا نقول عن هذا الآخر؟! ألا نقول: إنه ظالم باغي ونحاول منعه من ذلك العمل؟! فما بالكم إذا كان الذي بنى العمارة هو نفسه الذي أخذ في تشويهها أو هدمها، ألا يعتبر هذا ضربًا من الجنون؟! وها أنت ـ يا عبد الله ـ قد عدت من حجك ـ بإذن الله ـ كيوم ولدتك أمك، عدت وقد صفت صفحة أعمالك فعادت بيضاء نقية، فلا تسوّدها بالذنوب، وقد يقول الشيطان لأحدهم: أذنب ثم إذا جاء الحج المقبل غُسلت عنك ذنوبك، فنقول لمثل هذا: أضمنتَ العيش إلى العام القادم؟! أما تخشى أن يأتي عليك العام القادم وأنت تحت التراب مرتهن بعملك، قد بلي جسدك، وذاب عظمك، تتمنى العودة إلى الدنيا لتسبح الله تسبيحة واحدة فلا تستطيع؟! أما تخشى أن يأتي عليك العام القادم وأنت على فراش المرض لا تستطيع أن تجلب لنفسك شربة ماء؟! أما خشيت أن تتكاثر على قلبك الذنوب والخطايا فتغطيه طبقة الران والعياذ بالله، فتصبح لا تعرف معروفًا ولا تنكر منكرًا؟! تصبح طاعة الله أثقل عليك من حمل الجبال، وتكون معصيته أهون عليك من ذب الذباب عن أنفك.
أخي الحاج، أنت الآن أمام فرصة ذهبية لا تقدر بثمن، والذكي الألمعي هو الذي لا يدع الفرص تذهب من بين يديه هدرًا؛ فإنه يخشى أن لا تعود. فها أنت وقد حطت عنك خطاياك التي كانت تعوقك وتكبّلك عن فعل الخيرات وكانت تصدك عن ذكر الله، فأنت الآن أكثر قدرة على الإمساك بلجام نفسك والأخذ بها نحو الرضا الإلهي والجود الرباني، فلا تتركها وشأنها، فإنك إن تركتها عادت لما كانت ألفته:
والنفس كالطفل إن تتركه شبّ على حبّ الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ
فافطمها عن شهواتها، وردّها عن غيّها، وخذ بها إلى ما فيه صلاحها وفلاحها، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9، 10].
يا من قصد البيت الحرام، ليكن حجك أول فتوحك وتباشيرَ فجرك وإشراقَ صبحك وبدايةَ مولدك وعنوانَ صدق إرادتك، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92].
فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ في كلّ حين، وتذكَّروا قولَ الحقِّ في الكتاب المبين: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين وملاذ الخائفين، قابِل دعوة من كانوا بين يديه أذلاّء منكسرين، المتجاوز عن ذنوب التائبين، أحمده سبحانه وأشكره أن جعل الجنة دار المتقين، وجعل النيران مثوى الكافرين ومآل الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فإنه مما ينبغي للمؤمن أن يكثر الفكر فيه هو قبول العمل، وهذه القضية في الحج أو غيره من الأعمال الصالحات، فكم من الناس يؤدي العمل ولا يلتفت إلى قضية القبول، وكأن عنده ضمانا من الله بالقبول، بينما يصف ربنا تبارك وتعالى حال العباد الصالحين إذ يقول: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:60، 61]. أخرج الإمام أحمد أن أمّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت النبي عن المذكورين في الآية: أهم الزناة والسرّاق وشربة الخمر، يفعلون ذلك وهم يخافون الله؟! فأجابها المصطفى بقوله: ((لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عز وجل)).
وقد كان هذا دأب سلفنا الصالح، فهذا محمد بن واسع يقوم ليله يبكي حتى إن جيرانه لم يناموا من بكائه، فلما كانت صلاة الفجر كلّمه جاره فقال له: ارفق بنفسك وبنا، فوالله ما نمنا البارحة من بكائك، قال: "والله، إني عندما صففت قدميّ بين يدي الله البارحة تصورت أن الجبار جلّ جلاله يناديني فيقول: يا محمد، اعمل ما شئت، فلن أتقبل منك". فاحرصوا ـ رحمني الله وإياكم ـ على القبول من ربكم في كل عمل تعملونه صغيرًا كان أم كبيرًا.
فكن ـ يا عبدَ الله ـ ممّن سلك سبيلَ النجاةِ، وعمل لأخراه، وأصلَح دنياه بطاعةِ مولاه، وتذكّر الموتَ وكرباتِه وما يكون بعدَه من الأهوال، وأعِدَّ لذلك اليوم أفضلَ ما تقدِر عليه من الأعمال، وإنّ أجلَ الله لآت، وما أنتم بمعجزين.
عبادَ الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين...
(1/3842)
مع فاتحة الكتاب
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
1/2/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل القرآن الكريم. 2- من فضائل سورة الفاتحة. 3- تفسير السورة. 4- قسمة الصلاة بين العبد وبين الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قالَ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
كتابُ ربِّنا يهدي إلى أقومِ سبيلٍ، ويحقِّق للسائرين على نهجِه الفوزَ العظيم. ومن القرآنِ سورةٌ قصيرةُ الآياتِ عظيمةُ المعنى جليلةُ المبنى، تسكُب في النفس السكينةَ، وتفيض على القلبِ طُمأنينة، فيها عقيدةٌ وعبادة وجزاء ومَثوبة ووَعد ووعيد، هي الواقية لأنها تقِي قارئها السوءَ، وهي الشِّفاء يُستشفَى بها العليل، هي الصلاةُ لأنّه لا صلاةَ بدونها، وهي السبعُ المثاني لأنها تثَنَّى وتكرَّر في الصلاة.
اشتملت على إصلاحِ النّفس وإصلاحِ المجتمع، وأرست أسُسَ الأمن والاستقرار والسعادةِ في الأرض، هي خيرُ ما أنزِل، فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال له الرّسول : ((لأعلِّمنَّك سورةً ما أنزِلَ في التوراة ولا في الإنجيلِ ولا في الفرقان سورة كانت خيرًا منها)) ، قال: ((فاتحةُ الكتاب هي السبعُ المثاني والقرآن الذي أوتيتُه)) [1].
هي أحَدُ النّورَين، فعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: بينَما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ سمِع نقيضًا من فوقِه، فرفع رأسه فقال: هذا بابٌ من السماءِ فتِح اليومَ، لم يفتَح قطّ إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا مَلكٌ نزل إلى الأرضِ لم ينزِل قطّ إلاّ اليوم، فسلَّم وقال: أبشِر بنورَين أوتيتَهما لم يؤتاهما نبيٌّ قبلَك: فاتحةُ الكتاب وخواتيمُ سورة البقرة، لن تَقرَأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه. رواه مسلم [2].
هي رُقيةٌ، فعن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه أنَّ ناسًا من أصحابِ النبيِّ أَتَوا على حيٍّ من أحياء العرَب فلم يَقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدِغ سيِّد أولئك فقالوا: هل معَكم من دواءٍ أو راقٍ؟ قالوا: إنّكم لم تقرونا، ولا نفعَلُ حتى تجعَلوا لنا جعلاً، فجَعَلوا لهم قطيعًا من الشّاء، فجعل يقرَأ بأمِّ القرآن ويجمع بزاقَه ويتفِل فبرَأ، فأتوا بالشاءِ فقالوا: لا نأخُذه حتى نسألَ النبيَّ ، فسألوه فضحِك وقال: ((وما أدراكَ أنها رقية؟! خذوها واضرِبوا لي معكم بسهمٍ)) رواه البخاري [3].
إنَّ سورةً بهذا الفضل والمقامِ نتطلَّع إلى أن نقفَ على كنوزِها وندرِكَ معانيَها ونوثِّقَ صِلَتَنا بها ونهتدِيَ بهُداها لنحقِّق أثرَها.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ثناءٌ على الله بما أنعَمَ علينا وما أعطانا. الثّناءُ حقٌّ لله سبحانه، هو المستحِقّ للحَمدِ بسبَبِ كَثرةِ نِعَمه وأنواعِ آلائه على العباد. الحمدُ فيه معنى الاعترافِ الذي هو إقرارٌ مِنَ العبدِ بتقصيرهِ وفقرة وحاجتِه واعترافٌ للهِ جلّ وعلا بالكمالِ والفضل والإحسان، وهذا من أعظمِ ألوانِ العبادة؛ ولهذا قد يعبُد العبد ربَّه عبادةَ المعجَبِ بعمَلِه فلا يقبَلُ منه؛ لأنَّ الإعجابَ لا يتَّفق مع الاعترافِ والذّلِّ، ولا يدخل العبدُ على ربِّه من باب أوسَعَ وأفضل من بابِ الذّلِّ له والانكسار بين يدَيه، ذلك أنَّ من أعظم معاني العبادةِ الذلَّ له سبحانه؛ ولهذا كان نبيّنا كثيرَ الاعتراف لله على نفسِه بالتَّقصير والظلمِ، كان يقول: ((اللّهمّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنت، فاغفِر لي مغفرةً من عندك وارحمني، إنّك أنت الغفور الرحيم)) أخرجه البخاري ومسلم [4].
الْحَمْدُ لِلَّهِ شُعورٌ يفيض به قلبُ المؤمِنِ بمجرَّدِ ذكرِه لله، فإنَّ وجودَه ابتداءً ليس إلاّ فيضًا مِن فيوضاتِ النِّعمة الإلهية التي تستجِيش الحمدَ والثناءَ، في كلِّ لمحةٍ في كلِّ لحظةٍ في كلِّ خُطوة تتوالى آلاءُ الله على العبد وتتواكب وتغمُر خلائقَه كلَّها وخاصّةً هذا الإنسان، ومن ثَمَّ كان الحمدُ لله ابتداءً وكان الحمد لله ختامًا دليلَ الإيمان، وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ [القصص:70].
ومع هذا يبلُغ من فضلِ الله سبحانه على عبدِه المؤمن أنه إذا حمِد الله حمدًا يليق بجلالِه كتبَها له حسنةً ترجحُ كلَّ الموازين، ففي سننِ ابن ماجه عن عبد الله بن عمَرَ أنَّ رسول الله حدّثهم: ((إنَّ عبدًا من عبادِ الله قال: يا ربِّ لك الحمدُ كما ينبغِي لجلال وجهِك ولعظيم سلطانك، [فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء] وقالا: يا ربَّنا إنَّ عبدَك قد قال مقالةً لا ندرِي كيفَ نكتبُها، قال الله عزّ وجلّ وهو أعلم بما قال عبدُه: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربِّ، إنّه قال: يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهِك وعظيم سلطانك، فقال الله عزّ وجلّ لهما: اكتبَاهَا كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزِيَه بها)) [5].
لفظ الجلالة (الله) هو الاسمُ الأعظم للهِ عزّ وجلّ على قولِ طائفةٍ مِن أهلِ العلم، الذي تلحَق به الأسماءُ الأخرى، ولا يشاركه فيه غيره. ومن معاني (الله) أنه الإله المعبودُ المتفرِّد باستحقاقِ العبادة.
رَبِّ الْعَالَمِينَ أي: ربّ كلِّ شيءٍ وخالقه والقادِر عليه، كلُّ ما في السموات والأرض عبدٌ له وفي قبضَتِه وتحت قَهرِه.
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، اسمُ الرحمن كاسمِ الله؛ لا يُسمَّى به غيرُ الله ولم تسمَّ به أحد، فالله والرّحمن من الأسماء الخاصّة به جلّ وعلا، لا يشاركه فيها غيرُه، أمّا الأسماء الأخرى فقد يسمَّى بها غير الله كما قال سبحانه عن نبيِّه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. والرّحمن والرّحيم مأخوذان منَ الرّحمة، فالرّحمن رحمةُ عامّة بجميع الخلقِ، والرّحيم رحمةٌ خاصّة بالمؤمنين. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صِفةٌ تستغرِق كلَّ معاني الرحمةِ وحالاتها ومجالاتها، تتكرَّر في صُلب السّورة في آيةٍ مستقلَّة لتؤكِّدَ السّمَةَ البارِزة في تلك الرّبوبيّة الشاملة.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ وقُرئ مَلِكِ ، والفَرقُ بين الوصفَين بالنّسبة إلى الربِّ سبحانه أنّ الملِك صِفةٌ لذاتِه والمالِكَ صِفةٌ لفِعلِه، ويومُ الدين يومُ الجزاء من الربِّ سبحانه، وهو يوم يدين الله العبادَ بأعمالهم أي: يجازِيهِم بها.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أي: نخصُّك بالعبادة، ونخصّك بالاستعانة، لا نعبد غيرَك، لا نطلُبُ إلاّ عونَك، لا نستعِين بغيرك، لا نستَغني عن فضلِك، وقدِّمت العبادة على الاستعانَةِ لكون الأولى وسيلةً إلى الثانية، وقرِنَت العبادةُ بالاستعانة للدّلالة على أنَّ الإنسانَ لا يستطيع أن يقومَ بعبادةِ الله إلاّ بإعانةِ الله له وتوفيقِه، وهو إقرارٌ بعجزِ الإنسان عن القيامِ بالعباداتِ وعن حملِ الأمانةِ الثَّقيلة إذا لم يُعِنه الله، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43].
قال ابن القيِّم رحمه الله: "إنَّ موضعَ الرّقيَةِ منَ السورة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، ولا ريبَ في أن هاتين الكلِمَتين من أقوى أجزاءِ هذا الدواء؛ فإنَّ فيهما من عمومِ التّفويضِ والتوكُّل والالتجاء والاستعانةِ والافتقار والطّلَب والجمع بين أعلَى الغايات ـ وهي عبادةُ الربّ وحدَه ـ وأشرفِ الوسائل ـ وهي الاستعانةُ به على عبادته ـ ما ليس في غيرِها، وتأثيرُ الرُّقَى بالفاتحَةِ وغيرِها مِن علاج ذواتِ السّموم سِرٌّ بديع، ونفسُ الراقي تفعل في نفسِ المرقيّ، فيقع في نفسِها فِعلٌ وانفعال كمَا يقَع بين الداءِ والدّواء، فتقوَى نفس الراقي وقوَّتُه بالرّقيَة على ذلك الدواء، فيدفعه بإذن الله" [6].
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ دعاءٌ صريح، حظُّ العبد من الله، وهو التضرُّع إليه والإلحاح علَيه أن يرزقَه هذا المطلبَ العظيم الذي لم يُعطَ أحدٌ في الدّنيا والآخرة أفضل منه، كما منَّ الله على رسوله بعدَ الفتحِ بقوله: وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:2]. أي: قوِّ هدايَتَنا، وفِّقنا إلى معرفةِ الطريق الصحيح والاستقامةِ عليه، ثبِّتنا حتى لا ننحرفَ أو نزيغَ عنه، فقد يكون الإنسانُ اليومَ مهتديًا وغدًا من الضالّين.
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، لا دعاءَ مفروضٌ على المسلم قولُه غير هذا الدعاء، فيتوجَّب على المسلم قولُه عِدّةَ مرّات في اليوم، وهذا يدلّ على أهمّيّة الطّلَب الذي له أثرُه في الدنيا والآخرة. وفي قوله: اهْدِنَا ولم يقل: "اهدِني" تربِيةٌ للمسلم على تذكُّر إخوانِه وتقوية معاني الأُلفة، وفيه إِزالةٌ لمشاعِرِ الأثَرَة والأنانية، فكما أنّك تحبّ لإخوانِك ما تحبّ لنفسك فادعُ لهم بما تدعو لنفسِك. والاجتماعُ على الهدى مطلَبُ المؤمِنين، وكَثرةُ السّالكين أُنس وثباتٌ للسّائرين، والسّالِكُ وحدَه قد يضعُف وقد يملّ أو يسقُط أو تأكلُه الذّئاب.
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ وهم رسولُ الله وأصحابُه، يعني: الذين حازوا الهدايةَ التامّة ممّن أنعم الله عليهم من النّبيِّين والصِّدِّيقين والشّهداءِ والصالحين، ولا يخرُج المكلَّفون عن هذه الأصنافِ، فكلُّ الخَلقِ ينتمي لواحدٍ من هذه الأصناف: الذين أنعَم الله عليهم هم الذين سلَكوا الصراطَ المستقيم وعرفوا الحقَّ وعمِلوا بمقتَضَاه، أمّا الذين عرَفوا الحقَّ وخالفوه فهم المغضوبُ عليهم، والعامِلون بلا عِلمٍ هم الضالّون، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. قدِّمَ المغضوبُ عليهم على الضّالّين لأنَّ أمرَهم أخطر وذنبَهم أكبَر، فإنَّ الإنسانَ إذا كان ضلالُه بسبَبِ الجهل فإنّه يرتفِع بالعلم، وأما إذا كان هذا الضّلالُ بسبب الهوَى فإنّه لا يكاد ينزِع عن ضلاله، ولهذا جاء الوعيد الشديدُ في شأنِ من لا يعمَل بعَمَلهِ.
خاتمةُ سورةِ الفاتحة هي مناسِبَة لكلِّ ما ورد في السّورة من أوَّلها إلى آخرها، فمَن لم يحمَدِ الله تعالى فهو مغضوبٌ عليه وضالّ، ومن لم يؤمِن بيومِ الدِّين وأنَّ الله سبحانه وتعالى مالِكُ يومِ الدّين ومَلِكه ومَن لم يخصَّ الله تعالى بالعبادةِ والاستعانةِ ومن لم يهتدِ إلى الصراط المستقيم فهم جميعًا مغضوبٌ عليهم وضالّون.
بارَك الله لي ولَكُم في القرآنِ العَظِيم، ونَفَعني وإيَّاكم بما فيهِ مِنَ الآيات والذِّكر الحكيم، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله واستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه الترمذي في التفسير (3125)، والنسائي في الافتتاح (914)، وعبد الله في زوائد المسند (5/114) بنحوه، وصححه ابن خزيمة (500، 501)، وابن حبان (775)، والحاكم (2048)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2499). وفي الباب عن أبي هريرة وأبي سعيد بن المعلى رضي الله عنهما.
[2] صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين (806).
[3] صحيح البخاري: كتاب الطب (5736)، وهو عند مسلم أيضا في السلام (2201).
[4] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6326)، صحيح مسلم: كتاب الذكر (2705) عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال للنبي : علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: ((قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا)) الحديث.
[5] سنن ابن ماجه: كتاب الأدب (3801)، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (12/343) والأوسط (9249)، والبيهقي في الشعب (4/94)، قال البوصيري في الزوائد (4/130): "هذا إسناد فيه مقال، قدامة بن إبراهيم ذكره ابن حبان في الثقات، وصدقة بن بشير لم أر من جرحه ولا من وثقه، وباقي رجال الإسناد ثقات"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (961).
[6] الطب النبوي (ص139).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمد لله الذي خلق فسوّى، والذي قدر فهدى، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ سيّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عَبده ورَسوله، صلَّى الله عَليه وعَلَى آله وصَحبه.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله.
ورد في صحيح مسلِمٍ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمِعت رسولَ الله يقول: ((قال الله تعالى: قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نِصفين ولِعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله تعالى: حمِدَني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال: مجَّدَني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عَبدي ولِعبدي ما سأَل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال: هذا لِعبدي ولِعبدي ما سأل)) [1]. ولعلَّ هذا الحديثَ الصحيح يبيِّن مِن سِياق هذه السّورةِ ويكشِف سِرًّا من أسرارِ اختِيارها ليردِّدَها المؤمِن سبعَ عشرةَ مرّة في كلِّ يوم وليلة أو ما شاء الله أن يردِّدَها كلَّما قام يدعوه في الصلاة.
حّرِيّ بهذه السورَة التي تُعَدّ ركنًا من أركان الصلاة أن يقرَأَها المصلِّي بتُؤَدةٍ وتأنٍّ وتدبُّر وخشوعٍ وحضور قَلبٍ، مستحضِرًا معانيها، محقِّقًا مخارِجَ حروفها في الصّلاة السّرّيَّة والجهريّة، عن وائلِ بنِ حجر قال: سمعتُ النبيَّ قرأ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ فقال: ((آمين)) ومدَّ بها صوتَه [2]. ومعنى (آمين): اللّهمّ استجِب، وهي ليست من السورة. ويُستحَبّ للقارِئِ الفّصلُ بسكتَةٍ بين آخرِ السّورة وقولِ آمين، وفي الحديث عن رسول الله أنه قال: ((إذا أمَّن الإمامُ فأمِّنوا؛ فإنَّه من وافق تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غفِرَ له ما تقدَّم من ذَنبِه)) رواه البخاري ومسلم [3].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدَى، فقد أمركم الله بذلك في كتابِه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] صحيح مسلم: كتاب الصلاة (395).
[2] أخرجه أحمد (4/315)، وأبو داود في الصلاة (932)، والترمذي في الصلاة (248)، والنسائي في الافتتاح (879)، وابن ماجه في الصلاة (855)، والدارمي في الصلاة (1247)، وحسنه الترمذي، والنووي في المجموع (3/369)، وصححه الدارقطني (1/687)، وابن حبان (1805)، وهو في صحيح سنن الترمذي (205).
[3] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (7402)، صحيح مسلم: كتاب الصلاة (410) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3843)
المسجد الأقصى شموخ وأحزان
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, فضائل الأزمنة والأمكنة
محمد أحمد حسين
القدس
1/2/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مكيدة يهودية جديدة للإضرار بالمسجد الأقصى. 2- مكانة المسجد الأقصى وأرض الإسراء في الإسلام. 3- الحثّ على عمارة المسجد الأقصى. 4- أزليّة الصراع بين الحق والباطل. 5- دور المرابطين من أبناء فلسطين في الذود عن المسجد الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره بقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، بعد التحذيرات الكثيرة التي صدرت عن جهات أمنية إسرائيلية بِنيّة المتطرفين والمستوطنين اليهود المسّ بالمسجد الأقصى المبارك تأتي الدعوة من غُلاة المستوطنين وقادتهم باقتِحام المسجد الأقصى بأعداد كبيرة تَصِل إلى عشرة آلاف مستوطن كما نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية والمحلّيّة، وذلك في اليوم العاشر من شهر نيسان القادم.
والهدف المعلن من هذه الدعوة هو فرض واقع جديد يُمَكّن المستوطنين من ممارسة طقوسهم الدينية في مكان هَيْكلهم المزعوم الذي ما برحت التنظيمات والجماعات اليهودية المتطَرّفة تحرّض على إقامته مكان المسجد الأقصى المبارك. خاب إفْكُها، وطاش سهمها. فما زالت ذرّية المسلمين في هذه الديار المباركة ديار الإسراء والمعراج تفتدي أقصاها المبارك بالمُهَجِ والأرواح، ولا زالت العقيدة التي تمثّل الأقصى تردّد نداء التوحيد الذي رفعه بلال وحوله الصحابة الكرام، يقودهم الفاروق الذي رعى لغير المسلمين حقوقهم وأمنهم على أنفسهم وأماكن عبادتهم انطلاقًا من عدالة الإسلام وعملاً بنصوص القرآن الذي قرّر الله فيه ربط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام في رباط عقدي لا انفصام له، وجعل المسجدين المباركين رمزين من رموز الدين الإسلامي وقبلة لصلاة المسلمين، في المسجد الأقصى والقدس فُرِضت الصلاة على المسلمين، وهي عمود الدين وركنه العظيم، ومعراج أرواح المؤمنين إلى رب العالمين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإسلام في كل مكان، انطلاقًا من هذه العقيدة المتينة وتجسيدًا لكل هذه القيم الكريمة والمبادئ النبيلة حرص المسلمون منذ تشرفت هذه البقاع الطاهرة بالإسراء بنبينا إلينا وعروجه منها، حرصوا على تنفيذ القرار الربّاني بإسلاميتها ورعاية مسجدها ودفع غَوائل الأعداء عنها، فجاءها الصحابة رضوان الله عليهم فاتحين، وسكنوا أرضها، ورابطوا فيها، وجاوروا مسجدها المبارك، وحرصوا على إعماره وعمارته، وغدت مدينة القدس تضجّ بالعلم والعلماء، وتحكي حضارة المسلمين من خلال مساجدها ومدارسها وأربطتها التي تنتشر حول أروقة المسجد الأقصى وفي كل حواري المدينة المقدسة وأزقّتها، وهي شواهد حَيّة على حضارة المسلمين وعروبة القدس مهما حاولت يد الطمس أن تنال منها لإحلال حضارة موهومة أو لإثبات حقوق مزعومة.
يقول ابن تيمية رحمه الله في مناقب الشام وأهله بعد ذكر الآيات التي تحدثت عن بركتها، قال: "وفيها المسجد الأقصى، وفيها مبعث الأنبياء، وإليها هجرة إبراهيم، وإليها مسرى نبينا، ومنها معراجه، وبها ملكه وعمود دينه وكتابه والطائفة المنصورة من أمته، وإليها المحشر والمعاد".
وقد [رُوِيَ] في الحديث الشريف عن ميمونة مولاة النبي قالت: يا نبي الله، أفتنا في بيت المقدس، فقال: ((أرض المنشر والمحشر، ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه)) ، قالت: أرأيت من لم يُطق أن يتحمّل إليه أو يأتيه؟ قال: ((فليُهدِ إليه زيتًا يُسرَج فيه، فإن من أهدى له كان كمن صلّى فيه)). وفي هذا الحديث توجيه نبوي بالحثّ على إعمار المسجد الأقصى بالطاعات، وعلى رأسها الصلاة، وكذلك عمارته المادية من ترميم وصيانة، إذ لا يُتصّور إسراج المسجد دون أن يكون عامرًا وصالحًا لاستقبال المصلين والمتعبدين والزائرين. وقد أثنى الله تعالى على القائمين بعمارة المساجد معنويًا وماديًا بقوله: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18].
وفي الحديث الشريف الذي يرويه ذو الأصابع قال: قلت: يا رسول الله، أين تأمرنا إن ابتُلِينا بعدك بالبقاء؟ قال: ((عليك ببيت المقدس، فلعلّه أن يَنشأ لك ذرّيةٌ يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون)).
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، إن حالة الهوان والضعف التي تعيشها أمّتكم هي التي أغرت الأمم الأخرى بالاعتداء عليكم والطمع في بلادكم وثرواتكم، لكن عَمِد أعداءُ دينكم إلى إطفاء نور هذا الدين من خلال إبعادكم عن الاحتكام إلى شرع الله والرجوع إليه في جميع شؤون حياتكم، يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].
أيها المسلمون، إن الناظر إلى ما يجري في دنيا المسلمين ليجزم بأن الصراع بين الحق الذي تؤمنون به وتحملونه عقيدة في صدوركم وبين الباطل الذي يَحشُد كلَّ قُواه ويُسخّر كل طاقاته وأعوانه للقضاء عليه؛ أن هذا الصراع لن ينتهي بمسالمتكم لقوى الباطل والرضا بتنفيذ مخططاتها والسير في ركابها ولا بتقديم عزّة الأمة وكرامتها قرابين على مذبح الهوان لأعدائكم، فالله تعالى يقول وقوله الفصل: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، فادفعوا الرِّدّة عن أنفسكم، وخذوا العبرة من سيرة أسلافكم الذين حملوا هذا الدين عقيدة وشريعة، تنظّم الحياة والأحياء، وتنشر العدل، وتدفع الظلم، وتحمي كرامة المسلمين، وتردّ الطامعين والمعتدين، وتحفظ أعراض المسلمين، وتعيد نخوة المعتصم وعزيمة صلاح الدين، وتُطيح بالمتخاذلين عن نصرة الدين والمتآمرين على مقدّرات الأمة والمتاجرين بكرامتها من الحكام الذين أصمّوا آذانهم عن سماع استغاثة الملهوفين من أبناء أمتهم.
أيها المسلمون، يا أبناء ديار الإسراء والمعراج، لقد استطاع شعبكم المرابط في هذه الديار المباركة أن يحافظ ويتمسك بحقوقه ويرعى مقدساته ويذود عنها رغم شراسة الاحتلال وصَلَف المحتلين.
ولقد أفشلتم ـ أيها المرابطون ـ كثيرًا من مخططات الاحتلال التي استهدفت وجودكم في هذه الديار، فلم يُفلح الحصار ولا السجّان بكَسْر إرادتكم في الحياة والصمود واستشراف آفاق الحرية التي تتوق إليها كل نفس أَبيّة تأبى الهوان. ولقد كنتم على الدوام الحرّاس الأوفياء والسَّدَنَة الأُمَناء لمقدّساتكم، وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك، فقد أكرمكم الله بفضل الرباط في بيت المقدس، وحَبَاكم شرفًا عظيمًا بِسِدَانة مسجدها المبارك الذي يتطلع الملايين من أبناء المسلمين لزيارته وأداء الصلاة فيه عملاً بقول صاحب الإسراء والمعراج عليه الصلاة والسلام: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول ، ومسجد الأقصى)).
فوطّنوا أنفسكم ـ يا أبناء القدس وأكنافها ـ على شدّ الرحال إلى المسجد الأقصى في جميع الأوقات والأيام، واجعلوا من أوقاتكم نصيبًا للعبادة والاعتكاف في المسجد حيث الثواب الجزيل والأجر العظيم، عسى الله تعالى أن يردّ بكم كيد الكائدين واعتداء المعتدين، فلقد أفشلتم بوقفتكم الشجاعة مع مسجدكم كل محاولات النيل منه، وبقي المسجد الأقصى عامرًا بكم، ينادي أمة المسلمين ويدعوها إلى عودة مُظفّرة لاستئناف الحياة الإسلامية الكريمة بخلافتها الراشدة، وما ذلك بعزيز على أمة دستورها القرآن وقائدها محمد.
(1/3844)
موقف المؤمن عند المصائب
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الفتن
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
23/1/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من الاغترار بالدنيا. 2- حقيقة الدنيا. 3- الدنيا دار الهموم والمصائب. 4- المؤمن يدور بين الشكر والصبر. 5- ضرورة اللجوء إلى الله عند المصائب. 6- تفريج الله تعالى عن أنبيائه. 7- أهمية الدعاء والتوبة عند الشدائد. 8- التحذير من التسخّط على قضاء الله وقدره.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ ربَّنا جل وعلا حذَّرنا من أن ننخدعَ بهذه الدنيا أن نغترَّ بها وننخدِعَ بنعيمها وملذَّاتها، حذَّرنا من ذلك لأنها متاعُ الغرور، متاعٌ زائل ولا بدّ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [فاطر:5]. وأخبرنا تعالى عن حالِ الدنيا فقال: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ [الحديد:20]، هذا حالُ النّاسِ في هذه الدّنيا، هي لَعِب ولهوٌ وزِينة وتكاثُر بالأموالِ والأولاد، هذا حالُ المنخدِعين بها الذين غرّتهم هذه الحياةُ حتى أنسَتهم ذكرَ الله وصدَّتهم عمّا لأجله خلِقوا.
أيّها المسلم، هذه الحياة الدنيا أخبرَ الله بقوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فهي دنيا لاَ تدوم لك على حالٍ، ما بَينَ فقرٍ وغنى، وما بين عافيةٍ وبلاء، وما بَين مرضٍ وصحّة، وما بين عِزٍّ وذلّ، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، لكنَّ المؤمنَ حقًّا يتبصَّر فيها، ويعلم ما لأجلِهِ خلِق، ويهتمّ بما أوجب الله عليه عِلمًا وعمَلاً، ويتذكَّر قولَه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فيحقِّق العبوديةَ لله، ويعمُر هذه الدنيا بطاعةِ الله، ويستعين بما ناله فيها من خيرٍ على ما يقرِّبه إلى الله، ويعلَم أنَّ الدنيا دارُ عمل وأنَّ الآخرة دار الجزاء، فهو يتزوَّد من حياته لآخرته، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
أيّها المسلم، تمرّ بك في هذه الدّنيا مِحنٌ ورزايا ومصائبُ وبلايا وهمومٌ وأحزان، ولا يخلِّصك من تلكم الأهوالِ العظيمة إلاّ لجوءٌ إلى الله والأخذ بالأسباب التي شرعَها الله لتخلُّص من تلك البلايا والرزايا، فالمؤمِن يتلقَّى ذلك البلاءَ بالصَّبر والثباتِ، لا يستكينُ أمام الأحداثِ، ولا يضعُف أمام الملِمَّات، إنما يتلقَّاها بحزمِ الأقوياء وعزيمةِ الأصفياء، الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].
أيّها المسلم، لو فكّرتَ في المجتمَع لرأيتَ العجَبَ العُجاب، ولرأيتَ من أنواع البلايا ما الله به عليم، هذا يشكو من عقوقِ أبنائِه به، وذا يشكو مِن سوءِ عِشرة امرأتِه، وتلك امرأةٌ تشكو سوءَ أخلاق زوجها، وذاك أخٌ يشكو مِن قطيعة رحمه، وذاك يشكو من كَساد تجارته، وذا يشكو من آلامٍ نزلت به أعياه عِلاجها ودواؤها، وكلٌّ يشكو وكلّ يئنّ، لكنَّ المؤمنَ حقًّا هو الذي يثبُت أمام هذه البلايا كلِّها، إن أقبلت عليه الدنيا تلقَّاها بشكرِ الله والثناءِ عليه وعلِم أنها ابتلاءٌ وامتِحان كما قال نبيُّ الله سليمان: هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ [النمل:40]، فيتلقّاها بشكرِ الله والثناءِ على الله، ويستعمِل ما رزَقَه الله في طاعته، ويسخِّرها فيما يقرِّبه إلى الله، فلا يغترّ بها، ولا ينخدِع بها، ولا يحمله ما حصَل له من الدّنيا [على] أشرٍ أو بطرٍ أو تكبُّر على عبادِ الله أو إعجابٍ بنفسه، كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7]. وإن أدبَرَت كان صابرًا محتسبًا ثابِتًا على الحقّ مستقيمًا عليه، ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كلَّه لعجب، إن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن)) [1].
أيّها المسلم، إنَّ المصائبَ والبلايا لا يرفعها إلا الالتجاءُ إلى الله والاضطرار إليه مع الأخذِ بالأسباب التي أذِن الله فيها وشرَعها، اسمَع الله يقول: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، فربُّك الذي يكشِف البلاءَ، وربّك الذي يرفع البلاءَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].
تدبَّر كتابَ الله لترى العَجَب العُجاب، ترَى كرامةَ الله للمتَّقين، وترى تفريجَ الله للمَهمومين وتيسيرَه للمعسِرين، اقرأ كتابَ الله لترَى كيف أنجَى الله رسلَه وأنبياءَه مِن كيدِ مَن أرادهم بسوء، فانظر إلى نوحٍ وقد مكَث في قومِه ألفَ سنة إلا خمسين عامًا، والله يقول: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود:40]، فأنجاه وأغرقَ قومَه، وانظر إلى إبراهيمَ وقد ابتُلِي بأن يلقَى في النار قال الله: كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، ورأى في المنامِ أن يذبحَ ابنَه إسماعيلَ، فصبر ثمّ جاء الفرجُ من الله وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات:107]، وكاد فرعونُ لموسى ما كاد، حتى أنجى الله موسَى وأغرق فرعونَ وهم ينظرونَ إلى نجاةِ موسى ويرَونَ ما حلَّ بهم من المصائبِ العظيمة.
وسيِّد الأوَّلين والآخرين وإمام المتَّقين محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، كم عانى من الشدائدِ، وكم عانى من البلاء وتحدِّيات الكفارِ له ولأتباعه، ومع هذا كان صابرًا ثابت الجأشِ والله يقول له: وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود:120]. تآمَروا على قتلِه، ودبَّروا مكيدتهم، فأخذَ الله أبصارَهم عنه وخرَج يلقِي الترابَ على رؤوسهم ويتلو: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9]، وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]. يختفِي في غارِ [ثور]، ويقرب الطلبُ منه، فيُحال بينهم وبينَه حتى يصِلَ إلى المدينة سالمًا معافى، وكم كادوا له يومَ الأحزاب، ففرَّج الله ذلك، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا [الأحزاب:9]. جاءَه أصحابُه يشكون إليه ما يلقَونَ من كيدِ الكافرين، قال [خباب بن الأرتّ]: أتَينا رسولَ الله وهو مُضجِعٌ بظلالِ الكعبة على بردٍ له فقلنا: ألا تستغفِر لنا؟! ألا تسأل لنا؟! فقال: ((إنّ من قبلكم يؤتَى بالرّجل فيحفَر حفرة له، فيوضَع فيها ويوضَع المنشار على رأسه فيشقّ نصفين، ويؤتَى بأمشاطِ الحديد ما بين جِلده وعظمِه، ما يصدُّه ذلك عن دينِه، وليتمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يَسير الراكِبُ من صنعاءَ إلى حضرموت لا يخشى إلاّ الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم قومٌ يستعجلون)) [2]. يستأذِنه ملكُ الجبال أن يطبِقَ عليهم أخشبَي مكّة [3] فيقول: ((أتأنَّى بهم لعلَّ اللهَ أن يخرِجَ مِن أصلابهم من يعبدُه لا يشرِك به شيئًا)) [4].
أيّها المسلم، قد تعاني مِن همومٍ في هذه الدنيا، من ديونٍ أعياك قضاؤها ومصائبَ أعياك التخلّصُ منها، فاعلَم أنه لا ملجأَ لك من الله إلاّ إليه، انطرِح بين يديِ ربِّك، واسأله من فضله وكرمِه، فإنّه يقول ذلك وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ويقول: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
إذًا أيّها المسلم، فلا ملاذَ مِن الله إلاّ إليه، ولا ملجأَ من الله إلا إليهِ، هو الذي يبتلِي عباده، وهو الذي يرفَع البلاء، والمؤمِن أمام البلاء صابر، وهو يأخذ بأسبابِ السَّلامة ما استطاع، اسمعِ الله يقول: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:83، 84]، ويقول في دعاءِ ذي النّون أنه لما قال: لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] يقول : ((ما دَعَا بها مكروبٌ إلاّ فرَّجَ الله عنه)) [5].
أيّها المسلم، فالجَأ إلى الله، وألِحَّ عليه في الدّعاء، واسأله تفريجَ همِّك وقضاءَ دينِك وإصلاحَ عاقِبَتك، واسأله خيرَي الدنيا والآخرة. الأسبابُ مأمورٌ بها، وفَوق الأسباب تعلُّقُ القلب بالله رجاءً من فضله، أحسِن الظنَّ بربّك، وكن على ثِقةٍ بوعدِه الصادق، وعظِّم الرجاءَ في الله، فالله أكرَمُ الأكرمين وأرحَم الراحمين. أكثِر منَ الاستغفار، فمن لازَمَ الاستغفار جعل الله له من كلِّ همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ورزَقه من حيث لا يحتسب، فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود:61]. أكثِر من الدعاءِ، وفي الحديثِ: ((دُعاء الكرب: لا إلهَ إلاّ الله العظيم الحلِيم، لا إلهَ إلا الله ربّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربّ العرش الكريم، لا إلهَ إلا الله الحليم الكريم)) [6]. فأكثر ـ يا أخي ـ من الدعاء، واسأل الله من فضله وكرمِه.
إنَّ الهمَّ والحزن بمجرّده لا يردّ مكروهًا ولا يرفَع واقعًا، وإنما المسلم أمامَ البلاء صَبر واحتساب وقَلبٌ ثابت وتعلّقٌ بالله في الأمور كلِّها، فعسى فرجٌ من الله، والله جل وعلا أكرم الأكرمين، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [العصر:5، 6].
كلّما ألمَّت بك الملمَّات ونزلت بك المكارِه والمضائق فالجأ إلى الله، وادعُه آناءَ الليل وأطراف النهار، ففي الليلِ ساعةٌ لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل الله من خيرَي الدنيا والآخرة إلاّ أعطاه. يومُ الجمعةِ في مثل هذا الوقتِ مِن صعود الإمام إلى انقضاءِ الصلاة وآخِر ساعةٍ مِن يوم الجمعة وعند سماع المؤذِّن وعند القيامِ للصّلاة وما بين الأذانِ والإقامة أوقاتٌ لإجابةِ الدّعاء. فدعاء الله مع الأخذِ بالأسباب النافعة نجاةٌ للعبد، لا تعتمِد على حَولِك وقوَّتك، ولكن اعتمِد على ربِّك مع بذلِ السبب النافع الذي يجعَله الله سببًا لتفريج هذه الهمومِ وإزالةِ هذه الكروب، أسأل الله أن يجعلَنا وإياكم ممن تعلَّق بالله قلبُه، فقوِي رجاؤه في ربِّه، وعظُمَت ثِقته بربه، واعلم ـ أخي ـ أنّك إذا قوَّيتَ الرجاء فالله جل وعلا عندَ حسنِ ظنِّ عبده به، أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد.
باركَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيمِ، ونَفَعني وإيَّاكم بما فِيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكِيم، أقول قَولي هذَا، وأستغفِر اللهَ العَظيمَ الجلِيلَ لي ولَكم ولِسائرِ المسلمِين مِن كلِّ ذنب، فاستَغفِروه وتوبوا إِليهِ، إنّه هوَ الغَفور والرحيم.
[1] رواه مسلم في الزهد (2999) عن صهيب رضي الله عنه بنحوه.
[2] رواه البخاري في المناقب (3852) بنحوه.
[3] الأخشبان بالمعجمتين، قال ابن حجر في الفتح (6/316): "هما جبلا مكّة: أبو قبيس والذي يقابله وكأنّه قعيقعان... وسمّيا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما, والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على من بمكّة, ويحتمل أن يريدَ أنّهما يصيران طبقًا واحدًا".
[4] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3231)، ومسلم في الجهاد، باب: ما لقي النبي (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[5] أخرجه أحمد (3/65-66) رقم (1462)، والترمذي في الدعوات (3505) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بنحوه، وصححه الحاكم (1/505)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب (1644).
[6] رواه البخاري في الدعوات (6345، 6346)، ومسلم في الذكر (2730) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي كان يقول عند الكرب : ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمد لله حمدًا كَثيرًا طيّبًا مباركًا كَمَا يحبّ ربُّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلَّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يَوم الدِّين.
أمّا بعد: أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عبادَ الله، كلُّ مصيبةٍ على العبدِ في نَفسِه ومالِه وولدِه بأسبابِ الذّنوب والمعاصي، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويقول جلَّ وعلا: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].
فإذا عرفتَ أنَّ مُصابَك بذنبك إذًا فأحسِن العمل، وتُب إلى الله من الزّلَل، وأنِب إلى ربِّك، واسأله من فضله وكرمِه، فهو يتوب على التائِبين، يقبَل عذرَ التائبين، ويبدِّل سيِّئاتهم حسنات، اسأَله التوبةَ النصوح، واسأَله التجاوزَ، واسأَله من فضلِه وكرمِه، فهو أكرَمُ الأكرمِين وأرحمُ الراحمين، والمصائِبُ بأسباب ذنوبِ العبادِ، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
فيا أيّها المسلم، تُب إلى اللهِ، واستغفِر الله، واصبِر على قضاءِ الله، وارض بذلك، وأحسِنِ الظنَّ بربّك، واعلَم أن الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدِّر، فَلُمْ نفسَك، وإياك والاعتراضَ على القضاء والقدَر، وإيّاك وسوءَ الظنّ بالله، فأسئ الظنَّ بنفسك، وأما ربُّك فهو حكيم عليم فيما يقضي ويقدِّر، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، وكلُّ قضائِه فمبنيٌّ على كمالِ حكمتِه ورحمتِه وكمالِ عِلمه وكمال عدله، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ [الدخان:38، 39].
فاصبِر على القضاء، وارضَ بذلك، وخُذ بالأسباب وابذل الأسبابَ النافعة، فلعلَّ الله أن يجعلَ فيها نفعًا، فيتحقّق بها المطلوبُ بفضل الله وكرمه، فإنَّ العبدَ إذا تاب إلى الله واعترَفَ بخطيئتِه وزَلَلِه فإنَّ ذلك من أسبابِ تجاوُز الله، فإنَّ الله جلّ وعلا لا أحدَ أحبّ إليه العذر من الله؛ لذاك عرَض التوبةَ على عباده، ودعاهم إلى التوبةِ إليه والالتجاء إليه وأنّه يقبل توبةَ التائبين ويمحو ذنوبَ المذنبين: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. كلَّما ألمَّت بك بليّة فقل: يا حيّ يا قيّوم، يا ذا الجلال والإكرام، برحمتِك أستغيث، ومن عذابك أستجير، أصلِح لي شأني كلَّه، ولا تكِلني إلى نفسي طرفةَ عَين ولا إلى أحدٍ من خلقِك.
واعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهَديِ هَدي محمَّد ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وَكلّ بِدعةٍ ضَلالَة، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنَّ يدَ الله علَى الجماعَة، ومَن شَذّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى عبد الله ورسوله محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قالَ تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك علَى عبدِك ورَسولكَ محمّد، وَارضَ اللَّهمّ عَن خلَفائِهِ الرّاشِدين...
(1/3845)
كيف نعالج المنكرات؟
العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
سعد بن سعيد الحجري
أبها
جامع آل غليظ
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة العمل على الإصلاح. 2- بغض المنكرات وأهلها ومجالسها أول سبيل محاربتها. 3- المنكر ينكر باليد واللسان والقلب، كل بحسبه. 4- عقوبة الله في ترك إنكار المنكر. 5- آداب تغيير المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله الواحد الأحد القيوم الصمد الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولد ولم يكن له كفوًا أحد، وانظروا ما قدمتم لغد: فإن الأعمال تحصى وتعد، فكونوا ممن عمل صالحًا وجدّ، وزرع الطاعات فحصد، ولا تكونوا ممن عن الحسنات صدّ، ولطريق الخير سدّ، وللأمر بالمعروف ردّ، وللمنكر نشر ومدّ، واعلموا أننا أمة الإصلاح؛ إصلاح النفس بالتقوى لنكون من أهل الجنة وننجو من النار، وتقبل منها الأعمال، فإن الله لا يتقبل إلا من المتقين، وإصلاحها بالمراقبة لنعبد الله وكأننا نراه ونتقن ما يحبه ويرضاه، فإن للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، وإصلاحها بالمحاسبة لتزداد من الخير وتحذر من الشر فإن اليوم عمل ولا حساب. وغدًا حساب ولا عمل، وإذا صلحت النفوس صلحت الأسر، وإذا صلحت الأسر صلحت المجتمعات، وصلاح المجتمع دلالة على الخير، والله يخلق ما يشاء ويختار. ولا يختار إلا الأخيار، وصلاح المجتمع أمن من العذاب وسعادة في الدنيا وسعادة في الآخرة يقول تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ?لْقُرَى? بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، فإصلاح الناس سلامة من لعنة الله، فالمصلحون هم الذين أصلحوا وبينوا، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ ?لْبَيِّنَـ?تِ وَ?لْهُدَى? مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّـ?هُ لِلنَّاسِ فِي ?لْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ ?للَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ ?للَّـ?عِنُونَ إِلاَّ ?لَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا ?لتَّوَّابُ ?لرَّحِيمُ [البقرة:159، 160]، وصلاح المجتمع قوة وتعاون وتآلف وإيثار حتى يكون كالجسد الواحد وكالبنيان الذي يشد بعضه بعضًا، يقول : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) وصلاح المجتمع يحتاج إلى وقايته من المنكرات ووقايته من المنكرات مسئولية جميع الفئات: الصغار والكبار الذكور والإناث، الرعية والرعاة، فبالوقاية من المنكر تفتح أبواب الخير وتغلق أبواب الشر وتنتشر الفضيلة وتزول الرذيلة ويظهر الحق ويمحق الباطل، فالمنكر عامل هدم للأسر والجماعات وعامل إفساد للأمم والشعوب وعامل خسارة في الدنيا والآخرة، واسمه يدل على جسمه فهو كل ما قبحه الشرع فجعله قبيحًا في القول وقبيحًا في الفعل وقبيحًا في التعامل، وأهله من المقبوحين، وهو كل ما حرمه الشارع الحكيم فجعله ممنوعًا لما فيه من الضرر في النفس، والضرر في المال، والضرر في الأهل، والضرر في المجتمع، والضرر في الدنيا والآخرة.
وحتى نتقي هذا القبح ونسلم من هذا الضرر فإنه ينبغي أن نعالج المنكر بعدة أمور، منها :
بغض المنكر وكراهيته لأن الله أبغضه ونهى عنه وتوعد أهله بالعقوبة، وبغضه يكون بوقاية النفس منه حتى لا تقع فيه، وأما إذا وقع فيه فيكون بالندم على فعله واقتلاعه من جميع الجوارح والعزم على السلامة منه وسدُّ أبوابه.
ويعالج المنكر كذلك ببغض أهله الذين اتبعوا الأهواء والشهوات وضلوا بالشبهات، وتركوا أوامر الله ووقعوا في نواهي الله وتشبهوا بأعداء الله فبغضهم من عقيدتنا السمحة لأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله و((من أحب في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)).
ونعالجه أيضًا ببغض مجالسه لأنها مجالس غضب يوشك أن تنزل عليها العقوبة، ومجالس شيطان يعقد رايته فيها، ومجالس إفلاس وحسرة وندامة لخلوها من ذكر الله تعالى، وفي الحديث: ((من جلس مجلسًا لم يذكر الله فيه إلا كان عليه تِرة)) أي: حسرة وندامة يوم القيامة، وفي رواية: ((إلاّ تفرقوا من على مثل جيفة حمارٍ)) وقد نهانا الله تعالى أن نجلس في مجالس المنكر فقال عز وجل: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى ?لْكِتَـ?بِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءايَـ?تِ ?للَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مّثْلُهُمْ إِنَّ ?للَّهَ جَامِعُ ?لْمُنَـ?فِقِينَ وَ?لْكَـ?فِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، وقد وصف عباد الرحمن أنهم إذا مروا باللغو مروا كرامًا، وورد عند البخاري أن زيد بن أرقم سمع عبد الله بن أُبيّ في أحد مجالسه يقول: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل"، يقصد بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله عياذًا بالله من قوله، فقام من المجلس وأخبر عمه بذلك، وأخبر عمه رسول الله فنزلت الآية: يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى ?لْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ?لأَعَزُّ مِنْهَا ?لأَذَلَّ وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، فعلى المسلم أن يهجر مجالس المنكر ويهجر أهلها ويستبدلهم بمن هم خير منهم.
وقد أُرشد الذي قتل مائة نفس بهجر مجالسه وتغييرها بمجالس الصالحين فتاب الله عليه، وقد قال لقمان الحكيم لابنه: "يا بني إذا جئت إلى مجلس قومٍ فاسمع ما يقولون فإن كان خيرًا فاجلس، وإن كان غير ذلك فارحل".
ويعالج المنكر بإنكاره باليد لإزالته بالكلية ومنع الناس منه، وهذا للأمراء الذين يتولون أمر الرعية ولديهم السلطة، والأولياء وهم الآباء والأمهات والإخوان في منازلهم، ولهم ثواب التغيير وزوال المنكر، وعليهم إثم بقائه لأنهم رضوا به مع القدرة على إزالته.
وقد شرع الإسلام الأحكام الشرعية لبيان التغيير باليد فشرع وأمر بالقصاص لمن قتل عمدًا حتى تسْلم النفوس قال تعالى: وَلَكُمْ فِي ?لْقِصَاصِ حَيَو?ةٌ يأُولِي ?لألْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، وأمر بحد الزنا، على من انتهك عرضًا حتى تسْلم الأعراض، وأمر بحد السرقة على من سرق مالاً حتى تسْلم الأموال، وأمر بحد الخمر على من سكر حتى تسْلم العقول، ولو لم تُغير هذه المنكرات باليد لاستفحل الشر وانتشر الفساد.
ويعالج المنكر بإنكاره باللسان، وهذا للعلماء الذين تعلموا العلم وعرفوا الحق، وليس المراد بهم الراسخين في العلم فحسب، بل كل من تعلم علمًا فينكر به، وهذا يدل على أن مسؤولية طلاب العلم جسيمة، ويكون ذلك بالمواعظ والدروس التي يُذكّر بها الناس، فإن الله أمر بالتذكير فقال عز وجل: وَذَكّرْ فَإِنَّ ?لذّكْرَى? تَنفَعُ ?لْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].
والمواعظ للقلوب كالسياط للأبدان، تستيقظ بها وتتحرك بها وتسمع بها وتبصر بها، والعلم للقلوب كالغيث الذي يحييها وينبت فيها الإيمان فتسمع الحق وتعيه ثم تعمل به ثم تدعو إليه، وليعلم الدعاة أنهم بالدعوة أحسن الناس قولاً، وبها يكون من أهل الجمال والكمال والحسن والنضارة، وبها يكون من أكثر الناس أجرًا وبها يدوم عمله بعد موته فلا ينقطع، وبها يصلي عليه الرب تعالى وأهل سماواته وأهل أرضه، حتى النمل في جحرها والحيتان في بحرها.
ويكون الإنكار بإهداء الأشرطة النافعة التي تعالج عشرات المنكرات، وتبين الداء ثم تضع عليه الدواء، وقد نفع الله بالأشرطة كثيرًا من أهل المنكرات، فقد ورد أن امرأة كانت ترى ابنها يسمع الغناء ويقع في كثير من المنكرات وبذلت جهدها معه في دعوته وإصلاحه فأبى، فطلبت منه أمه أن يسافر بها إلى إحدى قريباتها، فوافق على شرط ألا تمنعه من الغناء فقالت: لك نصف الطريق تسمع فيه الغناء، ولي نصفه الآخر، فوافق على أن يبدأ هو فسافرت معه وهو يسمع الغناء وهي مشغولة بالذكر والدعاء.
فلما انتهى زمنه أعطته شريطًا من أشرطة الذكر يسمعه فلما سمعه استيقظ من غفلته وسمع كلامًا ما سمعه قبل ذلك فرقّ قلبه ودمعت عيناه وتاب على يد أمه وأصلحه الله وأصلح به، والسبب شريط، ولو أن كل واحدٍ منا أخذ كل أسبوع شريطًا بأربع ريالات وأهداه لأنكر به منكرات كثيرة، ودل به على طاعات كثيرة، ولنال بذلك أعظم الثواب.
ويكون الإنكار بدعوة أهل المنكر في أماكنهم فإن ذلك أجدى وأنفع، وقد مر شابٌ صالحٌ بشباب على رصيف يلهون ويلعبون، فلما رأوه سكتوا عن لهْوهم إلا واحدًا ضاق صدره به فلعنه، فما كأنه سمعها الشاب الصالح ونصحهم وبين لهم عواقب المنكرات ثم تركهم، وبعد زمن طويل لقيه رجل صالح فحياه وسلم عليه وقال: أتعرفني قال: لا، قال: أنا صاحب اللعنة هداني الله بموعظتك.
ويكون بإهداء الكتب النافعة أو المطويات القصيرة فإنها تحفظ الوقت وتغذي الروح وتطرد الشيطان وتوقظ القلب وتذكر بالرب وتحول دون الذنب، ويكون بالرسائل التي تصدر من القلب وتصل إلى القلب، وهي أرقّ في النصح وأصدق في العبارة، وأقوى في التأثير، وقد أرسل رسائله إلى الملوك والرؤساء فدعاهم إلى الله وأنكر ما هم عليه من الشرك.
ويعالج المنكر بالتذكير بعواقب المنكر فمن عواقبه: أنه تنكّر للعبودية فما كأنه عبدٌ لله والعبودية هي التي خُلق الإنسان من أجلها، وما سمي إلا بها، وهي حق الله تعالى عليه، وبها يتشبه بالملائكة، ويقتدي بالرسل ويتحرر من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، وهي الطريق إلى الجنة.
ومن عواقبه التنكر لنعم الله التي لا تعد ولا تحصى، وهي في السماء وفي الأرض وفي النفس، وهو بالمنكر كأنما ينكرها ويجحدها مع أنه لن يستطيع أن يؤدي شكر واحدة منها فكيف وهي بالمئات.
ومن عواقبه التنكر للآخرة إذ لا تخطر له على بال فما كأنه خلق إلا للدنيا ونسي أن من كانت الدنيا أكبر همّه شتت الله عليه شمله وفرّق أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله شمله ويسر أمره وجعل غناه في قلبه وجاءته الدنيا راغمةً، فأهل المنكر كأنما يُنكرون الآخرة بأعمالهم، ومن عواقبه أنه إثم عظيم تنكره الفطرة السليمة التي فطر الإنسان عليها، وهي فطرة التوحيد وفطرة الطاعة وفطرة الاستقامة على الطريق المستقيم وتنكره العقول السليمة التي تعقل الحق والصواب وتنعقل عن الباطل والعذاب، وينكره الكتاب الحكيم الذي يهدي إلى الطريق القويم ويأمر بالطاعة وينهى عن المعصية، وتنكره السنة التي ملئت بالأحاديث التي تنكر المنكر.
ومن عواقبه أنه نهى الله عنه ويجب أن ننتهي عنه وأن نقول سمعنا وانتهينا، لا أن نكون في جانب وهو في جانب بعيد فإن الله تعالى يقول: وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7]، ويقول : ((وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)).
ومن عواقبه أنه معصية من المعاصي التي توجب ظلام القلب وسواد الوجه وضعف البدن ومحق الرزق وبغض الخلق، تستوجب غضب الرب، وتقود صاحبها إلى الانحراف والميل عن الصراط المستقيم، وإلى الاقتداء بالشيطان الرجيم، وهي سبب في ضياع العمر وضياع العمل وضياع الجوارح والهلاك في الدنيا والآخرة.
ومن عواقبه أنه صفة من صفات المنافقين إذ أول ما تسعر النار بهم لكثرة منكراتهم، وهم العدو الحقيقي، قال تعالى: هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ [المنافقون:4]، وهم الملعونون الذين يستحقون اللعنة، قال تعالى: مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً [الأحزاب:61].
ومن عواقبه أنه سبب من أسباب العذاب في الدنيا قالت أم المؤمنين زينب بنت جحش: يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) أي: إذا كثر الفسق والفجور والمنكر، وأول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان ينكر المنكر ويقول: اتق الله ولا تفعل كذا ثم رضي بالمنكر فآكله وشرب معه ولم ينكر عليه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، وقال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لتأمرُنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)).
وفي بعض الآثار أن الله أمر جبريل أن يقلب قرية كذا على أهلها، فقال: إن فيهم عبدك فلانا! قال: به فابدأ فإن وجهه لم يتمعّر فيّ قط، أي: لم ينكر المنكر ولم يبغضه ويبغض أهله، وهو سبب من أسباب العذاب في الآخرة، ففي الحديث: ((يؤتي بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان، ما لك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟!)) الحديث.
ومن عواقبه تسلط الأعداء علينا لأن الله وعدنا بالنصر والتمكين إن أَمْرنا بالمعروف ونَهينا عن المنكر وهذا يدل على أن تركه حرمان من النصر ومن التمكين في الأرض وتسليط للأعداء، قال أبو الدرداء: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطنّ الله عليكم سلطانًا ظالمًا، لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم وتدعون فلا يستجاب لكم، تستنصرون فلا تنصرون، وتستغفرون فلا يغفر لكم).
وقال عمر: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام)، وقد ورد أن أحد ملوك النصارى أراد غزو المسلمين فقال أحد مستشاريه: لا تغزهم حتى أنظر، فلما نظر وجد المنكر يُنكَر، فقال: لا تستطيع، فلما تُرك المنكر غزاهم وانتصر عليهم.
ومن عواقبه فساد القلوب وظلمتها وقسوتها وانتكاستها وإعراضها وفساد الجوارح وتعطلها عن الخير وانشغالها بالشر وفساد الأولاد وخراب البيوت فيخسر الإنسان بالمنكر نفسه، ويخسر ولده وأهله، ألا ذلك هو الخسران المبين قال تعالى: قُلْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر:15].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه ثم توبوا إليه، إن ربي قريب مجيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونصلي ونسلم على سيد الأولين والآخرين، القدوة الأمين، وآله وصحبه المطهرين.
وبعد: اتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله سلوانكم في قبوركم، وأنيسكم في وحشاتكم، واعلموا أن المنكر كذلك يعالج بمعرفة فضائل إنكار المنكر إذ هو أمر الله، قال تعالى: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ?لْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، وهو وظيفة الرسل عليهم السلام، والجنة عن طريقهم والفلاح في الاقتداء بهم، وهو من علامات الإيمان، وَ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ [التوبة:71]، وأهله هم خير الناس قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110]، وهو من أنواع الصدقة، فنهيك عن المنكر صدقة.
ويعالج المنكر بإنكاره بالقلب، وهذه أضعف درجة، وليس بعدها إيمان، والإنكار بالقلب واجب على كل مسلم لا يعذر به أحد، ولا ينكر إلا القلب الصالح الذي بصلاحه يصلح الجسد بفساده يفسد الجسد، والإنكار بالقلب يدل على الإيمان وعلى حب الطاعة وبغض المعصية، ويمنع من قول المنكر ومن سماعه ومن النظر إليه ومن الجلوس في مجالسه يقول : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)). ويعالج بالإخلاص، ومن ذلك أن رجلاً علم شجرة تعبد من دون الله تعالى فذهب ليقطعها وأخذ فأسه وذهب إليها، وفي الطريق اعترضه الشيطان وأراد أن يثنيه فأبى حتى انتصر على الشيطان وصرعه بإخلاصه.
ويعالج المنكر بالعلم الذي يقتضي العلم بالمنكر والأدلة على تحريمه والتحذير منه، فإن العلم نور والمنكر ظلام، والعلم طريق إلى الجنة والمنكر طريق إلى النار، والعلم صحبة للملائكة والمنكر صحبة للشياطين، والعلم رحمة والمنكر عذاب، والعلم سكينة والمنكر انحراف، والعلم مغفرة للذنوب والمنكر زيادة في الذنوب، والعالم كالطبيب وصاحب المنكر كالمريض، فعلى الطبيب أن يعالج مريضه ويعالج المنكر بالرفق، فإن الرفق ما وجد في شيء إلا زانه ولا فقد من شيء إلا شانه، والله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، قال تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]. وقد أنكر على الأعرابي بوله في المسجد برفق، وأنكر على طالب الزنا برفق، فكانت الثمرة زوال المنكر واستقامة أهله.
ويعالج المنكر بالصبر والتحمل وعدم الانتصار للنفس، وهكذا كان فزال المنكر ودخل الناس في دين الله أفواجًا. فهلا عملنا على علاج المنكر لنؤدي الأمانة ونرضي الرب ونقتدي بالرسول ونحب للغير ما نحبه للنفس ونحرص على صلاح المجتمع ونأمن به من العذاب.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
(1/3846)
أهمية الإخلاص
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أهمية التوحيد
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
21/1/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرطا قبول الأعمال. 2- العلامة الفارقة بين المخلص لله في عمله وبين المرائي. 3- ثمار الإخلاص. 4- الوصية بالإخلاص في كل الأحوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنّ الإخلاص لله في القول والعمَل شرطٌ لقبول العمل، فالعمل لا يقبَل عند الله إلا إذا كان خالصًا لله يبتغِي به عاملُه وجهَ الله والدار الآخرة وكان هذا العملُ على وفقِ ما دلَّ عليه كتابُ الله وسنّة محمّد ، قال تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـ?لِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَ [الكهف:110]، وقال: وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ ?للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَيُؤْتُواْ ?لزَّكَو?ةَ وَذَلِكَ دِينُ ?لقَيّمَةِ [البينة:5].
أيّها المسلم، إنّ إخلاصَك لله في العمل دليل على قوّة الإيمان في قلبك، فإنّ المخلصَ لله في أعماله يدلّ [إخلاصه] على قوّة إيمانه وصدقِ يقينِه. إنّ الإخلاص لله في العمَل يدعو إلى مواصلةِ العمل والاستمرار والاستقامةِ عليه، أمّا المرائي في أعماله فإنّه سرعانَ ما يقطع أعمالَه وينحرف عن سلوكه الطيّب؛ لأنّ المرائي إنما يعمل لأجلِ الناس ولأجل ثنائهم عليه ومدحهم له ومعرفتهم لمكانتِه، ولكن إذا خلا بينه وبين الله فلا تجِده يعمل خيرًا ولا يقدّم خيرًا؛ لأنّ أعماله ليست لله، ولكنها لأجلِ الناس، وذاك شبّه بالمنافقين كما قال تعالى: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، فهم لا يعملون لله، لا يعملون لأجل الله، إنما يعملون لأجل أن يَرى الناس أعمالهم، إذا لم يرهم أحد فهم أكسلُ الناس عن الطاعة وأبعدُهم عن كلّ خير.
فيا أخي المسلم، أخلِص لله أعمالَك كلَّها لتكون من الفائزين في الدنيا والآخرة. إنّ البشرَ لا ينفعونك، وإن أثنوا عليك اليوم فلا ينفعونَك غدًا، الغايةُ أن يثنُوا عليك ثناءً ينقضي [بذهاب يومك]، ولكن المسلمَ يرجو ثناءَ الله عليه، ويرجو أن يثيبَه الله، ويرجو أن يحقّق الله له وعدَه الذي وعد به الصادقين المخلصين.
أيّها المسلمون، الإخلاصُ عزيز على النفوس إلاّ من أعانه الله على نفسِه وأيقن بأنه ملاقي الله ورجا ما عند الله من الثواب، فتراه مخلِصًا لله في أعماله، يعمَل العملَ لأجل الله، ويعمل العملَ ليرجوَ به ثواب الله. ومن رحمة الله على المؤمن أنّ أعماله تكون دائمًا ثوابًا له حتى الأعمال المباحَة وما فيه لذّةُ نفسه وراحتُها إذا قصد بها وجهَ الله، فإنّ الله يجعل كلَّ الأشياء له أعمالاً صالحة يجري له ثوابها بفضلِ الله ورحمته.
أيّها المسلم، فعليك أن تخلصَ لله في أقوالك وأعمالك كلِّها، اصدُقِ اللهَ في أعمالك، فإنّ الصدقَ نجاة، فَلَوْ صَدَقُواْ ?للَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ [محمد:21].
أيّها المسلم، أعظم شيءٍ توحيدُ الله وعبادته، فالمسلم يعبُد الله مخلصًا له الدّين، يعبد الله وحدَه لا شريك له، ينطِق بكلمةِ التوحيد: "لا إله إلا الله"، ينطق بها مخلِصًا لله فيها، موقنًا بذلك، مصدِّقًا ومنقادًا، لا يقولها رياءً ولا سمعة، لا يقولها مقالةَ من يخالف مقتضاها وما دلَّت عليه، وإنما يقولها قولَ من كان مصدِّقًا موقنًا بها حقًّا، ولهذا قال الله لنبيّه : فَ?عْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَ ?للَّهُ وَ?سْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ [محمد:19]، فاعلم أنه لا إله إلا الله، فالمسلم ينطِق بهذه الشهادة عن يقينٍ وصدق وإخلاص لله، يقول : ((فإنّ الله حرّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله)) [1] ، ولهذا من كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" دخل الجنة.
كم يقول المنافقون "لا إله إلا الله"، ولكنّهم يقولونها رياءً وسُمعة، قد فقِد الإخلاصُ من نفوسهم، فلا تنفعهم هذه الكلِمة ولا تفيدهم شيئًا، قد يقول "لا إله إلا الله" من يعبد غيرَ الله، ويلجأ لغيرِ الله، ويعكفُ على قبورِ الأموات، ويطوف بهم، لا تنفعه "لا إله إلا الله"؛ لأنه لم يعمَل بمقتضاها وما دلّت عليه من وجوبِ إخلاص الدين لله وإفرادِ الله بكلّ أنواع العِبادة.
أيّها المسلم، أخلِص لله توحيدَك لتكونَ من الناجين من عذاب الله.
أيّها المسلم، أخلِص لله سائرَ أعمالك لتكونَ مقبولةً عند ربّك جلّ وعلا.
وللإخلاصِ أثرٌ في الأعمال الصّالحة، فلا بدَّ للعمل من نيّة، إنما الأعمال بالنيات، ولا مدّعي للإخلاص، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فليس لك من عملك إلاّ عملاً أخلصتَه لله وقصدتَ به وجهَ الله والدار الآخرة، وأيُّ عمل صالح أردتَ به غيرَ ذلك فإنك تعذَّب به يومَ القيامة.
وقد بيَّن لنا نبيّنا حالَ الثلاثة الذين تسعَّر بهم النّار يومَ القيامة، ذكر منهم ثلاثة، هؤلاء الثلاثة أتَوا بأعمالٍ صالحة، لكنهم لم يريدوا بها وجهَ الله، فعذِّبوا بذلك يومَ القيامة، يقول : ((إنّ أوّلَ من يقضَى عليه يومَ القيامة رجلٌ استُشهِد في سبيل الله، فأتِيَ به فعرَّفه الله نِعمَه فعرفها، قال: ما عمِلتَ؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهِدتُ، قال: كذبتَ، ليقال: جريء، فقد قيل، ثم أمِر به فسحِب على وجه إلى النار. فيؤتَى بالمتعلّم وقارئ القرآن، فيوقف بين يدَيِ الله، فيعرِّفه نعمَه فيعرفها، فيقول: ماذا عملتَ؟ قال: تعلَّمت فيك العلمَ وعلَّمته وقرأتُ فيك القرآن، فيقال: كذبتَ، ليقال: عالمٌ، فقد قيل، وليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمِر به فسحِب على وجهه إلى النار. وآخر يؤتَى به قد أعطاه الله من أصنافِ الأموال، فيعرِّفه الله نعمَه فيعرِفها، يقول: ماذا عملت؟ يقول: يا ربّ، ما تركتُ سبيلاً تحِبّ أن ينفَقَ فيه إلاّ أنفقتُ فيه، فيقال: كذبتَ، ليقال: مصدّق، فقد قيل، ثم أمِر به فسحِب على وجهه إلى النار)) [2].
فليحذرِ المسلم من أن تكونَ أعماله حابطةً من حيث لا يشعر، قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِ?لأَخْسَرِينَ أَعْمَـ?لاً ?لَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. ولذا عبادُ الله المتّقون يخافون على أنفسِهم أن ترَدّ عليهم أعمالهم، يقول جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَ?لَّذِينَ هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى? رَبّهِمْ ر?جِعُونَ [المؤمنون:57-60]، يعملون الأعمالَ الصالحة ويتقِنونها ويخافون أن لا يُتقَبَّل منهم لخوفِهم على أعمالهم وحَذَرهم من الرياء وعلمهم أنّ الرياءَ إذا صحِب العملَ الصالح أبطله.
أيّها المسلمون، أخلِصوا لله أعمالَكم لتكونَ مقبولةً عند ربّكم، والإخلاصُ في كلّ أنواع العبادات، فمن ذلكم الصلاة، فلا بدّ من إخلاصٍ لله فيها، وقد بيَّن صفةَ الرّياء: ((يقوم الرّجل فيصلِّي فيزيّن صلاته لأجلِ نظر رجلٍ إليه)) [3] ، وهذا من الرياءِ الذي إذا قارنَ العملَ الصالح أحبطه، ولذا أمرنا بالإخلاصِ لله في الصّلاة، ففي حديثِ الوضوء قولُه : ((ما مِن مسلمٍ يتوضّأ نحو وضوئي هذا ثم يصلّي ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسَه إلاّ غفر الله له ما تقدّم من ذنبه)) [4] ؛ لأنه أخلصَ لله في صلاته، فلم يحدّث نفسه بأحاديثِ الدنيا، بل أقبل على صلاته بقلبه. وفي السجود يقول : ((ما مِن مسلمٍ يسجد لله سجدةً إلا رفعَه الله بها درجةً وحطَّ عنه بها خطيئة)) [5].
أيّها المسلم، أخلِص لله في أعمالك الصّالحة، بناءُ المسجدِ عملٌ صالح، من بناه لله بنى الله له بيتًا في الجنة، ومن بناه رياءً وسمعة ليبقى اسمُه ويخلَّد ذكره فليس له إلاّ ما نوى من ذلك، يقول : ((من بنى لله مسجدًا بنى الله له مثله في الجنة)) [6]. ((من بنى لله)) دلّ على أن البناءَ إنما قصِد به وجهُ الله، ولم يقصَد به أمرٌ من الأمور.
أيّها المسلم، أخلِص لله في إتيانك إلى المسجد، فإنّ إتيانَ المسجد لأداء صلاة الجماعة عبادة لله، فمن أتاها مخلِصًا لله نال الثوابَ العظيم، يقول : ((صلاةُ الرجل في الجماعة تفضُل على صلاته في بيته خمسًا وعشرين درجة، وذلك أنّه إذا توضّأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلاّ الصلاة لا ينهزه إلاّ الصلاة..)) [7] ، دلّ ذلك على أنّ هذا الثوابَ مرتَّب على من أتى المسجدَ مخلِصًا لله في إتيانه.
أيّها المسلم، أخلِص لله حبَّك لإخوانك المسلمين، فلتَكُن محبّتك لله وفي سبيل الله، فتلك المحبّة الصادقة الباقية، ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وفي حديث السبعة الذين يظلُّهم الله تحت ظلِّ عرشه يومَ لا ظل إلا ظلّه: ((رجلان تحابّا في الله، اجتمعا على ذلك ثمّ افترقا عليه)) [8] ، فالمحبّة إنما هي في الله ولأجلِ الله. ((زار رجلٌ أخًا له في الله، فأرصَد الله في مدرجته ملكًا يسأله: لماذا زرتَه؟ هل له نعمةٌ تَربُّها؟ قال: لا، إنما زرته لأجلِ الله، قال: إني رسولُ ربي إليك أنّ الله يحبّك)) [9].
أيها المسلم، أخلِص لله صدقتَك، ولتكن صدقاتُك لله، لا تبتغي بها رياءً ولا سمعة، اسمع الله يقول: وَيُطْعِمُونَ ?لطَّعَامَ عَلَى? حُبّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ?للَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا [الإنسان:8، 9].
أخلِص لله إخراجَ الزكاة، أتَى رجل النبيَّ يسأله عن أركان الإسلام، فبيَّن له الصلواتِ الخمس، قال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا، إلاّ أن تطّوَّع)) ، وذكر له الزكاةَ والصيام فقال: هل عليّ غيرها؟ قال: ((لا، إلاّ أن تطّوّع)) ، فلما ولّى قال: والذي بعثك بالحقّ، لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال : ((أفلَح وأبيه إن صدَق)) ، أو ((دخل الجنّة إن صدق)) [10]. فالصّدق والإخلاص نفعَه مع اقتصاره فقط على الواجبات.
أيّها المسلم، النيّة أيضًا في الصيام لها أثرُها، يقول : ((من صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدَّم من ذنبه)) [11] ، ((إيمانًا واحتسابًا)) : إخلاصًا وطلبَ الثواب من الله. وفي ليلة القدر: ((من قامَها إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدّم من ذنبه)) [12].
أيّها المسلم، إذا حلّت بك مصيبةٌ فاحتسِب واصبر صبرًا تريد به وجهَ الله، فإنّ ذلك هو الذي ينفعك، يقول عن ربِّه أنه قال: ((ما جزاءُ عبدي المسلم إذا قبضتُ صفيَّه من الدنيا فصبَرَ إلاّ الجنة)) [13] ، صبر على قضاءِ الله مخلِصًا لله في ذلك.
أيّها المسلم، إنّ تناولك الملذّات والمباحات ومُتَع النفس يعطيك الله بها ثوابًا مع إخلاصك لله في ذلك، يقول : ((وفي بُضع أحدكم صدقة)) ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجر؟! قال: ((أرأيتُم لو وضعها في الحرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر)) [14] ، فبيَّن أن إتيانَ الرجل امرأتَه وقضاءَه وطرَه إذا أرادَ به عفّةَ نفسه وعفةَ امرأتِه وغضَّ بصره وبصرِ امرأته أنّ الله جل وعلا يثيبه على هذا العمل ولو كان فيه متعةٌ للنفوس، إذا قصد بذلك وجهَ الله جمع الله له بين التنعُّم في الدنيا والثوابِ في الآخرة، والله ذو الفضل العظيم.
أيّها المسلم، اتّباع الجنازة والصلاةُ عليها والمشي معها حتى تدفَن عملٌ صالح وخيرٌ يتقرَّب به العبدُ إلى الله، ولكن قد يكون اتباع الجنازة والصلاةُ عليها والسّعي معها حتى تدفَن يرادُ به مجاملةُ الإخوان وإكرامُ الأصحاب، وليس يراد به وجه الله، فلك من نيّتك ما قصدتَ، وإن أردت بذلك ابتغاءَ وجه الله وما تتقرّب به إلى الله فأبشر بالثوابِ العظيم، يقول : ((من تبِع الجنازةَ إيمانًا واحتسابًا حتى يصلَّى عليها وتدفَن فله [قيراطان])) [15] ، فجعل الصلاةَ والاتّباع إذا كان بنيّة واحتساب له قيراطان، وإن صلّى عليها فقط فله قيراط، هذا إن قصد بهذا العملِ وجهَ الله والدار الآخرة، عرف ذلك الميّتَ أو لم يعرفه، وأمّا إن قصد به المجاملةَ والاعتبارات الأخرى فإنّ له من أعمالِه ما قصَد.
أيّها المسلم، برُّ الوالدين عملٌ صالح، ولكن قد يبرّ أبويه مجاملةً وحياءً من الناس، وقد يبرّ بالأبوين طاعةً لله وابتغاءً لثوابه، فالثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرةُ حتى لم يستطيعوا أن يخرجوا توسّلوا إلى الله بصالح أعمالهم، فكان منهم من قال: ((اللهمّ كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنتُ لا أغبق قبلهما أهلاً ولا ومالاً، فنأى بي طلبُ الشجر، فلم آتيهما حتى ناما، فحلبتُ غبوقهما، وجلست أنتظرهما حتى برقَ الفجر والصِّبية يتضاغَون تحتي، فما قدّمتُ عليهما أحدًا حتى قامَا فشربا. اللهمّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرُج عنا ما نحن فيه، فانفرَجت الصخرة شيئًا)). المهمّ أن تبرَّ الوالدين، لمَّا برَّهما ابتغاءَ وجهِ الله صار ذلك تفريجًا لهمِّه وإزالةً للغمّ، كلّ ذلك بفضل الإخلاص.
أداؤك الحقوقَ لأهلها بالإخلاص يجعله الله سببًا لنجاتك من المكارِه، ففي قصّة الثلاثة: ((ورجل قال: اللهمّ استأجرتُ أجراءَ فأعطيتهم كلَّهم أجرَهم إلا واحد، ترك الذي عليه وذهب، فثمّرتُه له حتى جاءَ فقال: يا عبد الله، أعطني حقّي، فقلت: ما ترى من رقيقٍ وإبل وبقر وغنَم فهو لك، قال: أتستهزئ بي؟ قلت: لا، فأخذَ الكلَّ ولم يعطِني شيئًا. اللهمّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرج عنّا، ففرّج الله عنهم جزءًا من ذلك)).
أيّها المسلم، كفُّك عن محارم الله إخلاصًا لله ينجِّيك الله به، ففي حديث الثلاثةِ قال أحدهم: ((كان لي ابنةُ عمّ كنتُ أحبّها أعظمَ ما يحبّ الرجال النساء، وراودتها عن نفسِها فأبت حتى ألمّت بها سنة، فأتتني وأعطيتُها عشرينَ دينارًا على أن تخلّيَ بيني وبين نفسِها، فلمّا تمكّنتُ منها قالت: اتّقِ الله ولا تفضَّ الخاتم إلا بحقِّه، فقمتُ عنها وتركتُ الدنانير لها. اللهمّ إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرَجت الصخرة وخرجوا يمشون)) [16]. هذه أعمالٌ صالحة أخلصوها لله، فنفعتهم يومَ الحاجة إليها.
أيّها المسلم، أخلص لله في أقوالك وأفعالك، أخلِص لله مرادَك في القول والعمل، فإنّ الله مطَّلع عليك وعالمٌ بالسرائر والضمائر، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19]، وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَ?حْذَرُوهُ [البقرة:235].
أسأل الله لي ولكم عملاً صالحًا خالصًا، إنّه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصلاة (425)، ومسلم في المساجد (33) عن عتبان بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الإمارة (1905) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] رواه أحمد (3/30)، وابن ماجه في الزهد (2404)، وابن عدي في الكامل (3/174)، والبيهقي في الشعب (5/334) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحوه، وصححه الحاكم (7936)، وحسن إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/237)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (30).
[4] أخرجه البخاري في الوضوء (160، 164)، ومسلم في الطهارة (226) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] رواه مسلم في الصلاة (488) عن ثوبان وأبي الدرداء رضي الله عنهما نحوه.
[6] أخرجه البخاري في الصلاة (450)، ومسلم في المساجد (533) عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في البيوع (2119)، ومسلم في المساجد (649) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه البخاري في الزكاة (1423)، ومسلم في الزكاة (1031) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه مسلم في البر (2567) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[10] أخرجه البخاري في الصوم (1891)، ومسلم في الإيمان (11) عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
[11] أخرجه البخاري في الإيمان (38)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] أخرجه البخاري في الصوم (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين (760) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[13] أخرجه البخاري في الرقاق (6424) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[14] أخرجه مسلم في الزكاة (1006) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[15] أخرجه البخاري في الإيمان (47)، ومسلم في الجنائز (945) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[16] قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة الخالصة أخرجها البخاري في الأدب (5974)، ومسلم في الذكر (2743) عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الناس، إنّ الإخلاصَ في القول والعمل فضلٌ من الله يتفضّل به على من يشاء من عبادِه، فهذا الإخلاصُ يقوّي الإيمان، وهذا الإخلاص يجعَل العمل مستمِرًّا، وهذا الإخلاصُ يجعل العبدَ صادقًا، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119].
كم يرى الناسُ من مجاملاتٍ في محبّتهم وتعاملهم، ولكنها على غير الله، فلأدنى سببٍ تنخرِم تلك المودّةُ وتنقصِم تلك العرى، يحبُّك ويظهِر لك المحبةَ والمودة، ولكن عند أيّ نزاعٍ يظهر البغضُ والعداوة، وتتحوّل الصداقة والمحبة إلى قطيعةٍ وبَغضاء.
يصِل رحمَه ولكنه يريد الثناءَ والمدح، فلا يصِل إلا من يخاف من لسانِه، وأمّا من لا يخاف منه فلا يبالي به رحمًا قربت أم بعُدت؛ لأنّه لم يصِلهم لله ولأجل الله، ولكن إمّا رجاءَ مدحهِم أو خوفًا منهم فقط، لا أقلّ ولا أكثر، فمن يرجو ثناءَه ويخاف ذمَّه تراه يصِله ويدنيه ويقول: أنتَ رحمي وقريبي أمرني الله بصِلتك، وإن رآه حيِيًّا لا يقول سوءًا ولا يخشى من ذمِّه ولا يرجو مدحَه فإنه لا يبالي به.
يتصدَّق إذا رأى الناسَ يثنون عليه، ويمسِك إن لم يُثنوا عليه، كلّ مواقفه وأعماله لا يريد بها وجهَ الله، إنما يريد بها ثوابَ الدنيا، مَّن كَانَ يُرِيدُ ?لْعَـ?جِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ [الإسراء:18]، فمن كان يريد الله والدارَ الآخرة نال الثوابَ العظيم، مَن كَانَ يُرِيدُ ?لْحَيَو?ةَ ?لدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ [هود:15].
ترى هذا الموظَّف في إدارتِه إن راجعَه ذو قولٍ قويّ ولسان ذرِب أنجز معامَلته، وإن راجعه الضعيفُ ومن لا جاهَ له عطّل معاملته وأهملَها ولا كأنّ شيئًا [كان]، لا يدفعه للعمَل إخلاصٌ ولا رجاءُ ثوابِ الله، وإنما يدفعه الرياءُ ومحبّة الثناء والقول فيه والثناء عليه وتمجيدُه، وإلا فلولا ذلك لم يقدِّم خيرًا ولم يعمَل خيرًا، معاملةُ الناس تبقى شهرًا أو شهرين، لماذا؟ لأنّ صاحبَها ضعيف لا لسانَ له ينطِق به بيانًا ولا جاهَ ولا سلطانَ ولا مقال، فلذلك لا يبالي به، وإنسان ربّما ينجِز معاملته في الساعةِ والساعتين، لماذا؟ لأنّ الإخلاصَ مفقودٌ من نفس ذلك الموظّف، مفقودٌ الإخلاصُ منه، يعامِل الناسَ على قدر مصالحه الخاصّة، لا على قدر مصالحِ الناس، هذا مستحقّ أن يُرفعَ ويُقدَّر، وهذا لا يستحقّ، فيقدِّم من لا أداءَ له ولا عملَ عنده لأجل أن يرجوَ به مصلحةً دنيويّة حاضِرة، ويؤخِّر من يستحقّ التقديمَ لأنّه لا يرجو منه مصلحةً حاضرة.
فالإخلاص لله في كلِّ الأحوال مطلوبٌ من المسلمين، في تعاملهم فيما بينهم وبين ربهم، وفي أهليهم، وفي أنفسهم، وفي تعاملهم مع الآخرين، يقول لسعد بن أبي وقّاص: ((إنك لن تنفقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلاّ أجِرت عليها حتى ما تضَع في في امرأتك)) [1] ، فإنفاقُك على زوجتِك وإنفاقك على أولادِك إذا ابتغيتَ به وجهَ الله مع أنه أداءٌ للواجب فإنّ الله يثيبك على هذا العمل.
إنجازك لأعمالِ المراجعين وأداءُ حقوقهم وعدَم المماطلة إذا قصدتَ بها وجهَ الله أثابك الله عليها.
فكن ـ يا أخي ـ مخلِصًا لله في تعاملك، ومخلصًا في أداءِ واجباتك، فإنّ الإخلاص عزيزٌ على النفوس إلاّ من عصمه الله ووفّقه الله وأعانه، فالمخلِص يضع الله له المحبّة والقبول؛ لأنه أخلصَ لله، فيضع له المحبةَ في قلوب الناس، والمرائي وإن انتفَع بالرياء يومًا فلا بدّ أن ينكشِفَ أمره ويعلَمَ الناس حاله. أعاذني الله وإياكم من حالة السوء.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِيّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الرّاشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمِك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه نحوه.
(1/3847)
الحثّ على إشاعة النكاح
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
6/2/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم. 2- الوصية بتيسير الزواج وتسهيله. 3- وصايا عامة لمن أراد الزواج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم: المجاهد في سبيل الله، المكاتَب يريد الأداءَ، المتزوِّج يريد العفاف)) [1].
أيّها الإخوة، أخبرنا رسول الله عن هؤلاء الثلاثة أنَّ الله قد تكفَّل بإعالَتهم وتسهيل مهمَّتِهم وإخلافِ ما أنفقوه بخير وأنّ ما أنفقوا في هذا السبيل فنفقة مخلوفة وعمل صالح.
فالمجاهدُ في سبيل الله حقٌّ على الله عونُه، جاهَد بنفسِه، أو جاهد بلسانِه وقلمِه، أو جاهد بمالِه فأنفقَ مالَه في سبيل الخير، في نصرةِ دين الله، وفيما يقرّب إلى الله، فالله يعينه ويوفّقه ويخلِف عليه ما أنفقه بخير، وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ?لرَّازِقِينَ [سبأ:39]؛ لأنها نفقةٌ في سبيل الله وفيما يقرِّب إلى الله، فتلك نفقةٌ مخلوفةٌ على صاحبِها، مبارَكٌ له فيها، بل كلّ النّفقاتِ التي في سبيلِ الله وما أوجَبَه الله على المسلِم فإنّ العبدَ يُعان على ذلك، ويخلف الله عليه ما أنفَق بخير، وفي الحديثِ: ((إنّك لن تنفِقَ نفقةً تبتغِي بها وجهَ الله إلاّ أُجِرتَ عليها، حتى ما تضَع في في امرأتك)) [2].
المكاتب يريد الأداءَ، ذلكُم الذي يريد أن يشتريَ نفسَه من سيّده ليعيشَ حرًّا، فإنّ الله يعينه على ذلك إذ حرّيّتُه تعينه على مصالحِ دينه ودنياه، وقد أمر الله بتسهيلِ أمرِ المكاتب بقوله: فَكَـ?تِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا [النور:33]، وأمر أن يعطَوا من حقّ الله: وَءاتُوهُمْ مّن مَّالِ ?للَّهِ ?لَّذِى ءاتَـ?كُمْ [النور:33]، وكلّ هذا من طرقِ الإسلام في تحرير الأرقّاء؛ لأنّ الرقَّ في الإسلام جاءَ لأمرٍ عارض، ألا وهو الكفر، وجاء تسهيل مهمّة إعتاق الرّقاب والحثّ على ذلك وإعطائهم من الزكاة: وَفِي ?لرّقَابِ [البقرة:177]، قال العلماء: هم المكاتبون.
وثالث أولئك الثّلاثة الناكح يريد العفافَ، الذي تزوّج يريد أن يعفَّ نفسَه، يريد أن يغضَّ بصرَه، يريد أن يحصِّن فرجَه، يريد سكونَ نفسه، طمأنينة قلبه، يريد حصولَ الولَد، يريد عمارَ البيت، يريد الإنفاقَ على الزوجة والتعاونَ معها على الخير، يريد بزواجه طاعةَ الله والاقتداء بأنبيائه المرسلين، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرّيَّةً [الرعد:38]، يريد أن يتعاونَ مع امرأته على البرّ والتقوى، يريد حفظَ بني الإنسان، فإنّ هذا الزواج الشرعيَّ يعين الله صاحبَه، حقٌّ على الله أن يعينَه ويوفّقه ويسدّده، ولكن لهذه الإعانةِ أسبابٌ ينبغي للمسلم أن يسلكَها، فأوّل ذلك تقوَى الله في سرِّه وعلانيتِه، والعفّة عمّا حرّم الله عليه، فمن عفّ عن محارم الله سهّل الله له زواجَ الحلال وأعانه على ذلك، قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى? يُغْنِيَهُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33]، فمن عفّ عن محارمِ الله والتجأ إلى الله وتعلّق باللهِ وعلم الله منه ذلك فإنّ الله جل وعلا قد تكفّل بإعانته، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3].
أخي المسلم، قد تقول: إنّ تكاليفَ الزواج شديدة، وإنّ تكاليفَه مثقِلة لكاهلِ المسلم، لا سيّما الشابّ ضعيف الموارد، فينظر إلى الزواج بأنّه عقبةٌ كؤود، لا يستطيع اجتيازها، ماذا يعمل؟
نقول: نعم، إنها عقبةٌ، وإنها كأداء، ولكن سيُيسِّرها من إذا قال للشيء: كن فيكون، سيعينك القادرُ على كلّ شيء، سيفتح لك أبوابَ الخير، فما عليك إلا الصّبر، وما عليك إلاّ العفّة عن محارم الله، وما عليك إلاّ أن تأخذَ بالأسباب النافعة، فلا تكون عالةً على غيرك، ولا كلاًّ على الناس، ابذل السّببَ، اعمَل واكدَح وخذ بكلّ سببٍ شرعيّ أذِن الله فيه، فإذا أخذتَ بالأسباب واتّقيتَ ما حرّم الله عليك فإنّ أمرك سيكون يسيرًا؛ لأنّ الصادقَ المصدوق أخبرنا عن ربّنا بقوله: ((ثلاثة حقّ على الله عونهم))، حقّ أوجبه الله على نفسِه، فهو جلّ وعلا أصدق القائلين، ووعدُه حقّ ولن يخلِف ميعاده، ولكن على المسلم أن يأخذَ بالأسباب، ثم إذا أخَذ بالأسباب مِن كدحٍ وبذل للجهد وعفّةٍ عن محارم الله والتجاءٍ إلى الله واستعانة به في كلّ الأمور، قال تعالى: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:32]. هذا وعدٌ للمتزوّج أنه لو تزوّج في حال فقرِه فإنّ الله سيفتح له الأسبابَ من أبواب الرّزق وأسبابِ الخير ما لا يعمله إلا الله، لكن على المسلِم أن يحتسِب، عليه أن يصبِر ويأخذَ بالأسباب ويتّقيَ محارم الله.
ثمّ على المجتمع جميعًا تقوَى الله في هذه الأمور، تقوَى الله في هذه المهمّات، وأن يعينوا الشبابَ على الزواج، وأن يسهّلوا المهمّة، ولا يثقِلوا كاهل الزوجِ بما لا يستطيع، على الجميعِ أن يكونوا أعوانًا على إفشاءِ هذه المهمّة وإشاعتها وتسهيلِ مهمّتها، علينا التعاونُ على البرّ والتقوى، علينا أن لا نفتحَ للسفهاء بابَ السّرف والتبذير، علينا أن نأخذَ على أيدي السفهاء من نساءٍ وصبيان، علينا أن نسهّل المهمّة، علينا أن لا نقفَ عند التقاليد التي لا خيرَ فيها، علينا أن نجاوِزَ هذه التقاليدَ والترَّهاتِ التي تثقِل كواهلَ شبابنا، والتي تسبِّب عنوسَ فتياتنا، فعلينا التعاونُ جميعًا، فإنَّ هذه مسؤولية الأمّة جميعًا، أن يكونوا أعوانًا على البرِّ والتقوى، متناصحين فيما بينهم، متعاونين فيما بينهم.
إنّ إشاعةَ الزواج بين شبابنا أمرٌ يحبّه الله ويرضاه، ففيه غضّ البصرِ وتحصين الفرج وحصول الوَلَد وقلّة الجرائم وعِفّة المجتمع، فمتى شاعَ الزواج في المجتمع دلّ على خيريّة الأمّة وسعادتها، ولكن إذا وقف أمامَ الشباب تلك العقباتُ الكؤود، بمهرٍ غالٍ مرتفع، وولائم متجاوزةٍ للحدود، وتكاليفَ وأمور خطِيرة لا شكّ أن كثيرًا منها لا داعيَ له ولا مبرّر له ولا يُرتجى منه فائدة، إنما هي مجاراةٌ للآخرين، وكلٌّ يحبّ أن يثبتَ وجودَه، وأن يكونَ مظهرُ زواجه أكثرَ من مظهر غيره، تلك المجاراةُ لا خيرَ فيها ولا فائدةَ منها. فعلى المجتمع جميعًا تقوَى الله والتعاونُ على البرّ والتقوى.
نعم، لا بدّ للزواج من مهر، لا بدّ فيه من وليمة، لا بدّ ولا بدّ، ولكن على الجميع تقوَى الله وتسهيلُ المهمّة وتذليل الصعاب، وليتقرّب المسلم إلى الله بما يبذله من عدَم التشدّد في المهر وعدَم التكليف في الولائم، وأن يكونَ الأمر مقتصِرًا على ما يكون به الإعلامُ الشرعيّ، بعيدًا عن المظاهر التي يقلّد الناسُ بعضهم بعضًا فيها، فعلى كلّ من له قدرةٌ ويقتدَى به في الأمور أن يكونَ قدوةً صالحة لغيرِه، وأسوةً يُتأسَّى به في الخير، فكثيرٌ مِن هذه التّكلفاتِ وكثير من هذه الأمورِ لا مبرِّر لها، لا داعيَ لها، لكنّها عقبةٌ أمام زواجِ الشباب، وأمام زواج الفتَيَات، تبقى الفتياتُ عانساتٍ في البيوت، ويبقى الشباب عاجزين عن الزواج، وربما استعمَل الذهابَ هنا وهناك لقضاءِ وطرِه بما لا خيرَ فيه، وتلك جريمةٌ يتحمّل إثمَها المجتمع بأسرِه.
فعلى الجميع تقوَى الله في أنفسهم، والتعاونُ على البر والتقوى، وتذليل تلك العقبات. أسأل الله للجميع العونَ والتوفيق، إنه على كل شيء قدير.
[1] سنن الترمذي: كتاب فضائل الجهاد (1655)، وأخرجه أحمد (2/251، 437)، والنسائي في الجهاد (3120)، وابن ماجه في الأحكام (2518)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: يا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيها الشابّ المسلم، إذا أردتَ الزواج فاتّق الله، واستعِن بربك في كلّ مهمّاتك، فإنّ الله قريبٌ يجيب دعوةَ المضطرّ إذا دعاه. إيّاك والديونَ الباهظة، إيّاك وأن تستدينَ ديونًا لا تستطيع وفاءَها وتعجز عن وفائها، وتبقى أسيرًا لدى أولئك.
إنّ بعضَ شبابنا ربما يستدِين دينًا يثقِل كاهلَه ويعجِزه، فيعيش عمرَه همًّا وغمًّا.
استدِن قدرَ استطاعتك، وعلى قدر ما تعلَم أنك تقضيه، استدِن على قدر ما تعلَم أن بإمكانك قضاءَه، دينًا لا يثقل كاهلَك وتقضى به مهمّتك.
وعلى أهلِ الزوجة إذا علِموا منَ الزوج كذلك أن لا يزيدوا على حملِه حِملاً، وأن لا يثقِلوه على ديونه بديون أخرى، وأن يسهِّلوا المهمّةَ ويهوّنوها ويحلّوا كثيرًا من الأمور ويجتنبوا كثيرًا من المظاهر التي لو تفكّرنا فيها حقًّا لعلِمنا أنها عقبات، وأنه لا فائدةَ منها ولا خير في كثيرٍ منها، إسرافٌ في الولائم، إسراف في الملابس، إسرافٌ في الحلِيّ إلى غير ذلك.
على الجميع تقوَى الله في أنفسِهم، وعليهم أن ييسّروا هذا الأمر، وأن يستعينوا بالله، ويتقرّبوا إلى الله بهذا العمل الصالح، فعسى الله أن يعمَّ الجميعَ بفضلِه ورحمته، إنّه على كلّ شيء قدير.
وعليك ـ أيّها الشابّ المسلم ـ أن تستعينَ بالله في كلّ مهمّاتك، فلا يسيرَ إلا ما يسّره الله لك، فاستعِن بربّك، واسأله التوفيقَ، واصدق في نيّتك، وعفّ عن محارم الله، فوعدُ الله حقّ وآتٍ لا شكّ فيه، والله لا يخلف الميعاد.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/3848)
صفات المتّقين
الإيمان
خصال الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/2/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة التقوى. 2- مستلزمات التقوى وآثارها. 3- فوائد التقوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله, كلمة التقوى كلمةٌ من جوامع الكلِم، فهي مشتمِلة على كلّ خير، فهي أصلُ كلِّ خير وأساسُه. وحقيقة تقوى الله ـ كما فسّرها الصحابة ـ أن يُطاع الله فلا يعصَى, وأن يذكَر فلا يُنسى، وأن يشكَر فلا يكفَر. فمن أطاع اللهَ جل وعلا ولم يعصِه وأدام شكرَه وذكرَه دائمًا فهو المتّقي لله.
قال فيها بعضُ السلف: "حقيقةُ التقوى أن تعملَ بطاعة الله، على نورٍ من الله، ترجو بذلك ثوابَ الله, وأن تتركَ معصيةَ الله، على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله".
فهذه حقيقةُ التقوى, تعمل بطاعة ربِّك على نورٍ وبصيرة, ترجو بهذا التقوى الثوابَ من الله, وتترك معاصيَ الله على بيّنة وبصيرةٍ تخاف بذلك من عقابِ الله، فتلك حقيقةُ التقوى, فليس التقوَى بالتحلِّي ولا بالتمني، ولكن ما وقرَ في القلوب وصدَّقه العمل.
أيها المسلمون, تقوَى الله جلّ وعلا في كلّ شعائر الإسلام, فأوّل ذلك تقوَى الله في إخلاصِ الدين له وعبادتِه وحدَه لا شريك له, وأن لا تشركَ معه غيرَه في كلّ العبادات, فتوحِّده بأفعالك من دعاءٍ واستغاثة واستعانة ورجاءٍ وخوف وتوكّل على الله ورغبةٍ فيما عند الله ورهبة مما عنده.
فالموحِّدون لله قد اتَّقوا الله حقَّ التقوى، حيث أخلَصوا لله دعاءَهم فعظُم الله في نفوسهم، فلم يصرِفوا العبادةَ لغيره. والمشركون بالله ليسوا بأتقياءَ لله؛ لأنهم أشرَكوا مع الله غيرَه، فعبدوا غيرَ الله، وألَّهت قلوبهم غيرَ الله.
المتَّقي لله حافَظَ على الصلواتِ الخمس بشروطها وأركانها وواجباتها، وكمّل ذلك بالمحافظةِ على سُننها ومستحبّاتها طاعةً لله جلّ وعلا.
المتّقي لله نفّذ أركانَ الإسلام، فأدّى الزكاة، وصامَ رمضان، وحجَّ بيت الله الحرام.
المتَّقي لله تمثّلت تقواه في برِّه بأبوَيه وإحسانه إليهما وقيامِه بحقّهما طاعةً لله، يرجو ما عند الله مِن الثواب.
المتّقي لله ربَّى أولادَه من بنينَ وبنات تربيةً صالحة وتنشِئة خيّرة، متّقٍ لله مؤدٍّ الأمانةَ التي ائتمنه الله عليها، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
المتَّقي لله عرف للرّحِم حقَّه، فوصل رحمَه ابتغاءَ وجه الله وطلَبَ ثوابِ الله، وإن قطعت رحمُه فهو واصلٌ لها لعلمِه أنّ الله يحبّ الواصلين، ويحبّ من وصَل رحمه، ويثني على ذلك.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى في تعامُله مع الآخرين، فالصّدق والأمانة والوضوحُ في كلّ المعاملات، فلا غشَّ ولا خيانةَ ولا خدِيعة ولا ضرَر يلحق بالآخرين، بل تقوَى الله تصحَبه في تعامله، فتعامُله مع الآخرين تعاملُ الصادقِ الأمين المؤدّي ما عليه الناصحِ لإخوانه.
المتّقي لله ظهرت آثار تقواه فيما اؤتُمِن عليه من الأمانات، فأدّى الأمانات إلى أهلِها مسارعًا مبتعِدًا عن الخيانة، إذا اؤتُمن على الوصايا نفَّذها، وعلى الأوقافِ نفذها وأبرأ ذمَّته وخلّص نفسَه من عذاب الله.
المتّقي لله أثرُ التقوى ظهَرت عليه في تعامُله مع أهلِه مع زوجتِه، في صدقٍ وأداءٍ للحقوق ومعاشرةٍ بالمعروف، كلٌّ من الذكر والأنثى يظهَر أثرُ التقوى عليهم في تعاملهم.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى عليه في عفّة لسانه وسلامتِه، فلا تراه فاحشًا بذيًّا، ولا شاتمًا لعباد الله، ولا راميًا لهم بالعظائمِ والآثام، بل هو يتّقي الله فيما يقول لعِلمه أنّ أقواله محصاةٌ عليه، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، فلا يقول إثمًا، ولا يشهَد زورًا، ولا يحلِف كذبًا، بل هو مبتعِدٌ عن هذا كلّه؛ لأنّ تقوى الله تحجبه عن الانجراف في هذه الرذائل.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى عليه فيما عُهِد إليه من عملٍ وما ألقِي إليه من مسؤوليةٍ، فهو متَّق لله في أعماله، مؤدٍّ لذلك العملِ بإخلاصٍ وصدق، يعلم أنّ المراقبَ عليه ربُّ العالمين، ?لَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي ?لسَّـ?جِدِينَ [الشعراء:218، 219]، فهو مؤدٍّ لعمَله وقتًا وأداء على حسَب ما يستطيع، وعلى حسَب ما يؤّدي به المسؤوليةَ التي ائتمنه الله عليها، فهو حريصٌ على أدائها تقوًى لله جلّ وعلا.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى عليه في استقامتِه في طاعة الله، فلا تراه اليومَ محافظًا على الطاعةِ وغدًا منحرفًا عنها، لا تراه اليومَ يطلب الحلالَ وغدًا يطلبَ الحرام، بل هو على طريقٍ مستقيم ومنهَج قويم، وَ?سْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ [الشورى:15].
المتّقي لله حقًّا ظهرت آثارُ هذا التقوى عليه في مكاسبِه، فهو بعيدٌ عن المكاسب الخبيثة، بعيدٌ عن المكاسب المحرّمة، مهما أغرَته تلك المكاسبُ بكثرةِ ثروتها فهو يخاف الله ويراقِب الله، يبتغي مكسبَ الحلال، ويحرص على الطيّب من المال، ويبتعِد عن الخبيث مهما وجَد لذلك سبيلاً، فلا تغريه الأموال بأن يكتسبَها بالحرام، بل هو يخاف الله ويتّقيه، وكلما عرض له مالٌ حرام ذكرَ الله واطِّلاعَه عليه وأنّ الله محصٍ عليه كلَّ الأمور، فحمله تقواه على البُعد عن المكاسبِ الخبيثة.
المتّقي لله ظهرت آثارُ هذا التقوى عليه فيما يأتي ويذَر، فهو لا يقبل الرشوةَ، ولا يرضى بها مكسبًا له، ولا يطمئنّ إليها، بل هو يعلم أنها مكسَب خبيث، فهو يحاربها ويبتعِد عنها مهما أغراه من أغراه بها، فهو يخاف الله ويراقبه.
المتّقي لله ظهَرت آثار التّقوى عليه حين يعين على البرِّ والتقوى ولا يعين على الإثم والعدوان، ينصُر أخاه إن ظُلِم فيدفع الظلمَ عنه، وينصرُه إن رآه ظالمًا فيردعه عن الظلم ويحجِزه عن الظلمِ ويمنعه عن الظلم.
المتّقي لله آثارُ التقوى ظهرت عليه في تعامُله مع جيرانه، فهم مطمئنّون منه، آمنون شرَّه، آمنون غدرَه، آمنون خيانتَه، فإنه مسلم يتّقي الله.
فتقوَى الله جل وعلا تحيط بالعبدِ في كلّ أحواله، والمسلم المتّقي لله هكذا يكون، على منهجٍ قويم وطريق مستقيم. ولِعظم التقوَى وعِظم شأنها أوصى الله بها الخلقَ كلَّهم، قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
فيا عبادَ الله، حقِّقوا تقوَى الله بالأعمالِ والأقوال الطيّبة، فليس التقوَى كلماتٍ تُقال، ولكنها لباسٌ وهو خيرُ اللباس، يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، فهو لباسُ المؤمن، حلّة المؤمنِ تقوَى الله، حلّتُه وخلُقه تقوى الله فيما يأتي ويذر، فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ تقوًى حقيقيّة تحمِلكم على الخيرِ وتُبعدكم عن الشرّّ وتحذِّركم من البلاء.
المتّقي لله ظهرت آثارُ التقوى في تعامُله مع إخوانِه المسلمين، فهو يحبّ الخير لهم، ويكرَه الشرَّ لهم، ويرحمهم ويحسِن إليهم، فهو يوقِّر الكبير، ويرحَم الصغير، ويعامِل مَن مثلُه بكل معاملة حَسنة.
فلنتَّق الله في أمورنا وأحوالنا كلها؛ لأنّ بتقوى الله ننال الفضلَ العظيم والثواب الجزيلَ من ربّ العالمين، يقول الله جل وعلا: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ ?لْبُشْرَى? فِي ?لْحَيو?ةِ ?لدُّنْيَا وَفِي ?لأخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ?للَّهِ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [يونس:62-64].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ للتقوى فوائدَ عظيمة بيَّنها الله في كتابه العزيز، فأخبر جلّ وعلا أنّ المتقين هم المنتفعون بالقرآن الكريم المهتدون بهديِ القرآن: ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ وَ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِ?لأخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَـ?ئِكَ عَلَى? هُدًى مّن رَّبّهِمْ وَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [البقرة:2-5].
المتّقون تقواهم لله تبوِّئهم المنازلَ العالية، فهم يومَ القيامة أعلى الخلق، زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [البقرة:212].
المتّقون محبّتُهم فيما بينهم محبّة دائمة متواصِلة لا انفصامَ لعُراها، ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67].
المتّقون ينجون من كرُبات يومِ القيامة، ويخفّ عليهم الحساب، قال جل وعلا: وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى? رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجّى ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّنَذَرُ ?لظَّـ?لِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71، 72]. مقامُهم يومَ القيامة مقامٌ في غايةِ الأمن والطمأنينة، إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ [الدخان:51، 52]. مقامُهم مقامُ صِدق، إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِي جَنَّـ?تٍ وَنَهَرٍ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ [القمر:54، 55].
فلنتَّق الله حقًّا في سرِّنا وعلانيّتنا، وكان من دعائه : ((اللهمّ إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة)) [1]. وهؤلاء المتّقون الذين يخشَون ربهم في الغيبِ والشهادة، رآهم الناس أم غابوا عنهم، فليسوا أمامَ الناس متصنِّعين بالتقوى متحلِّين بالورَع والزهد، وإذا خلَوا بارزوا اللهَ بالعظائم، ليسوا أمامَ الناس أهلَ أمانة ووفاءٍ وفي غَيبة الناس أهل خيانةٍ وخديعة، هم على طريقٍ مستقيم، الظاهرُ والباطن سواء؛ لأنهم يعاملون الله، ويعلَمون أنّ الله يراهم ويعلَم سرَّهم وعلانيّتهم، فعظُم الله في نفوسِهم، فاتَّقَوه حقَّ التقوى، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، وَ?تَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ?للَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى? كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
اللهمّ إنا نسألك الهدَى والتّقى والعفافَ والغِنى ومن العمل ما ترضى، إنك على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (4/264)، والنسائي في السهو (1305، 1306)، والبزار (1392، 1393) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1971)، والحاكم (1923)، وهو في صحيح سنن النسائي (1237، 1238).
(1/3849)
خطر السفر إلى بلاد الكفر
الإيمان, موضوعات عامة
السياحة والسفر, الولاء والبراء
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
20/2/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الهداية. 2- ولاء المسلم لدينه. 3- الوصية بالبعد عن الشر وأهله. 4- تحذير المسافرين إلى البلاد الفاسدة من الانحراف. 5- الدعوة إلى الإسلام بالمعاملة الحسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ المؤمن يتذكَّر دائمًا نعمةَ الله عليه بالإيمان، نعمةَ الله عليه أن هداه للإيمان، وشرح لذلك صدرَه، فجعله يتقبَّل الحقَّ ويعمل به، فيرى تلك نعمةً عليه من ربِّ العالمين، فهو يتذكّر قول الله: وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لإيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لرشِدُونَ فَضْلاً مّنَ ?للَّهِ وَنِعْمَةً وَ?للَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7، 8]. كلّما تذكّر المسلم هذه النعمةَ ازداد شكرًا لله وطاعة لله وثناءً على الله، وهو دائمًا يقول: الحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنّا لنهتديَ لولا أن هدانا الله.
أيّها المسلم، وإذا عرف المؤمن قدرَ هذه النعمةِ على الحقيقة دعاه ذلك إلى الاستقامةِ على الهدى، فيسأل الله دائمًا أن يثبِّته على الحقّ وأن لا يزيغَ قلبه بعد إذ هداه، ويسأل ربَّه أن يعينه على الحقّ وأن لا يكلَه إلى نفسه طرفة عين.
أيها المسلم، إنَّ المؤمنَ يحبّ الإيمان، ويحبّ أهل الإيمان، ويألَف كلَّ مجتمع تعلو فيه كلمةُ الإيمان، فهو لا ينشرح صدره إلاّ إذا سمع صوتَ الأذان، ورأى المصلّين يأمّون المسجد، ورأى الخير وأهلَ الخير، فبذلك ينشرح صدره، وتطيب نفسه؛ لأنه عرَف الإيمانَ على الحقيقة، فأحبَّ أهلَ الإيمان، وأحبَّ بلاد الإيمان، فهو دائمًا مع المؤمنين بقلبه وقالَبه.
أيّها المسلم، إنّ المؤمن يزداد إيمانه كلّما رأى أولئك المنحرفين عن منهجِ الله المستقيم، والذين حُرِموا لذّةَ الإيمان وحلاوتَه، فهو يزداد إيمانًا، ويحمد الله على هذه النعمة، ويقول: الحمد لله الذي فضّلني على كثير ممن خلق تفضيلا.
أيّها المسلم، وصيَّتي لك تقوى الله جلّ وعلا قبلَ كلّ شيء، والاستقامة على هذا المنهج القويم، والثبات عليه، وأن تسألَ ربَّك أن يثبِّتك على الإسلام، وأن لا يزيغَ قلبك بعد إذ هداك.
وأوصيك ـ أخي المسلم ـ بالبُعد عن دُعاة السوء ومجالسِ الشرّ والفساد وأماكن الانحراف عن الهدى.
أخي المسلم، وصيّتي لك وهذه الأيامُ أيامُ الإجازة الدراسيّة وأيامٌ يعتاد فيها الكثير أخذَ إجازاتٍ وراحة واستجمام كما يزعمون، والانطلاق إلى هنا وهناك من أرضِ الله الواسعة ليقضيَ فيها بعضُ المسلمين شهورًا أو أيامًا في تلكم البلاد وفي تلكم المجتمعات التي يغلب على الكثيرِ منها البعدُ عن منهج الله وطريقه المستقيم.
فيا أخي المسلم، إنّ إيمانك أغلى عندَك من كلّ شيء، فاحذر ـ أخي المسلم ـ أن تدنِّس هذا الإيمان بالأخلاق الرذيلة التي تضعِف جانبَ الإيمان من قلبك، ولربما استمرأت على الفسادِ حتى تنقلب الأمور في نظرك، فترى الحقَّ باطلاً والباطلَ حقًا، والمعروف منكرًا والمنكَر معروفًا.
أخي المسلم، وصيّتي لك تقوى الله والاستقامة على الهدى، وإن قُدّر أنّك ذهبتَ إلى أيّ مكانٍ فاعلم أن المسلمَ حقًّا ثابت على إيمانه، متغلّب على كلِّ المغريات وعلى كلّ نزغات الشرّ والفساد. هو وإن سافرَ وذهب في أيّ أرض من أرض الله، لكنّه مستقيم على إيمانه، محافظٌ على الصلوات في أوقاتها، محافظ على عرضه، محافظ على كرامته، محافظٌ على شرَفه، ثابت على إسلامه، لا ينخدِع ولا يغترُّ ولا ينساق أمام الشهواتِ والمغريات والدعايات المضلِّلة.
أخي المسلم، إنّ مجتمعاتِ العالم يغلِب على كثير منها البُعد عن الهدى، البُعد عن منهج الله المستقيم، فاحذَر ـ أخي المسلم ـ أن تنحرف عن دينك، وأن تغترَّ بتلك المجتمعاتِ الباطلة، وأن تنساقَ أمام الشهواتِ المغرِية وأمام ذلك الإعلام الضارّ الذي يجسِّد الجريمةَ ويدعو إليها ويحبِّبها.
أخي المسلم، دينُك أمانة في عنُقك، فاحذَر أن تبيعَه برُخص، بشهوةٍ وبضلالة وبإصغاءٍ لتلكمُ المجتمعات بأخلاقِها الرّذيلة وأعمالها الهابِطة.
أخي المسلم، مجتمعاتٌ يعلَن فيها الفسوق والعِصيان، ويعلَن فيها البُعد عن الهدى، ويعلَن فيها كلّ جريمة وكلّ منكر، بل كلُّ ما يخالف الحقّ. فيا أخي المسلم، اتّق الله في إسلامك، اتَّق الله في إيمانك، اتَّق الله في بناتك وأبنائك، اتَّق الله في أهلك، اتَّق الله فيمن ولاّك الله رعايتَه، اتَّق الله وأنفِق المال فيما شرَع الله، واحذَر أن تنفقَ الأموال في الباطل، فيذهب إيمانك، ويذهب مالك، وتلقى الله بالسيِّئات والتبعات.
يا أخي المسلم، إنّك تريد السياحةَ وتريد الفرجة، وتريد أن تنقلَ نفسَك من مكانٍ إلى مكان، استمتاعًا بمناظرَ خلاّبة واستمتاعًا برؤية ما قد تكون لم تره. ولكن يا أخي، لا يكن ذلك على حسابِ الإيمان، لا يكن ذلك علىحسابِ الأخلاق الكريمة، فاتَّق الله في إيمانك، اتَّق الله في إسلامك، شرَّفك الله بالإسلام، وهداك للإسلام، ومنَّ عليك بالإسلام، أفتذهبُ تلك النعمةُ منك لأجل شهوةٍ غالبة ولأجل ولأجل؟! اتَّق الله في إسلامك، واتَّق الله في إيمانك.
إنّ المؤمنَ في أيّ أرضٍ من أرض الله كان فهو متمسّك بإسلامه، ثابتٌ على إيمانه، لا ينخدع ولا ينهزم، شخصيّة فذّة ثابتة قويّة بإعانة الله وتوفيقه، لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران:196، 197].
احذر أن تكونَ ممن قال الله فيهم: وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ?لأَنْعَـ?مُ وَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12].
أيتها المرأة المسلمة، اتّقي الله في إسلامك، اتَّقي الله في أخلاق الإسلام، فكما تكونين في بلاد الإسلام متحجِّبة بعيدةً عن كلّ مظهر سيّئ فاحذري أن تكوني في غير بلادِ الإسلام سافرةً بعيدة عن أخلاق الإسلام، هذا أمرٌ غير لائق بك وأنت امرأة مسلمة تؤمنين بالله واليوم الآخر.
فيا إخوتي المسلمين، اتَّقوا الله في إسلامكم، فإنّ الله شرّفكم بهذا الدين، وتفضّل به عليكم، فاحمدوا الله على هذه النّعمة، وتذكّروا قومًا ضلّوا عن سواء السبيل، وحُرِموا هذه النعمة، فهم في جهالةٍ وضلالة وغِواية، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَـ?سِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ?للَّهِ أُوْلَئِكَ فِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [الزمر:22].
تمسّكوا بالإسلام، وتخلّقوا بأخلاقه في أيّ أرضٍ كنتم، وليكُن الإسلام ظاهرًا عليكم في سلوككم وفي تعاملكم. ألا تعلمون أنّ أمّة الإسلام دعَوا إلى الإسلام بكلّ وسيلة، كم بلادٍ ما عرفت الإسلام إلا بواسطة المسلمين أهل التجارة والبيع والشراء، جابوا البلادَ لمنفعتهم الدنيويّة، ولكنهم لم ينسَوا نصيبهم من الدعوة إلى الله، فكم من مجتمعاتٍ أنقذوها من ضلالاتها وبصّروها من عماها، أولئك الذين فهِموا الإسلام على الحقيقة.
فيا أيّها الشاب المسلم، احذر أن تكونَ شماتة للأعداء، الهويّةُ هويّةٌ مسلمة، والأعمال أعمالٌ مخالِفة، والأعمال والسلوك بعيدةٌ عن الإسلام كلَّ البعد.
فيا أبناءَ المسلمين، يا شبابَ الإسلام، كونوا دعاةً إلى الله بالأقوالِ والأعمال، بالسّلوك، بالأخلاق الكريمة، لينتفعَ بكم غيركم، ويتبصّر بكم سواكم، أمّا أن تذهبوا مسلمين، وتنغمسوا في الباطل، وترجعوا وقد تحمّلتم الأوزارَ والآثام، وأسأتم إلى أنفسكم وأسأتم إلى إسلامكم، فهذا أمرٌ غير لائق بكم.
فلنتّقِ الله في أنفسِنا وفي ديننا، أسأل الله لي ولكم الثباتَ على الحقِّ والاستقامةَ عليه، إنه على كلّ شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53]، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ المسلمَ لا تطيب نفسُه ولا تقرّ عينه ولا ينشرِح صدره إلا بهذا الدين، وبتطبيق أوامره والبعد عن نواهيه، وبالألفَة مع المسلمين، فالمسلمُ داعٍ إلى الله بقولِه وعمله، يراه الآخرون في صِدقه وتعامُله الحسن فيقتدون به، يرونه متمسِّكًا بإسلامه ثابتًا على إيمانه فيرونَ ذلك قدوةً حسنة وأسوَة صالحة، فلربما اقتدَوا به وتأثّروا بدعوته وقبلوا منه، أما شابٌّ مؤمن يحمل هويّة إسلاميةً وإذا ذهب لبلاد غير المسلمين انحرَف عن دين الله وابتعَد عن إسلامه، بل بعضهم يعدُّ الانتسابَ للإسلام خجلاً عليه والعياذ بالله، فهو يخجَل أن يقول: إني مسلم، ويخجل أن يقول: هذا حلالٌ وهذا حرام، تِلكم الانهزاميّة التي هي بلاء، فشخصيّة المسلم شخصية متميّزة بتمسّكه بدينه وثباته عليه.
أسأل الله لي ولكم الهدى والتّقى، وأن يحفظَ الجميع بالإسلام، ويثبّتنا عليه، وأن لا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا، ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتَنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/3850)
الطلاق في الإسلام
الأسرة والمجتمع, فقه
الطلاق, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
27/2/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصية بالنساء. 2- متى يشرع الطلاق؟ 3- نظام الطلاق في الإسلام. 4- نصائح وتوجيهات عامة للزوجين. 5- من أضرار الطلاق. 6- نصائح للزوجين بعد الفراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، عقدُ النكاح أحدُ العقودِ التي أمر الله بالوفاء بها في قوله جلّ جلاله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِ?لْعُقُودِ [المائدة:1]. فعقدُ النكاح عقدٌ ذو شأنٍ كبير، ولذا وصفَه الله بأنّه ميثاق، وأنّ هذا الميثاقَ ميثاق غليظ، قال جلّ وعلا: وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7]. نعم، إنه ميثاقٌ وأيُّ ميثاق؟! ميثاقٌ يقوم بسببِه البيت، فيه غضّ البصر وتحصين الفرج وحصول الولد وسكون النفس وطمأنينتُها.
أيّها المسلمون، وشريعةُ الإسلام شرَعت ما يسبّب استمرارَ هذا العقد وديمومتَه، ولذا أُمر الزوج بالصّبر على ما يستطيع الصبرَ [عليه] من أخطاءِ المرأة، في الحديث: ((لا يفرُك مؤمِنٌ مؤمنةً، إن كرِه منها خلُقًا رضيَ منها آخر)) [1] ، وأخبَر أنّ المرأة خُلِقت من ضِلع، وأنّ أعوج ما في الضلعِ أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمه كسرتَه، وأمر أن نستمتِعَ بالنساء وأوصانا بهنّ خيرًا، فقال: ((استوصوا بالنّساء خيرًا، فإنها خلِقَت من ضلع، وإنّ أعوجَ ما في الضلع أعلاه)) [2].
وهذا العقدُ استُبيح بكلمةِ الله، كما قال : ((أخذتموهنّ بأمانة الله، واستحلَلتم فروجهنّ بكلمة الله)) [3].
وأمرَ الزّوج عندما يحصل من امرأتِه شيء من النشوز والعصيان أن لا يقابِلَ ذلك بالطلاق المتسرّع، وإنما أمَره أن يعِظَها ويذكّرها الله والدارَ الآخرة، فعسى موعِظة تصلِح الأخطاء وتزيل ما علق بالنّفوس، وجوّز له هجرَها في المضجع أو ضربَها الضربَ اليسير غيرَ المبرح، فعسى أن يردَعَها جهلُها وتعدِّيها على زوجِها.
والمرأة المسلمة أيضًا مطالَبَة بالصبر على زوجِها، وأنَّ عبادَتها لربِّها بمحافظتِها على عبادة الله ومحافظتها على الصلواتِ الخمس وطاعتها لزوجها سببٌ لدخول الجنة، في الحديث: ((إذا صلّتِ المرأة خمسَها وأطاعت بعلَها قيل لها: ادخلِي الجنّة من أيّ أبواب الجنّة شئتِ)) [4].
أيّها المسلمون، وإذا لم تنفع الموعظةُ ولم ينفع الصّبر فالشرع أيضًا أمَر بحَكَمَين من قِبَل المرأة والرّجل، ينظران في شأنهما، فإمّا أن يحكُما باجتماعهما، وإمّا أن يحكما بافتراقهما، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَ?بْعَثُواْ حَكَمًا مّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَـ?حًا يُوَفّقِ ?للَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35].
أيّها المسلمون، وعندما تتعذّر كلُّ أسباب الوِئام والاتّفاق فالإسلام شرَع الطّلاق، عندما تدعو الحاجة إليه، وعندما لا يكون سَببًا للخلاص من المشاكل إلاّ الطلاق، فإنّ شريعةَ الإسلام لا تجعل المرأةَ غِلاًّ في عنُق الرّجل دائمًا يشقَى بها، ولا تجعل المرأةَ تضيع مصالحُها بأسبابِ نزاعِها مع زوجها، فإنّ الحياةَ الزوجية إذا تكدّرت شقِي الرجل وشقِيت المرأةُ وشقيت الأسرَة، فشرع الطلاقَ عندما تدعو الحاجة إليه.
أيّها المسلمون، ولكن هذا الطلاق لم يُجعَل على أهواءِ الناس ومرادِهم، وإنما الطلاق على حسَب ما بيَّن الله في كتابِه وبيّنه رسوله محمّد ، فنظام الطلاقِ لم يستمدَّ من آراءِ الناس وتصوُّراتهم، وإنما جاء تشريعًا ربّانيًّا في كتاب ربّنا وفي سنّة نبيّنا ، وإذا التزم المسلم شرعَ الله في زواجه وطلاقه فإنّه يعيش على خير، لأنَّ في شرع الله حلَّ كلِّ المشاكِل على أيسرِ حال وأحسن، وإنما تأتي الفوضى عندما يخالِف المسلم شرعَ الله في الطلاق.
أيّها المسلمون، لقد كان العرَب في جاهليّتهم يؤذون المرأةَ ويلحِقون بها الأذى، فكان الرّجل يطلِّق حتى إذا قارَب انقضاء العدّة راجعها، وربما طلّقها مائة طلقة، وهكذا، فجاء الإسلام بنظامٍ للطلاق، نظامٍ يكفل مصلحةَ المرأة والرّجل معًا.
أيّها المسلمون، إنّ التزامَ المسلمين بشرع الله فيه خلاصٌ لهم من كلّ المشاكل، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ?للَّهِ حُكْمًا لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
أيّها المسلمون، الطلاقُ من أبغضِ الحلال إلى الله، كما في الحديث: ((أبغَض الحلال إلى الله الطلاق)) [5] ، ولكن لما كان حلاًّ للمشكلةِ كان فيه خير، وإلاّ فالأصل أنّ عدمه أولى، لكن إذا دعَت إليه الحاجة كان مستحَبًّا، وربما كان واجبًا.
أيّها المسلمون، إنّ شرعَ الله حثَّ المسلمَ على الإقلالِ من الطلاق وعدمِ التلاعُب به، فلا ينبغي للمسلِم أن يكونَ الطلاقُ على لسانِه دائمًا، ففي الحديثِ عنه أنه قال: ((ثلاثٌ جِدّهن جدّ وهزلهُن جِدّ: النكاح والطلاق والرّجعة)) [6] ، بمعنى أنَّ من طلّق وزعَم أنّه هازِل ولاعِب ولم يرِد حقيقةَ الطلاق لا يُقبَل ذلك منه؛ لأنّ الطلاقَ المعتبرُ فيه النّطقُ باللسان إذا كان الناطق به بالغًا عاقلاً يُدرك ما يقول، فلا يُعذَر بقوله: إنه تلاعَب بالطلاق وأظهَرَه من باب المزاح، لا، جدُّه جدّ وهزلُه جِدّ، فلا فرقَ بين هازله وجادّه. إذًا فالمسلم لا يتلفَّظ بالطلاق، ويبتعِد منه خشيةَ أن يقع الطلاق موقعَه.
ثانيًا: شريعةُ الإسلام جعَلت الطلاقَ على مراحل ثلاث، يقول الله جل وعلا: ?لطَّلَـ?قُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـ?نٍ [البقرة:229]، فإنّه إذا طلّقها الطلقةَ الأولى شُرع له أن يبقيَها في منزلهِ وأن لا يخرِجَها منه، كما قال تعالى: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ [الطلاق:1]، ثم قال: لَعَلَّ ?للَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]، فلعل الطلاق وقع في حالةٍ غير متروٍّ فيها، فيندم مع بقاءِ المرأة عنده، فتُغيَّر الأمور بتوفيق من الله. ثمّ إذا انقضت العدّة الأولى وطلّق الثانيةَ أيضًا فلعلّ خطأً منه أو منها فيزول، وإذا طلّقها الثالثة عُلِم أنَّ الأمر لا فائدةَ فيه ولا في بقائهما، فعند ذلك تحرم عليه إلاّ بعد نكاحِ زوجٍ آخر عن رغبةٍ لا تحليلاً. ولذا حرّم الشارع جمعَ الثلاث بلفظٍ واحد. طلَّق رجلٌ في عهدِ النبيّ امرأته ثلاثًا، فغضِب وقال: ((أيُلعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهر كم؟!)) حتى أن رجلاً قال: يا رسول الله، أأقتله؟ [7].
أيّها المسلمون، وشرعُ الله حرَّم على المسلم أن يطلّق امرأته في طُهرٍ قد جامَعها فيه، فلعلّها أن تحملَ فيطول الأمر عليها، ثم يندَم إذا حملت، فقد زلّ لسانه بهذا الطلاق. كما حرّم عليه الشارع أن يطلّقها وهي حائِض، كلّ ذلك لأجل أن لا تطولَ المدة عليها، ولأجل أن لا يكونَ سببًا لافتراقهما؛ لأنها إن كانت حائضًا فلا يحلّ له مضاجعتُها، فربما كرِه مستقبلاً، فشرِع له أن يطلّقها في طهرٍ لم يجامعها فيه، أو يطلقَها حاملاً قد استبان حملها.
طلّق ابن عمر رضي الله عنهما امرأتَه وهي حائض، فبلغ النبيَّ فتغيَّر وقال لعمر: ((مُر عبد الله أن يراجعَها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، ثم إن بدَا له أن يطلّقَها فليطلِّقها في طهرٍ لم يمسّها)) [8].
أيّها المسلمون، الطلاق شأنُه عظيم، فالحذَر من التهاون به، والحذَر من الاستعجال فيه وجعلِه على اللسان دائمًا أو تعليق الأمور به أمرًا أو نهيًا، فالبعض من المسلمين ـ هدانا الله وإياهم ـ لا يبالي بهذا الأمرِ العظيم، على أتفهِ الأسباب يعلِّق طلاقه عليه، رُبما أتاه ضيف فأراد إكرامَه، فلم يستجِب له، فقال: عليّ الطلاق أن تأكلَ الذبيحة، وعليّ أن أفعلَ، وعليّ الطلاق أن لا أفعل، كلّ هذا من الخطأ. فلنجنّب ألسنتَنا هذه الأمورَ، ولنتروَّ في أمرِ طلاقنا، ولا نستعجِل، فنندم ولا ينفع النّدم.
وعلى المرأةِ المسلمة أن تتّقيَ الله في تعامُلها مع زوجِها، ولا تحمله على هذا الأمر، ولا تسلُك الطريقَ الذي يسبّب استعجالَه في هذا الأمر، بل لتراعي شعورَ زوجها، وتراعي أحاسيسَه، ولا تحمله على الطلاقِ ما وجدت لذلك سبيلاً. فعندما تراه غضبانًا ومنفعلاً فلتبتعِد عن كلّ أمر يُثير غضبَه، لتترك بعضَ الأمورِ التي لا خيرَ فيها، ولتعرِض عن بعض المعاتبةِ التي قد لا يكون هذا موضعَها، فإنّ المرأة إذا رأت غضبَ زوجها وانفعالَه، ثم بدأت تزيد النارَ نارًا، فربما وقع طلاق فتندَم ويندم الرجل.
أيّها المسلم، للطلاقِ آثارُه غير الحسنة لمن استعجَل فيه، فالطلاق ضرَر لمن يتأمّل؛ تكون المرأة أيّمًا، يتشتّت أمرُ الأسرة، يضيع الأولاد بين طلبِ الأب وبين طلب الأمّ، وربما حصل بين الزوجين عنادٌ في زيارةِ الأبناء لأمّهم أو أبيهم.
المقصود أنّ الطلاَقَ ضررُه عظيم، ولولا الحاجةُ الملحّة إليه ما أباحه الشارع، فالواجِب على الزوجين تقوى الله في أنفسهما، وأن يتذكّرا هذه الأضرارَ للطلاق تذكُّرًا يدعوهما إلى الصّبرِ والتحمّل، فعلى الرجلِ أن يصبرَ ويتحمّل الأخطاء ويحاوِل أن يصبرَ ما دام الأمر لا يتعلّق بالعرض، فيصبر ويتحمّل، فلعلّ العاقبةَ حميدة، وعلى المرأةِ تصبر أن أيضًا وتحتسِب، ولا تدخل في مهاتراتٍ مع زوجها، فيسبّب ذلك فراقَها.
فلنتّق الله في أمورنا، لنتّق الله في طلاقنا ورجعاتنا، ولهذا شرِع للزوجين بعد الطلاق الرجعةُ إن أرادا الإصلاحَ، ما دامت الطلقة الأولى أو الطلقة الثانية.
فعلى المسلِم أن يتّقيَ الله في طلاقه ورجعتِه، وأن يكونَ صادقَ المقال، لا يكون متناقضًا.
بعضُ الإخوة ربما أتى المحكمةَ وطلّق المرأة، ثم إذا انتهى الطلاق وأخذ صَكَّ الطلاق جعل يعتذِر ويقول: ما علِمت، وما فهِمت، وما بُيّن لي، واستعجل مَن كتَب الطلاقَ، إلى غير ذلك من التّرَّهات. سببُ ذلك استعجالهُ وعدمُ رويّتِه، ثم يحمِّل التبعات غيرَه.
فلنتّق الله في أنفسنا، ولنصدُق الله في تعامُلنا، ولنحذَر التهاونَ بهذا الأمر، فإنّ ما بعدَ الطلاق الثلاث أيُّ علاقةٍ مع الزّوج قبلَ زوجٍ آخَر تكون علاقةً سيئة، ويكون أمرًا محرَّمًا.
فلنتّق الله يا عباد الله، ولنأخذ الأمورَ بحكمة، ولا نستعجِل، ولا نقدم على هذا الأمر ما وجَدنا لذلك سبيلاً.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعونَ على خير، إنّه على كل شيء قدير.
يقول الله تعالى، بسم الله الرحمن الرحيم: يأيُّهَا ?لنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ ?لْعِدَّةَ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَـ?حِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ ?للَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ?للَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ ?للَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في الرضاع (1469) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه البخاري في النكاح (5186)، مسلم في الرضاع (1468) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] رواه مسلم في الحج (1218) عن جابر رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني في الأوسط وقال: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وله شاهد من حديث أبي هريرة عند ابن حبان (4163)، وآخر من حديث أنيس عند البزار (1463، 1473)، وأبي نعيم في الحليلة (6/308)، وثالث من حديث عبد الرحمن بن حسنة عزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني، ولذا حسنه الألباني في آداب الزفاف (ص286)، وانظر: صحيح الترغيب (1932).
[5] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في كراهية الطلاق (2178)، وابن ماجه في الطلاق، باب: حدثنا سويد بن سعيد (2018) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأعِلّ بالإرسال، لذا ضعفه الألباني في الإرواء (2040).
[6] أخرجه أبو داود في الطلاق، باب: في الطلاق على الهزل (2194)، والترمذي في الطلاق، باب: ما جاء في الجد والهزل في الطلاق (1184)، وابن ماجه في الطلاق، باب: من طلق أو نكح... (2039) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في الإرواء (1826).
[7] أخرجه النسائي في الطلاق، باب: الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه، وأعله ابن كثير في تفسيره (1/278) بالانقطاع، وقال الحافظ في الفتح (9/362): "رجاله ثقات, لكنّ محمود بن لبيد ولد في عهد النّبيّ ولم يثبت له منه سماع, وإن ذكره بعضهم في الصّحابة فلأجل الرّؤية, وقد ترجم له أحمد في مسنده وأخرج له عدّة أحاديث ليس فيها شيء صرّح فيه بالسّماع. وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدا رواه غير مخرمة بن بكير ـ يعني ابن الأشج ـ عن أبيه اهـ. ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه"، وصححه الألباني في غاية المرام (261).
[8] أخرجه البخاري في الطلاق (5252، 5253)، ومسلم في الطلاق (1471) عن ابن عمر رضي الله عنهما نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها الزوج الكريم، عندما يقع منك طلاقٌ لامرأتك فلا يكن هذا الطلاقُ سببًا لنِسيان ما بينك وبين المرأةِ من صلاتٍ ومودّة، ولا يكن هذا الطلاقُ سببًا لمواقِفَ سيّئة تتّخذها من المرأة لا سيّما إذا كان لها أولاد، فتحاول أحيانًا أن تجعلَ الأولادَ لك دونها، وتحاول أن تمنعَ صلتَهم بأمّهم، كما أنّ بعضَ النسوة ربما تتّخِذ موقفًا سيّئًا من زوجِها، فتحاول قطعَ صِلةِ أبيهم بأولاده، وتبغِّض الأبَ لأولاده، وتحاول أن تجعلَ بين الأولاد والأب انفصالاً، كلّ هذا من الزوجين خطأ. الواجبُ التعاون، ولا يذهَب الأولاد ضحيّةً لنزاعِ الرجل والمرأة، ألا تسمَع الله يقول: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:241]، ويقول: وَلاَ تَنسَوُاْ ?لْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237]؟!
فإذا حصَل الطلاق ـ لا قدّر الله ذلك ـ فإنّ الواجبَ أن لا يتَّخذَ الزّوجُ موقِفًا من امرأتِه وموقفًا من أهلِها، يتمثّل في الإضرار بالبنين والبنات، ومتابعتهم والشكاية الدائمة، ويطلب كذا وكذا، ويقدَح في الأمّ وأهلها، ويقول: ليسوا أهلاً لتربيةِ الأولاد ولا حضانةِ الأولاد، أو تتّخِذ الزوجة موقفًا من زوجِها مع أهلها ضدّ ذلك الزوج، ويكون الضحيّة هؤلاء الصّغار، بين تعصّب الأبِ وتعصّب الأم وأهل الجميع.
الواجب تقوى الله والتعاونُ على البر والتقوى، وأن لا يَكون الطلاق سببًا للعداوةِ والبغضاء، وإنما هذه أمورٌ شرعها الله، والله أحكَم وأعدل، والأرواح جنودٌ مجنّدة، فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تناكر منها اختلف. أسأل الله أن يوفّقني وإيّاكم جميعًا لكلّ خير.
إنّ الحرصَ على شكاية الزوجين لأحدهما والترافع إلى المحاكم ليس أمرًا يسيرًا، هذا يترك أثرًا سَيّئًا في المستقبل، والواجب أن نتداركَ هذه الأمور، ولا يحملنا الطلاق على موقفِ أحدنا من صاحبه، وإنما تمضي الأمور على كلّ حال، ويتعاون الجميع في سبيل تربيةِ هذا النشء وإصلاحه وإعدادِه، فإنّ الأبناء إذا شاهَدوا نزاعَ الأبوين، أبٌ يتعصّب ويتشدّد، وأمٌّ كذلك، وأهلُ المرأة وأهل الرّجل، فإنّ أثرَ ذلك يكون سيّئًا على مستقبَل الأولاد ونفسيّاتهم.
فلنتّق الله في أمورنا، أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية لكلّ خير، وأن يجعلَنا ممن يستمِعون القولَ فيتّبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. إنما هي وصايا لإخواني المسلمين، حرصًا على التعاونِ على الخير والتقوى. أسأل الله القبولَ لي ولكم.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِيّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
(1/3851)
وما نرسل بالآيات إلا تخويفا
موضوعات عامة
مخلوقات الله
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الآيات الكونية. 2- الواجب عند حدوث الآيات. 3- أصناف الناس عند حدوث الآيات. 4- وقفات مع الإعصار الذي ضرب الجزائر. 5- استقبال رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
سبحان الله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر.
عباد الله، قد غمرتنا آية من آيات الله العزيز الحكيم، الدالة على عظمته وجلاله وقدرته وحكمته ورحمته.
ومن شأن الآيات أنَّها للصالحين رحمة وبرهانٌ، يزدادون بها إيمانًا، وتزداد قلوبهم بها ثباتًا ويقينًا، وتملؤها خوفًا من الله عزَّ وجل وطمعًا في رحمته، وهي للكافرين وأهل الغفلة تخويفٌ وإقامةٌ للحجَّة وقطعٌ للمناظرة والمحاجَّة.
سمع ابن مسعود بخسف، فقال: (كنَّا أصحاب محمَّد نعدُّ الآيات بركة، وأنتم تعدُّونها تخويفًا) رواه البخاري والترمذي والسياق للدارمي، ذلك أنَّ الله تعالى أخبرنا في كتبه التي أنزل وعلى ألسن رسله الذين أرسل بأنَّ هذه الدار لا شكَّ فانية، وأنَّ الساعة لا ريب آتية، وكلُّ آت قريب، كيفَ وقد أذنت بالقرب منذ بُعث النبيُّ ؟! فهل من متذكِّر؟! هل من متَّعظ؟!
إنَّ قيام الساعة يكون بزلزال الأرض وانتثار الكواكب وخسوف القمر وغير ذلك من الآيات، فكان من رحمة الله تعالى وحكمته أن يرسل بالآيات الدالة على قرب ذلك اليوم المذكِّرة به من زلازل وكسوف وهدَّات السماء والرياح العاصفة والإعصارت الهائلة ما فيه عبرة وذكرى لأهل الإيمان، وأمَّا الغافلون فمهما مرَّت بهم الآيات فلن يبصروها ولن ينتفعوا بها، فيا ويح من مرَّت به هذه الآية فبات في غمرة السهو، ولم يفزع كما فزعتم إلى الصلاة والذكر.
وقد تجلَّت لنا آية من آيات الله، وإنَّها لحدث عظيم مخيف، فما لنا لا نخشع؟! وما بال أقوام إلى الدعاء والصلاة لا تفزع؟!
فالواجب عند حدوث الآيات المبادرة إلى التوبة النصوح والاشتغال بالصلاة والذكر والدعاء والصدقة، فهذا شأن الذين آمنوا واتَّقوا، وأمَّا الغافلون والجاهلون فهم ينشغلون عن الصلاة والصدقة والذكر والتوبة بالنظر إلى حجم ما خلّفته الآية من الخسائر والبحث في شأنها، وتجريد النظر إليها، والذهول بها عمَّا تقتضيه، وكذلك يكون أمرهم عند كلِّ آية تحدث، وعند خروج الدجال، وعند ظهور الآيات الكبرى المنذرة بقيام الساعة. أعاذنا الله من الفتن.
أيُّها المسلمون، من رحمة الله بالعباد أن يرسل من حين إلى آخر ببعض الآيات الدالة على عظمته وربوبيَّته وجلاله، ليثوب الناس إليه بعد طول فتور، وليخافهُ المذنبون بعد غفلة وغرور، وليُقْلع أهل الشرِّ عن جميع الشرور.
قال قتادة: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال: (يا أيها الناس، إن ربَّكم يستعتبكم فأعتبوه)، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات فقال عمر: (أحدثتم. والله، لئن عادت لأفعلن ولأفعلن).
فالحكمة من إرسال الله بالآيات تخويف العباد لعلَّهم يرجعون، والناس عند حدوث الآيات أصناف ثلاثة، كما بينته في خطبة مضت:
فمنهم الجاحدون المكذبون كما جحد فرعون وقومه بالآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، وفي هؤلاء قال الله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]، وقال: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132].
ومنهم الطبائعيون المعرضون كما قال تعالى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [يس:46] وقال: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:2]، وهذا كما أعرضت ثمود ـ وهم قوم النبي صالح ـ لمَّا رأوا السماء تلبَّدت وظنّوا أنَّه مجرَّد سحاب عابر ممطر فقالوا: عارض ممطرنا، وإذا هو عذابٌ أرسله الله عليهم، فلم يشعروا به حتَّى أصابهم. ومن أشبه الناس بهؤلاء اليوم الذين إذا رأوا مثل هذه الآيات قالوا: إنَّها مجرَّد ظاهرة طبيعيَّة.
وأمَّا المؤمنون الموقنون فهؤلاء هم الذين ينتفعون تمام المنفعة بهذه الآيات، فتحملهم على الخوف والمبادرة إلى التضرع والدعاء والسجود.
وقد كان النبيُّ إذا هبَّت الريح الشديدة عرف ذلك في وجهه؛ لأنَّ وراء الآيات سرًّا.
فما سرُّ ما وقع في بلادنا؟! علماء الفلك والطبائعيون لا يملكون جوابًا على هذا السؤال.
وغاية ما عندهم هو تفسير طبيعةِ ما يجري وكيفيَّة وقوعه فقط، بشروح قائمة على المعاينة والنظر تارة، وعلى مجرَّد الظنِّ والتخمين تارة أخرى.
ولكن لماذا يحدث ذلك؟ وبأمر من؟ فهذا ما تعجز علومهم عن الجواب عنه، وإنَّما يُعرف ذلك من جهة الوحي لأنَّه من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وقد علمنا من جهة الوحي سرَّ ذلك فاسمعوا.
قال تعالى في سبب بيان الآيات وإرسالها: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، وقال: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73]، وقال: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187]، وقال: وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة:221]، وقال: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]، وقال: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأعراف:89]، فبيَّن سبحانه أنَّه تعالى يرسل بالآيات ومنها الزلازل والصواعق والرياح الشديدة والمعجزات وعجائب المخلوقات كالشمس والقمر وكسوفهما، لأجل أن يعقلها العاقلون فيهتدوا بهديه، ويتَّقوه، ويتذكَّروا، وليخافه الخائفون، ويشكره الشاكرون.
والخلاصة إنَّ هذه الآيات يجب أن تحدث فينا الخوف من الله تعالى، وتتبدَّى ثمرة ذلك في التوبة وتجديد العهد مع الله تعالى وإصلاح الحال.
ولنا فيما حدث وقفات نجلّي فيها بعض الحقائق بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيُّها المسلمون، إنَّ ما أصابنا يستوجب أن نقف عنده وقفات:
الوقفة الأولى: هل الذي وقع بلاء أم عقاب؟ فقد أرسل الله على عاد الريح وعلى قوم نوح الطوفان وعلى ثمود الأمطار والسيول الجارفة، وتلك عقوبة الله لكلِّ من طغى وأسرف، وأصاب الله عباده المؤمنين بالهزيمة في أحد وهم صفوة خلقه يومئذ، ولم تكن تلك عقوبة، وإنّما كانت امتحانًا يمتحنهم الله به ويستعتبهم، فهل هذا الذي وقع فينا عقوبة أم بلاء وامتحان؟!
إنَّ ضابط التمييز بين ما هو عقوبة وبين ما هو بلاء وامتحان هو أن ننظر إلى أنفسنا وحالنا مع ربِّنا في ديننا: هل نحن على سبيل الهدى والنجاة أم على سبل الهوى والهلاك؟
فالمصائب يصيب الله بها العباد، لكنَّها ليست في حقهم سواء، فمنهم من تكون في حقه عقوبة زيادة على ما ينتظره في يوم المعاد من العذاب الأليم، وهذا شأن ملل الكفر وأمم الضلالة الذين قصَّ الله علينا خبرهم كقوم نوح وعاد وثمود، ومنهم من تكون في حقه عقوبة معجَّلة لتكفير سيئاته وذنوبه، وهذا شأن من يريد الله به خيرًا فيطهره في الدنيا قبل الآخرة، ومنهم من تكون في حقِّه بلاء وامتحانًا يستعتبهم الله بها، ليرفع منهم من يشاء في الجنة بالدرجات العلا.
الوقفة الثانية: موقف المؤمن من البلاء قبل حدوثه عدم الدعاء بالعقوبة والعذاب وعدم تمنى نزول البلاء، فإذا حصل البلاء فيجب الصبر وعدم الجزع وعدم تسخُّط القدر.
وقد سمعت من كان يعتدي في الدعاء قبل الاستسقاء ويدعو بنزول المصائب والكوارث!!!
الوقفة الثالثة: يسأل بعض الناس: لماذا حدث هذا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]. فإنَّما هي السيئات والمظالم، وهذا قد شرحناه لكم مرات وكرات.
الوقفة الرابعة: مخالفة الشرع في أمور المعاش كمخالفة الشرع في أمور الدين، فمن اقتحم الأسباب الطبيعية للهلاك وُكِّل إليها، ولم يمنع من تحقُّق الهلاك ووقوعه أنَّه يريد بها احتساب الأجر عند الله، أو التوكُل على الله في حصول العافية ودوامها، فكيف إذا تم ذلك بالمخالفة الواضحة للشرع؟!
ألم ينهنا رسول الله عن التعريس في الأودية؟! فكيف بمن جعلها محلَّ إقامته وتجارته؟! ألم ينهنا النبيِّ عن المكث أو المشي ببطء أمام الجدار المائل الذي يخشى أن ينقض؟! فكيف بمن عصى واستقرَّ في بيوت جدرانها على وشك السقوط طمعًا في عرض الدنيا أن يستفيد من سكن؟! هذا وللأودية مجاري في الأرض معلومة، فمن صيَّرها طرقات دون تحويل لمجرى الوادي فقد مهَّد السبيل لهلاك المارّة، فليتحمَّل كلٌّ مسؤوليَّته في هذا.
الوقفة الخامسة: كيف يتقبل الناس البلاء؟ فمن الناس من يزيده البلاء كفرًا وطغيانا، ولقد بلغني أنَّ من الناس من قال استهزاء: سألنا الله مطرًا نافعًا فأنزل علينا مطرًا مهلكا، من قال هذا فسواء أكان جادًّا أو مازحًا فلقد كفر بالله العظيم وارتدّ عن الدين، وتلزمه التوبة والعودة إلى الإسلام من جديد. ولست أحبُّ أن أدنِّس المقام بذكر ما تفوَّه به بعض المردة السفهاء في بعض الصحف المفرنكة الغريبة عن مشاعر أمّة الإسلام وتوجهاتها والشاذة عن الجماعة مِن كفرٍ صراح يستوجب ضرب الرقاب، ولكن لا نجد من يصلبهم، فإنَّ الحدود إنَّما يقيمها ولاة الأمور لا آحاد الرعية.
الوقفة السادسة: مهما كان الأمر فلا ينسينا الذي حدث أن نتهيَّأ لشهر رمضان، نتهيَّأ له بالتوبة النصوح وبالأعمال الصالحات التي يختص بها هذا الشهر كما يختص بتعظيم أجورها، ومن ذلكم عبادة الصيام والقيام وتلاوة القرآن وسماعه، والإكثار من ذكر الله بالتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والصلاة على النبيِّ.
الوقفة السابعة: في رمضان المعظّم يجتمع شمل الأسرة المسلمة على مائدة الإفطار اجتماعا ينتظم عقده ويظهر جماله على هذه المائدة، وفي هذا الوقت المحدد، ولا يكون ذلك غالبا إلا في هذا الشهر الكريم المبارك.
أيها الإخوة، إنَّ حقًّا على من اجتمع شمله وانتظم عقد أهله في هذه الأيام المباركة أن يحمد الله ويشكره، ويعرف لربه فضله ونعمته.
ولكن ـ أيها الأحبة ـ كيف يكون الشكر على وجهه؟ وكيف يقوم العبد بالحمد على حقيقته؟
هذه النعمة التي تعيشها مع أسرتك وإخوانك ورفاقك في أمن وأمان وعز وهناء ـ بارك الله فيك وفي أهلك، وحفظ عليك شملك ـ هل فكرت في إخوان لك حلّت بهم ظروف، ووقعت بهم نكبات، ودالت عليهم الأيام، فعاشوا تحت وطأة البؤس وهموم الحاجة وعوامل التشريد؟!
إنَّ جلوسك مع أحبابك وذويك في هناء وسعادة ـ أدام الله سعادتك ـ ينبغي أن يبعث فيك تفقُّد أصناف من البؤساء وألوان من التعساء.
فيهم فقراء لا مورد لهم، ونسوة لا عائل لهن، وأيتام لا آباء لهم، ومشرَّدون لا سكنى لهم، يتامى فقدوا أحضان من يرعاهم، عاجزون عن أن يصلوا إلى قوتهم بأيديهم، أطفال يتضوّرون جوعا، وآباء يقطعون حسرات، وأمهات مكلومات تحجّر الدمع في أعينهن.
من ذا يسمع هذه الأنباء فلا يذوب قلبه حزنا؟!
كيف يصلح الحال وأنت ترى في الناس من يقف موقف المتفرج، يسمع الأنين ولا يكترث، ومن يرى الدمع فلا يلتفت، بل يأبى بعضهم إلا أن يجرعهم غصصا من الذل والهوان، فيستغلُّ هذه الأوضاع ليحتكر الطعام والشموع والخبز وما يضطر إليه الناس فيبيعه بأغلى الأثمان!! لا جرم أنَّه يستحق المقاطعة زجرًا له ولأمثاله.
أين الصالحون المحسنون الصائمون القائمون الذين بين جوانحهم أفئدة رقيقة ونفوس إلى الخير سباقة، يؤمنون حقا بأخوة الإسلام وحق الجوار ووشائج القربى؟! وهل يرحم الله من عباده إلا الرحماء؟!
معاشر المسلمين، إنَّ الله أخرج لنا آية تدل على شدَّة غضبه، وهو سبحانه يستعتبنا بها، وإنَّ من أعظم الأسباب التي تطفئ غضب الرب الصدقة، فالصدقة وإغاثة الملهوف وتفريج كربات المغموم من الأعمال والعبادات التي يحبها الله وتطفئ غضبه، وها أمامكم عوائل وأطفال أيتام ونساء ثكالى وأرامل وشيوخ ومرضى، فليسعف كل ذي سعة بحسب ما وسع الله عليه من العافية والصحة والمتاع، تفقَّدوا ذوي الكربات والحاجات وأسعفوهم بما تيسَّر لديكم من ضرورة العيش والعافية.
أقول ما سمعتم، والله يغفر لي ولكم.
(1/3852)
إلى الله الملتجأ
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
11/7/1422
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعاء عظيم عند النوم. 2- فضل التسليم لله واللجوء إليه. 3- صور من اللجوء إلى الله عند الشدائد. 4- اللجوء إلى الله عند تكالب الأعداء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله.
روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله : ((إذا أتيت مضجَعَك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجعْ على شقك الأيمن وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبةً ورهبةً إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، فإن مُت مُت على الفطرة، واجعلْهن آخرَ ما تقول)).
تأمل ـ يا رعاك الله ـ ببصرك النافذ لترى كيف توجَّه القلوب إلى بارئها، وكيف تربَط الأفئدة بمولاها، فحين يأوي المسلم إلى فراشه ويغمض عينيه وقد ودّع يومه واستقبل نومه، وإذ به يجدّد العهد مع الله، ويختم مسيرة يومه بالتسليم لمولاه وتفويض الأمر إليه والاعتصام به سبحانه، ((اللهم أسلمت نفسي إليك.. لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك)). إنه التسليم لله وحده واللجوءُ إليه، اللجوء لمن بيده النفع والضر والنصر والذل وَمَن يَعْتَصِم بِ?للَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى? صِر?طٍ مّسْتَقِيمٍ [آل عمران:101]، وَ?عْتَصِمُواْ بِ?للَّهِ هُوَ مَوْلَـ?كُمْ فَنِعْمَ ?لْمَوْلَى? وَنِعْمَ ?لنَّصِيرُ [الحج:78].
إن التسليم لله والتفويض إليه قبل وبعد فعل الأسباب المقدور عليها من شأنه أن يريح النفس من عناء لا طائل منه، ويربط على القلوب، فتجدها أثبت ما تكون في أوقات الأزمات والشدائد، وكيف لا يكون ذلك وهو يأوي إلى ركن شديد ورب مجيد؟!
كم نحن بحاجة إلى اللجوء إلى الله في كل ما يعرض علينا من ظلم وعدوان أو فقر وحرمان أو مرض في الأبدان أو غير ذلك مما لا يملك كشفه وإزالته إلا الله وحده، قُلْ أَغَيْرَ ?للَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ [الأنعام:14].
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخرًا ثقالاً
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له المزن تَحمل عذبًا زلالاً
وأسلمت وجهي لمن أسلمت له الريح تصرف حالاً فحالاً
إذا حل الهم وخيم الغم واشتدّ الكرب وعظم الخطب وضاقت السبل وبارت الحيل فنادِ الربَّ بدعاء الكرب: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)، عندها يفرج الهم وينفس الكرب ويذلل الصّعب.
إذا أجدبت الأرض ومات الزرع وجف الضرع وذبلت الأزهار وذوت الأشجار وغار الماء وقلّ الغذاء فمن المغيث إلا الله؟! لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه.
إذا اشتدّ المرض بالمريض وضعف جسمه وشحب لونه وقلت حيلته وضعفت وسيلته وعز الطبيب وحار المداوي ووجف القلب وانطرح المريض ينتظر المقدور فمن المؤمل غير الله؟! ((اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك)).
دب الألم في أيوب عليه السلام، وزاد البلاء عليه في ماله وولده وجسده، حتى لم يبقَ في جسده مَغْرِز إبرة إلا وفيه من الضر ما فيه، واستمرّ به البلاء سنين، فلجأ إلى الله واتجه إلى مولاه، أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، فجاء جبريل برسالة: ?رْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص:42]، وليس العجب لو ركض جبريل إنما العجب أن يركض العليل، فزال الوباء وانكشف البلاء، فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:84].
إذا انطلقت السفينة بعيدًا بعيدًا في البحر اللُّجي، وهبت الزوابع، وتسابقت الرياح، وتلبد الفضاء بالسحب، واكفهر وجه السماء، وأبرق البرق، وأرعد الرعد، وكانت ظلمات بعضها فوق بعض، وهبت الأمواج بالسفينة، وذهبت عن القلوب السكينة، وأشرفت على الغرق، وتربص الموت بالركاب، فمن المؤمَّل؟! ومن الملجأ والملاذ؟! إنه الله لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه. قُلْ مَن يُنَجّيكُمْ مّن ظُلُمَـ?تِ ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَـ?نَا مِنْ هَـ?ذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ?لشَّـ?كِرِينَ قُلِ ?للَّهُ يُنَجّيكُمْ مّنْهَا وَمِن كُلّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:63، 64].
ركب يونس البحر، فساهم فكان من المدحضين، فألقي في لجج البحار، وانقطع عنه النهار، والتقمه الحوت، فصار في ظلمات بعضها فوق بعض، فأين التجأ؟! وبمن اعتصم؟! لقد نادى في الظلمات: أَن لاَّ إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَـ?نَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنبياء:87]، فسمع الله نداءه وأجاب دعاءَه، فنجَّاه من الغم، وكذلك ينجِّي المؤمنين.
إلهي وجاهي إليك اتجاهي وطيدًا مديدًا لترضى فأرضى
فأنت قوامي وأنت انسجامي مع الكون والأمر لولاك فوضى
إذا حلقت الطائرة في الأفق بعيدًا، وكانت معلقة بين السماء والأرض، فأشَّر مؤشِّر الخلل وظهرت دلائل العطل، فذعر القائد، وارتبك الركاب، وضجت الأصوات، فبكى الرجال وصاح النساء وفجع الأطفال، وعم الرعب وخيّم الهلع وعظم الفزع، فإلى من الملتجأ؟! إنه الله الذي يمسكها كما أمسك الطير، أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ?لطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـ?فَّـ?تٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ?لرَّحْمَـ?نُ إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ [الملك:19].
إذا اعترض الجنين في بطن أمه، وعسرت ولادته وصعبت وِفادته، وأوشكت على الهلاك وأيقنت بالممات، فعندها لا يكون الملجأ إلا إلى الله، أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ [النمل:62].
إذا خط الشيب في العارضين وكبر السن ورق العظم ولا عقب ولا ذرية فالمتَّجَه الله والمؤمَّل الله، وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى? رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ ?لْو?رِثِينَ فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى? وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ?لْخَيْر?تِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خـ?شِعِينَ [الأنبياء:89، 90]. فالله تعالى هو الملاذ في الشدة والأنيس في الوحشة والنصير في القلة.
إليه وإلاّ لا تشدّ الركائب ومنه وإلاّ فالمؤمَّل خائب
وفيه وإلاّ فالغرام مُضيَّع وعنه وإلا فالمحدِّث كاذب
وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَـ?شِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدُيرٌ [الأنعام:17].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الولي الحميد، المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد وهو الحميد المجيد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله حق التقوى.
أيها المسلمون، حين يتكالب الأعداء علينا وتقوى شوكتهم ويشتد أمرهم، وحين توجه الضربات تلو الضربات للإسلام وأهله، والمسلمون في حالة من الخذلان والضعف، فإنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فهو يجير ولا يجار عليه.
خرج النبي يريد لقاء قريش في بدر، وقد أقبلت قريش بخيلائها وفخرها تحادّ الله وتكذِّب رسوله، وكان عدد المشركين أضعاف عدد المسلمين، فلما اصطفّ الفريقان وتقابل الجيشان قام رسول الله يبتهل إلى الله ويلجأ إليه ويدعوه وهو يقول: ((اللهم إنك إن تهلك هذه العصابةُ لا تعبد في الأرض)) ، وجعل يهتف بربه عز وجل ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتني ما وعدتني)) ، ويرفع يديه إلى السماء حتى سقط الرداء عن منكبيه، وأبو بكر رضي الله عنه يلتزمه من ورائه ويسوي عليه رداءه ويقول: يا رسول الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه منجز لك ما وعدك. رواه مسلم. وضج الصحابة بصنوف الدعاء، فأنزل الله نصره وجنودًا لم يروها، وكان حقًا عليه نصر المؤمنين.
بك أستجير فمن يجير سواك فأجِر ضعيفًا يحتمي بحماك
ولما كان يوم الأحزاب واشتد الأمر وذَهلت الألباب وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، وابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدًا، وجاءت قريش ومعها الأحزاب واجتمعت الجيوش المشتركة، وأحاطت بالمدينة إحاطة السور بالمعصم، وحوصر المسلمون قريبًا من عشرين ليلة، لم يكن للرسول وأصحابه إلا الالتجاء إلى الله والاعتصام به، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يوم الخندق: يا رسول الله، هل من شيء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟! قال: ((نعم، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا)) حسنه الألباني، وثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن أبي أوفى قال: دعا رسول اله على الأحزاب فقال: ((اللهم منزل الكتاب سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم)) ، فأجاب الله عبده ونصر جنده وهزم الأحزاب وحده. أرسل الله على الأحزاب ريحًا كفأت قدورهم، واقتلعت خيامهم، وفرقت جموعهم، إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ?لأَشْهَـ?دُ [غافر:51].
إن مسنا الضر أو ضاقت بنا الحيل فلن يخيب لنا في ربنا أمل
الله في كل خطب حسبنا وكفى إليه نرفع شكوانا ونبتهل
من ذا نلوذ به في كشف كربتنا ومن عليه سوى الرحمن نتكل
فافزع إلى الله واقرع باب رحمته فهو الرجاء لمن أعيت به السبل
اللهم آمن روعاتنا، واستر عوراتنا...
(1/3853)
مع المحبرة إلى المقبرة
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
26/3/1423
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- طلب العلم ليس له وقت محدد ولا عمر معين. 2- فضل العلم وطالبه. 3- بعض الأمور المعينة على تحصيل العلم. 4- بعض الأمور المانعة من تحصيل العلم. 5- الحث على استغلال أوقات الإجازة بما يفيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله.
رأى رجلٌ مع الإمام أحمد محبرة فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، ومعك المَحبَرَةُ تحملها فقال: مع المَحبَرة إلى المقبرة. وجاء عن محمد بن إسماعيل الصائغ أنه قال: كنت في إحدى سَفَرَاتي ببغداد، فمرّ بنا أحمد بن حنبل وهو يَعْدُو ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحيي؟! إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟! فقال: إلى الموت.
عليك سلام الله ما كنت جاهلاً فقد كنت ذا عقل وكنت حصيفًا
الإمام أحمد يعدو ونحن لا نعدو، وإن عدَونا أو غَدونا فإلى الدنيا، وشتان بين غدوٍّ وغدوٍّ، فكل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.
سارت مشرِّقة وسِرتُ مغرِّبًا شتان بين مشرِّق ومغرِّب
الإمام أحمد لا يعرف وقتًا محدَّدًا للطلب، ولا عمرًا معيَّنًا للتعلّم، فنداوَة حبره تغذّي قبرَه، وهو مع المحبرة إلى المقبرة. أما نحن فلا نفهم إلا أن فترةَ التعلّم محدودة، ولا نفهِم أولادنا إلا ذاك، فهي (شدّة وتزول)، ثم يعلو الكتابَ التّرابُ.
نشأ ناشئ الفتيان فينا يعدّ الأيامَ عدًّا، وينتظر ساعةَ الفراق السعيدة على خلاف ما تكون عليه ساعات الفراق، حتى إذا تمت الأيام وانتهت الدراسة ودّع كتابّه ومزّق أوراقه، ولربما لفرطِ الفرحة ألقاها أمام المدرسة أو بين عجلات السيارات دون أن يراعي لها حرمةً أو يقدر لها قدرًا، وقد رأيت يومًا بعض كتب الدين وغيرها وقد تتابعت عليها عجلات السيارات وهي تستغيث ولا مغيث. إن مثل هذه التصرفات تدلّ على فراغ روحيّ وفراغٍ تربويّ يحتاج إلى مزيد عناية ومعالجة.
إن العلم عبادة، والله لم يجعل لعبادة المؤمن حدًّا في الدنيا إلا الموت، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99]، ومع المحبرة إلى المقبرة.
العلماء ورثة الأنبياء، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضًى بما يصنع، وإنّ العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم عل العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.
العلم شرف الدهر ومجد العصر وحياة الفكر، ذهب الملك بحرّاسه، وبقيت بركة العلم في أنفاسه، العلم أعلى من المال، وأهيبُ من الرجال، وهو طريق الكمال، قال سفيان الثوري: "لا أعلم بعد النبوة أفضل من العلم". طلب العلم أفضل من نوافل العبادات، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (العلم أفضل من القائم الساجد).
فهذا فضل العلم فعليك به، وكن مع المحبرة إلى المقبرة.
إذا توجهت لطلب العلم فداوم السير وإياك والانقطاع، فقليل دائم خير من كثير منقطع، وإياك والكسل، فالجبال لا يصعد إليها مُقعَد، والقمم لا يعتليها ضعيف.
وما كل هاوٍ للجميل بفاعلٍ ولا كلّ فعّالٍ له بمتمِّم
فَطَلِّق الكسل، وزاول العمل، واحمل المحبرة إلى المقبرة.
إياك واحتقار النفس والحكم عليها مسبقًا بالفشل، فأنت تملك قدرات عظيمة، لكنّ سوّاف الزمن وأحاديث الغفلة قد أخفتها، فاجتهد واعلم أن كثرة تحريك الماء تزيد في النقاء، وأن الذاكرة تولد مع المذاكرة، ودواء النسيان مداومة النظر في الكتب، جاء عن أبي هلال العسكري رحمه الله أنه قال: "كان الحفظ يتعذر عليّ حين ابتدأت أطلبه، ثم عوّدت نفسي إلى أن حفظت قصيدة رؤبة في ليلة، وهي قريب من مائتي بيت"، وقال أيضًا: "حكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت في بعض قرى النّبط فتى فصيح اللهجة حسن البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لُكْنَة أهل جلدته فقال: كنت أعمد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ، فأرفع بها صوتي في قراءتها، فما مرّ بي إلا زمان قصير حتى صرت إلى ما ترى"، فبادرْ ولا تيأسْ، وداوم قرع الباب، فعن قريب يفتح، والزم المحبرة إلى المقبرة.
اعلم أن الظروف لا تتهيأ لأحد، واليوم أنت أهيأ منك غدًا، فبادِر قبل أن تبادَر، وإياك والتسويف فإنه من جنود إبليس، والمنى رأس أموال المفاليس. التسويف أنشودة الفاشلين وشعار الجاهلية ونغمة الكسالى وعذر البطالين، وَلَوْ أَرَادُواْ ?لْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـ?كِن كَرِهَ ?للَّهُ ?نبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46].
إذا كان يؤذيك حر الصيف ويبس الخريف وبرد الشتاء
ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي: متى؟!
فمن مكانك حدّد، ومن أوانك قرّر، وخذ المحبرة إلى المقبرة.
اعلم أن تحصيل العلم لا بدّ له من هجر اللذات وبذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعبر إليها إلا على جسر المشقة، ولا ينال العلم براحة الجسم.
لولا المشقة ساد الناس كلهم الجودُ يفقر والإقدام قتّال
قال إبراهيم الحربي رحمه الله: "أجمع عقلاء كلّ أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة فاتته الراحة". فألزم نفسك الجادة، واصبر على المشقة، ومع المحبرة إلى المقبرة.
لا تستنكف من طلب العلم على غير المرموقين، أو أن تستفيد من غير المشهورين، فهذا نوع غرور وتكبر، والعلم لا يناله مستحٍ ولا متكبر، يقول الغزالي رحمه الله: "فالاستنكاف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين هو عين الحماقة، فإن العلم سبب النجاة والسعادة، ومن يطلب مهربًا من سبعٍ ضارٍ يفترسه لم يفرّق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل، وقد روي: الحكمة ضالة، المؤمن حيثما وجدها فليجمعها إليه" اهـ.
ثم بعد هذا العرض والاستحثاث فإن أمامنا إجازةً كبيرة، فيها ما يزيد عن مائة يوم، لو رتب الواحد نفسه لربما حفظ من القرآن جزءًا ليس باليسير، أو أتم شيئًا من المتون العلمية، والعاقل لا يعدم الحيلة، والمطلوب هو قضاء الإجازة بما يفيد علمًا أو دعوة، أو حتى فيما يعود عليه بالنفع في دنياه، وأن لا تذهب عليه الأيام دون فائدة، فإن الفراغ رأس كل بلاء، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني أكره أن أرى الرجل سبهللاً ليس في أمر دينه ولا دنياه).
وإن على الآباء أن يرعوا مسؤوليتهم تجاه أولادهم، وأن يأخذوا كل سبب من أجل قضاء أوقات أولادهم بما ينفع، وها هي حلق التحفيظ والدروس والدورات العلمية والمراكز الصيفية قد فتحت أبوابها تنادي طلابها. وحين تعوز الأب الوسيلة فلا يقعد مكتوف اليدين، بل عليه أن يستعين بأهل الخبرة، فما ندم من استشار.
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3854)
موسى عليه السلام في أرض مدين
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
القرآن والتفسير, القصص
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
1/1/1423
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سقيا موسى أغنام المديانيتين. 2- حياء الفتاة المديانية وعفتها. 3- عرض الرجل الصالح ابنته للزواج. 4- تيسير تكاليف الزواج. 5- العودة للرسالة والبلاغ.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا الله حق التقوى.
خرج موسى عليه السلام من مصر خائفًا يترقب وهو يقول: رَبّ نَجّنِى مِنَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:21]، ثم توجه تلقاء مَدْيَن وهو يلهج بالدعاء: عَسَى? رَبّى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاء ?لسَّبِيلِ [القصص:22]، ثم يدخل ديار مَدْيَن ويحدث له فيها قصة، قصةٌ لم يتجاوزها القرآن، كما هي طريقته المعجزة في طيّ السنين والوقوف عند الحدث المؤثر فحسب.
لقد وقف القرآن مع هذا الحدث ليدلّ على أهمّيّته وضرورة التماس العبرة منه، فخذ الحدث مقرونًا بدلالاته ممزوجًا بإشاراته، لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِى ?لألْبَـ?بِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى? [يوسف:111].
دخل موسى ديار مدين وقد أجهده التعب وأضناه، يصوّر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: (سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وبطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرَة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شقّ تمرة).
فيرد ماء مدين ليروي عطشه ويبلّ كبده، لكنه يرى مشهدًا يلهيه عن ذلك، مشهد لا ترضاه النفوس الأبيّة ولا تقبله الفِطَر السوية. وجد الرعاةَ يُورِدون أنعامهم لتشرب، ووجد هناك امرأتين تمنَعَان غنمَهما أن ترد مع غنم أولئك القوم، خشيةَ أن تؤذََيا أو يحلّ بهما مكروه. إنها الاستهانة بحقّ الضعيف، حتى لكأنما الدنيا ملك الغني القوي فحسب.
لقد أثار هذا الموقف في نفس موسى من الرحمة والشفقة والمروءة ما أثار، الشيء الذي جعله ينسى رَهَقَ الطريق وتعبه، فيتقدم لإقرار الأمر في نصابه وإعادة الحقّ إلى أصحابه، تقدم ليسقي لهما أولاً قبل أن يتولى إلى الظل ليرتاح.
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
وينبغي أن لا يغيب عن ذهنك وأنت ترى هذه الصورة المشرقة أنّ موسى عليه السلام غريب في ديار مدين لا يُعرف، ليس له سند ولا ظهير، ومن عادة الغريب أن يكون هيّابًا، فكيف إذا كان مع ذلك مُطارَدًا شريدًا؟! لكن هذا كلّه لم يكن ليمنع سجاياه الكريمة أن تظهر، وشيمة المؤمن تجعله لا يقدم المعروفَ للمعروفِ فحسب، بل يبذله للناس عامة.
وأيضا فإن موسى عليه السلام مكدود الخاطر قادم من سفر طويل، لا زاد له ولا استعداد، شريد مطارد يترقّب، ولم يكن ذلك كلّه ليقعده عن تلبية دواعي المروءة والمعروف، قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى? يُصْدِرَ ?لرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى? لَهُمَا [القصص:23، 24].
روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: (إن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمَّة من الناس يسقون، فلما فرغوا أعادوا الصخرةَ على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستقِ إلا ذَنوبًا واحدًا حتى رويت الغنم).
ما أجمل أن يجتمع مع الإيمان قوّة الجسد وكمال البنية وتمام الصحة، وهو أحد المعاني في قوله : ((والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) [1].
سقى لهما موسى عليه السلام ولم يكن في سقيه يطلب أجرًا، تولى عنهما، لم ينتظر كلمة مدح أو عبارة ثناء، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ?للَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا [الإنسان:9].
توجه موسى عليه السلام ببدنه إلى الظلّ ليتّقي شدّة الحر، ولكن توجّهه الأكبر كان في قلبه وروحه، حين توجه إلى ظلال رحمة الوهاب، توجه إلى الله يناديه ويعرض حاله عليه ويناجيه، رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24].
يا فالق الإصباح أنت ربي وأنت مولاي وأنت حسبي
إن من يأوي إلى الله يأوي إلى ركن شديد وإلى مولى حميد، فأين الفقير؟! وأين الشريد؟! وأين الأسير والكسير؟! وأين من يبغي صلاح ولده وشفاء جسده؟! إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود:61].
دعا موسى عليه السلام وأَلحَّ، فاستجاب الله له وما أسرع ردَّ الجواب من الوهاب، فها هي إحدى البنات تقبل عليه، تبلّغه دعوة أبيها: إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25].
ولكن ثمّةَ في هذا الموقف درس عظيم، لا نستطيع أن نغفله أو نعرض عنه صفحًا، إنه مشهد الطهر والنقاء والعفة والحياء، يصوّر ذلك حالُ المرأة وهي تأتي إلى موسى لتبلّغ دعوة أبيها، فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء [القصص:25]، تمشي مِشية الفتاة الطاهرة النقية حين تلقى الرجال، عَلَى ?سْتِحْيَاء ، من غير تبذل ولا تبرج ولا تبجّح ولا إغواء، لم تأتِ لتعرض مفاتنها.
روى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: (جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَعٍ من النساء ولاّجةً خرّاجة). إنها حالة المؤمنة العفيفة وضوحًا في غير خضوع، إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، بدون زيادات أو مقدمات أو عبارات إعجاب أو لفظة ثناء.
ويجيء موسى معها إلى أبيها كما يجيء الكرام، قال عمر وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم: (إن موسى لما جاء معها تقدمت أمامه لتدلّه الطريق، فقال لها: كوني ورائي، فإذا اختلف عليّ الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه).
إنها الأمانة في أعلى مراتبها وأرفع منازلها، ولست بحاجة أن أذكر مرة أخرى أن موسى عليه السلام يفعل ذلك وهو غريب، وعادة الغريب في غير بلده أنه لا يبالي بما يفعل، حيث قد يهون فيخون، ويَذِلّ فيَضلّ، وسل الواقع تجد صدق ما أقول. أما الرجل الصالح الذي يهتدي بنور الله فإنه يدرك أنه وإن كان الناس لا يعرفونه إلا أنه لا يغيب لحظة عن نظر الله وعلمه وإحاطته، وَأَنَّ ?للَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق:12].
جاء موسى إلى الرجل الصالح فقصَّ عليه قصته فهدَّأ من روعه، وقال له: لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [القصص:25]، فأنت في مأمن مما تخاف، وما أحوج الداعية المطارد إلى من يطمئن فؤاده ويهدّئ من روعه ويهيئ له مكانًا آمنًا يأمن فيه على نفسه ودعوته.
ثم تطلب إحدى البنات من أبيها أن يستأجِر موسى عليه السلام لرعي الغنم، ولعلّها وأختها تعانيان من مزاحمة الرجال على الماء فتتأذيان من ذلك كله، وتبغيان القرار في البيت، الشيء الذي يضفي على المرأة الستر والحياء، في وقت تتسابق فيه النساء إلى الخروج لحاجة ولغير حاجة، ((وبيوتهن خير لهن)) [2] ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ي?أَبَتِ ?سْتَجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ ?سْتَجَرْتَ ?لْقَوِىُّ ?لامِينُ [القصص:26]، القوة والأمانة ركنان للولاية لا يتم صلاحها إلا بهما.
ثم يتكلم الأب الرجل الصالح بصراحة ووضوح دون غموض أو تلجلج ليقول: إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ?بْنَتَىَّ هَاتَيْنِ [القصص:27]، وليس في ذلك ما يدعو إلى الخجل أو التردّد والحرج، فهو يعرض عليه بناء أسرة وإقامة بيت.
إنَّ عَرضَ الرجل ابنته ومن تحت يده على رجل صالح كفء ليتزوجها أمرٌ جائز، لا غضاضة فيه ولا عيب، بل هو سنّةٌ قائمة، فقد أخرج البخاري في صحيحه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عرض ابنته حفصة على عثمان بن عفان فلم يبدِ رغبة في نكاحها، قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت زوجتك ابنتي حفصة، فصَمَت ولم يرجع إلي شيئًا، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه [3].
قال ابن حجر معلقًا: "وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه، لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك" اهـ [4].
وما يظنه بعض الناس من أن المرأة لا تُعرض إلا لنقصها فليس ذلك بصحيح وإن كان قد يحصل، كما أنه قد تكون المرأة المخطوبة دون عَرضٍ أسوأ حالاً من غيرها، ثم إن الإنسان لا يعرض غالبًا إلا أحسن ما عنده وأفضل ما لديه، ويبقى بعد ذلك أن العَرض ليس عَقدًا، بل ـ على اسمه ـ مجرَّد عرض، يليه البحث والتحري والاستخارة والاستشارة، ثم رؤية المخطوبة حين العزم على النكاح.
إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ?بْنَتَىَّ هَاتَيْنِ ، إنّ في تخييره بين ابنتيه إشارةً أخرى بأنه لا بأس بتزويج البنت الأصغر سنًا قبل من تكبرها في العمر، إذ ربما كان باب الكبرى مستورًا ببابِ الصغرى، والله كتب الأرزاق كما كتب الآجال.
ثم يُختم سياق القصة بكريم سجايا الرجل الصالح وحسن دَلِّه، حيث قال: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ [القصص:27]، لن أطلب منك رَهَقًا ولن أكلفك شَطَطًا. فهل يعي هذا أولياء أمور النساء حين تصل بهم محبة المشقة على الزوج درجة كبيرة من حيث شعروا أو لم يشعروا؟! حتى إنك لتجد كثيرًا من الأزواج يلبث بعد زواجه سنين عددًا يدفع أقساطًا تثقل كاهله وتشغل خاطره، وهذا يؤثر ولا بد على راحته النفسية، ومن ثم على استقراره الأسري، والأب يريد لابنته أن تعيش السعادة مع زوجها، فيضرّها من حيث أراد نفعها.
[1] رواه مسلم رقم (2664).
[2] رواه أبو داود رقم (567) وصححه الألباني.
[3] صحيح البخاري (5122).
[4] فتح الباري (9/222) دار السلام.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: إن من الضروري حين تقرير المهر أن يراعى في ذلك الواقع المعيشي الذي يعيشه الزوج ويعيشه المجتمع، وأن تراعى تكاليف الحياة ومتطلباتها، فالأحوال تغيرت عن ذي قبل، وما كان بالأمس مقبولاً قد يكون اليوم غير مقبول ولا معقول.
إن على عقلاء الناس أن يراعوا ذلك، وأن يكونوا قدوة لغيرهم في تيسير أمور الزواج وخفض تكاليفه، و((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء)) [1].
ويتمّ موسى أكمل الأجلين، وتلك سجية الكرام، فهو لا يرضى لنفسه أن يقفَ عند أدنى المراتب وهو يستطيع أن يصل إلى أكملها، لم يكن ليحسب كما قد يحسب غيره: كم سيأخذ عليها من أجر لو كان يتقاضى راتبًا؟! وكم ستكلفه من جهد ووقت يذهب دون عائد أو مقابل؟! لم يكن في حسابه شيء من ذلك.
ثم يسير موسى بأهله بعد انقضاء الأجل، ليرى من آيات ربه الكبرى، وليصارع بعد ذلك دولة الباطل وجنود البغي والعدوان، في عرض قرآني وسرد قصصي يفيض بالدروس والعبر، كِتَـ?بٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ مُبَـ?رَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـ?تِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ?لألْبَـ?بِ [ص:29].
[1] رواه مسلم رقم (1017).
(1/3855)
آفات اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/3/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة اللسان. 2- من شعب الإيمان المتعلقة باللسان. 3- خطورة اللسان. 4- من آفات اللسان. 5- المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، ممّا ميّز الله بني الإنسان عن سائرِ الحيوان نعمةُ اللسان، فاللّسان الذي ينطِق به الإنسان نعمةٌ تفضّل الله بها عَليه، فبهذا اللسان يعبِّر عمّا في نفسه، فيردّ به الجوابَ، ويبيِّن به ما يريد، قال الله جل وعلا: أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:8، 9].
هذا اللسان نعمةٌ عظيمَة من نِعَم الله على العبد، ولكن إن وُفِّق العبد لأن يسخِّر هذه الجارحةَ لما فيه الخير والصلاحُ سعِد به في دُنياه وآخِرتِه، وإن انحرفَ به عن منهج الله خسِر الدّنيا والآخِرة.
هذا اللسان ينطِق بأصلِ الإسلام وأساسه، فكلمةُ التوحيد "لا إله إلا الله" خيرُ قولٍ وأفضله، يقول : ((الإيمان بِضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله)) [1]. فإنّ من أركان الإيمان النطقَ باللسان، فينطِق بكلمةِ الإسلام التي يخرُج بها من دائرةِ الكفر، ويدخل بها دائرةَ الإسلام.
هذا اللسانُ ينطِق بالخير على اختلافِ أنواعه، لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَـ?حٍ بَيْنَ ?لنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذ?لِكَ ?بْتَغَاء مَرْضَـ?تِ ?للَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114].
أجل أيها المسلم، بهذا اللسان يأمر بالمعروف، فيأمُر بلسانه بالمعروف، وينهَى بلسانه عن المنكر، وبه يدعو إلى الله وإلى دينِه، ويُوضح الحقَّ ويبيِّنه، وبه يتلو كتابَ الله ويقرأ سنّةَ رسول الله، وبه التسبيحُ والتكبير والذِّكر لله، فلا يزال لسانُ المسلم رطبًا من ذكرِ الله، تسبيحًا وتكبيرًا، تحميدًا وتهليلاً، فالباقيات الصالحات: سبحانَ الله والحمد لله ولا إلهَ إلا الله والله أكبر؛ ولذا كان من دعاءِ نبيِّنا : ((اللهمّ إني أسألك قلبًا سَليمًا ولِسانًا صادِقًا)) [2].
هذا اللسانُ الصادق يقول الخيرَ وينطق بالخير، فما بين دعوةٍ إلى الله، وأمرٍ بمعروف ونهي عن منكر، وإصلاح بين متنازعَين، وحثٍّ على أبواب الخير، وترغيبٍ في أبواب الخير، وتحذير من الشرِّ ووسائله.
هذا اللسانُ إذا كان صادقًا رأيتَ له جولاتٍ في ميادين الخير كلِّها، فيسعَد به صاحبه وتعلو به منزلتُه وترتفع به درجته.
في وصيّة إبراهيم عليه السلام يقول لنبيِّنا : أخبِر أمّتَك أنّ الجنةَ قِيعان، وأنّ غِراسَها: سبحانَ الله والحمد لله والله أكبر [3].
أيّها المسلم، فاللسان يعبِّر عمّا في القلب، فإن يكن في القلبِ خيرٌ وحبٌّ للخير وفي القلبِ الإيمانُ الصادق نطَق هذا اللسان بما انطوَى عليه القلب من الخيرِ والدعوةِ للخير ومحبَّة المسلمين ونصيحَتهم، وإن يكن في القلب مرضٌ وبلاء ونفاقٌ ـ والعياذ بالله ـ وضلال تحدّث اللسانُ عمّا انطوَى عليه القلب من هذا البلاء العظيم.
أخي المسلم، هذا اللسانُ إمّا شاهِد لك بالخير، أو شاهدٌ عليك بضدّه، ولقد كان سلفُنا الصالح يعظِّمون هذا الأمرَ تعظيمًا كبيرًا؛ لأنهم يبلغهم عن رسولِ الله ما يدلّ على عظيمِ شأنِ اللّسان، ففي حديثِ معاذٍ يقول : ((وهل يكبّ الناسَ في النار على وجوههم ـ أو قال: ـ على مناخِرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) وذاك لمّا قال لمعاذ: ((أمسِك عليك هذا)) ، قال: يا رسولَ الله، وإنا لمؤاخَذَون بما نقول؟! قال: ((وهل يكبّ الناسَ في النّار على وجوههم ـ أو قال: ـ على مناخرِهم إلاّ حصائدُ ألسنتهم؟!)) [4].
فليتّق المسلم ربَّه في لسانه أن يقولَ باطلاً، يدعو إلى ضلالة، يدعو إلى الكفرِ والضّلال، ويقول الباطلَ والسوء، ويتكلَّم بلسانه بأمورٍ لو يدري عن عواقِبِها لأمسكَ عنها.
أيّها المسلم، إن آفاتِ اللسان كثيرة، فأعظمُ آفاته وأشرّها أن ينطِقَ بالكفر، ينطقَ بالضلال، ينطقَ بكلماتٍ تضادّ الإسلام، وتحارب الإسلام، ولا تتّفق مع مبادئِ الإسلام.
من آفاتِه أن ينطقَ بكلماتٍ فيها سخريّة، استهزاءٌ بالله، وسخريّة بدينِه، وتنقُّصٌ لعِباد الله المؤمنين.
مِن آفاتِ اللسان أن ينطقَ بما يصيب الإسلامَ وأهلَه، ويسخرَ بالإسلامِ وأهلِه، ويستهزِئ بتعاليمِ الإسلام، ويسخرَ بمبادئ الإيمان، وينتقصَ أخلاقَ الإسلام، ويزدريَها، ويزعُم أنها أخلاقٌ رجعيّة قد مضى عليها الزّمن، فلا تطابق هذا العصرَ ولا تناسبه، يسخَر بالإسلام بلسانِه، فيتفوَّه بكلماتٍ كلُّها خطأ وضَلال وبُعد عن الهدَى والعياذُ بالله، فتلك من الآفاتِ السيّئة، ولذا قال الله عن الكفار إنهم قالوا: لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـ?ذَا ?لْقُرْءانِ وَ?لْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]. فالكفّار في عهدِ رسول الله تواصَوا أن لا يُصغُوا إلى هذا القرآن، ولا يستمِعوا إليه؛ لعِلمهم أنّ من أصغى إليه فسيجِد فيه البيانَ الكافي والحجّةَ القاطعة، وقالوا: وَ?لْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ، حاوِلوا التشويشَ على محمّد إذا تلا وعلى تلاوتِه لعلّكم تغلبون ذلك، فلا يكونُ لهذا القرآن نفوذٌ في مسامِع النّاس.
إذًا، فعلى كلِّ كاتبٍ إذا كتَب أن يكتبَ خيرًا، وأن يقولَ خيرًا، وليحذَر أن يطلقَ للسانِه العنانَ فيقول به ما فيه محادّة لله ورسولِه، وليعلَم أنه محاسَب عن ألفاظِه كلِّها، مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النور:24].
فاتَّقِ ربَّك ـ أيّها المسلم ـ فيما تنطِق به من كلمات، زِنْها، وحاسِب نفسَك: هل ما قلتَ حقّ تنصُر به الإسلامَ وأهله، أو ما قلتَ باطل تحارِب به الإسلامَ وأهلَه؟ وأنت مسؤولٌ عن ألفاظك كلِّها، ومهما عرفتَ المراوغةَ فالله عالم بسرّك وعلانيتِك، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19].
أيّها المسلم، كم من كلماتٍ يتفوّه بها بعض الناس ولا يدرِي أنه يزِلّ بها في النار أبعدَ ما بين المشرق والمغرب، ينطِق بكلمة مليئةٍ بالسخرية، مليئةٍ بالاستهزاء، مليئةٍ باللّمز بالمؤمنين واحتقار دينهم والحطّ من شأنهم وتصوير أهل الإسلام والمستمسِكين به بأنهم الرّجعيون، وبأنهم الجامِدون، وبأنهم غيرُ الفاهمين، وبأنهم الذين يعيشونَ في القرون الوسطى، ولا يستطِيعون أن يعيشوا في القرنِ العِشرين، كلُّ ذلك من بُغضٍ للإسلامِ وبُغضٍ لتعاليمِه وأخلاقه وآدابه، والله قال في أولئك: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِ?للَّهِ وَءايَـ?تِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءونَ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَـ?نِكُمْ [التوبة:65، 66]، ويقول جل جلاله: يَحْلِفُونَ بِ?للَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ?لْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَـ?مِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ [التوبة:74].
فليتَّق المسلم ربَّه أن لا يقولَ باطلاً، ولا يدعوَ إلى ضلالٍ، ولا يحاربَ الإسلام وأهله.
آفاتُ اللسان كثيرةٌ، الكذِب على الله في شرعِه ودينه بأنّه أحلّ كذا واللهُ ما أحلّه، وحرّم كذا واللهُ ما حرّمه، فذاك من الآفاتِ العظيمة؛ إذ القولُ على الله بلا علمٍ أعظمُ الكبائر وأشدّها، بل هو أعظمُ من الشّرك بالله، وَأَن تُشْرِكُواْ بِ?للَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـ?نًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ?للَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف:33]، قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ?للَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ?للَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]، وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ [النحل:116]، وفي الحديث: ((من كذَب عليَّ متعمدًا فليتبوّأ مقعدَه من النار)) [5].
آفاتُ اللّسان منها الغيبةُ للمسلمين، وانتهاكُ أعراضهم، والبحثُ عن معائِبهم، والتحدّث عن زلاّتهم، ومحاولة البحثِ عن أخطائهم ليجسِّدها ويعيبهم بها ويحتقرَهم بها، فذاك من الآفات، وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ [الهمزة:1]، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عَسَى? أَن يَكُونُواْ خَيْرًا مّنْهُمْ وَلاَ نِسَاء مّن نّسَاء عَسَى? أَن يَكُنَّ خَيْرًا مّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِ?لأَلْقَـ?بِ بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [الحجرات:11].
فاغتيابك للمسلم وذكرُك مساوئَه التي يكرهها وهمزُك ولمزك له وعيبُك إيّاه وانتقاصُك إيّاه بلسانك واحتقارك له وبحثُك عن معائبِه وحرصُك على هذا كلُّها آفاتٌ ضارّة، فالمسلِم مطلوبٌ منه السِّتر على المسلمين وعدم عَيبِهم ولَمزِهم والكفّ عن ذلِك؛ لأنهم إخوانك المسلمين، فما يسوؤهم فإنّه يسوؤك، بِئْسَ ?لاسْمُ ?لْفُسُوقُ بَعْدَ ?لإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ.
مِن آفاتِ اللّسان السعيُ بالنّميمة بين الأمّة ليفرِّقَ بها جمعَهم، ويفرّق بها أخوَّتَهم وصحبتَهم، فتلك النميمةُ القالّة بين النّاس التي تُوعِّد صاحبُها بأنّه لا يدخل الجنّةَ، وفي الحديث: ((لا يدخل الجنّةَ نمّام)) [6] ، وأُمِرنا أن لا نطيعَه ولا نصغيَ إلى كلامِه ولا نلقِيَ له بالاً: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:10-12].
مِن آفاتِ اللّسان شهادةُ الزّور، فيشهَد على باطلٍ شهادةً هو غيرُ محِقّ فيها، لكنه يشهدها مجامَلةً ومراعاة لصُحبةٍ أو قرابة أو نحو ذلك، أو اشتراكٍ في مصالح، فيشهَد شهادةً يعلَم الله كذبَه فيها، ولكن الحاملَ عليه محبّةٌ أو طمَع مادّيّ ومصالح مشتَرَكة بينهما، فيشهَد زورًا، فيقول باطلاً، وفي الحديث: ((ألا وشهادَة الزور)) ، فما زال يكرِّرها حتى قال الصحابَة: ليتَه سكَت [7].
من آفاتِ اللسان الجدالُ بالباطل، ذالكم الجدالُ الذي لا يقصَد به حمايةُ حقٍّ ولا دَحض باطل، ولكنه جدال بالباطِل وجدال بغيرِ حقّ، وإنما هوَ جدال لتصحيحِ الباطلِ وإقرار الخطَأ والدّفاع عن أهل الباطل.
مِن آفات اللسان ـ يا عباد الله ـ السِّبابُ واللعان، فتلك مصيبةٌ عظيمَة، فليس المؤمِن بالسبّاب ولا باللّعّان، ولا بالفاحش البذيء، فينزّه لسانَه عن اللعن، وعن قذفِ المسلمين ورميهم بما هم برآءٌ منه، وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58]. فاتِّهام المسلمين ورميُهم بالعظائمِ وقذفُهم بما هم برآء منه من آفاتِ اللسان الخطيرة، ولذا جُعل حدّ القاذِفِ للمسلمِ أن يُجلَد ثمانين جلدةً، وأن تُردَّ شهادته، وحُكِم عليه بالفِسق، نتيجةً لكذبه وباطله.
أيّها المسلمون، من آفات اللّسان الكذب في الحديث وعدَم تحرّي الصدق، فتلك مصيبةٌ عظيمة، ويكذِب على النّاس في تعامُله معهم، فيغشّهم ويخدَعهم ويظنّون صِدقَه، والله يعلم أنه كاذِب.
إنّ الإسلامَ هذّب لسانَ المسلِم وأدّب قولَه حتى يقولَ الحقّ وينطقَ بالحقّ ويبتعدَ عن الباطل، فبذاءةُ اللّسان مصيبةٌ عظيمة، في الحديثِ: ((إنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من سخَط الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يهوي بها في النارِ أبعدَ مما بين المشرِق والمغرب. وإنّ العبدَ ليتكلّم بالكلمة من رضوانِ الله، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يَلقاه)) [8].
فيا إخوتي المسلمين، اتّقوا الله في أنفسِكم، في ألسنتكم، فاحذَروا الشماتةَ بالأمّة، احذروا الشماتةَ بالمسلمين وتتبُّع عوراتهم والكذبَ عليهم وشهادةَ الزور وهمزهم ولمزَهم والسخريةَ بهم واحتقارَهم والتحدث في أعراضِهم بأمرٍ تعلمون [أنه] لا مصلحةَ لكم فيه، وإنما إشغالُ الوقت بما لا خيرَ فيه.
أسأل الله أن يعينَني وإياكم على شكرِه وذِكره، وأن يجعلَنا من المتّقين الذين يستمِعون القول فيتّبعون أحسنه.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفورُ الرحيم.
[1] رواه البخاري في الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان (35) واللفظ له عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] رواه أحمد (4/125)، والترمذي في الدعوات (3407) من طريق أبي العلاء بن الشخير عن رجل من بني حنظلة عن شداد بن أوس رضي الله عنه، وفي سنده الرجل الحنظلي وهو مجهول، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (675). ورواه الطبراني في الكبير (7/294)، والحاكم في معرفة علوم الحديث (ص27) من طريق أبي العلاء عن رجلين عن شداد، والنسائي في السهو (1304) عن أبي العلاء عن شداد ليس بينهما الحنظلي.
[3] رواه الترمذي في الدعوات (3462)، والبزار (1992)، والطبراني في الصغير (539) والأوسط (4170) والكبير (10/173)، والخطيب في تاريخ بغداد (2/292) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وقال المنذري في الترغيب (2/276): "رواه الترمذي والطبراني عن عبد الواحد بن زياد عن عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم عن أبيه عن ابن مسعود... أبو القاسم هو عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن هذا لم يسمع من أبيه، وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الكوفي واه"، وقال الهيثمي في المجمع (10/91): "فيه عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة الكوفي وهو ضعيف"، وله شاهدان عن ابن عمر وأبي أيوب رضي الله عنهما، وبهما قواه الألباني في السلسلة الصحيحة (105).
[4] أخرجه أحمد (5/231)، والترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في حرمة الصلاة (2616)، والنسائي في الكبرى (11394)، وابن ماجه في الفتن، باب: كف اللسان في الفتنة (3973)، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (2/447)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (2110).
[5] رواه البخاري في العلم (110)، ومسلم في المقدمة (3) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه غيره من الصحابة كثير.
[6] رواه البخاري في الأدب (6056)، ومسلم في الإيمان (105) واللفظ له عن حذيفة رضي الله عنه.
[7] رواه البخاري في الشهادات (2654)، ومسلم في الإيمان (87) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[8] رواه البخاري في الرقاق (6477، 6478)، ومسلم في الزهد (2988) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول : ((المسلِم من سلِم المسلمون مِن لسانه ويده)) [1].
فالمسلِم كامِل الإسلامِ مَن سلم المسلمون مِن شرِّ لسانِه، فليس مغتابًا لهم، ولا نامًّا بينهم، ولا كاذبًا عليهم، ولا شاهدَ زورٍ، ولا ساخرًا بهم، ولا مستهزئًا بهم، ولا باثًّا إشاعاتٍ كاذبةً عنهم، ولا راميًا لهم بالعظائِم، ولا متَّهِمًا لهم بما هم برآء منه.
كم يحمل الحسدُ أناسًا على التحدّث عن الآخرين، يتحدّث عنهم محاوِلاً أن يوقِع الناسَ في الطعن فيهم وتتبّع زلاتهم وعثراتهم، ما كفاه ما في قلبِه من المرض، ولكنه إذا جاءَ المجالسَ تحدّثَ عن مساوئِ فلانٍ ومعائب فلان، وما أُخِذ على فلان، وما قيل عن فلان، بأشياء هي غيرُ واقعه، لكن في قلبِه مرض الحسدِ والحِقد، يريد أن ينفِّسَ عن نفسه، فيجعَل الآخرين يشارِكونه ويشاطِرونه أخطاءَه وآثامه، فلنحذَر من أولئك، ولا نفتَح المجالَ لهم ليقولوا في الناس ما ليسَ فيهم.
إنّ المسلمَ يحمي نفسَه، يحمي لسانَه أن يتحدَّث عن الآخرين بما لا عِلمَ له به، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]. لو كان فيك خيرٌ لنصحتَ، ولو كان فيك خير لوجّهتَ، ولو كان فيك خير لهدَيتَ إلى الطريق، ولكن لمَّا انعَدم الخير من نفسِك أردتَ أن تنفِّس عن حسَدِك وحِقدك وبغضِك وكراهيتك للآخرين وشماتتِك بهم، أن تتحدّث بلسانك عن مصائبِهم ونقائصهم؛ لأجل أن تشركَ الناس في إثمك، وتشركَ النّاس في أخطائك. فلنتَّق الله، ولنطهّر مجالسَنا من هؤلاء الذين يحبّون الطعنَ في الأمّة، قال جل وعلا: إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] رواه البخاري في الإيمان (10)، ومسلم في الإيمان (40) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وورد أيضا من حديث أبي موسى وجابر وأبي هريرة وأنس وعمرو بن عبسة وفضالة بن عبيد رضي الله عنهم.
(1/3856)
إماطة الأذى عن الطريق
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الآداب والحقوق العامة, محاسن الشريعة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/3/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان شعَب. 2- معنى لا إله إلا الله. 3- أدنى شعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق. 4- عناية الإسلام بالنظافة. 5- الترهيب من إلقاء الأذى في طريق الناس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في الصحيحِ عنه أنه قال: ((الإيمان بِضع وستّون ـ أو قال: ـ بضع وسبعون شعبة، فأعلاها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) [1].
أيّها المسلم، يبيِّن أنّ الإيمانَ شعبٌ بعضُها أعلى من بعض، فأعلى شعَب الإيمان وأولاها وأفضلُها النطق بكلمة التوحيد: "لا إله إلا الله" التي تقتضي إثباتَ العبادة لله، وأنّ الله وحدَه المعبود بحقّ، وما سواه فمعبودٌ بالباطل، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62]. فلا إله إلا الله معناها الحقيقي: لا معبود بحقٍّ إلا الله، فهي العُروة الوثقى، وهي كلِمة التقوى، وهي أصل الإسلام، لأجلِها خلَق الله الخلقَ وأنزل الكتب وأرسل الرّسل.
وبعد ذلك شعبٌ متفاوتة، فأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، أدنى شُعب الإيمان أن تزيلَ الأذى عن طريق المسلمين، تزيل ذلك الأذى الذي يعكِّر طريقَ المسلمين، يحول بينهم وبين انتظامِ سيرِهم في طريقهم، ذلك الأذى الذي يلحَق بالمارّ إما لكونه يمنَع من الطريق أو كونِه يلوّث ملابسهم ويؤذيهم برائحتِه المنتِنة إلى غير ذلك، فكلّ ما كان أذًى في الطريق فأزلتَه فإنك قد أتيتَ شعبةً من شعب الإيمان.
إذًا فالعناية بطريق المسلمين والاهتمامُ به خُلُق من خُلُق الإيمان، شعبةٌ من شعب الإيمان، خَصلةٌ من خصال الإيمان، وأدناها ـ أي: أدنى شعب الإيمان ـ أن تميطَ الأذى عن الطريق. فنبيُّنا بهذا يرشِدنا إلى أنَّ إزالة الأذى إيمان وعمَل صالح يتقرّب به العبدُ إلى الله.
أخي المسلم، قد يقول البعض: لستُ مسؤولاً إلاّ عمّا قُربَ منزلي وما يضيّق طريقي مما يؤذيني، وسائرُ الطريق له الجهات المختصَّة، وله المسؤولون المعنيّون به، فهي مهمّة الأمانَة ومسؤوليّتها، وأمّا أنا فلستُ بمسؤول عن الطُّرق، وليس ذاك يعنيني ويهمّني.
نعم أيها المسلم، للطّرق من يعتني بها، ولها من تكفّل بها وبصيانتِها ونظافتها، وهذا أمرٌ لا إشكالَ فيه، لكن هذا لا يعفيك أن تشاركَ في الخير وتساهمَ في الخير، فإنّ هذه النظافةَ شعبة من شعَب الإيمان، ولذا قال نبيّنا: ((وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق)) ، حتى تكونَ نظافة المرافِق العامّة والعناية بها مسؤوليّةَ الأمّة جمعاء، مسؤوليةُ الأمّة جمعاء العنايةُ بمرافق الأمة والاهتمام بها ورعايتها وإزالة كلّ ما يعيق الانتفاعَ بها.
أيّها المسلمون، وسنّة محمّد بيّنت فضلَ إزالة الأذى عن الطريق ورغّبت في ذلك، وجاء الوعدُ الصادق لمن اعتنى بذلك، وفي ضدِّ ذلك الوعيد الشديدُ على من آذى المسلمين في طرُقهم ولوَّث طرقَهم وجلَب لها الضرَر.
فيروي أبو ذرٍّ رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((عُرضَت عليَّ أعمال أمّتي حسنُها وقبيحُها، فرأيتُ في محاسنِها الأذى يُزال عن الطريق، ورأيتُ في مساوئها النُّخامة تكون في المسجدِ لا تدفَن)) [2]. فبيَّن أنّ من محاسنِ أعمال أمّته الأذى يزال عن الطريق، فهو من محاسنِ أعمال أمّته التي يفتخرون بها، وهي إزالة الأذَى عن الطريق، فهو عملٌ صالح مِن الأعمال الصالحة التي عُرضَت على نبيّنا ، هذا ممّا يدلّك على أنّ الإسلام قد اعتنى بالنظافةِ واهتمّ بشأنها وأولاها العنايةَ التامّة، فهو يحثُّ المسلمَ على نظافةِ طريقِه كما يحثّه على نظافة بدَنه وملبَسه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]، وفي الحديث: ((إنَّ الله إذا أنعمَ على عبده بنعمةٍ أحبَّ أن يُرى أثرُ نعَمه على عبده)) [3].
وانظر إلى الوضوءِ الذي يتكرَّر في اليوم والليلةِ على الأعضاء، وانظر إلى غسل الجمعةِ والدعوة إليه، وانظر إلى الأمر بغسلِ الجنابة، وانظر إلى نهيِ المسلم عن مجامعة الحائضِ قبل اغتسالها لما من ذلك من الأذى، وانظر إلى ما جاء به من خِصالِ الفطرة من تقليمِ الأظافر وقصّ الشارِِب ونتف الإبط وأخذ شعرِ العانة إلى غير ذلك مما جاءت به الشريعة، دعوةٌ إلى نظافةِ البدن، ودعوةٌ إلى نظافة الملبَس، ودعوةٌ إلى نظافةِ الطريق، وانظر إلى نظافة المسجد، وكيف النبيّ لما أُخبِر عن تلكم المرأة التي كانت تقمّ المسجد بعدما ماتت ولم يخبروه بشأنها قال: ((ألا آذنتموني؟! دلّوني على قبرها)) فصلى عليها [4].
إذًا فنظافة الطريق جزء من الإيمان، ذلك أنَّ الإيمان شعبٌ متفاوِتة، بعضُها أعلى من بعض، ودين الإسلام جاء بما يحقِّق للأمَّة كلَّ خير وسعادة، وبما يحقّق لها الخيرَ والاطمئنان في كلّ أحوالها.
قال أبو برزة الأسلمي صاحبُ رسول الله : يا رسولَ الله، لستُ أدري أيمضي عمري أم أبقى بعدَك، فدُلَّني على أمرٍ ينفعني، قال: ((افعَل كذا وكذا، وأمِرَّ الأذى عن الطريق)) [5] ، فأمره بإمرار الأذى وإزالته عن الطريق، وأخبره أنّ هذا من الأمر الذي ينفَعه.
وبيَّن أنّ إزالةَ الأذى عن الطريق صدقةٌ يتصدَّق بها الإنسان على نفسِه، فيقول : ((يصبِح على كلِّ سُلامَى من الناس صدقة، كلّ يوم تطلُع فيه الشمس تعدِل بين اثنين صدقة، وتعين الرجلَ على دابّته فتحمِله عليها أو ترفَع له عليها متاعَه صَدقة، والكلِمة الطيّبة صدقة، وبكلّ خطوة تخطوها إلى المسجِد صَدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة)) [6]. فانظر إلى خُطى المسجدِ والكلِمة الطيّبة والإصلاح بين الناس ثمّ إماطة الأذى، فصار من جملةِ الأعمال الصّالحة التي ينتفِع بها العبد، وتكون صدقة منه شكرًا لله على سلامةِ قِواه.
ويبيّن أمرًا عظيمًا أيضًا مرغّبًا المسلمين في هذا العملِ الصالح، فيقول : ((بينما رجلٌ يمشي في الطريق فإذا بغُصن شوكٍ فَنَحَّاهُ عن الطريق، فشكَر الله له فغَفر له)) [7] ، وفي لفظٍ أنه قال: ((رأيتُ رجلاً يتقلّب في الجنّة في غصنِ شوكٍ نحَّاهُ عن الطريق)) [8].
يا أخي المسلم، هذا الوعدُ الصادق والخبر الصادِق من المصدوق يحثّ المسلمَ إلى أن يعتنيَ بهذا الأمر، ويهتمّ به غايةَ الاهتمام، ولا يحقرَ نفسَه من أذًى يزيله عن طريقِ الأمّة، فيحفظ بها أمنَها واستقرارها، لكن المصيبة عكسُ ذلك؛ من يتعمّد إلقاءَ الأذى في الطريق بلا خجَل ولا مبالاة، تراه يسير في الطريقِ ومعه بعض المعلّبات من مأكولٍ ومشروب، فإذا انتهى فتحَ زجاجَ السيارة وألقى ذلك الأذَى في الطريق، فلعلّ ذلك يسبِّب حوادث، ولعله يُربك السير، ولعلّه يجلب ضررًا، وهو لا يبالي بذلك، يلقي علَبَ المشروبات أو المأكولات إذا انتهى منها بما فيها من نعَمِ الله، ألقاها في طريق الناس وهو سائر في سيّارته ومسرعٌ في سيره، يلقيها ولا يبالي: هل تسبِّب حوادث؟ هل ستلحِق الأذى بالآخرين؟ هو لا يبالي بذلك؛ لأنه لا يهتمّ إلا بذاته وشخصيّته، أما منافعُ الآخرين ومصالح الآخرين والعنايةُ بالآخرين فهذا أمرٌ لا يبالي به ولا يهتمّ به، يدلّ ذلك على ضَعف الإيمان وقلَّة الحياء، فإنّ هذا الإنسانَ لم يُربَّ التربيةَ الصالحة؛ لأنّ العناية بمصالح الأمة ومرافقها أمرٌ إيمانيّ أرشد إليه المصطفى.
رفعَ معاذ بنُ جبل حجرًا من الطريق، فقيل له: لماذا؟ فقال: إني سمعتُ رسول الله يقول: ((من رفع حجرًا عن الطريق كتب الله له به حسَنة، ومن كتب الله له به حسنة غفر له، ومن غفر له أدخله الله الجنة)) [9] ، فكان أصحابُ محمّد يعتنون بهذا الأمرِ العظيم، ويهتمّون به رجاءً للثوابِ المترتِّب عليه.
فليكن لدى المسلم معلومًا أنّ من لم يحترم طرُق الأمة ولم يعتنِ بها يدلّ على نقصِ إيمانه، وأنّ العناية بها والاهتمامَ بها خلُق إيماني؛ لأنّ العناية بها شُعبة من شعَب الإيمان، فمن لم يعتنِ ذهَب عنه ذلك العمَل الصالح، وفاته هذا الثوابُ العظيم.
فليتّقِ المسلمون ربَّهم، وليهتمّوا بطرقِهم، وليعتنوا بها العنايةَ المطلوبة شرعًا، ولا يعكِسوا القضيةَ فيؤذوا ويضرّوا ويسبِّبوا ارتباكَ السير أو حصولَ الحوادث، هذا أمر ينبغي للمسلمِ أن يترفّع عنه، فهو مؤمِن يحبّ لإخوانه ما يحبّه لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (9)، ومسلم في الإيمان (35) عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
[2] أخرجه مسلم في المساجد (553).
[3] أخرجه ابن سعد في الطبقات (4/291، 7/10)، والطبراني في الكبير (18/135، 181)، والقضاعي في مسند الشهاب (1102)، والبيهقي في الكبرى (3/271) وفي الشعب (5/163) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1290). وفي الباب عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وأنس وابن مسعود ومالك بن نضلة وعائشة وجابر بن سمرة رضي الله عنهم.
[4] أخرجه البخاري في الجنائز (1337)، ومسلم في الجنائز (956) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في البر (2618) عن أبي برزة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الجهاد (2989)، ومسلم في الزكاة (1009) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[7] أخرجه البخاري في الأذان (654)، ومسلم في الإمارة (1914) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] صحيح مسلم: كتاب البر (1914) نحوه.
[9] أخرجه الطبراني في الكبير (20/101)، والبيهقي في الشعب (7/515)، قال المنذري في الترغيب (3/378) والهيثمي في المجمع (3/135): "رواته ثقات"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2973).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
وإذ سمعنا فضلَ إزالةِ الأذى عن الطريق وما رُتِّب عليه من الثوابِ العظيم فاعلم ـ أخي المسلم ـ أنَّ إلقاءَ الأذى في الطرقاتِ وإيذاءَ المسلمين أمرٌ مخالف للشّرع ومعصيةٌ لله ولرسوله، يقول : ((اتَّقوا اللاعنَيْن)) ، قالوا: وما اللاعِنان؟ قال: ((الذي يتخلّى في طريق الناس أو ظِلِّهم)) [1] ؛ لأنّ هذين الأمرين يسبِّبان لعنةَ المسلمين له، من تخلّى وألقى القَذَر في طريق المسلمين أو في ظِلّهم الذي يستظلّون به كان معرِّضًا نفسَه للَّعنة.
وفي لفظٍ: ((اتّقوا الملاعنَ الثلاث: البراز في الموارِد وقارعةِ الطريق والظلّ)) [2] ، فهو يحذِّرهم من أن يُلقوا القذَر في طريق الناس وفي ظلّهم أو مواردِ مائهم ومجتمَعهم؛ حتى لا يؤذيَ الناسَ بذلك.
يُروَى أنه قال: ((من سلَّ سخيمتَه في طريق المسلمين حلّت عليه لعنته)) [3] ، يعني: من ألقى القذر في طريقهم حلّت عليه لعنتُهم إذا لعنوه.
فالمسلم يترفّع عن هذه القاذورات، ويسمو بنفسه عن رذائلِ الأمور، ويعلم أنّ دين الإسلام دينُ الخير، يجعل هذه الخصالَ والأخلاق شعبةً من شعب الإيمان ليحُثّ الأمّة على العناية بمصالح العامة.
وقد تحدَّث العلماء رحمهم الله عن أحكامِ الطريق، ومنَعوا المسلمَ من كلّ ما يؤذي الناسَ في طريقهم، سواء اقتطع منهم شيئًا أضافه إلى مُلكه، أو وضع في مُلكه ما أخذ ولو قليلاً من طريق الناس، ورتّبوا على ذلك الأحكامَ الشرعيّة؛ لأنّ الواجبَ على المسلمين التعاونُ فيما بينهم وكفّ الأذى بعضهم عن بعض، هذه شريعة الإسلام التي جاءت بالخير كلّه، فالحمد لله ربِّ العالمين.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المتّقين وقائد الغرِّ المحجلين سيّدِ ولد آدم محمد بن عبد الله ، كما أمركم بذلك ربكم حيث يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوِك وكرمك وجودِك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين...
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (269) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ اللّعّانين، وهذا لفظ أبي داود في الطهارة (25).
[2] أخرجه أبو داود في الطهارة (26)، وابن ماجه في الطهارة (328)، والطبراني في الكبير (20/123)، والبيهقي في الكبرى (1/97) عن أبي سعيد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وصححه الحاكم (594)، قال ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (1/44): "فيه نظر؛ لأن أبا سعيد هذا لم يدرك معاذا كما قاله المزي وغيره، وهو في نفسه مجهول كما قال ابن القطان"، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/48): "هذا إسناد ضعيف، فيه أبو سعيد الحميري المصري قال ابن القطان: مجهول، وقال أبو داود والترمذي وغيرهما: روايته عن معاذ مرسلة"، وقال المناوي في الفيض (1/137): "لكن قال النووي: إنه حديث حسن، قال الولي العراقي: ولعله ارتقى درجة الحسن بوجود الشواهد، قال مغلطاي: هو كما قالوا، لكن له شواهد عند أحمد"، ولذا حسنه الألباني في صحيح الترغيب (146).
[3] أخرجه الطبراني في الأوسط (5426)، وابن عدي في الكامل (6/225)، والحاكم (665)، والبيهقي في الكبرى (1/98) عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)) ، وضعف إسناده الحافظ ابن حجر في التلخيص (1/105)، وقال الهيثمي في المجمع (1/204): "فيه محمد بن عمرو الأنصاري، ضعفه يحيى بن معين، ووثقه ابن حبان، وبقية رجاله ثقات"، وهو في السلسلة الضعيفة (5151).
(1/3857)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
10/4/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحثّ على صِلة الرحم. 2- طرق صلة الرحم. 3- آثار صلة الرحم. 4- أمور تبعث على قطيعة الرحم. 5- وصايا عامة للأرحام. 6- تعريف الأرحام. 7- مشروعية صرف الزكاة والصدقة على الأحارم المحتاجين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، حديثي اليوم معكم ـ أيها الإخوة ـ عن خلُقٍ كريم من أخلاقِ الإسلام، هذا الخلُق الذي ـ وللأسف الشديد ـ قلّ منّا من يعتني به، وقلَّ منا من يهتمّ به، وقلّ منا من يعرِف قدرَه، فأصبح من يقوم بهذا نادرًا بيننا، وذاك لضعفِ الإيمان وسيطرةِ المادية على النفوس، فأصبح الغالبُ منا اهتمامُه بذاتِه وبالمحيط به من أولادِه ونحو ذلك، وأمّا عنايةٌ بالرحم صلةٌ للرحم واهتمامٌ بهذا فهذا أمر ـ وللأسف الشديد ـ قلّ منا من يقوم بحقِّ هذا الواجب ويعرف قدرَه.
صلةُ الرحم خلقٌ كريم، دَعا الإسلام إليه، ورَغَّب فيه، وبيَّن الثواب العظيم لمن اعتنى به، ورَتّب الوعيدَ الشديد على قاطع الرحم.
أيّها المسلم، صلةُ الرحم خلُقٌ من الأخلاق الكريمة، هذا الخلق من اعتنى به وقام به حقَّ القيام جعل الله له بركةً في عُمره وبركةً في ولده وبركةً في رزقِه وعاش بخيرٍ وفارق الدنيا على خير، ولكن النفوسَ بحاجة إلى أن تروَّض هذا العملَ الصالح، فإنّ النفس أمّارةٌ بالسوء إلا ما رحِم ربّي، لذا يتعيَّن علينا الاهتمام بهذا الخلق والعناية به حقَّ العناية؛ لننال رضَا الله عنّا ونبتعدَ عن سخطه وعُقوبته.
أيّها المسلم، إنَّ صلةَ الرحم خلقٌ إيمانيّ يدعو إليه الإيمانُ بالله ورسولِه، اسمع الله يقول: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ [الرعد:19-21]، فهم يصلون الرحمَ التي أمر الله بصِلتها، ويقول في ضدّ أولئك: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25]، فجعل الله قطيعةَ الرحِم نقضًا لما أمر الله أن يوصَل، وجعله فسادًا في الأرض، وقال: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، إنّه لَوعيدٌ حيث وُصِف القاطِع بأنه مفسِد في الأرض وأنّه معرَّض للعنة الله وغضَبه، واللعنةُ هي الإبعاد عن رحمةِ الله وفضلِه، وقال: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا أي: القرآن وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [البقرة:26، 27].
وبيّن جلّ وعلا في المواثيق التي أخذها على بني إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى [البقرة:83]، وقال: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ [النساء:36].
أيّها المسلم، هذه آياتٌ واضحة ترغّب من صِلة الرّحم، وآياتٌ فيها الوَعيد الشديد على قاطِع الرحِم. فما هي صلة الرحم؟ صلتك لرحمك تكون بأمور:
فأولاً: الإنفاقُ عليهم إن يكونوا فقراء وأنت قادرٌ على ذلك، فتواسيهِم بشيءٍ من مالِك لتدفعَ حاجاتهم وتقضيَ مهمّاتهم.
وثانيًا: تفريجُ همومهم وقضاءُ حوائجهم.
وثالثًا: زيارتهم والبشاشةُ في وجوهِهم إن لقيتَهم وتعاهدُهم بذلك.
ومِن صلةِ الرحِم أن تتحسَّس مشاكلَهم وتنظرَ حاجاتِهم وتعتنيَ بهم، فذاك صلةٌ ينفعك الله بها في دنياك وآخرتك.
ومن صلتهم أن تصبرَ على أذاهم، وأن لا تقابلَ إساءتهم بالإساءة، وإنما تقابلُ إساءَتهم بالعفوِ والصفح والتّحمّل.
ومن صلتهم أن تجتنبَ المخاصمةَ معهم والنزاعَ معهم، وتبتعدَ عن كلّ ما تظنّه يثير المشاكلَ بينك وبينهم حتى يبقى الودُّ بينكم، وتتوارثون تلكم الأخلاقَ الكريمة الفاضلة.
أيّها المسلم، صلتُك لرحمك عزٌّ لك في الدنيا ورفعةٌ لك في الدنيا، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35]، هذا في البعيد فكيف بالقريب؟! إذًا فتحمّلُك لأخطائِه وصَبرك على زلَلِه وبذلُك المعروفَ له يجعلُه الله وليًّا حميمًا لك بطيبِ الأخلاق وحُسن [التصرُّف]. صلةُ رحمِك يجعل الله [بها] بركةً في عمرك، فيكون عمرُك عُمرًا مباركًا، وقد يجمع الله لك بين بركةِ العمر وبين اتِّساع الأجل. صلتُك لرحمِك يُنزل الله [بها] البركةَ في رزقك، وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ [البقرة:272]، وقال جلّ وعلا في كتابه العزيز: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
أيّها المسلم، قد يحمل على القطيعةِ أمور، فمنها أولاً: قد يكونَ حسدٌ من بعضٍ لبعض، فيحسدُ بعض الأقارب بعضَهم على ما آتاه الله من نعمةٍ وخير، فيحسده، فيحمِله الحسَد على قطيعتِه وتمنّى زوالِ النعمة عنه والعياذ بالله. وقد يحمِله على القطيعةِ إمّا طاعةٌ للنّساء أو طاعةٌ للسّفهاء، فيحملونه على قطيعةِ رحمِه، ويزيّنون له القطيعة، ويحسِّنونها له حتى يقطعَ رحمَه، فيقع في سخَط الله وغضَبه. وقد يحمِل على القطيعةِ نزاعاتٌ ماليّة واختلاف في الميراثِ ونحو ذلك. فالواجبُ تقوى الله وتعاوُن الرحِم فيما بينهم وتلافي تلك الأخطاء، فقد يكون الميراث أحيانًا سببًا لنزاعِ الرحم، فهذا يجحَد حقَّ هذا ويظلِمه بجُحدان حقِّه، وقد يكون سببُ النزاع اختلافًا في الأوقاف والوصايا ونحو ذلك، مما يسبِّب قطيعةً بين الرّحم، ومن اتَّقى الله جلّ وعلا أعطَى كلَّ ذي حقّ حقَّه، وأبرأ ذمَّته ولم يجعل للنّاس عليه سبيلاً.
فبعضُ الناس قد يتولّى قسمةَ الترِكات مثلاً، فيجور في القِسمة، بمعنى أن يخفيَ بعضَ الأشياء، ويدلّسَ بعضَ الأشياء، ويجعل الجيِّد من نصيبِه والضعيفَ من نصيبِ غيره، وقد يكون وكيلاً على وصَايا أو أوقاف، فلا يعطي الناسَ حقوقَهم ويتلاعَب بذلك.
فاتّقوا الله ـ يا عباد الله ـ في أرحامِكم، واحذَروا أسبابَ القطيعة، وابتعِدوا عنها.
أيّها المسلم، قد يكونُ بينك وبين رحمِك خصومةٌ قد يضطرّ أحدُكم إلى القضاء، فالذي يتعيَّن بين الرحِم أن يفصِلوا نزاعَهم بينهم، وأن يكونَ حلُّ مشاكلِهم فيما بينهم، فإنهم إن ترافَعوا للقضاءِ فحكِم لهذا على هَذا ازدَاد الشرُّ واتَّسعت شقّة الخلاف وأصبَح الرحِم متقاطعين فيما بينهم.
أيها المسلم، قد تكون أنت واصِلاً ومحسِنًا وذا فضلٍ وخلُق، لكن لا يعرفها لك بعضُ رحمك، فلا تؤاخِذْهم بزلاّتهم، ولا تحسِب عليهم أخطاءَهم، بل احتمِل ذلك واجعَله في سبيل الله، والعاقبةُ للتقوى.
أيّها المسلم، رحمُك كلُّ قريبٍ يمتُّ لك بصِلة من جِهة أمّك أو أبيك، فإخوانُك وأخواتك وأعمامُك وبنو عمِّك وعمّاتك وأخوالك وخالاتُك ومَن لك بهم صِلة من جهةِ الأمّ أو الأب كلُّهم رحِمٌ لك، فاتَّق الله في رحمك.
أخي المسلم، قد تقول: أنا لا أستطيعُ صلةَ رحمي كلِّهم، نقول: تصِل ما تقدِر على صِلته، وابدأ بالأقربِ فالأقرَب، وليكن صدرُك رَحبًا لرَحمك ومتَّسعًا لهم وصابرًا عليهم، ومُشعِرهم بما بينَك وبينهم من روابطَ وصِلات.
قد تقول: لا يمكنني زيارةُ الجميع، نقول: يا أخي، ليكن من قلبِك حبٌّ للخير لهم، وابذُل جهدَك على أن يكونَ بينك وبين رحمك صِلة بأيّ طريق، بأيّ وسيلة، وإن طال الوقت، لكن لا يكن في قلبك للرَّحم بغضٌ أو شَحناء أو عداوة، طهّر قلبَك من الحِقد على رحمك، وليعلمِ الله منك حبَّك لهم وحرصَك على صِلتهم إن احتاجوا إلى ذلك.
أيها المسلم، إنَّ أعظمَ حاجة الرَّحم أحيانًا احتياجُهم إلى شيءٍ من المال، فإذا علمتَ حاجتَهم وفقرَهم فبادِر بصِلتهم وإن لم يسأَلوك، وابدأهم بالمعروفِ وإن لم يطلُبوك، لتكونَ بذلك من الواصِلين، تبتغِي بذلك وجهَ الله والدار الآخرة.
أيّها المسلمون، سنّة محمّدٍ ترغِّب في صلةِ الرحم وتحثُّ عليها، فيقول لنا مبيِّنًا حقيقةَ الواصِل لرحمِه: ((ليسَ الواصلُ بالمكافئ، إنما الواصلُ الذي إذا قطعَت رَحمه وصلَها)) [1] ، فيقول لنا : إنّ الذي يكافئُ مَن يحسِن إليه هذا بذَل معروفًا مقابلَ معروف، فليسَ له فضل، ولكنّ الواصلَ حقًّا من إذا قطعت رحمُه وصلَها، هذا هو الواصل، تقطعُه رحمهُ وتبغِضه وتسبُّه وتكرهه وتحسدُه، ومع هذا فهو يصِلهم مع قطيعتِهم له ومع بغضِهم له وكراهيتِهم له، فهو يصِلهم على رغمِ ما يحصُل منهم؛ لأنه يريد بصلَتهم وجهَ الله، أحسَنوا إليه أم أسَاؤوا، ولهذا قال رجل: يا رسول الله، إنَّ لي رحمًا أصِلهم ويقطعونني، وأحسِن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلم عليهم ويجهَلون عليَّ، قال: ((إن كنت كما قلت فكأنما تسِفُّهم الملّ)) ، أي: الرماد الحار، بمعنى أنك تؤلِمهم وتدخِل عليهم الألم بإحسانِك مع إساءتهم، ((ولا يزال معك ظهيرٌ من الله عليهم ما دُمت على هذا)) [2] ، يعني: أنك إذا استمرَرت على أنك تحسِن إليهم مع الإساءة والقطيعة فالله يجعل لك ناصرًا عليهم ومؤيِّدًا.
أيّها المسلمون، ويبيِّن أنّ صلةَ الرحم من أخلاقِ المؤمنين فيقول: ((مَن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فليصِلْ رحمه)) [3] ، وبيَّن ما في صِلة الرحم من البركةِ فيقول: ((من أحبَّ أن ينسَأ له في أجله ويبسَط له في رزقه فليصِل ذا رحمه)) [4].
رأى عمرُ رضي الله عنه حُلَلَ حريرٍ تُباع عند المسجِد فقال: يا رسول الله، لو اشتريتَ حلّةً تلبسها يومَ الجمعة وعند الوفود، قال: ((يا عمر، إنما يلبَس هذه من لا خلاقَ له)) ، قال: وأهدِي النبيّ حلّةً من حرير فبعثَها إلى عمر، فقال: يا رسول الله، كنتُ قلتُ لك في الحلّة العطارديّة فقلتَ: ((إنه لا يلبسها من لا خلاق له)) ! قال: ((لم أبعَثها لتلبسَها)) ، فأهداها عمر لقريبٍ له مشرِك في مكّة [5]. هذا يدلّ على أن الرحمَ توصَل ولو كان غيرَ مسلم لأنّ الصلة مطلوبة.
قالت أسماء: يا رسول الله، إنّ أمي أتتني راغبَةً أفأصِلُها؟ فأنزل الله: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، فأمرها بِصِلَتها [6].
أيّها المسلم، وللرّحم شأنٌ لمن وصلَها وقام بحقِّها، فهي سببٌ لسعادته ورضَا الله عنه، يقول في الحديث عنه : ((إنَّ الله لما خلَق الخلقَ وفرغ منهم قامت الرحم فقالت: يا ربّ، أنت الرحمن وأنا الرحِم، هذا مقامُ العائذِ بك من القطيعة، قال: ألا ترضَينَ أن أصِل من وصَلكِ وأقطع من قطعك؟! قالت: نعم، قال: فذلك لك)) [7]. فالرحِم قامت تسأل الله أن يصلَ من وصَلها ويقطعَ من قطعها، فأعطاها الله ذلك.
أيّها المسلم، إنّ الصلةَ قد تكون صَعبةً على النفوس، وقد تكون ثقيلةً على النفوس، لا سيّما إن رأيتَ من الرحِم جفاءً، فاستعِن بالله، وروّض نفسَك على الخير، وأرغِمها على الخير، يمدّك الله بعون منه وتوفيقٍ وتأييد، فتنال العاقبةَ الحميدة في الدنيا والآخرة.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأدب (5991) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في البر (2558) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الأدب (6138) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الأدب (5985)، ومسلم في البر (2557) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[5] أخرجه البخاري في الجمعة (886، 948)، ومسلم في اللباس (2068) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الجزية (3183)، ومسلم في الزكاة (1003).
[7] أخرجه البخاري في التفسير (4832)، ومسلم في البر (2554) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه وليس فيه: ((أنت الرحمن وأنا الرحم)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها المسلمون، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، من أعظمِ صلةِ الرحم نصيحتُهم في الله وإرشادُهم إن رأيتَ منهم مخالفةً للحقّ، فمِن أعظم صِلتهم أن تنصحَهم وتحذِّرهم بأسَ الله وعقوبتَه، فإذا بلَغك عن رحمٍ سوءٌ من تهاونٍ بالصلاة ومِن قطيعة ومن عقوقٍ أو معاملة سيّئة وأخلاق رذيلة فبادِر بنصيحته، وبادر بتوجيهِه، وبادر بموعِظته، فتلك الصّلة العظمى. هدى الله الجميع لكل خير.
أيها المسلم، إنّ صلةَ الرحِم أمرٌ عُرف من أخلاقِ النبيّ ، فأبو سفيان حينما يعدّ أخلاقَ النبيّ وما يأمر به قال: (ويأمرُنا بالصلاة والعفاف وصِلة الرحم) [1].
أيّها المسلم، إنّ صلةَ الرحم تقضي بأن تخصَّهم بمعروفك إن كان معروفك قليلاً، وبزكاتِك إن تكن زكاتُك لا تكفي لغيرِهم، وفي الحديث عنه أنّه قال: ((صدقتُك على المسكين صدقةٌ، وعلى ذِي الرّحم اثنتان: صدقةٌ وصلة)) [2] ، فزكاتُك خُصَّ بها الفقراءَ من رحمك وأغنِهم بما تغنيهم، وإن فضَلَ فلغيرهم، فإنك إن تتبّعتَ رحمَك وعرفتَ الفقيرَ والمحتاجَ فخصصتَه بزكاتك فأنت بهذا جمعتَ بين أداءِ الواجب وصلةِ الرحم.
ميمونة أمّ المؤمنين زوجُ النبي أعتقَت وليدةً لها جارية لها، فلمّا أتاها النبيّ وكان عتقُها في غيبة النبيّ قالت: أما علمتَ أني أعتقتُ وليدتي فلانة؟ قال: ((أما إنّك لو أعطيتيها أخوالَك كان أفضلَ لك)) [3]. فانظر العتق العظيمُ الذي يقول فيه النبيّ : ((من أعتقَ مملوكًا له أعتَق الله بكلّ [عضوٍ منه عضوًا] من النار حتى فرجه بفرجه)) [4] ، صار الهديّة للأخوالِ أفضلَ من العتق، ممّا يدلّ على أنّ صلةَ الرحم أمرٌ مرغَّب فيه شرعًا. فلنتدارك فيما بيننا ذلك الخلقَ الكريم، ولنُشِعه بيننا، ولنحمِل نفوسَنا عليه، ولنسأل الله العونَ والتأييد والتوفيق لذلك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهديِ هَدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحابِ نبيّك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين...
[1] أخرجه البخاري في بدء الوحي (7)، ومسلم في الجهاد (1773) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قصة أبي سفيان رضي الله عنه مع هرقل الروم.
[2] أخرجه أحمد (4/214)، والترمذي في كتاب الزكاة (658) والنسائي في الزكاة (2582)، وابن ماجه في الزكاة (1844) من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (2385)، وابن حبان (3514)، والحاكم (1/431-432)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الترغيب (892).
[3] أخرجه البخاري في الهبة (2592)، ومسلم في الزكاة (999) عن ميمونة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في كفارات الأيمان (6715)، ومسلم في العتق (1509) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3858)
أضرار المخدّرات على الأفراد والمجتمعات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
17/4/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العقل نعمة من الله تعالى. 2- خطر المخدّرات وأضرارها. 3- نصحية للمبتلَين بالمخدرات. 4- وصية الآباء بالمحافظة بأبنائهم والعناية بهم. 5- ضرورة التعاون في دفع هذا البلاء ورفعه. 6- إقامة الحد على مروِّجي المخدرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول جل جلاله ممتنًّا على عباده عامَّة: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءادَمَ وَحَمَلْنَـ?هُمْ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَرَزَقْنَـ?هُمْ مّنَ ?لطَّيّبَـ?تِ وَفَضَّلْنَـ?هُمْ عَلَى? كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
أيها المسلمون، في هذه الآية يبيّن الله تكريمَه لبني الإنسان، كرّم الله بني الإنسان، وفضَّلهم على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً، هذا التكريم تمثَّل في خلق الله لابن آدم على أحسنِ تقويم، لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ ?لْكَرِيمِ ?لَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِى أَيّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [الانفطار:6-8]. خلقه فأحسَن خلقَه، فصار خَلقه في أحسنِ خَلق وأكمله، ثم كرَّمه بالعقل الذي يميِّز به بين النافع والضار وبين الخير والشر، وإذا كمُل هذا العقل ميّز الهدى من الضلال والحسَنَ من القبيح بتوفيق الله وهدايته له.
وهذا العقل أُمِر العبد بالمحافظة عليه وإبعاد كلِّ ما يفسده ويكدِّر صفوَه، فإنَّ به حياةَ الإنسان، وإذا خلا من هذا العقل صار جسدًا خواء لا فائدةَ فيه ولا خيرَ من وجودِه، ولذا بيَّن الله ندمَ أهل النار يومَ القيامة فقال عنهم: وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [الملك:10]، لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ إنهم ليسمعون ويعقِلون، ولكنهم لم ينتفِعوا بعقولهم ولم يستفيدوا منها، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ?لْجِنّ وَ?لإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، لهم عقول لكن لم يفقهوا بهذا العقل، ولم يستعملوه فيما ينفعهم، بل عطَّلوا منافعَه.
أيها الإخوة، إنَّ العقل نعمة من الله على عبده، متى سعى في إضعافه فإنه قد جنى على نفسه جنايةً عظيمة.
أيها الإخوة، إن هناك سلاحًا فتّاكًا ومرضًا خفيًّا، سلاحًا فتّاكًا في قلب المجتمع المسلم، ومرضًا وداء عُضالاً، ألا وهو داء المخدِّرات، ذلك السلاح الفتّاكُ الذي يفتك بالأمة ويقضي على كيانها ويقضي على أخلاقها، ويحطِّم الأمّة، يحطّم قوّتها المعنوية والمادية، ويجعلها أمة لا تعي ولا تعقل ولا تدرك.
هذا السّلاح الفتّاك استعمله أعداءُ الإسلام لضرب أمّة الإسلام، بل استعملوه لضرب الشعوب عمومًا، ليقضوا على كيان المجتمعات وعلى قيَمها وعلى أخلاقها وعلى فضائلها، ولا سيّما الأمة المسلمة، فهم حريصون على ما يضعف كيانَ الأمة المسلمة، وعلى ما يدمّر قِيمها وأخلاقها وفضائلَها؛ لأن الأمة عزيزةٌ بدينها وعزيزة بقيَمها وفضائلها، وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]. فالمؤمنون بدينهم وأخلاق إسلامهم أعزّاء، ومتى فقدوا أخلاقَهم ومتى فقدوا قيمَهم وفضائلهم فإنهم كما قال الله: إِنْ هُمْ إِلاَّ كَ?لأنْعَـ?مِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ?لأَنْعَـ?مُ وَ?لنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ [محمد:12].
أيها المسلمون، تسمعون في بعضِ الأحيان إعلانًا عن عقوبةِ مروِّجي المخدِّرات، والتحدّث عن جريمتهم، وكيف أدخلوا هذا البلاءَ العظيم إلى بلادِ الإسلام، وأنهم يضعونها في أحشائهم ويفعَلون ويفعلون، هؤلاء المجرمون الآثمون الذين أرادوا بهذا البلاءِ إفسادَ الأمة وضياعَ دنيها وأخلاقها هم جزء من مؤامرةٍ عالمية على الإسلام وأهله؛ لأن هذا الداءَ متى ما حلَّ في أيّ مجتمع فإنه كفيل بتدمير القيَم والفضائل.
أيها المسلمون، إنَّ داءَ المخدّرات إفسادٌ في الأرض، والله لا يحبّ الفساد، والله لا يحبّ المفسدين، إفسادٌ في الأرض، وأيُّ إفسادٍ أعظم من فساد هذه المخدرات؟! إنها تجعل متعاطيها عُضوًا أشلَّ في مجتمعه، تجعله منحرفَ الأخلاق فاسدَ الطباع، تجعله لا يشعُر بمسئوليّة، ولا يهتمّ بواجب، ولا يرعى زوجةً وأولادًا، تجعله يلهث وراءَ تلك المخدّرات، ويبذُل كلَّ جهده ومالِه وعِرضه في سبيل الحصول عليها، تراه ـ والعياذ بالله ـ شقيًّا في نفسه، يشقى به بيتُه من زوجةٍ وأولاد وأبوين، فهم يشقَون به بما يشاهِدون من حالته السيّئة وانحرافه الخلُقيّ وفساده والعياذ بالله، أجل إنهم يشقَون به، فهو يجلِب عليهم المصائبَ، ويضَعهم في غايةٍ من الاضطراب، إنهم لا يأمنون حياتهم أمامَه، ولا يدرُون ماذا سيفاجِئهم به، فإنه إن لم يجِد ما يشتري به هذا المخدِّر بذل كلَّ ما يملك، بل حتى محارمَه يرضى أن يقدِّمهم لمن يعطيه هذا الداءَ الخبيث، إنها جريمةُ العصر وبليّةٌ من البلايا. نسأل الله أن يحفظَ المسلمين من كيدها.
أيها الإخوة، إنهم لا يدرون ماذا سيفاجئهم، وإنّه أحيانًا قد ينحرِف حتى ربما قتَل ولدَه وأمّه وزوجتَه وقتل من حَوله، إنه يتصرَّف تصرّفاتٍ هوجاء، تصرّفاتِ فاقدِ العقل، وأحيانًا يكون فاترًا يلقِي نفسه في الطّرقات، ويغدو مع الناس لا يشعُر بما يقول ولا بما يدور حولَه، يعيش في خيالٍ، لا يدري عن واقعِه الذي يعيش فيه.
أخي المسلم، اتَّق الله في نفسِك، فإن كنتَ ممن ابتُليتَ بهذا الداء فحاوِل التخلّصَ منه، حاول التوبةَ إلى الله والتخلّص من هذا الداءِ الخبيث، تخلّص منه بقدرِ ما يمكن، فإنّ التوبة مفتوحة، بابُ التوبة مفتوح، ومن أراد البعدَ عن السوء فإنّ الله سيعينه.
أخي المسلم، لا تقل: هذا داءٌ استفحل لا أستطيعُ علاجه. لا، حاوِل واعقِد العزيمة الصادقةَ والجأ إلى الله وتضرَّع بين يديه أن يخلِّصَك منه ويعافيَك من شره.
أخي المسلم، من ابتُلي بترويجها وبيعها فليتَّق الله في نفسِه، وليعلم أنّه من المفسدين في الأرض، والله لا يحبّ الفساد، إنّه داخل في قوله تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ?للَّهَ عَلَى? مَا فِى قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ?لْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى? سَعَى? فِي ?لأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ ?لْحَرْثَ وَ?لنَّسْلَ وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لْفَسَادَ [البقرة:205].
فاتّق الله، وتخلَّص من هذه التجارةِ الخبيثة، لا يخدعنَّك ما تدرُّه عليك من مالٍ، فإنّ هذا المال مالٌ خبيث ومكسب سيّئ وحرامٌ عليك، إنه مالٌ حرام عليك، مكسَب خبيث، إن تصدَّقت ما قَبِل الله صدقتَك، وإن أنفقتَه ما قبِل الله منك، وإن تركتَه كان حَطبًا عليك يومَ القيامة. إنه مالٌ خبيث لا خيرَ فيه. فاتّق الله أن تطعِم نفسَك وأولادَك هذا المكسبَ الخبيث، تخلّص منه ـ أخي المسلم ـ وتُب إلى الله من شرّه.
أيها الآباء الكرام، اتَّقوا الله في أولادكم، وربّوهم التربيةَ الصالحة، وراقبوا أخلاقَهم وسُلوكهم ومَن يستصحِبون ومن يصاحِبون ويعاشِرون، راقبوا ذلك بكلِّ دقّة، فإنَّ مراقبتَكم لهم بتوفيقٍ من الله تجعلهم في أمانٍ من الوقوع فيها، وإذا أهملتم الأولادَ وتركتم تربيتَهم ولم يكن عندكم علمٌ بأين ذهبوا ولا مع من ذهبوا فيوشِك أن يقتنصَهم جلساءُ السوء، ويغرُونهم بهذا البلاء، فيصعبُ عليك أن تخلِّصَهم من هذا البلاء.
فيا أيها الآباءُ الكرام، ربّوا الأولادَ ووجِّهوهم، وحثُّوهم على الخير، وبيِّنوا لهم أضرارَ تلك المخدّرات، وحذِّروهم منها ومن صُحبة أهلها.
أيها المسلمون، هذه التجارةُ الخبيثة الملعونَة يدعو إليها أحيانًا ضَعفُ الإيمان وقِلّة الخوف من الله، فمن لا إيمانَ في قلبه ومَن ليس في قلبه خوفٌ من الله لا يبالي بأيّ مكسَب نال، لا يبالي بالمكاسِب أمِن حلالٍ أم من حرام، همُّه أن ينالَ المكاسب؛ لأنّ الإيمان ضعيفٌ في قلبه، فتغريهِ المادة والطمع السيّئ، إذا رأى أن تلك التجارةَ فيها ربح عظيم ضحى بدينه وأخلاقهِ ومصلحةِ أمتِه في سبيل الحصولِ على مالٍ خبيث، هذا المال لا يوفَّق فيه لخير، وإنما يكون مالاً حرامًا يؤول به إلى الفقرِ والبلاء والعياذ بالله.
أيّها الشباب المسلم، اتّقوا الله في أنفسكم، واحذَروا مجالسةَ من لا خيرَ فيه ومن لا خيرَ في صُحبته، حتى لا يغرُوكم بهذا الشرّ، ولا يوقعوكم في هذا البلاءِ، فاحذروا ـ عباد الله ـ من ذلك.
أيّتها الأمّة، إنَّ الله جل وعلا أمرنا أن نتعاونَ على البِّر والتقوى بقوله: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُوا ْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2]
فمِنَ التعاون على البرِّ والتقوى أن لا ندعَ لهؤلاء المجرمين إجرامَهم، لا ندعهم ينخُرون صفوفَ المسلمين، لا ندعهم يتمكَّنون من نشرِ بلائهم بين الأمة، بل نأخذ على أيديهم نصيحةً وتحذيرًا، ثم إبلاغًا بهم حتى لا نترك لهم المجالَ واسعًا. إنّ التستُّر عليهم وإخفاءَهم وإخفاءَ عيوبهم وتركَهم بلاءٌ على الأمة بلاء عظيم، يستشري في الأمة حتى يصعُب عليها العلاج، فلا بدّ من نصيحةٍ لمن قبل النصيحةَ، وكشفِ أحوالهم؛ لأنّ هذا بلاءٌ عظيم. نسأل الله العفوَ والعافيةَ لجميع المسلمين من كلّ بلاء.
أيها المسلمون، لم تصَب الأمة بداءٍ أعظم من هذا الداءِ الخبيث، ولا ببلاءٍ أعظم من هذا البلاءِ، فكم له من فساد في الأمة، يجعل الإنسانَ يعيش بلا روحٍ بلا عقلٍ بلا فِكر بلا رَأي، يجعل الإنسانَ أشبهَ ما يكون ببهيمةِ الأنعام، يجعل الإنسانَ لا يقدِّر مسؤوليةً ولا يشعر بواجبٍ ولا يربِّي أولادَه ولا يقوم بشؤونِ أسرته، كم أسَر تشقى من حالِ أبيهم، هو صاحبُ مخدّرات، لا يبالي بأولادِه، لا يسأل عن نفقةٍ عليهم، ولا يبالي بنفقتهم ولا بتوجيههم ولا بتعليمهم؛ لأنه يعيش في خيالٍ، يعيش في حالةٍ غير ما يعيش فيه النّاس، هو في ذلٍّ وهوان وفسادٍ وانحراف وفٌقدان فِكر ورأي ووعي. نسأل الله العفوَ والعافية.
فعلى المسلمين تقوَى الله والتناصُح فيما بينهم، وأن يعينَ بعضهم بعضًا على الخير، ويحذِّر بعضهم بعضًا عن الشرّ، ولا يدعوا للمجرمين أن يَعثوا في الأرض فسادًا، فإنهم إذا تُركوا وتغوضِي عنهم وسُتِرت حالهم يوشِك أن يعمَّ بلاؤهم، والبلاءُ ليس محصورًا فيهم، يتعدّى لفلانٍ وفلان وفلان، يتعدّى لي ولك وللكلّ. نسأل الله العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة.
فعلى المسلمين تقوَى الله، وعلى مروِّجيها أن يتوبوا إلى الله ويتخلَّصوا من هذا البلاءِ العظيم، وعلى متعاطيها التوبةُ إلى لله، وعلى الآباءِ تربيةُ الأولاد وتوجيهُهم، وعلى المجتمعِ أن يكونَ ذا وعيٍ ويقظَة من بلاء أولئك.
أسأل الله أن يحفظَ الجميعَ بالإسلام، وأن يحيطَنا وإياكم بعنايتِه، ويوفِّقنا وإياكم للصواب، وأن يصلِح ذريّاتنا جميعًا، ويحفظَ شبابَ أمتنا من هذا البلاء ومن كيدِ أولئك، إنه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، يقول الله جل وعلا: إِنَّمَا جَزَاء ?لَّذِينَ يُحَارِبُونَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ?لأرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَـ?فٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ?لأرْضِ ذ?لِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى ?لدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ?لآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، لما خرَجت هذه المخدراتُ في القرنِ الثامن من الهجرة وشاهدَ علماء الإسلام أضرارَها وفسادها حكموا عليها بأنها بَلاء، وبأنها أعظمُ من الخمر، بل قالوا: إنّ فيها مائةَ مفسدةٍ تفوق مفاسدَ شرب الخمر؛ لأنها تعطِّل في الإنسان الفضائلَ والأخلاق، تحوِّل ذلك الرجلَ العاقل إلى ديّوث خبيث، لا يبالي بمحارمه، ولا يشعر بأي ضررٍ يحيط به، تحوِّل كيانَه وفضائله وتجعله ـ والعياذ بالله ـ في غايةٍ من السَّفالة والرذالة؛ ولذا عزَّر المسلمون بقتل مروِّجها تخليصًا للأمّة من هذا البلاء، فقتلُ المروِّجين إنما هو من القضاءِ على المفسدين المحاربين لله ورسوله الساعين في الأرض فسادًا، فإقامةُ التعزير عليهم بقتلِهم إنما هو تنفيذٌ لحكم الله، والله لا يحبّ الفساد، وهؤلاء مفسدون لا خيرَ فيهم، ففي إيقاعِ القتل عليهم ردعٌ لأمثالهم ومَن تسوِّل نفسُه هذه الجريمةَ والفساد. نسأل الله العفوَ والعافية والثباتَ على الحق والاستقامةَ عليه، إنه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
(1/3859)
الدين النصيحة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
24/4/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل النصيحة. 2- معنى النصيحة لله تعالى. 3- معنى النصيحة لكتاب الله تعالى. 4- معنى النصيحة لرسول الله. 5- معنى النصيحة لولاة أمور المسلمين. 6- معنى النصيحة لعامة المسلمين. 7- آداب النصيحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في صحيح مسلم عن تميمٍ الداريّ قال: قال رسول الله : ((الدّين النصيحة)) ، قُلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((للهِ ولكتابِه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم)) [1].
أيّها المسلمون، النصيحة خُلُق أنبياء الله ورسُلِه، فهم أنصَح الخَلق، وأبرُّهم وأنقاهم، قال الله عن نوحٍ عليه السّلام أنّه قال لقومه: وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنْ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:62]، وقال عن هود عليه السلام: وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68]، وقال عن النبيّ صالح أنه قال لقومه: وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:79].
ومحمّد أعظمُ الخلقِ نُصحًا للخلقِ وشفقةً على أمّته ونصحًا لهم وخوفًا عليهم، وصدَق الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]. فلا طريق يقرِّبنا إلى اللهِ إلا بيَّنه لنا وأمرَنا به وبسلوكِه، ولا طريقَ يباعِدنا من الله إلاّ بيَّنه لنا وحذَّرنا من سلوكِه، يقول : ((ما بعَث الله من نبيٍّ إلاّ كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمّتَه على خيرِ ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شرِّ ما يعلمه لهم)) [2] ، فلقد بيَّنَ غايةَ البيان، ونصَح غايةَ النصيحة، وترك أمّته على المحجّة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدَه إلاّ هالك.
أيّها المسلمون، وقد حصَر النبيّ الدينَ في النصيحة، فإنّ النصيحة خالصُ المحبّة وخالِص تبيينِ الخير والتّحذير من الشرّ.
فالنّصيحة للهِ في قوله لما سألوا عنها قال: ((الدّين النصيحة)) ، قلنا لمن؟ قال: ((لله)) ، فنصحُك لله يتضمّن أمورًا:
أوّلاً: يتضّمن إيمانَك بالله وربوبيّته وبأسمائِه وصفاته، وأنّه وحدَه المستحِقّ أن يُعبَد دونَ سواه. فنصيحتُك لله محبّتُك له وتعظيمُك له وثناؤك عليه ووصفُك له جلّ وعلا بكلّ صفاتِ الكمال والجلال، وتنزيهُه عن صفاتِ العيوب والنقائص، إذ هو جلّ وعلا ليس كمثلِه شيء وهو السّميع البصير. فنصحُك له إيمانُك به وأنّه ربُّ كلِّ شيء ومليكُه، والمنفَرد بخلقِ العباد وإيجادِهم، والمالك لسمعِهم وأبصارهم وأرزاقِهم، والمتصرِّف فيهم كيفَ يشاء، وأنّه موصوفٌ بالكمَال، فله الصِّفات العُلى والأسماء الحسنى، نَصِفه بما وصَف به نفسَه في كتابِه أو وصفَه به نبيّه ، ونسمّيه بما سمّى به نفسَه في كتابه أو سمّاه به نبيَّه ، معتقِدين حقيقةَ تِلك الأسماءِ والصفاتِ على ما يليق بجلالِ الله وعظمتِه، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
ننصَح له بأن نعبدَه وحدَه، ونعلم أنّ العبادةَ بكلّ أنواعها حقٌّ له جلّ وعلا لا شريكَ له في ذلك، فنوحِّده بأفعالِنا من دعاءٍ ورجاء وذبحٍ ونذر وتعلّق، نعتقِد أنّ ذلك حقّ لله، فالدّعاء لا يصحّ إلاّ له، والخوف الحقيقيُّ منه، والرّجاء الحقيقيّ له، والرّغبةُ له، والرّهبة منه جلّ وعلا، فلا دعاءَ لغيره، ولا رجاءَ لغيره، ونعتقدُ في قلوبنا تعظيمَ ربِّنا، وأنه المعبودُ وحدَه دونَ سواه، فلا يستحقّ العبادَةَ غيرُه، فكما لا شريكَ له في مُلكه وربوبيّته فلا شريكَ له في وحدانيّته، فنعبده وحدَه مخلِصين له الدّين لا شريك له في ذلك، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].
وننصَح للهِ بأن نحبِّبَ الله لخلقه، وندعوَ العباد لتعظيمِه والثناء عليه وتعريفهم بذلك، فننصحُ له بأن نحبِّبَ الخلق إليه، وندعوَهم إلى طاعته، ونرشدهم إلى تعظيمه والثناء عليه، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسِه، وفوقَ ما أثنى عليه عبادُه.
ومِن نُصحِنا لله محبّتُنا له جلّ وعلا، والإتيان والقيامُ بما أوجب علينا من طاعتِه والبُعد عمّا نهانا عنه من معصِية، فتلك حقيقةُ النصيحة لله.
وننصَح لكتابِ الله بأن نؤمنَ بهذا القرآن، وأنّه آخر كتابٍ نزل من عند الله، تكلَّم الله به، وسمِعه جبريل منه، وبلّغه محمّدًا ، وبلّغه أصحابَه، وبلّغه الصحابةُ مَن بعدهم، فانتقل إلينا بنقلِ العدول، فهو كتابُ الله المحفوظُ من أن يُزادَ أو ينقَص فيه، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، نتلوه حقَّ تلاوته، نقيمُ حروفَه، ونتدبّر معانيَه، وننفّذ أوامِره، ونجتنِب نواهيَه، ونقِف عند حدودِه، ونتأدّب بآدابه، ونتخلّق بأخلاقه، ونصغِي إلى مواعِظه، ونقِف عند وعدِه ووعيده، فنقِف عند الوعدِ طامعين راجين، وعند الوعيدِ خائفين مشفِقين، فالقرآن حجّة لنا أو علينا، حجّة لمن عمِل به وحكَّمه وتحاكَم إليه، وحجّة على من أعرضَ عنه وهجَر تلاوتَه والسّماع له، وهجَر العملَ به وتحكيمَه والتحاكم إليه، ننفِي عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، بل نعتقد أنّه كلام الله يصدِّق بعضُه بعضًا، فنعمَل بمحُكمه، ونؤمِن بمتشابهه، ونصدّق هذا القرآنَ، ونعتقِد أنّ بعضَه يصدِّق بعضًا، كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، وأنّ البشريّة لن تستطيعَ أن تأتي بمِثله ولو اجتمَع إنسُها وجِنّها، قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]. نعتقِد أنّ ما دعا إليه هو الحقّ لا شكّ فيه، فنتّبع هذا القرآنَ، ونؤمن به، ونحكّمه ونتحاكَم إليه، ونقف عند حدودِه، ونتأدّب بآدابه، ونتخلّق بأخلاقه، فهو خُلُق نبيِّنا ، تقول عائشة لما سئِلت: ما خُلُق النبيّ؟ قالت: كان خلُقه القرآن [3]. فالقرآن خُلُق النبيِّ لكونه يعمَل به حقَّ العمَل صلوات الله وسلامه عليه.
وننصح لنبيِّنا بأن نؤمنَ به، وأنّه خاتم أنبياءِ الله ورسله، بعثَه الله رحمةً للعالمين وحجّةً على المعاندين وحَسرةً على الكافرين، بعثَه الله بالهدَى ودين الحقّ، فأكمل به الدّينَ، وأتمّ به النّعمة، صلوات الله وسلامه عليه.
نُصحُنا لرسولِ الله مع الإيمان به الاقتداءُ به التأسّي به في أقوالِه وأعماله، يقول الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]. ونعظِّم سنّتَه، وننفّذ أمرَه، ونجتنِب نهيَه، فأمرُه أمرٌ منَ الله، ونهيه نهيٌ مِنَ الله، وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]. نقبَل سنّتَه ونعمَل بها، ونحكِّمها ونتحاكَم إليها، ولا نجِد في صدورِنا حرجًا من حُكمه، بل نرضَى ونسلِّم لنكونَ من المؤمنين حقًّا.
نعتقِد أنّ أصلَ حُبّه من واجباتِ الإيمان، وكمالُ حبّه من كمالِ الإيمان، فنحبّه محبّةً فوق محبّةِ النفس والولدِ والوالد والنّاس أجمعين، يظهَر جليًّا في اتّباع سنّتِه والسّمع والطاعة له فيما أمَرنا به أو نهانا عنه، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]. إذا جاءَت سنّتُه قبِلناها وطبّقناها وتلقَيناها بالقَبول، محبّةً وانقيادًا لها وطمأنينةً إليها، لا نعارِضها بالآراءِ ولا بالقَول، فلا نحكّم العقلَ على سنّته، ولا نقدّم الرأيَ على سنّته، بل أيّ عقلٍ ورأي خالف سنّتَه فالحقّ في سنّةِ رسول الله، والباطلُ مع مَن خالف سنّتَه بمجرَّد عقله ورأيِه، فلا حكمَ سِوى حكمه، فحُكمه المقبول، وقولُه الصادِق، وهو الصّادق المصدوق.
نحبّه ونأمل مِنَ الله أن نحشَر تحتَ لوائه، وأن نرِدَ حوضَه، وأن نكونَ في رفقتِه مع النّبيِّين والصّدِّيقين والشّهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقًا.
وننصح لأئمّة المسلمين بمحبَّتهم، والدّعاء لهم، وتحبيب الخلقِ إليهم، وجمع الكلمةِ عليهم، وأن نعرفَ لهم فضلَهم ومكانتَهم، ونعرفَ لهم جهودَهم، ونعرفَ لهم عِظمَ المسؤولية التي تحمَّلوها والثقل العظيم الذي تحمّلوه، فنسأل اللهَ أن يمدَّهم بعونِه وتوفيقه، وأن يهديَهم لكلّ خير، ويعينَهم على كلّ خير.
لا نكون شامِتين، ولا متتبِّعين للهَفَوات والزلات، ولا باحثين عن النّقائص، وإنما نكون حريصِين على جمعِ الكلِمة وتوحيد الشّمل وبيان فضلِ الولاة، وأنّ بالولاةِ يقيم الله العدلَ في الأرض، وبالولاةِ ينتصِف الله من المظلومِ لظالمه، وبالولاةِ تأمَن السّبُل وتطمئِنّ النفوس ويحصل الخير، والحمد لله على فضلِه وكَرَمه.
ومِن النصيحة لهم أن تدعوَ الله لهم بالخيرِ والصّلاح والتوفيق، وإذا أرَدنا نصيحةً فلتكن نصيحةً هادِفة يقصَد منها الخيرُ والإصلاح، لا الانتقام والشّماتة، فإنّ الولاةَ صلاحُهم واستقامتهم رحمةٌ منَ الله بالأمّة، وإذا وفّق الله الولاةَ للخير سعدَت الأمّة في حياتها، واتّجهت لكلّ خير، وسلِمت من الفتَن والبَلاء، وما حصلت القلاقل وما حصَل الاضطرابُ وسفك الدّماء وانتقاص الأرزاقِ والفتَن إلاّ لمّا فقِدت طاعة ولاةِ الأمر، ولما كانت بعضُ الشعوب ليس لها من يقودها ولا من ينظّم حالَها عاشت في شقاءٍ وبلاء، فالولاةُ نعمة من الله للعباد، فالتّعاون معهم وشدّ أزرِهم والقيام معهم فيما يصلِح الأمّة ويردّ عنها كيدَ الكائدين، هذا من النّصيحة لولاةِ أمر المسلمين.
وينصَح المسلم لعامّةِ المسلمين نصيحةَ التعليم والتوجيهِ والتثقيف والدعوةِ للخير والتحذيرِ من الشرّ. إنّ أخاك المسلمَ له عليك واجبٌ أن تحبَّ له ما تحبّ لنفسك، وتكرهَ له ما تكرَه لنفسك، وإذا رأيتَ منه خطأ فابذُلِ النصيحةَ له فيما بينك وبينه، نصيحةً من قلبٍ مشفِق محبّ، لا من شامتٍ ولا فَرِح بالأخطاء، ولكن من قلبٍ مشفِق محبٍّ للخير حريصٍ على الخيرِ ساعٍ فيه جهدَه.
أخي المسلم، ترَى من أخيك تقصيرًا في الصّلاة فانصَحه بالمحافظة عليها جماعةً، تراه مخِلاًّ ببعضِ الواجبات فانصَحه، تراه مخلاًّ بصلاتِه بالطّمأنينة فيها أو يسابِق الإمامَ فانصَحه فيما بينك وبينه، تراه مقصِّرًا في حقوقِ والدَيه فانصَحه ببرِّهما، تراه مقصِّرًا في رحمِه فانصحه بصلةِ الرّحم، ترى عندَه معاملاتٍ فيها خلَل وخطأ فوجِّهه للخير، وانصَحه للمعاملةِ الطيّبة، وحذّره من كلّ معاملةٍ تخالف شرعَ الله، تراه باسِطًا لسانَه في ذكرِ عيوبِ الناسِ وذِكر معايِبهم ونقائِصهم [فانصَحه] أن يشغلَ نفسَه بعيوبها، وأن يكفَّ عن عيوبِ الآخرين، تراه نمّامًا أو مغتابًا فانصَحه بالبُعد عن هَذينِ الخُلُقين الرذيلَين، المهمّ أن تنصحَ أخاك فيما بينك وبينه نصيحةً تقصِد بها وجهَ الله، وتحبّ إنقاذه مما هو فيه من خَطأ. ترى بينه وبين زوجتِه نفورًا فحاوِل الإصلاحَ والنصيحة لمن تراه مخطِئًا من الزوجَين؛ أن توجّهَ له النصيحة، عساه أن يرتدِع من خطئِه، إذا أحسّ منك بالرّحمة والشّفقة وأنّك نصحتَه لله، فإنّ تلك النصيحةَ الخالصة لله سيكون لها أثرٌ بتوفيقِ الله. نسأل الله لي ولكم التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إِليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (55).
[2] رواه مسلم في كتاب الإمارة (1844) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[3] رواه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (746).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ النصيحةَ لا تؤثّر إلاّ إذا كان النّاصح صادقًا في نصيحتِه مخلِصًا لله في نُصحِه وكان بعيدًا عن الغِلظة والجفاء، فإنّ الغلظةَ والجفاءَ ربما تنفِّر منك المنصوحَ، فلا يقبَل نصيحتك، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
النّصيحةُ لا تؤثِّر إلاّ إذا كانت بينك وبين المنصوح، تنصحُه سرًّا فيما بينك وبينه، لا تفضَحه أمام الخلق، وتنشر عيبَه أمام الخلق، وتؤنّبه أمامَ الناس، فلن يقبَل منك نصحًا حتى لو كان أحدَ أبنائك، فلا بدّ من نصيحةٍ فيما بينك وبين أخيك حتى لا يستفزّه الشيطان فيصِمّ أذنَيه عن قبول النصيحة، لا، انصَحه فيما بينك وبينه، ليعلمَ أنّك صادق في نصيحتِك ومرادك الخيرُ وليس الشماتة.
إنّ الشماتةَ بالناس والفرَح بعيوبهم والفرحَ بنقصهم خُلُق ذميم، في الأثر: "لا تظهِر الشماتةَ بأخيك فيعافيَه الله ويبتليكَ" [1] ، وفيه أيضًا: "من عَيّر أخاه بذنبٍ لم يمت حتى يفعَلَه" [2] ، فإيَاك أن تفضحَ أخاك، إنما اتَّخِذِ النصيحة ديانةً تَدين اللهَ بها فيما بينك وبينه، واتَّخِذ كلَّ سبيلٍ وكلّ لفظٍ تراه مؤثّرًا، إياك والغلظةَ والجفاء والحماقةَ، وإنما خُذ أخاك باللّطف واللينِ وحُسن الخلُق، عسى اللهَ أن يوفِّقَه لقَبول الحقّ، خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].
واعلَموا ـ رحِمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] يروى مرفوعا، أخرجه الترمذي في الزهد (2506)، والطبراني في الأوسط (3739)، والقضاعي في مسند الشهاب (917) من طريق مكحول عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وحكم عليه ابن الجوزي والقزويني بالوضع، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (6245).
[2] يروى مرفوعا، أخرجه الترمذي في الزهد (2505) من طريق خالد بن معدان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، وليس إسناده بمتصل، وخالد بن معدان لم يدرك معاذ بن جبل"، وفي إسناده أيضا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني متهم بالكذب، ولذا أورد ابن الجوزي هذا الحديث في الموضوعات، وحكم عليه الألباني أيضا بالوضع في السلسلة الضعيفة (178). ويروى عن الحسن البصري رحمه الله، أخرجه عبد الله في زوائد الزهد (ص281) بإسناد ضعيف.
(1/3860)
الحثّ على الصبر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الفتن
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
16/5/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصبر من أخلاق المؤمنين. 2- الصبر على طاعة الله تعالى. 3- الصبر عن معاصي الله عز وجل. 4- الصبر على أقدار الله سبحانه. 5- موقف المؤمن عند حلول المصائب. 6- فضل الصبر عند المصيبة. 7- فضل القناعة والرضا. 8- ضرورة الصبر على الزوجة والأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ من أخلاق المؤمنين الصّبر، فالصّبرُ خلُقٌ من أخلاق أهلِ الإيمان، قال تعالى: ?لَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَ?غْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ?لنَّارِ ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْمُنفِقِينَ وَ?لْمُسْتَغْفِرِينَ بِ?لأسْحَارِ [آل عمران:16، 17]، إذًا فالصّبر خلق مِن أخلاق أهلِ الإيمان. وقال جلّ وعلا مبيّنًا أخلاقَ المؤمنين: إِنَّ ?لْمُسْلِمِينَ وَ?لْمُسْلِمَـ?تِ وَ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ وَ?لْقَـ?نِتِينَ وَ?لْقَـ?نِتَـ?تِ وَ?لصَّـ?دِقِينَ وَ?لصَّـ?دِقَـ?تِ وَ?لصَّـ?بِرِينَ وَ?لصَّـ?بِر?تِ وَ?لْخَـ?شِعِينَ وَ?لْخَـ?شِعَـ?تِ وَ?لْمُتَصَدّقِينَ وَ?لْمُتَصَدّقَـ?تِ و?لصَّـ?ئِمِينَ و?لصَّـ?ئِمَـ?تِ وَ?لْحَـ?فِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ?لْحَـ?فِظَـ?تِ وَ?لذ?كِرِينَ ?للَّهَ كَثِيرًا وَ?لذ?كِر?تِ أَعَدَّ ?للَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35]. وأمَر تعالى بالصّبر: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?صْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]. وأخبر أنّ الصبرَ عونٌ للعبد في كلّ أحواله مَع الصلاة: ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ إِنَّ ?للَّهَ مَعَ ?لصَّـ?بِرِينَ [البقرة:153].
أيّها المسلمون، إنّ الصبرَ في كتاب الله على أقسام ثلاثة، فأوّل ذلك صبرُ المسلم على طاعةِ الله؛ بأن يصبرَ على أداء أركانِ الإسلام وواجباتِ الإيمان، ذلك أنّ صبرَه نتيجةٌ لما في قلبِه من الإيمان الصّادق، فقوّة الإيمان الثابتِ في القلب دعت المسلمَ إلى الصبر على طاعة الله جلّ وعلا صبرًا تمثّل في استقامتِه على الخير وثباتِه على الحقّ، يزداد بمضيّ الشهور والأعوامِ رغبةً في الخير ومحبّة له، بل كلّما تقدّم به العمُر ازداد مِن العمل الصالحِ وحاول أن يصلحَ أخطاءه ويستقيمَ على الخير، فهو يمثّل قولَه تعالى: وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
ترى ذلك المسلمَ يُحافظ على الصلواتِ الخمس في أوقاتها، ويلزِم نفسَه بذلك، ويصبِر عليها صبرَ المحِبِّ لها الراغبِ فيها، لعلمِه بتعظيم الله لها ومحبّة الله لها، فهو يصبِر على أدائِها، لا يضجَر ولا يقلق، بل هو محبٌّ لهذه الصّلاة، يستأنِس فيها وينشرِح بها صدرُه وتقرّ بها عينه. وهو صابرٌ على أداءِ زكاة مالِه، كلّما حالَ الحول وعنده ما يزكّي بادَر بذلك، وصابَرٌ على صومه، وصابر على حجِّه، وصابرٌ على كلّ الأوامِر الشرعيّة.
يبرّ بالوالدَين، ويصبِر على برِّهما، ولا يتمنّى موتَهما، وإنّما يحبّ أن يقدّمَ عملاً صالحًا نحوهما ليرضيَ الله بذلك. وهو صابرٌ على رحِمِه في صِلته لهم وتحمُّله لأذاهم صبرًا يرضِي به ربَّ العالمين. وصابرٌ كذلك في معاملاتِه، فهو يلزَم الصِّدق، ويصبِر على الصّدق وإن كان فيه أحيانًا ما يخالِف هوَى النّفوس، لكنّه يصبِر عليه، فهو صادق وصابرٌ على صدقه في معاملاتِه وقيامِه بالواجب. هو صابرٌ في دعوتِه للخير وأمرِه أولادَه بالخير وتوجيهِه لهم، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا [طه:132].
فكلّ الطاعاتِ يصبِر عليها، فلا يضجَر منها، ولا يسأم منها، ويحبّ الحياةَ لأجل أن يقدّم عملاً صالحًا، ولذا لمّا نهى النبيّ المسلم عن تمنّي الموت قال: ((وإنّ المؤمن لا يزداد بطول العمُر إلاّ خيرًا)) [1] ، فهو يفرَح بهذه الدنيا ليتزوّد منها عملاً صالحًا قبلَ لقاءِ الله.
والمسلم أيضًا يصبِر عن معاصِي الله التي نهاه الله عنها وحرّمها عليه، يصبر عنها فيكفّ نفسَه عنها، ويبتعِد عنها. صابرٌ لأنّه يرجو ثوابَ الله، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ذ?لِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]، وقال جلّ وعلا: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ?لنَّفْسَ عَنِ ?لْهَوَى? فَإِنَّ ?لْجَنَّةَ هِىَ ?لْمَأْوَى? [النازعات:40، 41].
نفسٌ أمّارة بالسوء، وهوًى مضلّ، وجُلساء سوء، ومغرِيات في هذه الدنيا، ولكنّ المسلم كلّما تذكّر عِلم الله واطِّلاعه عليه وتذكَّر موقفَه بين يدَيه ألزمَ نفسَه الطاعةَ وصبر عن المعاصي، يرجو بصبرِه ما عند الله من الثّواب الذي وعَد به المتّقين.
المسلم يصبِر على أقدارِ الله المؤلِمة، فيرضى بقضاءِ الله وقدره، وتطمئنّ بذلك نفسه، فيصبِر ويرضى ويسلّم ويعلَم أنّ الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدّر.
هو لا يتمنّى البلاء، وفي الحديث: ((لا تتمنّوا لقاءَ العدوّ، واسألوا الله العافِية، فإذا لقيتموهم فاصبِروا)) [2]. يسأل ربَّه العفوَ والعافية في دينه وماله وأهلِه وولَده، هو لا يتمنّى البلاء، ولكن إذا قضى الله وقدّر صبَر على أقدار الله المؤلِمة واحتسَب ورضيَ عن الله وانشرَح صدرُه بقضاء الله وقدرِه، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ?لْخَوفْ وَ?لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ?لأمَوَالِ وَ?لأنفُسِ وَ?لثَّمَر?تِ وَبَشّرِ ?لصَّـ?بِرِينَ ?لَّذِينَ إِذَا أَصَـ?بَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ ر?جِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَو?تٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ ?لْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
أيّها المسلم، ونبيّنا يقول: ((عَجبًا لأمر المؤمن، إنّ أمرَه كلّه لعَجب، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، أو أصابته ضرّاء صبَر فكان خيرًا له)) [3].
وقد جاءت النّصوص مِن سنّة رسول الله ترغّب المسلمَ في الصبر عند المصيبةِ وأن يذكرَ الله ويثنيَ عليه ويفوّض أمرَه إليه، تقول أمّ سلمة زوجُ النبيّ أمّ المؤمنين، بلّغَها أبو سلمَة أنّه سمع رسول الله يقول: ((ما مِن مسلمٍ تصيبه مصيبة فيقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون اللهمّ أجِرني في مصيبتي واخلف لِي خيرًا منها إلاّ خلف الله له خيرًا منها)) ، سمِعَت ذلك أمّ سلمة قالت: فمات أبو سلمة فذكرتُ قولَ النبيّ، فاسترجَعتُ وقلت: اللهمّ أجرْني في مصيبَتي واخلف لي خيرًا منها، قالت: ثمّ عدتُ إلى نفسي وقلت: مَن لي مثل أبي سلمة؟! وهل مِن رجال خير من أبي سلمة؟! قالت: [فلما انقضت عدّتي] طرَق رسول الله عليّ البابَ واستأذن، فأذنتُ له، وكنتُ أدبغ إهابًا لي، فغسلتُ يديّ [من القرظ]، ووضعتُ له وسادةً من أدم حشوُها ليف، فجلسَ عليها فخطَبَني لنفسِه، قالت: فقلت: يا رسول الله، ما بي رغبة عنك، ولكنّي [امرأة فيّ] غيرة، أخشى أنّ [ترى] منّي شيئًا [يعذبني الله به]، وإنّي مُسنّة، ولِي عيال، قال: ((أمّا الغيرةُ فسأدعو الله أن يذهبَها عنك، وأمّا السنّ فقد بلَغ بي ما بلغ بك، وأمّا ولدُك فإنّهم ولدِي)) ، قالت: فعوّضني الله خيرًا من أبي سلمة رسولَ الله [4]. ذلك الإيمان الصادقُ والعمَل بالسنّة وآثارها.
أيّها المسلم، لا شكَّ أنّ المسلم يحزَن عند حلولِ المصائب عافانا الله وإيّاكم، ولكن مع حزنِه هو يذكُر الله ويثنِي على الله ويعلمُ أنّ الأمرَ بيد الله والكلّ قضاء وقدرٌ من الله، فيرضَى عن الله، ويصبِر ويسلّم ويطلُب العوَض من ربِّ العالمين.
أيّها المسلم، قد تُبتلَى في نفسِك، وقد تُبتلى في ولدِك، وقد تُبتلى في مالِك، وقد تبتَلَى في عِرضك، فالصّبر حِصنٌ لك، والصّبر عَون لك على كلّ خَير، يقول : ((إذا قَبض الملَك ولدَ المسلم قال الله: قبَضتُم ابنَ عبدي، وقبضتُم ثمرةَ فؤاده، ماذا قال؟ قالوا: حَمدَك واسترجَع، قال: ابنُوا له بيتًا في الجنّة، وسمّوه بيتَ الحمد)) [5] ، وفي الحديث: ((يقول الله: ما لعبدِي المؤمنِ جزاء إذا قبضتُ صفيَّة من الدّنيا إلاّ الجنّة)) [6].
أخي المسلم، قد تُبتلَى في نفسِك بأمرٍ ما مِن الأمور، فاصبِر على ما قضاه الله وقدّره عليك، ففي الحديث: ((يقول الله: ما لعبدِي المؤمنِ إذا قبضتُ حبيبتيه ـ يعني: عينيه ـ إذا صبَر إلاّ عوضتُه عنهما الجنّة)) [7].
أيّتها المرأة المسلمَة، صبرُك على قضاءِ الله وقدَره أمرٌ مطلوبٌ مِنك شرعًا، واسمَعي قصّة امرأةٍ مسلمة فقدَت ولدَها، وكيف صبَرت، وكيف عوّضها الله الخيرَ الكثير. أمّ سُلَيم مِن الصّحابيّات زوجةُ أبي طلحة الأنصاريّ، اشتكى ولدُها فخرَج أبوه ثمّ رجع، فسأل عنه، فقالت: هو أسكنُ ما يكون، ثمّ قرّبت له الطعامَ فأكل، وتصنّعت له حتّى أصابَها، ثمّ قالت: يا أبا طلحة، أرأيتَ لو أنّ قومًا أعاروا قومًا عارية فاسترجعوها أكان لهم حقّ أن يمنعوا؟ قال: لا، قالت: وارُوا الصّبي، فغضِب عليها، وقال: تركتِنِي فأكلتُ وأصبتُك ثمّ تخبريني، ثمّ انطلق إلى رسولِ الله يخبِره خبرَها وماذا قالت له وماذا قال لها، فقال: ((هل أصبتَها؟)) قلت: نعم، قال: ((بارَك الله لكما في ليلتِكما)) ، ومضَت الأيّام، وخرَج أبو طلحة مع رسول الله غازيًا، فلمّا قفَل أحسّت أمّ سليم بالولادة، وكان أبو طلحة يصاحِب رسولَ الله خروجًا ورجوعًا، فلمّا احتبَس عليها قال: يا ربّ، تعلمُ أنّي أحِبّ أن أخرجَ مع نبيِّك إذا خرَج وأرجِع معه إذا رجَع، وقد حبَسني ما ترى، تقول أم سليم: انطلِق ـ أبا طلحة ـ فقد ذهَب عنّي ما كنتُ أشعر به، ثمّ لمّا دخل المدينةَ وضعَت غلامًا لها، فأتى به النبيَّ أنسٌ أخوه من أمّه ومعه شيءٌ من تمرات، فقال: ((هل معكم من تَمر؟)) قال: نعم، فمضغ التمرَ ، ثمّ ألقاه في في الصبيّ وحنّكه ودعا له [8] ، قال بعض الرّواة: فلقد رأيتُ لعبد الله هذا تسعةً من الولدِ كلُّهم يحفَظ القرآن [9]. هذا أدَب الصّبر والاحتسابِ والرضا عن الله.
أيّها المسلم، إنّ نبيَّنا يقول: ((من يردِ الله به خيرًا يُصِب منه)) [10] ، ويقول: ((أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء، ثمّ الأولياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرّجل على قدرِ دينِه، فإن كان في دينه صلابة شُدِّد عليه وإلاّ خُفِّف عنه)) [11] ، وقال: ((إنّ عِظم الجزاءِ مَع عِظم البلاء، وإنّ اللهَ إذا أحبّ قومًا ابتلاهم، فمَن رضيَ فله الرِّضا، ومن سَخط فعليه السّخط)) [12]. فالقضاء والقدَر نافِذ، لكن المسلم يصبِر ويروّض نفسَه على الصبر ابتغاءً لما عند الله من الثوابِ، وطمَعًا فيما عند الله من الثواب، والله أحكم وأعدلُ فيما يقضِي ويقدّر.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في المرضى (5673)، ومسلم في الذكر (2682) عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.
[2] أخرجه البخاري في الجهاد (2966، 3024، 3026)، مسلم في الجهاد (1742) عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه بنحوه.
[4] أخرجه أحمد (4/27) بنحوه، وأخرجه مسلم مختصرا في الجنائز، باب: ما يقال عند المصيبة (918) عن أم سلمة عن النبي ، قال ابن عبد البر في التمهيد (3/181): "هذا الحديث يتّصل من وجوه شتى، إلا أن بعضهم يجعله لأم سلمة عن النبي ، وبعضهم يجعله لأم سلمة عن أبي سلمة عن النبي... وهذا مما ليس يقدح في الحديث لأن رواية الصحابة بعضهم عن بعض ورفعهم ذلك إلى النبي سواء عند العلماء؛ لأن جميعهم مقبول الحديث مأمون على ما جاء به بثناء الله عليهم".
[5] أخرجه أحمد (4/415)، والترمذي في الجنائز، باب: فضل المصيبة إذا احتسب (1021)، والطيالسي (508) من حديث أبي موسى رضي الله عنه بنحوه، وصححه ابن حبان (7/210-2948)، والألباني في السلسلة الصحيحة (1408).
[6] أخرجه البخاري في الرقاق، باب: العمل الذي يبتغى به وجه الله (6424) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
[7] أخرجه البخاري في المرضى (5653) عن أنس رضي الله عنه بمعناه.
[8] أخرجه البخاري في العقيقة (5470) مختصرا، ومسلم في فضائل الصحابة (2144) عن أنس رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الجنائز (1301).
[10] أخرجه البخاري في كتاب المرضى (5645) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] أخرجه أحمد (1/185)، والترمذي في الزهد (2398)، وابن ماجه في الفتن (4022) وغيرهم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه نحوه، وليس فسه ذكر الأولياء، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (2900)، والحاكم (1/40، 41)، والضياء في المختارة (1056)، ورمز له السيوطي بالصحة، وعزاه من بين من عزاه إليهم للبخاري، قال المناوي في الفيض (1/519): "وعزوه إلى البخاري تبع فيه ابن حجر في ترتيب الفردوس، قيل: ولم يوجد فيه"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (143).
[12] أخرجه الترمذي في الزهد (2396)، وابن ماجه في الفتن (4031)، والقضاعي في مسند الشهاب (1121)، والبيهقي في الشعب (9782) من حديث أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة (146).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن أنواع الصّبر صبرَ المسلم على ما أعطاه الله، فلا يسخَط، وإنّما يكون قانِعًا بما قسَم الله له مِن عطاء، فإنّ الله أحكمُ الحاكمين وأرحم الرّاحمين.
سأل أناسٌ من الأنصار النبيّ فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، حتّى نفد ما بِيَده، ثمّ قال لهم بعدَ ذلك: ((لو أنّ عندي شيئًا ما ادَّخرتُه عنكم)) ، وقال لهم: ((ومن يستَعفِف يعفّه الله، ومَن يستغنِ يغنِه الله، ومن يتصبّر يصبِّره الله، وما اُعطيَ أحدٌ خيرًا وأوسعَ من الصبر)) [1].
فانظر إليه ، يأمُر الفقيرَ بأن يصبر: ((من يتصبّر يصبّره الله)) ، من يتصبّر على حالتهِ ويرضَ فلا يسخَط فإنّ الله يعينه فيصبّرُه حتّى يكون قانعًا بما أعطاه الله، غيرَ متطلّع لما بأيدي النّاس. يصبِر ويحتسِب، وصبرُه على قضاءِ الله أجرٌ له، فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5، 6]. ومَن يستعفِف يعفّه الله، ومَن يستغنِ يُغنِه الله بما أعطاه.
أيّها المسلم، قد تُبتلَى في عِرضك، وقد يسلَّط عليك من لا حياءَ ولا إيمانَ عندَه، فصبّر نفسَك وكُن متدرِّعًا بالصّبر، وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ ?لأُمُورِ [الشورى:43]، ?دْفَعْ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ?لَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ?لَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
أيّها المسلم، قد تبتَلَى أحيانًا بزوجةٍ ذاتِ لسانٍ سليط وضَجرٍ من كثير من الأمور وإلحاحٍ عليك في كثيرٍ من الحاجات، هذا خلُقها وطبعُها، ولكن المسلم هل يقابل ضجرَها وسلاطةَ لسانِها أحيانًا بأن يطلّقها ويفارقَها أو يصبر عليها صبرًا عَسَى الله أن يبدّل تلك الأخلاق السيئة بأخلاق حميدة، وعسَى صبرُك عليها يعود عليك بالخير.
ولذا النبيّ أخبرنا أنّ المرأةَ خُلقت من ضِلع، وإنّ أعوجَ ما في الضِّلع أعلاه، فإن ذهبتَ تقيمها كسرتها، وكسرُها طلاقُها، وأنّها لا تستقيم لك على خلُق واحد [2]. إذًا فالصبر دواء، والصبر علاج، والصّبر ملجأ بتوفيقٍ من الله. لتصبِر عليها، فصبرُك عليها صبر الكرام، تحمّل الأخطاءَ التي يمكن تحمُّلُها إن لم تكن تلك الأخطاء تنافي الشرفَ والكرامة، وإنّما هي أخلاقٌ عاديّة، فالصبر منك يورثك خيرًا.
قد ترى مِن أولادك نَكدًا عليك، وقد يضجِرونك، وقد يكدّرون حياتَك، وقد يكون منهم طلباتٌ كثيرة إلى آخره، فصبرُك عليهم وحلمُك عليهم وعلاجك الأمرَ الحاضِر بالصبر والتحمّل هذا يعينك، وأمّا ضجرُك وقلّة صبرِك والتسلّط عليهم بالدّعاء عليهم فربّما تُستَجاب دعوة، فتمحقهم تلك الدّعوة، ولذا النبيّ يقول: ((لا تَدعوا على أنفسِكم ولا على أهليكم ولا على أموالِكم فتوافقوا مِن الله ساعةَ إجابة)) [3] ، ودعوةُ الوالدِ مستجابة على ولدِه، إذًا فكونُ بعضِ الأولادِ عندهم شيءٌ من الجفاء، وعندهم شيء من عدَم الاحترام، وعندهم شيءٌ من عدَم البرّ، ماذا أعمَل؟ هل أوقِد النارَ بنارٍ مثلٍها أم أطفئ تلك النارَ بالماء وأصبِر وتمضي الأيامُ وعسى الله أن يبدّل الحالَ بحال؟!
صبرُك على مَن تتعامل معه في كلّ الأعمال لا بدّ من صبر، فالصبرُ يعينك على مصالحِ دينِك ومصالحِ دنياك، ويذلّل أمامَك الصّعاب، ويهوِّن عليك المشاقّ، ويجعلك مرتاحَ البالِ طيّبَ النفس منشرحَ الصدر، أمّا الضجَر وقلّة الصبرِ فإنّها لا تفيد خيرًا، تقضي على قوّتِك، وتملأ قلبَك همًّا وحزنًا، فتدرّع بالصّبر في كلّ الأحوال، وعسى الله أن يعينَنا وإيّاكم على كلّ خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربكم إذ يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الزكاة (1469)، مسلم في الزكاة (1053) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3331)، مسلم في الرضاع (1468) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم بنحوه في الزهد (3014) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديث طويل.
(1/3861)
نصائح للمعلمين والمعلمات
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
23/5/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدخول المدرسي. 2- مسؤولية التربية والتعليم. 3- الوصية بالإخلاص والمحافظة على وقت العمل. 4- ضرورة تحلي المعلم والمعلمة بأخلاق وتعاليم الإسلام. 5- مهمة العناية بالنشء وإرشاده. 6- التعليم مجال رحب للدعوة إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يومَ السبت غدًا الرابع والعشرين من جمادى الأولى لعام ألف وأربعمائة وعشرين للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم يبتدئ أبناؤنا وبناتنا فصلاً دراسيًا جديدًا، نسأل الله أن يأخذ بنواصيهم لما فيه الخير والصلاح، وأن يسدِّد خطاهم ويوفِّقهم لكلّ عملٍ يرضي الله عنهم، وأن يجعل أعمالَ الجميع فيما يقرّب إلى الله ويعين على كلّ خير، إنّه على كلّ شيء قدير.
أيّها الإخوة، وبهذه المناسبة أحبّ أن أتحدّث مع إخواني من معلّمين ومعلمات، أحبّ أن أتحدّث معهم وأوجِّه لهم نصيحةً أرجو الله أن تكونَ خالصةً لوجه الله، وأرجو الله أن يكون لها أثرٌ في نفوس الجميع.
أيّها المعلّم، أيتها المعلمة، إن مسؤوليّةَ التربية والتعليم مسؤوليةٌ جسيمة ومسؤولية كبيرة ومسؤولية عظيمة، لماذا؟ لأنّها تتعلّق بتربية هذا النشء من بنينَ وبنات، تتعلّق بتربيتهم وتوجيههم ورسم الطريق الذي يسيرون عليه في مستقبل أمرهم، إذًا فالمعلِّم والمعلِّمة يجب أن يستحضِر كلٌّ منهما هذه المسؤوليةَ العظيمةَ، وأن يتصوَّروا هذه المهمَّةَ الملقاة على عواتقهم، فإن تصوّروها حقّ التصوّر وعلموا أهمّيتَها وكبيرَ شأنها دعاهم ذلك إلى أن يؤدُّوا ما استطاعوا من واجبٍ وما قدروا عليه نحوَ أداء هذه المهمّة على الوجه المرضيّ.
أيّها الإخوة، إنَّ كلاًّّ مسؤولٌ عمّا استرعاه الله عليه، في الحديث يقول : ((من استرعاه الله رعيّة فالله سائله عنها؛ حفظ ذلك أم ضيّع)) [1].
أيّها المعلم، أيّتها المعلمة، إنّ في أعناقكم مسؤوليّتين: تربية هذا النشء وتثقيفه، فإن اتقيتِ الله ـ أيّتها المعلمة ـ فيما عُهِد إليكِ من واجب وفيما كُلّفتِ به من مهمّة، وإن اتقيتَ الله ـ أيها المعلم ـ فأدّيتَ الوظيفة حقَّ أدائها، ورعيتها حقَّ رعايتها، فكنتَ مخلصًا لله في أداء تلك المهمّة صادقًا في أدائها، وُفِّقتَ للخير، وهُديتَ للطريق المستقيم. فأخلِص لله عملك، واصدُق الله فيما اؤتُمنتَ عليه من مسؤولية وذلك من عدَّة أمور:
فأوّلاً وقبل [كل شيء] أن تحافظَ على الوقت زمنًا وأداءً، وتلتزمَ الحضورَ في وقتك، وتؤدّي هذا العملَ بجدٍّ واجتهاد، فلا تستخفّ بهذه المسؤولية، ولا تستهن بها، فإنها أمانة عندك، والله سائلك عنها، إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ?لأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
وثانيًا: أن تؤدّيَ هذه الوظيفةَ الأداءَ التام، بأن تؤدِّيَ واجبك بكلّ ما يُطلَب منك، فليس المهمّ أن تقضيَ بين الطلاب زمنًا، ولكنّ المهمّ أن يكونَ هذا الزمن منتِجًا ومفيدًا.
أيتها المعلمة، أنتِ كذلك لا بدّ [لكِ] من إخلاص، ولا بدّ من صدقٍ في أداء تلك الأمانة.
وممّا يطلَب أيضًا تحلّي المعلّم بالأخلاق والسيرة النبيلة والصفات الحميدة. فأنت ـ أيها المعلم ـ كن على يقينٍ من أنّ ما تقوله للطلاب أو تفعله فهو الحقّ عندهم، وما تتركه وتنهاهم عنه فهو الباطل عندهم، فالحقّ ما تقوله وتفعله، والباطل ما تنهى عنه وتجتنبه. إذًا فكن متَّقيًا اللهَ فيما تقول، الزَم الأدبَ في ألفاظك التي تنطق بها، فإنّ أمامك أبناءَنا، سيستقرّ في نفوسهم أيّ مقالة تقولها، فإن كنتَ في قولك مؤدَّبًا؛ تقول خيرًا، وتنطق بالكلمة الطيّبة التي تحمل المعانيَ العظيمة، تلقَّوا منك تلك الكلمات، فثبتت في نفوسهم، فأصبَحت على ألسنتهم يتكلّمون بها.
كلمةُ حقّ تقولها إنّها تستقرّ في نفوسهم، يسمعون منك أوَّل ما تدخل تحيَّةَ الإسلام: "السلام عليكم ورحمة الله"، فإن سمعوها منك فأجابوك كنتَ ممَّن أحييتَ سنة وثبَّتَّ سنّةً من النفوس. عندما تبدأ يسمَعون منك ذكرًا لله وثناءً على الله وصلاةً على محمّد ، فيحفظون ذلك منك. عندما تعرض المادّة تعرضها بنفسٍ جيّدة وصدرٍ رَحب وحِرصٍ على إيصال المعلومة للنفوس، فعرضُك للمادّة عرضٌ جيّدً، متمثِّلاً فيه الإخلاصَ والحرص والجدَّ على أن تنتج في عملك. ثمّ أنت مع هذا حريصٌ عليهم وعلى وقتهم وعلى حضورهم وعلى تواجدهم في تلك المادَّة، فتسألُ عن غائبهم، وتناقشه وتناقش أبَويه، فأنت مسؤول عنهم، فإن كنتَ مضيِّعًا لا يهمّك من أتى ممّن غاب ولا تبحث عن ذلك فذاك تقصيرٌ منك أيها المعلم الكريم. ثمّ احرص على أن يكونَ المظهر مظهرًا إسلاميًّا خيِّرًا. واحذر أن يكون المظهر مظهرا سيِّئا.
فيا أيّها المعلّم، احرص على أن تَكون متخلِّقًا بالأخلاق الطيّبة، متأدِّبًا بآداب السنة، إذا شاهدَ منك أولادُنا إسبالاً منك في الثياب رأوا أن الإسبالَ أمرٌ مطلوب، وهذا مخالفٌ لشرع الله. رأوا منك تختُّمًا بالذهب فإنّهم سيأخذون تلك قضية مسلَّمة، وأنت تعلم أن تختّمَ الرجل بالذهب أمر محرّم شرعًا. إذا رأوا منك مظهرَ التدخين ربّما استحسنوه وظنّوا أن ذلك حسن، والمطلوب منك تحذيرُهم من ذلك الخُلق السيّئ. إن سمعوا منك ألفاظًا بذيئة تحمِل سخريةً واستهزاء أو ألفاظًا قذِرة فيها الفُحش والتفحّش فإنهم سينقلون ذلك عنك، فهم مرآةٌ تعكس أخلاقَك، وأقوالك وتصرُّفاتك، فاتّق الله في نفسك أمام ذلك النّشء الذي تصحَبهم معظمَ اليوم، اتّق الله فيهم تعليمًا وأدَبًا وسُلوكًا وأخلاقا.
أيّتها المعلّمة، وإنّ الله سائلكِ عن تلك الفتيات التي اؤتُمنتِ على تعليمهنّ، فاتقِّ الله فيهنّ، كوني صادقة ومخلصةً وجادّةً في أداء الواجب ومتحلّية بالأخلاق والسيرة الفاضلة. إن شعرتِ من بعض الفتيات بعضَ التصرّفات الخاطئة فبادري بإصلاح الخطأ وتقويمِ مَن اعوجَّت في السلوك ومناقشة الفتاة وسؤال أهلِها ومعالجة كلِّ قضيّة في حينها حتى يصلح شبابنا وفتياتنا، وحتى تُؤدِّي المعلّمة واجبَها، ويؤدّي المعلم واجبه.
أيّها المعلّم الكريم، لا يخفَى على الكلّ أنَّ هذا الزمَن زمنٌ كثُرت فيه المعوِّقات عن الأخلاقِ الكريمة، وكثُرت فيه الدعايات لكلّ خلقٍ سيِّئ من خلال المحطّات الفضائية المختلفة التي تبثُّ من خلال برامجها كلَّ ما يتنافى مع العقيدة الصحيحة والأخلاقِ الكريمة، وأن وسائل الاتصال المختلفة أصبحت بأيدي الكثير مِن أبنائنا وبناتنا، يشاهدون ويسمَعون ويطَّلعون ويبحثون، وأصبحت الاتصالاتُ على اختلافها من كلّ قنواتها مهيَّأةً لكلّ أحدٍ في الغالب، إذًا فما موقفُ ذلك المعلّم؟ وما موقفُ تلك المعلّمة أمام ما يشاهدُه شبابنا من خلال المحطّات الفضائية أو من خلال الوسائل المختلفةِ التي أصبحت بمقدور كثيرٍ من الناس إن لم تكن بمقدور كلّ أحد؟ ما موقف المعلّم؟ وما موقف المعلّمة؟
أيّها المعلم الكريم، لعلّك أن تسمَع من خلال الدّرس ما قد شاهده هذا الابنُ من خلال محطّات الفضاء أو وسائل الاتصالات المتعدّدة السريعة البثِّ التي يمكنه من خلالها أن يطّلع على مواقع مختلفةٍ من فئات متعدّدة، لعلك أن تسمعَ منهم شيئًا ممّا شاهدوه ورأوه، فما الموقف؟ الموقف الصحيحُ أن تعالجَ كلَّ مشكلة انقدحت في نفوسهم، وتحاول أن تزيلَ تلك الشبَهَ والضلالاتِ التي قد تعلق بنفوسهم من خلال ما شاهدُوا ورأوا، لا بدّ أن تعالجَ كلَّ قضيّة من خلال ما تناقشهم، أيّ قضية رأوها أيّ قضية انقدحت في نفوسهم ممّا شاهدوه ورأوه يجب أن تبادرَ فتناقشهم وتصلحَ الأخطاء وتبيّن لهم أخطارَ تلك البرامج المنحرِفة وأضرارها ومفاسدها ومساوئَها، ولا تدَع شبهةً في نفوسهم إلاّ بيَّنتها وأزلتها بأسلوب تربويٍّ مؤثِّر، فعسى الله أن يجعلَ على يديك الخير.
إنّ شبابنا اليومَ ليس كماضيه، فهم يشاهدون ويرَون ويقرؤون، ولا بدّ للمعلّم أن يكون رحيبَ الصدر واسعَ الأفق حريصًا على اجتذاذ كلِّ الأخلاق السيّئة والشبهاتِ المضلِّلة من نفوس أبنائنا، فيعالج القضايا ويبيِّن أخطارَ تلك الأمور، وأنّ أربابها لم يقصدوا خيرًا من خلال ما يبثُّونه من تلك البرامج المنحرفة، فإنّها برامجُ متعدّدة ومواقع مختلفة، لا بدّ للمعلم أن يعالجَ مع أبنائنا تلك المشاكل، فعساه أن يُوفَّق لأن يصحِّح الأخطاء، وعساه أن يُوفَّق لأن يصلح المسيرةَ لشبابنا، فيحذِّرهم من الشرور على اختلافها، ويبيّن لهم زيفَ تلك الشبَهِ والضلالات التي عرضَها أعداءُ الإسلام.
هذا واجبك أيّها المعلم، وواجبك أيتها المعلمة، ليس الهدفُ أن أقضيَ وقتًا وأَشرحَ مادةً وأنصرف، لا، أنا مطالبٌ أن أصلحَ ومطالب بالدعوة إلى الله، فمِن خلال فصول التعليم الدعوةُ إلى الله ميدانها خصبٌ لمن أرادها.
أيّها المعلم، إن نبيَّنا يقول: ((من دعا إلى خير كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا)) [2] ، فاغتنم أن تكونَ من هؤلاء، تربِّي جيلاً تربيةً إسلامية على الوجه المرضيّ لينشؤوا على خير ويذكروك في مستقبل أعمارهم، تلك التوجيهاتُ وتلك الأخلاق الكريمة التي أخذوها منك ومن سيرتك الفاضلة.
أيّها المعلم، إنّ نبيَّنا يقول لعليّ رضي الله عنه: ((فوالله، لأن يهديَ الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمر النعم)) [3] ، والعلم الذي تبثُّه يبقى لك ثوابه، ويصِل إليك ثوابه وأنت في لحدِك، ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية أو عِلم ينتفَع به أو ولد صالحٍ يدعو له)) [4].
فيا أيّها المعلّمون، ويا أيّتها المعلمات، ليتّق الجميعُ ربَّهم، وليحرصوا على الأمانة الملقاة عليهم، وليجعلوا من خلال التعليم وسائلَ للدعوة إلى الله، وسائل لإصلاح الأوضاع، وسائل للتوجيه والإرشاد.
أيّتها المعلّمة، اتقي الله في فتياتِ المسلمين اللواتي هنّ أمانة في عنقك، فاحرصي على توجيههنّ وإصلاحهنّ، وأيّ مشكلة تشعرين بها من أيّ طالبة فحاولي علاجَها بكلّ ممكِن من الاتصال بها أو بأهلها، حتى تكونَ للمدرَسَة علاقة بالبيت، فهنا يحصل التعاونُ بين الجميع على كلّ خير.
أيّها المعلّم، لا بدّ أن تشاهدَ من بعض الأولاد مشاكلَ يعيشونها في بيوتهم وبين أهليهم، فأنت كن حريصًا على حلِّ كلِّ مشكلةٍ، وافتح صدرَك لهم، فعسى أن يبدُوا لك ما تكنّه نفوسهم أو ما يعانونه من مشاكل، فتسعى في حلّها وتناقشهم في حلّها، فعسى أن تتوصّل إلى حلٍّ يسعد به الولد، ويسعد به الأبُ، وتسعد به الأمّ، ويسعد به البيتُ عمومًا.
إنّ المعلّمَ يجب أن يكونَ على متسوًى من الأخلاق والحِرص على الخير والأمانة فيما يؤدِّيه من عمل.
أسأل الله للجميع التوفيق والعونَ على كلّ خير، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّا عَرَضْنَا ?لأمَانَةَ عَلَى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ وَ?لْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ?لإِنْسَـ?نُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه النسائي في عشرة النساء (292)، وأبو عوانة في مستخرجه (7036)، والطبراني في الأوسط (1703)، والضياء في المختارة (2460) من طريق ابن راهويه، عن معاذ بن هشام، عن أبيه، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (4492)، وقال الحافظ في الفتح (13/113): "أخرجه ابن عدي بسند صحيح". وأخرجوه أيضًا عقب الموصول من طريق ابن راهويه، عن معاذ، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن مرسلاً، ونقل الترمذي في السنن (4/208) عن البخاري أن الصحيح إنما هو المرسل، وكذا رجح الدارقطني، قال ابن حجر في النكت الظراف: "كون إسحاق حدث عن معاذ بالموصول والمرسل معًا في سياق واحد يدل على أنه لم يهم فيه، وإسحاق إسحاق"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (1636).
[2] أخرجه مسلم في كتاب العلم (2674) عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (2942)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في كتاب الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المعلم، إنَّ وصيتي لك تقوَى الله في أمورك كلّها، فتقوى الله وصيّة الله لكلّ خلقه: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131]، وفي الحديث: ((اتّق الله حيثما كنت)) [1].
أيّها المعلم، الصلواتُ الخمس ركنٌ ثانٍ من أركان الإسلام، فليشعُر الطلاب منك بترغيبهم فيها وحثِّهم عليها وتبيين منزلتها في الإسلام لكي يؤدّوها، رغّبهم في أدائها، وحثّهم على أدائها، ومُرهم بها، واسألهم: هل أدَّوها؟ اسألهم عن أدائها من باب الحثّ لهم والحِرص على أدائها، ورغّبهم في وقتها وفي أدائها جماعة، وكن حريصًا على ذلك في كلّ فرصةٍ ممكنة.
رغِّب الأولادَ في برّ الأبوين، وبيّن لهم وجوبَ برّ الأمّ والأب والسمع والطاعة لهما في المعروف، وذكِّرهما بحقوق الأبوين، فعسى الله أن ينفعَ بتوجيهك.
حُثّهم على احترام الكبير ورحمةِ الصغير والتعامل مع الجيران والأقارب بكلّ خير، فكن راسمًا لهم للأخلاق الكريمة التي جاء بها الإسلام. حُثّهم وبيِّن لهم أنَ هذا الدين دينُ أخوةٍ ومحبّة ومودّة وجمعٍ للكلمة، فحثّهم على احترام الجيران وكفِّ الأذى عنهم، رغِّبهم في سلوكهم وسَيرهم في ذهابهم إلى المدرسة والرجوع منها حُثّهم على الطمأنينة والهدوء في سيرهم، وحذِّرهم من التهوّر في سياقتهم لسيّاراتهم، حذِّرهم من ذلك، حذِّرهم من الأخلاق السيئة، بيّن لهم ما هم يعيشون فيه في هذه البلاد من أمنٍ وطمأنينة ورغَد العيش، وأنّ سبب ذلك هو تحكيمُ شريعة الله والعمل بها، نسأل الله أن يرزقنا الثباتَ على الحق والاستقامة عليه.
ذكّرهم بهذه النِّعم التي أنعم الله بها عليهم من اجتماع كلمتِهم واتحاد صفّهم، وأن هذه البلاد تعيش أمنًا واستقرارًا والتحامًا مع القيادة في كلّ خير، فلهذا جعل الله هذه البلاد تعيش في نعمة واستقرارٍ وطمأنينة، نسأل الله أن يجمع قلوبَ الجميع على طاعته، وأن يعيذنا من زوال نعمته ومن تحوّل عافيته، ومن فُجاءة نقمتِه.
كن ـ أيّها المعلمَ ـ حريصًا كلَّ الحرص على ما يُصلح هذا النشء، وكوني كذلك أيتها المعلمة. ويا أيّها المسؤولون عن إدَارات تعليم البنين والبنات، على الجميع تقوى الله والتعاون على الخير وأداء هذه المهمّة العظيمة التي ائتمَننا الله عليها، فتربيةُ الأجيال هي مسؤوليّة عظيمة؛ لأنّ أبناء اليوم هم رجال الغدِ وقادَته، فلا بدّ من توجيههم وإصلاحهم حتّى ينشؤوا على الخير.
حفظ الله شبابَنا وفتياتِنا من كلّ سوء، وأحاطهم بعنايته، ورزقهم الاستقامةَ، وسهّل لهم المهمّة، وأعانهم على كلّ ما يعود على الإسلام والبلاد بالخير والصلاح، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين" ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2655، 3160).
(1/3862)
أهمية التوحيد والتحذير من الشرك
التوحيد
أهمية التوحيد, الشرك ووسائله
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
7/6/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم الواجبات. 2- اهتمام الأنبياء بالدعوة إلى التوحيد. 3- فضل التوحيد. 4- ضلال سعي المشركين. 5- ابتداء النبي دعوته بالتوحيد. 6- تبرّؤ المعبودين من دون الله من عابديهم. 7- حقيقة التوحيد. 8- تحذير النبي أمته من الشرك. 9- الجنة مآل الموحدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جل جلاله: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].
أيّها المسلمون، يأمر الله جميعَ عباده بقوله لهم: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ، يأمرهم بعبادته، بتوحيده وطاعته، بإخلاصِ الدّين له، بأن تكونَ كلّ عباداتهم لربّهم خالصةً، لا يشركون مع الله غيرَه في أيّ نوع من أنواع العبادة، فإنّ العبادةَ هي أعظمُ واجبٍ على العباد، عبادة الله بتوحيده جلّ وعلا وصرفِ كلّ أنواع العبادة له وأن لا يشرَك معه غيرُه في أيّ نوع من أنواع العبادة.
فالتّوحيد أعظمُ الواجبات، أعظمُ واجبٍ على العبد توحيدُه لله وإخلاصه الدينَ له، فإنّ الله إنّما خلق الخلق لهذا، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ [الذاريات:56، 57]، فما خلق الله الثقلين جنَّهم وإنسَهم إلاّ لأجل غاية واحدة هي عبادتُهم له جلّ وعلا بإخلاصِ الدين له وإفراده بجميع أفعالِهم من دعاء ورجاءٍ وذبح ونذر وغير ذلك من أنواع العبادة، فتتألّه قلوبُهم ربَّ العالمين محبَّةً وخوفًا ورجاءً، ولأجل هذا التوحيد أنزل الله كتبه، الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءايَـ?تُهُ ثُمَّ فُصّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ ?للَّهَ [هود:1، 2]، تَنزِيلُ ?لْكِتَـ?بِ مِنَ ?للَّهِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ فَ?عْبُدِ ?للَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ ?لدّينِ [الزمر:1، 2]، ولأجله أرسل جميعَ الرسل ليدعوا العبادَ إلى توحيد الله ويعرّفوهم هذا الواجبَ العظيم الذي لأجله خُلِقوا، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]، فالرّسل بُعِثوا للدعوة إلى هذا الأصل العظيم، فما أمّة من الناس إلا بُعث لهم رسول ليقيم حجَّةَ الله عليهم بدعوتِهم إلى توحيده جلّ وعلا.
وأخبر تعالى أنّ دعوة الرّسل جميعًا اتّفقت على هذا الواجبِ العظيم، فبه افتتَح الرّسل جميعُهم دعوتَهم أممَهم، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25].
هذا التوحيدُ من حقّقه التحقيقَ الكامل فإنّه بفضلٍ من الله ورحمته يدخل الجنّةَ بغير حِساب، في حديث عتبان: ((فإنّ الله حرّم على النّار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجهَ الله)) [1]. ويُخرج من النّار في قلبه مثقالُ ذرّة من هذا التوحيد، في الحديث: ((يقول الله: أخرِجوا من النّار من في قلبه مثقالُ ذرّة من إيمان)) [2].
هذا التوحيدُ أساسٌ لقبول كلِّ الأعمال، فالأعمال كلُّها متوقِّفٌ قبولها واعتبارها على تحقيق هذا الأصل العظيم عبادةِ الله وحدَه لا شريك له، قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى? مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23]، فكلّ أعمالِ المشركين العابدين غيرَ الله هي يومَ القيامة هباء منثور، لا اعتبارَ لها ولا ميزانَ لها.
وبيّن تعالى لرسوله هذا الأمرَ العظيم فقال: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الزمر:65]، وقال عن أنبيائه لمّا عدّهم: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].
أيّها المسلمون، هذا التوحيد أصلُ الأصول الذي خلِقنا لأجلِه، أن نعلمَ أنّ العبادة حقّ لربّنا جلّ وعلا، فنفرده بكلّ عباداتنا محبَّةً له وذلاًّ وخوفًا منه وطمعًا فيما عنده من الثواب، نعلم حقًّا أنّ ربَّنا خالقُنا وخالق السموات والأرض والمتصرّف في كلّ الكون، حياتُنا بيدِه، موتُنا بيدِه، رزقنا بيده، مالك النّفع والضرّ، السميع البصير، العالم بكلّ شيء، فهو المستحقّ أن نقصدَه بالعبادة، هو المستحقّ إذا لجأنا أن نلتجئ إليه جلّ وعلا، فندعوه وحدَه لأنّه قريبٌ مجيب، الذي يقول لنا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، والذي يقول لنا: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62]، والذي يقول لنا: ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
إذًا فأولئك الذين يدعون غيرَ الله ويؤمّلون في غير الله ويعلّقون آمالهم بغير الله إنّهم على غايةٍ من الضلال والبعد عن الهدى، لماذا؟ لأنّ هذا الدعاءَ يُصرَف لأموات وغائبين، [لا يعلَمون حالَ داعِيهم ولا يسمعونه]، ولو سمِعوا ما استجابوا، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ [فاطر:13، 14]، ما بين أمواتٍ وغائبين، ما بين جنٍّ وملائكةٍ وغيرهم، إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ [فاطر:14]، فعسى أن يخلِّصوا أنفسَهم فضلاً أن ينفَعوا غيرَهم، وثالثًا: وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر:14]، ويتبرّؤون منكم ومن عبادتِكم ومن دعائِكم لهم، إذًا أنتم في غايةٍ من الضلال.
أيّها المسلم، إنّ المشركَ قد ارتكب ظلمًا عظيمًا وجُرمًا كبيرًا، عبَد غيرَ الله، وتألّه غيرَ الله، وأمَّل في غير الله، وتعلّق قلبُه بغير الله، تعلّق بمن ادّعى به الولاية أو الصلاح أو غيرَ ذلك، وكلّ أولئك لا ينفعون داعيَهم ولا يسمعون دعاءَه، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ?للَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَـ?فِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ ?لنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـ?فِرِينَ [الأحقاف:5، 6]. فإذا كان حالُه كذلك؛ لا يستجيب لي إلى يوم القيامة، وهو غافلٌ عنّي مشغول بحاله، ويومَ القيامة يوم الاحتياج يتبرّأُ منّي ومن عبادتي، فلماذا أعبدُ هذا المخلوق؟! ولماذا أعلّق أملي بهذا المخلوق، وأنسى وأنصرِف عن الحيّ القيوم الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم؟! يَسْأَلُهُ مَن فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن:29].
أيّها المسلم، إنّ محمّدًا خاتم أنبياءِ الله ورسله ابتدأ دعوتَه لقومه بدعوتِهم إلى توحيد الله، إلى إخلاص الدّين لله، إلى البراءة من كلّ معبودٍ يعبدونه من دون الله، إلى أن يتركوا ما كان يعبده أسلافُهم من الأشجارِ والأحجار. دعاهم إلى أن يقولوا كلمَة الإخلاص: "لا إله إلا الله"، دعاهم إلى هذه الكلمة، أن ينطقَ بها ألسنتُهم ويعملوا بمقتضاها، ولمّا فهِموا أنّ هذه الكلمةَ تلزمهم إفرادَ الله بالعبادة وترك ما كانوا عليه من شركهم بالله قالوا: أَجَعَلَ ?لآلِهَةَ إِلَـ?هًا و?حِدًا إِنَّ هَـ?ذَا لَشَىْء عُجَابٌ [ص:5]، فلم ينطقوا بها تكبُّرًا عنها وكراهيةً أن يقولوا قولاً يناقض ما هم عليه من الباطل والضّلال، قال تعالى عنهم: إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ ?للَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَءنَّا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [الصافات:35، 36]، قال الله: بَلْ جَاء بِ?لْحَقّ وَصَدَّقَ ?لْمُرْسَلِينَ [الصافات:37].
إنّ محمّدًا مكث أكثرَ من عشرِ سنين، مهمّتُه تأسيسُ هذه العقيدةِ وتثبيتها في النفوس، والجدالُ عنها والنّضال عنها، ودحض شبَه المبطِلين وردّ أباطيلهم بما أنزل الله عليه من كتابه العزيز المبيّن لفسادِ تصوّر المشركين وضلالهم. بيّن الله جلّ وعلا لهم في كتابه العزيز أنّ الأنبياءَ والملائكة وكلّ الأولياء برآء من كلّ من عبَدهم من دون الله، برآء من كلّ من جعلهم أندادًا لله، برآء من كلّ من قصدَهم دون الله، فهذا عيسى ابن مريم يقول الله له يومَ القيامة: ي?عِيسَى ?بْنَ مَرْيَمَ أَءنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ?تَّخِذُونِى وَأُمّىَ إِلَـ?هَيْنِ مِن دُونِ ?للَّهِ [المائدة:116]، يقول الله له وهو أعلم، لكن ليقيمَ الحجّة على أولئك الضالين: قَالَ سُبْحَـ?نَكَ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ [المائدة:116]، أجل، إنّه لا حقَّ له في ذلك، إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـ?مُ ?لْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِى بِهِ أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ [المائدة:116، 117]، فعيسَى قال لقومه: اعبدوا الله ربّي وربَّكم، ما قال لهم: اعبدوني، ولا اتخذوني إلهًا، ولا اجعلوني واسطةً بينكم وبينَ الله، بل قال لهم: اعبدوا الله ربّي وربَّكم.
وملائكةُ الرحمن يسألهم الله يومَ القيامة ليردَّ على أولئك المتعلِّقين بهم، يقول الله لملائكة: أَهَؤُلاَء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ [سبأ:40]، ماذا يقولون؟ سُبْحَـ?نَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ?لْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ [سبأ:41]، فلا علمَ لنا بعبادتِهم، ولا أمَرنَاهم بذلك، ولا ارتضَينا منهم ذلك.
هكذا أنبياءُ الله وملائكته وكلُّ من عُبِد من دون الله، إِذْ تَبَرَّأَ ?لَّذِينَ ?تُّبِعُواْ مِنَ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ ?لْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ ?لأسْبَابُ وَقَالَ ?لَّذِينَ ?تَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا كَذ?لِكَ يُرِيهِمُ ?للَّهُ أَعْمَـ?لَهُمْ حَسَر?تٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَـ?رِجِينَ مِنَ ?لنَّارِ [البقرة:166، 167].
إذًا أيّها الإخوة، فتوحيدُ الله فرضٌ على كلّ مسلم ومسلمة، أن يعتقدَ أنّ الله وحدَه المعبود، وأنّ الله وحدَه المقصود، وأنّ الله الذي يدعَى ويرجَى لا يرجَى ويدعى غيرُه، وأنّ كلّ أنواع العبادة يجب أن تكونَ لله خالصة، وأنّ أولئك الداعين للأمواتِ والصالحين عندَ القبور والطائفين بها والذّابحين لها والنّاذرين لها والمعلّقين بها آمالَهم هم في ضلالٍ مبين وكفرٍ وشرك بالله ومفارقةٍ لدين الإسلام؛ لأنّ دين الإسلام مبنيّ على أن يكونَ الله وحدَه المعبود دون سواه، فهذا التوحيدُ أعظم حقٍّ لله علينا، يقول لمعاذ: ((أتدري ما حقّ الله على العباد، وما حقّ العباد على الله؟)) قال معاذ: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحقّ العباد على الله أن لا يعذّبَ من لا يشرك به شيئًا)) [3].
أيّها المسلم، الموحّدون لله لهم الأمانُ يومَ القيامة، ولهم الاهتداء التامّ في الدنيا والآخرة، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
الموحّدون مهما تكن حالهم فمآلهم برحمةِ الله إلى دخولِ الجنّة، إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]، أمّا عُبّاد غير الله فالنّار مقرُّهم، لا يشفَع فيهم شافع، ولا ينفعهم أيّ عمل، قال تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، فما تنفعهم شفاعة الشّافعين.
المشركون بالله يدّعون أنّ أولئك المعبودين وسائطُ بينهم وبين الله، يرفعون إلى الله حاجاتِهم، ويشفعون لهم عندَ الله، وهذا من أعظم الضّلال، فقد بيّن الله فسادَ ذلك، وبيّن أنّ شركَهم هكذا، قال جلّ وعلا عنهم: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ?لْكِتَـ?بَ بِ?لْحَقّ فَ?عْبُدِ ?للَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ ?لدّينِ أَلاَ لِلَّهِ ?لدّينُ ?لْخَالِصُ وَ?لَّذِينَ ?تَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى ?للَّهِ زُلْفَى [الزمر:2، 3]، هكذا يقولون، ولمّا كانت دعوًى باطلة ودعوًى كاذبة فاسدة، لأنّ الوسائط بيننا وبين الله هم رسلُ الله فيما يبلّغونا عن الله، ورسول الله واسطةٌ بيننا وبين الله في شرعه ودينِه، أمّا العبادة فهي حقّ لله، ولا وساطة بيننا وبين ربّنا في توحيده وإخلاص الدّين له.
محمّد أكمل الخلق وأفضلُهم ينادي عمَّه العبّاس: ((يا عبّاس، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا فاطمة بنت محمد، لا أغني عنك من الله شيئًا. يا صفيّة عمّة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا)) [4] ، إن لم توحّدوه وتخلصوا الدّين له.
وهو دعا إلى هذا التوحيد، وحمى حِمى التوحيد، وأغلق كلّ وسيلة تفضي إلى الشّرك، فيقول في آخر حياتِه: ((لعن الله اليهودَ والنصارى؛ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد)) ، قال الصّحابة: يحذِّر ما صنعوا [5] ، ولولا ذلك لأبرِزَ قبره [6] ، ويقول: ((لا تطروني كما أطرت النّصارى ابنَ مريم، إنّما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)) [7] ، وقال: ((صلّوا عليّ، فإنّ تسليمكم يبلغني أين كنتم)) [8].
فهو لا يرضى أن يُشرَك مع الله في عبادتِه، إذ العبادة كلّها لله حقّ، يأمره الله أن يقولَ: قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ ?للَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا [الجن:21، 22]، قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء [الأعراف:188]، ويقول الله مبكِّتًا المشركين: وَ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْو?تٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النحل:20، 21]، هكذا حَال المعبودين من دون الله.
فكن ـ أيّها المسلم ـ متمسِّكًا بهذه العقيدةِ السليمة، مخلِصًا لله العبادة، عابدًا الله وحدَه، مخلصًا له دعاءَك وذبحَك ونذرك ورجاءَك وحبَّك وخوفك، وكن على يقينٍ بأنّك عبدٌ لله، خُلقتَ لتبعدَ الله وتتقرّب إليه بصالح الأعمال، وأنّ هذه العبادة لا يستحقّها أيّ مخلوق كائنًا من كان، لا ملَكٌ مقرَّب ولا نبيّ مرسل، فضلاً عن أيّ إنسان كائنًا من كان، فالله ما خلقك إلا لتوجِّه قلبَك إليه، إلاّ ليكونَ هو إلهك ومعبودك ومرجوَّك، ليس لك غيره تعالى وتقدّس. فإذا أخلصتَ له توحيدَك وعبدتَه وحدَه لا شريك له فأنتَ بفضل الله ورحمتِه على سبيلِ خير وهدًى، ويُرجَى لك برحمةِ أرحم الراحمين دخولُ الجنة مع الأعمال الصالحة التي جعلها الله سببًا لذلك. واحذَر الشركَ بالله، واحذَر عبادةَ غير الله، واحذر أن تأتيَ قبرًا أو تطوفَ به أو تدعوَ أهله أو تعتقدَ أنّهم ينفعون أو يشفعون، أو أنّهم يسمعون دعاءَ من دعاهم، أو أنّهم يكشفون الضرَّ عن أيّ مضطرٍّ أو ينفعون أو يجلبون خيرًا أو يدفعون ضررًا، اعتقِد أنّ ذلك باطلٌ وكذب، وأنّ الكلَّ بيدِ الله، فهو مالك النّفع والضرّ، وهو المدعوّ والمرجوّ وحدَه دون ما سواه.
ثبّتني الله وإيّاكم على قولِه الثابتِ في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الصلاة (425)، ومسلم في المساجد (33).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (22)، ومسلم في الإيمان (184) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه البخاري في الجهاد (2856)، ومسلم في الإيمان (30) عن معاذ رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الوصايا (2753)، ومسلم في الإيمان (206) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[5] أخرجه البخاري في الصلاة (436)، ومسلم في المساجد (531) عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما.
[6] هذا الجزء هو من كلام عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري في الجنائز (1390)، ومسلم في المساجد (529).
[7] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (2/367)، وأبو داود في كتاب المناسك، باب: زيارة القبور (2042) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: ((فإن صلاتكم تبلغني)) ، وصححه النووي في الأذكار (154)، وابن حجر في الفتح (6/488)، والألباني في أحكام الجنائز (ص213) وتحذير الساجد (ص140).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقّ التقوى.
أيّها الموحِّد لله، أيّها المسلم الذي أسلم قلبُك لله وعبدتَ الله وحدَه ورجوتَه وحدَه وخصّصته بكلّ أنواع الطاعةِ والعبادة، اسمَع ما وعدك به ربّك على لسان نبيّه ، يقول : ((من شهِد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا عبد الله ورسوله وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمتُه ألقاها إلى مريم وروحٌ منه وأنّ الجنّة حقّ والنّار حق أدخله الله الجنةَ على ما كان من عمل)) [1] ، وفي الحديث: ((مَن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخلَ الجنة)) [2].
فكن ـ أيّها المسلم ـ حريصًا على تحقيق توحيدك، حريصًا على البُعد عن الشّرك مهما كانَ حالك، ولا تغترّ بما ابتُلي به كثيرٌ من العالِم الإسلامي بهذه الخرافات والضّلالات والتعلّق بضرائحِ الأموات واعتقادِ أنّ أهلَها يسمعون وينفعون وأنّهم يشفعون لمَن دعاهم وأنّ لهم تصرّفًا في الكون وأنّ لهم وأنّ لهم، كلّها من الخرافاتِ والأباطيل التي زيّنها الشّيطان لهم وحسّنها لهم، وحتى ظنّوا أنّها حقّ وهي باطل، يقول الله جلّ وعلا: قُلِ ?دْعُواْ ?لَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ ?لشَّفَـ?عَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ:22، 23]، قل: ادعوا الذين زعمتم من دون الله، فهم لا يملِكون مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض، فمَن ليس مالكًا وليس شريكًا ولا عَونًا لماذا يُدعَى؟! ولماذا يُرجَى؟! ولماذا يقصَد؟! ولماذا ننسَى الحيّ القيومَ السميع القريبَ الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم؟! لماذا ننسى مَن إذا قال للشيء: كن فيكون؟! ولماذا نأتي لتلك الخرافات وإلى أولئك الأموات؟! ماذا وراء ذلك؟! ماذا عندهم؟! وماذا وراءهم؟! لكن دعاةَ الضلال والخرافة يدعون إلى هذا الباطل، ويحسّنون هذا الباطل، ويزيّنون لهم هذا الباطل، حتّى أوقعوهم في الشّرك بالله، فليكن المسلمُ على حذَرٍ من ذلك، ليلقى اللهَ على التوحيدِ الخالص، فإن لقيهُ مخلِصًا له توحيدَه فيُرجَى له برحمةِ أرحمِ الراحمين الخيرُ الكثير.
جاء في الحديثِ أنّ في يوم القيامة يؤتَى برجلٍ، فيمدّ له تسعةٌ وتسعون سِجِلاًّ، كلّ سجلّ مدَّ البصر، فيقال: أتنكِر شيئًا من هذا؟ فيقول: لا، فيظنّ الرّجل أنّه هلك، فيقال: لا ظلمَ اليوم، فيخرج بطاقة فيها: "أشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله"، فتوضَع البطاقة في كفّة، والسجلاّت في كفّة، قال: فطاشَت السجلاّت وثقُلت البطاقة [3] ، كلّ هذا بفضلِ التّوحيد وعظيمِ شأنِه.
جعلني الله وإيّاكم ممّن أخلصَ لله توحيدَه، ولقيَ الله على هذا الأصلِ العظيم، غيرَ مبدِّلٍ ولا مغيِّر، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحِمكم الله ـ على محمّد كما أمرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائِه الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3435)، ومسلم في الإيمان (28) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (5/233)، وأبو داود في الجنائز (3116)، والبيهقي في الشعب (6/545) عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وليس فيه قوله: ((من الدنيا)) ، وصححه الحاكم (1299، 1842)، وحسنه النووي في المجموع (5/110)، والألباني في الإرواء (687).
[3] حديث البطاقة أخرجه أحمد (2/213)، والترمذي في الإيمان (2639)، وابن ماجه في الزهد (4300) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وصححه ابن حبان (225)، والحاكم (9، 1937)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (135).
(1/3863)
الرقية بين المشروع والممنوع
فقه
المرضى والطب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/6/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سنة الابتلاء وموقف المسلم من ذلك. 2- التوكل والأخذ بالأسباب. 3- تعاطي أسباب العلاج المباحة. 4- القلق النفسي. 5- العلاج بالقرآن والسنة. 6- التحذير من التسارع إلى الرقاة. 7- تهويلات الرقاة ودجلهم. 8- الهدي النبوي في الرقية. 9- التحصّن والتحصين بالذكر. 10- فضل فاتحة الكتاب والرقية بها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ العبدَ في هذه الحياة ما بين صحيحٍ ومريض، أي: تارةً في صحّة وتارةً في مرض، ويومًا في فرح ويومًا في حزن، وما بين سعيد في الدنيا وما بين شقيٍّ فيها، سنّةَ الله ولن تجد لسنّة الله تبديلاً. ولكنّ المؤمن يعالج هذه القضايا بالعلاج الشرعيّ النافع الذي دلّ عليه كتاب الله وسنّة محمّد ، فصحّتك أو مرضك، فرحك أو حزنك، الكلُّ بقضاء الله وقدره، والمسلم لا يستسلِم للبلاء ولا للأحزان، ولكنّه يتعاطى كلَّ سببٍ نافع وكلَّ علاج مؤثِّر، فهو يعالج قدرَ الله بقدر الله، يردّ القدرَ بالقدر، فالذي قدّر الأمراضَ هو الذي شرع الدواءَ وأذِن في الدواء لعلاج ذلك المرض، والذي قدّر الأحزان والهمومَ هو الذي شرع علاجًا لتلك الهموم والأحزان، والذي قدّر الشقاءَ أو السعادة في الدنيا هو الذي قدّر ما يُعالجَ به الشقاءَ ويُدفَع به أسباب الشقاء.
فالمسلم يردّ القدَر بالقدَر، يعالج القدر بالقدَر، هكذا المؤمن حقًّا، يعلم أنّ الله جلّ جلاله ربط الأسبابَ بمسبِّباتها، فكلّ سببٍ فمِن الله، والله الذي قدّر السبَب والمسبَّب، وله الحكمة التامّة، جلّ ربًّا وتقدّس إلهًا ومعبودًا.
أيّها المسلم، ونبيُّنا أعظم خلقِ الله اتِّكالاً على الله واعتمادًا عليه وثِقةً به، ومع هذا تعاطى الأسبابَ، واتَّقى الشرَّ بالخير، واتَّقى أسبابَ الشرّ بأسباب الخير، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.
يقول لنا : ((تدَاوَوا عبادَ الله، ولا تتداوَوا بحرام)) [1] ، وقال لنا: ((ما أنزل الله من داءٍ إلا أنزل له دواء، علِمه من علِمه، وجهِله من جهله)) [2] ، فالداءُ من الله، والدواء من الله، فهو الذي قدّر هذا وقدّر هذا، فالذي قدّر الداءَ هو الذي قدّر الدواءَ، وجعل الدواء علاجًا لذلك الداء، ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء)) ، لكن ما كلّ أحدٍ يعلم ذلك، ((علمَه من علمه، وجهله من جهلَه)).
وفي الحديث عنه أنّه قال: ((المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله من المؤمِن الضعيف، وفي كلّ خير. احرِص على ما ينفعك، واستعِن بالله، ولا تعجزنّ)) [3] ، ((احرِص على ما ينفعك)) ، على كلّ شيء ينفعك، وعلى كلّ سبب يمكنك، ((واستعن بالله)) على ذلك، ((ولا تعجَزن)) ، ولكن لو قدِّر أن الأسبابَ التي أخذتَ بها لم تُحقِّق المطلوبَ فقل: قدَرُ الله وما شاء فعل.
أيّها المسلم، إنّ المؤمن يسلك في علاجِه لمرضه وهمومِه وأحزانِه المسالكَ الشرعيّة، فليس المسلم يدفَع مرضَ بدنِه بمرضِ قلبِه، ولا يدفع همّه وحزنَه بفرَحٍ على غير هدًى، ولا يدفع شقاءَه في الدنيا على حسابِ شقائه في آخرته، بل سلامة دينه، سلامة معتقده أغلى عليه من كلّ شيء، فهو يتعَاطى العلاج النافعَ ليعالجَ الأمراضَ التي ببدنه، ولكنه لا يعالِجها على سبيل فسادِ دينه واختلال عقيدتِه، بل هو يبرَأ إلى الله مِن ذلك، فإذا نزَل به البلاءُ التجَأ إلى ربّه، وانطرَح بين يدَيه، وتعاطى الأسبابَ النافعة، فإن قُدِّر ذلك وإلاّ فهو راضٍ بما قدّر الله وقضاه.
أيّها المسلم، إنّ الله جلّ وعلا ذكر لنا بعضَ أنبيائه وما حصَل عليهم من البلاء، فذكر عن أيّوب عليه السلام بقوله: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى? رَبَّهُ أَنّى مَسَّنِىَ ?لضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ ?لرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]، قال الله: فَ?سْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ وَءاتَيْنَـ?هُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى? لِلْعَـ?بِدِينَ [الأنبياء:84]. وقال عن خليلِه عليه السلام في معرض ثنائِه على ربّه: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]. وأخبرنا عن علاج الهمومِ والغموم التي تحلّ بالعبد بقوله : ((من أصابه غمّ أو حزن فقال: اللهمَّ إنّي عبدك ابنُ عبدك ابنُ أمَتك، ناصيَتي بِيدك، ماضٍ فيَّ حكمُك، عدلٌ فيّ قضاؤك، أسألك اللهمّ بكلّ اسمٍ هو لك، سمّيتَ به نفسك، أو أنزلتَه في كتابك، أو علّمته أحدًا من خلقِك، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيعَ قلبي ونورَ صدري وجلاء حزني وهمّي، إلا أذهب الله حزنه وأبدله به فرحًا)) [4].
أيّها المسلم، إنّ ما أُصيبَ به الكثير من النّاس من قلقٍ نفسيّ واضطرابات وهمومٍ وأحزان إنما سببُه قلّةُ الإيمان وقلّة التعلّق بربّ العالمين، والمسلم كلّما نزلت به الكروبُ والهموم لجأ أوّلاً وقبل كلّ شيء لربّه وخالقِه والتجأ إليه، وسأله أن يفرِّج همّه ويكشِف كَربَه ويزيل غمّه ويعينه على كلّ أموره، ويتعاطى الأسباب النافعة التي شرعها الله ورسوله.
أيّها المسلمون، إنّ كتابَ الله علاجٌ لأمراض القلوب والأبدان، وكذلك المأثور من سنّة محمّد ، يقول الله جلّ وعلا: وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ ?لظَّـ?لِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا [الإسراء:82]، وقال عن القرآن: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء [فصلت:44]، فالقرآن شفاءٌ لأمراض القلوب، يعالجُها من أمراض الشِّرك والشبهات والشهوات والشكوك والهموم والأحزان، وعلاجٌ للأبدان لمَن صَدقت نيّته وعظُمت رغبته فيما عند الله.
أيها المسلمون، إنَّ نبيَّنا شرع لنا أن نعالج أنفسنا بكتاب الله وبالمأثور من سنّته.
البعضُ من الناس أيُّ ألمٍ يصيبُه وأيُّ همّ ينزل به يبحَث عن راقٍ يرقيه وقارئ يقرأ عليه، وربّما استغلّه ذلك الراقي وذلك القارئ الاستغلالَ السيّئ بأمور، منها أنه يلقي في قلبه الرعبَ ويخوّفه ويجعَل كلَّ خوفٍ نصبَ عينيه، فيعدّ عليه من الأمراض ما هو بريء منه، ولكن لإضعافِ كيانه ولإضعاف قوّته، حتى يلتجئ إلى ذلك الراقي وينقادَ لذلك الراقي، فيتحكّم فيه ذلك الراقي الآثم ليسلبَ ماله ويأخذ مالَه ويجعله مرتبِطًا به دائمًا؛ فِيكَ مسٌّ وفيك عَين وفيكَ سِحر وفيك وفيك وفيك، فيجلبُ له أمراضًا هو لا يعرِفها، قد أتى إلى هذا الراقي وقد لا يشكو إلا جزءًا يسيرًا من مرَض، فيرجع وقد امتلأ قلبُه رُعبًا وهمًّا وخوفًا وحزنًا وقلقًا نفسيًّا، لماذا؟ لأنّ هذا القارئ المخطِئ الجاهل قد قال له: فيك من الأمراض ما فيك، وفيك من الأوجاع ما فيك، سَحرتك فلانَة وسَحرَك فلان، [وأصابك] بعينِه فلان وفلانة، وفي بيتكم سِحر وعندكم حسَد، وإلى آخر ذلك، لماذا؟ ليضعُفَ أمامه، فيأتيه كلَّ يوم، ويتحَكّم فيه وفي مصيره، ويسلب منه الأموالَ، حتى يظنّ ذلك المسكين أنّه لا شفاءَ ولا سلامة إلاّ على يد ذلك الإنسان، وكلّ هذا من أراجيف الشيطان، كلُّ هذا من الشياطين وأعوانِهم، شياطينِ الإنس والجنّ. فلو اتَّقى ذلك الراقي ربّه حقًّا لعالجَ ذلك المريضَ وأرشدَه إلى أن يعالجَ نفسه بنفسه، أمّا أن يُدخل عليه الهموم والأحزانَ ويعطيه من الأمراض ما لا يعرِفه وهو خالٍ منها إنّما يقصِد أولئك الإرجافَ بالناس، إرعابَ الناس، تخويفَ الناس، حتى يكثرَ سوادُهم ويكثُر الآتون لهم والقاصدون لهم، ويسلّموا لهم ما أرادوا، ويتحدَّثون عنهم وأنّ فلانًا خبير، يَعلم يشخِّص الأمراض، ويعلم الأدواء، وأنه وأنه...
أيّها الإخوة، كلّ هذا مِن أراجيف الشيطان، فاحذروا ـ رحمكم الله ـ ذلك، ولا تأتوهم، ولا تحتاجون إليهم. اسمَعوا كيف يعالِج نبيّكم نفسَه، تخبِرنا أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما أنّه إذا أوى إلى فراشه جمع يديه، فقرأ فيهما: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ [سورة الفلق]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لنَّاسِ [سورة الناس] ثلاثًا، ثم يمسح بها رأسه ووجهَه وما أقبل من جسدِه، ثم ينام [5]. وكان يرقي الحسنَ والحسين يقول: ((أعوذ بكلمات الله التامّة، من كلّ شيطان وهامّة، ومن كلِّ عين لامّة)) [6]. أتاه عثمان بن أبي العاص يسأله عن ألمٍ يجِده قال: ((ضَع يدَك على ذلك الموضِع من جسدِك، وقل: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمِه شيء في الأرضِ ولا في السماء ثلاث مرات، أعوذُ بالله وقُدرته من كلّ ما أجِد وأحاذِر سبعَ مرات)) [7]. وقال لنا مرشِدًا لنا إلى ذكرٍ نافع ينفعنا: ((من قال في صباح يومه ثلاثَ مرّات: بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لم يصبه ضررٌ في يومه، ومن قالها عند مسائه لم يصِبه ضرَر في ليلته)) [8].
فيا إخوتي، هذه الأذكار النبويّة تحصّننا من الهموم والغموم، وتحرسُنا من مكائد شياطين الإنس والجنّ، وتجعلنا في حِصنٍ حصين من أن نلجأ إلى أولئك الرّاقين، إلى أولئك الطمّاعين، إلى أولئك الجشِعين، إلى أولئك الكذّابين الدجّالين.
أيّها الإخوة، للأسف الشديد أنّ دورَ الرقية الآن انتشَرت بين الناس، فلا تجِد حيًّا إلا فيه عنوان: "الرقية الشرعية لفلان بن فلان"، هذا الرّاقي إذا أتيتَه ماذا العمل؟ أوّل شيء أن يأخذَ مبلغًا من المال مُقدّمةً للدخول. ثاني شيء أنّه يتحكّم فيك فيعطِيك أمراضًا أنت بريء منها؛ بأوّل نظرة: فيك وفيك وفيك وفيك، حتّى تخرجَ مريضًا فوقَ مرضك الذي جئتَ لتعالجَه. ثالثًا أنهم سلكوا مسلكًا سيّئًا، تنافسوا في الكذِب، وتنافسوا في الدّجَل، وتنافَسوا في اختلاقِ الأباطيل والأكاذيب، لماذا؟ ترى واحدًا منهم يقول: أنا عندي جِنّ أتسعين بهم، يُعلمونني ما هو المرَض، ونوعَ المرض، وأكشِف لكم ذلك بأيّ [وسيلة] تكون، وبعضهم يقول: أضع عليه خرقةً سوداء، ثمّ يكشف لي جميعَ الأمراض؛ مَن سحَره؟ ومن أعانَه؟ ومَن ومَن؟ إلى آخر ذلك، فيظنّ ذلك الإنسان أنّ هذا عنده علمُ الغيب ومطّلعٌ على الأمور كلّها، ويأبى الله ذلك، إنما أولئك إخوان الشياطين، يستعينون بالشياطين، ويقرّبون القرابينَ لهم، ويعبُدونهم من دون الله، ويتقرّبون لهم من دون الله. فالحذرَ الحذَر من أولئك، والحذرَ الحذرَ من إتيانهم، وتثبّتوا عند أيّ راقٍ تريدون أن يرقيكم، فإن تكن رقيتُه خيرًا؛ كتاب الله والمأثور عن محمد فنَعَم، وإن يكن فيها كلامٌ لا يُفهم معناه وطلاسم ورُقًى لا تعلمونها ولا تفهمون ما فيها فاحذروهم، فإنّهم الأعداء الألدّاء.
ابن مسعود صاحبُ رسول الله تقول زوجتُه زينب: كان إذا أتانا لم يطرق البابَ حتى يسلّم ويتنحنَح ويبسطَ حتى لا يفجأنا، هكذا أدَّبهم محمّد ، قالت: وكانت عندي امرأة ترقيني، فلمّا دخلت جعلتُها وراءَ السرير حتّى لا يراها، ورأى في رقَبتي خيطًا فقال: ما هذا؟ قلت: خيط رُقي لي فيه، قالت: فأخذه وقطّعه وقال: أنتم آل عبد الله لأغنياءُ عن الشرك، سمعتُ رسول الله يقول: ((إنّ التمائمَ والرُّقى والتِّوَلة شِرك)) ، والتمائمُ الحُروز التي تعلَّق على الأطفال أو غيرهم، والرّقى هي العزائمُ تُكتب أو تنفَث على المريض، والتِّوَلة شيء يصنعه السّحرة، يزعمون أنّ المرأة إذا تعاطته جَلبت محبّة زوجِها لها، وأن الزوجَ إذا تعاطاه جلب محبّةَ زوجته له. هكذا السحرة. قالت امرأته: يا هذا، إنّ عيني تقذف ـ أي: تُؤلمني ـ فأذهب إلى اليهوديّ فيرقيني فيها، قال عبد الله: إنّ عينَك ينخسها الشيطان بيده، فإذا رقي اليهودي لها زالت، فإذا تركتم الرقيةَ عادت، أما ترقين نفسَك بما كان يرقِي به النبيّ نفسه؟! ((أذهِب الباسَ ربَّ الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادِر سقَمًا)) [9].
وجاء جبريل عليه السلام إلى النبيّ فقال: يا محمّد، أتشتكي؟ قال النبيّ: ((نعم)) ، قال: بسم الله أرقيك، من كلّ دَاء يؤذيك، من كلّ نفس وعين حاسدة، الله يشفيك [10].
فيا إخوتي، الأذكارُ النبويّة عالجوا بها أنفسَكم، وارقوا بها أولادَكم الصغار، وحصّنوا أنفسَكم بذلك، تسلموا من الأمراضِ والأورام بتوفيقٍ من الله. فصِلة المسلم بكتابِ ربّه وصلتُه بسنّة نبيِّه سببٌ لسلامة قلبِه وبدنه، وكونه يعطّل هذه الأذكارَ فإنّ ذلك يؤدّي إلى فراغ في النفس وهموم وقلقٍ واضطراب.
أيّها الإخوة، إنّ أولئك الراقين كثير منهم ـ هدانا الله وإياهم ـ سلَكوا المسالكَ السيئة، واتّخذوا طُرقًا خبيثة، لا تمُتّ للإسلام بصلة، إرعابُ الناس وتخويفهم، والطمعُ الشديد في أموالهم بشكلٍ خياليّ حتى إنّ الواحد منهم ربّما يكون دخله في اليوم ما لا يستطيع له أكبر مختصّ في الطبّ الحديث، وليسوا على حقّ في كثير من أحوالهم، بل كثير من أحوالهم ليست على هدًى ولا على خير ولا على طريق مستقيم.
فلنتَّق الله، ولنلجأ إلى الله، ولنقوِّ صلتنا بربّنا، وأسأل الله أن يشفيَ قلوبنا وأبداننا، وأن يمنحنا الصحَّة والسلامة والعافيةَ في كلّ أحوالنا، نسأل الله العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة، اللهمَّ عافنا في دينِنا وأبدانِنا وأهلينا وأموالنا، اللهمّ استُر عوراتنا، وأمِّن روعاتنا، واحفَظنا من بين أيدينا ومِن خلفِنا وعن أيماننا وعن شمائلنا، نعوذ بعظمتِك أن نُغتال من تحتنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود في الطب (3874)، والبيهقي في الكبرى (10/5)، وابن عبد البر في التمهيد (5/282) من طريق إسماعيل بن عياش، عن ثعلبة بن مسلم، عن أبي عمران الأنصاري، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وليس عند ابن عبد البر "عن أم الدرداء"، وثعلبة حديثه حسن في الشواهد، انظر: السلسلة الصحيحة (1633). وفيه اختلاف آخر فقد أخرجه الطبراني في الكبير (24/254) فجعله من مسند أم الدرداء، قال الهيثمي في المجمع (5/86): "رجاله ثقات".
[2] أخرجه أحمد (1/377)، وابن ماجه في الطب (3438) مقتصرا على جزئه الأول، والحميدي (90)، والشاشي (752)، وأبو يعلى (5183)، والطبراني في الكبير (10/163) والأوسط (7036)، والبيهقي في الكبرى (9/343) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقد اختلف في رفعه ووقفه، قال الدارقطني في العلل (5/334): "ورفعه صحيح"، وصححه الحاكم (8205)، وقال الهيثمي في المجمع (5/84): "رجال الطبراني ثقات"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (451).
[3] أخرجه مسلم في القدر (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (1/398، 452)، والبزار (1994)، وأبو يعلى (5297)، والطبراني في الكبير (10/169)، والحاكم (1877) عن ابن مسعود رضي الله عنه نحوه، وصححه ابن حبان (972)، وهو في السلسلة الصحيحة (199).
[5] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5018)، ومسلم في السلام (2192).
[6] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3371) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[7] أخرجه مسلم في السلام (2202) ولفظه: ((ضع يدك على الذي تألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)).
[8] أخرجه أحمد (1/62، 66، 72)، والبخاري في الأدب المفرد (660)، وأبو داود في الأدب (5088)، والترمذي في الدعوات (3388)، وابن ماجه في الدعاء (3869) عن عثمان رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (852، 862)، والحاكم (1/695)، وحسنه الضياء في المختارة (309)، وصححه الذهبي في السير (4/352)، والألباني في صحيح الترغيب (655).
[9] أخرجه أحمد (1/481)، وأبو داود في الطب (3883)، وابن ماجه في الطب (3530)، وأبو يعلى (5208)، وصححه ابن حبان (6090)، والحاكم (8290)، ووافقه الذهبي، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (331).
[10] أخرجه مسلم في السلام (2186) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، فاتحة الكتاب: ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ هي أمّ القرآن، وهي السَّبع المثاني التي أوتيَها النبيّ ، ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور أفضل منها، فهي أم القرآن، جَمع الله الكتب السابقةَ في القرآن العزيز، وجمع معانيَ القرآن في المفصَّل، وجمع الله معاني المفصَّل في الفاتحة، وجمع معاني الكلّ في إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
ففاتحة الكتاب أفضل سوَر القرآن، فهي رُقية للمرَض وشِفاء من الأمراض لمن يرقي بها نفسَه، فينفث على نفسه بفاتحةِ الكتاب، فيجِد فيها راحة وعافية وشفاءً برحمة أرحم الراحمين.
روى أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله أنّ رهطًا من أصحابِ النبيّ سافروا في سفرةٍ لهم، فنزلوا على حيّ من أحياءِ العرب، فاستضافوهم فلم يضيفوهم، فلُدِغ سيّد القوم في الحيّ، فبحثوا عن علاجٍ فلم يجِدوا علاجًا، فقال بعضهم: لو أتيتم أولئك النفَر الذين نزلوا بكم البارحَة فسألتموهم فلعلّ عندَ أحد منهم رقية، فجاؤوهم وقالوا: لُدِغ سيّدنا البارحة، فهل من راق يرقيه؟ وهل مِن دواء؟ فقال أحدهم: نعَم أنا أرقيه، ولكن والله لا أرقيكم حتى تجعَلوا لي جُعلا، استضفناكم فلم تضيّفونا، فاتّفق معهم على قطيعٍ من الغنَم، فجاء ذلك الصحابيّ، وجعل يقرأ: ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [سورة الفاتحة]، ويتفل على ذلك الرجل، استكمَل الفاتحة يقرأ ويتفل عليه قال: فكأنما نُشِط من عقال، فقام سليمًا من مرضه، ليس به أيّ وجعٍ ولا أيّ مرض، بفضل الله ثمّ بقراءة فاتحةِ الكتاب مِن ذلك الصحابيّ الموقن المصدّق، فلمّا أخذوا الغنم قال الراقي: لا تقسموا حتى نأتيَ رسولَ الله فنعرض الأمرَ عليه، خَشوا أن يكونوا قد أخطؤوا أو قد فعَلوا فِعلاً لا يليق لتعظيمهم لرسول الله ومحبّتهم له وانقيادهم له ورجوعِهم إليه في كلّ ما أشكَل عليهم رضيَ الله عنهم ورضُوا عنه، فأتَوا رسولَ الله ، فقصّوا عليه خبَرَهم فقال للقارئ: ((وما أدراك أنها رقية؟)) يعني: كأنّه يقول: هي رقية، ما الذي أدراك بها؟! هذا الصحابيّ ألهَمه الله ذلك الأمر، لا علمَ له لكن الله ألهمَه الحقّ، فقال النبيّ: ((وما يدريك أنّها رقية؟! اقسموا واضرِبوا لي معكم بسَهم)) [1] ، صلوات الله وسلامه عليه.
فالمقصودُ أنّ أخذَ القارئ شيئًا على القراءة لا مانعَ منه، ولكن ليتّقوا ربَّهم، وليدَعوا عنهم هذا الجشَع، وليدَعوا عنهم الأراجيفَ والأكاذيب وتخويفَ الناس وإمراضَ الناس بما يقولون، فليتَّقوا الله، وليعلَموا أنّ علمَ الغيب عند الله، وإنّما هي أسباب، والله جل وعلا من وراء القصد.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهدايةَ لكلّ خير، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرج القصة البخاري في الطب (5736، 5749)، ومسلم في السلام (2201) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(1/3864)
قيام الليل
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
21/6/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل قيام الليل. 2- مناجاة المؤمن ربَّه في الليل. 3- فوائد قيام الليل. 4- مواظبة النبي على قيام الليل. 5- أسباب تعين على قيام الليل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ قيامَ الليل عبادة عظيمةٌ وعمَل جليل، ولقد مدَح الله به عبادَه المؤمنين، فذكر من أخلاقهم الحميدةِ التي نالوا بها بفضل الله جنّاتِ النعيم قيامَهم الليلَ فقال: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى جَنَّـ?تٍ وَعُيُونٍ ءاخِذِينَ مَا ءاتَـ?هُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:15-18]. فوصَفَهم بأنّهم قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون، فهم يُحيون جزءًا من الليل، ويختِمون ذلك بالاستغفار عمّا قدّموا وأساؤوا.
وقال جلّ جلاله: تَتَجَافَى? جُنُوبُهُمْ عَنِ ?لْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [السجدة:16، 17]، أخفَوا قيامَهم في الليل، وصار قيامُهم سِرًّا بينهم وبين ربِّهم، فأنالهم الله ذلك الثوابَ العظيم، ما لا رأت عينٌ ولا سمِعت أذنٌ ولا خطَر على قلبِ بشر، فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ.
وقال الله لنبيّه : وَمِنَ ?لَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى? أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء:79].
وأخبر تعالى عن فضل قيام الليل وأنّ في قيام الليل تواطؤَ القلب مع اللسان: إِنَّ نَاشِئَةَ ?لَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطًْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً [المزمل:6]، وقال: وَمِنَ ?لَّيْلِ فَ?سْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [الإنسان:26].
أيّها المسلمون، وخلُق نبيِّكم أنّه كان يقوم الليلَ ويحافظ على قيام الليل، ويخبر أنّ قيامَه بالليل شكرٌ لربّه على نعمِه العظيمة عليه، تقول عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنهما: كان رسول الله يقول الليلَ حتى تفطّرت قدماه، فسألَته قائلةً له: أتفعل هذا وقد غفَر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؟! تشير إلى قوله: لّيَغْفِرَ لَكَ ?للَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، قال: ((ألا أكون عبدًا شكورًا؟!)) [1]. فإنّ شكرَ الله على نعمِه التقرّبُ إليه بالفرائض وبالنوافل بعد الفرائض، وكلّما تصوّر العبد نعَمَ الله عليه دعاه ذلك إلى أن ينافِس في صالح الأعمال.
وأخبر أنّ قيامَ الليل سببٌ لدخول الجنّة والفوز بها بفضل الله ورحمته، قال عبد الله بن سلام رضي الله عنه: لمّا قدم النبيّ المدينةَ جفل الناس إليه، فكنتُ فيمن جَفل إليه، فاستبنتُ وجهَه فلم أرَ وجهَ كذّاب، فسمعتُ أوّلَ ما قال: ((أيّها الناس، أطعِموا الطعام، وأفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، [وصلّوا بالليل والناس نيام]، تدخلوا الجنّةَ بسلام)) [2].
وأخبرَ ما لقائمِ الليل في الجنّة من النعيم المقيم، فقال: ((إنّ في الجنة غرفًا، يُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها)) ، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لمن أطاب الكلامَ، وأطعَم الطعام، وصلّى بالليل والناس نيام)) [3].
أيّها المسلم، فالمسلم في ليلِه وفي تهجُّده يعبُد ربَّه، ويَشكو ذنبَه، ويناجي ربَّه، فيسأله جنّته ومغفرتَه، ويستعيذ به من عذابه، ويرجو رحمتَه وفضله وإحسانَه. إنّه يقوم من فراشه ومِن لذيذ منامه، لماذا؟ ليقفَ بين يدَي ربِّه في تلك اللّحظاتِ المباركة ووقت التنزّل الإلهي، حينما ينزل ربّنا إلى سمائه الدنيا حينما يبقى ثلث الليل الآخر، فينادي: هل من سائل فيُعطَى سؤلَه، هل من مستغفرٍ فيغفَر له، هل من داعٍ فتجاب دعوته.
أيّها المسلم، إنّ في قيام الليل فرصةً لك لتسألَ ربَّك ما أحببتَ من خيرَي الدنيا والآخرة، ففي ذلك الوقت العظيم المبارَك فرصة لك لتشكوَ إلى الله حالك، وترجوه من فضله، وتتوب إليه من زللِك وخطئك، وتسأله ما أحببتَ من خيرَي الدنيا والآخرة، فإنّك تسأل كريمًا وقريبًا مُجيبًا وغنيًّا حميدًا، يحبّ من عباده أن يسألوه ويلتجِئوا إليه، يحبّ منهم أن يسألوه وقد وعَدَهم الإجابةَ فضلاً منه وكرَمًا، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، قال جابر بن عبد الله: قال رسول الله : ((إنّ في الليل ساعةً لا يوافقها رجل مسلمٌ يسأل الله خيرًا مِن أمر الدنيا والآخرة إلاّ أعطاه الله إياه، وذلك كلَّ ليلة)) [4]. فهي فرصةٌ لك ـ أخي المسلم ـ لتقومَ بين يدَي ربّك، تناجيه وتسأله الثباتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى، وأن يختمَ حياتَك بخاتمةِ خير.
أيّها المسلم، إنّ في قيام الليل فوائد، يقول : ((عليكم بقيامِ الليل، فإنّه دأب الصالحين قبلكم، ومكفرة لذنوبكم، وقربَة تتقرّبون بها إلى ربّكم، وطردًا للدّاء عن الجسَد، ومنهاة عن الإثم)) [5]. إذًا ففي قيام الليل تلكم الفوائد: الاقتداء بالصالحين، تكفيرُ الذنوب، قربةٌ نتقرّب بها إلى الله، يُبعد الداءَ عن أجسادنا، فيجعلنا نتمتّع بها على الطاعة، ويجنّبنا الآثام والعصيان.
سئلت عائشة رضي الله عنها فقيل لها: إنّ الله لم يفترِض علينا سوى الصلواتِ الخمس، قالت: نعم، لعمري ما افترضَ الله عليكم إلاّ هذه الصلوات، ولن يطالبَكم إلا بما افترض عليكم، ولكنّكم قوم تخطئون وتذنِبون، وما أنتم إلاّ من نبيّكم، وما نبيّكم إلا منكم، ولقد كان يحافظ على قيام الليل [6].
قال في حقّ عبد الله بن عمر: ((نِعمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل)) ، قال سراري عبد الله فما ترك عبد الله قيامَ الليل [7]. وقال عبد الله بن عمرو: عن النبيّ قال في رجل كان يقوم الليل فترك قيامَ الليل، قاله منكرًا عليه، قال: ((يا عبدَ الله بن عمرو، لا تكن مثلَ فلان، كان يقوم الليل فترك قيامَ الليل)) [8].
أيّها المسلم، قيامُ شيءٍ من الليل فيه صلاحٌ لدينك واستقامة لحالك وتقرّب إلى ربّك ورجاء الثواب، وستجد ذلك مدَّخرًا لك أحوجَ ما تكون إليه، قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (تصدّقوا بصدقةِ السرِّ ليومٍ عسير، صلّوا في ظلمةِ الليل لظلمةِ القبور، صوموا يومًا شديدًا حرُّه ليوم النّشور) [9].
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا كان يحافِظ على قيام الليل، وإذا حُجز عنه لوجعٍ أو غيره قضاه في النهار، فكان يواظِب على إحدى عشرَة ركعة، فإذا عجز عنها لمرضٍ أو غيره صلاّها في الضّحَى ثنتَي عشرَةَ ركعة [10].
هكذا كان يحافِظ على قيام الليل، ويحافظ عليه صحابتُه الكرام والتابعون لهم بإحسان، فهو خلُق أهلِ الإيمان، يزدادون به خيرًا، ويزدادون به قربةً إلى الله، قال بعض السلف لما دخل عليه رجلٌ ورأى أثرَ الخير عليه قال: "من قامَ بالليل حسُن وجهه بالنهار"، يعني أنّ لقيام الليل آثارًا على القائم وعملاً صالحًا ونورَ الخير والتقى.
قيل لعبد الله بن مسعود: ما نستطيع قيامَ الليل، قال: قيّدتكُم خطاياكم، لو صدقتُم الله لأعانكم، ألم تسمعوا الله يقول: وَلَوْ أَرَادُواْ ?لْخُرُوجَ لأعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـ?كِن كَرِهَ ?للَّهُ ?نبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ?قْعُدُواْ مَعَ ?لْقَـ?عِدِينَ [التوبة:46]؟! [11].
إنّ قيامَ الليل نعمة يمنّ الله بها على من يشاء من عبادِه، فيجِد ذلك القائمُ لهذا الوقت لذةً وسرورًا وانبساطًا وانشراحَ صدر وقرّةَ عين، وهو قائم يتلو كتابَ الله ويتدبّره، ويسبّح الله ويحمده ويثني عليه ويلجأ إليه، فما أعظمَها من نعمةٍ لمن وُفِّق لها، ولا يعرف قدرَها إلا من مُنِح تلك النعمة، قال بعض السلف: "إنّ أهلَ الليل في ليلهم وتهجُّدهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم"، نعم إنّهم ألذّ، فهؤلاء في سبيلِ صلاح قلوبهم واستقامةِ حالهم، وهؤلاء في سبيل فساد قلوبهم وذهاب دينهم، أعاذنا الله وإياكم من حالة السوء.
فعلى المسلم الذي يرجو رحمةَ ربّه أن لا يفوّتَ هذه النعمةَ ولو جزءًا يسيرًا، فما يزال العبدُ يألَف تلك الطاعةَ ويحبّها حتى يوفّقه الله، فيجعله ممّن اعتادَ هذا العمل الصالح ورغِبه وأحبّه.
جعلني الله وإيّاكم من المسارعين لفعل الخيرات، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في التفسير (4837)، ومسلم في صفة القيامة (2820).
[2] أخرجه أحمد (5/451)، والترمذي في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، وابن ماجه في كتاب إقامة الصلاة والسنة فيهما، باب: ما جاء في قيام الليل (1334)، وصححه الحاكم (3/14)، والمقدسي في الأحاديث المختارة (6/431)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2019).
[3] أخرجه ابن أبي شيبة (5/248، 7/30)، وهناد في الزهد (123)، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند (1/155)، والترمذي في البر والصلة (1984)، والبزار (702)، وأبو يعلى (428، 238)، والبيهقي في الشعب (3/216)، والخطيب في جامع أخلاق الراوي (236) عن علي رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن إسحق، وقد تكلم بعض أهل الحديث في عبد الرحمن بن إسحق هذا من قبل حفظه وهو كوفي"، وله شواهد كثيرة عن أبي مالك الأشعري وعبد الله بن عمرو وابن عمر وجابر رضي الله عنهم، ولذا حسنه الالباني في صحيح سنن الترمذي (1616).
[4] أخرجه مسلم في صفة صلاة المسافرين (757) عن جابر رضي الله عنه.
[5] أخرجه الترمذي في الدعوات (3549) عن بلال رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث بلال إلا من هذا الوجه، ولا يصح من قبل إسناده. سمعت محمد بن إسمعيل يقول: محمد القرشي هو محمد بن سعيد الشامي وهو ابن أبي قيس وهو محمد بن حسان وقد ترك حديثه. وقد روى هذا الحديث معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي أمامة عن رسول الله أنه قال: ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة للإثم)) ، وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال"، وصحح ابن خزيمة (1135) حديث أبي أمامة الذي ليس فيه: ((ومطردة للداء عن الجسد)) ، وكذا الحاكم (1156)، وحسنه الألباني في الإرواء (452).
[6] ينظر من أخرجه. وقد روى مسلم في صلاة المسافرين (746) سعد بن هشام بن عامر قال: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن قيام رسول الله ، فقالت: ألست تقرأ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ؟! قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة، فقام نبي الله وأصحابه حولا، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة.
[7] أخرجه البخاري في التهجد (1122، 1158)، ومسلم في فضائل الصحابة (2479) بنحوه.
[8] أخرجه البخاري في التهجد (1152)، ومسلم في الصيام (1159).
[9] أخرج أبو نعيم في الحلية (1/165) نحوه عن أبي ذر رضي الله عنه.
[10] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (746) عن عائشة رضي الله عنها.
[11] ينظر من أخرجه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ لقيام الليل أسبابًا لمن أراد ذلك وسعَى في الخير، فمنها أن يحرِص على الإقلال من السّهر ما وجَد لذلك سبيلاً، كان نبيّكم يكره النومَ قبل العشاء، ويكره الحديثَ بعد العشاء [1] ، فكان يكره النوم قبلها ـ أي: قبل العشاء ـ خوفًا من فواتها، ويكره الحديث بعد صلاة العشاء لأنه كان إذا صلّى أوى إلى فراشه، فكان يكرَه طولَ السَّهر الذي لا داعي له خوفًا من أن يفوِّت عليه فُرصًا عظيمة وخيرات كثيرة.
ومِن أسبابه أن تقرأ آيةَ الكرسيّ عند منامك لتبعِد عدوّ الله عنك، ففي الحديث: ((من قرأ آيةَ الكرسيّ كلَّ ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح)) [2] ، وتختم بالآيتين من سورة البقرة، فمن قرأهما في ليلةٍ كفَتاه [3] ، وكان نبيّكم إذا أوى إلى فراشه يقول: ((اللهم فاطرَ السموات والأرض، عالمَ الغيب والشهادة، ربَّ كلّ شيء ومليكه، أشهد أن لا إله إلا الله، أعوذ بك من شرّ نفسي ومن شرّ الشيطان وشِركه وأن أقترفَ على نفسي سوءًا أو أجرّه إلى مسلم)) [4] ، وكان يجمع كفّيه فيقرأ فيهما: قُلْ هُوَ ?للَّهُ أَحَدٌ [سورة الإخلاص]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لْفَلَقِ [سورة الفلق]، وقُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ?لنَّاسِ [سورة الناس] ثلاثًا، ثم يمسَح بهما رأسه ووجهه وما استطاع من جسده [5] ، صلوات الله وسلامه عليه، وكان يفعل ذلك دائمًا حتى لمّا مرِض كانت عائشة تأخذ يدَيه، فتنفث فيهما، ثم تمسَح بهما وجهَه وما استطاعت من جسدِه [6].
فإذا أورد الإنسانُ هذه الأورادَ وقرأها عند نومه وسبّح الله وحمِده وكبّره ونام على خير فإنّه يُرجى برحمةِ أرحَم الراحمين أن يمنّ الله عليه، فيوقظه من غفلتِه، ويتقرّب إلى الله في تلك اللحظاتِ بطاعةٍ ولو قلّت، يجد ثوابَها أحوَج ما يكون إليه. يُروَى أنّ الله جلّ وعلا ينادي في آخر الليل: يا جبريل، أيقِظ فلانًا وأنِم فلانًا. فالمنبَّه لهذا العمل والمعان على هذا العمل الصالح نعمةٌ من الله عليه.
وكان إذا استيقظ من منامه قال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)) ، وأخبر أنّ من قال هذا الذكرَ ثم دعا استجابَ الله دعاءَه، وإن توضّأ وصلّى تقبّل الله صلاته [7]. وأخبرنا أنّ عدوّ الله إبليس يثبّطنا عن الخير، ويحول بيننا وبين كلّ عمل صالحٍ إلاّ إذا تغلّبنا عليه بالالتجاء إلى الله والتعوّذ من شرّه والاستعانة بالأذكار، فقال : ((يعقِد الشيطان على قافية رأسِ أحدكم إن هو نامَ ثلاثَ عُقد، يضرب على كلّ عقدةٍ: عليك ليل طويلٌ فنَم، فإن قام وذكَر الله انحلّت عقدة، وإن توضّأ انحلّت عقدة، وإن صلّى انحلّت العُقَد كلّها، فأصبح طيّبَ النفس نشيطًا، وإلاّ أصبَح خبيثَ النفس كسلانًا)) [8] ، فسبحانَ مَن يمنّ على مَن يشاء، وسبحانَ مَن يؤهّل لفضلِه من يشاء، وسبحانَ من يختار لفضله من يشاء مِن عباده، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (568)، ومسلم في المساجد (647) عن أبي برزة رضي الله عنه.
[2] جاء هذا في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصته مع الشيطان الذي أراد أن يسرق من زكاة رمضان، فأرشده إلى أن يقرأ آية الكرسي كلَّ ليلة، وفي آخره قال : ((صدقك وهو كذوب)) ، أخرجه البخاري في بدء الخلق (3275).
[3] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5010، 5040، 5051)، ومسلم في صلاة المسافرين (807، 808) عن أبي مسعود رضي الله عنه.
[4] أخرج أحمد (2/171)، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يعلمنا يقول: ((اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت رب كل شيء وإله كل شيء، أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، والملائكة يشهدون، أعوذ بك من الشيطان وشركه، وأعوذ بك أن أقترف على نفسي إثما أو أجره على مسلم)) ، قال أبو عبد الرحمن: كان رسول الله يعلمه عبد الله بن عمرو أن يقول ذلك حين يريد أن ينام، وأخرجه الترمذي بنحوه في الدعوات (3529) وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2798). وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5018) عن عائشة رضي الله عنها.
[6] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5016)، ومسلم في السلام (2192).
[7] أخرج البخاري في التهجد (1154) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي قال: ((من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته)).
[8] أخرجه البخاري في التهجد (1142)، ومسلم في صلاة المسافرين (776) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3865)
أحكام الوصيّة وآدابها
فقه
الهبة والهدية والوقف
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
28/6/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الشريعة ببيان أحكام الوصية. 2- حكم الوصية. 3- أفضل الصدقة. 4- شروط الوصية وآدابها. 5- الشهادة على الوصية. 6- حالات يجوز فيها الوصية للورثة. 7- هدي السلف في الوصايا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جلّ جلاله وهو أصدق القائلين : كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ?لْوَصِيَّةُ لِلْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ بِ?لْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ?لْمُتَّقِينَ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ?لَّذِينَ يُبَدّلُونَهُ إِنَّ ?للَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:180-182].
أيّها المسلمون، في هذه الآيات أحكامُ الوصايا حتى يكونَ المسلم مع بصيرةٍ من أمره، فالوصيّة قد بيّن الله حكمَها في القرآن، وبيّن ذلك رسول الله ، بيانًا واضحًا، وذلك أنّ المسلمَ في هذه الحياة لا يخلو مِن أن يكون له على النّاس حقوق أو يكون له حقوقٌ في ذِمم الآخرين، فلا يخلو من أن تُشغَل ذمّته بحقوق الآخرين أو أن تشغل ذمّة غيره بما له مِن حقوق، ولمّا كان الأمر كذلك لا بدّ من بيان الوصايا، وحُكم هذه الوصيّة، ومتى تكون لازمة، ومتى تكون مستحبّة ومرغَّبا فيها.
فالله جلّ وعلا قال لنا في هذه الآية: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا ?لْوَصِيَّةُ لِلْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ بِ?لْمَعْرُوفِ حَقّا عَلَى ?لْمُتَّقِينَ [البقرة:180]. هذه الآية فيها بيان مَن يُستحبّ في حقّه الوصية وأنّه الذي ترك خيرًا وهو المال الكثير، فهو الذي يستحَبّ في حقّه أن يوصِي، وأمّا من ليس كذلك ممّن ماله قليل وورثتُه كثير فإنّ عدمَ الوصيّة في حقّه أولى؛ لأنّ انتفاعَ من بعده بما وراءه أولى مِن أن يوصِيَ لغيرهم، فيضيّع من يجِب عليه أن يعولَه.
أيّها المسلمون، وإنّ للوصية في الشريعةِ أحكامًا عظيمة:
فأوّلاً: نعلم أنّ أصلَ الوصيّة مستحبّ، ولكنّها تجِب في أحوال، وتحرم في أحوال، ولمّا فرض الله المواريثَ وأعطى كلَّ ذي حقّ حقَّه أصبَحت الوصية مستحبّةً في غير الوارثين، وحرام أن يوصيَ لأحدٍ من الوارثين.
فمِن أحكام الوصايا أولاً أنّ الوصيةَ تكون واجبةً على المسلم في أمور، منها أن يكونَ متعلِّقًا بذمّتِه حقوقٌ لله أو حقوق لعبادِ الله، فلو تعلّق بذمّته حقوقٌ لعباد الله مِن ودائعَ عنده وأماناتٍ عنده وحقوق للآخرين عندَه، إمّا ودائع وأمانات، وإمّا أمورٌ واجبة يجِب عليه أن يؤدّيَها، حقوقٌ للآخرين تعلَّقت بذمّته، ليس عليها وثائِق تثبِتُها، فالواجب عليه أن يسجِّل وصيّته، فيذكَر ما عنده من أماناتٍ وما عنده مِن حقوق للآخرين، يسجّلها ويكتبُها ويُشهِد عليها، حتّى يلقى الله سليمًا من تبعاتِها، يقول : ((ما حقُّ امرِئ مسلم عندَه شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيّته مكتوبةٌ عندَه)) [1]. فمَن عنده حقوق؛ زكاةٌ تأخّر إخراجها، يجِب أن يوصيَ بها حتى يقفَ عليها من بَعده، فيؤدّيَها. فريضةُ حجٍ ما أدّاها يوصِي بها حتّى تؤدَّى عنه. نذرٌ ما أدّاه يوصِي به حتّى يُخرَج عنه. ودائع للآخرين وأماناتٌ ووثائق للآخرين يوصِي بها حتّى تؤدَّى. حقوقٌ لآخرين عندَه مِن معاملاتٍ بينه وبين شركائِه ومَن يتعامل معهم أو مَن ينفِّذ له عملاً إلى غير ذلك من الحقوقِ التي يجب عليه أن يؤدّيَها، فسجّلها في وصيّته ليقفَ عليها من بَعده، فينفّذها حتّى يلقى الله خاليًا من التّبِعات بتوفيقٍ من الله.
وأمرٌ آخر، فهذه الوصيّة واجبةٌ ولازمة لا يجوزُ له تركها وإهمالُها، وكذلك لو كانَ له حقوقٌ في ذِمَم الآخرين فيجب أن يسجِّلها ويكتبها، لماذا؟ أوّلاً: حتى لا يضيِّعَ حقَّ الورثة، وأمرٌ آخر: حتى يبرِّئ الغرماءَ ممّا في ذمّتهم، فلا يَلقَوا الله ولم يسلّموا ما عليهم، فيوصِيهم ويقول: في ذمّة فلان لي كذا، وعندَ فلانٍ لي كذا، ويوثِّقها، ويبيّن وثائقَها الثّابتة، حتّى إذا جاء مَن بعده طالبوا بِها، فأبرؤوا ذمَمَ الآخرين، ولم يجعلوهم يعيشون بهذه الحقوقِ مِن حيث لا يعلمون.
وهذِه الوصيّة الواجبةُ أكّدها الله في كتابه بقوله: مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:11]، مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، مّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]. ذلك أنّ الوصيّة لا مطالبَ لها، فلهذا أكّدها الله وقدّمَها على الدين وإن كان الدّينُ أهمَّ منها ومقدَّمًا عليها، لكن [قدّم] ذكرَها لأجلِ الاهتمام بها، وحتّى لو لم يطالِب بها أهلُها لوجَب على من عنده الوصيّة أن ينفّذَها لتسلَم ذمّتُه من تبِعات العباد.
وأمّا غير ذلك فإنّ الشارع حثَّ المسلمَ أن يوصيَ بعد موتِه بما يعود عليه بالنّفع في آخرته، فإنّه ((ليس لك من مالك إلاّ ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبِست فأبليتَ، أو تصدّقتَ فأبقيتَ، وما سِوى ذلك فتاركُه للورثةِ)) هكذا يقول [2].
إذًا فالمستحبّ للمسلم إذا رزقه الله خيرًا ومالاً أن يوصيَ بأمرٍ ينفعه بعدَ موته، ليجريَ عليه نفعُه بعد موتِه، يقول : ((إذا ماتَ ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنتفَع به، أو ولدٍ صالح يدعو له)) [3] ، ويقول : ((إنّ الله تصدّق عليكم عندَ موتكم بثلثِ أموالكم زيادةً في حسناتكم)) [4].
وثالثًا: أنّ كونَ المسلم ينفِّذ وصيَّتَه في الأعمال الخيّرة في حياتِه أولى من أن يجعلَ تنفيذَها بعد موته، لأنّه في حياتِه إذا نفّذها دلّ على رغبتِه في الخير، يقول : ((أفضلُ الصدقة أن تتصدّقَ وأنت شحيحٌ صحيح، تأمَل الغنى، وتخشى الفقرَ، ولا تهمِل حتّى إذا بلغتِ الروح الحلقومَ قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان كذا)) [5] ، لأنّ هذه الوصيّةَ عند الموت قد يكون أمرُها سهلاً؛ لأنّ الدنيا ترخُص في نفسِ صاحبها عند حضورِ الموت، ولكن إذا نفّذها في صحّته وسلامتِه دلّ على رغبِته في الخير.
ومِن أحكام الوصايا أيضًا أنّ الوصيّة الشرعيّة تكون بالثّلثِ فأقلّ، ولا تجاوِز الثّلث، بل استحبّ العلماء للمسلم أن تكونَ وصيّته بالخمس، فإن جاوزَ فالرّبع، فإن جاوز فالثّلث، ولا يجوز الزّيادة على الثلث.
عاد النبيّ سعدَ بن أبي وقاص رضي الله عنه في مرضٍ ألمَّ به، قال: يا رسول الله، إنّه لا يرِثني سِوى ابنة لي، وإنّي أحبّ أن أوصيَ بمالي كلِّه، قال: ((لا)) ، قال: يا رسول الله، فالشّطر؟ قال: ((لا)) ، قال: فالثّلث؟ قال: ((الثلث، والثلث كبير ـ أو قال: ـ كثير، إنّك أن تذَرَ ورثتَك أغنياءَ خيرٌ من أن تذَرهم عالةً يتكفّفون النّاس)) [6].
ومِن أحكام الوصايا أنّه لا يجوز للموصِي أن يحابيَ في وصيّته، ولا أن يُضارَّ بوصيّته. ومِن الإضرار أن يوصيَ بها لقصدِ حرمانِهم الانتفاعَ من المال، فيقتطِع الثلثَ لا لله، ولكن لأجلِ أن ينقص الورثة من حقوقِهم، أو يحاول حرمانَهم الميراث، فربّما سجّل ديونًا، وربّما سجّل في ذمّته دينًا لبعضِ الورثة وقال: فلان يطلبني كذا، وفلان بِعته الدارَ بكذا، وفلان بكذا، ومقصودُه أن يوزّع عليهم التركةَ حتى يحرم البقيةَ أن ينتفِعوا بها، وَ?للَّهُ يَعْلَمُ ?لْمُفْسِدَ مِنَ ?لْمُصْلِحِ [البقرة:220]. وهذه وصيّةٌ آثمة، صاحبُها معرَّض لسخَط الله، حتى أنّه يروى في الحديث أنّه قال: ((إنّ العبدَ ليعمل بمعصية الله سبعين سنة، يحضره الموت، فيعدِل في وصيّته، فيختم له بخير، فيدخل الجنّة. وإنّ العبدَ ليعمل بطاعةِ الله سبعين سنة، فيحضره الموت، فيجور في وصيّته، فتجب له النّار)) [7]. والله يقول: غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مّنَ ?للَّهِ [النساء:12]، فالمضارّ في وصيّته الذي يوصي لأجلِ حرمانِ بعضِ الورثة، فيقتطع جزءًا كبيرًا من المال بدعوى أنّه حقّ لفلان، وقيمة دارٍ اشتراها، وثمنٌ اقترضه، إلى غير ذلك، والله يعلم منه ما يخفيه على الآخرين، فإنّ الله يعلم السرَّ وأخفى، يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19].
ومِن أحكام الوصيّة أيضًا أنّ المسلمَ يحصي جميعَ الأموال ويوضّحها ويبيِّنها، ثمّ يجعل وصيّةً واضحة في أسلوبِها وعباراتها، لا إجمالَ فيها ولا اضطراب، فكم من وصيّةٍ سبّبت للورثةِ قطيعةً وتفرقة وعداوةً وبغضاءَ واختلافًا في مفهوم ما يريده الميّت، فالواجب عليه أن يجعلَها وصيّةً واضحة بيّنة يفهمها كلّ من قرأها أو سمِعها، حتى يرتاحَ في قبره، وحتّى لا تختلف ذريّته بعده، فيجعلها وصيّة يبيِّن الأمورَ التي يريدها في الصّدقات والأعمالِ العامّة، ويبيّن ما للورثةِ، وإن خصّ أحدًا بشيء علّل ذلك وقال: فلان لفقرِه، أو فلان لمرضِه، ونحو ذلك، ولكن هذه الأشياء الخاصّة تنتهي بانتهاءِ مسبِّباتها، حتى لا يقعَ إشكال ولا اختلاف بين الورَثة.
ومِن أحكامِها أن يختارَ لها من ورثتِه مَن يعلم ثقتَه وأمانتَه وصِدقه وأهليّته لتحمّل تلك الوصيّة، وإذا تعدّد الأولادُ ورأى أنّ الكفاءةَ فيهم [جميعًا] جمعهم وبيّن لهم ووضّح لهم، حتّى يكونوا على بصيرة، فإن رأى أنّ واحدًا قد لا يقوم بالمهمّة أشرك معه غيرَه، حتّى تطمئنّ النّفوس، ولو كانت أمّهاتُهم متفرّقة وكلّهم ذو عدالةٍ ورشد حاوَل أن يشركَ بعضَهم أو أن يشركَهم جميعًا في الوصيّة حتى تطمئنّ النفوس، ولا يكون في صدرِ أحدٍ حرجٌ على أحد، فهذا هو المطلوب من المسلم.
أيّها المسلم، كلّما اتّقيتَ الله في وصيّتك وكلّما عدلتَ فيها وكلّما راقبتَ الله فيها فإنّها وصيّة ستكون نافعة، وكلّما خالفتَ شرعَ الله فيها فإنّها وصيّة ضارّةٌ آثمة.
أخي المسلم، وإذا طُلب منك الشهادةُ على وصيّة فاتّق الله، وانصَح، واشهَد بما تراه حقًّا مناسبًا، ولا تشهَد بما تراه ظلمًا وجورًا، والله يقول: فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:182]. فأصلِح الوصيّة، وأرشِد الموصي، وخوِّفه من الله، وقل: يا أخي، أنتَ في آخر الدنيا وتنتقل إلى الآخرة، فاتّق الله وانتقِل بخير، واعدِل في وصيّتك، واجتنِب الهوى، واجتنِب الظّلم، واجتنِب الحيفَ، وكن متّقيًا لله، والله يقول: إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا [النساء:135]. وإن رأيتَه خصَّ بعضَ الورثة فقل له: إنّ الوصيةَ للوارث غيرُ صحيحة، والنبيّ يقول: ((إنّ اللهَ قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقّه، فلا وصيّةَ لوارث)) [8]. وإن رأيتَه خصّ بالوصيّة من ليس عدلاً في دينِه وأمانتِه فقل: يا أخي، اتّق الله، واختَر لها من فيه خير. وإن رأيتَه أيضًا خصّ بها من تعلَم أنّ إخوانَه لن يسمَعوا ولن يستجيبوا له فحاوِل الإصلاحَ وإشراكَهم حتى تكون الوصيّة عادلة، وحتّى لا تكون سببًا لنزاع واختلاف بين الورثة.
فلنتّقِ الله في أمورِنا، ولنتّق الله في الحقوقِ في ذمَمِنا، ولنبرّئ ذمَمَنا من الحقوق قبل لقاءِ الله، وأسأل الله لي ولكم التوفيقَ والهداية والعونَ على كلّ خير، وأن يختمَ لي ولكم بخاتمةِ خير.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الوصايا (2738)، ومسلم في الوصية (1627) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[2] أخرجه مسلم في الزهد (2958) عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه بمعناه، وليس فيه الجملة الأخيرة.
[3] أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] ورد هذا الحديث عن عدد من الصحابة، منهم: أبو هريرة أخرجه ابن ماجه في الوصايا (2709) وفيه طلحة بن عمرو المكي وهو متروك، قال البزار ـ كما في نصب الراية (4/ 400) ـ: "لا نعلم رواه عن عطاء إلا طلحة بن عمرو، وهو وإن روى عنه جماعة فليس بالقوي". ومنهم أبو الدرداء أخرجه أحمد (6/440)، والطبراني في مسند الشاميين (1484)، وأبو نعيم (6/104)، قال البزار ـ كما في نصب الراية ـ: "قد روي هذا الحديث من غير وجه، وأعلى من رواه أبو الدرداء، ولا نعلم له عن أبي الدرداء غير هذه الطريق، وأبو بكر بن أبي مريم وضمرة معروفان، وقد احتمل حديثهما"، وقال الهيثمي في المجمع (4/212): "رواه أحمد والبزار والطبراني، وفيه أبو بكر ابن أبي مريم وقد اختلط". ومنهم معاذ بن جبل أخرجه الدارقطني (4/150)، والطبراني في الكبير (20/54)، قال الحافظ في التلخيص (3/91): "فيه إسماعيل بن عياش وشيخه عتبة بن حميد وهما ضعيفان"، وقال الهيثمي: "فيه عتبة بن حميد الضبي وثقه ابن حبان وغيره وضعفه أحمد"، وأخرجه ابن أبي شيبة (6/226) عن معاذ موقوفا. ومنهم خالد بن عبيد السلمي أخرجه الطبراني (4/198)، قال الحافظ في التلخيص: "خالد مختلف في صحبته، رواه عنه ابنه الحارث وهو مجهول". ومنهم أبو بكر الصديق أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/275)، وابن عدي في الكامل (2/386) وفيه حفص بن عمر العدني قال ابن عدي: "أحاديثه كلها منكرة المتن والسند". والحاصل أن طرق الحديث كلها ضعيفة، لكن قد يقوي بعضها بعضا كما قال الحافظ في البلوغ، وقد حسن الحديث الألباني في الإرواء (1641).
[5] أخرجه البخاري في الزكاة (1419)، ومسلم في الزكاة (1032) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الجنائز (1296)، ومسلم في الوصية (1628) من حديث سعد رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (2/278)، وأبو داود في الوصايا (2867)، والترمذي في الوصايا (2117)، وابن ماجه في الوصايا (2704) من طريق شهر بن حوشب عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وقال المنذري ـ كما في تحفة الأحوذي (6/255) ـ: "وشهر بن حوشب قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة، ووثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين"، والحديث ضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (614).
[8] أخرجه أحمد (5/267)، وأبو داود في الوصايا (2870) وفي البيوع (3565)، والترمذي في الوصايا (2120)، وابن ماجه في الوصايا (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (949)، وقال الحافظ في الفتح (5/372): "في إسناده إسماعيل بن عيّاش, وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ, وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شاميّ ثقة, وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2494). وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند أحمد (4/186، 187، 238)، والتّرمذيّ في الوصايا (2121)، والنّسائيّ في الوصايا (3641، 3643)، وقال الترمذي: "حسن صحيح". وشاهد ثان من حديث أنس عند ابن ماجه في الوصايا (2714)، والدرقطني (4/70)، والبيهقي (6/264)، وصححه الضياء المقدسي (2144، 2145، 2146)، وقال البوصيري في المصباح (3/144): "إسناد صحيح، رجاله ثقات". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ (4/98). وعن جابر عند الدّارقطنيّ (4/97) أيضا وقال: "الصّواب مرسل". وعن آخرين قال الحافظ في الفتح (5/372): "ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال, لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا, بل جنح الشّافعيّ في الأمّ إلى أنّ هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ قال عام الفتح: ((لا وصيّة لوارث)) ، ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم, فكان نقل كافّة عن كافّة, فهو أقوى من نقل واحد".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إذا علِمنا أنّ الوصيّة لا تصحّ لوارث، المرادُ بها لو أوصَى له بجزءٍ من المال، فقال: لفلان مبلغٌ من المال، هذا أمرٌ لا يصحّ باتّفاق المسلمين، ولكن لو جعل في وصيّته أمرًا ينفع بعضَ الورثة، لو كان عنده شيء من عقار، وقال: هذا البيت تسكُنُه المطلّقة من بناتِي والفقراءُ من أولادِي ونحو ذلك، إذا كان قصدُه منفعتُهم لفقرِهم وحاجتِهم فهذا أمرٌ جائز، فالزّبير رضي الله عنه جعل في وصيّته أن تسكنَ المردودةُ من بناته في هذه الدّار [1] ، بمعنى أن تسكنَ المطلّقة من بناتِه في هذه الدّار؛ لأنّه راعَى بذلك فقرَها وحاجتَها، وإذا انتفتِ الحاجة فإنّ الوصيّة تكون للجميع.
فليتّقِ المسلم ربّه، عندما يخصِّص لشيء فليراقبِ الله، وليكُن تخصيصُه مبنيًّا على أمرٍ شرعيّ، لا على هوًى وميولٍ مع البعض دون البعض.
أيّها المسلمون، وعلى الورثةِ جميعًا تقوى الله، وعلى الجميع تقوَى الله، وعند النّزاع في الوصيّة أن يرجعوا إلى أهلِ العلم، ويسألوا عمّا أشكل عليهم، ويحاوِلوا الإصلاحَ بينهم، وأن لا تكونَ الوصايا والأوقاف سببًا للاختلاف وقطيعةِ الرّحم، بل يجب التّواصي والتعاون على الخير والتقوى، فإنّ من قصد الخيرَ وأراده سهّل الله أمره.
أيّها المسلمون، وينبغي للمسلم إذا أراد أن يوصيَ أن يستشيرَ ذا علمٍ ومعرفة حتّى تكون وصيّته على المنهجِ الشرعيّ، وأن يشهِدَ عليها فإنّ الشهادةَ عليها تثبِتها وتقطع دابرَ النّزاع والخلاف.
وكان سلفُ الأمّة يوصون بأمورِ الخير مِن المشاريع العامّة التي تنفع المجتمعَ، فيوصي للفقراء ولا سيّما إن احتاج أحدُ ورثتِه، فإنّهم مقدّمون على غيرهم، ويوصي في بناءِ مساجد، ويوصي في إعانةِ المحتاجين مِن كلّ أنواع الحاجة، مِن إعانةِ المتزوّجين وقضاءِ دين المدينين والتنفيس عن المكروبين ومَن حلّت بهم الحاجة والضّرورة، فإنّ هذه هي الوصايا النافعة التي يعود عليه نفعُها وهو في لحدِه، فيستأنِس بتلك الأعمالِ الصالحة، ويجري عليه ذلك الثواب.
وكانوا في وصاياهم يوصون أولادَهم ومَن بعدهم بتقوى الله ولزومِ دينِ الإسلام والمحافظةِ عليه والمحافظة على الصلاةِ والزكاة وأعمالِ الخير والتواصي بالحقّ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: كانوا ـ أي: الصحابة ـ يكتبون في صدرِ وصاياهم: هذا ما أوصى به فلان بن فلان بأنّه يشهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمّدًا عبد الله ورسوله، وأنّ عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريمَ وروح منه، وأنّ الجنة حقّ والنار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريبَ فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور، ويوصِي مَن بعده بما أوصَى به إبراهيم ويعقوب بنيه: يَـ?بَنِىَّ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَى? لَكُمُ ?لدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، ويوصيهم بالصّلاة والزّكاة، وأن يتّقوا الله ويصلِحوا ذاتَ بينهم، ويلزَموا دينَ الإسلام ويعمَلوا بشريعة الإسلام، ويوصيهم بالتّواصي بينهم بالحقّ، وأن يرحَم كبيرهم صغيرَهم، وأن يحترمَ صغيرهم كبيرَهم، يوصيهم بهذه الوصايا، ويسأل اللهَ لهم التوفيقَ والهداية [2].
أسأل الله أن يعينَني وإياكم على كلّ خير، وأن يهديَنا جميعًا طريقَه المستقيم، وأن يرزقَنا الثباتَ على الإسلام والاستقامة عليه إلى أن نلقاه، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربّكم قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (4/350)، والبيهقي في الكبرى (6/166).
[2] أخرجه الدارمي في الوصايا (3183) بنحوه مختصرا.
(1/3866)
أهمية الصلاة
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
6/7/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعظيم قدر الصلاة في كتاب الله. 2- فوائد الصلاة وفضائلها. 3- التحذير من ترك الصلاة والتهاون بها. 4- هجر تارك الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ للصّلاة في الإسلام شأنًا عظيمًا، فهي الرّكن الثاني من أركانِ الإسلام، وهي مفتاح دارِ الجنّة، وهي العنوان الصّادق على التزام عقدِ الإيمان.
أيّها المسلمون، لقد عظّم الله شأنَ الصلاة، وأكثر ذكرَها في كتابه العزيز، مادحًا للمحافظين عليها، ذامًّا للمتخلّفين عنها والتّاركين لها، مبيِّنًا أنّ هذه الصلاة عبادة تعبّد الله بها من قَبلنا من أنبيائه ورسله، قال تعالى عن الخليل عليه السلام في دعائه: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]، وقال في دعائه لأهل بيت الله الحرام: رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ [إبراهيم:37]، وأثنى على نبيّه إسماعيل بقوله: وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيًّا [مريم:55]، ويوحي لموسى عليه السلام: وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِذِكْرِى [طه:14]، وينطق عيسى بن مريم في المهد قائلاً: وَأَوْصَانِى بِ?لصَّلَو?ةِ وَ?لزَّكَو?ةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، ويبيِّن ثناءَه على أنبيائه: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ ?لْخَيْر?تِ وَإِقَامَ ?لصَّلو?ة وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ وَكَانُواْ لَنَا عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:73]، ويأمر بها نبيَّه : فَصَلّ لِرَبّكَ وَ?نْحَرْ [التكاثر:2]، وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، ويقول لنساء نبيِّه: وَأَقِمْنَ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتِينَ ?لزَّكَو?ةَ وَأَطِعْنَ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33]، ويجعل الله الصلاةَ صفةً للمؤمنين بالغيب المنتفعين بهدي القرآن: ذ?لِكَ ?لْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِ?لْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ?لصَّلو?ةَ وَمِمَّا رَزَقْنَـ?هُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:2، 3]، ولمّا ذكر المؤمنين الذين نالوا الفلاحَ والسعادة ذكر صفاتِهم فابتدأها بالصّلاة واختتمها بالصّلاة: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، إلى قوله: وَ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلَو?تِهِمْ يُحَـ?فِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لْو?رِثُونَ ?لَّذِينَ يَرِثُونَ ?لْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَـ?لِدُونَ [المؤمنون:9-11]، ولما ذكر حالَ الإنسان وأنّه جزوع هلوع، لا يصبر على ضرّاء، ولا يشكر في الرّخاء، استثنى من ذلك المصلّين فقال: إِلاَّ ?لْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:22، 23]، إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى? صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّـ?تٍ مُّكْرَمُونَ [المعارج:34، 35]، ويأمر بالمحافظةِ عليها في أوقاتِها: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238]، ويجعل المحافظةَ عليها عامّة في حال خوفِ الإنسان وأمنِه: فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَ?ذْكُرُواْ ?للَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ [البقرة:239].
أيّها المسلمون، إنّ هذه الصلواتِ الخمس هي الرّكن الثاني من أركان الإسلام، وهي كما سبق عنوان التزام عقد الإيمان، فالمحافِظ عليها دليل على إيمانه، والتّارك لها دليل على كفره وضلاله.
أيّها المسلمون، إنّ هذه الصلاةَ فيها إقامة ذكر الله واستفراغ القلب واللسان والجوارح لعبودية الله جلّ وعلا. هذه الصلوات الخمسُ لا يحافظ عليها إلا مؤمن بها مصدّقٌ بذلك. هذه الصلوات الخمس سببٌ لزكاة القلوب وصلاح الأحوال، إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]. هذه الصّلوات عون للعبدِ على كلّ ما أهمّه من أمور دينه ودنياه، وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ [البقرة:45]. وهذه الصلاةُ شاقّة على غير المؤمنين، وشاقّة على المنافقين ومن ليس مصدِّقًا بها، وسهلة على أهل الإيمان، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ?لْخَـ?شِعِينَ ?لَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـ?قُوا رَبّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ ر?جِعُونَ [البقرة:45، 46]، فالموقنون بلقاءِ الله يحبّون هذه الصلاة، ويرغبون في هذه الصّلاة، ويرتاحون لهذه الصّلاة، فهذه الصّلاة أسعدُ لحظاتِهم، أسعدُ لحظاتِهم تلك اللّحظاتُ التي يقِف فيها العبد يناجي ربَّه ويسأله من فضلِه وكرمِه.
أيّها المسلم، إنّ لهذه الصلاة فضلاً عظيمًا وخيرًا كثيرًا، يقول مبيِّنًا فضلَ هذه الصّلوات: ((الصلوات الخمسُ والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفِّرات لما بينهنّ إذا اجتُنبت الكبائر)) [1] ، وبيّن أنّ هذه الصلاةَ تحطّ خطايا العبدِ وتطهّره، يقول : ((مثَل هؤلاء الصلواتِ الخمس كمثل نهرٍ جار ببابِ أحدكم، يغتسل منه كلَّ يوم خمسَ مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درَنه شيء، قال: ((فكذلك الصلواتُ الخمس، يمحو الله بهنّ الذّنوب والخطايا)) [2].
أخي المسلم، إنّ اهتمامَك بالصلاة وعنايتَك بها دليل على إيمانك، دليلٌ على خوفك من الله، دليل لرجائك ما عند الله. إنّ عنايتك بالصلاة دليل على الإيمانِ ودليلٌ على الخير ودليلٌ على الصّلاح.
فاستقِم عليها أخي المسلم، وحافِظ عليها والزَمها، ورَبِّ أبناءك وبناتِك على هذه الصلوات، على العناية بها والاهتمام بشأنِها وتعظيمِها ليكونوا من المؤمنين حقًّا.
أيّها المسلمون، إنّ بعضَ المسلمين ـ هدانا الله وإيّاهم ـ سهُل عليهم أمر الصّلاة، فاستخَفّوا بها، ولم يبالوا بها، وضعُف تعظيمها في قلوبهم، فمِنهم من قد يؤدّيها وقتًا ويتركها أوقاتًا، ومنهم ـ والعياذ بالله ـ من لا يصلّي لله صلاةً في يومه وليلته، يعيش في نِعَم الله، ويتقلّب في نِعم الله، وما سجَد لله سجدةً عياذًا بالله من زيغ القلب.
أيّها المسلم، إنّ استخفافَك بالصّلاة وعدمَ مبالاتِك بها دليل على استخفافِك بالإسلام وعدم رغبتِك في الإسلام، فحظّك من الإسلام على قدر حظِّك من الصلاة، فإن كنتَ ممّن يحافظ عليها دلّ على إسلامك، وإن كنتَ مضيًِّعًا لها دلّ على عدمِ إسلامك والعياذ بالله.
فيا أخي المسلم، حافِظ على هذه الفرائض، وادعُ لها من تحت يدِك، وادع لها أصدقاءَك وجلساءَك، وحبّبهم إليها، وحبّبها أهلَهم، ادعُهم إليها، ورغّبهم فيها، حبِّب إليهم الصّلاة، ورغّبهم فيها، وادعُهم إليها، فإنّ ذا واجبُ المسلم على المسلم؛ لأنّ من حافظ عليها نجا مِن الكفرِ برحمةِ أرحم الرّاحمين، ومن استخفّ بها يُخشَى عليه أن يلقَى الله على غير الإسلام.
أيّها المسلمون، إنّ الله ذمّ المنافقين بقوله: إِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، فانظر كيفَ ذمّهم، يُخَـ?دِعُونَ ?للَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى ?لصَّلَو?ةِ قَامُواْ كُسَالَى? ، لا رغبةَ لهم فيها، ولا محبّة لهم لها، ولا طمعَ لهم فيها، قَامُواْ كُسَالَى? يُرَاءونَ ?لنَّاسَ بصلاتهم، لم يصلّوا صلاةً خالصة لله، وإنّما هي رياء وسُمعة، ليحقِنوا دماءَهم، ويعصِموا دماءهم وأموالهم، وأيضًا يقومون لها بقلوبٍ فارغة من كلّ خير، وَلاَ يَذْكُرُونَ ?للَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ، يصلّون بأبدانِهم، وقد كفروا بها بقلوبِهم، وكذّبوا بها بقلوبِهم، فلم ينفعْهم ذلك.
أيّها المسلمون، في كتابِ الله ذمٌّ لمن ترك الصّلاة ووعيدٌ شديد عليه، يقول الله جلّ وعلا مبيّنًا حالَ أهل النّار إذا دخلوها، إذا سئلوا: ما سلكَكم في سقر؟ أجابوا: لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ?لْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ?لُخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذّبُ بِيَوْمِ ?لدّينِ حَتَّى? أَتَـ?نَا ?لْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَـ?عَةُ ?لشَّـ?فِعِينَ [المدثر:43-48]، إذًا فترك الصّلاة سبب لصَلي النّار والعياذ بالله. ويذمّ الله خلَفَ سوءٍ تركوا الصّلاة وأضاعوها: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]، وادٍ في جهنّم لو سيِّرت فيه جبال الدّنيا لذابت من شدّة حرّه، هكذا قال بعض السلف. وتوعّد بالوَيل السّاهين عنها: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]. ويومَ القيامة إذا أراد تاركُ الصّلاة السّجود لم يستطِع، يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ خَـ?شِعَةً أَبْصَـ?رُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى ?لسُّجُودِ ، أي: في الدنيا وَهُمْ سَـ?لِمُونَ [القلم:42، 43]. ويقول ربّنا جلّ وعلا: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11]، فدلّ على أنّ عدمَ إقام الصلاة تنتفي [معه] أخوّة الإسلام، فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، إذًا إن لم يقيموها فإنّه لا يُخلَّى سبيلهم، وفي الحديثِ عنه : ((العهدُ الذي بينَنا وبينَهم الصّلاة، فمن تركها فقد كفَر)) [3] ، وأخبر أنّ من ترَك الصلاةَ فقد برِئت منه ذمّة الله [4].
فيا معشرَ المسلمين، اهتمّوا بهذه الفريضَة، ولتكن عنايتُكم بها عظيمة، وأحبّوا هذه الصّلاة، وارغَبوا فيها، وأحضِروا قلوبَكم عند أدائها، فإنّ الله أوجبها على المسلمين عامّة، ذكورهم وإناثِهم، أحرارِهم وعبيدهم، جميعًا مطالبون بالصلاة.
إنّ فرائضَ الإسلام مِن الزكاة والصّوم والحجّ لها شأن أقلّ من الصّلاة، فإنّ الزكاة تجب في الحولِ مرّة، والصّوم في العام مرّة، والحجّ في العمر مرّة، والصّيام قد يعدل بإطعام، والحج قد يسقط عن العاجِز، ولا زكاةَ إلا في مالٍ زكويّ بالغًا النّصاب، أمّا الصلاة فلها خاصّية أخرى، تجِب على المريض كما تجب على الصّحيح، وتجب على المسافر كما تجب على المقيم، وتجِب على الخائِف كما تجِب على الآمن، فما دام العقل حاضرًا فهو مطالب بأداء الصّلاة، ولو قَدِّر عجزُه عن الطّهارة أو عجزه عن استقبال القبلة أو عجزه عن إزالة النّجاسة كلّ هذه ليست أعذارًا لترك الصلاة.
الصّلاة عبادةٌ تعبُد الله بها، وتترجِم بها عمّا في قلبك من الإيمان. إنّها عبادة في اليوم والليلة خمسَ مرّات لعظيم شأنها وأهمّيتها، افترضها الله على نبيّه لما عُرج به ليلةَ الإسراء، وخاطبَه بها مُشافهة، فافترضها خمسين، وما زال موسى يقول لمحمّد: اسأل ربَّك التخفيفَ، فإنّي عالجتُ بني إسرائيلَ على أقلّ من ذلك فعجزوا، حتّى جعلها الله خمسًا، فهي خمس في العدَد وخمسون في الميزان [5].
أيّها المسلم، حافِظ على هذه الصّلوات، وعظِّم شأنَها، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لمّا طعِن عمر رضي الله عنه تحامَلتُ أنا وأناس من الأنصار حتّى أوصلناه دارَه، فلمّا دخل بيتَه غشِي عليه رضي الله عنه، فأغمِي عليه، فلمّا أفاق بعدَ طلوع الشّمس قال: هل صلّى الناس؟ قلنا: نعم، قال: (لا حظَّ في الإسلام لمن ترَك الصّلاة) [6]. ويقول عبد الله بن عمرو بن العاص: إنّ النبيّ قال: ((من حفِظها وحافظ عليها كانت له نورًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافِظ عليها لم تكن له نورًا ولا نجاة يومَ القيامة، وحشِر مع فرعونَ وهامان وقارون وأبيّ بن خلف)) [7] أئمّةِ الكفر والضّلال، قال العلماء: مَن اشتغل عنها برئاسته وزعامتِه حشِر مع فرعون، ومن اشتغَل عنها بوزارتِه حشِر مع هامان، ومن اشتغل عنها بجاهِه وماله حشِر مع قارون، ومن اشتغل عنها بالتّجارة حشِر مع أبيّ بن خلف، أئمّة الكفر والضّلال.
فإيّاك ـ أخي المسلم ـ أن يشغلَك عنها مال أو وَلد، أو يشغلَك عنها مناصبُ أو جاه، حافِظ عليها، وتقرّب إلى الله بأدائها، فللمؤدِّين لها راحةٌ في نفوسهم وزكاةٌ في قلوبهم وأخلاقِهم، ويرجَى لهم أن يوفَّقوا لعملٍ صالح، ومن ضيَّع الصّلاة فهو لما سواها أضيَع، ومن حافظ عليها فإنّه يرجَى أن يحافِظ على غيرِها.
فاهتمّوا بصلاتكم، وعظّموها رحِمكم الله، وربّوا الأولادَ من بنينَ وبنات وأهل البيت جميعًا على هذه الصّلاة، على العنايةِ بها والاهتمام بشأنِها، العناية بوضوئها، والعناية بأدائها، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:132].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (528)، ومسلم في الطهارة (233) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (5/355)، والترمذي في الإيمان (2621)، والنسائي في الصلاة (463)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1079) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (1404)، والحاكم (1/6، 7)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح الجامع (4143).
[4] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4034) عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (4/217): "رواه الطبراني وفيه شهر بن حوشب وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات"، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (4/190): "هذا إسناد حسن، شهر مختلف فيه"، وله شواهد كثيرة منها عن أم أيمن ومعاذ بن جبل وابن عباس وعبادة رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (3259).
[5] قصة فرض الصلاة أخرجها البخاري في المناقب (3887)، ومسلم في الإيمان (164) من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه المروزي في تعظيم قدر الصلاة (924) بهذا السياق، وأخرجه أيضا مالك في الموطأ (1/39)، ومن طريقه البيهقي في السنن (1/357)، وعبد الرزاق (3/125)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/438، 439) وفي الإيمان (ص34)، والطبراني في الأوسط (8/130)، وقال الهيثمي في المجمع (1/295): "رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين".
[7] أخرجه أحمد (2/ 169)، والدارمي في الرقاق، باب: في المحافظة على الصلاة (2721)، والطبراني في الأوسط (1788) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (1467)، قال المنذري في الترغيب (820): "رواه أحمد بإسناد جيد"، وقال الهيثمي في المجمع (1/ 292): "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد ثقات"، وأورده الألباني في ضعيف الترغيب (312).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
أيّها المسلم، إيّاك أن تجالس تاركَ الصلاة، فتاركُ الصلاة لا خيرَ فيه، وتارك الصلاة مرتكبٌ ذنبًا عظيمًا وجُرمًا كبيرًا، فإنّ ترك الصلاة من أعظمِ المعاصي وأكبرِ الكبائر، إنّ تركَ الصلاة أعظمُ عند الله من السّرقة وقتل النّفوس ونهبِ الأموال، إنّها عظيمة عند الله، فإيّاك ومجالسةَ تارك الصلاة إلاّ أن ترجوَ نصيحتَه وتوجيهه، فإن أبى فإيّاك أن تصاحبَه، وإيّاك أن تجالسَه، وإيّاك أن تأنَس به، فإنّه عدوّ لله، معلنٌ عصيانَ الله، معلِن عدمَ انقياده لشرع الله، معلِن لمفارقتِه للإسلام، فإيّاك ومصاحبَة تاركِ الصلاة، وإيّاك ومعاملةَ تارك الصلاة، فتاركُ الصّلاة قد خان أمانتَه وعصى ربَّه وارتكبَ من الجُرم ما ارتكب، فإيّاك أن تطمئنّ إليه أو تستأنِس به أو تأنَس بالجلوس معه وهو مضيّع لأعظمِ فرائض الإسلام، قد ضيّع ذلك الركنَ العظيم، واستخفّ بذلك الركنِ العظيم، [وذلك] دليلٌ على استخفافِه بإسلامِه وعدمِ رغبتِه في دينِه، فكن على حذَر من تاركِ الصّلاة، أن لا يوسوسَ عليك ويستدرجَك فتضيِّع الصلاةَ كما ضيّعها، وتستخفَّ بها كما استخفّ بها، فإنّك تجلس معه، فيسمع الأذانَ ولا يحرّك ساكنًا، وربّما أشغلك عن الفريضةِ بترّهات الأشياء، فكن على حذَر من هذا المجرِم، خذ حِذرك منه ومِن مجالسته ومِن الأنس به، فإنّه قد عصى الله ورسولَه، وأعلن حربًا على الله ورسوله، فلا خيرَ في مصاحبَة تارِك الصلاة، ولا خيرَ في العيشةِ مع تاركِ الصّلاة، فإنّ المسلمين لو سلكوا هذا المسلكَ وأعلنوا مقاطعتَهم لتارك الصّلاة وأبغضوا تاركَ الصلاة وهجَروا تاركَ الصلاة، فربّما يرتدِع من يرتدِع، ويرجِع إلى الهدى مَن يرجع.
نسأل الله أن يعينَنا على ذلك، وأن يجعلنا من المقيمين للصّلاة المحافظين عليها الملازمين لها إلى أن نلقى الله جلّ جلاله.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمرِ ربّكم فقال عزّ مِن قائل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائِه الرّاشدين...
(1/3867)
العمل الصالح
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
13/7/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص المؤمن على العمل الصالح. 2- رؤيا النبي في أصحاب الأعمال الصالحة. 3- نماذج لأعمال صالحة وما فيها من الأجر. 4- حقيقة الرجاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ المؤمنَ يحرص على الأعمال الصّالحة، فيؤدّيها مخلصًا لله فيها، موافقًا فيها لشرع الله، يرجو بذلك ثوابَ الله. فمَن عمل عملاً صالحًا أخلَص فيه لربّه فإنّ ذلك العملَ الصالح بتوفيقٍ من الله سيرى آثارَه الحسنة في دنياه، وسيَرى آثارَه الحسنة يومَ لقاء الله، سيَرى لتلكم الأعمالِ الصالحة النتائجَ الطيّبة والثمرات اليانعة، يرى تلك الأعمالَ الصالحة وقد صارت سببًا لخلاصِه من عذابِ الله وفوزه بجنّة الله وكرامته.
فيا أخي المسلم، احرِص على صالح العمل، فلن يضيعَ عند الله عمل، فَ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195].
أيّها المسلم، واسمَع حديثَ رسول الله يبيّن لك ما للأعمال الصّالحة من آثار حميدة، ينتفع بها العامل أحوجَ ما يكون إليها، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30]، فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
روى سعيد بن المسيّب عن عبد الرحمن بن سمرة بن جندب قال: أتانا رسول الله ونحن بالصفَّة، فوقف علينا وقال: ((رأيتُ البارحةَ عجبًا، رأيت رجلاً من أمّتي أتاه ملك الموتِ يقبض روحَه، فجاءه برُّه بوالديه، فردّ عنه ملك الموت، ورأيت رجلاً من أمّتي قد بُسط عليه العذاب في القبر، فجاءه وضوؤه، فاستنقذه من ذلك، ورأيتُ رجلاً من أمّتي قد احتوشتهُ الشّياطين، فجاءه ذكرُه لله عزّ وجلّ، فطردَ الشّيطان عنه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي قد احتوشته ملائكةُ العذاب، فجاءته صلاتُه، فاستنقذَته من أيديهم، ورأيتُ رجلاً من أمّتي يلهث عطشًا، فجاءه صيامُه لشهر رمضان، فأسقاه وأرواه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي ورأيتُ النّبيّين حِلَقا حِلقًا، كلّما دنا من حلقة طُرد، فجاءه غسلُه من الجنابة، فأخذ بيده فأقعَده إلى جنبي، ورأيت رجلاً من أمّتي مِن بين يديه ظُلمة ومن خلفِه ظلمةٌ وعن يمينِه ظلمة وعن يسارِه ظلمة ومِن فوقه ظلمة ومن تحتِه ظلمَة وهو حائرٌ في ذلك، فجاءَه حجّه وعمرتُه، فاستخرجاه من الظّلمات وأدخلاه النّور، ورأيتُ رجلاً من أمّتي يرُدّ بيديه وهَج النّار وشررَها، فجاءته صدقتُه، فصارت سِترًا بينه وبين النّار وظلّلته فوق رأسه، ورأيت رجلاً من أمّتي يكلّم المؤمنين ولا يكلّمونه، فجاءته صِلته لرحمِه، فقالت: يا معشرَ المؤمنين، إنّه كان واصلاً لرحمِه فكلّموه، فكلّمه المؤمنون وكلّمهم وصافحوه وصافَحهم، ورأيتُ رجلاً من أمّتي قد احتوشته الزّبانية، فجاءه أمرُه بالمعروفِ ونهيُه عن المنكَر، فاستنقذوه من أيديهم وأدخلوه إلى ملائكةِ الرّحمة، ورأيتُ رجلاً من أمّتي جاثيًا على ركبتيه بينه وبين الله حجاب، فجاءه حسنُ خلقِه، فأدخله على الله، ورأيتُ رجلاً من أمّتي وقد ذهبت صحيفته من بين يديه إلى شماله، فجاءه خوفُه من الله، فأخَذ صحيفتَه فوضعها في يمينه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي قد خفّ ميزانُه، فجاءه أفراطُه، فثقّلوا ميزانَه، ورأيت رجلاً من أمّتي قائمًا على شفيرِ النار، فجاءه رجاؤه لله عزّ وجلّ فاستنقذه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي يهوي في النّار، فجاءته دمعتُه التي بكاها من خشيةِ الله، فاستنقذته، ورأيت رجلاً من أمّتي واقفًا على الصّراط يرتعِد كالسّعفة في الرّيح الشّديدة، فجاءه حسنُ ظنّه بربّه، فسكَّن روعتَه وأنقذه، ورأيتُ رجلاً من أمّتي يزحف على الصّراط، يحبو حينًا ويتعلّق حينًا، فجاءته صلاته عليّ فأقامته على قدمَيه وأنقذته، ورأيتُ رجلاً من أمّتي انتهى إلى أبواب الجنّة فأغلِقت دونَه الأبواب، فجاءته شهادةُ أن لا إله إلا الله ففتحت له أبوابَ الجنّة وأدخلته)) [1] ، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "هذا حديث عظيم، شواهد الصّحّة دالّةٌ عليه" [2].
أيّها المسلم، هذا فضل الله، وهذا عطاؤه وكرمه وجودُه لمن اتّقى الله وأدّى الأعمال الصالحةَ وأخلصها لله واغتَنم حياته، فسابِق إلى فعل الخيرات موقِنًا بأنّ وعدَ الله حقّ، وأنّه أكرَم الأكرمين وأجوَد الأجوَدين، ولا يهلِك على الله إلاّ هالك.
يقول : ((من أحبّ أن ينسَأ له في أجلِه ويُبسط له في رزقِه فليصِل ذا رحمه)) [3] ، وأيّ رحمٍ أعظم من رحم الوالدين؟!
ويقول في الوضوء: ((إنّ المسلمَ إذا توضّأ فغسل وجهَه خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطرِ الماء، فإذا غسل يدَيه خرج من يديه كلّ خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسَل رجلَيه خرجَ من رجليه كلُّ خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء)) [4].
وإنّ الشياطينَ لتفرّ من ذكر الله، فتفرّ من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة، وإنّ الصلاة شفاعة لصاحبها، برهان ونجاةٌ له يوم القيامة، وإنّ صومَ رمضان عمل صالحٌ يقول الله: ((كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّيام، فإنّه لي وأنا أجزي به)) [5] ، وفي الجنة باب يقال: الرّيّان، يدخله الصّائمون لا يدخله غيرهم. وإنّ غسلَ الجنابة أمانةٌ بين العبدِ وبين ربّه، فما ائتَمن الله عبدًا ما ائتمنَه على غسلِ الجنابة. وإنّ الحجَّ والعمرة لهما أثر عظيمٌ في حطّ الخطايا، يقول : ((تابِعوا بين الحجِّ والعمرة؛ [فإنّهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجّة المبرورة ثواب إلا الجنة])) [6].
أيّها المسلم، وإنّ الصّدقةَ لتطفئ غضبَ الربّ، وفي الحديث يقول : ((فاتّقوا النّار ولو بشقِّ تمرة)) [7]. وإنّ صلةَ الرّحم لبركة في العمر وبركة في الرّزق ونجاة من عذاب الله. وإنّ الآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر له فضلٌ عظيم، فإنّه بأمره بالمعروفِ ونهيه عن المنكر خلّص المسلمَ من المصائب وأنقذه مِن الضلالِ وهداه إلى الخير. وإنّ حسنَ الخلُق يوضَع في الميزان، فما وُضع في الميزان أفضَل من حُسن الخلق. وإنَّ الخوفَ من الله لينجِي العبدَ من المهالك، ذ?لِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14]. وإنّ أفراطَ المسلم الذين يسبقونَه يثقّلون ميزانَه وهم حجابٌ له من عذابِ الله. وإنَّ حسنَ الظنّ بالله لعمل صالح، ففي الحديث: ((لا يموتنَّ أحدكم إلا وهو يحسِّن الظنّ بربِّه)) [8]. وإنّ البكاءَ من خشية الله له فضل عظيم، وفي حديث السّبعة الذين يظلّهم الله تحتَ ظلِّ عرشه: ((ورجلٌ ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه)) [9]. وإنّ الصّلاةَ على النبيّ حسناتٌ عظيمة، فمن صلّى عليه صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا. وإنّ كلمةَ التوحيد مفتاحُ دار السلام، ومن لقي الله بها فإنّ الله يدخله بفضلِه الجنّة، فكلمة التّوحيد مفتاح دارِ السلام، فهي أساس الأعمالِ الصالحة، فمن ختِم له بخير فخُتم له بهذه الكلمة العظيمةِ نالَ خيرًا كثيرًا، ومَن كان آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" دخل الجنّة.
فالحمد لله على كمالِ فضله، والحمدُ لله على كمالِ إحسانه، أعمالٌ يسيرة ينال بها العبد درجاتٍ عظيمة. فاستقيموا على طاعةِ الله، واعملوا بالأعمالِ الصّالحة رجاءَ ثوابِها عند الله.
أسأل الله أن يتقبّل منّي ومنكم أعمالنا، وأن لا يجعلنا من الخاسرين، إنّه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (3/231)، وقال الهيثمي في المجمع (7/179): "رواه الطبراني بإسنادين، في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي، وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي، وكلاهما ضعيف"، وضعفه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/697-700)، والعراقي كما في فيض القدير (3/26)، وأورده الألباني في ضعيف الجامع (2086).
[2] انظر: الوابل الصيب (ص113).
[3] أخرجه البخاري في الأدب (5986)، ومسلم في البر (2557) من حديث أنس رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الطهارة (244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1904)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه أحمد (1/387)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء في ثواب الحج والعمرة (810)، والنسائي في مناسك الحج، باب: فضل المتابعة بين الحج والعمرة (2631) عن ابن مسعود رصي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (2512)، وابن حبان (3693)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (650).
[7] أخرجه البخاري في الزكاة (1417)، ومسلم في الزكاة (1016) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
[8] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها (2877) من حديث جابر رضي الله عنه.
[9] أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
إنّ الرّاجي لله حقًّا من يعمَل الأعمالَ الصّالحة، فيرجو بها ثوابَ الله، وأمّا المعطِّل لصالح العمل فإنّ رجاءَه أمانيّ ولا خيرَ فيها، إنّما الرّاجي لله من يؤدّي الأعمالَ الصالحة، إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَ?لَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَـ?هَدُواْ فِي سَبِيلِ ?للَّهِ أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:218[، مَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ?للَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ ?للَّهِ لآتٍ [العنكبوت:5].
فالمسلم حينما يعمَل الأعمال الصّالحةَ ويؤدّيها طاعةَ لله، رغبة في ثواب الله، طمعًا فيما عند الله، يؤدّيها موقنًا بذلك، مصدّقًا بهذا الوعد، يرجو أن يحقِّق الله له ما وعد على لسان نبيّه ، ورؤيا الأنبياء حقّ، وتلك رؤيا رآها رسولُ الله في المنام، وبشّر بها أصحابَه ليزدادوا طمعًا فيما عندَ الله، ليزدادوا رغبةً في الأعمال الصّالحة، ليزدادوا حِرصًا على الأعمال حتّى يجدوا ثوابَ ذلك أحوجَ ما يكونون إليه.
فلنتّق الله في أنفسنا، ولنواصِل الأعمالَ الصّالحة، ولنحقّق رجاءَنا في ربّنا بالإتيان بأسباب الخير والتّعرُّض للأعمال الصّالحة، عسى أن نُوفَّق لذلك.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
(1/3868)
ظاهرة العزوف عن الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
20/7/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ترغيب الإسلام في النكاح. 2- ضعف مبررات العزوف عن الزواج. 3- تبرير العزوف بمواصلة الدراسة. 4- العزوف بسبب النظرة المادية. 5- التبرير بخوف انتقال المال إلى البعيد. 6- العزوف بسبب انتظار شخص معين. 7- ردّ الخطاب بسبب استغلال المرتب الشهري للفتاة. 8- رد الخطاب بسبب انتظار القريب. 9- عزوف الشباب رغبة في الحرية. 10- عائق غلاء المهور وتكاليف الزواج. 11- معونة الله تعالى للمتزوج يريد العفاف. 12- نصيحة للأولياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، شريعةُ الإسلام رغّبت المسلمين في الزّواج وحثّتهم على ذلك، وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]. وأُرشِد الرجال العاجزون عن الزّواج إلى العفّة عن محارم الله والصّبر على ترك المحرّمات رجاءَ الفرَج من ربّ العالمين، وَلْيَسْتَعْفِفِ ?لَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى? يُغْنِيَهُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [النور:33].
أيّها المسلمون، وقد بيّن الله جلّ وعلا الحكمةَ من الزّواج بقوله: وَمِنْ ءايَـ?تِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْو?جًا لّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
أيّها المسلمون، ممّا يؤسَف له عزوفُ بعضِ شبابِنا أو بعض فتياتنا عن الزّواج وزهدُهم في ذلك وعدَم رغبتِهم فيه، وكلٌّ يعلِّل لنفسه ويبرّر موقفَه.
فالفتاة المسلمَة العازفةُ عن الزّواج تبرّر موقفَها أحيانًا بأمورٍ عندما يناقِشها المسلمُ حقًّا يراها أمورًا غيرَ كافية وأمورًا غيرَ مقنِعة للإعراض عن هذه النّعمة العظيمة، ذلكم أنّ الزواج سببٌ لتحصين الفرج وسببٌ لغضِّ البصَر وسكونٌ للنّفس وطمأنينة في القلب وراحةُ بالٍ وحياة سعيدةٌ ينعَم بها كلٌّ من الشّاب والفتاة. وتلك المبرّرات إذا عرَضتها عرضًا صحيحًا وجدتها مبرّراتٍ غيرَ لائقة، وليست سببًا قويًّا يُعزف عن الزّواج، بل هي أسباب ضعيفةٌ لا اعتبارَ لها في الحقيقة.
فالفتاة المسلمةُ تعزف عن الزّواج وتزهَد فيه وتبرِّر موقفَها أنّها فتاة طموحةٌ في التّعليم، تريد مواصلةَ الدّراسة، وتتخطّى كلَّ العقبَات، وتقطع كلَّ مراحِل التّعليم، بل تمضِي إلى ما فوقَ ذلك، وترى أنّ الزواجَ عائق لها، وأنّ الزواج مانعٌ لها، وذاك تصوّرٌ خاطِئ بلا شكّ، فما الدّراسة مانعةٌ مِن الزّواج، وما هي معوِّقة عن الزّواج، بل منافع الزّواج وفوائدُه كثيرة جدًّا، وبإمكان الفتاةِ المسلمة أن تجمَع بين الأمرَين، وذاك ميسَّر عند النيّة الصّادقة وعندما تتخطّى تلك العقباتِ التي تقف في طريقها، وترى أنّ الزواجَ خيرٌ كثير لها؛ لأنّ هذه الفتاة المسلمةَ ربّما يمضي ثلثُ عمرها أو أكثر، تأخذ ثلاثَ عقود من عمرها، وربّما تزداد، فيعرِض عنها ويزهَد فيها الخطّاب، وتندَم ولات ينفع ندمُها.
فالمرأة المسلمةُ لا ينبَغي لها أن يكونَ هذا عائقًا لها، بل تقدِم على الزّواج إذا تقدّم لها الكفءُ من الرّجال، وتحمد الله على هذهِ النّعمة، وبإمكانِها بتوفيقٍ من الله أن تواصلَ تعليمها، وليس هذا بعائقٍ عن التعليم لمن كانت جادّةً في طلب أمورها.
ومرّة أخرى تبرِّر الفتاة المسلمة زهدَها عن الزّواج بالنّظر الماديّ المحض، فهي قد تنظر إلى مَن عنده المالُ الكثير، ولا ترغب إلاّ فيمن تراه موفِّرًا لها كلَّ ما تريده وكلَّ ما تهواه، وأنّ الزوجَ الذي قد يقصر عن بعضِ الأمور لا تريده زوجًا لها، إذًا تفترِضُ صفاتٍ معيّنة، وقد يكون فيما تريده ضررٌ عليها، فهي لا تنظر إلى الزّوج من حيث الأخلاق والقيَمُ والسلوك وحُسن الرّعاية والاستقامةُ على الطّريق المستقيم، بل تنظر إليه أحيانًا النّظرَ الماديّ المحض الذي قد يكون سببًا لشقائها معه من حيث لا تشعر. لا شكّ أنّ المالَ مطلوب وأنّ غِنى الزّوج مطلوب، ولكن ليكن ذلك بالحدود المعقولةِ شرعًا.
ومرّةً أخرى تعلِّل الفتاةُ زهدَها عن الزواج أو قد يكون نظرٌ لأوليائها أنّهم أهلُ ثروة ومال كثير، وأنّ المتقدّمَ إليهم قد يأخذ شيئًا من ثروات مالِهم فيما لو حصل على ربِّ أسرةٍ موتٌ أو نحو ذلك، فانتقل المال إلى الفَتاة، ثمّ إلى أولادِها وزوجها، وتلك نظرة خاطئةٌ وتصوّر غيرُ صواب، فالفتاة المسلمةُ سعادتُها مع دين الله في حصول زوج صالحٍ يعفّها، وتعيش تحت ظِلاله بتوفيقٍ من الله ورحمة.
أيّها الإخوة المسلمون، ومرّةً أخرى تعلِّل الفتاة المسلمةُ زهدَها عن الزّواج بعلّة أخرى، وهي أنّها لا تريد إلاّ شخصًا معيّنًا، وربّما انقدح في ذهنِها أشياء معيّنة، فيكون لها موقِف، ولأهلها موقِف، وتضيعُ الفتاة في سبيل بعضِ التنطُّعات التي لا داعيَ لها، والفتاة المسلمة لو تأمّلت في أمرها حقَّ التأمُّل لعلِمت أنّ الزواج سبب لصيانتِها وسببٌ لعفّتها وراحةِ بالها، وأنّ المرأة التي يمضي عليها عمرُها ولم تتزوّج أنّها تندم في آخر عمرها، وتتمنّى زوجًا يكفلها، وتتمنّى ولدًا صالحًا يكون فيه خيرٌ لها ولعفّتها ولصيانتِها ولخدمتِها وللقيام بواجبها، وترى مَن حولها مِن فتياتٍ ينعمنَ بالبنين والبنات، وهي تركَت الزّواج لِعَللٍ واهية، ولم يكن من آبائها وأمّهاتها من يكون سببًا لتوجيهها وإرشادِها وتبيين طريقِ الصّواب لها.
أيّها المسلمون، وقد يكون الخطأ من الأبِ أحيانًا، وذاك عندما يكون لهذه الفتاةِ مال من مرتَّب أو غيره، ترى هذا الأبَ يحول بين الفتاة وبين زواجِها، لماذا؟ لأنّه يرى زواجَها يقطع عنه ذلك المالَ، فهو إمّا أن يفرضَ على الزّوج أن تستمرّ في عملها وتواصِل عملَها رجاء لأن يأخذَ مرتّبها، وإمّا أن يغلقَ أبوابَ الزواج دونَها، ومن تقدّم لها مِن الأكفاء ردّه بأيّ علّةٍ يبتدِعها من تلقاءِ نفسِه، والغاية من ذلك أن يكونَ مرتّبها لأبيها، فهو لا يريد زواجَها خوفًا من أن ينقصَ ذلك المرتَّب، فهو يحاوِل من خلال تعطيلها عن الزّواج أن يسلَم له مالها، ولا ينافسه في ذلك المالِ غيره. هكذا تصوّر بعضِ اللُّؤماء من الآباء ومَن ليس عندهم إيمانٌ صحيح ولا أداء للأمانة على الوجهِ المطلوب، ألا يعلم هذا الأبُ أنّ الفتاةَ أمانة في عنقِه، وأنّه إذا ردّ عنها الأكفاء مِن الرّجال كان بذلك عاصيًا لله ورسوله؟! يقول : ((إذا أتاكم مَن ترضَون دينَه وخلقه فزوّجوه، إلاّ تفعلوا تكن فتنةٌ في الأرض وفساد كبير)) [1].
وربّما منعَ الأب زواجَ الفتاة ليرغِمها على من يَهوى هو ومَن يرغب هو، إمّا قريب، يقول: لا يمكن أن تخرجَ الفتاة عن بيتِنا، ولا يمكن أن يتزوّجها غيرُ فلان وفلان، فيحجر عليها انتظارًا لهذا أو هذا، وقد تكون الفتاةُ لا ترغب في ذلك، فإمّا أن يجبرَها على مراده، وإمّا أن يعطّلها مِن الزّواج عصبيةً جاهلية وحميّة جاهليّة ما أنزل الله بها مِن سلطان.
أيّها الشّباب المسلم، وشبابُنا المسلم يوجَد فيهم عزوفٌ عن الزّواج أحيانًا، فبعضهم يعزف عن الزّواج لا لقلّةِ المال بيده، ولكن يريد أن يمضِي عليه عقودٌ أربعة وهو مشغول بلهوه، متمتِّع بمعاصِيه، صادّ عن الطريق المستقيم، يرى أنّ الزواجَ حاجز له عن أن يذهبَ هنا وهناك، ويرى أنّ الزواجَ يلزمه بالقيام بالواجب، وهذا لا يريد الالتزامَ بأيّ واجب، ولا التقيّدَ بأيّ عمل، يريد أن يكونَ حرًّا، يسافر متى ما شاء، ويسهَر كيف يشاء، ويصاحب من يشاء، بلا قيدٍ ولا شرط. وهذا ـ أخي الشابّ المسلم ـ أمرٌ لا يجوز لك، هذا أمرٌ لا يصحّ لك، فيمضي وقتُك، ويمضي قِسم من عمرك وأنت في لهوِك ولعِبك، فاتّق الله في نفسك، وحصّن نفسَك بزواجٍ طيّب، بالحلال الذي أباح الله لك؛ لتكونَ سعيدًا في دنياك وآخرتِك بتوفيقٍ من الله، فلربّما [رزقك] الله أولادًا صالحين، يكون فيهم السّعادة لك في الدّنيا والآخرة.
أيّها المسلمون، وكم يُسبِّب غلاءُ المهور تعطيلَ بعض شبابنا عن الزّواج، وكم تسبِّب الشروط التي يشرِطها الأب أو الأمُّ فتثقل كاهلَ الزوج، فيحجم عن الزّواج، وينتظر الفرَج، متى ما يحصّل هذا المهرَ الكثير والمطالِب المتعدِّدة، والمجتمَع المسلم مطالبٌ بأن يكون مجتمعًا متعاونًا على الخير والتقوى، مجتمَعًا متعاونًا على البرّ والتقوى، يسعى في تذليل أمر الزّواج وتذليلِ الصِّعاب أمام الزّوج، وأن لا يكلَّف ما لا يطيق، وأن يُقتصَر في الأمور على المهمّات، وأن يكونَ النّاس بعيدين عن السّرَف والتبذير في أمور زواجهم، ويسلكوا الطريقَ المستقيم، فذاك ينفع أبناءَهم وينفع بناتِهم، فيكون المجتمع مجتمعًا متعاوِنًا على البرّ والتقوى.
وكم نسمَع من مهورٍ غالية، وكم نسمَع من ولائمَ يُنفَق عليها الأموال، وكم وكم من شروطٍ ثقيلة، لكن المجتمع المسلم عندما يكون بينَه تعاونٌ على هذا الأمرِ المهمّ وتذليل الصعاب وتسهيل الأمور فإنّها مصلحة عامّة للمجتمع بأسرِه.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسّداد والعونَ على كلّ خير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/ 164-165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه، ولكن للحديث شواهد يتقوى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
أيّها الشابّ المسلم، إنّ نبيّنا وعد مَن أراد الزّواج لأن يُعفَّ نفسه أنّ الله سيعينه على مهمَّته، وسيكون الله عونًا له في كلّ ما أهمَّه. إذًا فاطلُب عونَ الله، واطلب فضلَ الله، وابتغِ الزواجَ، واحرص عليه، يقول نبيّنا : ((ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم)) ، ذكر منهم: ((المتزوّج يريد العفاف)) [1]. فالله سيعينه، واللهُ سيقضي عنه ما أهمّه، سيقضي الله دينَه، وسيفرّج همَّه، وسيكشِف غمّه، وسيجعل له من بَعد عسرٍ يُسرًا، ولكن بالصّبر عن معاصي الله والعفّة عن محارم الله وبذلِ الأسباب والحِرص على هذه المهّمة، فإنّ الله جاعلٌ لك فرجًا ومخرجًا.
فاستعن بالله، ولا تعجَز، ولا تكسَل، واستعِن بربّك، وابذُل السّببَ الذي في مقدورك، ولا تنظر إلى الأمور نظرَ من ينظر إليها أنّها صعبة وعسيرة، انظر إليها أنّها سهلة بتوفيقٍ من الله، وصدّق وعدَ الله الذي وعدَه على لسان نبيّه.
ويا أيّها الأب الكريم، وإن ابتلاك الله بالبناتِ، فربّيتَ تلك البنات، وأحسنتَ إليهن, فاجعل خاتمةَ الحسنى أن لا تردَّ عنهنّ كفئًا قصدهنّ، ولا تجعل تكاليفَ تعيق الزّواج، بل كن سهلاً، وكن ميسِّرًا للأمور، وإذا تقدّم لك [من] قلّ أمره فلا تحمِّله ما لا يطيق، بل كن عونًا له على الزّواج، فتنفعه وتنفع ابنتَك، وهذا شرعُ الله، فبقاء الفتياتِ بلا زواجٍ مشاكلُ عظيمة، وتتحوّل نفوس الفتياتِ إلى نفوسٍ قلِقة غير مطمئنّة، تعيش في حالةِ شقاء وعناءٍ إذا مضى معظم العمر وأعرض عنها الخطّاب، فالأب واجبٌ عليه أن يتّقيَ الله ويسهّل المهمّة، المهمّ النظرُ إلى الزّوج من حيث الأخلاق والقِيمُ والاستقامة والأهليّةُ لرعاية الفتاة، فإذا توفّرت تلك الأمور فما يسّر الله فاقبَله، وما لم يكن فلا تطالِب، ولا تكن ثقيلاً مكثِرًا مِن الطّلب بأمور تعلَم أنّ هذا الشابّ لا يستطيعها، المهمّ قدرته على رعايتِها والقيام بحقّها نفقةً ومسكنًا وطعامًا، هذه المهمّة، وما سوى ذلك فإيّاك أن تصعّبَ الأمور، وإيّاك أن تطلبَ ما قد لا يستطيعه إلاّ أن يحمّل نفسَه الديونَ التي تثقل كاهلَه، ويعجز عن وفائِها، ويصبح شقيًّا بهذه الدّيون التي أتعبته فلم يجِد لها وفاءً. فليتعاون الجميعُ على البرّ والتّقوى.
أسأل الله أن يحفظَنا بالإسلام، وأن يمنّ على أبنائنا بالزّواج الحلال، وعلى فتياتنا بذلك، وأن يجمعَ الجميع على طاعتِه، وأن يرزقَ الجميع التّعاون على البرّ والتقوى، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المتّقين وقائد الغرِّ المحجَّلين محمّد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربّ العالمين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (2/251، 437)، والترمذي في فضائل الجهاد (1655)، والنسائي في الجهاد (3120)، وابن ماجه في الأحكام (2518) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وصححه ابن الجارود (979)، وابن حبان (4030)، والحاكم (2678)، وحسنه الألباني في غاية المرام (210).
(1/3869)
خطورة الفتوى والقول على الله بلا علم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آفات اللسان, العلم الشرعي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
27/7/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحليل والتحريم حقّ لله تعالى وحده. 2- ذمّ من حلّل وحرّم بمجرّد الرأي. 3- أثر الإيمان بهذا الأصل العظيم في حياة المؤمن. 4- ذمّ استحلال ما حرّم الله تعالى بالحيل أو بدعوى مواكبة العصر. 5- تسليم الصحابة رضي الله عنهم لشرع الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في الصحيح أنَّ رجلاً أتى النبيَّ فقال: يا رسولَ الله، أرأيت إن أدَّيتُ الصلواتِ المكتوبة وصمتُ رمضان وأحللت الحلال وحرّمت الحرام أدخل الجنة؟ قال: ((نعم)) [1]. قال العلماء: معنى أحللتُ الحلال فعلته معتقدًا حِلَّه، وتركت الحرام معتقدًا تحريمه.
أيّها المسلمون، إنّ المؤمنَ حقًّا يدين لله باتباع شرعه، ويعلم أنّ التحليل والتحريم حكم شرعيّ، يُتَلقّى من ربّ العالمين ومن نبيّه الكريم صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين، ولا حقَّ لأحدٍ أن يحكمَ على أيّ أمر بأنه حرام وبأنّه حلال إلا وهو مستنِد لدليل شرعيّ، يعلم أنّ الله حرّم هذا ولم يحرّم هذا، وأمّا الحكم على الأشياء بمجرّد الظن والتخرُّص فذاك أمر لا يحلّ للمسلم، وقد أنكر الله على من أحلّوا وحرّموا بتلقاء أنفسهم، قال تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ ?لْكَذِبَ هَـ?ذَا حَلَـ?لٌ وَهَـ?ذَا حَرَامٌ لّتَفْتَرُواْ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ إِنَّ ?لَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى? ?للَّهِ ?لْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النحل:116، 117]، فنهى اللهَ الأمّة أن يقولوا بما تصف ألسنتهم الأشياءَ بأنّها حلال وحرامٌ بلا برهَان ولا حجّة. وقال جل جلاله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّا أَنزَلَ ?للَّهُ لَكُمْ مّن رّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى ?للَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]، نعم، إنّ من حلّل وحرّم بمجرّد رأيه وتخرّصه مفترٍ على الله الكذب. وقد نهى الله عباده المؤمن أن يحرِّموا طيّبات ما أحلّ لهم، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـ?تِ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، أي: لا تعتدوا في تناوُل المباح، وقال جلّ جلاله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ?للَّهِ ?لَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَـ?تِ مِنَ ?لرّزْقِ قُلْ هِى لِلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ كَذَلِكَ نُفَصِلُ ?لآيَـ?تِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32]، وقد عاتب الله نبيَّه محمّدًا عندما حرّم على نفسه إما شرب العسَل أو سرّيته مارية لما تظاهر عليه زوجاتُه، أراد أن يرضيهنّ بذلك، فقال الله له معاتبًا: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ لِمَ تُحَرّمُ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْو?جِكَ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [التحريم:1]. وقد ذمّ الله من تلقَّوا التحليل والتحريمَ من آراء الناس وتخرُّصاتهم، قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُواْ لَهُمْ مّنَ ?لدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ ?للَّهُ [الشورى:21].
أيّها المسلم، إنّ المؤمنَ يعتقد تحريمَ ما حرّم الله، فما حرّم الله عليه من الفواحش فهو يعتقد تحريمَها، ويؤمن بذلك إيمانًا جازمًا، يعتقد أنّ ما حرّم الله فهو الحرام إلى يوم القيامة، لا يمكن أن يبدَّل وأن يُغيَّر، بل هو حرام إلى قيام الساعة كما حرمه الله وحرمه رسوله، يعتقد تحريمَ ذلك اعتقادًا جازمًا حتى لو زلَّت القدمُ والعياذ بالله فإنّه مع هذا يعتقد تحريمَ ما حرم الله.
والمسلمون مجمِعون على أنّ من أحلّ محرّمًا عُلم تحريمُه من دين الإسلام بالضرورة أنّ هذا المعتقِد بعد بلوغه الدليل الشرعيّ أنّ تلك ردّةٌ عن الإسلام؛ لأنها تكذيبٌ لله ورسوله وردٌّ على الله ورسوله، قال جل وعلا: قَـ?تِلُواْ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَلاَ بِ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ ?لْحَقِّ مِنَ ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ الآية [التوبة:29]، وأنكر على المشركين الذي كانوا يستعملونه فيستبيحون بعضَ أشهر الحُرُم ويأخّرونها إلى [ما] بعدها: إِنَّمَا ?لنَّسِىء زِيَادَةٌ فِى ?لْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ?للَّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوء أَعْمَـ?لِهِمْ وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِي ?لْقَوْمَ ?لْكَـ?فِرِينَ [التوبة:37].
وذمّ الله مَن انخدَعوا بما يقوله عابدٌ أو عالم بغير هدًى، قال تعالى: ?تَّخَذُواْ أَحْبَـ?رَهُمْ وَرُهْبَـ?نَهُمْ أَرْبَابًا مّن دُونِ ?للَّهِ [التوبة:31]، قال عدي بن حاتم: يا رسول الله، ليسوا يعبدونهم!! قال: ((أليس يحِلّون لهم الحرام فيطيعونهم ويحرّمون عليهم الحلالَ فيطيعونهم؟ فتلك عبادتهم لهم)) [2].
أيّها المسلم، إنّ التحريم والتحليلَ أمر شرعيّ، قال تعالى عن نبيّه : وَيُحِلُّ لَهُمُ ?لطَّيِّبَـ?تِ وَيُحَرّمُ عَلَيْهِمُ ?لْخَبَئِثَ [الأعراف:157]، فالتحليل والتحريمُ إلى الله وإلى رسوله ، ليس لآراء النّاس وأهوائهم واختراعاتِهم.
أيّها المسلم، إنّ المؤمنَ يقرأ كتابَ الله، ويرى فيه آياتٍ فيها احترام أموالِ الناس ودمائهم وأعراضهم، فيعتقِد حرمةَ مال المسلم وحرمَة دَم المسلم وحرمةَ عِرض المسلم اعتقادًا جازمًا، يسمع الله يقول: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، فهو يعتقد حرمةَ دم المسلم وحرمةَ دم المعاهد والمستأمن.
يتلو آياتِ الرّبا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ?لرّبَو?اْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءوسُ أَمْو?لِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ [البقرة:278، 279]، وَأَحَلَّ ?للَّهُ ?لْبَيْعَ وَحَرَّمَ ?لرّبَو?اْ [البقرة:275]، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ ?لرّبَا أَضْعَـ?فًا مُّضَـ?عَفَةً وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ?تَّقُواْ ?لنَّارَ ?لَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَـ?فِرِينَ وَأَطِيعُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:130-132].
ما موقف المسلم؟ موقفُه طاعة الله وطاعة رسولِه واعتقاد أنَّ الرّبا حرامٌ كما حرّمه الله ورسوله، ولا يزال حرامًا إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين. يعتقد ذلك اعتقادًا جازمًا لا شك فيه، ومن شكّ في تحريم الرّبا أو ارتاب فيه أو اعتقد أن الزمنَ الحاضر يلغي ما حرّم الله ويعطّل ما حرّم الله ويبيح ما حرّم الله فذاك مرتدٌّ عن الإسلام خارِج من ملّة محمّد.
يقرأ المسلم آيةَ الخمر والميسر في تحريم الخمر والميسر: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ?لْخَمْرُ وَ?لْمَيْسِرُ وَ?لأنصَابُ وَ?لأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ?لشَّيْطَـ?نِ فَ?جْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] فيعتقد حرمةَ الخمر وحرمَة القمارِ اعتقادًا جازمًا، ولو شكّ إنسان في تحريمه بعدَ بلوغ الحجّة فذاك مُرتدّ عن الإسلام والعياذ بالله.
الزاني يقرأ: ?لزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ?لزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذ?لِكَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ [النور:3]، فيعتقد حرمةَ الزنا كما حرّم الله اعتقادًا لا شكّ فيه، وهكذا يعتقِد حرمَةَ السّحر والشّعوذة وحرمة أموال الناس وحرمة التعدّي عليهم. ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْو?لَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ?لْبَـ?طِلِ [النساء:29]، فيعتقد حرمةَ غِشّ المسلمين. إِنَّ ?لَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْو?لَ ?لْيَتَـ?مَى? ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10]، فيعتقد تحريمَ ذلك. يعتقد حرمةَ اغتياب المسلمين لأنّ الله يقول: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا [الحجرات:12]، وكلّ أمرٍ حرّمه الله ورسوله فالمسلم معتقِد ذلك اعتقادًا جازمًا، يدين لله بأنّ هذا حرام كما حرّم الله، وهذا حلال كما أحلّ الله، هذا اعتقادُ المسلم الذي رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا رسولاً.
أمّة الإسلام، للأسف الشديد أنّ بعضَ من ينتسب إلى الإسلام ـ وقد يُنسَب إلى العلم أحيانًا ـ تساهلوا في أمور المحرّمات وتجرّؤوا على الله، فأحلّوا ما حرّم الله، واحتالوا على الحرام بأمورٍ كثيرة، احتالوا على تحليلِ الحرام وتعطيلِ الحرام بأمور عِدّة وأساليبَ مختلفة، كلّ ذلك حِيَلٌ لتحليل ما حرّم الله.
وقد ذمّ محمّد من احتال على تحليل محرّمات لمّا قال: ((إنّ الله حرّم بيعَ الميتة والخمر والخنزير والأصنام)) ، قالوا: يا رسول الله، أرأيتَ شحومَ الميتة يطلَى بها السّفن ويستصبِح بها الناس؟ قال: ((هي حرام)) ، ثم قال: ((قاتل الله اليهود، إنّ الله لما حرّم عليهم الشحومَ أذابوه [وباعوه] فأكلوا ثمنه)) [3].
إذًا أيّها المسلم، أولئك الذين يجرؤون على تحليل محرّمات وترويج تحليلها بدعوَى التّيسير على الناس أحيانًا، ودعوى سماحةِ الشريعة كما يزعمون، سماحةٌ للشريعة عطّلوا بها الواجبات، واستحلّوا بها المحرّمات، وعمدوا إلى آراء مهجورة وأقوالٍ شاذّة، قد يعذَر فيها قائلها لجهلِه بالدليل أو عدم بلوغ الحجة، ولكن لا يعذَر بها مَن عنده عِلم ومعرفة واطّلع على كتابِ الله وسنّة رسوله.
البعضُ من أولئك يقولون: هذا القرنُ العشرين، أو نحن على بوادئ القرنِ الحادي والعشرين، فلماذا نلتزم بحرامٍ وحلال؟ ولماذا نلتزم بشرع ودين؟ تلك ـ كما يقولون ـ تراث سابق مضى وانقضى، ويجب أن نسعَى ونتقدّم، فنحلّل ونحرّم بآرائنا وأهوائنا، وأن لا نتقيّد بشرعٍ ولا دين. تلك مقالةٌ ضالّة، لو يَتَصوَّر قائلها ماذا جنى على نفسه ودينه لتصوّر هذا الأمر.
إنّ شرعَ الله كما صلح به قومُ محمّد فهو الذي تصلح به القرونُ المتتابعة، ولن يصلح آخرَ هذه الأمّة إلا ما أصلح أوَّلَها، فصلاحنا واستقامةُ حالنا إنّما هو بما صلح به أوائلُنا من لدُن محمّد وصحابته الكرام والتابعين لهم بإحسان، إيمانًا جازِمًا بأنّ اللهَ حكيم عليم فيما أباح وفيما حرّم، وأنّ هذا شرعُه الذي بعث به محمّدًا ، ولن يقبل من أحدٍ دينا إلا إذا كان متمسّكًا بهذه الشريعة، عاملاً بها، منفِّذًا لأوامرها، مبتعدًا عن نواهيها، معتقدًا الاعتقادَ الجازم أنّ شرعَ الله هو الصّالح والمصلح، وهو الهادي لكلّ خير، ومن حاد عنه وغيّر وبدّل فإنّما جنى على نفسه.
نسأل الله لنا ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى، وأن يجعلنا ممّن عمل بالقرآن فأحلّ حلاله وحرّم حرامه وعمل بمحكمه وآمن بمتشابهه وتلاه حقَّ تلاوته. اللهمّ اجعلنا ممّن يحلّ حلاله ويحرمّ حرامه ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه. اللهمّ اجعلنا ممّن يقيم حدودَه، ولا تجعلنا ممّن يقيم حروفَه ويضيِّع حدودَه. اللهمّ ثبّتنا على القرآن، وأمِتنا على العمَل به واتّباعه، إنّك على كلّ شيء قدير، ولا تزِغ قلوبَنا بعد إذ هدَيتنا، وهَب لنا من لدُنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (15) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[2] أخرجه الترمذي في التفسير (3095)، وابن جرير في جامع البيان (10/114)، والبيهقي في الكبرى (10/116) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، وفي بعض نسخ الترمذي قال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2471). تنبيه: عزا ابن كثير في تفسيره (1/378، 2/349) هذا الحديث إلى مسند أحمد، ولم أجده فيه، وإنما فيه قصة إسلامه بين يدي النبي ، فالله أعلم.
[3] أخرجه البخاري في البيوع (2224)، ومسلم في المساقاة (1583) عن أبي هريرة نحوه. وفي الباب عن عمر وجابر وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
إنّ الإيمان الصادقَ يدعو المسلمَ إلى التزام شرع الله، واعتقادِ حلّ ما أحلّ الله وتحريم ما حرّم الله، يعتقد ذلك بقلبه، فيعمَل بجوارحه على نحو هذا، هذا اعتقادُ المسلم الذي رضيَ بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمّد نبيًّا رسولا.
أنزل الله على نبيّه آيةً في البقرة: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ?للَّهُ [البقرة:284]، فأتى الصحابة رسولَ الله وجثَوا على الرّكَب، وقالوا: يا رسول الله، كُلّفنا مِن العمل ما نطيق؛ الصلاة والزكاة والصيام، ولكن آية في كتابِ الله لا نستطيع ذلك: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ ?للَّهُ [البقرة:284]، إن حوسِبنا على ما في أنفسِنا هلكنا، فقال: ((أفتريدون أن تقولوا: سمعنا وعصينا؟! قولوا: سمِعنا وأطعنا غُفرانك ربَّنا وإليك المصير)) ، فلما اقترأها القوم وذلّت بها ألسنتهم نسخها الله بقوله: لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ?كْتَسَبَتْ [البقرة:286] [1] ، فعفَا الله عنهم عن أحاديث النّفس، وجعل الحسابَ والثواب على ما أظهَروا من العمل.
فلننقدْ بشرع الله، ولنؤمِن بذلك إيمانًا جازمًا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربكم إذ يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (125) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3870)
فضل العدل
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الأبناء, النكاح, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/8/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جزاء العادل يوم القيامة. 2- تعظيم شأن العدل. 3- العدل في الحكم. 4- العدل بين الأولاد. 5- العدل بين الزوجات. 6- العدل في الولاية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((المقسِطون على منابرَ من نور، عن يمين الرّحمن، وكلتا يدَيه يمين، الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا)) [1].
أيّها المسلمون، هذا الحديث من جوامِع الكلم الذي أعطِيَه محمّد ، فإنّ الله جلّ جلاله أعطاه جوامعَ الكلم، واختصر له الكلامَ اختصارًا، فكلماتٌ قليلات يقولها وتحتَها مِن المعاني ما الله به عليم.
فلننظر إلى هذا الحديثِ الصّحيح العظيم يبيّن فيه منزلةَ المقسِطين العادلين، منزلتَهم يومَ القيامة، وأنّ منزلتهم على منابرَ من نور؛ لأنّهم قد علَت منزلتهم وارتفع شأنهم، فهم على منابرَ من نور يومَ القيامة، لأنّهم تغلّبوا على الأهواءِ والنّفوس والشهوات، تغلّبوا عليها، فقهَروا أهواءَهم، وساروا على النّهج القويم، فأعلى الله يومَ القيامة منزلتَهم، ورفع شأنَهم فجعلهم على منابرَ من نور عن يمين الرّحمن، وكلتا يدَي الرّحمن يمين.
من هم هؤلاء؟ من هم هؤلاء المقسطون؟ من هم هؤلاء؟ الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا. ذكر عدلَهم في أمور ثلاثة: في الحكم والأهل وما ولُوا من العمَل.
أيّها المسلمون، لقد عظّم الله شأنَ العدل، وأمر الله به عبادَه، أن يلزَموا العدلَ في الأقوال والأعمال، فقال: وَإِذَا قُلْتُمْ فَ?عْدِلُواْ [الأنعام:152]، وقال جلّ جلاله: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8]، وقال جلّ جلاله: إِنَّ ?للَّهَ يَأْمُرُ بِ?لْعَدْلِ وَ?لإحْسَانِ [النحل:90]، وقال جلّ جلاله: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ إِنَّ ?للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء:58]، وقال في الإصلاح بينَ النّاس: فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِ?لْعَدْلِ [الحجرات:9].
فالعدلُ به قامت السّموات والأرض، العدلُ خلُق كريم، إنّما يمثّله ذو التّقى والصّلاح والاستقامة على الخير، إنّما يوجد العدلُ عند ذوي التقوى والصلاح المحكّمين لشرع الله، المنفّذين لأوامره، الواقفين عند حدودِه، يلزَمون العدلّ في الأقوال والأعمال، مع من يحبّون ومع من يكرَهون، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8].
وفي هذا الحديثِ جُمَل ثلاث:
أوّل الجمل: ((الذين يعدِلون في حكمِهم)) ، فهم في حكمهم عادلون، لا يجورون، ولا يميلون، يقولون الحقَّ ولو على أنفسِهم، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَ?للَّهُ أَوْلَى? بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لْهَوَى? أَن تَعْدِلُواْ [النساء:135]، لا تتّبعوا الهوى فتتركوا العدلَ، فإنّ العدلَ إنّما يكون ممّن سَلِم من الهوى، أمّا صاحب الهوى فالهوى يميل به يمينًا ويسارًا، وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِ?لْعَدْلِ إِنَّ ?للَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].
فأهلُ الحكم بين النّاس واجبٌ عليهم تقوَى الله، واجبٌ عليهم تحرّي العدل، واجبٌ عليهم الإنصات، واجب التجرُّد من الهوى والمصالح الشّخصية، وأن تكونَ الأحكام متحرًّى فيها العدل، متحرًّى فيها الصّدق وإيقاع الأمورِ موقعَها، والله سائلٌ كلَّ حاكم عمّا استرعاه حفِظ ذلك أو ضيَّعه.
فالذين يعدِلون في حكمِهم يجعَل الله لهم محبّة في القلوب وطمأنينَة لقولهم وثقةً بهم، لأنّهم حكموا فعدلوا وقضَوا بين النّاس بالعدل، ي?دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـ?كَ خَلِيفَةً فِى ?لأرْضِ فَ?حْكُمْ بَيْنَ ?لنَّاسِ بِ?لْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ ?لْهَوَى? فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ إِنَّ ?لَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ?للَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ?لْحِسَابِ [ص:26]، فالعادِلون في حكمِهم أهلُ دين وتُقى، حكموا فعدَلوا، فصارت أحكامُهم موافِقةً للصّواب، واتّقوا الله فيما يحكمون به، فأولئك لهم المنزلةُ الرّفيعة.
وثانيا: ((وفي أهليهم)) ، فهم أيضًا أهلُ عدل في أهليهم، فليس عندهم جورٌ في أهليهم، بل يعاملون أهليهم بالعدلِ في كلّ الأحوال. فالمسلم أمَام أولادِه ذكورًا وإناثًا يلزَم العدلَ بينهم، ويتّقي الله فيهم، ويظهِر لهم أنّه أبوهم الرّحيم بهم الشفيق عليهم، لا يطمع هذا في ظُلمه، وهذا في حَيفه، لا يطمَع أحدٌ فيه، فيطمع في ظلمِه لإخوانِه وميلِه معه دون غيره، وإنّما الكلّ مطمئنّون إليه، ذلك أنّ هذا الأب ربّى الأولادَ فأحسنّ التّربية، وعاملهم فأحسنَ المعاملة، عدل بينهم في كلّ الأحوال، فلا يفضِّل هذا على هذا، ولا يطمع هذا في مزيدٍ، وإنّما يرى من الأب الميزان العادلَ والمعاملة العادِلة، وذاك موفَّق للخير بتوفيق الله، ولهذا محمّد أرشد الآباءَ إلى هذا، أرشدهم إلى أن يتّقوا الله في أولادِهم، فلا يفضِّلوا بعضًا على بعض، ولا يقدّموا أحدًا على أحد.
في عهدِه جاءَه بشير بن سعد الأنصاريّ ليشهِدَه على أنّه وهب لابنِه النّعمان بن بشير غلامًا، وأمّ النعمان أبَت إلاّ أن توثّق تلك العطيّةَ بشهادةِ محمّد فقالت: لا أقبل أن تعطيَ ابني هذه العطيّة إلاّ أن يكونَ رسول الله شاهدًا عليها، لكي توثقها التّوثيقَ الذي لا توثيقَ بعده، وأيّ شهادةٍ أعظم من شهادة محمد وأصدق منها وأوثق منها؟! فلمّا جاءه وأخبره قال: إنّ أمّ هذا طلبت منّي أن أنْحل ابنَها غلامًا وأن أشهِدَك عليه، فماذا كان جواب المصطفى ؟ سأل بشيرًا سؤالاً معقولاً وسؤالاً واقعيًّا وسؤالاً فيه الإقناع له عن الرّجوع عن هذه الهبة، وعن هذه العطيّة الخاصة، فقال له: ((أكُلَّ ولدك نحلتَه مثل ذلك؟)) يعني: هل جميع أولادك أعطيتَهم مثلَ ما أعطيتَ النّعمان؟ قال: لا، قال: ((أتحبُّ أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟)) قال: نعم، قال: ((إذًا فلا)) [2] ، فهو قال له: هل ترضى أن يكونوا جميعًا بارِّين بك؟ قال: نعم، أمنيّةٌ كلٌّ يتمنّاها، قال: إذًا، فكن معهم كما تريد أن يكونوا معك، إذًا فلا تفضِّل بعضًا على بعض، واجعَل العطيّة سواء، فقام بشير، فردّ تلك العطيّة، وألغاها طاعةً لله ورسوله، ورضًا بما حكَم به محمّد ، وفي لفظ أنّه قال له: ((أشهِد على هذا غيري)) [3] ، ففهِم منه أنّ هذا الأمرَ الذي امتنع محمّد أن يكونَ شاهدًا عليه دليل على أنّه مخالف للحقّ، وفي بعض الألفاظ أنّه قال له: ((لا تُشهِدني على جَور)) [4] ، وفي لفظ أنّه قال له: ((اتّقوا الله، واعدلوا بين أولادكم)) [5] ، هكذا يُربّي المصطفى أصحابَه، ويعْلِمهم بما فيه خير لهم في الحاضِر والمستقبل. وذلك أنّ هذا التفضيلَ يسبّب اختلافَ القلوب وتنافرَ القلوب، ويسبِّب العداوةَ والبغضاءَ بين الأولاد وبين أبيهم، فيستثقلون أباهم، ويكرَهون فعلَه، وربّما جنَوا على أخيهم الذي فضِّل عليهم، فحقدوا عليه، وكرِهوه، وأبغَضوه، والشّيطان حريصٌ على إفسادِ بني آدم، فهو أرشدَهم إلى هذا المنهج القويم.
ولذا طبّق السلف هذا الأمر، فيقول إبراهيم التّيمي رحمه الله: "إنّي لو قبّلت أحدَ الصغار من أولادي لرأيتُ لازمًا عليّ أن أقبّل الصغيرَ مثله خوفًا من أن يقعَ في نفس هذا عليّ أذى"، كلّ هذا تحرّي تطبيقِ السنّة، فإنّ العدلَ بين الأولاد أمرٌ مطلوب شرعًا، وتفضيل بعضهم على بعض بأيّ حيلة احتالها الأب يعلم الله منه أنّه أراد بها التفضيلَ يكون ذلك ظلمًا منه وجورًا، ولهذا يقول : ((إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقّ حقَّه، فلا وصيّة لوارث)) [6].
ومِن العدل في الأهلِ، عدلُ الرّجل بين زوجاتِه إن يكن عنده أكثرُ من واحدة، فإنّ العدلَ بين الزوجات واجب شرعيّ أمر الله به، وأمر به نبيّه ، فالله جلّ وعلا لما أباح لعباده التعدّد قيَّد ذلك بقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ?لْيَتَـ?مَى? فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء مَثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَو?حِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ [النساء:3]، فأباح التعدّدَ وأذن فيه، لكن شريطةَ أن يكون المعدِّد يغلِب على ظنّه العدل بين الزوجات، وأن لا يقصِد بالتعدّد ظلمَ هذه لمصلحةِ هذه، وإنّما تقوى الله يحكمه، فيعدل بين الزوجاتِ في الأمور التي يمكنه العدل فيها، يعدل بينهنّ في النّفقة، فلا يفضّل تلك على أخرى بلا سبب، يعدِل في المبيت والمسكن والنّفقة، ولو كان في القلبِ حبٌّ لواحدة، لكن لا يظهر ذلك أمام الأخرى، فلا يقدح في هذه عند الأخرى، ولا يعيب هذه عند الأخرى، ولا يفشِي سرَّ هذه عند الأخرى، وإنّما يلزم العدلَ بينهنّ في الأمور الممكنة من النّفقة والكِسوة والسّكن والمعاشرَة العامّة، وأن لا يظهرَ لتلك ميولاً على الأخرى، هكذا سنّة محمّد.
ومحمّد أباح الله له التعدّد، وخصّه بأن أباح له فوقَ الأربعةِ، فكان له تسعٌ من النّسوة، ولكنّه كان أعدلَ الناس بين نسائه، أعدل النّاس وألزمهم للعدلِ في الأمور كلّها ، يقول أنس بن مالك خادمُ رسول الله : كان لرسول الله تسعٌ من النّسوة، يقسم بينهن فلا يعود إلى الأخرى إلاّ بعد ما يمضيَ تسع ليالٍ [7] ، وتذكر عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنهما تقول: كان رسول الله ما يمضي يوم إلاّ مرّ بنا ـ أي: بنسائه ـ، فيدنو ويلمس من غير أن يمسّ، حتى ينتهي إلى التي عندها يومه [8] ، أي: يمرّ بهنّ، ويقضي حاجتَهن، ولكن نهاية الاطمئنان عند من عندها يومه، فكنّ يعرفنَ ذلك من عدله.
وتذكر عائشة أنّه كان إذا أراد السّفر أجرى بينهنّ قرعة، فمن خرجت لها القرعةُ سافر بها [9] لتطمئنّ نفوسهنّ، وليعلمن أنّه أعدل الخلقِ في تعامله كلِّه.
ومن ذلكم لمّا مرض وفي الأسبوع الذي مات فيه ، كان يسأل كلّ يوم: ((أين أنا غدًا؟)) ، يسأل: متى يأتي يومُ عائشة؟ فلمّا علم النّساء منه ذلك أذنَّ له بعدما استأذنهنّ أن يمرَّض في بيتِ عائشة، فأذِنّ له، فكان موتُه في حجر عائشةَ بين حاقنتها وذاقِنتها رضي الله عنها وعن أبيها [10] ، كلّ ذلك من عدلِه ، وكان له الحقّ أن يفرِض، لكنّه أعدل الخلقِ وأرحم الخلقِ صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أيّها المسلمون، إنّ محمّدًا أعدل الخلق رسم لأمّته الطريقَ المستقيم والمنهج القويم في كلّ أحواله، فهو أسوةُ الأمّة وقدوتهم وإمامهم في كلِّ الأحوال ، ثمّ هو أيضًا حذّر المسلم من أن يجورَ ويظلم، فيقول أبو هريرة: قال رسول الله : ((مَن كان عنده امرأتان فمال إلى إحداهنّ دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقُّه ساقط)) [11] ، وفي بعض الألفاظ: ((جاء يوم القيامة وشقُّه مائل)) [12] ، وفي بعضها: ((وأحد شقَّيه مائل)) [13] ، كلّ هذا تحذيرٌ للمسلمين مِن الظلمِ في نسائِهم.
وللأسفِ الشّديد عمّا نسمع وما يستفتَى أنّ البعضَ من المسلمين هدانا الله وإياهم يرتكِبون أخطاء، وتميل بهم الأهواء، وتعصِف بهم الشّهوات حتى يعامِلوا النساءَ المعاملة السيّئة التي لا تصدر من قلبٍ فيه إيمان حقيقي. البعضُ منهم ربّما عدّد ولكن هذا التعدّد ما نتيجته؟ أنّ الأولى منهنّ ترفَض أحيانًا، وتهجَر أحيانًا، وتقطَع عنها النّفقة أحيانًا والمبيت أحيانًا، وربّما ضُربت وأهينَت وربّما ربّما.. كلّ ذلك من قلّة الإيمان وضعفِ البصيرة، وربّما ينساها، وينسى أيامَها، وينسى صبرَها معه، وينسى كونَها أمَّ أولاده، ويتجاهل كلَّ هذه الأمور في سبيلِ مسألة وهوى.
هذا أمرٌ لا يليق بالمسلم، الواجبُ تقوى الله والعدلُ والإنصاف والقيام بالواجب، فإنّ هذا الجور يسبّب افتراقَ الأولاد وتباغضَهم وتناحرَهم وعدم اتفاقهم، ويكون الأب يكره هذا، ويكره هذا، ويستثقلون حياتَه، وربّما دعَوا عليه، وربّما تمنّوا موتَه وهلاكه.
إنّ المسلم إذا خرج عن منهجِ الله في كلّ أحواله لا بدّ أن يصابَ بنقصٍ في كلّ أموره، فمَن التزم شرعَ الله ومنهجه في أحواله كلّها عاش بخيرٍ ومات بخير، ومَن خرج عن منهج الله وتعدّى سنّة محمّد فلا بدّ أن يصابَ بنقص في نفسه وولده على قدرِ مخالفتِه لشرع الله.
فلنتّق اللهَ في أنفسنا، ولنلزَم العدلَ في أحوالنا، ولنعامِل النساءَ إذا أرَدنا التعدّد المعاملةَ الشرعيّة، مستَقِين من هديِ محمّد.
والجملة الثالثة: ((وما وَلُوا)) ، أي: أنّ المسلم فيما تولّى من عملٍ يلزم العدلَ، يلزم العدلَ فيمن وُلّي عليهم ويسوسُهم السّياسة الشرعيّة ويحكم بينهم بالعدل، فلا يظلِم هذا، ولا يحقِد على هذا، ولا يحابي هذا ضدَّ هذا، إنّما يعدل بين من تولّى أمرَهم، ويسوسهم السّياسة الشرعيّة، ويقوم بهم على حسب العدلِ والقيام بالواجب، فأقرب النّاس إليه أحسنُهم أداء وأحسنهم عملاً وأنجزهم مهمّة، هذا أحبّ النّاس إليه، لا يميل مع هذا ضدّ هذا، وإنّما يلزم تقوى الله فيمن وُلّي عليهم، والله سائلٌ كلَّ راع وما استرعى؛ حفظ ذلك أو ضيَّعه.
فنسأل الله جلّ جلاله أن يجعلَنا وإيّاكم من العادلين في أقوالنا وأعمالنا وأفعالنا وما ولِّينا عليه، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1827) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الهبة (2586)، ومسلم في الهبات (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[3] هذا اللفظ هو إحدى روايات مسلم.
[4] أخرجه البخاري في الشهادات (2650)، ومسلم في الهبات (1623).
[5] أخرجه البخاري في الهبة (2587).
[6] أخرجه أحمد (5/267)، وأبو داود في الوصايا (2870) وفي البيوع (3565)، والترمذي في الوصايا (2120)، وابن ماجه في الوصايا (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (949)، قال الحافظ في الفتح (5/372): "في إسناده إسماعيل بن عيّاش, وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ, وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شاميّ ثقة, وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2494). وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند أحمد (4/186، 187، 238)، والتّرمذيّ في الوصايا (2121)، والنّسائيّ في الوصايا (3641، 3643)، وقال الترمذي: "حسن صحيح". وشاهد ثان من حديث أنس عند ابن ماجه في الوصايا (2714)، والدرقطني (4/70)، والبيهقي (6/264)، وصححه الضياء المقدسي (2144، 2145، 2146)، وقال البوصيري في المصباح (3/144): "إسناد صحيح، رجاله ثقات". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ (4/98). وعن جابر عند الدّارقطنيّ (4/97) أيضا وقال: "الصّواب مرسل". وعن آخرين قال الحافظ في الفتح (5/372): "ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال, لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا, بل جنح الشّافعيّ في الأمّ إلى أنّ هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ قال عام الفتح: ((لا وصيّة لوارث)) ، ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم, فكان نقل كافّة عن كافّة, فهو أقوى من نقل واحد".
[7] أخرجه مسلم في الرضاع (1462) بمعناه.
[8] أخرجه أحمد (6/107)، وأبو داود في النكاح (2135)، والدارقطني (3/284)، والبيهقي في الكبرى (7/74، 300)، وصححه الحاكم (2760)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1868).
[9] أخرجه البخاري في الهبة (2594)، ومسلم في التوبة (2770).
[10] أخرجه البخاري في المغازي (4450)، ومسلم في فضائل الصحابة (2443) عن عائشة رضي الله عنها بمعناه.
[11] أخرجه أحمد (2/347، 471)، والترمذي في النكاح (1141) وتكلم فيه، وابن ماجه في النكاح (1969)، وصححه ابن الجارود (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2759)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح سنن الترمذي (912). ولفظ أحمد وابن ماجه وابن الجارود وابن حبان: ((وأحد شقيه ساقط)).
[12] هذا اللفظ أخرجه أبو داود في النكاح (2133)، والدارمي في النكاح (2206)، قال الحافظ في البلوغ (1085): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن أبي داود (1867).
[13] هذا اللفظ أخرجه النسائي في عشرة النساء (3942)، والبيهقي في الشعب (6/413)، وهو في صحيح سنن النسائي (3682).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، تقول عائشة رضي الله عنهما: كان رسول الله يقسِم بين نسائِه فيعدِل، ثمّ يقول: ((اللهمَّ هذا قسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملِك ولا أملك)) [1].
مرادُه أنّه أدّى الواجبَ عليه على قدر استطاعتِه من الأمور الظاهرة، أمّا ميول القلب فذاك أمرُه إلى الله، فالله الذي يسكن المحبّةَ في القلوب ويضعِفها ويزيدها وينقِصها، فهو أدّى الذي عليه وما يستطيعه، وما كان أمرًا غالبًا عليه قال: ((اللهمّ لا تلمني فيما تملك ولا أملك)) ، يعني محبّة القلب، ولهذا كان يعدِل بين نسائه، ولا يفضّل بعضًا على بعض، وإن كان يحبّ عائشة، ويُغلي عائشة، إلاّ أنّ محبّته لها لم تجعَله يميل معها دونَ الأخريات، بل كان يحبّها، ولها منزلةٌ رفيعة، لكنّه لا يعطيها أكثرَ ممّا يعطي بقيّةَ صواحبها.
هكذا كان، فميلُ القلب أمرٌ لا يقدِر عليه إلاّ الله، لكن المسلم مطالب بالأمور الظّاهرة من نفقةٍ وكِسوة وقَسم في المبيت بنفسٍ مطمئنّة، هذا هو المطلوب مِن المسلم حتّى يؤدّيَ الواجبَ الذي أوجب الله عليه.
وأسأل الله للجميع العونَ والتّوفيق والتّأييد.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (6/144)، وأبو داود في النكاح (2134)، والترمذي في النكاح (1140)، والنسائي في عشرة النساء (3943)، وابن ماجه في النكاح (1971) من حديث عائشة رضي الله عنها، واختلف في وصله وإرساله، فرجح أبو زرعة والترمذي والدارقطني الإرسال، وصححه ابن حبان (4205)، والحاكم (2761)، وهو مخرج في الإرواء (2018، 2024).
(1/3871)
الحثّ على التواضع
الرقاق والأخلاق والآداب
مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
11/8/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالتواضع. 2- التواضع لله تعالى. 3- التواضع للمؤمنين. 4- التواضع للكبار. 5- التواضع للوالدين. 6- حاجة الدعاة ورجال الحسبة والعلماء إلى التواضع. 7- التحذير من الكبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في صحيح مسلم رحمه الله عن عياض بن حمار رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إنّ الله أوحى إليّ أن تواضعوا، حتى لا يفخرَ أحدٌ على أحد، ولا يبغيَ أحد على أحد)) [1].
أيّها المسلمون، كلمتان عظيمتان مِن جوامع كلِمِه ، يرشد بها أمّتَه إلى الطريق المستقيم والمنهج القويم في تعامل بعضهم مع بعض، ((إنّ الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخرَ أحد على أحد، ولا يبغيَ أحدٌ على أحد)).
أيّها المسلمون، التواضعُ خلقٌ شريف يمنحه الله من يشاء من عباده، فيجعل في قلبه التواضع، وهذا التواضعُ عزٌّ للمسلم، وشرفٌ له، ورفعٌ لقدره في الدنيا والآخرة. وبضدِّه الكبرُ والبغي على الناس، ذلٌّ وهوان في الدنيا والآخرة. والتواضعُ نعمةٌ يتفضّل الله بها على من يشاء من عبادِه.
وأعظمُ التواضع تواضعُك لربّك جل وعلا، وذاك بأن تستيقنَ وتستحضرَ عظيمَ نِعَم الله عليك، وعظيمَ فضله وآلائه وإحسانه إليك، فهو الذي خلقك، وهو الذي ربّاك بالنعم، وهو الذي منحك السمع والبصرَ والفؤاد، وهو الذي خلقك في أحسَن تقويم، وهو الذي غمرَك بنعمِه ظاهرةً وباطنة، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ?للَّهِ [النحل:53]، عَلَّمَ ?لإِنسَـ?نَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:5]، وَ?للَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـ?تِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ?لْسَّمْعَ وَ?لأبْصَـ?رَ وَ?لأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]. فإذا عرف العبدُ عظيمَ نِعَم الله عليه وعظيمَ آلائه تواضَع لعظمةِ ربّه، واستكان لربِّه، وذلّ لربِّه، تواضُعًا يدعو إلى العمَل الصالِح والاستقامةِ على الخير، إنّه يتفكّر في نِعَم الله، فلا يطغَى، ولا يعجَب بنفسِه، ولا يتكبَّر على ربِّه، ما به من إيمان وعملٍ صالح فبتوفيقِ الله، وَلَـ?كِنَّ ?للَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ?لإيمَـ?نَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ?لْكُفْرَ وَ?لْفُسُوقَ وَ?لْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ ?لراشِدُونَ [الحجرات:7]، وقال: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـ?مَكُمْ بَلِ ?للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـ?نِ إِنُ كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [الحجرات:17]، وقال جل وعلا: وَلَوْلاَ فَضْلُ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ ?لشَّيْطَـ?نَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
فالإيمان والعملُ الصالح والاستقامة عليه مِنّة من الله على عباده، لَقَدْ مَنَّ ?للَّهُ عَلَى ?لْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ?لْكِتَـ?بَ وَ?لْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـ?لٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164].
إذًا فكلُّ الفضل والنِّعَم ظاهرةً وباطنةً من الله تفضُّلاً وإحسانًا، إذًا فالمسلم يتواضَع لربِّه بقبولِ أمره، والبُعد عن نهيه، والسمعِ والطاعة له ولرسوله ، ولذا وصَف النبيّ ضدَّ ذلك بالكبر، فوصف الكبرَ بقوله: ((الكبرُ بطر الحقِّ وغَمط الناس)) [2] ، فَلا يردُّ الحقَّ إلا متكبِّر، ولا يغمط الناسَ حقوقَهم إلا متكبِّر، أما القابل للحقّ والراضي به والمستجيبُ لله ورسوله فذاك المتواضعُ حقًّا.
وقد توعّد الله المعرضين عن دينه بأعظم وعيد، توعَّد الله من تكبّر عن دعائه بأعظم وعيد، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60].
أيّها المؤمن، يا من منحَه الله الإيمان والعمل الصالح، تواضَع لربِّك، وإيّاك أن تعجَبَ بعملِك وتظنّ أنّ ذلك بسبب قدرتِك، لا، بل هي بفضلِ الله عليك، وأعمالك الصالحةُ سببٌ، والكلُّ بتدبير الحيّ القيّوم، ولهذا يقول لمّا سئِل عن دخول الجنة: أيدخلها الإنسان بعَمَله؟ قال: ((لن يدخلَ أحدُكم الجنّةَ بعمله)) ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلاّ أن يتغمّدنيَ الله برحمةٍ منه)) [3].
فيا أيّها المؤمن، استقِم على الطاعة، واعرف أنّ هذا فضلٌ من الله عليك، فإيّاك أن تعجَبَ بعمَلك، أو أن تُدْليَ على الله بعملك، فلولا فضل الله عليك ما اهتديتَ، ولولا فضل الله عليك ما انشرَح صدرك بقبول الحقّ، ولولا فضل الله عليك ما قمتَ بما قمتَ به من الواجبات، كم ضلَّ قومٌ لديهم قوًى سمعٌ وبصر وفؤاد، ولكن لما حِيل بينهم وبين التوفيق لم تنفعهم تلك الحواسّ، قال جل وعلا: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَـ?رًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى? عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَـ?رُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَىْء إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِئَايَـ?تِ ?للَّهِ وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ [الأحقاف:26]، وأخبر عن أهل النّار أنّهم يقولون يوم القيامة: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَـ?بِ ?لسَّعِيرِ [الملك:10].
فالله الذي منحك الإيمانَ، ومنحك الثباتَ عليه، فاشكر اللهَ على هذه النّعمة، وسَله أن يثبّتَك على الهدى، وأن لا يزيغَ قلبَك بعد إذ هداك، وارحَم أهلَ الانحراف عن الهُدى رحمةً تقتضِي دعوتَهم إلى الخَير ونصيحتَهم وتبيينَ الحقّ لهم، عسى الله أن يفتح على قلوبهم ويهديهم صراطه المستقيم.
أيّها المسلم، ومِن التواضُع أن تتواضعَ لإخوانِك المؤمنين قال جلّ وعلا: وَ?خْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، وقال جلّ وعلا لنبيِّه: وَ?صْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ ?لَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِ?لْغَدَاةِ وَ?لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَ?تَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28]، وقال له أيضًا: عَبَسَ وَتَوَلَّى? أَن جَاءهُ ?لأَعْمَى? وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى? أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ?لذّكْرَى? أَمَّا مَنِ ?سْتَغْنَى? فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى? وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى? وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى? وَهُوَ يَخْشَى? فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى? [عبس:1-10]، هكذا أرشد الله نبيَّه أن يتواضعَ لأهل الإيمان وأهل التقى تواضُعَ محبّة وإناسٍ بهم وانشراح صدرٍ لهم، ومحبّتهم ومواساتهم والوقوف معهم، وَإِذَا جَاءكَ ?لَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِئَايَـ?تِنَا فَقُلْ سَلَـ?مٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى? نَفْسِهِ ?لرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الأنعام:54]، وقال جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى ?للَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ?لْكَـ?فِرِينَ [المائدة:54]، فهم مَع المؤمنين تواضُع ومحبّة ومودّةٌ وموالاة، قال جلّ وعلا في وصفِ أصحاب نبيّه : مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ?لْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، هكذا المؤمن مع إخوانه المؤمنين، هذا التواضُع يدعوهُ إلى نصيحتهم ومحبّتهم والبعدِ عن غِشِّهم وخيانتهم، وأن يكونَ موقفه معهم موقفَ المحِبِّ الناصح الباذل للخير البعيدِ عن الشرّ، فيأمنون شرَّه، ويأمنون غوائلَه، ويأمنون خبثَه، ويأمنون غِشَّه، ويأمنون خيانتَه، ويؤمِّلُون فيه بعدَ الله الخيرَ والهدى، وفي الحديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) [4].
أيّها الشاب المسلم، تواضَع لمن هو أكبرُ منك سنًّا، تواضُعًا يقتضي إكرامه وإجلالَه، وأن لا تؤذيَه، وأن لا ترفع صوتك عليه، وأن تذكرَ له كبرَ سنّه وعمرَه في الإسلام، في الحديث يقول : ((إنّ من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبةِ من المسلمين وحاملِ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه)) [5] ، فإكرامُك ذا الشيبة من المسلمين دليلٌ على تواضعك، إكرامك له دليل على نفسِك الطيّبة، إكرامُك له دليل على أصالتِك في الخير. فإيّاك أن يخدعَك شبابُك، فلا تبالي بالأكبر سنًّا ولا تنظر له إلا نظرَ احتقارٍ وازدراء، هذا كلّه نقصٌ في الإيمان. أمّا التواضع في المسلم فيجلّ الكبير ويحترمه، ويرى له فضلاً وسابقة، هكذا أرْشد النبيّ أمته ورباهم على هذا الخلق الكريم، وفي الحديث: ((ليلِني منكم أولو الأحلام والنهى)) [6] ، يعني أن يكونوا قريبًا من الإمام في الصلاة.
أيّها المسلم، إنّ أعظمَ [الحقوق] عليك بعدَ حقّ الله حقُّ الوالدين، فقد أمرك الله بالتواضع لهما والذلِّ لهما في الطاعة، قال جل وعلا: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]، اخفِض لهما جناحَ الذلِّ من الرحمةِ، أي: تواضَع لهما تواضعًا مقرونًا برحمَة، ومقرونًا بعَطف، كلماتٌ طيّبة، وخطاب لطيف، وتعامل يشفّ عن رحمةٍ وإحسان وتقدير للمواقف وتذكُّر للجميل السابق والمعروف الماضي، هكذا يكون المسلم، وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ [الإسراء:24]، فلا ترفَع الصوت عليهما، ولا تقسو عليهما في الخطاب، ولا تعاقبهما عن زللٍ، وإنما التواضعُ لهما والمحبّة والشّفقة، والخِدمة والحنان والتلطُّف في الأقوال والأعمال، هكذا يكون المسلم.
وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا ، مع هذا التواضُع ومع هذا العمل يدعو الله أن يرحمَهما ويحسنَ إليهما، فلسان حاله يقول: يا ربّ لم أستطع القيامَ بحق الأبوين، يا ربّ لم أقدر على أن أوفيهما حقَّهما مع البرّ والإحسان، يسأل الله لهما المزيدَ من الخير والرّحمة، هكذا يكون المسلم مع أبَويه، هكذا المسلم الحقيقيّ الذي يرجو الله ويخاف عقابَه، وقد جعل الله برَّهما سببًا لصلاح القلب وبركةِ الرزق وتواصُل البرِّ في الأبناء والأحفاد، فضلُ الله، وفي الأثر: ((برّّوا بآبائكم تبرّكم أبناؤكم)) [7].
ومِن التواضع المطلوب للدّعاة إلى الله، فالدّعاة إلى الإسلام والدّعاة إلى شرع الله يجب أن يكونَ عندهم التواضع التامّ، هذا التواضعُ يظهَر في حُسن عرضهم لمحاسن الإسلام وأخلاق الإسلام، ويعلَموا أنّ الدعوةَ إلى الله عملٌ من أشرف الأعمال، بل هو خُلُق النبيّ وأنبياء الله السابقين فليكن الداعي إلى الله على جانبٍ من الحِلم والصّفح والعَفو واللُّطف في الأقوال: ?دْعُ إِلِى? سَبِيلِ رَبّكَ بِ?لْحِكْمَةِ وَ?لْمَوْعِظَةِ ?لْحَسَنَةِ وَجَـ?دِلْهُم بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل:125].
لا يقصِد بدعوتِه شماتةً بآخرين، ولا إذلالاً لهم وتكبّرًا عليهم، وإنما هدفُه إنقاذهم من الضلالة، إنقاذهم من مخالفة شرع الله وهدايتُهم إلى الطريق المستقيم، ولذا كان نبيّنا رأسَ المتواضعين في الدعوة إلى الله بحِلمه وصَفحه وتواضُعه الجَمّ، ملَك القلوبَ بأعماله وأخلاقه ، يقول الله له: فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ ?لْقَلْبِ لانْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَ?عْفُ عَنْهُمْ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى ?لاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ [آل عمران:159]، فكان أحلمَ الخلق وأكرمَ الخلق وأعظمَهم تواضعًا، من رأى مُحيَّاه أحبَّه وعرف أنّ وجهه وجهُ خير وهدًى صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
فالدّعاة إلى الإسلام إن يكن عندهم تواضعٌ أقبل الناس إليهم، وأصغوا إلى مقالتهم، واستمعوا لما يعرضونه، وإن يكن تكبّرٌ وأنَفَة فإنّ ذلك يصرف الناسَ عنهم وعن قبول دعوتهم.
أيّها الآمرون بالمعروف والنّاهون عن المنكر، إنّ التواضعَ مطلوبٌ منكم، فأنتم أمَرَة بخير ونُهاة عن شرّ، فاحذروا أن يكون هدفكم إذلالَ الناس أو إهانتهم، أو أن يكونَ الآمر بالمعروف يقصد بأمره غيرَ المقصَد الحسَن. فمروا بالمعروف، وانهَوا عن المنكر على وفق شرع الله، وليكن التواضع رائدًا لكم في أحوالكم كلِّها، ليكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منطلقًا من رحمةٍ بالمسلمين وإحسان إليهم وشفَقة عليهم ومحبّة إنقاذِهم من النار، فلا تشمِتوا بهم، ولا تستهزئوا، ولا تحتقِروا، ولا تخاطِبوا إلاّ بكلِّ خِطاب فيه رِقّة ولين، والله يقول لنبيّيه في مخاطبتِهما لأعظم عدوّه: فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى? [طه:44].
أيّها العلماء، ويا أيّها المنتسِبون إلى العلم، ليكن العلم سببًا للتواضع، وسببًا لخفض الجناح، فإنّ العلم إذا دعا إلى التواضُع صار عِلمًا نافعًا، وإن دعا العلم إلى الكِبر والإعجابِ بالنفس والانخداع بها صار ـ والعياذ بالله ـ عِلمًا سيّئًا، ولم يكن علمًا نافعًا. فالعلم النافع يدعو إلى التواضع، ويدعو العالمَ إلى أن يكونَ متواضِعًا، ليمدّ الناسَ بالخير، ويوجّههم للطريق المستقيم، تواضعًا يقبَل الحقَّ ممّن جاء به ولو خولِف في رأيِه أو خولِف في قوله فلا يهمّه ذلك، هدفُه إصابة الحقّ والعمَل به، فلا يستنكِف أن يقالَ له: أخطأتَ أو أن يقال: خالفتَ الصواب؛ لأنّ هذا ينافي التواضع المطلوبَ من المنتسبِ إلى العلم والهدى.
فليكن التواضُع رائدًا فيما بيننا، هكذا ربّى الإسلام المسلمين، ربّاهم محمّد على هذه الأخلاق الكريمةِ والأعمال الطيّبة، وصدق الله إذ يقول لنبيّه : وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الجنة (2865).
[2] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (91) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في كتاب المرضى (5673)، ومسلم في كتاب صفة القيامة (2816) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وفي الباب عن عائشة وجابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.
[4] أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (13)، ومسلم في كتاب الإيمان (45) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[5] أخرجه أبو داود في الأدب (4843)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (8/163) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وحسنه النووي في رياض الصالحين (173)، وابن حجر في التلخيص الحبير (2/118)، والألباني في صحيح الترغيب (98). وقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد (357)، وابن أبي شيبة (6/421) عن أبي موسى موقوفا، قال ابن عبد البر في التمهيد (17/430): "وقد روي مرفوعا من وجوه فيها لين".
[6] أخرجه مسلم في الصلاة (432) عن أبي مسعود البدري وعن ابن مسعود رضي الله عنهما، وهما حديثان، وقد عُدّا في طبعة محمد فؤاد عبد الباقي حديثا واحدا.
[7] روي مرفوعا ولا يصح، انظر: السلسلة الضعيفة (2039، 2043).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
يقول : ((ما نقَصت صدقة مِن مال، وما ازداد عبدٌ بعفوٍ إلاّ عِزًّا، وما تواضع عبدٌ لله إلا رفعه الله)) [1].
إيّاك والكبرَ أخي المسلم، إيّاك أن يغرّك مالك، أو يغرّك جاهُك أو منصبك، أو يغرّك عِلمك أو أيّ أمر مِن الأمور، أن تتكبّر على إخوانك أو تحتقرَ إخوانَك المسلمين وتراهم أقلَّ منك منزِلة، فلا ترى لهم قدرًا ولا قيمة.
يقول : ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يكذِبه ولا يحقره، التقوَى ها هنا ـ وأشار إلى صدره ـ ، بحسب امرِئ من الشرّ أن يحقِرَ أخاه المسلم، كلُّ المسلم على المسلم حرام، دمُه وماله وعِرضه)) [2].
إنّ الشيطانَ يزيّن لابن آدم الكِبر، ويجعل التواضعَ ذلاً وهوانًا، فيغرِيه بالكبر حتّى يطغى، قال الله: كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6، 7]، ربّما تكبّر على رحِمه لكونِهم فقراءَ أو جهّالاً، ويرى منزلتَه فوق منزلتهم، ويرى أنّهم لا قيمةَ لهم لكونهم لم يبلغوا منزلته مالاً وجاها ونحو ذلك.
إنّ عدوَّ الله ربّما يزيّن للمسلم احتقارَ المسلمين عمومًا، فيرى من لم يبلغ مبلغَه أنه شخصٌ لا قيمةَ له ولا وزنَ له في الحياة، هكذا يصوّر الشيطانُ لضعفاء الإيمان. أمّا المسلم الذي يعلم أنّ الأمر بيد الله، وأنه يعِزّ من يشاء ويذلّ من يشاء ويدبّر الأمور بما شاء، لا مانِع لما أعطى ولا معطيَ لما منع، فهو يتواضع لربّه، ويتواضع لإخوانه المسلمين في المعروف، هكذا المسلم.
أسأل الله أن يوفّقَني وإيّاكم لصالح العمل.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[2] أخرجه مسلم في البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
(1/3872)
فضل الوضوء
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الطهارة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
18/8/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين اليسر. 2- مقصد الطهارة في الإسلام. 3- من فضائل الوضوء. 4- ضرورة استحضار النية الصالحة عند الطهارة. 5- طهارة أصحاب الأعذار. 6- التحذير من الإسراف في الطهور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله جلّ جلاله لمّا ذكر وجوبَ الوضوء عند إرادة الصّلاة وشرع التيمّمَ للعاجز عن استعمالِ الماء أو الفاقِد للماء أعقب ذلك بقوله: مَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ وَلَـ?كِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
أيّها المسلمون، فليتأمّل المسلمُ هذه الآية وما اشتملت عليه من هذه الأمورِ الثلاثة.
فأوّلها: أنّ اللهَ جلّ جلاله بيّن لنا أنّ ما فرض علينا مِن الفرائض ليس المقصودُ منه إلحاقَ الحرج بنا والتضييقَ علينا، ولكن المراد به تطهيرنا وإتمامُ نعمته علينا، فقال: مَا يُرِيدُ ?للَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ. فهو جلّ وعلا يسّر هذه الشريعة، وجعلها شريعةَ يُسر، لما أوجب الوضوء بالماء شرع لنا إذا عدمناه أن نعدلَ إلى التيمُّم لرفعِ الحرج عنّا، وهو يريد أن يطهّرَنا ويتمَّ نعمتَه علينا.
أجَل أيّها الإخوة، إنّ في الوضوء طهارةً للقلوب، طهارةً للنفوس، طهارةً لأعضاءِ الوضوء، فهي طهارة حسّيّة وطهارة معنويّة، وَلَـ?كِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بما رتّب على هذا الوضوء من الثوابِ العظيم والأجر الكبير، وذا داعٍ لنا إلى أن نشكرَه تعالى، ونثنيَ عليه بما هو أهله، فهو شرَع الشرائع لمصلحةِ العباد، ولينالوا بها الخيرَ والفضل منه تعالى الله وتقدّس، لا إلهَ غيره ولا معبودَ سواه.
أيّها المسلم، هذا الوضوءُ الذي تُمِرُّه على الأعضاء عند إرادةِ الصلاة فرْضها ونفلها، هذا الوضوءُ له ثوابٌ عظيم، وله فضلٌ كبير، عندما يتأمّل المسلم ذلك يزداد شكرًا لله وحمدًا لله وثناءً على الله، لِما يسّر وهيّأ من فُرص الثوابِ العظيم.
فمِن فضائل هذا الوضوء أنّ المحافظَ عليه دالّ على إيمانه، يقول : ((ولا يحافِظ على الوضوءِ إلا مؤمن)) [1].
ومِن فضائِله أنّه شرطٌ لصحّة الصلاة، ((لا يقبل الله صلاةَ أحدكم إذا أحدَث حتّى يتوضّأ)) [2].
ومِن خصائص هذا الوضوءِ أنّه السّيمة التي تتميّز بها أمّة محمّد مِن بين سائر الأمم يومَ القيامة، يقول : ((إنّ أمّتي يأتون يومَ القيامة غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء)) [3] ، ويقول : ((تبلغ الحليةُ من المؤمن حيث يَبلغ الوضوء)) [4] ، فأمّة محمّد يومَ القيامة سيماهم أنّهم غرٌّ محجَّلون. هذه الأعضاءُ التي طالما أمَرّوا عليها الماء يومَ القيامة يخرُجون مِن قبورهم تتلألأ تلك الأعضاءُ نورًا يُرَى بالأبصار، آثار الوضوء نورٌ يوم القيامة في وجوهِهم وأيديهم، ذ?لِكَ فَضْلُ ?للَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [المائدة:54].
قال يومًا لأصحابه لمّا خرج إلى القبور فسلّم على أهل القبور فقال: ((السلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنّا رأينا إخوانَنا)) ، قال الصحابة: يا رسول الله، ألسنا إخوانك؟! قال: ((أنتم أصحابي، إخواني من يأتون بعدكم)) ، قالوا: كيف تعرفُهم؟ قال: ((غرٌّ محجّلون، أرأيتم لو أنّ رجلاً له خيلٌ دُهم بُهم بين خيلٍ محجّلة، ألا يعرِف خيلَه من خيلِ غيره؟!)) قالوا: بلى، قال: ((فإنّهم يأتوني يومَ القيامة غرًّا محجَّلين، وأنا فرطهم على الحوض)) [5] ، هكذا أخبر أنه يعرِفهم يومَ القيامة بهذه الصّفة، وأنّهم يرِدُون حوضَه، وأنّه أمامَهم ينتظرهم.
أخي المسلم، هذا الوضوءُ مكفّرٌ لسيِّئاتك وما مضى من ذنوبك بإخبار الصّادق المصدوق ، يقول : ((إذا توضّأ المؤمن فغسَل وجهَه خرج مِن وجهه كلُّ خطيئة نظَر إليها بعينَيه مع الماء أو مع آخِر قطرِ الماء، فإذا غسَل يدَيه خرج من يدَيه كلّ خطيئة بطشَتها يداه مع الماء أو مع آخِر قطرِ الماء، فإذا غسل رجليه خرجَت كلّ خطيئة بطشَتها رجلاه مع الماء أو مع آخرِ قطر الماء، حتّى يخرجَ نقيًّا من الذنوب)) [6].
أخي المسلم، إذًا فعند وضوئِك استحضِر هذه النيّةَ الصالحة، وأيقِن بما وعدَك به نبيّك ، وهو الصادق المصدوق فيما يخبر به.
وقد أخبَر عن نوعٍ آخر من الثواب، فروى عثمان بن عفّان أمير المؤمنين أنّ النبيّ قال: ((ما مِن مسلم تحضُره صلاة فيحسِن وضوءَها وخشوعَها وركوعها إلاّ كفّرت ما بينها وبين الأخرى ما لم تُأتَ كبيرة)) [7] ، ويروي عثمان بن عفان أيضًا عن رسول الله أنّه قال: ((إذا توضّأ المسلم خرجَت خطاياه من جسدِه حتّى تخرجَ من تحتِ أظفارِه، وكان صلاتُه ومشيه إلى المسجد نافلة)) [8].
فيا أخي المسلم، كيفَ لا يفرَح المسلم بهذا الثواب العظيم وينشرحُ صدره بهذا الثواب العظيم؟! فيؤدّي تلك الأعمالَ الصالحة بيقين ونيةٍ صادقة، يرجو بها ما وعد الله به مِن الثواب العظيم، وهذا وعدٌ حقّ يناله المسلم برحمةٍ من الله وفضل. إنّما على المسلم أن يكونَ [مستحضرًا النيّةَ الصالحة]، قاصدًا رضَا الله وتطبيقَ سنّة محمّد.
ويروي عثمان رضي الله عنه أيضًا لمّا توضّأ قال: إنّ النبي قال: ((من توضّأ نحوَ وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدِّث فيهما نفسَه إلاّ غفر الله له ما تقدّم من ذنبه)).
فهذه أمورٌ واضحة، فعلى المسلمِ أن يستحضرَ ذلك، ويرجو رحمةَ ربّه. فلِلَّه، كم للمصلّين من ثوابٍ عظيم إذا كان هذا فضل الوضوء، فناهيك بفضل الصّلاة والمحافظةِ عليها، فالمسلم في خيرٍ في أحواله كلّها، نسأل الله لنا ولكم الثبات والاستقامةَ على الحقّ والهدى.
أيّها المسلم، ثمّ مِن فضل الله على المسلم أنّ هذا الوضوءَ إذا أدّاه المسلم فإنّه بأدائِه له ينال أيضًا ثوابًا عظيمًا غير ذلك.
فذكر عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: كانت علينا رعايةُ الإبل فرُحتُ بها عشيّةً، فإذا رسول الله يذكر الوضوءَ ويقول: ((من توضّأ فأحسنَ الوضوء ثمّ صلى ركعتين مقبلاً عليهما بوجهه وقلبِه إلاّ وجبت له الجنة)) ، قال: قلت: ما أعظم هذا! فإذا قائلٌ بين يدَيه يقول: والتي قبلَها أفضل، فإذا عمَر رضي الله عنه فقال لي: سمعتُك أتيتَ قريبًا، وقد قال قبلَ أن تأتِي: ((ما مِن مسلمٍ يتوضّأ فيحسن الوضوء ثم يقول: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله" إلاّ فتِحت له أبواب الجنّة الثمانية، يدخل من أيّها شاء)) [9].
فهذه أحاديثُ صحيحة ثابِتة عن محمّد ، فإنّ المسلم إذا أدّى عبادةً من العبادات طاعةً لله ثمّ رَجا رحمة ربِّه وسأله من فضله وكرمه فإنّه أكرم الأكرمين وأجوَد الأجودين، فإذا كانت هذه الكلِمات الصادقة مِن القلب المسلمِ تُفتَّح له بها أبواب الجنّة الثمانية، يدخُل من أيِّها شاء، فلْيهنَأ المسلم بذلك الفضل، وليفرَح بفضلِ الله، وليفرَح بكرَم الله، ولينشرِح صدره لهذا الدّين، وليؤدّ فرائضَ الإسلام عن قناعةٍ وطاعة لله، ورضًا بها ومحبةً لها وشكرًا لله أن هدَاه للإسلام، وشرَح صدره له، وجعَله من المسلمين.
هذا الثوابُ العظيم ليس مخصوصًا بيومٍ، بل في بعض الآثار: ((وذلك الدّهرَ كلَّه)) [10] ، يعني أنّ هذه الأعمالَ مستمرٌّ خيرُها، كلّ يوم والمسلم يتعرّض لهذا الثواب، ويتعرّض لهذه النّعمة العظيمة، فيشكر اللهَ على فضلِه، ويشكره على إحسانِه، ويسأله أن يثبّتَه على دينِه، وأن لا يزيغَ قلبَه بعد إذ هداه. وليحافِظ على فرائض الإسلام محافظةَ المؤمن المقتنِع بها، الرّاضي بها، المحبِّ لها. وفّقني الله وإيّاكم لما يحبّه ويرضاه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/276، 280، 282)، وابن ماجه في كتاب الطهارة وسننها، باب: المحافظة على الوضوء (277)، والدارمي في كتاب الطهارة، باب: ما جاء في الطهور (655، 656) عن ثوبان رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (1037)، والحاكم (448، 449)، والمنذري في الترغيب (1/97). وله شواهد من حديث عبد الله بن عمرو ومن حديث أبي أمامة رضي الله عنهما، وقد صححه الألباني في إرواء الغليل (412).
[2] أخرجه البخاري في الحيل (6954)، ومسلم في الطهارة (225) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الوضوء (136)، ومسلم في الطهارة (246) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في الطهارة (250) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في الطهارة (249) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في الطهارة (244) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[7] أخرجه مسلم في الطهارة (228) نحوه.
[8] أخرج مسلم جزءه الأول في الطهارة (245)، وأخرج جزءه الأخير في الطهارة أيضا (229).
[9] أخرجه مسلم في الطهارة (234) بنحوه.
[10] أخرجه مسلم في الطهارة (228) عن عثمان رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ الله الذي أوجَب علينا غَسلَ الوجهِ واليدين ومسحَ الرأس وغسلَ الرِّجلين في الوضوء، هذا الواجبُ العظيم جعَله الله فرضًا لكلّ صلاة، وإذا لم يستطِع لعدم الماء أو عدَم قدرته على استعمال الماء جعل الله التيمّمَ بالتّراب قائمًا مقامَ الماء: فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيّبًا فَ?مْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مّنْهُ [المائدة:6]، هذا فضل الله علينا، وكرمُه علينا، لأنّ شريعة الإسلام جاءت باليُسر والتّسهيل، قال الله جلّ وعلا في وصفِ نبيّه : وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ?لأغْلَـ?لَ ?لَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]، فمحمّد وضَع الله به الآصارَ والأغلال التي كانت على مَن قبلَنا، فجعل شريعتَنا شريعةَ يسرٍ وسهولة، فله الفضل والمِنّة على ذلك.
أخي المسلم، إنّ البعضَ من النّاس قد يشكِل عليه هنا أمور، فمنها مثلاً لو أنّه أصيبَ بجرحٍ في أحدِ أعضاء وضوئِه لا يستطيع أن يمِرّ الماءَ عليه، فنقول: هذا الجرحُ إن أمكنَ مسحُه بالماء مسحتَه وكفَى عن غسلِه، وإن لم يمكِن مسحُه بالماء وضعتَ عليه عِصابة تحفَظه، وأمكَن المسحُ على ذلك الموضوع على الجرح فمسحتَه كفاك، وإن تعذَّر عليك الأمر فلم تستطع المسحَ عليه ولا على ما غطّي عليه فإنّك تتيمّم ويقوم التيمُّم مقامَ ذلك العضوِ الذي عجزتَ عن استعماله، وإذا عجزَ المسلم عن استعمال الماء ولم يقدِر عليه لكونِه مريضًا، لكونِه عاجزًا عن الوضوء، فإنّ التيمّمَ يقوم مقامَ الماء؛ لأنّ ذلك طاعةٌ لله، فيضرِب بيدَيه الترابَ ضربةً واحدة، يمسَح بهما وجهَه ثمّ يمسح بعضها ببعض، ويكفِي ذلك والحمد لله ربِّ العالمين.
بعَث النبيّ عمّار بنَ ياسر في حاجةٍ فأجنَب فلم يجِد الماء، فقام عمّار يتمرّغ في الترابِ تمرّغًا يريدُ أن يُعمَّ التراب على جميع بدنِه كالماء، فلمّا أتى النبيَّ وأخبره قال له: ((إنّه كان يكفيك أن تضربَ بيدَيك الأرضَ مرّة واحدةً فتمسَح الشمالَ على اليمين، وتمسَح ظاهرَ وجهك وكفّيك)) [1] ، هذه سنّة رسول الله ، فإنّ التيمّمَ مباح لمَن عدم الماء ولم يجِده، ومشروعٌ لمن عجَز عن استعمال الماءِ لمرضٍ أو نحو ذلك، كلّ هذا من التّيسير والتّسهيل على هذه الأمة، المُراد أن يكونَ في القلبِ انقيادٌ لشرعِ الله وسمعٌ وطاعة لله ورسولِه، جعلني الله وإيّاكم من السّامعين المستجيبين لله ورسوله، إنّه على كلّ شيء قدير.
أخي المسلم، ثمّ إنّ الإسلامَ منعك مِن الإسراف في الوضوء، وأمرك أن تكونَ معتدِلاً في وضوئك، فلا إسرافَ في الوضوء، ولا تكن كحالِ الموسوسين الذين ربّما توضّأ الإنسانُ منهم مرارًا متعدِّدة، ربّما توضؤوا مرّتين وثلاثة وأكثَر، كلّ ذلك من وساوس الشّيطان، فإيّاك أن يخدعَك الشيطان بوساوسِه، فإنّ في الحديث: ((إنّ للوضوءِ شيطانًا يقال له الوَلهان)) [2] ، يوسوِس على المسلم، حتّى يظنّ أنّه ما عمِل شيئًا.
وبعضُهم يُصاب بداءِ الوسوَسة في وضوئِه، وربّما استمرّ في أماكِن الوضوءِ ساعةً أو أكثر، وكلّ هذا مِن تلبيسِ الشيطان، فأرغِم أنفَ عدوِّ الله بعدَم الانقياد لهذه الوَساوس والتّرفُّع عنها، وفّق الله الجميعَ لما يرضيه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالاً لأمر ربكم إذ يقول: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في التيمم (347)، ومسلم في الحيض (368).
[2] أخرجه الطيالسي (547)، ومن طريقه الترمذي في الطهارة (57)، وابن ماجه في الطهارة (421)، وابن خزيمة (122)، والحاكم (578)، والبيهقي في الكبرى (1/197) وغيرهم عن أبي بن كعب رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث غريب، وليس إسناده بالقوي عند أهل الحديث، لأنا لا نعلم أحدا أسنده غير خارجة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن الحسن قوله، ولا يصح في هذا الباب عن النبي شيء، وخارجة ليس بالقوي عند أصحابنا، وضعفه ابن المبارك"، قال ابن سيد الناس كما في الفيض (2/503): "لا أدري كيف دخل هذا في الصحيح"، والحديث ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة وابن عدي والبيهقي والنووي وابن الجوزي وابن القيم وابن حجر وغيرهم، وذكروا أن رفعه منكر، وهو في ضعيف سنن الترمذي (9).
(1/3873)
متغيرات العصر وتكالب الأعداء على العمل الإرهابي في الرياض
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأمن وجمع الكلمة. 2- خطورة مسائل التكفير. 3- الآثار المدمّرة لعمليات الفئة الضالة. 4- حرمة الاعتداء على الأنفس المعصومة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى بفعل مرضاته والبُعد عن محرماته؛ تكونوا من عبادِه المتّقين الذين وفَّقهم وأسعدهم ربُّهم في الدنيا، وآتاهم حسنَ الثواب في الأخرى.
عباد الله، في ظلّ الأمن والأمان تحلو العبادة، وبالعبادة الصحيحة تحلو الحياة. الأمن والأمان هما عماد كلّ جهد تنمويّ وهدف مرتقب لكل المجتمعات على اختلاف مشاربها، بل هو مطلب الشعوب كافة بلا استثناء، ويشتد الأمر له خاصة في المجتمعات المسلمة، ويتأكد مطلبه في هذه البلاد خاصة؛ لأنها بلاد الحرمين وموئل الإسلام وحصنه الحصين. والمجتمعات إذا آمنت أمنت، وإذا أمنت نمت، فانبثق عنها أمن وإيمان ودعوة، إذ لا أمن بلا إيمان، ولا نماء بلا ضمانات واقعية ضد ما يعكر الصفو في أجواء الحياة اليومية.
والأمن هو طمأنينة النفس وعدم خوفها، وهو اطمئنان الفرد والأسرة والمجتمع على أن يحيوا حياة طيبة في الدنيا، لا يخافون على دينهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم ونسلهم وأعراضهم من الاعتداء عليها، وكذلك الاطمئنان على سعيهم إلى كل ما يرضي ربهم؛ لينالوا الأمن في الآخرة بإحلال رضوانه عليهم. ومن تأمّل مقاصد الشريعة في العبادات والمعاملات والآداب والأخلاق والأوامر والنواهي تبين له مقصد كبير وغاية عظمى، تلكم هي جمع الكلمة وغرس المحبة وزرع الألفة ونشر المودة بين أفراد الأمة، والحث على التناصر والتعاون، بعد إقامة التوحيد وتحقيقه لله تعالى، والبعد عن أسباب العداوة والبغضاء وما يحمل على الكراهة والشحناء وما يثير الأحقاد وضغائن القلوب، والتحذير الشديد من الطعن في المسلمين وعيبهم وهمزهم ولمزهم وإبداء عوراتهم وتتبع عثراتهم والتشهير بهم وفضحهم وإساءة الظن بهم واتهامهم ببدعة أو كفر أو فسوق أو نفاق، ويعظم هذا الأمر ويكون أشد خطورة حينما يقصد به ولاة الأمر من العلماء والحكام.
وإن السبيل الأمثل إلى تحقيق المقصد الأول والبعد عن الثاني هو إقامة شرع الله في الأنفس والجماعات والدول، وإظهار شعار الإسلام وشعائره، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح المشفق لكل مسلم، وعلى رأسهم ولاة الأمر والعلماء الذين جاءت النصوص الربانية والنبوية معظمة لمكانتهم، وداعية إلى توقيرهم واحترام مقامهم في المجتمعات المسلمة، يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، في اليسر والعسر، في المنشط والمكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) رواه البخاري ومسلم. قال بعض العلماء: "لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم"، ولا تكون قوة أهل الإسلام ونفاذ كلمتهم وشدة منعتهم إلا بتناصرهم وتآزرهم ووحدة صفهم والتفافهم حول ولاتهم وعلمائهم.
عباد الله، إن متغيرات العصر ومضلات الفتن وتكالب الأعداء وتداعي الأكلة على القصعة تدعو المسلم الغيور على أمته الناصح لإخوانه أن يربأ بنفسه أن يكون معولاً في يد أعدائه من حيث يدري أو لا يدري، يقع في إخوانه المسلمين، فيشتم هذا، ويشهر بهذا، ويتنقص هذا، ويحتقر ذاك، ويكفر ويبدع، بل قد يسلم منه الكافر والمشرك، ولا يسلم منه أخوه المسلم.
وهذه دعوة إلى وقفة تأمل وتفكر حول فتنة خطيرة وبلية عظيمة تطلّ برأسها الذي يقطر سمًا زعافًا بين الحين والآخر، ينبغي أن يتنادى أهل العلم والإيمان والفضل والصلاح والدين والغيرة إلى مقاومتها والتحذير منها أشد ما يكون التحذير، وهذه الفتنة ليست حديثة العهد بزماننا، بل لقد حذر منها السلف رحمهم الله وبينوا خطرها وعوارها، إنها فتنة تكفير المسلم لأخيه المسلم، والمجازفة بالحكم على المسلم بخروجه من ملة الإسلام، وعدّه من أهل الكفر عياذًا بالله. وهذا أمر خطير وشنيع، يستبين خطره وشدة ضرره بمعرفة ما يترتب عليه من حل دمه وماله.
ومسألة التكفير من المسائل الكبار والقضايا العظام التي لها آثارها وتبعاتها العظيمة في الدنيا والآخرة، ولقد حذّر النبي من مغبّة الوقوع في هذا المزلق الخطير، ففي الصحيحين عن أبي ذر الغفاري أنه سمع النبي يقول ـ فذكر الحديث وفيه ـ: ((ولا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) وهذا اللفظ للبخاري، وعن ثابت بن الضحاك عن النبي أنه قال: ((من رمى مؤمنًا بكفر فهو كقتله)) البخاري، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "اعلم أن مسائل التكفير والتفسيق هي من مسائل الأسماء والأحكام التي يتعلق بها الوعد والوعيد". هذا من جانب هذه البلية العظيمة التي ترتب عليها عند أولئك الذين عميت قلوبهم وصمت آذانهم فانحرفت أفهامهم وغلوا في تفكيرهم وحملوا هذا الانحراف الفكري والضلال العقدي والفساد في التصور، فنتج عنه ما فُجعت به عاصمة بلاد الحرمين من تفجيرات آثمة باغية بغير حق ولا مسوغ من عقل سليم أو من دين قويم، بل هي ضلالات وظلمات بعضها فوق بعض، راح ضحيتها أنفس بريئة معصومة وأموال مصونة وممتلكات محترمة.
إني أتساءل كما تتساءلون، بل المجتمع كله يتساءل، بل أهل الغيرة من المسلمين أيضًا يتساءلون: لماذا هذه التفجيرات في بلاد الأمن ومهبط الوحي؟! ولمصلحة من؟! ومن يقف وراءها؟! إن مثل هذه التساؤلات قد فنّدها العلماء الكبار، وبيّنوا عوارها. إن الجواب المختصر عليها هو أنه الفكر الضالّ والمنحرف في كل تصوّراته، إنه فكر الخوارج الذي لا يرى حرمة لدين ولا عصمة للمعاهدين والمستأمنين، بل تعدّاهم إلى المسلمين المؤمنين، فكفّروهم واستباحوا دماءهم وأموالهم، فسقط بذلك ما كانوا يدعونه ظلمًا وعدوانًا، بل واستطالوا بظلمهم وبغيهم وخيانتهم وغدرهم على ولاة الأمر والعلماء ورجال الأمن في بلاد الإسلام، فروّعوا وأخافوا الآمنين.
أيها المسلمون، لا أحد يشك في شناعة حوادث التفجير التي حصلت، وآخرها الذي وقع يوم أمس الأول، والذي راح ضحيته عدد من الأبرياء من رجال الأمن والمواطنين بغير حق، وهذه الجريمة النكراء التي تنكرها الشرائع السماوية والقوانين الأرضية والعقول السوية لها من المفاسد ما لا يمكن حصره، ومن أبرزها:
1- قتل النفس التي حرم الله تعالى بغير حق، وقد أجمع أهل العلم على أن قتل النفس بغير حق أكبر الذنوب بعد الشرك بالله عز وجل، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، ولو كانت النفس نفس غير مسلم إذا كانت معصومة بالعهد والميثاق، وقد جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة)) رواه البخاري.
2- وزعزعة الأمن في بلاد الحرمين التي أصبحت مضرب المثل في استتباب الأمن واستقراره بين دول العالم، وكم في العبث بالأمن من مخاطر لا يعلمها إلا الله، فكيف تقوم الحياة دون أمن واستقرار؟! وكيف تكون عبادة الله تعالى وارتياد المساجد وأداء الشعائر في حال الخوف والانفلات؟! ولكن كما قال تعالى: فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].
3- والخروج على ولاة الأمر والعلماء بغير حق، والذين نص القرآن على طاعتهم بالمعروف، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقد جاء في الحديث: ((من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى الأمير فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله)) متفق عليه.
4- والانشقاق على جماعة المسلمين ومخالفة سبيلهم، قال تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115]، فما أحوجنا إلى وحدة الصف وجمع الكلمة بعيدًا عن التفرق والتنازع كما قال تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا [الأنفال:46].
5- وإن هذا العمل الإجرامي خدمة لأعداء الإسلام في إيجاد الذرائع لهم في عالمنا الإسلامي، بل في أرض الحرمين؛ ليشنّوا حملاتهم المغرضة على المسلمين سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا وغير ذلك.
فاتقوا الله أيها الناس، وخذوا حذركم، وكونوا يدًا واحدة مع ولاتكم وعلمائكم في وجه كل غادر يريد العبث بأمن البلاد وقتل العباد، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، توعّد المفسدين في الأرض بالعذاب الأليم، وأخبر أنه لا يحب المفسدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين.
أما بعد: فيا أيها الناس، من المفاسد الخطيرة الناتجة عن هذا الجرم الخطير:
6- تشويه صورة الدين الإسلامي في أنظار غير المسلمين، وتشويه مذهب أهل السنة في أنظار المخالفين، فكيف يحسن الظن بمذهب أو دين جعل الدماء ـ في نظر أولئك ـ أرخص ما لديه؟! وكأن إزهاق الأنفس وإراقة الدماء من الأمور اليسيرة السهلة.
7- وإعاقة العمل الوطني والإغاثي والدعوي والإصلاحي، بل أقول: والجهادي في مواطن الجهاد الحقيقية في فلسطين وغيرها؛ بعيدًا عن الأعمال الشاذة من التفجيرات الإرهابية الخالية من الهدف السامي والمقصد النبيل، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، قال الطبري رحمه الله: "معناه: إن الله لا يحب من كان من صفته خيانة الناس في أموالهم وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرمه الله عليه"، وقد نهى أفصح نهي عن الخيانة والغدر، وقال سبحانه: وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِين [يوسف:52]، قال القرطبي رحمه الله: "معناه: إن الله لا يهدي الخائنين بكيدهم"، وقال ابن سعدي رحمه الله: "معناه: فإن كل خائن لا بد أن تعود خيانته ومكره على نفسه، ولا بد أن يتبين أمره"، وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله : ((لكل غادر لواء يوم القيامة، يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدرًا من أمير عامة)) رواه مسلم، قال النووي رحمه الله: "معنى ((لكل غادر لواء)) أي: علامة يشهر بها في الناس". وعن علي قال: (ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل) رواه البخاري ومسلم. قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، قال ابن كثير رحمه الله: "هذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله تعالى في غير ما آية في كتاب الله... والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدًا". وقال تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، قال الطبري رحمه الله: "معناه: ولا يقتل بعضكم بعضًا وأنتم أهل ملة واحدة ودعوة واحدة ودين واحد". وقال في أكبر اجتماع للناس في عصره، كما روى ابن عباس أن رسول الله خطب الناس يوم النحر فقال: ((يا أيها الناس)) إلى أن قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)) فأعادها مرارًا، ثم رفع رأسه فقال: ((اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟)) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: فوالذي نفسي بيده، إنها لوصيته إلى أمته، فليبلّغ الشاهد الغائب: ((لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض)) رواه البخاري، وقال القاضي عياض: "كل هذا تأكيد لحرمة الدماء والأموال والأعراض، وتحريم لمظالم العباد، كتأكيد حرمة يوم النحر من شهر الحج في حرم مكة". وعن البراء بن عازب أن رسول الله قال: ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
أيها المسلمون، لقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة بتحريم الاعتداء على النفس وعدّ ذلك من كبائر الذنوب، إذ ليس بعد الإشراك بالله ذنب أعظم من قتل النفس المعصومة، وقد توعد الله سبحانه قاتل النفس بالعقاب العظيم في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، قال الله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، قال القرطبي: "وهذه الآية نهي صريح عن قتل النفس المحرمة ـ مؤمنة كانت أو معاهدة ـ إلا بالحق الذي يوجب قتلها". وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) رواه البخاري.
هذا، وصلّوا على البشير النذير كما حثّكم بقوله حين قال: ( ( من صلّى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمّر الشرك والمشركين، اللهم عليك بأعداء الملة والدين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم انصرهم في كل مكان يا حي يا قيوم...
(1/3874)
وسائل لإصلاح بيت المسلم
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, قضايا الأسرة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان نعمة البيت والسكن. 2- أهمية العناية بإصلاح البيت. 3- وسائل إصلاح البيت: اختيار الزوجة الصالحة، السعي في إصلاح الزوجة، جعل البيت مكانًا لذكر الله والعبادة، زيارة الصالحين للبيت، الاجتماعات العائلية، عدم إظهار الخلاف أمام الأبناء، الدقة في ملاحظة أهل البيت، إشاعة خلق الرفق، الملاطفة، مقاومة الأخلاق السيئة، تعليق السوط للتأديب، الحذر من منكرات البيوت.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصية الله للأولين والآخرين، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]، وذلك بامتثال أمره واجتناب نهيه.
أيها الناس، إن البيوت نعمة من نعم الله عز وجل على عباده، قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا [الحجر:8]، فالبيت يعدّ ضروريًا لكل حي، فكل حي لا بد له أن يأوي إلى بيت، ولذلك فإن البيت للمسلم مكان أكله ونومه ونكاحه وراحته، ومكان خلوته واجتماعه بأهله وأولاده، ومكان ستر المرأة وصيانتها، قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33].
فإذا ما تأمّلت أحوال الناس الذين لا بيوت لهم ممن يعيشون في الملاجئ أو على أرصفة الشوارع واللاجئين المشردين في المخيمات المؤقتة عرفت نعمة البيت، وإذا ما سمعت حيران مضطربًا يقول: "ليس لي مستقر ولا مكان ثابت فأنا أنامُ أحيانًا في بيت فلان وأحيانًا في المقهى أو الحديقة أو على شاطئ البحر" عرفتَ معنى التشتّت والضياع الناجم عن الحرمان من نعمة البيت؛ ولذلك لما انتقم الله من يهود بني النضير سلبهم هذه النعمة وشرّدهم من ديارهم، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ [الحشر:2]، ثم قال تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2].
أيها المسلمون، إذا علمتم أن البيوت نعمة فإنه يجب شكر هذه النعمة، وشكر هذه النعمة يكون بتسخيرها في طاعة الله والبعد عن معصيته، ولذلك فإنه يجب عليك ـ أيها المسلم ـ الاهتمام بإصلاح بيتك لعدة أمور منها:
أولاً: وقاية النفس والأهل نار جهنم، والسلامة من عذاب الحريق، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
ثانيًا: عظم المسؤولية الملقاة على راعي البيت أمام الله يوم الحساب، قال : ((إن الله تعالى سائل كل راعٍ عما استرعاه: أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)) رواه النسائي وابن حبان عن أنس وهو في صحيح الجامع والسلسلة الصحيحة.
ثالثًا: أنه المكان لحفظ النفس والسلامة من الشرور وكفّها عن الناس، وهو الملجأ الشرعي عند الفتنة، قال : ((طوبى لمن ملك لسانه ووسعه بيته وبكى على خطيئته)) رواه الطبراني في الأوسط عن ثوبان وهو في صحيح الجامع، وقال : ((سلامة الرجل في الفتنة أن يلزم بيته)) رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي موسى وهو في صحيح الجامع.
رابعًا: أن الناس يقضون أكثر أوقاتهم في الغالب داخل بيوتهم، وخصوصًا في الحر الشديد والبرد الشديد والأمطار وأول النهار وآخره وعند الفراغ من العمل أو الدراسة، ولا بد من صرف هذه الأوقات في الطاعات، وإلا فإنها ستضيع في المحرمات والعياذ بالله.
خامسًا وهو من أهمها: أن الاهتمام بالبيت هو الوسيلة الكبيرة لبناء المجتمع المسلم، فإن المجتمع يتكوّن من بيوت هي لبناته، والبيوت أحياء، والأحياء مجتمع، فلو صلحت اللبنة لكان مجتمعنا قويًا بأحكام الله، صامدًا في وجه أعداء الله، يُشِع الخير، ولا ينفذ إليه الشر، فيخرج البيت الصالح إلى المجتمع وأركان الإصلاح فيه من الداعية القدوة والقائد الرباني وطالب العلم المجتهد والمجاهد الصادق والشاب الغيور على دينه وعلى عرضه والبنت العفيفة الطاهرة والزوجة المخلصة والأم المربية وبقية الصالحين المصلحين.
أيها الناس، إذا كان الموضوع بهذه الأهمية وبيوتنا قد نزلت بها المنكرات الكثيرة وأصاب بعضها الضياع والتفريط والحرمان وذلك بسب إهمال إصلاح البيوت، فلذلك فإننا سنتناول بعض وسائل إصلاح البيوت، فنقول: تكوين البيت وإصلاحه يكون بالأمور التالية:
أولاً: حسن اختيار الزوجة، حيث ينبغي على صاحب البيت انتقاء الزوجة الصالحة بالشروط التالية: ((تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) متفق عليه، ((الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)) رواه مسلم، ((ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن ثوبان وهو في صحيح الجامع، ((تزوجوا الودود الولود؛ إني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) رواه البيهقي في الشعب عن أبي أمامة وانظر: صحيح الجامع، ((عليكم بالأبكار؛ فإنهنَّ أنتق أرحامًا وأعذب أفواهًا وأرضى باليسير)) رواه أحمد عن أنس وقال في إرواء الغليل: "صحيح".
وفي المقابل لا بدّ من التبصر في حال الخاطب الذي تقدم للمرأة المسلمة، والموافقة عليه حسب الشروط الآتية: ((إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض)) رواه ابن ماجه وهو في السلسلة الصحيحة.
فالرجل الصالح مع المرأة الصالحة يبنيان بيتًا صالحًا؛ لأن البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا.
ثانيًا: السعي في إصلاح الزوجة، إذا كانت الزوجة صالحة فبها ونعمت، وهذا من فضل الله عز وجل، وإن لم تكن بذاك الصلاح فإن من واجبات رب البيت السعي في إصلاحها، وذلك بالوسائل التالية: الاعتناء بتصحيح عقيدتها وعبادتها بكافة أنواعها، السعي لرفع إيمانها، وذلك بحثها على قيام الليل وتلاوة الكتاب العزيز وحفظ الأذكار والتذكير بأوقاتها ومناسباتها، وحثها على الصدقة وقراءة الكتب الإسلامية النافعة وسماع الأشرطة الإسلامية المفيدة العلمية منها والإيمانية، ومتابعة إمدادها بها، واختيار صاحبات لها من أهل الدين تعقد معهن أواصر الأخوة، وتتبادل معهن الأحاديث الطيبة والزيارات الهادفة، ودرء الشر عنها، وسدّ منافذه إليها بإبعادها عن قرينات السوء وأماكن السوء.
أيها المسلمون، اجعلوا البيت مكانًا لذكر الله وشكره، قال : ((مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميت)) ، فلا بد من جعل البيت مكانًا للذكر بأنواعه المختلفة، سواء ذكر القلب، أوذكر اللسان، أو الصلوات وقراءة القرآن، أو مذاكرة العلم الشرعي وقراءة كتبه المتنوعة. وكم من بيوت للمسلمين اليوم ميتة بعدم ذكر الله فيها، بل ما هو حالها إذا كان الذي يذكر فيها هو ألحان الشيطان من المزامير والغناء والغيبة والنميمة والبهتان؟! وكيف حالها وهي مليئة بالمعاصي والمنكرات كالاختلاط المحرم والتبرج بين الأقارب من غير المحارم أو الجيران؟! فأحيوا بيوتكم ـ رحمكم الله ـ بذكر الله.
ثم اجعلوا بيوتكم قبلة، وذلك باتخاذ البيت مكانًا للعبادة، قال الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ [يونس:87]، قال ابن عباس: (أمروا أن يتخذوها مساجد)، وقال ابن كثير: "وكأنّ هذا ـ والله أعلم ـ لما اشتدّ بهم البلاء من قبل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، أمروا بكثرة الصلاة، كما قال الله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]"، ولنتذكر في هذا المقام محراب مريم، وهو مكان عبادتها الذي قال الله فيه: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا [آل عمران:37]. وكان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على الصلاة في بيوتهم من غير الفريضة، فعن محمود بن الربيع الأنصاري أن عتبان بن مالك وهو من أصحاب رسول الله ممن شهد بدرًا من الأنصار، أنه أتى رسول الله فقال: يا رسول الله، قد أنكرت بُعدي وأنا أصلّي لقومي، إذا كانت الأمطار سال الوادي الذي بيني وبينهم لم أستطع أن آتي مسجدهم فأصلي بهم، وددت ـ يا رسول الله ـ لو أنك تأتيني فتصلي في بيتي فأتخذه مصلى، قال: فقال رسول الله : ((سأفعل إن شاء الله)) ، قال عتبان: فغدا رسول الله وأبو بكر حين ارتفع النهار، فاستأذن رسول لله فأذنت له، فلم يجلس حتى دخل البيت، ثم قال: ((أين تحب أن أصلي من بيتك؟)) قال: فأشرت له إلى ناحية من البيت، فقام رسول الله فكبر، فقمنا فصففنا، فصلى ركعتين ثم سلّم. رواه البخاري.
أيها الناس، لنربي أنفسنا وأهلينا على الإيمان الذي يتبعه العمل، فعن عائشة قالت: كان رسول الله يصلي من الليل، فإذا أوتر قال: ((قومي فأوتري يا عائشة)) رواه مسلم، وقال : ((رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى، فأيقظ امرأته فصلت، فإن أبت نضح في وجهها الماء)) رواه أحمد وانظر: صحيح الجامع. ومما يزيد الإيمان ترغيب النساء في الصدقة، وهو أمر عظيم حثّ عليه بقوله: ((يا معشر النساء، تصدقن؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) رواه البخاري.
عباد الله، إن علينا جميعًا الاهتمام بالأذكار الشرعية والسنن المتعلقة بالبيوت، فمن ذلك أذكار دخول المنزل والخروج منه، وأذكار الصباح والمساء، وغير ذلك.
وعلينا أن نقوم بتعليم أهالينا الأحكام المتعلقة بالصلاة والصيام، وجميع أركان الإسلام والإيمان، وأحكام الحلال والحرام، ومما يساعد في ذلك إتاحة المجال لهم ليتفقهوا في الدين، وإعانتهم على الالتزام بأحكام الشريعة، وعمل مكتبة إسلامية في البيت، وليس بالضرورة أن تكون كبيرة، ولكن العبرة بانتقاء الكتب المهمة، ووضعها في مكان يسهل تناولها، وحثّ أهل البيت على قراءتها، وحبذا لو يضاف إلى المكتبة جزء مهمّ من الأشرطة الدينية المفيدة، ولتكن هذه الأشرطة شاملة للعقيدة الصحيحة والفقه المستمد من الكتاب والسنة والزهد والرقائق والآداب والأخلاق والسلوك، وغيرها من العلوم المهمّة، وأن تكون هذه الأشرطة لأهل العلم المتقنين ذوي العقائد السليمة وأصحاب الزهد والورع والمعتمدين على الأحاديث الصحيحة.
أيها المسلم، ومن الوسائل المهمة لإصلاح بيتك: عليك بدعوة الصالحين والأخيار وطلبة العلم لزيارة البيت، قال الله تعالى عن نوح: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا [نوح:28]. إنَّ دخول أهل الإيمان بيتك يزيدك نورًا، ويحصل بسبب أحاديثهم وسؤالهم والنقاش معهم من الفائدة أمور كثيرة، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، وجلوس الأولاد والإخوان والآباء وسماع النساء من وراء حجاب لما يقال فيه تربية للجميع، وإذا أدخلت خيرًا منعت شيئًا من دخول الشر والتخريب.
وعليك بتعلّم الأحكام الشرعية للبيوت، وتعليمها لأهل بيتك، ومن ذلك أن صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد، فقد قال : ((خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة)) ، وأن لا يؤمّ غيره في بيته، ولا يقعد في مكان صاحب البيت إلا بإذنه، قال : ((لا يؤم الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلا بإذنه)) رواه الترمذي.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد: ومن الوسائل لإصلاح البيوت: إتاحة الفرصة للاجتماعات التي يناقش فيها مشاكل العائلة، فعندها تتاح الفرصة لأفراد العائلة بالجلوس سويًا في وقت مناسب لمناقشة أمور داخلية أو خارجية تتعلق بالعائلة، فإن ذلك يعد علامة على تماسك الأسرة وتفاعلها وتعاونها.
ومن الوسائل: عدم إظهار الخلافات العائلية أمام الأولاد؛ فإن إظهار ذلك مما يزعزع تماسك البيت، ويضر بسلامة البناء الداخلي لأهل البيت، وعدم إدخال من لا يُرضى دينه وخلقه إلى البيت، قال رسول الله : ((مثل جلس السوء كمثل صاحب الكير)) ، وفي رواية البخاري: ((وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة)) ، إي ورب الكعبة، إنه يحرق بيتك بأنواع الفساد والإفساد، فكم سبّب دخول المفسدين والفاسقين العدوان بين أهل البيت، وكم فرّق بين الرجل وزوجته بسبب دخول الفاسدين المفسدين، وكم سبّب دخولهم العداوة بين الأب وأولاده، وما أسباب وضع السحر في البيوت أو حدوث السرقات أحيانًا وفساد الخلق كثيرًا إلا بإدخال من لا يُرضى دينه وخلقه.
وإن المرأة تتحمّل في البيت جزءًا عظيمًا من هذه المسؤولية، قال رسول الله : ((يا أيها الناس، أي يوم أحرَم؟ أي يوم أحرم؟ أيّ يوم أحرم؟)) قالوا: يوم الحج الأكبر، ثم قال في ثنايا خطبته الجامعة في ذلك اليوم: ((فأما حقكم على نسائكم فلا يوطِئن فرشَكم من تكرهون، ولا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون)) رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع.
أيها المسلمون، ومن الوسائل في إصلاح البيوت الدقة في الملاحظة لأحوال أهل البيت، فكثير من الآباء لا يعرفون من يصاحب أبناؤهم، ومع من يجلسون، ومع من يسافرون، والبنت من هن صديقاتها؟ وما مدى تعلّمها؟ وهذا الإهمال قد يكون أكبر الأسباب في انتكاس كثير من الأبناء ووقوعهم في الشر والفساد، إلا أنه ينبغي عليك ـ أيها الأب ـ مراعاة ما يلي: عدم تحسيس الأولاد بفقدان الثقة بهم، مراعاة النصح أو العقاب بأعمار الأولاد ومداركهم ودرجة الخطأ، أن تكون المراقبة خفية.
أيها الأب، أيتها الأم، عليكما بالاهتمام بالأطفال في البيت، وذلك في جوانب عدة منها: تحفيظهم القرآن والقصص الإسلامية، الحذر من خروج الأطفال مع من هب ودب، الاهتمام بلعب الأولاد المسلية والهادفة غير المحرمة، التفريق بين الذكور والإناث في المضاجع، الممازحة والملاطفة.
وعليكما بالحزم في تنظيم أوقات النوم والواجبات وحفظ أسرار البيوت، قال : ((إن من شرار الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها)) رواه مسلم، وغيرها من الأدلة.
أيها المسلمون، ومن الوسائل أيضًا إشاعة خلُق الرفق في البيت، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا أراد الله عز وجل بأهل بيت خيرًا أدخل عليهم الرفق)) رواه الإمام أحمد وهو في صحيح الجامع، وفي رواية: ((إن الله إذا أراد أهل بيت أدخل عليهم الرفق)) رواه ابن أبي الدنيا وغيره وهو في صحيح الجامع، أي: صار بعضهم يرفق ببعض.
ومن الوسائل أيضًا معاونة أهل البيت في عمل البيت، فقد كان يخيط ثوبه، ويخصف نعله، ويعمل ما يعمل الرجال في بيوتهم، وسئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان رسول الله يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله ـ يعني: خدمة أهله ـ فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة. رواه البخاري.
ومنها: الملاطفة والممازحة لأهل البيت، ((فهلا بكرًا تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحك)) رواه البخاري.
ومنها: مقاومة الأخلاق الرديئة في البيت كخلق الكذب والغش، فقد كان كما تقول عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله إذا اطّلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضًا عنه حتى يحدث توبة. وهو في صحيح الجامع.
وهذا بخلاف ما يفعله بعض الناس اليوم حيث يرى أحد أبنائه يغشّ أو يكذب فلا ينكر عليه، بل ربما شجعه على ذلك، ولربما قال الأب للبنت أو للابن: إذَا فلان من الناس دقّ الباب وسأل عني فقل له: غير موجود. فأين هذا وأمثاله من هدي رسول الله : كان رسول الله إذا اطلع على أحد من أهل بيته كذب كذبة لم يزل معرضًا عنه حتى يحدث توبة؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله. ففسدت البيوت وضاع الأولاد ونزعت البركة بسبب المعصية وعدم إنكار المنكر.
ومنها: تعليق السوط حيث يراه أهل البيت، وذلك تلويحًا بالعقوبة لكل من يرتكب ما يغضب الله، ولكل من يستحقّ التأديب، قال : ((علّقوا السوطَ حيث يراه أهل البيت؛ فإنه أدب لهم)) أخرجه الطبراني وهو في السلسلة الصحيحة.
وأخيرًا: الحذر الحذر من المنكرات في البيوت، من الاختلاط بين الأقارب من الرجال والنساء وصور ذوات الأرواح والتدخين واقتناء الكلاب والنظر إلى الشاشات المحرمة والعبث بالهاتف، وإنني أنصح كل واحد منكم بقراءة كتاب مهم جدًا: (أخطار تهدّد البيوت) للشيخ محمد المنجد. فقد فصّل فيه الأخطار التي تواجه البيوت بما فيه كفاية.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من المصلحين، تحظوا برضا الخالق رب العالمين، وتكونوا عنده سبحانه من المفلحين الفائزين.
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم احفظ بيوتنا وبيوت المسلمين من كل شر ومكروه، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
ألا وصلوا وسلموا على الحبيب رسول الله، فقد أمرتم بذلك في كتاب الله، حيث قال سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك سيدنا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة...
(1/3875)
فضل الصيام وبعض أحكامه
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/8/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الخلق. 2- أركان الإسلام. 3- أنواع العبادات. 4- فرضية الصيام والحكمة منه. 5- اليسر ورفع الحرج في الصيام. 6- خصائص رمضان وفضائله. 7- البشارة بقدوم رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ الله جلّ وعلا يقول: ?لَّذِى خَلَقَ ?لْمَوْتَ وَ?لْحَيَو?ةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، فبيّن تعالى حكمتَه من خلق الحياةِ والموت، ليبلوَنا أيّنا أحسن عملاً، وحُسنُ العمل إنّما يكون بموافقةِ شرع الله، وكون هذا العمَل خالصًا لله يبتغِي به عامله وجهَ الله والدارَ الآخرة.
والله جلّ وعلا قد أوجب على العبادِ عباداتٍ متنوّعة، بنى دينَ الإسلام على أركانٍ خمسة، أصلها وأساسُها تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، بأن يعتقدَ المسلم حقًّا أنّ الله وحده المعبود بحقّ، وكلّ ما عُبد سواه فمعبودٌ بالباطل، ذَلِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ?لْبَـ?طِلُ [لقمان:30]، ويحقِّق شهادةَ أنّ محمّدًا رسول الله، فيؤمن بهذا الرّسول الكريم، وأنّه عبدُ الله ورسوله، عبدٌ لا يُعْبَد، ورسول لا يكذَّب، بل يجب أن يطاعَ ويتَّبع، فيؤمن به وأنّه رسول الله حقًّا، وخاتم أنبياءِ الله ورسله، يؤمن بذلك إيمانًا يقتضي اتّباعَ ذلك الرسول ومحبّتَه وطاعتَه والاقتداءَ به ، ثمّ بقيّة أركان الإسلام التي أوجبها الله على العباد، إذا نظر المسلم إليها رآها عباداتٍ متنوِّعةً، وذلك لأنّ في هذا ابتلاءً لإيمان العباد، فمِن العباد مَن يقبل عبادةً ويرفض أخرى، يقبَل بعضَ العبادات ولا يقبَل بعضها، وأركان الإسلام لا بدّ من الإتيان بها كلِّها، ومَن جحد واحدًا منها لم يكن إسلامه صحيحًا.
فجعل من العباداتِ ما هو خاصّ بالبدن، عبادةٌ بدنيّة خالصة، وهي الصّلاة، وجعل منها عبادةً تتعلّق بإخراج ما تحبّه النّفوس وجبلت على محبّته، وهي الزكاة، وعبادة فيها البذل الماليّ وإتعابُ البدن، وهو حجّ بيت الله الحرام، وعبادةٌ تتعلّق بكفّ النّفس عن مشتهياتِها في زمنٍ مخصوص، ألا وهي عبادة الصيام.
فصيام رمضان أحدُ أركان الإسلام ومبانِيه العظام، افترضه الله على أمّة الإسلام في العام الثّاني من الهجرة، فصام محمّد تسعَ رمضانات.
هذه العبادةُ عبادةٌ عظيمة، تعبَّدنا الله بها كما تعبَّد بها من قبلنا مِن الأمم، ولكن لهذه الأمّة مزيدُ فضل وإحسانٍ من ربّ العالمين، فاسمَعوا الله يقول: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].
يخبِرنا جلّ وعلا أنّه افترض علينا صيامَ رمضان، وأنّ هذه الفريضة لسنَا منفرِدين بها، بل تُعُبِّد بها من قبلَنا، وإن كنّا لا نعلَم مقدارَ صيامهم، ولكنّهم تُعُبِّدوا بالصيام. ونحن تُعُبِّدنا به كما تُعُبِّد به من قبلنا، كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ، لكي يكونَ المسلم على بصيرةٍ من أمره، فيرغب في هذا الخير، ثمّ قال: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، بيَّن جلَ وعلا في هذه الآية حكمتَه من فرضِ الصّيام على المسلمين بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، هذه الحكمةُ من صيام رمضان، ومهما كتَب الكاتبون وخطب الخطَباء وقال القائلون، لكن المرجع كلّه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، كلمةٌ جامعة عامّة تبيِّن حكمةَ الله من افتراضِ الصيام علينا لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، أي: ليكون الصيام سببًا لتقواكم لله، وليظهرَ مِن هذا الصّيام تقوى المسلمين لربِّهم.
أجل أيّها المسلمون، يحقِّق الصيام جانبَ التقوى في قلبِ المؤمن، فأوّلها: أنّه تعبَّدَ لله بتَرك مشتهَياتِ نفسه مِن الطّعام والشراب ومباشرةِ النساء طاعةً لله، رغم ميلِ النفسِ وحبِّه إليها، لكنّه تركها طاعةً لله وقربَة يتقرَّب بها إلى الله، فهو تعبَّد اللهَ بترك تلك الشّهوات، ذ?لِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14].
ومِن ذلك أيضًا أنّ الصيامَ يُحقِّق جانبَ التّقوى، إذِ الصيام الامتناع عمّا ذُكر من الشّهوات في مكانٍ لا يعلمه إلاّ الله، فالصائم في خلوتِه عنده طعامه وشرابُه، وبجواره امرأتُه، لكنّه يتغلّب على شهواتِ نفسه، لعلمِه أنّ الله يطَّلع عليه ويُراقبه ويعلَم سرَّه وعلانيّته، لذا قال الله جلّ وعلا: ((كلّ عملِ ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، قال الله: إلاّ الصيام، فإنّه لي، وأنا أجزي به، يدَع طعامَه وشرابَه لأجلي)) [1].
فالصائمُ عَظُم في قلبِه عِلمُ الله به واطلاعُه عليه، فلهذا ترَك تلك المشتهياتِ مع قدرتِه على تناولها، وأن يُظهر للنّاس أنّه صائم، ولكنّه يتركها في خلوتِه وفي حالِ غياب النّاس عنه لعلمِه أنّ الله مطّلع عليه، ?لَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى ?لسَّـ?جِدِينَ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الشعراء:218-220].
ويحقِّق الصيامُ التقوى لأنّه يضيّق مجاريَ الشيطان الذي يجري مِن ابن آدم مجرَى الدّم، فيضعف نفوذَه، ويكثر الخير والصّلاح في المؤمِن. ويحقّق الصيام جانبَ التقوى، إذِ الصائم في صيامِه تكثر طاعاتُه وأعماله الصّالحة، وذاك يقوِّي جانبَ التّقوى. ويقوّي الصيام التقوى أيضًا، فإنّ المسلمَ إذا ترَك تلك المشتهياتِ مع قدرتِه عليها عرَف عظيمَ فضل الله عليه وإنعامه وإحسانه إليه، ثمّ تذكّر الجائعين والبائسين، فطابت نفسه بالإحسانِ وبذل المعروف، ولله في شرعِه حِكَم وأسرار.
أيّها المسلمون، والله جلّ وعلا يقول لنا: أَيَّامًا مَّعْدُود?تٍ [البقرة:184]، هي أيّام معدودات ما بين تِسع وعشرين يومًا إلى ثلاثين يومًا، فلا تستثقِلها، ولا تستطِلها، فإنّها أيّام معدودات، لم يُفرض عليك نصفُ العام، ولا ربع العام، ولا سُدس العام، ولكنّه شهر من اثني عشَر شهرًا.
ثمّ قال: فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى? سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فأباح للمسافر أن يفطر، وأباحَ للمريض الذي يشقّ عليه الصوم أن يفطرَ، ويقضيَا يومًا آخرَ مكانه، ولكن المسافر هو بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر، فإن أفطر فخيرًا فعل، وإن صام فخيرًا فعل، وكان أصحابُ رسول الله يسافرون معَه فمنهم الصائم ومنهم المفطر، فلم ينكر الصائم على المفطِر، ولا المفطر على الصائم [2] ، ولكن إن حصَل بالصّوم مشقّة في السّفر فليفطِر وليقبَل رخصة الله، ((إنّ الله يحبّ أن تؤتَى رخصه، كما يكرَه أن تؤتَى معصيته)) [3].
والمريض إن كان مرضُه يسيرًا لا يؤثّر على صيامه، مرض سنٍّ أو زكام يسير، فإنّ الواجبَ عليه أن يصومَ، ولا عذرَ له، وإن كان مرضه مرضًا يتعِبه الصيام، ويكون إذا صام تعِب في هذا الصّوم لأجل المَرض الذي يشقّ معه الصيام، فإنّ الأفضلَ له أن يفطرَ ويقضي أيّامًا أخَر، وأمّا إن كان مرضًا خطيرًا، لو صام لأدّى الصوم إلى هلاكه وموتِه فإنّ الواجبَ عليه أن يفطرَ، فإن استطاع القضاءَ وإلاّ أطعم عن كلّ يوم مسكينًا، إذا كان مرضًا لا يرجَى السلامة منه فليفطر وليطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، وليعلَم أنّ هذا من فضلِ الله عليه، والله يكتب له أجرَ الصائمين القائمين بنيّته الصّالحة، وفي الحديث: ((إذا مرِض العبد أو سافر كتَب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا)) [4].
وكان في أوّل الإسلام مَن شاء صام ومَن شاء أطعم، ثمّ إنّ الله نسَخ ذلك، وأوجَب على المسلم المقيم الصّحيح البالغ العاقل القادر أوجَب عليه صومَ رمضان، شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185]، وأمّا الذي لا يستطيع الصيامَ لمرضه فكما سبق أنّ المرضَ الذي لا يُرجى برؤه يجب [معه] الإفطارُ ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، وأمّا الذي بلغ به السنّ مبلغًا فقَد فيه تمييزَه وفكرَه وأصبَح لا يميّز شيئًا ولا يعرف شيئًا بأن أصابَه الخرف من قريبٍ فهذا يفطِر ولا إطعامَ ولا قضاء عليه، وأمّا الذي كبِر سنّه وأعجَزه الصّيام لكِبر سنّه فإنّه يفطر ويطعِم عن كلّ يوم مسكينًا، وهذا من تيسير الله وتسهيله.
ثمّ قال جلّ وعلا: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ ، يرغّب المسلمين في صيامه، ويذكّرهم نعمتَه وفضلَه عليهم، أنّه أنزل في هذا الشهر المبارك كتابَ الله، فابتداءُ نزول القرآن في شهر رمضان الذي جعله الله بيّنات من الهدى والفرقان، يبيّن الحقَّ من الباطل، ويهدي مِن الضلالة، ويفرّق بين سبيل المتّقين وسبيل الضّالين، فهو كتابُ الله العزيز الذي لاَّ يَأْتِيهِ ?لْبَـ?طِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. فكأنّه يذكّر الأمّة بأنّ هذا القرآنَ الذي جعله الله دستورًا لهذه الأمّة ونظامًا لها، تحكِّمه وتتحاكم إليه، وفيه أسبابُ سعادة دنياها وآخرتها، أنّه نعمةٌ من الله عليهم، فليشكروا الله بأن يصوموا هذا الشهرَ طاعةً لله وشكرًا له على هدايتِهم للإسلام وعلى إنزالِ هذا القرآن.
ثم يقول جلّ وعلا: يُرِيدُ ?للَّهُ بِكُمُ ?لْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ?لْعُسْرَ [البقرة:185]، يخبر جل وعلا أنّه يريد بنا اليسرَ فيما شرع لنا، ولم يشرع لنا ما فيه حرجٌ، بل رفع الآصارَ والأغلال عنّا بمبعَث محمّد ، فشريعته يُسرٌ في أوامرها، ويُسر حتى فيما نهَت عنه؛ لأنّها جاءت بكلّ خير وما يحقِّق للبشريّة السعادةَ في الدنيا والآخرة.
أيّها المسلمون، هذا شهر رمضان أقبَل عليكم، والمسلمون ينتظرونَه بمِلء الفرَح والسّرور والاغتباط، شاكرين الله أن بلّغهم رمضان، وأن جعلَهم في جملةِ الأحياء، ينافسون في صالح الأعمال، ألا إنّه شهرٌ عظّمه الله ورفع شأنَه وأعلى قدرَه وأودع لكم فيه من الخير والفضلِ ما هو أهل له جلّ جلاله، فاستقبِلوه بنيّة صادقة، استقبلوه بنيّة صالحة وعزيمةٍ صادقة وتوبةٍ نصوح وشكرٍ لله على فضله وكرَمه، وتذكّروا إخوانًا لكم صاموا معَكم ما مضى، اخترمَتهم المنيّة، فأصبحوا في الألحادِ مرتهَنين بأعمالهم، نسأل الله لنا ولهم المغفرةَ والتجاوز.
فيا أمّة الإسلام، قد أظلّكم شهرُ رمضان، شهرٌ عظيم خصّكم الله فيه بخصائصَ لم تكن لأمّة قبلكم.
فممّا خصَّ الله به هذا الشهر أنّه سببٌ لمغفرةِ ما مضى من الذنوب، أنَّ صومَه سبب لمغفرة ما مضى مِن الذنوب، ففي الحديث: ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفَر الله له ما تقدّم من ذنبه)) [5] ، وفيه أيضًا: ((الصلواتُ الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفّارة لما بينهنّ ما اجتنِبَت الكبائر)) [6].
وممّا خصّكم الله به في هذا الشهرِ ما بيَّنه النبيّ بقوله: ((أعطِيَت أمّتي خمسَ خصال في رمضان لم تعطَها أمّة قبلهم: خلوفُ فمِ الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتّى يفطروا، ويزيّن الله جنّته كلَّ يوم ويقول: يوشِك عبادي الصّالحون أن يُلقوا عنهم المؤونةَ والأذى ويصيروا إليك، وتصفّد فيه مردةُ الشياطين، فلا يخلُصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة)) ، قيل: أهي ليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكنّ العامل إنّما يوفَّى أجرَه إذا قضى عمله)) [7].
أيّها المسلمون، هذا شهرٌ عظيم فعظِّموه، واغتنموه في الأعمال الصالحة، ففي الحديث: ((من صام رمضان وعرف حدودَه وتحفَّظ ممّا ينبغي أن يتحفّظ كفّر ما قبله)) [8].
أيّها المسلمون، كان نبيّنا يبشِّر أصحابَه برمضان، ففي حديث عبادةَ بن الصامت أنّه قال يومًا وحضَر رمضان: ((أظلّكم شهرُ رمضان، شهرُ بركةٍ وخير، يغشاكم الله فيه، فينزِل الرحمة، ويحطّ الخطايا، ويستجيب الدّعاء، ينظر الله إلى تنافسِكم فيه، فيباهي بكم ملائكته، فأَروا الله مِن أنفسكم خيرًا، فإنّ المحرومَ فيه من حرِم رحمة الله)) [9].
فيا أهلَ الإسلام، اشكُروا الله على بلوغِ هذا الشهر، وعظِّموه كما عظّمه الله، واحرِصوا فيه على الجدِّ والاجتهاد والتوبة النّصوح والإكثارِ من صالح العمل، عسى الله أن يجعله شافعًا لنا يومَ القدوم عليه، وأن يكتبَنا جميعًا من الصائمين القائمين بفضلِه ورحمتِه، يقول : ((أظلّكم شهر رمضان، بمحلوفِ رسول الله ما مرّ بالمسلمين شهرٌ خير لهم منه، ولا مرّ بالمنافقين شهر شرٌّ لهم منه. إنّ الله ليكتُب أجرَه ونوافله قبل أن يدخِله، ويكتب إصرَه وشقاءَه قبل أن يدخِله، وذلك أنّ المؤمن يعدّ فيه القوتَ للتقوّي على العبادة، ويعدّ فيه المنافق تتبُّعَ غفلات النّاس وعوراتِهم، فهو يغتنِمه المؤمن)) ، وفي لفظ: ((فهو غنمٌ للمؤمن يغتنِمه الفاجر)) [10].
فاغتنِموه بطاعةِ الله, واغتنِموه بصالحِ الأعمال، وأكثِروا فيه مِن الدّعاء وتلاوة القرآن ونوافلِ العبادة والإحسانِ إلى عباد الله.
اللهمّ أهلَّه علينا بالأمنِ والإيمان والسّلامة والإسلام، وارزقنا فيه صالحَ الأعمال. اللهمَّ وفِّقنا فيه لكلّ خير، وأعنّا فيه على كلّ خير. اللهمّ إذ قرّبتنا مِن صيامه فبلّغناه بفضلِك ورحمتِك، واجعلنا ممّن يصومه إيمانًا واحتِسابًا، خالصًا لوجهِك الكريم، إنّك على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1947)، ومسلم في كتاب الصيام (1118) عن أنس رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في الصيام أيضا (1116، 1117) عن أبي سعيد الجدري وجابر رضي الله عنهما.
[3] أخرجه أحمد (2/108)، والبيهقي (3/140) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصححه ابن حبان (2742)، وقال المنذري في الترغيب (2/87): "رواه أحمد بإسناد صحيح، والبزار والطبراني في الأوسط بإسناد حسن، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما"، وصححه الألباني على شرط مسلم. انظر: الإرواء (564).
[4] أخرجه البخاري في الجهاد (2996) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الصوم، باب: من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية (1901)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان (760) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (2/292)، والبزار (1/458 ـ كشف الأستار ـ)، ومحمد بن نصر في قيام رمضان (ص112)، والبيهقي في الشعب (3602)، وقال البزار: "لا نعلمه عن أبي هريرة مرفوعًا إلا بهذا الإسناد، وهشام بصري يقال له: هشام بن زياد أبو المقدام، حدث عنه جماعة من أهل العلم وليس هو بالقوي في الحديث"، وقال الهيثمي في المجمع (3/140): "رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف"، وقال الألباني في ضعيف الترغيب (1/294): "ضعيف جدًا".
[8] أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص98)، ومن طريقه أحمد (3/55)، وأبو يعلى (1058) من حديث أبي سعيد الخدري، وصححه ابن حبان (3433)، لكن فيه عبد الله بن قرط لم يرو عنه غير يحيى بن أيوب، أورده ابن أبي حاتم (5/140) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقال الحسيني في الإكمال: "مجهول"، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص395).
[9] عزاه المنذري في الترغيب (2/99) إلى الطبراني وقال: "رواته ثقات إلا محمد بن قيس لا يحضرني فيه جرح ولا تعديل"، وقال الهيثمي في المجمع (3/142): "رواه الطبراني في الكبير، وفيه محمد بن أبي قيس ولم أجد من ترجمته"، وذكره الألباني في ضعيف الترغيب (592).
[10] أخرجه أحمد (2/374)، وابن خزيمة (3/188)، والطبراني في الأوسط (9/21) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/141): "رواه أحمد والطبراني في الأوسط عن تميم مولى ابن زمانة، ولم أجد من ترجمه"، وفي إسناده أيضًا عمرو بن تميم قال الذهبي في الميزان (5/302): "عمرو بن تميم عن أبيه عن أبي هريرة في فضل رمضان وعنه كثير بن زيد، قال البخاري: في حديثه نظر"، وقال العقيلي في الضعفاء (3/260): "لا يتابع عليه"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (590).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ نبيّنا كان يبشِّر أصحابَه برمضان، ويبيّن لهم فضائلَه وخصائصَه، ترغيبًا لهم في هذا الشهر، وتشويقًا لهم إلى هذا الشّهر، فيروَى عن سلمان الفارسيّ رضي الله عنه قال: خطبَنا رسول الله في آخرِ جمعةٍ من شعبان فقال: ((قد أظلّكم شهرٌ عظيم مبَارك، شهرٌ فيه ليلة خيرٌ من ألفِ شهر، شهرٌ جعل الله صيامَه فريضة، وقيامَ ليلة تطوّعًا، من تقرّب فيه بخَصلة مِن خصال الخَير كان كمَن أدّى فريضةً فيما سواه، ومن أدّى فيه فريضةً كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه، وهو شهرُ الصّبر، والصبر ثوابُه الجنّة، وشهر المواساة، وشهرٌ يزَاد في رزقِ المؤمن فيه، من فطّر فيه صائمًا كان مغفرةً لذنوبه وعتقَ رقبته من النّار، وكان له من الأجرِ مثلُ أجر الصائم من غيرِ أن ينقصَ ذلك منه شيئًا، وهو شهرٌ أوّله رحمَة، وأوسطه مغفِرة، وآخرُه عتقٌ من النّار، مَن خفّف فيه عن مملوكِه غفر الله له وأعتقه من النّار، فاستكثِروا فيه من أربع خصال، خصلتين ترضون بهما ربَّكم، وخصلتين لا غِنى بكم عنهما، فأمّا اللتان ترضون بهما ربّكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفِرونه، وأمّا الخصلتان اللتان لا غنى بكم عنهما فتسألون الله الجنّة وتتعوّذون به من النّار، ومن سقى فيه صائمًا شربةً سقاه الله من حوضِي شربةً لا يظمأ بعدها أبدًا)) [1].
فاستقبِلوه ـ رحمكم الله ـ بالفرَح والسرور، استقبلوه مستبشِرين به، فرحين به، حامدين اللهَ على إدراكه، عازمين فيه على كلّ خير، تائبين إلى الله ممّا مضى من ذنوبكم، مستقبلين ذلك بعملٍ صالح وتوبة نصوح وحرصٍ على أسبابِ الخير، فعسى الله أن يمُنّ على الجميع بالتّوفيق للهداية والصّواب وقبولِ الأعمال، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] رواه الحارث في مسنده (318 ـ بغية الباحث ـ)، وابن خزيمة (3/191-1887)، وابن أبي حاتم في العلل (1/249)، وابن عدي في الكامل (5/293)، قال أبو حاتم: "هذا حديث منكر"، وكذا قال الألباني في ضعيف الترغيب (589).
(1/3876)
مفسدات الصّيام
فقه
الصوم
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
2/9/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصوم أمانة. 2- أصول المفطّرات. 3- فساد الصوم بتعمّد الأكل والشرب. 3- حكم مغذّيات المرضى. 4- منافاة الجماع للصوم. 5- حكم خروج المني من الصائم. 6- حكم حقن الدم للصائم. 7- حكم القيء أثناء الصيام. 8- حكم الحجامة وسحب الدم للصائم. 9- منع الحائض والنفساء من الصيام. 10- تنبيهات للمرأة المسلمة. 11- أمور علاجية لا تفسد الصوم. 12- آداب الصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الصومُ أمانة بين العبدِ وبين ربِّه، لا يطّلع على ذلك إلاّ الله وحدَه، فالصائم يعامِل اللهَ بالصّدق في أمانتِه، فيحرِص على صيامِه بأن يجنّبَه ما يفسِده، ويُحاوِل قدرَ استطاعته أن يصونَ صيامَه عمّا ينقص ثوابَه ويضعِفه.
لأجل هذا أضافَ الله الصيامَ إليه تشريفًا له: ((الصومُ لي، وأنا أجزي به)) [1] ، وجعل ثوابَ الصيام لا يقدَّر بمقدار، بل لا يعلم قدرَ ثوابه إلاّ الله، ((كلّ عملِ ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، قال الله: إلاّ الصيام)) [2] ، أي: فإنّ ثوابَه عظيم، لا يعلمه إلاّ الله، فهو مِن الصبر، والصّبر ثوابُه الجنّة، إِنَّمَا يُوَفَّى ?لصَّـ?بِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
أخي الصائم، إنّ اللهَ جلّ جلاله بيّن في كتابه العزيز أصولَ المفسدات للصّيام، وبيّن رسوله شيئًا من ذلك، والمسلمُ يتفقّه في دينه حتّى تكون عبادته على شرعِ الله ودينه، ((ومن يردِ الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)) [3].
أخي المسلم، فممّا يفسِد الصيامَ بإجماع المسلمين تعمُّد الأكلِ والشّرب، فتعمُّد الأكلِ والشّرب منافٍ للصّيام بإجماع الأمّة، لكن إن كان هذا التعمّد لغرضٍ صحيح شرعيّ فذاك أمر آخر، وأمّا تعمُّده مخالفةً لشرع الله فلا يصدُر ذلك من قلبٍ فيه إيمان، إذِ المؤمن فرحَ برمضان، واستبشَر بالصّيام، وانشرَح صدره رجاءً لثواب الله وتصديقًا بوعدِ الله وتطبيقًا لأمر الله، كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. ويروَى أنّ من أفطر في رمضان عامدًا لم يكفِه الدّهر كلّه وإن صامه [4]. فأعيذك بالله ـ أيّها المسلم ـ أن يصدرَ منك انتهاكٌ لرمضان بتعمُّد أكلٍ وشرب، فذاك منافٍ للصّيام ودليلٌ على ضعفِ الإيمان، أعاذني الله وإيّاكم من نزَغات الشّيطان.
وأمّا الأكل والشّرب إن وقع من المسلم عن نسيانٍ فالله جلّ وعلا قد عذرَه، فيقول نبيّنا : ((من أكَل أو شرِب ناسيًا فليتمّ صومَه، فإنّما أطعمه الله وسقاه)) [5] فصلوات الله وسلامه عليه، وصدق الله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِ?لْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
أخي الصائم، وممّا يُلحق بالأكل والشّرب ما قد يضطرّ المريض إليه من المغذّيات التي توضَع فيه لأجل أن تمدَّ الجسمَ بالغذاء، وتقوم مقام الطعام والشراب، فلا شكّ أنّ هذا نوعٌ من الأكل، فمن اضطرَّ إليها لمرضه فإنّه يقضي يومًا مكانَه، لأنّ هذه المغذِّيات قائمة مقامَ الأكل، ومن يستعملها يجد فيها الغنيةَ عن الطعام والشراب، فلذلك تكون مفسِدة للصّيام إذا اضطرّ المسلم إلى أن توضَع فيه، فإنّه يضعُها ويقضِي يومًا مكانَ هذا اليوم.
قال تعالى: وَكُلُواْ وَ?شْرَبُواْ حَتَّى? يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ?لْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ ?لْخَيْطِ ?لأسْوَدِ مِنَ ?لْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ?لصّيَامَ إِلَى ?لَّيْلِ [البقرة:187]، فأباح في الليل الأكلَ والشرب، وأوجب الإمساكَ عند طلوع الفجر الثّاني إلى غروبِ الشمس، وأمّا من أكلَ يشكّ في الفجر ويوقِن بأنّ الليل باقٍ، ولكن الأمر على خلافِ معتقده، فإنّ صومَه صحيح، لأنّه بنى أكلَه على اعتقادِه بقاءَ الليل، والأصل بقاءُ الليل.
وممّا ينافي الصيام ويفسده إتيانُ الرجل امرأتَه في نهار رمضان، وهذا أمرٌ منافٍ للصّيام، لأنّ الله جلّ وعلا يقول لنا: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ?لصّيَامِ ?لرَّفَثُ إِلَى? نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]، كانوا في أوّل الأمر، في أوّل الإسلام إذا صلّوا العشاءَ أو ناموا حرم عليهم الأكلُ والشرب وجماع النّساء، ولكنّ الله رحمهم، فأباح لهم في عموم الليل الأكلَ والشرب ومباشرةَ النساء، وحرّم ذلك في نهار الصيام.
والمسلم يحرِص على هذه الأمانة، ويحرص على البُعد عن كلّ وسيلة يمكن من خلالها أن تزلّ قدمهُ من حيث لا يشعر، وإتيانُ الرّجل امرأتَه في نهار الصّيام كبيرةٌ من كبائر الذنوب، معصيةٌ لله ورسوله، لكن على المسلم أن يتّقيَ ذلك، وقد أوجب النبيّ على من أتى امرأتَه في رمضان الكفّارة المغلّظة، هي كفّارة مغلّظة مع الإثم الذي لحِقه بانتهاك حرمةِ هذا الشهر.
أتى رجلٌ النبيّ قائلاً له: هلكتُ وأهلكت، قال: ((ما لك؟)) قال: أتيتُ امرأتي في رمضان، قال: ((أعتِق رقبة)) ، قال: لا أستطيع، قال: ((صُم شهرين كاملين متتابعين)) ، قال: لا أستطيع، قال: ((أطعِم ستّين مسكينًا)) ، فأتِي النبيّ بعِذق من تمر، قال: ((فأطعِم به)) ، قال: على أفقرَ منّي؟ والله، ما بين لابتَي المدينة أهل بيتٍ أفقر من أهلِ بيتي، فضحِك وقال له: ((خذه فأطعمه أهلك)) [6]. فقال العلماء: إنّ الكفّارة مرتّبة: العِتق، فإن عجز عن وجود ما يعتقه انتقل إلى الصيام، والصوم يجِب عليه، ولا يسقط عنه ولا تبرَأ ذمّته إلا أن يكون عاجزًا لكِبر أو مرضٍ يمنعه ولا يرجَى برؤه، فينتقل إلى إطعامِ ستّين مسكينًا، كلّ ذلك لكي يكونَ المسلم على بصيرةٍ من أمره، فيتّقي كلَّ الأسباب التي يمكن من خلالها أن يقعَ في المحذور.
قال العلماء: وأمّا إنزال المنيّ بطريق الاحتلامِ أو التفكير فهذا أمرٌ معفوّ عنه؛ لأنّه ممّا لا استطاعةَ للإنسان بدفعه.
وممّا يفسِد الصّيام أيضًا تعمُّد إخراجِ المادّة المنويّة بطريق ما يسمّى بالاستمناء أو العادة السّريّة المستهجَنة، فهذا أمرٌ ينافي الصّيام لأنّ النبيّ قال في حقّ الصائم: ((يدَع طعامَه وشرابَه وشهوته من أجلي)) ، فهذا قول الله جلّ وعلا يرويه محمّد [7]. إذًا فتعمُّد ذلك منافٍ للصّيام؛ لأنّه شهوة تعمّد إخراجَها، فيقضي ذلك اليومَ الذي وقع فيه.
وممّا يفسِد الصّيام أيضًا لو اضطرّ إلى حقنه بدم، فإنّ حقنَ الدم في المريض ينافي صيامَه، لأنّ هذا غاية الغِذاء، فينافي ذلك للصيام. أمّا الإبَر العاديّة التي ليست غذاءً دائمًا، ولكنّها علاج في الحال، فإنّها لا تؤثّر على الصائم ولو كانت في العروق أو في العضل، وإن استعملها في اللّيل فذاك أكمل.
وممّا ينافي الصيامَ تعمُّد إخراج القيء، فإنّ تعمّدَه مفسدٌ للصّيام، سواء بشمّ رائحة أو عصرِ بطنه أو إدخال يدِه في جوف فمه أو نحو ذلك، لأنّ هذا ينافي الصيام، والنبيّ يقول: ((مَن استقاء فعليه القضاء، ومن غلب عليه القيء فلا شيءَ عليه)) [8] ، فمن تعمَّد إخراجَ القيء وجب عليه أن يقضيَ يومًا مكانَ هذا اليوم، وأمّا خروج القيء من غير اختياره فإنّه لا يفسد صومَه ولا يجِب عليه منعُه، وإنّما يتركه يخرج إن كان خروجه من غير اختياره، فلا يؤثّر ذلك عليه.
وممّا ينافي الصيام إخراجُ الدّم بطريق الحجامة، والنبيّ يقول: ((أفطرَ الحاجم والمحجوم)) [9] ، هذا حديث ثابتٌ عنه ، لما في ذلك من إضعافِ الصائم، وعدمِ قدرته على مواصلةِ الصيام، وإن واصله فبضعفٍ ومشقّة، لكن لو اضطرّ المسلم إلى أن يسعفَ أخًا له بدمِه لِضرورةٍ حلّت به وتعذّر إلاّ من طريق أخذِ الدّم منه وكان ذلك لأمرٍ ضروريّ فإنه إن سُحِب منه الدّم لأجل إسعافِ أخٍ له دعَت الضرورة إلى ذلك، فإنّه يؤخَذ الدم منه ويقضِي يومًا مكانَ هذا اليوم لأجلِ هذا العذر الشرعيّ.
وممّا ينافي الصيامَ خروجُ دم الحيض من المرأة، فإنّ خروجه ينافي الصيام، سئلت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصّيام ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك في عهد النبيّ ، فنؤمَر بقضاء الصوم، ولا نؤمَر بقضاء الصلاة [10].
فالحائض إذا خرجَ دمُ حيضها سواءً في أوّل اليوم أو في آخره، حتى لو خرج منها قبَيل المغرب بدقائق لأصبح يومها فاسدًا، تقضِي يومًا مكانَه. وأمّا لو لم يخرج الحيض إلاّ بعد غروبِ الشمس ولو بدقائقَ فإنّ هذا اليومَ صحيح، لأنّه مضى دونَ أن ترى ما يفسِده.
أختي المسلمة، إنّ هناك أمورًا ينبغي التنبيهُ عليها لتأخذَ بها أخواتنا المسلمات في صيامهنّ، فمن ذلكم أنّ المرأةَ المسلمة كما سبق إذا رأت دمَ الحيض انتقض صومها، وتعيد يومًا مكانه، وإذا حاضت بعدَ غروب الشمس فلا شيءَ عليها وصومُها صحيح، ولو طهُرت في أثناء اليومِ أمسكَت بقيّة يومها ثم قضَته، فإمساكها لكونها ممّن شهد الصّيام، وقضاؤها لكونها مضى جزء من اليوم بدون صيام.
ومِن ذلكم أيضًا أنّ المرأةَ الحامل لو رأت دمًا قبل الولادة بيوم أو يومين عند إحساسها بطلق الولادة، أنّ هذا ملحَق بالنّفاس وتابعٌ له، فتقضي هذا اليوم أو اليومين اللذين يسبقان الولادة وقد أحسّت المرأة بأنّ هناك طلقَ الولادة، فيعتبر ذلك ملحَقًا به.
ومِن ذلكم أنّ المرأة المسلمة لو طهُرت قبلَ غروب الشمس مِن حيضها لكان واجبًا عليها أن تصلّي الظهرَ والعصر، وكذلك لو طهرت قبلَ الفجر أن تصلّي المغربَ والعشاء، [لأنّ الصلاتين] تجمعان في هذا الوقت.
ولو استيقظَ المسلم وهو جنُب لأمسك ثمّ اغتسل بعد ذلك؛ لأنّ نبيّنا كان يصبِح وهو جنُب مِن أهله، ثم يمسِك ويغتسِل بعد ذلك، هكذا أخبرت عائشة زوجه [11].
أيّتها المرأة المسلمة، إنّ المسلمةَ لو طهرت من نفاسِها ولو لم يمضِ عليها الأربعون يومًا، فإنّ طهرَها من نفاسها ولو مضى عشرون أو نحو ذلك أو أقل من ذلك إذا انقطَع الدّم ولم ترَ صُفرة ولا كدرة، وإنّما هو طهرٌ كامل وجَب عليها أن تصومَ ولو لم تستكمِل أربعين يومًا، ولو عاد الدّم عليها قبلَ الأربعين فالصّيام الذي صامَته صحيح، ولا شيءَ فيه، وتفطِر حتّى تكمل الأربعين، وبعد استكمال أربعين يومًا تصوم ولو كان معها دَم، ما لم يوافِق العادةَ الشهريّة.
هكذا ينبغي للمرأةِ المسلمة أن تتفقّه في دينِها لتكونَ على بصيرة في صيامها.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد والفقهَ في دين الله، وأن تكونَ أعمالنا على وفق شرعِ الله، خالصةً لله، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التّوّاب الرحيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأنفال:20، 21].
[1] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو نفس الحديث السابق.
[3] أخرجه البخاري في فرض الخمس (3116)، ومسلم في الزكاة (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه.
[4] علقه البخاري في كتاب الصوم عن أبي هريرة بصيغة التمريض، ووصله أحمد (2/458، 470)، وأبوداود في الصوم (2396)، والترمذي في الصوم (723)، والنسائي في الكبرى (2/244-245)، وابن ماجه في الصيام (1672)، وفيه اضطراب واختلاف، وقد ضعفه الألباني في تمام المنة (396).
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1936)، ومسلم في الصيام، باب: تغريظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الصوم، باب: فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1676) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (923).
[9] أخرجه أحمد (3/465)، والترمذي في الصوم (774)، والطبراني في الكبير (4/242) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ـ ويقال: ابن يسار ـ وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج"، وهو في صحيح سنن الترمذي (621).
[10] أخرجه البخاري في الصوم (321)، ومسلم في الصيام (335) واللفظ له.
[11] أخرجه البخاري في الصوم (1926)، ومسلم في الصيام (1109).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلي يوم الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، قد يتساءل البعضُ عن أمور، فمنها ما يتعاطاه مَن أصيبَ بداء السّكّر، من تعاطِي إبَر "الأَنسُلين" عند الغروب أو قبله، هذا لا مانعَ منه، ولا ينافي الصّيام، وكذلك ما يستعمِله بعض من يصاب بداءِ الرّبو أو أمثاله من بخاخ يستعمِله لينفّس المجاريَ فلا مانعَ منه، وكذلك القطرات في العَين إن اضطرّ إليها، فإنّ ذلك لا مانعَ منه ولا تؤثّر على صيامه.
أيّها المسلمون، إنّ نبيّنا أرشدنا إلى آدابٍ شرعية عمل بها، ينبغي أن نقتديَ به فيها، فمن هديِه أكلةُ السّحر، فكان يحثّ عليها ويعمَلها، ويقول : ((تسحّروا، فإنّ في السّحور بركة)) [1] ، ويقول: ((السّحور بركة، فلا تدَعوه ولو أن يجرعَ أحدكم جرعةَ من ماء، فإنّ الله وملائكتَه يصلّون على المتسحِّرين)) [2] ، ويقول: ((فصل ما بين صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتاب أكلةُ السّحر)) [3] ، فكون ملائكةِ الرّحمن تصلّي عليك، وكونُه بركة، وكونُه مميّزًا لصيامك عن صيامِ غير المسلمين، يدلّ على أنّه سنّة، وأنّه مرغَّب فيه، ولا شكّ أنّ المسلم إذا فعل هذه الأشياء مقتدِيًا بمحمّد متأسّيًا به سائرًا على نهجه معتقِدًا أنّ منهجه المنهجُ الكامل وهديه الهدي الكامل، وهو على أكملِ خلُق وأتمِّه صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، وهو يتعاطى أكلةَ السّحر، ويرتبط بمحمّد ويتأسّى به، ويقتدِي به، فهو الهديُ الكامل والخلُق العظيم، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلَى? خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
قال أنس: تسحّر زيد بن ثابت مع رسول الله، فسألتُ زيدًا: كم كان بين سحورِكم وإقام الصلاة؟ قال: مقدار خمسين آية [4] ، فكان يؤخِّر سحورَه، والسّحور سنّة ولو على قليل اقتداءً بالسنّة واتّباعًا لها.
وكان يعجّل الفطرَ إذا تأكّد غروبَ الشمس، ويقول: ((قال الله: أحبّ عبادي إليَّ أعجلهم فِطرًا)) [5] ، ويقول : ((لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر)) [6].
وكان يقول: ((إنّ للصّائم عند فطرِه دعوة لا تردّ)) [7] ، لذا يكون المسلم عند فطره مستقبلَ القبلة، رافعًا يديه، متوجِّهًا إلى ربِّه، راجيًا فضلَه ورحمتَه، وهو ينهِي يومًا من أيّام رمضان صامَه احتسابًا ورجاءً لثواب الله، وطمعًا فيما عند الله، وتصديقًا بوعد الله، فهو عند فطره ينهِي يومًا من أيّامه، يسأل ربَّه عند ذلك فضلَه وكرمَه ورحمتَه وجودَه وإحسانه، فهو أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين. وخيرُ وسيلة إلى الله الأعمال الصّالحة التي عمِلتَها، فهي وسيلة منك إلى ربّك، تتوسّل إليه بفضلِه وكرمِه ووعده الحقّ الذي وعدَ به العاملين، فَ?سْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى? بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195]، فالمسلم وهو ينهِي يومًا من أيّام الصيام، مستقبلَ القبلة، راجيًا من ربّه، موقنًا بوعدِه، منفّذًا لأمره، فيُرجَى له بتوفيقٍ من الله أن يسمَع الله دعاءَه، ويثيبَه ويجيبَ دعاءه، وربّكم أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين وأجود الأجودين.
أسأل الله لي ولكم صيامًا مقبولاً وعملاً صالحًا خالصًا لله، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المتّقين وقائد الغرِّ المحجَّلين محمّد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربّ العالمين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1923)، ومسلم في كتاب الصيام (1095) عن أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/12، 44) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/150): "فيه أبو رفاعة، ولم أجد من وثقه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، هذا في إسناد الموضع الأول، أما الموضع الثاني ففي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مشهور بالضعف، وقد قوّى الألباني الحديث بمجموع الطريقين وبشواهده. انظر: صحيح الترغيب (1070).
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1096) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1921)، ومسلم في الصيام (1097).
[5] أخرجه أحمد (2/237، 329)، والترمذي في الصوم (700) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (2062)، وابن حبان (3507)، ورمز له السيوطي بالصحة، إلا أن في إسناده قرة بن عبد الرحمن متكلَّم فيه، والحديث في ضعيف سنن الترمذي (111).
[6] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[7] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1753)، والحاكم (1535)، والبيهقي في الشعب (3904) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وفي سنده إسحاق بن عبد الله وقيل: ابن عبيد الله، اختلفوا فيه. وللحديث طريق آخر عند الطيالسي (2262)، والبيهقي في الشعب (3907) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث ضعفه الألباني في الإرواء (921).
(1/3877)
فضل ليلة القدر وأحكام زكاة الفطر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
23/9/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم ليلة القدر. 2- الحثّ على تحرّي ليلة القدر. 3- التقدير الإلهي. 4- فضل ليلة القدر. 5- دعوة للتوبة والاستغفار والإلحاح في الدعاء. 6- أحكام زكاة الفطر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن خصائص شهر رمضان اشتمالَه على ليلةٍ هي أفضل الليالي وأشرفها، ألا وهي ليلةُ القدر، تلكم الليلة التي عظّم الله شأنَها ورفع قدرَها ونوّه بذكرها، فأنزل في فضلها آياتٍ من كتابه العزيز. هذه الليلة المباركةُ ـ أعني بها ليلة القدر ـ ليلة نالت بها أمّة محمّد من الخير والفضل ما الله به عليم.
أيّها المسلمون، وإنّ نبيَّكم كان يجتهِد في تحرِّيها، فاعتكف العشرَ الوسطى من رمضان، فلمّا أخبِر أنّ ليلة القدر في العشر الأخيرة مِن رمضان جعل اعتكافَهُ في العشر الأخيرة من رمضان تحرِّيًا والتِماسًا لتلكم اللّيلة العظيمة، وقال لأصحابه: ((تحرّوها في العشر الأواخِر من رمضان)) [1] ، وقال: ((مَن كان متحرِّيها فليتحرَّها في الوتر من العشر)) [2] ، وقال لمّا أخبره بعض الصحابة أنّهم أُروا ليلةَ القدر في السّبع البواقي من رمضان قال: ((أرى رؤياكم قد تواطأت، من كان متحرِّيها فليتحرَّها في السّبع البواقي من رمضان)) [3].
وهي ليلةٌ في العشر الأخيرةِ، وقد تنتقِل، وقد تكون في الأشفاع وفي الأوتار، وإن كان بعض اللّيالي أرجى من بعض، لكن الله جلّ وعلا أخفى تعيينَ تلك الليلة لكي يجتهدَ المسلمون، فيتقرّبوا إلى الله بدعائِه وذكره، فيزدادوا قُربًا من ربِّهم، وتعظُم أجورهم، وليعرف من كان حريصًا عليها، جادًّا في طلبِها ممّن كان كسلان.
أيّها المسلمون، هي ليلةٌ من أفضل اللّيالي على الإطلاق، قال الله جلّ وعلا في كتابه العزيز: بسم الله الرّحمن الرحيم، حم وَ?لْكِتَـ?بِ ?لْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْعَلِيمُ [الدخان:1-6]، فأخبر تعالى عن ابتداءِ إنزال القرآن بقوله: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ أي: القرآن العزيز فِى لَيْلَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ ، وصفها بأنّها ليلة مباركة لكثرةِ خيرِها وفضلها، وعظيمِ ما يعتق الله فيها من النّار، ثمّ قال: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مّنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، في هذه الليلة يعطَى الملائكة الموكّلون بشؤون العبادِ بأمرِ الله فيفصل لهم من اللّوح المحفوظ أحداثُ ذلك العام ابتداءً من ليلة القدر إلى مثلِها من العام الآتي، من الأمور المحكمة التي أحكمَها ربّنا من كتابةِ الأرزاق والآجال والخير والشّرِّ وغيره ممّا يقضي الله من قضائه المحكَم الذي لا يلحقه سفَه ولا لعِب ولا باطل، بل هو في غايةِ الحكمة التامّة جلّ ربًّا وتقدّس، فإنّ تقدير أعمال العباد على أمور ثلاثة.
فأوّلها ما قضى الله في أمّ الكتاب، فإنّ الله تعالى علِم ما العبادُ عاملون، فما نعمله من صغيرٍ أو كبير فإنّ الله محيطٌ به وعالم به قبل أن نعملَ به، لأنّه جلّ وعلا عالمٌ بالخلق ومحيط بهم، وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبّكَ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذ?لِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ [يونس:61]، كتب ذلك العلمَ قبل أن يخلقَ الخليقة بخمسين ألفَ سنة، خلق القلمَ فقال: اكتُب، قال: ما أكتب؟ قال: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة.
وهناك التقدير ليلة القدر لمثلِ العام، فهو التقدير الحوليّ.
وهناك تقديرٌ آخر، وهو أنّ الجنين إذا مضى عليه أربعةُ أشهر في بطن أمّه أتاه الملك، فيكتب رزقَه، ويكتب أجَله، ويكتب عمَله، وشقيًّا أو سعيدًا.
فسبحانَ من خلق الخلقَ وعلم أعمالَهم وقدّر أرزاقهم وآجالَهم وأعمالهم، فتعالى وتقدّس علوًّا كبيرًا.
أيّها المسلمون، ولقد بيّن الله فضلَ هذه الليلة فأنزل فيها سورةً تتلى: إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْرِ [القدر:1-5]. فأعظمُ فضيلتِها ابتداءُ إنزال القرآن فيها، إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ ، ذلك الكتاب العزيزُ الذي فيه هداية البشريّة وسعادتُها، كِتَابٌ أَنزَلْنَـ?هُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ?لنَّاسَ مِنَ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ إِلَى? صِرَاطِ ?لْعَزِيزِ ?لْحَمِيدِ [إبراهيم:1]. إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ ، وقال: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِى أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَـ?تٍ مِّنَ ?لْهُدَى? وَ?لْفُرْقَانِ [البقرة:185].
إِنَّا أَنزَلْنَـ?هُ فِى لَيْلَةِ ?لْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ ، لتعظيم شأنها، فهي ليلة ذات شرفٍ وقدْر، وهي ليلةُ التقدير والقضاء. لَيْلَةُ ?لْقَدْرِ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، العمل الصالح في تلك الليلة يعدل العملَ الصالح في ألفِ شهر سواها، كلّ ذلك من فضلِ الله على هذه الأمّة، ولذا من قامها إيمانًا واحتسابا غفر الله له ما تقدّم من ذنبه، علِم بتلك الليلة أو لم يعلَم بها.
في هذه الليلة تتنزّل الملائكة والرّوح. الملائكة عبادُ الرحمن، عبادٌ مكرمون، يطيعون ربّهم، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِ?لْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]، يُسَبّحُونَ ?لْلَّيْلَ وَ?لنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، وهم إنّما ينزلون بالخيرِ والرّحمة والبركة، وفي مقدِّمتهم جبريل الذي أشار [إليه] بقوله: َ?لرُّوحُ.
تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ [القدر:4]، من كلّ أمر ممّا قضاه الله وقدّره، وهي سلامٌ لأهل الإيمان، لسلامتِهم من عذاب الله وكثرةِ ما يعتق الله فيها عبيده من النّار، وهي باقية حتى يطلع الفجر.
فيا أخي المسلم، إنّ هذه اللّيلةَ [يمكن أن تكون] في هذه الليالي الباقية، فجدّ واجتهد وتقرّب إلى الله بصالحِ العمل، وادعُ ربّك راجيًا راغبًا خائفا طامعًا في فضله خائفًا من عقابه.
أخي المسلم، كلّنا مقصِّرون، وكلّنا مخطِئون، ورحمةُ ربّنا أرجى من أعمالنا، ومغفرته أوسع من ذنوبِنا، فهو يدعونا إلى فضلِه ورحمتِه، يدعونا إلى رضوانِه وجنّته، يدعونا لأن نسألَه ونرجوَه ونتضرّع بين يدَيه، يخبِرنا عن مواسمِ الخير لنتنافسَ في صالحِ العمل.
فيا أخي، إنّما هي ليالٍ قليلة، فجدَّ واجتهِد فيها، فعساك أن توافِق تلك اللّيلة، فتسعدَ سعادة عظيمةً، سعادة برحمةِ ربّك وعِتقك من عذابِ ربّك، اجتهِد وتلمّس تلك الليلة، وجِدّ واجتهد، واسأل الله التوفيق والثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، اشكُ إلى الله بثَّك وحزنَك، اشكُ إلى الله حاجتَك، ارفَع إلى الله ضرورتَك، فإنّ ربّك لا يعجزه شيءٌ أن يعطيَه، ولا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفرَه، مهما بلغ الذّنب وعظُم وتكاثر، فإنّك بالتّوبة النصوح تقضي على كلّ الذنوب والمعاصي.
((يا ابنَ آدم، إنّك ما دعوتني ورجوتَني غفرتُ لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابنَ آدم، لو بلغَت ذنوبك عنانَ السّماء ثم استغفرتَني غفرتُ لك. يا ابنَ آدم، لو أتيتَني بقراب الأرضِ خطايا ثم لقيتَني لا تشركُ بي شيئًا أتيتُك بقرابها مغفرة)) [4] ، وفي الحديث: ((يا عبادي، إنّكم تخطِئون باللّيل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفِر لكم. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخرَكم وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني فأعطيتُ كلاًّ مسألتَه ما نقص ذلك ممّا عندي إلاّ كما ينقص المحيط إذا أدخل البحر)) [5].
فيا أخواني، إنّها ليالٍ مباركة، وإنّها ليال فاضلة وأيّام خير وبركة، فجِدّوا واجتهدوا، وتعرّضوا لنفحاتِ ربّكم، فعسى أن توافِقوا من الله ساعةَ إجابة. اسألِ الله قضاءَ دينك، واسألِ الله تفريجَ همّك، واسألِ الله إذهابَ حزنك، واسألِ الله صلاحَ ولدِك، واسأل الله صلاحَ قلبك وهدايتَك، واسألِ الله المغفرةَ لوالديك، واسألِ الله للمسلمين التوفيقَ والهداية وجمعَ الكلمة وأن يعيذَهم الله من الفتنِ ما ظهر منها وما بطن، اسأل ربَّك وارجُه وثِق بفضلِه وأيقن بأنّه قريب مجيبٌ لمن دعاه ورجاه وأمّل الخيرَ فيه، فهو أكرم الأكرمين، يقول لنا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، ويقول جل جلاله: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62]، إنّه ربّنا جلّ وعلا، قريبٌ ممّن دعاه، قريب ممّن سأله ورجاه، فارفَع إليه أكفَّ الضراعة، راجيًا خائفًا طامعًا في فضله خائفًا من ذنبك، استغفِره وتُب إليه ممّا كان وسلف منك، فهو الغفور الرحيم، وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى? مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
أمّةَ الإسلام، إنّ نبيَّنا شرع لنا في نهاية هذا الشّهر صدقةَ الفِطر، فصدقةُ الفطر ـ وهي مضافة إلى الفِطر من رمضان ـ فريضةٌ فرضها رسول الله ، فأوجبها على المسلمين وأمَر بها، فما فرضَه رسول الله وأمَر به فحكمه حكمُ ما فرضه الله وأوجَبه، لأنّه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى، وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4]، وطاعته طاعةٌ لله، ومعصيته معصية لله، مَّنْ يُطِعِ ?لرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ?للَّهَ وَمَن تَوَلَّى? فَمَا أَرْسَلْنَـ?كَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ [النور:54]، وَمَا ءاتَـ?كُمُ ?لرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَـ?كُمْ عَنْهُ فَ?نتَهُواْ [الحشر:7].
فرضَها رسول الله على عمومِ المسلمين، ذكورِهم وإناثهم، صِغارهم وكبارهم، أحرارِهم وعبيدهم، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: فرض رسول الله زكاةَ الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على الذّكر والأنثى والحرِّ والعبد والصغير والكبير [6].
فيؤدِّيها المسلم عن نفسِه، وعمّن يلزمه الإنفاقُ عليه من زوجةٍ وأولاد وخدَم، في الأثر: ((أدّوا صدقةَ الفطر عمّن تمونون)) [7] ، أي: عمّن تنفِقون عليهم شهرَ رمضان، وتتكفّلون بالإنفاق عليهم.
واستحبَّ أمير المؤمنين عثمان بنُ عفّان رضي الله عنه إخراجَها عن الجنين [8].
والحِكمة فيها جليّة واضحة، فهي شكرٌ لله على إكمالِ الصيام والقيام، فإنّ صيامَ رمضان وقيامَه نعمة من الله لا بدّ أن تشكرَ الله على هذه النّعمة العظيمة، وهي أيضًا شكرٌ لله على دوران العامِ عليك وأنت في سلامةٍ وصحّة وعافية، وهي أيضًا تدريبٌ للمسلم على خلُق السخاء والبذلِ والجود، وهي أيضًا طعمة للمساكين ليشارِكوا إخوانَهم يومَ العيد فرحتَهم وسرورَهم، حيث توفّر لهم طعامُ ذلك اليوم، وهي طُهرة للصّائم ممّا حصل عليه في صيامه من لغوٍ ورفث، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله صدقةَ الفطر طهرةً للصّائم من اللّغو الرفث، وطعمةً للمساكين، فمن أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدّاها بعد الصلاة فهي صدقةٌ من الصدقات [9].
وهذه الفِطرة أوجبَها رسول الله في طعام الآدميِّين من التّمر والشعيرِ والأقِط والزبيب، قال ابن عمر: فرض رسول الله صدقةَ الفطر صاعًا من طعامٍ تمرٍ أو صاعًا من شعير [10] ، وقال: وكان الشعير من طعامهم، قال أبو سعيد: كنّا نخرجها زمنَ رسول الله صاعًا من طعام، وكان طعامنا يومئذ التّمرَ والشعير والأقِط والزبيب [11] ، فلا يجزِئ من غيرِ طعامِ الآدميّين كما أرشدَ إلى ذلك رسول الله.
وإخراج قيمتِها عنها غيرُ مجزئ مع الإمكان، لأنّ ذلك مخالفٌ لهدي النبيّ ، ومخالفٌ لهدي خلفائِه الرّاشدين، ولأنّ ذلك إحداث في الدّين، و((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) [12] ، ولأنّ النبيّ أوجبها من أصنافٍ معيّنة، ولأنّ إخراجَها من الطعام يجعل الناسَ يتوارثونها، وينقلها الصغارُ عن الكبار، ويشاهدون كيلَها وتوزيعَها، بخلافِ [ما] لو كانت نقودًا، فلا يعلَم بها إلا آخذُها.
وهذه الزكاةُ مقدارُ الواجبِ فيها صاعٌ بصاع النبيّ كما قال ابن عمر وأبو سعيد أن النبيّ فرضها صاعًا، والصاعُ بالغرامات الموجودةِ يقارب ثلاثَ كيلو، أي: ثلاثة آلاف غرام، فإنّ في ذلك احتياطًا وإبراءً للذمّة إن شاء الله.
ووقتُ وجوبها غروبُ شمسِ آخر يومٍ من رمضان، لأنّها متعلِّقة به، ويجوز إخراجُها قبل العيد بيوم أو يومين، كما كان ابن عمر يعطيها من يتقبّلها، وكانوا يخرِجونها قبل العيد بيوم أو يومين [13] ، والأفضل لمن تمكّن وقدِر أن يخرجَها يومَ العيد قبل الصلاة إن كان مستطيعًا لا يخشى مضايقةً لقول أبي سعيد: كنّا نخرجها يومَ الفطر على عهد رسول الله [14] ، وفي بعضِ الألفاظ: أمَر أن تؤدَّى قبل خروجِ النّاس إلى الصلاة [15].
فيخرِجها المسلم في المكانِ الذي يدركه فيه آخرُ يومٍ من رمضان، يخرجها في ذلك المكان لأنّها متعلِّقة ببدنِه، ويعطيها الفقراءَ والمساكين، ويجتهد أن تكونَ فطرته من النّوع الجيّد، فإنّ الله يقول: وَلاَ تَيَمَّمُواْ ?لْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267]، ويحرص على أن يعطيَها من يغلِب على ظنّه أنّهم مستحقّون لها، ينتفعُون بها، ويستفيدون منها، ولا يغترّ بمن يسألها وليسَ أهلاً لها، ويختار أطيبَ ما يكون، فإنّه كلما طابَ الزكاة عظُم أجرك بتوفيقِ الله.
فاحرصوا على أدائها وإخراجها، واهتمّوا بذلك لعلكم تفلحون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى? وَذَكَرَ ?سْمَ رَبّهِ فَصَلَّى? [الأعلى:14، 15].
وكما نعلم أنّها من الطعام، فالشعير والأرز والبرّ كلّه طعام، وإن لم يكن الشعير اليومَ طعامًا، فما كان قائمًا مقامَه فإخراج الأرز والبرّ قد يكون أولى من غيره؛ لأنّه الطعام الذي يعتاده النّاس، فاحرصوا على إتقانِها واختيارِ الطيّب منها وما تريدونَه لبيوتكم، فأخرجوا منه على المساكين، ففي ذلك الخير الكثير.
تقبّل الله منّي ومنكم أعمالنا، إنّه على كلّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2016، 2018)، ومسلم في الصيام (1167) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التراويح (2017) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[3] أخرجه البخاري في صلاة التراويح (2015)، ومسلم في الصيام (1165) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه الترمذي في الدعوات، باب: في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله (3540) عن أنس رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه الضياء في المختارة (4/399)، وأورده الألباني في صحيح الترغيب (1616).
[5] أخرجه مسلم في البر والصلة، باب: تحريم الظلم (2577) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (1503)، ومسلم في الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984) بنحوه.
[7] رواه الشافعي في الأم في الزكاة، باب الفطر (4/228)، والدارقطني في السنن في زكاة الفطر (2/141)، وقال: "رفعه القاسم، وليس بالقوي، والصواب موقوف"، والبيهقي في الكبرى في الزكاة، باب: إخراج الزكاة عن نفسه وغيره (4/161)، وقال: "إسناده غير قوي" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه، قال الحافظ في التلخيص الحبير (2/184): "فيه ضعف وإرسال"، وضعفه الصنعاني في السبل (2/138)، وحسنه الألباني في الإرواء (839).
[8] أخرجه ابن أبي شيبة في الزكاة، باب في صدقة الفطر عما في البطن (2/ 432)، وأحمد في مسائل ابنه (644)، وفي سنده انقطاع، ولذا ضعفه الألباني في الإرواء (3/ 331). وأخرج عبد الرزاق في الزكاة، باب: هل يزكي على الحبل؟ (5788)، وابن أبي شيبة أيضًا في الزكاة، باب: من قال: صدقة الفطر صاع من شعير (2/ 398) عن أبي قلابة قال: كان يعجبهم أن يعطوا زكاة الفطر عن الصغير والكبير حتى على الحبل في بطن أمه.
[9] أخرجه أبو داود في الزكاة، باب: زكاة الفطر (1609)، وابن ماجه في الزكاة، باب: صدقة الفطر (1927)، وصححه الحاكم (1/409)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1420).
[10] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (1503)، ومسلم في الزكاة، باب: زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير (984) وليس فيه لفظة: ((طعام)).
[11] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة قبل العيد (1510)، ومسلم في الزكاة (985).
[12] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[13] أخرجه البخاري في الزكاة (1511) بنحوه.
[14] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة قبل العيد (1510)، ومسلم في الزكاة (985).
[15] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: فرض صدقة الفطر (1503)، ومسلم في الزكاة، باب: الأمر بإخراج زكاة الفطر قبل الصلاة (986) عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، وجِدّوا واجتهِدوا في بقيّة شهركم، فعسى الله أن يمنّ علينا وعليكم بالقبول. مَن كان محسنًا فيما مضى فليواصِل الإحسان بالإحسان، ومَن كان مفرِّطًا فليتدارك بقيّة شهره، فعسى الله أن يمنَّ بتوبةٍ من عنده.
فاجتهِدوا ـ رحمكم الله ـ في هذه الليالي والأيّام، وتقرّبوا إلى الله فيها بصالح الأعمال، واسألوا اللهَ أن يختمَ لكم بالحسنى، فإنّ العملَ بالختام، والنبيّ قال لمّا قال له جبريل: رغِم أنف رجل أدركه رمضان فخرج فلم يغفر له، فأبعده الله، فقل: آمين، فقال النبي: ((آمين)) [1].
فالحذَر الحذر عبادَ الله، الحذر الحذر عبادَ الله، فإنّ الله جلّ وعلا لا ينظر إلى صورِنا وأموالِنا، ولكن ينظر إلى قلوبِنا وأعمالنا، فعامِلوا اللهَ بالصّدق فيما بينكم وبينه لعلّكم تفلحون. قيل لبعض السلف: أرأيتَ المريضَ والحائض والمسافر ألَهم من ليلةِ القدر نصيب؟ قال: من تقبّل الله منه فله في ليلةِ القدر نصيب.
فاجتهِدوا عسى الله أن يمنَّ علينا وعليكم بإدراكِ تلك الليلة، وأن يجعلَنا وإيّاكم فيها من الفائزين برضوانه، المعتَقين من عذابِه، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (646)، والبزار، وأبو يعلى (5922)، والطبراني في الأوسط (8131، 8994)، والبيهقي (4/304) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (1888)، وابن حبان (907)، قال الهيثمي في المجمع (10/167): "فيه كثير بن زيد الأسلمي، وقد وثقه جماعة وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/291)، وصححه ابن حبان (409)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "فيه عمران بن أبان، وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد، وبقية رجاله ثقات". وله شاهد آخر من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه أخرجه الطبراني (19/144)، والبيهقي في الشعب (1572)، وصححه الحاكم (7256)، قال الهيثمي في المجمع (10/166): "رجاله ثقات". وهذه الأحاديث الثلاثة صححها الألباني في صحيح الترغيب (995، 996، 997). وفي الباب أيضا عن عمار بن ياسر وجابر بن سمرة وجابر بن عبد الله وابن عباس وابن مسعود وأنس وعبد الله بن الحارث رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (10/164-166).
(1/3878)
أحكام الإحداد في الإسلام
الأسرة والمجتمع, فقه
الجنائز, المرأة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/10/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدة المتوفى عنها زوجها. 2- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها. 3- تعريف الإحداد. 4- الحكمة من إحداد الزوجة على زوجها. 5- كيفية الإحداد في الجاهلية. 5- صفة الإحداد في الإسلام. 6- نهي المرأة عن الإحداد فوق ثلاث لغير زوجها. 7- أمور ليست من الإحداد الشرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: وَ?لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْو?جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، ويقول جل جلاله: وَأُوْلَـ?تُ ?لأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
ففي هاتين الآيتين بيانٌ من الله جلّ وعلا في عِدّة المتوفَّى عنها زوجها، وأن المتوفَّى عنها زوجها لا تخلو من حالين: حالة أن تكون حاملة، فعِدّتها وضع حملها، والإحدادُ واجبٌ عليها في مدّة الحمل، قلَّ ذلك الحمل أو كثر، فلو كانت في ابتداءِ الحمل لاستكملت مدّة الحمل كلَّه، ولو لم يبقَ منه إلاّ يوم ثم انقضى لانقضت عدّتها، فعدّتها مقدّرة بوضع حملِها سواءً كان في أوّله أو في آخره. وأمّا غير الحامل فجعل الله عدّتها أربعةَ أشهُر وعشرةَ أيام.
ودلّت سنّة محمد على وجوب الإحداد على المتوفَّى عنها زوجُها زمنَ العدّة سواءً كانت بالحمل أو بالأشهر، وهذا الإحدادُ عرّفه العلماء بأنّه اجتناب ما يدعو إلى الرّغبة في زواجها، فتجتنب كلَّ ما يدعو إلى الرغبة في زواجها؛ لأنها ممنوعةٌ أثناء العِدّة من أن يخطبَها أحد من الناس، فهو اجتناب ما يدعو إلى نكاحها واجتنابُ ما يرغّب النظر إليها.
وهذا الإحداد الشرعيُّ الهدفُ منه تعظيم حقِّ الزوج وتعظيم فِراقه، وهو عبادةٌ لله، وفيه التأكّد من براءة الرحِم إن كانت غيرَ حامل وممّن يمكن حملُها، وأيضًا كما سبق تعظيمُ حقّ الزوج وبيان ما لعقدِ النكاح من الأثر العظيم؛ لأن هذا التربّص في هذه المدّة كلّ ذلك مطلوبٌ طاعةً لله وتعظيمًا لعقدِ هذا النكاح؛ فإنّه من العقود المعظّمة، يقول الله جل وعلا: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـ?قًا غَلِيظًا [النساء:21].
وهذا الإحداد الشرعيُّ الذي تلزَمه المرأة أثناءَ العِدّة هي أمور يسيرة وبإمكانها تحمُّلها ولا مشقّةَ عليها فيها، وهذا الإحدادُ مناقضٌ لما كان عليه أهلُ الجاهلية في جاهليتهم، فلقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفِّي عنها زوجها تلزم مكانًا سيّئًا حِفشًا من بيتها أي: أسوأ مكان من بيتها وأقلّه مساحة، تجلس فيه سنةً كاملة، لا تغيّر ملابسها، ولا يمسّها ماء ولا طيب، بل تلبس شرّ ملابسها، وتبقى في هذا المكان الضيّق الصغير سنةً كاملةً اثني عشر شهرًا، عليها شرّ ملابسها، لا يراها أحَد، ولا يخالطها أحَد، فإذا مضى الحولُ كاملاً أتَوها بدابّة حمارٍ أو شاة أو طائر فتفتضُّ به أي: تنقُض به ذلك الإحدادَ، فلِنَتَن الرائحة وقبحها قلّما فضَّت بشيء إلا هَلك، أي: أنها تدلك جسدَها في ذلك الحيوان، فلِقبح رائحتها ونتنها يموتُ ذلك الحيوان في الغالب، ثم يعطونها بعرةً تلقيها بمعنى أنّ عدتها قد انتهت، هكذا كانت في الجاهلية، فجاء الإسلام بخلاف ذلك الأمر، وجاء بإحدادِ شرعيّ، فيه خير كثير وكفٌّ للمرأة من أن يتعرّض لها من يخطبها أو يرغَب أحد في النظر إليها ما دامت في تلك العدة.
وهذا الإحداد الشرعيّ بيّنته سنة رسول الله. فأولاً: جاءت السنّة بإلزام المتوفَّى عنها زوجها أن تبقَى في البيت الذي توفّيَ عنها زوجها فيه إلى أن تنقضيَ عدتها، أخبرت فريعة بنت مالك رضي الله عنها أن زوجَها خرج في طلب أرقّاء له فقتلوه، فأتت النبيّ (1/3879)
أحكام الإحداد في الإسلام
الأسرة والمجتمع, فقه
الجنائز, المرأة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/10/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدة المتوفى عنها زوجها. 2- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها. 3- تعريف الإحداد. 4- الحكمة من إحداد الزوجة على زوجها. 5- كيفية الإحداد في الجاهلية. 5- صفة الإحداد في الإسلام. 6- نهي المرأة عن الإحداد فوق ثلاث لغير زوجها. 7- أمور ليست من الإحداد الشرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: وَ?لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْو?جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، ويقول جل جلاله: " + day +myweekday );
document.write(month + ", " + year + " "); م الموافق 19/ محرم/ 1430هـ
أحكام الإحداد في الإسلام
4267
الأسرة والمجتمع, فقه
الجنائز, المرأة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/10/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدة المتوفى عنها زوجها. 2- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها. 3- تعريف الإحداد. 4- الحكمة من إحداد الزوجة على زوجها. 5- كيفية الإحداد في الجاهلية. 5- صفة الإحداد في الإسلام. 6- نهي المرأة عن الإحداد فوق ثلاث لغير زوجها. 7- أمور ليست من الإحداد الشرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: وَ?لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْو?جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، ويقول جل جلاله: وَأُوْلَـ?تُ ?لأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
ففي هاتين الآيتين بيانٌ من الله جلّ وعلا في عِدّة المتوفَّى عنها زوجها، وأن المتوفَّى عنها زوجها لا تخلو من حالين: حالة أن تكون حاملة، فعِدّتها وضع حملها، والإحدادُ واجبٌ عليها في مدّة الحمل، قلَّ ذلك الحمل أو كثر، فلو كانت في ابتداءِ الحمل لاستكملت مدّة الحمل كلَّه، ولو لم يبقَ منه إلاّ يوم ثم انقضى لانقضت عدّتها، فعدّتها مقدّرة بوضع حملِها سواءً كان في أوّله أو في آخره. وأمّا غير الحامل فجعل الله عدّتها أربعةَ أشهُر وعشرةَ أيام.
ودلّت سنّة محمد على وجوب الإحداد على المتوفَّى عنها زوجُها زمنَ العدّة سواءً كانت بالحمل أو بالأشهر، وهذا الإحدادُ عرّفه العلماء بأنّه اجتناب ما يدعو إلى الرّغبة في زواجها، فتجتنب كلَّ ما يدعو إلى الرغبة في زواجها؛ لأنها ممنوعةٌ أثناء العِدّة من أن يخطبَها أحد من الناس، فهو اجتناب ما يدعو إلى نكاحها واجتنابُ ما يرغّب النظر إليها.
وهذا الإحداد الشرعيُّ الهدفُ منه تعظيم حقِّ الزوج وتعظيم فِراقه، وهو عبادةٌ لله، وفيه التأكّد من براءة الرحِم إن كانت غيرَ حامل وممّن يمكن حملُها، وأيضًا كما سبق تعظيمُ حقّ الزوج وبيان ما لعقدِ النكاح من الأثر العظيم؛ لأن هذا التربّص في هذه المدّة كلّ ذلك مطلوبٌ طاعةً لله وتعظيمًا لعقدِ هذا النكاح؛ فإنّه من العقود المعظّمة، يقول الله جل وعلا: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـ?قًا غَلِيظًا [النساء:21].
وهذا الإحداد الشرعيُّ الذي تلزَمه المرأة أثناءَ العِدّة هي أمور يسيرة وبإمكانها تحمُّلها ولا مشقّةَ عليها فيها، وهذا الإحدادُ مناقضٌ لما كان عليه أهلُ الجاهلية في جاهليتهم، فلقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفِّي عنها زوجها تلزم مكانًا سيّئًا حِفشًا من بيتها أي: أسوأ مكان من بيتها وأقلّه مساحة، تجلس فيه سنةً كاملة، لا تغيّر ملابسها، ولا يمسّها ماء ولا طيب، بل تلبس شرّ ملابسها، وتبقى في هذا المكان الضيّق الصغير سنةً كاملةً اثني عشر شهرًا، عليها شرّ ملابسها، لا يراها أحَد، ولا يخالطها أحَد، فإذا مضى الحولُ كاملاً أتَوها بدابّة حمارٍ أو شاة أو طائر فتفتضُّ به أي: تنقُض به ذلك الإحدادَ، فلِنَتَن الرائحة وقبحها قلّما فضَّت بشيء إلا هَلك، أي: أنها تدلك جسدَها في ذلك الحيوان، فلِقبح رائحتها ونتنها يموتُ ذلك الحيوان في الغالب، ثم يعطونها بعرةً تلقيها بمعنى أنّ عدتها قد انتهت، هكذا كانت في الجاهلية، فجاء الإسلام بخلاف ذلك الأمر، وجاء بإحدادِ شرعيّ، فيه خير كثير وكفٌّ للمرأة من أن يتعرّض لها من يخطبها أو يرغَب أحد في النظر إليها ما دامت في تلك العدة.
وهذا الإحداد الشرعيّ بيّنته سنة رسول الله. فأولاً: جاءت السنّة بإلزام المتوفَّى عنها زوجها أن تبقَى في البيت الذي توفّيَ عنها زوجها فيه إلى أن تنقضيَ عدتها، أخبرت فريعة بنت مالك رضي الله عنها أن زوجَها خرج في طلب أرقّاء له فقتلوه، فأتت النبيّ وقالت: يا رسول الله، قتِل زوجي وأنا بدارٍ شاسعة من أهلي، ولم يخلّف لي زوجي نفقةً ولا مالاً أرِثه، والدار ليسَت دارًا له، وإني أحبّ أن أنتقِل إلى أهلي وإخوتي، وإنّ بقائي في بيت والدي وإخوتي أرفقُ بشأني، فرخّص لها النبي أن تنتقل، قالت: فلم أغادِر المسجدَ أو الحجرة حتى دعاني وقال: ((امكُثي في البيت الذي توُفي عنك زوجك حتى يبلغ الكتابُ أجله)) [1] ، فألزمها أن تبقى في المنزل إلى أن تنتهيَ العدّة مع أنها ذكرَت بُعدَ الدار، وأنه ليس ملكًا لزوجِها، ولم يخلِّف نفقةً ولا مالاً، ومع هذا ألزمها بالبقاء في ذلك البيت إلى أن تنقضيَ العدّة.
فهذا حكمٌ من أحكام الإحداد؛ أنّ المتوفَّى عنها زوجها تلزَم المكانَ الذي كانت تسكُنه قبلَ موت زوجها، وهو مكان إقامتها. أما الشيء الطارئ فلا، لكن المكان الذي هو موضِع لإقامة، أمرَها النبيّ أن تلزمه مدّةَ الإحداد.
وجاء في السنة أيضًا أنّ المحادّة ممنوعة من الطّيب، فيقول : ((ولا تكتحِل ولا تمسّ طيبًا)) [2] ، فمنعها من الطيبِ مطلقًا، سواءً كان هذا الطيب بخورًا أو كان من العطورات العامّة، فجنس الطيب ممنوعة المحادّة منه، وكذلك الاكتحال ممنوعة المحادّة منه، وكلّ وسائل التجميل.
امرأةٌ من نساء الصحابيات تشتكي قالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفي عنها زوجُها وهي تشتكي عينَها أأكحِّلها؟ قال: ((لا)) مرتين أو ثلاثًا [3]. فمنعها من الكحل، ومنعها من مسّ الطيب.
وجاء في السنة أيضًا منعُها من لبس كلّ ثوب معدٍّ للتجمل، فإنه قال لها: ((ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا)) [4] ، يعني: نهاها عن ذلك لأنه يريد منها أن لا تتعرَّض للخُطّاب، فمنعها من لبس الثوبِ المعَدّ للتجمّل.
وجاء في السنة أيضًا منعُها من الامتِشاط بالحناء والطيب، وأرشَدها للسِّدر تغلّف به رأسَها لأنّه ليس بطيب، كلّ هذا لأنّ هذا الطيبَ والحناء من مظاهر الزينة. ولما دخل النبيّ على أمّ سلمة ورآها قد وضعت على عينها الصَّبر قال: ((ما هذا؟)) قالت: وضعته على عيني، إنّي أشتكي، قال: ((إنه يشُبُّ الوجه ـ أي: يجمِّله ـ ، ضعِيه باللَّيل ثمّ انزعيه بالنّهار)) [5]. هكذا دلّت سنة رسول الله ، ولم يحدِّد لها لونًا في اللباس، وإنما منعها من ثوبٍ معَدٍّ للجمال والزينة، أمّا لون اللباس فلم يحدّد لها أسوَد ولا أخضَر ولا غيره، بل هي مباح لها كلُّ لبس يعتاد النساء لبسَه ما لم يكن مُعدًّا للتجمّل والزينة به، هكذا سنة رسول الله.
ومنعها أيضًا من لبسِ الحليّ، فجاء في السنة نهي المحادَّة عن لبس حليّ الذهب والفضة [6] ، وجاء المنع من خطبتها أثناء عدّتها، فإن خطبتَها أثناءَ العدة أمرٌ محرّم شرعًا بنصّ الكتاب.
أيتها المسلمَة، وما سِوى ما ذكِر فإنّ ذلك مباح لها، مباحٌ لها الاغتسال متى شاءت، ومباحٌ لها النظافة بوسائل التنظيفِ ما لم يكن طيبًا كيف شاءت، ومباح لها التنقّل في دارها من أولّه إلى آخره، ومباح لها العمل في دارها، ومباح لها ما كانت تعمَل، وصلاتها كصلاتها قبل ذلك، تصلّي صلاتها في وقتها، وليس هناك أمرٌ يخصّها في الصلاة مبادرةً أو غير ذلك، بل كلّ ذلك من الأمور المطلَقة، إنما هذه الأمورُ الخمسة وهي: البقاء في المنزل، الامتناع عن الطيب، الامتناع عن الكُحل، الامتناع عن لبس الحليّ من الذهب والفضة، الامتناع عن لبس الثياب المعدَّة للتجمّل، هذا الذي نهت السنّة النبوية عنه، وما سوى ذلك أمرٌ جائز لها.
قالت امرأة: يا رسول الله، توفِّي زوجي، أفأجُدّ نخلي؟ قال: ((جُدّي نخلك، فلعلّكِ أن تتصدّقي منه)) ، فأباح لها العملَ في بيتها وحقلِها، ولم يمنعها من ذلك، ولكن منعها من الخروج، ولكن قال العلماء: الخروج إذا دعَت إليه الضرورة بأن لا يكون أحدٌ يقضي حاجتَها أو اضطرّت إلى علاج أو أمرٍ ضروريّ يتوقّف الأمر على خروجها لحاجةٍ ما فإنها تخرج، ولكنها إذا انقضَت حاجتها ترجِع، مع الالتزام أحكام الإحداد وعدم الإخلال بشيء مما بيّنته سنة محمد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/370، 420)، وأبو داود في الطلاق (2300)، والترمذي في الطلاق (1204)، والنسائي في الطلاق (2530، 2532)، وابن ماجه في الطلاق (2031) عن فريعة رضي الله عنها، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الذهلي كما في المستدرك (2/226)، وابن حبان (4292، 4293)، والحاكم (2832، 2833)، وابن القيم في الزاد (5/603)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2016).
(1/3880)
أحكام الإحداد في الإسلام
الأسرة والمجتمع, فقه
الجنائز, المرأة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
15/10/1420
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عدة المتوفى عنها زوجها. 2- وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها. 3- تعريف الإحداد. 4- الحكمة من إحداد الزوجة على زوجها. 5- كيفية الإحداد في الجاهلية. 5- صفة الإحداد في الإسلام. 6- نهي المرأة عن الإحداد فوق ثلاث لغير زوجها. 7- أمور ليست من الإحداد الشرعي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يقول الله جل جلاله في كتابه العزيز: وَ?لَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْو?جًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?للَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، ويقول جل جلاله: وَأُوْلَـ?تُ ?لأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق:4].
ففي هاتين الآيتين بيانٌ من الله جلّ وعلا في عِدّة المتوفَّى عنها زوجها، وأن المتوفَّى عنها زوجها لا تخلو من حالين: حالة أن تكون حاملة، فعِدّتها وضع حملها، والإحدادُ واجبٌ عليها في مدّة الحمل، قلَّ ذلك الحمل أو كثر، فلو كانت في ابتداءِ الحمل لاستكملت مدّة الحمل كلَّه، ولو لم يبقَ منه إلاّ يوم ثم انقضى لانقضت عدّتها، فعدّتها مقدّرة بوضع حملِها سواءً كان في أوّله أو في آخره. وأمّا غير الحامل فجعل الله عدّتها أربعةَ أشهُر وعشرةَ أيام.
ودلّت سنّة محمد على وجوب الإحداد على المتوفَّى عنها زوجُها زمنَ العدّة سواءً كانت بالحمل أو بالأشهر، وهذا الإحدادُ عرّفه العلماء بأنّه اجتناب ما يدعو إلى الرّغبة في زواجها، فتجتنب كلَّ ما يدعو إلى الرغبة في زواجها؛ لأنها ممنوعةٌ أثناء العِدّة من أن يخطبَها أحد من الناس، فهو اجتناب ما يدعو إلى نكاحها واجتنابُ ما يرغّب النظر إليها.
وهذا الإحداد الشرعيُّ الهدفُ منه تعظيم حقِّ الزوج وتعظيم فِراقه، وهو عبادةٌ لله، وفيه التأكّد من براءة الرحِم إن كانت غيرَ حامل وممّن يمكن حملُها، وأيضًا كما سبق تعظيمُ حقّ الزوج وبيان ما لعقدِ النكاح من الأثر العظيم؛ لأن هذا التربّص في هذه المدّة كلّ ذلك مطلوبٌ طاعةً لله وتعظيمًا لعقدِ هذا النكاح؛ فإنّه من العقود المعظّمة، يقول الله جل وعلا: وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَـ?قًا غَلِيظًا [النساء:21].
وهذا الإحداد الشرعيُّ الذي تلزَمه المرأة أثناءَ العِدّة هي أمور يسيرة وبإمكانها تحمُّلها ولا مشقّةَ عليها فيها، وهذا الإحدادُ مناقضٌ لما كان عليه أهلُ الجاهلية في جاهليتهم، فلقد كانت المرأة في الجاهلية إذا توفِّي عنها زوجها تلزم مكانًا سيّئًا حِفشًا من بيتها أي: أسوأ مكان من بيتها وأقلّه مساحة، تجلس فيه سنةً كاملة، لا تغيّر ملابسها، ولا يمسّها ماء ولا طيب، بل تلبس شرّ ملابسها، وتبقى في هذا المكان الضيّق الصغير سنةً كاملةً اثني عشر شهرًا، عليها شرّ ملابسها، لا يراها أحَد، ولا يخالطها أحَد، فإذا مضى الحولُ كاملاً أتَوها بدابّة حمارٍ أو شاة أو طائر فتفتضُّ به أي: تنقُض به ذلك الإحدادَ، فلِنَتَن الرائحة وقبحها قلّما فضَّت بشيء إلا هَلك، أي: أنها تدلك جسدَها في ذلك الحيوان، فلِقبح رائحتها ونتنها يموتُ ذلك الحيوان في الغالب، ثم يعطونها بعرةً تلقيها بمعنى أنّ عدتها قد انتهت، هكذا كانت في الجاهلية، فجاء الإسلام بخلاف ذلك الأمر، وجاء بإحدادِ شرعيّ، فيه خير كثير وكفٌّ للمرأة من أن يتعرّض لها من يخطبها أو يرغَب أحد في النظر إليها ما دامت في تلك العدة.
وهذا الإحداد الشرعيّ بيّنته سنة رسول الله. فأولاً: جاءت السنّة بإلزام المتوفَّى عنها زوجها أن تبقَى في البيت الذي توفّيَ عنها زوجها فيه إلى أن تنقضيَ عدتها، أخبرت فريعة بنت مالك رضي الله عنها أن زوجَها خرج في طلب أرقّاء له فقتلوه، فأتت النبيّ وقالت: يا رسول الله، قتِل زوجي وأنا بدارٍ شاسعة من أهلي، ولم يخلّف لي زوجي نفقةً ولا مالاً أرِثه، والدار ليسَت دارًا له، وإني أحبّ أن أنتقِل إلى أهلي وإخوتي، وإنّ بقائي في بيت والدي وإخوتي أرفقُ بشأني، فرخّص لها النبي أن تنتقل، قالت: فلم أغادِر المسجدَ أو الحجرة حتى دعاني وقال: ((امكُثي في البيت الذي توُفي عنك زوجك حتى يبلغ الكتابُ أجله)) [1] ، فألزمها أن تبقى في المنزل إلى أن تنتهيَ العدّة مع أنها ذكرَت بُعدَ الدار، وأنه ليس ملكًا لزوجِها، ولم يخلِّف نفقةً ولا مالاً، ومع هذا ألزمها بالبقاء في ذلك البيت إلى أن تنقضيَ العدّة.
فهذا حكمٌ من أحكام الإحداد؛ أنّ المتوفَّى عنها زوجها تلزَم المكانَ الذي كانت تسكُنه قبلَ موت زوجها، وهو مكان إقامتها. أما الشيء الطارئ فلا، لكن المكان الذي هو موضِع لإقامة، أمرَها النبيّ أن تلزمه مدّةَ الإحداد.
وجاء في السنة أيضًا أنّ المحادّة ممنوعة من الطّيب، فيقول : ((ولا تكتحِل ولا تمسّ طيبًا)) [2] ، فمنعها من الطيبِ مطلقًا، سواءً كان هذا الطيب بخورًا أو كان من العطورات العامّة، فجنس الطيب ممنوعة المحادّة منه، وكذلك الاكتحال ممنوعة المحادّة منه، وكلّ وسائل التجميل.
امرأةٌ من نساء الصحابيات تشتكي قالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفي عنها زوجُها وهي تشتكي عينَها أأكحِّلها؟ قال: ((لا)) مرتين أو ثلاثًا [3]. فمنعها من الكحل، ومنعها من مسّ الطيب.
وجاء في السنة أيضًا منعُها من لبس كلّ ثوب معدٍّ للتجمل، فإنه قال لها: ((ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا)) [4] ، يعني: نهاها عن ذلك لأنه يريد منها أن لا تتعرَّض للخُطّاب، فمنعها من لبس الثوبِ المعَدّ للتجمّل.
وجاء في السنة أيضًا منعُها من الامتِشاط بالحناء والطيب، وأرشَدها للسِّدر تغلّف به رأسَها لأنّه ليس بطيب، كلّ هذا لأنّ هذا الطيبَ والحناء من مظاهر الزينة. ولما دخل النبيّ على أمّ سلمة ورآها قد وضعت على عينها الصَّبر قال: ((ما هذا؟)) قالت: وضعته على عيني، إنّي أشتكي، قال: ((إنه يشُبُّ الوجه ـ أي: يجمِّله ـ ، ضعِيه باللَّيل ثمّ انزعيه بالنّهار)) [5]. هكذا دلّت سنة رسول الله ، ولم يحدِّد لها لونًا في اللباس، وإنما منعها من ثوبٍ معَدٍّ للجمال والزينة، أمّا لون اللباس فلم يحدّد لها أسوَد ولا أخضَر ولا غيره، بل هي مباح لها كلُّ لبس يعتاد النساء لبسَه ما لم يكن مُعدًّا للتجمّل والزينة به، هكذا سنة رسول الله.
ومنعها أيضًا من لبسِ الحليّ، فجاء في السنة نهي المحادَّة عن لبس حليّ الذهب والفضة [6] ، وجاء المنع من خطبتها أثناء عدّتها، فإن خطبتَها أثناءَ العدة أمرٌ محرّم شرعًا بنصّ الكتاب.
أيتها المسلمَة، وما سِوى ما ذكِر فإنّ ذلك مباح لها، مباحٌ لها الاغتسال متى شاءت، ومباحٌ لها النظافة بوسائل التنظيفِ ما لم يكن طيبًا كيف شاءت، ومباح لها التنقّل في دارها من أولّه إلى آخره، ومباح لها العمل في دارها، ومباح لها ما كانت تعمَل، وصلاتها كصلاتها قبل ذلك، تصلّي صلاتها في وقتها، وليس هناك أمرٌ يخصّها في الصلاة مبادرةً أو غير ذلك، بل كلّ ذلك من الأمور المطلَقة، إنما هذه الأمورُ الخمسة وهي: البقاء في المنزل، الامتناع عن الطيب، الامتناع عن الكُحل، الامتناع عن لبس الحليّ من الذهب والفضة، الامتناع عن لبس الثياب المعدَّة للتجمّل، هذا الذي نهت السنّة النبوية عنه، وما سوى ذلك أمرٌ جائز لها.
قالت امرأة: يا رسول الله، توفِّي زوجي، أفأجُدّ نخلي؟ قال: ((جُدّي نخلك، فلعلّكِ أن تتصدّقي منه)) ، فأباح لها العملَ في بيتها وحقلِها، ولم يمنعها من ذلك، ولكن منعها من الخروج، ولكن قال العلماء: الخروج إذا دعَت إليه الضرورة بأن لا يكون أحدٌ يقضي حاجتَها أو اضطرّت إلى علاج أو أمرٍ ضروريّ يتوقّف الأمر على خروجها لحاجةٍ ما فإنها تخرج، ولكنها إذا انقضَت حاجتها ترجِع، مع الالتزام أحكام الإحداد وعدم الإخلال بشيء مما بيّنته سنة محمد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/370، 420)، وأبو داود في الطلاق (2300)، والترمذي في الطلاق (1204)، والنسائي في الطلاق (2530، 2532)، وابن ماجه في الطلاق (2031) عن فريعة رضي الله عنها، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الذهلي كما في المستدرك (2/226)، وابن حبان (4292، 4293)، والحاكم (2832، 2833)، وابن القيم في الزاد (5/603)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2016).
[2] أخرجه البخاري في الطلاق (5341، 5343)، ومسلم في الطلاق (938) عن أم عطية رضي الله عنها.
[3] أخرجه البخاري في الطلاق (5337، 5339)، ومسلم في الطلاق (1489) عن أم سلمة رضي الله عنها.
[4] أخرجه البخاري في الطلاق (5341، 5343)، ومسلم في الطلاق (938) عن أم عطية رضي الله عنها.
[5] أخرجه أبو داود في الطلاق (2305)، والنسائي في الطلاق (3537)، والبيهقي (7/440) عن أم سلمة رضي الله عنها، وحسنه ابن القيم في الزاد (5/624)، وابن حجر في بلوغ المرام (3/202ـ سبل السلام ـ)، وفي إسناده من لا يعرف، ولذا أورده الألباني في ضعيف سنن أبي داود (502).
[6] نهي المعتدة من وفاة عن الحلي أخرجه أحمد (6/302)، وأبو داود في الطلاق (2304)، وأبو يعلى (7012)، والطبراني في الأوسط (7732) عن أم سلمة رضي الله عنها، وصححه ابن الجارود (767)، وابن حبان (4306)، وجوده ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/232)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2020).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، وإذ سمعنا ما يلزَم المرأةَ المتوفَّى عنها زوجُها من الإحدادِ نعلم أنّ هذه الشريعةَ جاءت بكلّ خير، ونهت عن كلّ ضرَر وأذًى، فالشارع منَع المسلمةَ من النياحةِ على الميّت وأخبر أنّ النائحةَ إذا لم تتُب قبل موتها تُقام يوم القيامة وعليها سِربال من قطِران ودِرع من جرب [1] ، وأن نياحتها ورفعَ صوتها وشقَّ جيبها ونتفَ شعرها كلّ هذا من الأمور المنهيّ عنها، لكنه أرشدها إلى مدّة معيّنة يكون فيه نوعٌ من تقدير الزوج وتقدير العَقد ونحو ذلك، لكنه منعها من أمور تخالفُ الشرع.
أمّ حبيبة زوج النبي بلغها موتُ أبيها أبي سفيان، فلما مضَت أيامٌ ثلاثة دعَت بطيبٍ فمسحته بذراعيها وقالت: والله، ما لي في الطيب من رغبة، ولكني سمعتُ رسول الله على المنبر يقول: ((لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحادّ على ميت فوقَ ثلاث إلاّ على زوجٍ أربعة أشهر وعشرًا)) [2].
فإذًا لها إذا كان المتوفَّى غير زوجها أن تحادّ ثلاثةَ أيامٍ فقط؛ لأنّ هذا فيه إرضاءً للنفس واستنفادًا لألم المصيبة، لكن منعها فيما فوقَ ذلك، فأمّ حبيبة زوج النبي أرادت أن تطبِّق السنةَ، فلما مضت أيامُ المصيبة عليها دعت بالطِّيب لتظهِر أنّ المصيبةَ قد انتهت، وأنّ الأبَ لا يحادّ عليه؛ لأنّ الإحداد خاصّ بالزوج أربعة أشهر وعشرًا، وإلا فغير الزوج فلِلمرأةِ المحادّةُ عليه، لكن لا يتجاوز ثلاثةَ أيام، لأنّ في الثلاثة أيام تنفيسًا عن مصيبتها وتفريجًا لهمّها، لتفرِغ ما في نفسها من آلام وحزن، لكن إذا زادت على [ثلاثة أيام] عُدَّت من النياحة وتذكّر المصيبة ونفادِ الصبر، وهذا أمر يرفضه الشارع، لكن المرأة المتوفى عنها زوجُها لها خصوصية لأمور أخرى، وهي عدتها أربعة أشهر وعشر وتلزم الإحدادَ، أو مدةُ الحمل إن كانت حاملاً، هكذا جاءت سنة رسول الله.
فعلى المسلمةِ التقيّد بذلك وعدمُ الالتفات إلى ما قد يقوله بعضُ العوام من أنّ المرأة في منزلها لا تصعَد للأعلى، ولا تنزل من الأعلى إلى أسفل، ولا تخرج في فناء الدار ونحو ذلك، كلّ هذا من أمورٍ لا دليل عليها، أو ما يقوله بعض النساء أنها تبقى في ملابسها، وأنها لا تغتسل ولا تمسّ الصابون ولا وسائل التنظيف، كلّ هذا مما يخالف السنة، بل تقلّم الأظفار، وتزيل ما ينبغي إزالته، فتغتسِل بالصابون ووسائل التنظيف غيرِ المطيّبة، فإن ذلك مباح لها ومأذون لها شرعًا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد سيد ولد آدم، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في كتاب الجنائز، باب: التشديد في النياحة (934) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الطلاق (5334، 5339، 5345)، ومسلم في الطلاق (1486).
(1/3881)
خطبة استسقاء
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
سليمان بن إبراهيم الحصين
الهفوف
جامع الخزان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الأحياء للماء. 2- الذنوب سبب القحط والجدب. 3- الدعوة للاستغفار والتواصي بالحق. 4- الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ وأطيعوه، وعظموا أمره ولا تعصوه، فتقوى الله هي الجامعة لكل خير، المانعة من كل شر، واعلموا أن الماء هو مادة الحياة: وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ [الأنبياء:30]، بل أصل خلق الحياة من الماء: وَجَعَلْنَا مِنَ ?لْمَاء كُلَّ شَىْء حَىّ. انظروا إلى حياة الأرض بالماء ونضرتها وتغيرها: وَتَرَى ?لأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ?لْمَاء ?هْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج:5]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ ?للَّهَ أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ ?لاْرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ ?للَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَّهُ مَا فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَمَا فِى ?لأرْضِ وَإِنَّ ?للَّهَ لَهُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [الحج:63، 64].
الماء به استمرار الحياة وبقاؤها، وبفقده وزواله تزول الحياة وتتلاشى، ذكَّر الله به الكفار إعذارًا وإنذارًا، فقال سبحانه: أَمَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ ?لسَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ [النمل:60]، ولذا اعترف المشركون بإنزال الله تعالى للماء وعجز آلهتهم عن فعل ذلك: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ ?لأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ ?للَّهُ قُلِ ?لْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [العنكبوت:63].
تفكر ـ أخي المسلم ـ في طعامك الذي تأكله، فالماء عنصرُه ومادتُه التي لا يكون إلا بها: فَلْيَنظُرِ ?لإِنسَـ?نُ إِلَى? طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا ?لْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا ?لأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَـ?كِهَةً وَأَبًّا مَّتَـ?عًا لَّكُمْ وَلأَنْعَـ?مِكُمْ [عبس:24-32]، وَهُوَ ?لَّذِى أَنزَلَ مِنَ ?لسَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلّ شَىْء فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا وَمِنَ ?لنَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْو?نٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّـ?تٍ مّنْ أَعْنَـ?بٍ وَ?لزَّيْتُونَ وَ?لرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَـ?بِهٍ ?نْظُرُواْ إِلِى? ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِى ذ?لِكُمْ لأَيَـ?تٍ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام:99].
عباد الله، هذا هو الماء الذي خرجتم تسألون الله تعالى إنزاله وإغاثتكم به، لا يشعر بحاجته إليه وافتقاره إلى من خلقه وأوجده إلا من فقد الماء أو تعسر عليه الحصول عليه. انظروا إلى من حولكم ممن ابتلاهم الله بالقحط والجدب كيف هلكت أنعامهم، واحترقت زروعهم، وانقطعت بهم السبل، فاحمدوا الله تعالى واشكروه على هذه النعمة العظيمة، واجعلوها وسيلة لعبادة الله وطاعته.
عبد الله، أقبل نبينا على المهاجرين فقال لهم: ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المَؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القَطْر من السماء ولولا البهائم لم يُمطروا)) رواه ابن ماجه.
إن كل نقص وبلاء وقحط وجدب واضطراب في الأمن وغلاء في المعيشة وخوف وهلع، كل ذلك سببه ما كسبت أيدي الناس من الذنوب والمعاصي، يعاقبهم الله بنقص الأموال والأنفس والثمرات، يعاقبهم بالقحط والجدب ونقص المياه؛ ليرجعوا إليه ويتوبوا من ذنوبهم ويُقلعوا عن معاصيهم.
إننا نشكو إلى الله ما نقع فيه من مخالفة وعصيان، حتى في هذا الشهر الكريم المبارك شهر رمضان، ما زالت وسائل الإعلام وقنوات الفضاء تنشر الرذيلة والفساد وتحارب الدين والأخلاق، تغزو البيوت يتربى عليها الأجيال، ينشأ على أفكارها الأطفال، حتى خرج جيل مُتَميّع في خُلقه، ضائع في ولائه، لا يهمه شيء إلا شهوة بطنه وفرجه، فظهر العقوق وسوء الجوار، ووقع التناكر بين الناس، فهجر الناس تلاوة كتاب الله، كما هجروا العمل به، وتسلّط الأعداء على أمتنا الإسلامية، بعد أن فرقوا بين أبنائها بالشعارات والحزبيات والحدود.
إن واجبنا عظيم في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، ي?بُنَىَّ أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ وَأْمُرْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَ?نْهَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَ?صْبِرْ عَلَى? مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ?لأمُورِ [لقمان:17]، ولا تيأس ولا تَمَل ولا تتخاذل، فعليك بالصبر واحتساب الأجر، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وأكثروا في هذا الشهر الكريم المبارك من الدعاء والاستغفار، فإن الله تعالى يحب من يدعوه ويفرح به، وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، وقال تعالى عن نبيه نوحٍ عليه السلام: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]، وقال تعالى: وَأَنِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى? أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3].
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، ربنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك، لا نملك لأنفسنا نفعًا ولا ضرًا، ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر لنا ذلك، فإنا ضعفاء عاجزون، نشهد أنك إن وكلتنا إلى أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة، فلا نثق يا ربنا إلا برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا، وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة، وصرفت عنا من النقم، فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك، فلا خاب من سألك ورجاك.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا طَبَقًا سَحًّا مُجللاً، عامًا نافعًا غير ضار، اللهم سُقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم سقيا رحمة، لا سقيا عذاب ولا هدم ولا بلاء ولا غرق، اللهم اسق عبادك وبلادك وبهائمك وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت، اللهم أنبت لنا الزرع، وأَدِر لنا الضرع، وأنزل علينا من بركاتك، واجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، سبحان الله، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الكافرين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أصلح ولاة أمور المسلين، ووفقهم للعمل بكتابك وسنة نبيك، اللهم أصلح ولي أمرنا وارزقه البطانة الصالحة، وقِهِ بطانة السوء برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله، اقتدوا بنبيكم في قَلْبِ أَرْدِيَتِكم، تفاؤلا بقلب الأحوال وتبدلها من حال إلى حال، واستقبلوا القبلة وأكثروا من الدعاء.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3882)
خلق الإنسان وتكوينه
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, مخلوقات الله
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التفكر في بديع خلق الإنسان مما يزيد الإيمان. 2- عرض مراحل تكون الجنين كما جاءت في القرآن. 3- كلام علماء الإعجاز المعاصرين في خلق الإنسان. 4- كلام ابن القيم رحمه الله في خلق الإنسان. 5- سبب بكاء الصبي حال ولادته.
_________
الخطبة الأولى
_________
كل واحد منا إذا تأمل في تركيب بدنه، والتناسق بين أعضاء جسده، وكيف أن الله تعالى اختار أن يكون كل عضو في موقعه الذي هو فيه، وشاء جلَّ وعلا أن يضعه في محله الذي يناسبه، ويؤدي وظيفته المناطة به، فإن المؤمن حين يتدبر ذلك ويستشعر قوله تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21] يزداد إيمانه بخالقه الذي أوجده على هذه الهيئة البديعة، وخلقه بهذه الصورة الفريدة، وتظهر له عظمة الخالق وقدرته على كل ما يشاء وما يريد، فتضيء قلبَ المؤمن تلك الآياتُ الباهرات، وتسطع له أنوار اليقين، وتنمحي من قلبه غمرات الشك والريب، وتنقشع عنه ظلماتُ الجهل وغياهبُ الضلالة.
إن أدلة التوحيد على ربه ناطقات، شاهدةٌ بعظمة مدبِّره، ومرشدةٌ إلى بديع صنعه، فهذا الإنسان مكون من قطرة ماء، تقلّبتْ وانتقلت من طور إلى آخر حتى أصبحت عظامًا، ثم كساها سبحانه وتعالى باللحم، وشدها بالأعصاب والأوتار، ونسجها بالعروق، وخلق الأعضاء وركَّبها تركيبًا بديعًا متناسقًا، لا تحيط العقول البشرية بأسراره، ولا تدرك الأفهام الإنسانية حقيقته وكنهه.
وتوضح الآيات القرآنية الكريمة مراحل التخلّق البشري وتبينها، ويصفها الباري في قوله جل من خالق: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:12-14].
إذًا فالقرآن الكريم وضع لكل مرحلة من مراحل الخلق مسمًّى خاصًا، وعَبَّرَ بدقةٍ عن التطورات التي تقع في تلك المراحل حسب تسلسلها الزمني، حيث فصل بين كل مرحلة منها بحرف العطف (ثُمَّ) الذي يدل على التراخي الزمني بين تلك الأطوار، فأول تلك المراحل النطفة في رحم الأم الذي هيَّأه الله تعالى وأعده لأن توضع فيه، فهو المراد بقوله سبحانه: ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ، حيث هو الموضع من الجسم الذي يتخلَّق فيه الجنين ويعيش فيه حتى ولادته.
ثم تكون مرحلة التخليق التي يتتابع فيها خلق الجنين، حيث تأتي مرحلة العلقة، ثم المضغة، ثم العظام، ثم كساء العظام باللحم، ويتميَّز هذا الطور بانتشار العضلات حول العظام وإحاطتها بها كما يحيط الكساء بلابسه، وتبدأ الصورة الآدمية بالاعتدال إذا تمت مرحلة كساء العظام باللحم، كما يوضح ذلك علماء الإعجاز العلمي في القرآن، ويبينون أن أجزاء الجسم ترتبط ببعضها وتكون أكثر تناسقًا، ويمكن للجنين أن يبدأ بالتحرك بعد تمام تكوين العضلات.
ويقول علماء الإعجاز: إن مرحلة النشأة ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ التي وردت في أواخر الآية بعد مرحلة الكساء باللحم، تبدأ من الأسبوع التاسع، حيث تأخذ أحجام كل من الرأس والجسم والأطراف في التوازن والاعتدال، ويتحدد جنس الجنين بصفة نهائية، وفي الأسبوع الثاني عشر يتطور بناء الهيكل العظمي، ويظهر الشعر على الجلد، ويزداد حجم الجنين، وتصبح الأعضاء والأجهزة مهيأة للقيام بوظائفها.
وفي هذه المرحلة يتم نفخ الروح طبقًا لما دلت عليه نصوص القرآن والسنة، وقد ورد في الحديث وصف لتلك المراحل، قال : ((إن أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الله الْمَلَك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد)) رواه البخاري ومسلم.
وحين يكتمل خلق الإنسان ويتهيأ للحياة بعد الشهر السادس يدخل الجنين في فترة حضانة تتم في الرحم، ويوفر الرحم الغذاء والبيئة الملائمة لنمو الجنين، وتستمر هذه المرحلة إلى طور المخاض والولادة، حيث يبدأ طور المخاض بعد مرور تسعة أشهر قمرية، وينتهي بولادة الجنين، ويمثل هذا الطور مرحلة التخلي عن الجنين ودفعه خارج الجسم، كما يعبر عن ذلك علماء الإعجاز، وقد ورد ذلك في قوله تعالى: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [عبس:20]، أي: سَهَّل للجنين طريقًا لتيسير ولادته يخرج منه، ويبين الأطباء أنه عند بدء المخاض تقوم المشيمة والمبيضان بإفراز هرمون "ريلاكسين" ( Rilaksien ) الذي يؤدي إلى تراخي أربطة مفاصل الحوض وتليين عنق الرحم، كما تبدأ التقلصات في الجزء العلوي من الرحم الذي يتكون من نسيج العضلات المتقلصة المتحركة النشطة، حيث تؤَمّن قوة لازمة لدفع الجنين خلال الجزء السفلي الساكن الرقيق من الرحم، كما تبرز الأغشية الممتلئةُ بالسائل المخاطي على شكل كيس مائي، من خلال عنق الرحم مع كل تقلص من تقلصاته، وتعمل على تسهيل تمدده، وتؤمن هذه الأغشية بعد تمزقها سطحًا لزجًا ناعمًا ينزلق الجنين عليه، فتبارك الله من خالق عظيم.
وإذا كان علماء الإعجاز في عصرنا هذا قد أوضحوا تلك الحقائق التي قرَّرها القرآن الكريم منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، نظرًا لتوفر الإمكانات العلمية والأجهزة الدقيقة المتقدمة، فإني أورد هنا أيضًا كلام العلامة ابن القيم رحمه الله الذي أشار إلى كثير مما يعلنه الأطباء اليوم رغم افتقار ذلك الزمن إلى الأجهزة العلمية التي تقدم البراهين التجريبية، يقول رحمه الله: "إن الجنين ما دام في بطن أمه قبل كماله واستحكامه فإن رطوباته وأغشيته تكون مانعة له من السقوط، فإذا تمَّ وكمل ضعفت تلك الرطوبات، وانتهكت الأغشية، واجتمعت تلك الرطوبات المزلقة، فسقط الجنين".
ثم يوضح رحمه الله سبب بكاء الصبي عند الولادة، ويذكر أن لذلك سببين:
أحدهما: أن حكمة الله تعالى اقتضت أن وَكَّلَ بكلِ واحدٍ من بني آدم شيطانًا، فهو ينتظر خروجه ليقارنه، فإذا انفصل استقبله الشيطان، وطعنه في خاصرته غيظًا عليه، فيصرخ المولود من تلك الطعنة، قال : ((صياح المولود حين يقع نزغةٌ من الشيطان)) رواه مسلم.
وأما السبب الثاني لصراخه فهو لمفارقته ما ألفه وما تعوَّد عليه وخروجه إلى حال غريب، وانتقاله من جسم حار إلى هواء بارد ومكان لم يألفه، فيستوحش من مفارقة وطنه ومألفه، والله أعلم.
وكل ذلك مما يدعو إلى التفكر في عظيم مخلوقات الله، والتأمل في أنفسنا، والاستدلال بما في ذلك من الإعجاز الدال على عظمة الخالق واستحقاقه العبادة وحده لا شريك له، وصدق إذ قال في كتابه الكريم: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3883)
من مقاصد الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ترغيب الإسلام في الزواج وحثه عليه. 2- الزواج من هدي المرسلين. 3- من مقاصد الزواج: صيانة المتزوج نفسه، حصول الأنس والمودة، تكثير النسل، حصول الأجر والثواب، توثيق العلاقات بين سائر أفراد المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، وقال عز وجل: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3].
هذا أمر من الله تعالى لعباده بالزواج، وتحصين النفس من الوقوع في المحظور، واتباع سنن المرسلين، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً [الرعد:38].
وسيد الخلق تزوَّج وزوَّج بناته رضي الله عنهن، ولما بلغه خبر الثلاثة الذين جاؤوا يسألون عن عبادته فقال أحدهم: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا غضب ، وأنكر ذلك وقال: ((ولكني أتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه.
ذلك أنَّ للزواج مقاصد عديدة وأهدافًا نبيلة، منها:
أولاً: صيانة المتزوج نفسه وحفظها من أن تقع فيما حُرِّم عليها، فإن النفس الإنسانية قد أودع الله فيها غريزة لا يمكن إشباعها أو الحد منها إلا عن طريق الزواج واختيار المرأة المناسبة له، فلو بقي الرجل أو المرأة دون لقاء مشروع لحصل الفساد الأخلاقي وانتشرت المحرمات، ولذلك قال : ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي.
ومهما بلغ الإنسان من التقوى والصلاح فإنه لو أرسل نظره إلى امرأة أو أطلق بصره إليها فقد يبدو له من محاسنها المثيرة ما يحرك غريزته، ولذلك خاف على أمته من هذه المفسدة، وأرشدهم إلى طريق بها تزول وتنحسم، ويأمن المرءُ على نفسه من ارتكاب الخطأ والتلبس بالإثم، فعن جابر أن رسول الله رأى امرأة، فأتى امرأته زينب رضي الله عنها فقضى حاجته منها، ثم خرج إلى أصحابه فقال: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتُدبر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله، فإن ذلك يرد ما في نفسه)) رواه مسلم.
وقد حذَّر العلامة القرطبي رحمه الله كل مسلم من أن يظن برسول الله لمّا فعل ذلك ميل نفسٍ أو غلبة شهوة، حاشاه عن ذلك، وإنما فعل ذلك ليسُنّ سنةً، وتقتدي به أمته، فيحسم كل واحدٍ عن نفسه ما يخشى وقوعه.
وقد حض النبي الشباب بالمبادرة إلى الزواج والمسارعة إليه متى ما وجد الشاب ميلاً غريزيًا في نفسه إلى المرأة ودافعًا إليها، فقال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء)) متفق عليه.
ثانيًا: ومن مقاصد النكاح وأهدافه حصول الأنس والمودة والراحة والطمأنينة بين الزوجين، وقد صور ذلك القرآن الكريم، وبينه بألطف عبارة وأدق تصوير وأغزر معنى، فقال جل في علاه: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].
فكل واحد من الزوجين يأنس بالآخر، ويطمئن إليه، ويجد معه الألفة والود والحنان، قال تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ [البقرة:187]. والاستقرار العاطفي والمشاعر القلبية والأحاسيس الفياضة الندية يجدها الرجل والمرأة بالزواج، وتتحقق عندهما ببناءِ وتأسيس الأسرة المسلمة التي تسير على النهج الإلهي والإرشاد النبوي في حياتها.
ثالثًا: في الزواج تكثير للنسل والذرية، والنبي حث أمته على ذلك وقال: ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه ابن حبان، فرغَّب في نكاح المرأة التي توفرت فيها صفة الود والحب لزوجها والأنس به وطيب معاملته، التي تلد كثيرًا، فإن المكاثرة مما أكد عليه المصطفى لما ذكره من مباهاته بأمته عند عرض الأمم يوم القيامة.
ثم إن الوالدين ينالهما من الأولاد الذين يحصلون بسبب الزواج خير عظيم وفضل عميم، فبالإضافة إلى أنهم من زينة الحياة الدنيا، ويسعى الوالدان إلى تربيتهما التربية الإسلامية الصحيحة، لينشؤوا على البر والفضيلة والخير والصلاح، ويكونوا قرة أعين لوالديهم كما قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، فإنه ليس أحب إلى الإنسان من ولد صالح يسعى في بره وطاعته وخدمته في حياته، ثم إن مات الوالد قبله دعا الولد له بالمغفرة والرحمة والرضوان، وقد قال : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)) ، وذكر منها: ((أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم. فيُثاب الولدُ على دعائه لوالديه، ويلحق دعاؤه الوالدين فينتفعان به.
وإن مات الولد قبل والديه وصبرا واحتسبا نالا من الله تعالى عظيم الأجر والثواب، وفي الحديث أنه قال: ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته وهو أعلم: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسموه بيت الحمد)) رواه الترمذي، وجاءت امرأة إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، هذا ابني فادع له، فلقد دفنت ثلاثة قبله، فقال : ((دفنت ثلاثة؟)) قالت: نعم، قال: ((لقد احتظرت بحظار شديد من النار)) رواه مسلم. أي: امتنعت من النار بمانع وثيق.
رابعًا: أن في الزواج فتحًا لطريق أخرى من طرق تحصيل الأجر والثواب، فإن الرجل قد أوجب عليه الشرع الإنفاق على أهله وأولاده، ورعايتهم وحسن تعليمهم وطيب معاملتهم، وهو بهذه الأعمال ينال الأجر والثواب، ويحتسب ذلك عند الله تعالى، وقد قال : ((دينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أنفقته في رقبة، ودينارٌ تصدقت به على مسكين، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك)) رواه مسلم، وفي الصحيحين أنه قال: ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة)) متفق عليه.
خامسًا: يحصل بالزواج توثيق العلاقات بين سائر أفراد المجتمع المسلم، فإنه بالزواج تتقارب الأسر، ويدنو بعضها من بعض، وتتعارف وتتصل بعد أن كانت متباعدة، وبذلك تسود المجتمع روابط المودة والمحبة والصلة والقربى، فيصبح متماسكًا قويًا، ويصدق فيه قول المصطفى : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم.
تلك أهم أهداف النكاح ومقاصده، وعلى كل مسلم وبالأخص الشباب أن يسارعوا إلى الزواج لإعفاف أنفسهم وحفظها والاقتداء بالمصطفى الكريم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3884)
تعدد الزوجات
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعدّد الزوجات في الشريعة الإسلاميّة مباح بشروطه. 2- مصالح تعدّد الزوجات: تكثير النسل، إشباع من لا تكفيه الواحدة، التفوق العددي للنساء على الرجال، طروء المرض ونحوه على الزوجة، ترابط المجتمع. 3- ضوابط التعدد في الشريعة. 4- التحذير من الميل إلى الزوجة الثانية.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3].
أباح جَلَّ في علاه للرجل الزواج باثنتين أو ثلاث أو أربع في وقت واحد، بشرط أن يكون قادرًا على تحقيق العدل، وهو العدل في الأمور المادية المحسوسة كالملبس والمسكن والمبيت والمعاملة ونحو ذلك، فإن كان لا يستطيع ذلك وخاف من الجور والظلم فليقتصر على زوجة واحدة فقط.
لقد أباحت الشريعة الإسلامية للرجل التعدد، لكنها قيدته بأربع نساء فقط؛ لأنه العدد الذي يتمكن به الرجل من تحقيق العدل والقيام بحق الزوجية وسد حاجته إن احتاج إلى أكثر من واحدة، إذ لو تُرك للرجل الزواجُ بما شاء من النساء لأدى ذلك إلى الفوضى والظلم وعدم القدرة على القيام بحقوق الزوجات. روي أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي : ((اختر منهن أربعًا، وفارق سائرهن)) رواه أحمد والترمذي.
إن إباحة التعدد في الإسلام لتحقيق مصالح وفوائد كثيرة ودفع أضرار قد تلحق بالمسلم، ومن ذلك:
أولاً: أن النبي حث على تزوج المرأة الولود ورغَّب في تكثير النسل، وقال: ((تزوجوا الودود الولود)) رواه أبو داود، وذلك لتكثير أمته والمباهاة بِهم، وقد يتزوج الرجل امرأة ليحقق هذا الهدف ولِيكْثُر أبناؤه وبناته، فيظهر له بعد فترةٍ أنها امرأة عقيم لا تلد، فلا يرغب مفارقتها لحبه لها وإشفاقه عليها، فمن المصلحة أن تبقى عنده، ويتزوج امرأة أخرى تأتيه بالولد والذرية، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتعدد.
ثانيًا: أن كثيرًا من الرجال لا تكفيه الزوجة الواحدة، ولا تشبع غريزته، فيتطلع إلى غيرها، والتعدد هو الذي يحقق رغبته، ويحول بينه وبين الوقوع في المحظور.
إضافة إلى أن المرأة تعتريها بعض الحالات من المرض والحيض والحمل والنفاس، مما يفوِّت على الرجل رغباته في هذه الأوقات.
ثالثًا: أن أعداد الإناث في المجتمعات أكثر من الذكور، نظرًا لكثرة ولادة وإنجاب البنات، وقد تزداد أعدادهن في أعقاب الحروب التي تقضي على كثير من الرجال، وكذلك فإنهم أكثر عرضة للموت من النساء؛ لتعرضهم للحوادث وخروجهم للكسب وطلب المعيشة والتنقل من مكان لآخر، فيكثر عدد الإناث من العوانس والأرامل إضافة إلى المطلقات، فالزواج بأكثر من واحدةٍ ستر لكثير منهن، وأفضل من أن يقضين أعمارهن بلا أزواج، فالتعدد يترتب عليه صون عدد كبير من النساء، والقيام بحاجتهن من النفقة والمسكن وكثرة الأولاد والنسل.
رابعًا: قد تكون الزوجة مريضة أو كبيرة السن، ولو اقتصر الزوج عليها لم يكن له منها إعفاف، ويخاف على نفسه المشقة بترك النكاح، وإن طلقها فرق بينها وبين أولادها، وفكك أسرته، فلا حل لذلك إلا بالتعدد.
خامسًا: أن تعدد الزوجات يربط بين أسر كثيرة في المجتمع المسلم، وسبب لتقارب الكثير منها وصلة بعضهم ببعض، وهذا أحد الأسباب الرئيسة التي حملت النبي أن يتزوج بعدد من النساء.
والإسلام عندما أباح تعدد الزوجات قيده بشروط، ووضع له ضوابط أوجب على الزوج الالتزام بها، وإلا فإنه ممنوع من الزواج بأكثر من واحدة، فمن ذلك أنه حرم الزيادة على أربع زوجات، وأوجب عليه الإنفاق عليهن، بأن يكون ذا قدرة مالية، بحيث يمكن أن يوفر لزوجاته حاجاتهن من الطعام والشراب والمسكن واللباس، وقد قال : ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) رواه مسلم، وسأله أحد أصحابه عن حق الزوجة على زوجها، فقال : ((أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت)) رواه أبو داود وابن حبان.
ومن أهم ما يجب على الزوج العدل بين زوجاته، وهو المساواة بينهن في الأمور المادية وحسن العشرة. أما ما لا يقدر عليه الزوج من الميل القلبي والمحبة فإن هذا ليس باختياره، فهو غير واجب عليه، وهو الذي ورد في قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:129]، وكان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: ((اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك)) أي: المحبة. رواه أبو داود والترمذي.
وكذلك يعدل بينهن في المبيت، بأن يخصص لكل واحدة منهن ليلةً يبيت فيها معها؛ لأن القصد من المبيت الأنس الذي يحصل به للزوجة.
إن التعدد أمر أباحه الإسلام وشرعه للزوج، والمرأة حين تغضب وتقف في وجه الرجل إذا تزوج عليها فإنها لا تعترض على الحكم الشرعي؛ لأنها ـ ولله الحمد ـ مسلمة، تؤمن بكل ما جاء في كتاب ربّها، لا ترد شيئًا منه، وما يحصل منها إنما هو من باب الغيرة التي جُبلت عليها بفطرتها وعاطفتها.
غير أن هناك حالات لبعض الأزواج الذين لا يلتزمون بكل ما أوجبه الشرع عليهم تجاه زوجاتهم، فتجدهم يقصرون في حق بعض الزوجات، فيميلون ميلاً واضحًا لإحداهن، ويتنكرون للزوجة الأخرى، فلا يوفيها الزوج حقها، ولا يوفر لها احتياجاتها، بل يعاملها معاملة فيها شيء من القسوة والجفاء والإهانة.
إن على الزوج أن يدرك أن الشريعة الإسلامية أباحت التعدد، ووضعت له قيودًا صارمة وضوابط محددة، فليتأملها قبل إقدامه على الزواج بأخرى، فإن عرف من نفسه أنه مؤهل للوفاء والالتزام بها فذاك، وإلا فليبق على زوجته الأولى وليكتف بها.
إن ما يقوم به بعض الأزواج من هضمٍ لحقوق الزوجة الأخرى وهي الأولى في الغالب ويظهر اهتمامًا خاصًا وفريدًا بالزوجة الجديدة هو الجور الذي حذر الله تعالى منه بقوله جل شأنه: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3]، فتخصيص الزوجة الثانية بالهدايا والهبات والعطايا والمميزات والرحلة والتنقلات والاهتمام بأولادها ونسيانه للزوجة الأولى هو بعينه الجور والظلم الذي بين رسول الله عقوبته بقوله: ((من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)) رواه الترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3885)
صفات الفتاة المخطوبة
الأسرة والمجتمع, فقه
المرأة, النكاح, قضايا الأسرة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام بالأسرة وتكوينها. 2- من أهم قواعد اختيار الزوجين: الحرص على صاحب الخلق والدين، النظر إلى المخطوبة، أن لا يقدم المظهر على المخبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
الأسرة لبِنةٌ من لبنات المجتمع التي يقوم عليها، ولذلك عُني الإسلامُ بها أعظم عناية، واهتم بأسس تكوينها، وأكد على تعميق أسباب ترابطها، وما يؤدي إلى تماسكها وسعادتها وصلاحها.
والزوجان عمادا كل أسرة، ومنهما تنشأ الأسر وتتنامى في المجتمع، لذلك وضع التشريع الإسلامي ضوابط لتأسيس الأسرة المسلمة، تتمثل في حسن اختيار الزوجين اللذين سيبنيانها ويرعيانها.
ومن أهم القواعد التي عُني الإسلامُ بها لاختيار الزوجين ما يأتي:
أولاً: الاجتهاد في خطبة الفتاة المعروفة بالصلاح وحسن الخلق، وذلك يُعرف بنشأتها في أسرة اشتهرت بالمحافظة على تعاليم الإسلام والعناية بآدابه والتحلي بأخلاقه الفاضلة.
فالأولاد في مثل هذه الأسرة المحافظة ينشؤون على حب الخير والقرب من الحق وحسن التعامل والسمت والأدب، وأهم شيء هو تمسكهم بما أوجبه الله تعالى عليهم والتزامهم بأمور دينهم، وذلك ما أكده النبي وركز عليه حين قال: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) رواه البخاري ومسلم.
فالدين هو أهم مطلب ينبغي أن يُنظر إليه عند خطبة الفتاة، وكذلك في الزوج الخاطب، فإنه ينبغي التحري عن حاله، والسؤال عن معاملته وسيرته، حتى يقوم بما وجب عليه تجاه مخطوبته، وقد روي عنه أنه قال: ((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير)) رواه الترمذي. وهذا يدل على أن الْمُعرِض عن دين الله تعالى الذي عُرف بالفساد والبعد عن القيام بما أوجبه الله عليه لا يكون كُفئًا للمرأة الصالحة العفيفة.
ثانيًا: يسن للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته، فإن ذلك مما دعا إليه الشرع وسنَّهُ المصطفى ، ففي حديث جابر قال: قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إليها فليفعل)) رواه أحمد. وبيَّن أن النظر إلى المخطوبة سببٌ في دوام الألفة وتمام المودة وحسن العشرة، فقال للمغيرة بن شعبة حين ذكر له امرأة خطبها: ((هل نظرت إليها؟)) فقال المغيرة: لا يا رسول الله، فقال : ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) رواه الترمذي، أي: يؤلَّف ويوفَّق بينكما.
ومن أهم الأمور التي ينبغي مراعاتها أن يكون الخاطب قد عقد العزم على خطبتها، وأن يكون جادًّا في ذلك، حتى لا يُتخذ النظر وسيلة إلى الاطلاع على الفتيات من بعض ضعاف النفوس، وأن يكون بوجود محرم عند نظره إليها، وأن يكون نظره مقصورًا على وجهها وكفيها.
وكما أبيح للرجل النظر إلى الفتاة فإن المخطوبة لها أن تنظر إلى خاطبها، وقد علل بعض الفقهاء عدم ورود نص في نظر المرأة إلى الرجل، بكون الرجل يمكن رؤيته في أي مكان، ولا يمكن أن يختفي، فنظرها إليه أيسر وأسهل، ويمكنها رؤيته بلا تكلف.
ثالثًا: أن يحرص الزوج وأولياء الفتاة على وجود صفة حُسْن الْخُلُق في الخاطب أو المخطوبة؛ لأن الْخُلُقَ الْحَسَنَ دليل على سلامة النشأة، وقد قال عنه : ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُق حسن)) رواه الترمذي.
لذلك أكد المصطفى على التحلي بالخلق الحسن والاتصاف به؛ لأنه صفةٌ عظيمة شاملة يندرج تحتها كلُّ خلُق يسمو بالشخص ويرفعه عند الخالق والخلق، كالأمانة والصدق والحياء والرفق والسماحة والحلم، ونحو هذه الصفات المحبوبة.
رابعًا: لا ينبغي أن يصبَّ الخاطب جُلَّ اهتمامه في بحثه عن شريكة حياته على الجمال، فإن الجمال جمال الدين والْخُلق والصلاح والاستقامة، وجمال العقل والفكر، كما قيل:
وأفضلُ قسمِ اللهِ للمرءِ عَقلهُ فليس من الخيرات شيء يقاربه
يعيش الفتى بالعقل في الناس إنه على العقل يَجْري علمُه وتجاربُه
يشين الفتى في الناس قلّةُ عقلهِ وإن كرمت أعراقه ومناسبه
إذا أكمل الرحمنُ للمرء عقلَه فقد كملت أخلاقُه ومآربُه
فقد يكون الجمال سببًا في غرور المرأة وتعاليها على زوجها، خاصة عند إعجاب الزوج بهذه الصفة وتركيزه عليها، وجاء عن رسول الله ما يدل على أن قصد بعض الصفات البراقة المتغيرة وغير الثابتة قد يكون سببًا في حصول أضدادها، فلا يجني الزوج من ذلك إلا الحسرة والندامة.
فروي عنه أنه قال: ((لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولأمة خرماءُ سوداءُ ذات دين أفضل)) رواه ابن ماجه.
إن الجمال إذا توفر في المخطوبة مع دينها وحسن خُلقها كان ذلك أمرًا محمودًا، لكن لا ينبغي أن يكون أقوى دافع للخاطب عند الخطبة، بل ينظر إلى ما بعد الزواج من رغبته في الأولاد وطلبه لهم، وحسن تربيتهم ورعايتهم، والأم العفيفة الديِّنة المصونة هي التي تحقق آماله ورغباته في حياة سعيدة وتكوين أسرة هانئة مستقرة.
وحين استشار أحد الصحابة رضي الله عنهم رسول الله في خطبة امرأة جميلة عقيم لم يوافقه على الزواج منها، فعن معقل بن يسار أن رجلاً جاء إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إني أصبت امرأة ذات جمال، وإنها لا تلدُ، أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فنهاه، وقال: ((تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه ابن حبان في صحيحه.
فلما كان نظر الخاطب هنا مرتكزًا على الجمال وحده مع ما ذكره من كونها عقيمًا لم يرض له النبي بتزوجها؛ إذ لو كان الجمال صفة متميزة تنكح من أجلها المرأة لأذن له بذلك.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا ما ذكره العلماء من أن النهي عن نكاح العقيم لا ينبغي أن يؤخذ على أنه نهي تحريم، بل إما للكراهة باقتصار الرجل عليه بقصد كراهة الأولاد، فإن ذلك قد يكون محرمًا؛ لأن التناسل من أهم مقاصد النكاح، وإما أن لا تكون كراهة، بل يستحب له أن يتزوجها إذا قصد إعفافها، وكان عنده غيرها، وكذلك لو كان هو عقيمًا مثلها جاز له التزوج بها، ولو حُمل نهيه عن نكاح العقيم على التحريم مطلقًا لبقيت دون زوج يعفها.
إن الخاطب ينبغي أن يتحرى في خطبته، وأن يبحث وينقب عن الفتاة الديِّنة التي تعينه على أمر دينه ودنياه، ويسعد بها وبتربيتها لأبنائه وحفظها له في نفسها وماله، ولا يُنسى قول المصطفى : ((الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا الزوجة الصالحة)) رواه مسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3886)
النظر إلى المخطوبة
الأسرة والمجتمع, فقه
المرأة, النكاح
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البصر من أعظم النعم. 2- أهمية غض البصر وحث الشارع عليه. 3- تحريم النظر إلى الأجنبية. 4- الحالات التي يجوز فيها النظر إلى الأجنبية. 5- الأدلة على استحباب النظر إلى المخطوبة. 6- أحكام وقيود النظر إلى المخطوبة: النظر مشروط بعقد العزم على الزواج، كون النظر قبل الخطبة، وجود محرم للمخطوبة عند النظر، اقتصار النظر على الوجه والكفين، السكوت عما رآه فيها إن لم تعجبه، جواز توكيل من يثق فيها من النساء لتأتيه بأوصاف المخطوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
البصرُ نعمة عظيمة، وهو من جملة النعم التي رَكَّبَ الله تعالى منها جسد ابن آدم، وبه يستطيع المرء أن يتأمل ويتفكَّر في مخلوقات الله، ويصل إلى غايته، ويدير شؤون حياته، ولأهميته البالغة وقيمته السامية جعل الله ثوابه عند فقده الفوز بالجنة إذا صبر من سُلِبَه واحتسب، فعن أنسٍ قال: سمعت النبيَّ يقول: ((إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ـ يريد عينيه ـ ثم صبر عوّضته منهما الجنة)) رواه البخاري.
وقد أمر الله تعالى بحفظ البصر، وحرَّم النَظَر إلى المحرمات، وأوجب استعماله فيما ينفع، وصيانته وعدم إطلاقه بتتبع العورات وملاحقة المعاصي والمنكرات، ووعد من غض بصره بأن يورثه لذةً وراحةً في قلبه، ونورًا وإشراقًا يظهر في سائر جوارحه.
ولما كان النظر من أقرب الوسائل إلى ارتكاب الآثام والوقوعِ في المنكر والحرام شددت الشريعة على أهمية العناية به، ولزوم المحافظة عليه، والتأكيد على توظيفه فيما أبيح، وألقت بالمسؤولية على صاحبه: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
ونظر المرأة الأجنبية إلى الرجل الأجنبي ونظره إليها مما حرَّمه الله تعالى على الذكور والإناث، قال تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون [النور:30]، وقال جل شأنه: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال : ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)) رواه أحمد والترمذي.
لكن هذا التحريم استُثني منه، فأبيح في بعض الحالات النظر، وذلك بالاطلاع على ما تدعو إليه الحاجة، وتقتضيه الضرورة. وقد وُضِع لذلك شروط وضوابط ذكرها العلماء، ومن المواضع التي يباح فيها النظر نظر الطبيب والقاضي والشاهد ونحو ذلك.
ومما أبيح فيه النظر وورد بجوازه أدلة ونصوص صريحة وصحيحة نظر الخاطب إلى مخطوبته ورؤيته المرأة التي يرغب نكاحها، وقد دل على الجواز ما يأتي:
1- ما رواه أبو هريرة قال: كنت عند النبي فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله : ((أنظرت إليها؟)) قال: لا، قال: ((فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين نساء الأنصار شيئًا)) رواه مسلم.
2- وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)) رواه أحمد.
قال جابر: فخطبت جاريةً من بني سلمة، فكنت أتخبأ لها، حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها.
3- وعن المغيرة بن شعبة قال: أتيت النبي فذكرت له امرأة خطبتُها، فقال : ((هل نظرتَ إليها؟)) ، قلت: لا، قال: ((فانظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما)) رواه أحمد والترمذي.
4- وعن محمد بن مسلمة أن رسول الله قال: ((إذا ألقى الله في قلب امرئ خِطبة امرأة فلا بأس أن ينظر إليها)) رواه أحمد وابن حبان.
فدلت هذه الأحاديث على استحباب نظر الخاطب إلى الفتاة التي يرغب في تزوجها ومشروعيته، والأمر الوارد في كلامه إنما هو على جهة الندب والإرشاد والمصلحة، والإفادة بأن النظر سبب في دوام الألفة وتمام المودة وحسن العشرة بين الزوجين، فإن رؤيته لها قبل العقد تستريح بها نفسه ويهدأ باله، ويؤدي ذلك إلى استمرار العلاقة الوطيدة بينهما.
ويتعلق بمسألة النظر إلى المخطوبة عدة أحكام مهمة منها:
أولاً: إن جواز النظر للخاطب مشروط بعقده العزم على خطبتها، وإرادة نكاحها، ويأمل إجابة وليها، أو يغلب على ظنه أنه سيجيبه، وبعد أن يطمئن ولِيُّ المرأة إلى دين وخلق وصدق الخاطب وجديته. أما عند عدم الاطمئنان إلى ذلك فلا يصح النظر، لا سيما أن بعض الشباب وضعاف النفوس قد يتخذون ذلك وسيلة إلى الاطلاع على الفتيات والنساء بحجة أنهم خطاب لهن.
ثانيًا: كون نظره قبل الخطبة لا بعدها، لأنه قد يُردُ أو يتراجع إذا لم تعجبه، فيصرف النظر عنها، فلو كان ذلك بعد الخطبة لأدى إلى إيذائها وتَرْكِ شيءٍ في نفسها.
ثالثًا: وجود محرم للمخطوبة عند نظر الخاطب إليها، فلا ينفرد بها في مكانٍ ليس معهما أحد، فإنها أجنبية عنه، والخلوة بها محرَّمة، لحديث ابن عباس قال: قال رسول الله : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)) متفق عليه.
ولا يعتبر السماح له بالرؤية مبيحًا الخلوة بها، فإنها تبقى على الأصل وهو التحريم، وذلك لما يترتب على الخلوة والانفراد بالمرأة من أضرار ومساوئ لا يحمد عقباها، وقد قال : ((ألا لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان)) رواه أحمد والنسائي.
رابعًا: أن يكون نظره إليها مقصورًا على وجه المخطوبة وكفيها دون الشعر وغيره، فإن الوجه يعرف ويستدل به على جمال المرأة وزينتها، ويجمع محاسن جسدها، وبالكفين يتعرف على خصوبة البدن أو عدمها، ورؤية هذه المواضع كافية للترغيب في المرأةِ أو النفرة منها، فإنَّ أكثر الناس يتوقف عن الزواج بالمرأة أو يقدم عليه بمجرد رؤية عيب في وجه المرأة أو استحسانه، فإذا نظر إلى الوجه والكفين كان ذلك كافيًا، فلا يتجاوز النظر إلى غير ما ذكر، ويحرم عليه أن يمس شيئًا من جسدها؛ لأن الجواز خاص بالنظر فقط.
خامسًا: إذا نظر الخاطب إليها فأعجبته ورأى منها ما يرغبه في الزواج بها واطمأن إليها مضى في خطبتها من وليها، وإن لم تعجبه وقرر صرف نظره عنها وجب عليه السكوت عما رآه منها، ولا يجوز له التحدث عن صفاتها أو شيء من ملامحها، فإن الخوض في ذلك صفة من لا خلاق له ولا أمانة عنده، فتلك أسرار يلزم المحافظة عليها وكتمانها وعدم إفشائها والتكتم على نشرها؛ لأن ذلك يسيء إليها وإلى أسرتها، فقد يكون حديثه عنها سببًا في عضلها وتوقف الخطاب عنها، وقد يكون ما رآه منها يعجب غيره وإن كان لا يعجبه هو؛ لاختلاف أذواق الناس ورؤيتهم ومشاربهم وتقديرهم للأمور.
سادسًا: يجوز للخاطب أن يرسل امرأة يثق بها لتنظر إلى المخطوبة وتتأملها وتصفها له، ليكون على بصيرة من أمره، بل ربما كانت هذه الطريقة أنفع وأصلح له، فإن المرأة تطلع على ما لا يطلع عليه هو، وترى من المخطوبة ما لا يراه هو لو ذهب بنفسه، وهذا الجواز مستثنى من النهي الوارد في حديث ابن مسعود أنه قال: ((لا تباشر المرأة المرأة فتصفها لزوجها، حتى كأنه ينظر إليها)) رواه البخاري. أي: لا تنظر إلى بشرتها، فتصف ما رأت من حسنها وجمالها ومظهرها ومنظرها.
سابعًا: كما أبيح للرجل النظر إلى المخطوبة، فكذلك المرأة يجوز لها أن تنظر إلى من تقدم لخطبتها. قال في الإقناع وشرحه: "وتنظر المرأة إلى الرجل إذا عزمت على نكاحه؛ لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها".
والأحاديث الواردة خاصة بنظر الرجل إلى المرأة، لكن علَّل بعض الفقهاء عدم ورود نص في نظر المرأة للرجل بأن الرجل يمكن رؤيته في أي مكان، بحيث لا يمكن أن يختفي كما تختفي المرأة، فنظرها إليه أسهل وأيسر، ويمكنها أن تراه بلا تكلف.
وبالجملة فإن نظر الخاطب إلى المخطوبة من الأمور الجائزة والمباحة، وقد أمر به أمر ندب واستحباب، لكن ينبغي للخاطب والولي والمخطوبة مراعاة الأمور والنقاط والقيود التي سبق ذكرها، والتشديد على عدم التساهل في أي منها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3887)
الترغيب في طلب الأولاد
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, النكاح
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث الشرع على النكاح لما فيه من المصالح وتحريم السفاح لما فيه من المفاسد. 2- من مقاصد النكاح العظيمة تكثير النسل. 3- كراهية الزواج من العقيم لغرض سيئ. 4- ترغيب الإسلام في طلب الأولاد. 5- وجوب العناية بتربية الأبناء. 6- الترغيب في تكثير النسل شامل للذكور والإناث. 7- مزايا تربية البنات في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه أحمد وابن حبان.
لقد اهتمّت الشريعة الإسلامية بالنكاح أبلغَ اهتمام، وعُنيت به أعظم عناية، وذلك لما له من مكانة مهمة في حياة الفرد والمجتمع، وحرَّمت السفاح ونهت عنه، وشدَّدت في عقوبته، وزجرت مرتكبيه؛ لما فيه من الخطر والفوضى وتداخل الأنساب بين بني الإنسان.
وفي هذا الحديث توجيه منه لأفراد أمته بحثهم على النكاح، إعفافًا لأنفسهم، وصونًا لهم عن الوقوع في المحرم، وطلبًا لما يترتب على ذلك من حصول الولد، وقد وجه القرآن الكريمُ إلى هذا، قال تعالى:
فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُم [البقرة:187]، قال العلامة الشوكاني رحمه الله: "أي: ابتغوا بمباشرة نسائكم حصولَ ما هو معظَم المقصود من النكاح وهو حصول النسل".
وفي حديث أنس هذا دعوة منه إلى تكثير النسل ليباهي به: ((فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)).
وكره عليه الصلاة والسلام الزواج من العقيم ولو كانت ذات حسب ونسب، يدل على ذلك هذا الحديث، فقد روى معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال : ((لا)) ، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: ((تزوجوا الودود الولود)) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما.
فقد بين النبي لهذا الخاطب الحكمة من نهيه عن الزواج بالعقيم، بأمره له ولغيره من المسلمين بأن يتزوجوا الودود الولود، وهي المرأة ذات الود والحب لزوجها، اللطيفة في تعاملها معه، التي تلد كثيرًا، وأكد على هذه الصفةِ وأَبرَزَها لكونها أهم المقصود، ((فإني مكاثر بكم الأمم)).
ولا بد من التنبيه هنا على أن ما ورد في هذا الحديث من النهي عن نكاح العقيم للعلماء فيه كلام، وهو أنه ينبغي أن لا يؤخذ هذا على أنه نهي تحريم، بل إما أن يكون للكراهة، بأن يقتصر الرجل على الزواج بها وقصده من ذلك كراهة إنجاب الأولاد، وقد يحرم ذلك عليه؛ لأن التناسل وكثرة الولد من أهم مقاصد النكاح، وإما أن لا تكون هناك كراهة للزواج من العقيم، بل يستحب له أن يتزوجها إذا قصد إعفافها، وكان عنده غيرها من الزوجات اللاتي ينجبن الأولاد، ولو حُمل نهي الرسول على التحريم في كل حال لبقيت العقيم محرومةً من الزواج الذي يحصل به صونها وإعفافها، وليس ذلك من مقاصد الشريعة.
لقد رغب الإسلام في طلب الأولاد، وذلك لما يحصل بهم من الخير والنفع العظيم في الحياة وبعد الممات، فالولد الصالح يدعو لوالديه، ويترحم عليهما بعد مماتهما، فينفعهما ذلك، وترفع درجاتهما بسبب دعاء الأولاد، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله من الدنيا إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) ، قال العلماء: إن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له، إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه سببها، فإن الولد من كسبه.
وفي مسند أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى هذه؟! فيقول: باستغفار ولدك لك)).
ولن يتأتى ذلك إلا بالعناية التامة بالأولاد منذ نشأتهم، والعمل على تربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، وحفظهم ومراقبتهم، فمتى ما تعاهد الوالد ولده وغرس في نفسه حب الخير وأدبه بآداب الإسلام الفاضلة وتعاليمه النيرة قرت به عينه، واطمأن عليه، ونفعه حيًا وميتًا، فإحسان التربية للولد منذ نشأة الأسرة وتكوينها أمر لا بد منه، مصحوبًا بدعاء الله له بالصلاح والاستقامة، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان: 74].
إن حث الإسلام على طلب الأولاد وتكثيرهم ليس مقصورًا على الذكور منهم، بل إن ذلك عام يشمل الذكور والإناث، وجعل الإسلام للبنات مزيةً انفردن بها عن الذكور، فإن الله تعالى لما ذكر أقسام الخلق بدأ بالإناث، قال تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49،50]. قال واثلة بن الأسقع : (إن مِن يُمنِ المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر؛ لأن الله تعالى بدأ بالإناث).
ومما يدل على أنَّ للبنات مكانة خاصة ومنزلة هامة ما ورد من الأحاديث الصحيحة الدالة على حصول الثواب العظيم والأجر الجزيل لمن ربَّى بناته تربية حسنة، وصبر عليهن، وأنفق عليهن بالمعروف، حيث ينال جزاء ذلك وهو دخول الجنة، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله : ((من عال ابنتين أو ثلاثًا أو أختين أو ثلاثًا فأحسن صحبتهن واتقى الله فيهن دخل الجنة)) رواه الترمذي، وفي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من ابتُلي من البناتِ بشيءٍ فأحسن إليهن كنَّ له سترًا من النار)) ، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه. رواه مسلم. وهذا تكريم منه للبنات، مَيَّزَهُن به عن الأولاد، وخصَّهن به.
وبذلك يتبين خطأ الاعتقاد السائد بين كثير من الناس من كراهتهم وتسخطهم وتضايقهم حين يرزقون بالإناث، وذلك لجهلهم بالأحاديث الواردة في فضل البنات، فإن كراهتهن من العادات المتأصلة في الجاهلية، حيث كانوا يسأمون من ولادتهن، قال تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58،59].
وقد جاء الإسلام فأبطل ذلك كله، وبين فساده وسوءه، وأوضح أن البنات كلهن خير، إذا اتقى الوالد الله فيهن، ورباهن التربية الإيمانية، ورعاهن رعاية صالحة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما من مسلمٍ يكون له بنتان فيحسن إليهما ما صحبهما وصحبتاه إلا أدخلتاه الجنة)) رواه ابن ماجه، وعن عقبة بن عامر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من كانت له ثلاث بنات فصبر عليهن فأطعمهن وسقاهن وكساهن من جِدتِه كنَّ له حجابًا من النار)) رواه أحمد.
والمرء لا يدري، فلعل الله تعالى قدَّر الخير عندما رزقه بهذه البنت، فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، فالبنات قد يكنّ رافدًا من روافد الخير لأهلهن، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله إذا ولد له ابنة يقول: "الأنبياء كانوا آباء بنات".
إن على المسلم أن يرضى بقضاء الله، فيشكره على ما وهبه من الولد ذكرًا كان أو أنثى، فكم من الناس يتمنى الولد وقد حُرم منه، فإن الأولادَ ذكورًا أو إناثًا نعمة عظيمة، لا يعرف قدرها إلا من حُرمها.
وقد يفتح الله تعالى للأب بهذه البنت أبوابًا وطرقًا من الخير والسعادة، فكم من فتاة مستقيمة ملتزمة جلبت السعادة والهناء لأسرتها ومجتمعها، وكم من ولد عاق منحرف أدمى قلبي والديه وزُج به في غياهب السجون، وجلب لأسرته التعاسة والشقاء، ولمجتمعه الشر والبلاء، فتقبل ـ أخي المسلم ـ ما وهبه الله لك بنفس راضية مطمئنة، واشكر الله تعالى على ذلك، يحصل لك الأجر والثواب من المنعم جل في علاه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3888)
تسمية الأولاد
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, النكاح
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الأولاد. 2- للأولاد على آبائهم حقوق كثيرة. 3- من آداب تسمية المولود.
_________
الخطبة الأولى
_________
الأولاد نعمة عظيمة يمنّ الله تعالى بها على الوالدين، فبهم تقرّ أعينهم، وبهم يأنسون في حياتهم، وهم رافد يتدفّق بالأجر ويفيض بالرحمة، إذا أحسن الوالدان تربيتهم وتنشئتهم نشأة صالحة فإنهم مصدر سعادة للمرء في حياته وبعد مماته.
غير أن على الأب مسؤوليةً عظيمة تجاههم، بالعناية بتربيتهم، وحفظهم من كل ما يصرفهم عن الطريق الصواب والجادة الصحيحة، حتى يكونوا قرة عين لوالديهم؛ لذلك فإن حق الأبناء على آبائهم من الأمور التي حثّ عليها الشرع وألزم الآباء القيام بها، وهي حقوق كثيرة، ومنها تسمية الولد، وقد أعطى الإسلام هذا الجانب عناية خاصة وأولاه اهتمامه، ويجدر بنا أن نقف مع الآداب المتعلقة بالتسمية هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: أن الاسم وسيلة ورمز يدلّ على صاحبه، ويمكن لأي واحدٍ أن يتعرف على شخصٍ ما من خلال اسمه الذي سُمي به، فالأسماء أعلام على مسمياتها، وضعت للتعريف بها وتمييزها عن غيرها، وتختلف معانيها ودلالتها بحسب اللفظ الذي وضع لها، وهي بحسب ما تتضمنه من المعاني وما يمكن أن يلحظه المنادي بها قد توحي للمسمَّى بها بمعنى من المعاني، فقد يكون له من اسمه دلالة ومعنى، كما قيل:
وقلَّ ما أبْصَرَت عَيْنَاك ذَا لقبٍ إلاَّ ومَعْناه إن فكَّرتَ في لقبه
والله سبحانه وتعالى بحكمته في قضائه وقدره يُلهم النفوس أن تضع الأسماء على حسب مسمياتها لتناسب حكمته تعالى بين اللفظ ومعناه، كما تناسب بين الأسماء ومسمياتها، ونقل ابن القيم رحمه الله عن ابن جِنِّي من علماء العربية أنه كان يقول: "لقد مرّ بي دهر وأنا أسمع الاسم لا أدري معناه، فآخذ معناه من لفظه، ثم أكشفه، فإذا هو ذلك بعينه أو قريب منه"، قال ابن القيم: "فذكرت ذلك لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: وأنا يقع لي ذلك كثيرًا، وقد قال : ((أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها)) متفق عليه، ولما أسلم وحشي قاتل حمزة وقف بين يدي النبي فكره اسمه وقال: ((غيّبْ عني وجهك، لا أراك)) رواه البخاري.
فالأخلاق والأعمال والأفعال القبيحة تستدعي أسماء تناسبها، وأضدادها تستدعي أسماء تناسبها، وكما أن ذلك ثابت في أسماء الأوصاف فهو كذلك في أسماء الأعلام، وما سُمي رسول الله محمدًا وأحمد إلا لكثرة خصال الحمد فيه، وهو أعظم الخلق حمدًا لربه".
الوقفة الثانية: وقت التسمية، والأمر في ذلك واسع، فيجوز أن يسمى يوم ولادته، أو بعد ثلاثة أيام، أو أن يؤخر إلى اليوم السابع، ويجوز قبل ذلك وبعده، فعن سمرة قال: قال رسول الله : ((كل غلام رهينة بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويُسمّى فيه، ويُحلَق رأسه)) رواه أحمد وأبو داود، وعن أنس أنه قال: ((ولد لي الليلةَ غلام، فسميته باسم أبي إبراهيم)) رواه مسلم.
والوالدان هما اللذان يختاران اسم مولودهما، فلو قدِّر اختلافهما في ذلك فإن التسمية من حقّ الأب؛ لأنه ينسب إليه ويُدعى لأبيه، قال تعالى: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:5].
فلو سماه غيرهما كالجد أو الأخ أو الخال أو العم أو أي شخص آخر صح ذلك، فقد كان المصطفى يسمي أبناءَ أصحابه رضي الله عنهم.
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا أن تسمية المولود مشروعة أيضًا لو مات قبل أن يُسمّى، وكذلك لو خرج ميتًا من بطن أمّه قبل تمامه وهو مستبينُ الخلق، وهو ما يعرف بالسّقْط، فقد قال جماعة من العلماء باستحباب تسميته، فإن لم يتبيَّن أذكر هو أم أنثى سُمي باسم يصلح لهما، قالوا: لأنهم يدعون يوم القيامة بأسمائهم، فتستحب تسميتهم.
الوقفة الثالثة: أن يكون الاسم حسنًا، فلا يُسمى باسم قد يُعيَّرُ به عند كبره، أو يحصل له به شيء من الأذى أو المضايقة، فيختار أحسن الأسماء، وأحسنها عبد الله وعبد الرحمن، وهما أحب الأسماء إلى الله تعالى، قال : ((إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن)) رواه مسلم.
ثم ما كان مُعبَّدًا لله تعالى من الأسماء الثابتة لله جَلَّ وعز، فإن التسمية يُدركُ المسمى بها عند كبره أنه عبدٌ لخالقه جل وعلا، وأن لفظة العبودية ملازمة له، فيؤدي ذلك إلى شدة تعلقه بربه وقوة صلته به.
ثم التسمية بأسماء الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد قال : ((تسمَّوا باسمي)) متفق عليه، وسمَّى ابنه باسم أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. رواه مسلم. وسمى ولدًا لعبد الله بن سلام بيوسف. رواه أحمد.
وكذلك التسمية بأسماء الصحابة والعلماء والصالحين، أو يكون اسمًا حسنًا لائقًا بصاحبه الذي يحمله، وقد جاء في الحديث أنه أمر بتحسين الأسماء، فقال: ((إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم، فأحسنوا أسماءكم)) رواه أحمد.
الوقفة الرابعة: تحرم التسمية بالأسماء المعبّدة لغير الله تعالى كعبد النبيّ وعبد الرسول ونحوهما، وكذا التسمي بأسماء الله الخاصّة به، أو التسمية بأسماء اليهود والنصارى وسائر الكفار والطغاةِ وأئمة الكفر والإلحاد، كما تُكره التسمية بالأسماء التي تدلّ على التزكية، فعن أبي هريرة أن زينب رضي الله عنها كان اسمها برّة، فقيل: تزكّي نفسها، فسماها رسول الله زينب. متفق عليه.
وغيَّر اسم المدينة، كان اسمها يثرب، فسماها طيبة، وكان يكره تسميتَها (يثرب) كراهة شديدة، وإنما حكى الله تعالى تسميتَها (يثرب) عن المنافقين، قال تعالى: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزاب:13].
كما نَهى عن التسمية بأسماء أخرى، فعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله : ((لا تُسمّيّن غلامك يسارًا ولا رباحًا ولا نجيحًا ولا أفلَح، فإنك تقول: أثَمَّ هو؟ فلا يكون)) رواه مسلم.
وكلّ من سمِّي باسم قبيح أو اسم يكرهه ورأى أن المصلحة تقتضي أن يغيِّره فله ذلك؛ لما ثبت عنه أنه غيَّر أسماء تحمل معاني مستكرهة، فقد غيّر اسم (حرب) إلى (حسن وحسين)، وقال لرجلٍ: ((ما اسمك؟)) فقال: حزَنَ، فقال: ((بل أنتَ سهل)) رواه البخاري.
ومتى ما قُصد تغيير الاسم فإنه ينبغي مراعاة تقارب الألفاظ بين الاسم المغُيَّر والاسم الجديد، حتى يكون ذلك أسهل في معرفته وأقرب إلى النطق به، وذلك مأخوذ من أسلوبه في تغيير الأسماء.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3889)
ثمرات الأولاد
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, النكاح
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خلق الله تعالى الإنسان لعمارة الأرض. 2- من أهم مقاصد الزواج حفظ النوع الإنساني بالتناسل. 3- أحكام الزواج من العقيم. 4- النهي عن التبتل والعزوف عن الزواج. 5- منافع إنجاب الأولاد في الدارين.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد خلق الله تعالى الحياة الدنيا لعمارة الأرض وفقًا لشريعته حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وخلق الناس ليعمروها ويستغلوها، ويستخرجوا ما أودع الله فيها من الخيرات وما حوته من المنافع والطيبات، وكانت عمارتها تقتضي وجود هذا الإنسان إلى يوم القيامة، ولأن الله تعالى حدّد الأعمار، وجعل لكل نفس أجلاً ونهاية، فإن حفظ النسل كان ضرورة من ضرورات الحياة.
وشرع الله تعالى الزواج الذي من أهم مقاصده بقاء النوع الإنساني على وجه سليم، ولو لم يشرع الزواج لأدى ذلك إلى فناء الإنسان وذهابه.
لقد علم رسول الله أن لهذا الدين أعداء يقفون له بالمرصاد، لذلك رغَّب في تكثير نسل أمته؛ ليكاثر به ويباهي، وكره أن يتزوج المسلم عقيمًا، ولو كانت امرأة ذات منصب وحسبٍ، فقد جاء رجلٌ إليه، فقال: يا رسول الله، إني أصبتُ امرأة ذات منصب وحسبٍ إلا أنها لا تلد، أفأتزوجها؟ فنهاه، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فنهاه، وقال : ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)) رواه أبو داود، فقد حث على الزواج بالمرأة ذات الود والحب لزوجها، اللطيفة في معاملته التي تلد كثيرًا.
وقد نبه العلماء على أن النهي عن نكاح العقيم ينبغي أن لا يؤخذ على أنه نهي تحريم، بل إما أن يكون للكراهة بأن يقتصر الرجل على الزواج بها قاصدًا كراهة إنجاب الأولاد، وقد يحرم ذلك عليه؛ لأن من أهم مقاصد الزواج التناسل. وإما أن لا توجد الكراهة، بل يستحب له أن يتزوجها إذا قصد إعفافها، وكان عنده غيرها من الزوجات المنجبات.
وكذلك إذا كان الرجل عقيمًا، فلا يكره أن يتزوج عقيمًا مثله؛ لاتفاقهما في تلك الصفة، وقد تكون كراهة الرسول زواج ذلك الرجل من المرأة العقيم لما ظهر من طمعه في الحسب والمنصب، ولم يذكر أنه أرادها لدينها أو لإعفافها، ولو حُمل نهيُ رسول الله على التحريم في كل حال لبقيت العقيم محرومة من الزوج الذي يُعفها، وليس ذلك من مقاصد الشريعة الإسلامية.
إن بعض المسلمين قد يرغبون عن الزواج لقصد الإكثار من الطاعة، فيبدؤون في العزوف عنه، وقد بدأ ذلك يظهر في عهد النبي حين جاء ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم يسألون عن عبادته ، فلما أُخبِروا بها كأنهم تقالّوها، فقال أحدهم: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فأنكر النبي عليهم ذلك وقال: ((من رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه.
بل إن بعض الصحابة في حادثة أخرى جاء يستأذن النبي في التبتّل والانقطاع للعبادة، وكان وراء المستأذن من ينتظر الجواب، فلو أذن لهم لأماتوا شهوة النكاح، ولكنه الذي كان يحب بقاء النسل ويدرك مقاصده الشرعية أوصد عليهم الباب ومنعهم من ذلك.
وبيّن في أحاديث كثيرة حرصه وحثه أمته على الزواج، وكراهة تركه والزهد فيه، مع أن الذين يفضلون العزوف عن الزواج يكون عددهم في الغالب قليلاً، ولكنه حرص أن لا يوجد هذا في أمته أصلاً.
لقد بينت الشريعة الإسلامية المصالح والفوائد التي تعود على الوالدين من أبنائهم نتيجة حفظهم النسل وحرصهم على كثرة الولد، فقد قرن الله تعالى حق الوالدين بحقه، وفي ذلك بيان لعظم حقهما وكبير فضلهما؛ إذ هما السبب بعد الله تعالى في وجود الولد في هذه الحياة، فترى الأولاد يقرون ويعترفون بفضل والديهم وحقهم، فيبرون بهم، ويقدمون رغبات آبائهم وأمهاتهم على رغبات أنفسهم.
ثم تمتد مصالح الوالدين لأولادهما في الآخرة، فإنَّهما إذا انتقلا إلى جوار ربِهما وقد خلَّفا أولادًا صالحين، فيكون لهما مثل أجور أولادهما، من غير أن ينقص من أجور الأولاد شيء، فهما مَيِّتان والأعمال الصالحة تدوّن في ميزان حسناتهما بسبب أولادهما الصالحين، وبخاصة الدعاء لأبويهم، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم.
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدد الثواب له إلا هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وفي الحديث أيضًا فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح".
ومن محاسن الأولاد أنهم إذا ماتوا قبل آبائهم فصبر الآباء واحتسبوا أثابهم الله تعالى على ذلك، فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله : ((إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حَمِدك، واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة، وسمّوه بيت الحمد)) رواه الترمذي وابن حبان، وقال : ((يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صَفِيّه من أهل الدنيا ثم احتسبهُ إلا الجنة)) رواه البخاري.
كذلك من النفع العائد على الوالدين من أولادهما شفاعتهم لهما يوم القيامة، فقد ورد في صحيح مسلم أن الصغار يتلقون آباءهم في الجنة حتى يدخلهم الله وآباءَهم الجنة.
فأيّ ترغيب يبلغ هذا المبلغ ببركة النسل والذرية الناتجة عن الزواج، فإذا رُزق الوالد ولدًا وجب عليه بِرُّه والإحسان إليه، وإذا مات الوالد قبل الولد كان له مثل عمل ولده من الخير.
إن على المسلم أن يسعى في أسباب حصول النسل، ويحافظ عليه، ويعمل على استمراره، عبادة لربه وطاعة له ورغبة في ثوابه واتباعًا لهدي رسوله ، ولذلك يسعى إلى الزواج، ويحرص عليه، ويُرغب فيه، ويُسهِّل أموره، ولا يقف حجر عثرة في طريق زواج ولده أو ابنته أو أحد من أقاربه وإخوانه المسلمين، بل يدعو إلى الزواج، ويعين عليه ولو بكلمة طيبة من شأنها أن تجمع بين رجل وامرأة يُنشئان بيتًا مسلمًا، تخرج منه أسرة صالحة تعبد ربَّها، وتعرف حقَّ الله عليها، وتسهم في نفع مجتمعها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3890)
فضل تربية البنات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية, فضائل الأعمال
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تقسيم الله تعالى الذرية منذ خلقها وحتى قيام الساعة. 2- الجاهلية وعاداتهم القبيحة في التعامل مع الفتيات. 3- التضايق من البنات صفة من صفات الجاهلية. 4- فضائل تربية البنات. 5- الهدي النبوي في التعامل مع البنات. 6- فتاة اليوم هي أم الغد.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى في محكم التنزيل: لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50].
في هاتين الآيتين بين الله تعالى أقسام الذرية من الإناث والذكور، وأنه تعالى يهب لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء الذكور، ويرزق من يشاء ذكورًا وإناثًا، ويجعل من يشاء عقيمًا لا يولد له، لحكمة يعلمها جل جلاله.
وقد ورد أن هاتين الآيتين نزلتا في الأنبياء ثم عمت الجميع، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا يعني لوطًا عليه السلام، كان له بنات ولم يكن له ابن، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ يعني إبراهيم عليه السلام، لم يولد له أنثى بل قد ولد له ذكور، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا يعني سيدنا محمدا ، كان له ذكور وإناث: القاسم وعبد الله وزينب وأم كلثوم ورقية وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم وهو من مارية القبطية رضي الله عنهم أجمعين.
وقسَّم الله تعالى الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا إلى أن تقوم الساعة، على هذا التقديرِ المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة، ليبقى النوع الإنساني، وتُعمر الدنيا، وينفذ وعد الله تعالى.
وقد ابتدأ الله تعالى بذكر الإناث في هذا التقسيم، وورد عن بعض السلف: "إن من يُمْن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، وذلك أنه عز وجل قال: يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا "، ولعل في ذلك تشنيعًا على المشركين، وبيانًا لقبيح أفعالهم وخبث أعمالهم، لما كانوا يرتكبونه من حُمقٍ في جاهليتهم بوأدهم للبنات، وكرههم لهن، واشمئزازهم عند ولادتهن، قال سبحانه وتعالى في ذلك: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59]. قال قتادة رحمه الله: "هذا صنيع مشركي العرب، أخبرهم الله تعالى ذِكرهُ بخبث صنيعهم، فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم اللهُ له، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه، وما يدري المرء أين يكون الخير والصلاح، فلرب جاريةٍ خيرٌ لأهلها من غلام، وإنما أخبرهم الله بصنيعهم ليجتنبوه وينتهوا عنه، وكان أحدهم يغذو كلبه ويئد ابنته" انتهى كلامه رحمه الله.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: "قَسَّمَ الله تعالى حال الزوجين إلى أربعة أقسام اشتمل عليها الوجود، وأخبر أَنَّ ما قُدِّرَ بينهما من الولد فقد وهبهما إياه، وكفى بالعبد تعرضًا لمقته أن يتسخَّطَ مما وهبه، وبدأ سبحانه بذكر الإناث، فقيل: جبرًا لهن، وقيل: إنما قدمهن لأن سياق الكلام أنه تعالى فاعل ما يشاء لا ما يشاء الأبوان، فإنَّ الأبوين غالبًا لا يريدان إلا الذكور، وهو سبحانه قد أخبر أنه يخلق ما يشاء، فبدأ بذكر الصنف الذي يشاء ولا يريده الأبوان".
ثم أضاف رحمه الله: "إن الله تعالى قَدَّم ما كانت تؤخره الجاهلية من أمر البنات، حيث كانوا يئدونهن، أي: هذا النوع المؤخر الحقير عندكم مقدم عندي في الذِّكر، وتأمل كيف نَكَّرَ سبحانه الإناث وعَرَّفَ الذكور، فجبر نقص الأنوثة بالتقديم، وجبر نقص التأخير بالتعريف، فإن التعريف تنزيه" انتهى.
إن النفور والتضايق من الإناث صفة من صفات الجاهلية كما بين الله تعالى ذلك في الآية المتقدمة، واعتراض على حكم الله تعالى وقضائه، فإن الله عز وجل أدرى بخلقه وأعلم بما يصلح أو يفسد أحوالهم، والمرء لا يدري في أي حالٍ تكون السعادة أو الشقاء، ولربما فتح الله له من أبواب الرزق وسبل الخير ما لا يخطر بباله حين تولد له بنت، ولعل مغفرة الله ورضوانه لا ينالها المرء إلا بسبب البنات.
ورد عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة جاءت إليها ومعها بنتان لها، قالت: فسألتني فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها إياها، فأخذتها فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها شيئًا، ثم قامت فخرجت وابنتاها، فَدَخَلَ عَلَيَّ النبيّ فحدثتهُ حديثها، فقال : ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار)) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ: ((إن الله قد أوجب لها بها الجنة، وأعتقها بها من النار)).
قال العلامة القرطبي رحمه الله: "قوله : ((بشيءٍ من البنات)) يفيد بعمومه أن الستر من النار يحصل بالإحسان إلى واحدةٍ من البنات، فأما إذا عال زيادة على الواحدة فيحصل له زيادة على الستر من النار، وهو السبق مع رسول الله إلى الجنة كما في قوله : ((من عال جاريتين ـ أي: بنتين ـ حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو)) وضم أصابعه عليه الصلاة والسلام. رواه مسلم".
وذلك يحصل بحسن التربية، وصدق الرعاية، وغرس آداب الإسلام الفاضلة وتعاليمه القيمة في نفوسهنَّ، والعناية بكل ما يحفظهن، والإحسان لفظة عامة تشمل كل ما فيه مصلحة البنت وفائدتها.
إن البنت ستصبح في يوم من الأيام أمًّا تنجب الأبناء، وتتعهد أولادها وتربيهم، فكل ما حولك من البشر إنما أخرجهم الله من بطون أمهاتهم، وأنت قد سمعت ما قرره الإسلام من حقوقٍ للأم، وما أوجب على الأولاد من برِّها ومعرفة فضلها.
الأمُّ مَدْرَسَةٌ إذَا أَعْدَدتَها أَعْدَدتَ شَعْبًا طيِّبَ الأعراقِ
الأمُّ روضٌ إن تعهده الحيا بالرَّي أورق أيّما إيراقِ
وإذا كان المصطفى قد بيّن فضائل تربية البنات فإنه بفعله ذلك كان يكرمهن ويقربهن ويشملهن برعايته وحنانه، فقد كان يحمل أمامه بنت ابنته زينب رضي الله عنها وهو في صلاته. وهو بأقواله وأفعاله يقدّمُ أنموذجًا فريدًا للعناية بالفتاة وتكريمها:
أُحِبُّ البناتِ وحُبُّ البنا تِ فرضٌ على كل نفسٍ كريمه
فإن شعيبًا مِنْ أجل ابنتيـ ـه أخدمه اللهُ موسى كليمَه
ولئن نسي البعض فضائل البنات فلن ننسى أمهاتنا، ولن ننسى نساءً أشاد الله تعالى بِهن في كتابه ونوَّه بأعمالهنّ: مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، وأمهات المؤمنين زوجات النبيّ ورضي عنهن، وغيرهن وغيرهن..
فلو كان النساء كمن ذكرنا لفُضّلت النساءُ على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيْبٌ ولا التذكير فخرٌ للهلالِ
الله أكبر، كيف تشمئز النفوس حين ترزق بمن هن ستر من النار، ومن بحسن تربيتهن يحظى بمرافقة سيد الأبرار في أعظم وخير دار؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
إلى أعلى
إذا
كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.
سيقوم النظام الذي نستخدمه بإرسال رقم هذه الخطبة تلقائياً مع رسالتك ليتسنى
لنا التدقيق وتصويب الأخطاء
(1/3891)
تيسير المهور
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدين الإسلامي قائم على السماحة واليسر. 2- حث النبي على تسهيل الزواج. 3- فوائد تيسير المهور. 4- هدي النبي وأصحابه في تيسير المهور. 5- أثر غلاء المهور في إقبال الشباب على النكاح.
_________
الخطبة الأولى
_________
من جميل صفات التشريع الإسلامي تلك المرتكزات التي يقوم عليها من السهولة واليسر والتخفيف والسماحة، إذ راعى وضع جميع أفراده وتفاوتَ قدراتهم واختلافَ أحوالهم وطاقاتهم، يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال جل وعلا: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28].
وفي توجيهاته نجد حرصه على عدم الإثقال على أمته، ودعوته إلى السماحة واليسر في أقواله وأفعاله وفي إرشاده لأصحابه رضي الله عنهم، ويظهر ذلك جليًا واضحًا في سائر الأحكام التشريعية، في العبادات والمعاملات وكافة التكاليف الدينية، ولا غرابة في ذلك فقد قال عنه خالقه تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
وحين حث على الزواج ليحفظ المسلم نفسه من الوقوع في المخالفات، وليقطف مصالح الزواج وأهدافه، وينعم المجتمع الإسلامي بنتائجه وثمراته، دعا إلى تسهيل أمر الزواج وتيسير الطرق الموصلة إليه، ومن أهمها الصداق الذي يقدمه الزوج للمرأة مقابل اقترانه بها، فقد روى جابر أن رسول الله قال: ((لو أن رجلاً أعطى امرأة صداقًا ملء يديه طعامًا كانت له حلالاً)) رواه أحمد.
وبيَّن أن تخفيف الصداق يجلب الخير للزوجين، ويأتي بالبركة، ويضفي على حياتهما أجواءً من السعادة والهناء، فقال : ((إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة)) رواه الإمام أحمد، وقال : ((خير الصداق أيسره)) رواه ابن ماجه.
والنبي تزوج أم المؤمنين صفية رضي الله عنها وجعل عتقها صداقها، ولم يبالغ في مهور نسائه ولا بناته، إذ لم يزد صداق بعضهن على اثنتي عشرة أوقية، كما بَيَّنَ ذلك عمر حين ظهرت مغالاة الناس في المهور وزيادتهم على الحد المتعارف عليه في العهد النبوي، فقال : (ألا لا تغالوا في صُدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل لكان أولاكم بها رسول الله ، ما أصدق رسول الله امرأة من نسائه ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، وإن الرجل لُيغلي بصداق امرأة حتى يكون لها عداوة في نفسه) رواه الترمذي.
فهذا الفاروق يشير إلى المساوئ المترتبة على المغالاة في الصَّداق والنتائج العكسية والآثار السلبية المترتبة على زيادة المهور، ومنها أن الزوج حين يُلْزَمُ بدفع صداقٍ عالٍ ومهر غالٍ يشُقّ على نفسه في توفيره، ويتكلف في جمعه وتحصيله، فيقترض من هذا وذاك، ويتحمل الديون التي تثقل كاهله وتقلق راحته، ويسعى في جمع هذا المهر سنين عديدة، ثم يقدمه للزوجة، وبعد أن يدخل بها ويُمضي معها أيام الزواج الأولى ويحين موعد سداد ديونه يجد أن حالته المادية لا تساعده في الوفاء بكل ما اقترض، ولا تسديد كل ما استدان، فيؤدي ذلك إلى كراهته لزوجته؛ لأن توفير صداقها هو الذي أوقعه في الديون، فتتكالب عليه الهموم، وتنصرف رغبته عنها، إذ إن تلك الديون شَكَّلَت له عقبة كؤودًا في طريق السعادة، وبقيت نارًا تتلظى في فؤاده.
لقد قال عمر ذلك في عصره ولم تكن المغالاة في زمنه مثل ولا قريبة مما حدث بعده حتى يومنا هذا.
وهناك نماذج فريدة وأمثلة عديدة وصور من المجتمع المدني، كان المهر فيها سهلاً ميسورًا، إذ كانت المرأة تقنع باليسير وترضى بالقليل، فهذا أبو طلحة يخطبُ أم سليم رضي الله عنها فتقول: والله، يا أبا طلحة ما مثلك يُرد، ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة، ولا يحل لي أن أتزوجك، فإن تسلم فذاك مهري، ولا أسألك شيئًا غيره، فأسلم فكان ذلك مهرها. قال ثابت: فما سمعنا بامرأة قط كانت أكرم مهرًا من أم سليم. رواه النسائي.
إنه أنموذج فريد لامرأة تنازلت عن حقها المادي، واشترطت مهرها الإسلام لإنقاذ رجل من براثن الشرك وغياهب الضلال، واجتذبته إلى نور الهدى وشعاع الحق والتقى، فنالت أجره وثوابه، وكان هذا خيرًا لها من حُمر النَّعم، وأفضل من ماديات الحياة الدنيا وبهرجتها الزائفة ومظاهرها البراقة الكاذبة.
وصحابية أخرى لم تجعل المال هدفها، ولا العَرَض النفيس غايتها ومقصدها، فلم تشترط مركبًا فارهًا، ولا لباسًا غاليًا، ولا سكنًا واسعًا، بل اقتنعت بأن صداقها أقل القليل، هما نعلان تلبسهما تقي بِهما قدميها حر الرمضاء وقسوة البرد في الشتاء، فعن عامر بن ربيعة أن امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فعلم رسول الله بذلك فقال لها: ((أرضيتِ من نفسك ومالك بنعلين؟)) قالت: نعم، فأجاز نكاحها. رواه الترمذي وصححه.
وأما جيل التابعين فإن فقيههم عالمَ المدينة سعيد بن المسيب ضرب أروع الأمثلة في ذلك، حين دفع ابنته زوجةً لتلميذه أبي وداعة، وجعل مهرها درهمين فقط، وكان قد خطبها عبد الملك بن مروان لابنه الوليد، فاختار سعيدٌ أن يزوجها لأحد طلابه خوفًا عليها من فتنة الدنيا والتقلب بين رياشها وملذّاتها.
فهل في هذا الزمن أنموذجُ عصري فريد يعيد سيرة ابن المسيب في تزويج ابنته؟! لا أظن أن ذلك محال، لكنه عزيز ونادر، والخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة.
كم نادى الدعاة والمصلحون، وكم رددوا من الخطب والمواعظ والدروس والنصائح التي أصغت إليها أسماع بعض الأولياء ولم تعيها قلوبهم، كم دعوا إلى تخفيف المهور، وأكدوا على ضرورة تيسيرها، وبينوا الأخطار الناجمة عن المغالاة فيها، فكم من شاب عقد العزم على إكمال نصف دينه، فاعترضته عقبةُ كثرة الصداق، واصطدم بها، فتوقفت آماله، وتحطمت رغباته، وشكا إلى الله حاله، وكم من فتاة تتوق إلى تكوين أسرة وإنجاب أولاد، فحال وليها بينها وبين تحقيق آمالها باشتراطه مهرًا غاليًا كلما تقدم شاب لخطبتها.
لقد أصبحت مشكلة غلاء المهور أمرًا يؤرق الشباب والفتيات، ويقلق الأيامى من الذكور والإناث، وما ذاك إلا لجشع بعض الأولياء، وتنافسهم في جمع المال من هذا الطريق، والطمع المادي الذي ترسَّب في قلوبِهم، فلم يدركوا أهداف الزواج، ولم يعرفوا مقاصده السامية وأهدافه النبيلة.
كما أن النظرة إلى الزوج الكفء قد تغيرت عند بعضهم، فأصبح المعيار المادي هو المقصد عند بعض الآباء والأولياء الذين لم يُمعِنوا النظر في قوله : ((من يُمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها)) رواه أحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3892)
شهر شعبان
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, فضائل الأزمنة والأمكنة
سليمان بن إبراهيم الحصين
الهفوف
جامع الخزان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصيام. 2- حرص النبي عليه السلام على صيام شعبان. 3- أحكام الصيام في شهر شعبان. 4- البدع المحدثة في شهر شعبان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى تواب رحيم، غني كريم، شرع لعباده أنواعًا من العبادات تكفَّر بها ذنوبهم، وتمحَى بها خطاياهم؛ من الذكر والدعاء والصلاة والصدقة والحج والعمرة والبر والصلة، ومن تلك العبادات العظيمة الصيام؛ فإنه عمل عظيم يظهر فيه الإخلاص، اختص الله تعالى به، فأجر الصائم على الله عز وجل: ((الصيام لي وأنا أجزي به))؛ ولذا رغب النبي في الصيام وحث عليه وداوم عليه: ((فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفّرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) رواه الترمذي، ((في الجنة باب يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد)) ، فهنيئًا لمن حرص على الصيام واشتغل به وأكثر منه.
أيها الإخوة، يغفل كثير من الناس عن الصيام في شهر شعبان، وقد كان نبينا يحرص على الصيام فيه ويكثر منه، أخرج النسائي وغيره بسند حسن عن أسامة بن زيد قال: قلت: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهرًا من الشهور ما تصوم من شعبان! فقال: ((ذلك شهر يغفل عنه الناس بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم))، وثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان، وتقول أم سلمة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان. ومرادها: أكثر الشهر، قال ابن المبارك: "هو جائز في كلام العرب، إذا صام أكثر الشهر أن يقال: صام الشهر كله".
أيها الإخوة، من أحكام الصيام في شهر شعبان النهي عن تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين إذا قصد من ذلك استقبال شهر رمضان بالصيام، أما إذا كان معتادًا لصيام آخر الشهر أو الاثنين والخميس ووافق ذلك دخول رمضان فلا يضر، بل الأفضل له أن يصوم لقول النبي : ((لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجل كان يصوم صومًا فليصمه)) متفق عليه.
فاجتهدوا رحمكم الله في الصيام من شهر شعبان، خاصة وأنه يمرّ في هذه السنوات في وقت قِصَر النهار وبرودته، وقد قال نبينا : ((الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة)) أخرجه أحمد وغيره بسند حسن، وذلك لأنه لا يلحق الصائم في أيام الشتاء عطش ولا مشقة كما يكون في غيره، قال الله عز وجل: وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ?للَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا به النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا، أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن العبادة المقبولة التي يثاب صاحبها عليها هي ما اشتملت على شرطين عظيمين: الأول: الإخلاص لله تعالى، والثاني: المتابعة للنبي ، قال الله تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ?للَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31].
فلا يكفي الإخلاص دون المتابعة، فمن كان مخلصًا ولم يكن متَّبعًا للنبي في هديه وعبادته فإن عمله مردود عليه، ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أخرجه مسلم، أي: مردود على صاحبه.
أيها الإخوة، مما أحدث في شهر شعبان تخصيص ليلة النصف منه بصلاة وقيام ليل، وتخصيص اليوم الخامس عشر منه بالصيام، وهذا التخصيص لم يرد عن النبي ، ولم يأمر به، ولم يفعله، وإنما أحدثه الناس بعد ذلك، ونظرًا لكثرة ما يقال عن هذه الليلة في بعض الإذاعات ووسائل الإعلام وما يُتحدث به في المجالس فلا بد من أن نكون على علم بهذه المسألة لمعرفة الحق فيها، ولبيان ذلك يقال:
1- عن أبي بكر قال: قال رسول الله : ((يطّلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مُشاحن))، وقد صحح هذا الحديث بعض أهل العلم، وغاية ما يدل عليه هذا الحديث الإخبار عن إطلاع الله تعالى ومغفرته لذنوب عباده إلا من كان من أهل الشحناء أو من أهل الشرك، وفي هذا تعظيم للشرك، وتعظيم للعداوة والشحناء بين المؤمنين، وليس في هذا الحديث أمر أو ندب لقيام هذه الليلة أو صيام نهارها، وأما الأحاديث الواردة في الحثّ على قيام تلك الليلة وصيام نهارها فهي أحاديث لا تصح.
2- ما يفعله بعض الناس من الاجتماع في ليلة النصف من شعبان في المساجد وإحياء تلك الليلة فهذه بدعة منكرة؛ لأن النبي وأصحابه لم يفعلوها ولم يأمروا بها، وهم أحرص منا على الخير، روى ابن وضاح عن زيد بن أَسْلَم قال: "ما أدركنا أحدًا من مشيختنا ولا فقهائنا يلتفتون إلى ليلة النصف من شعبان"، وقيل لابن مُلَيكَة: إن زيادًا النّمَيري يقول: إن ليلة النصف من شعبان كأجر ليلة القدر! فقال: لو سمعته وبيدي عصا لضربته.
فهذا هو الحق والصواب في هذه الليلة، أنه لا يجوز الاجتماع في المساجد لإحيائها، ولا يجوز تخصيصها بصلاة، ولا تخصيص يومها بصيام، وفي الثابت من الأحاديث في غير هذه الليلة غنية وكفاية لمن أراد الخير وسعى لتحصيله بصدق وإخلاص.
(1/3893)
آداب وليمة الزواج
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, النكاح, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ترغيب الشارع في عمل وليمة الزواج وإجابتها. 2- وقت الوليمة موسع قبل الدخول أو بعده. 3- الوليمة بما تيسر له ولا يُشترط طعام معين. 4- استحباب المشاركة في إعداد الوليمة. 5- وجوب شمول لجميع طبقات الناس. 6- التنبيه على بعض أخطاء الولائم. 7- التحذير من الإسراف والتبذير.
_________
الخطبة الأولى
_________
روى أنس قال: رأى رسول الله على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة فقال: ((ما هذا؟)) قال: يا رسول الله، إني تزوجت امرأةً من الأنصار على وزن نواةٍ من ذهب، فقال : ((بارك الله لك، أولم ولو بشاة)) متفق عليه.
هذا الحديث من النصوص الدالة على مشروعية الوليمة للزواج، وفي إعدادها والدعوة إليها إعلانٌ للزواج وإشهارٌ له، ويجتمع لها الأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والمعارف، فتحصل الألفة والمودة والأنس والتقارب. ولنقف عند وليمة الزواج والدعوة إليها الوقفات الآتية:
أولاً: أنَّها من السنن المستحبة عند أكثر العلماء، ومنهم من قال بوجوبها، روى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((الوليمة حقٌ وسنة، فمن دعي فلم يجب فقد عصى الله ورسوله)) رواه الطبراني.
ولم يترك النبي الوليمة في النكاح قط، بل أولم لجميع نسائه، ووجه أصحابه إلى ذلك، كما في قصة عبد الرحمن بن عوف.
ثانيًا: أن وقت الوليمة موسَّع من عقد النكاح إلى ما بعد الدخول، والذي عليه أكثر العلماء أن النبي صنع هذه الوليمة بعد الدخول، فقد ورد أنه أصبح عروسًا بزينب فدعا القوم إلى الطعام، والعملُ عند أكثر الناس اليوم أنها تكون قبل الدخول، ولا حرج في ذلك، إذ ليس بين عمل الوليمة والدخول إلا وقت يسير، وهذا ما جرت عليه عادة الناس، فالعادة مُحَكَّمة.
ثالثًا: أن يولم بشاة أو أكثر، لا سيما إذا كان ممن أنعم الله عليه بالغنى والسَّعة، لكن لا يصل ذلك إلى حد الإسراف المنهي عنه. وفي حديث عبد الرحمن بن عوف أن النبيّ قال له: ((أولم ولو بشاة)) ، وروى أنس قال: ما رأيت رسول الله أولم على امرأة من نسائه ما أولم على زينب، فإنه ذبح شاة فأطعمهم لحمًا وخبزًا حتى تركوه. متفق عليه.
رابعًا: لا يشترط أن تكون الوليمة باللحم، بل هي جائزة بأي طعام يتيسر ولو كان خاليًا من اللحم، وفي عمل النبيّ حين أولم لبعض نسائه لم يكن في طعام الوليمة لحم، فعن أنس أن النبي أولم على صفية بتمر وسويق، وعن صفية بنت شيبة أن النبيّ أولم على بعض نسائه بمد من شعير. رواه البخاري.
خامسًا: يستحب أن يشارك الأغنياء والقادرون في إعداد الوليمة وتوفير متطلباتها، وأن يكون لهم دور بارز في ذلك، وفي قصة زواج النبي بصفية رضي الله عنها أنه دخل بها فلما أصبح قال : ((من كان عنده شيء فليأت به)) ، فجعل الرجل يجيء بفضل التمر والسويق، وجعل الرجل يجيء بالأقط، والرجل يجيء بالتمر، والرجل يجيء بالسمن، فجعلوا من ذلك حَيْسًا، فأكلوا منه، وشربوا من حياض إلى جنبهم من ماء السماء، فكانت تلك وليمة رسول الله على صفية رضي الله عنها. رواه مسلم.
وقد جرت عادة كثير من الناس في مجتمعنا أن يسهموا مع الزوج في القيام بتكاليف الوليمة ومؤنة الزواج وإعانته على ذلك، من باب التكافل والمودة والمحبة، وهي طريقة محمودة، تعطي دلالة واضحة على صدق التعاطف مع الزوج وسخاء النفس وطيب القلب.
سادسًا: من السنة أن تكون الدعوة إلى وليمة الزواج شاملة للأهل والأقارب والجيران والأصدقاء والأغنياء والضعفاء والقادرين والمعدمين، ولا يجوز أن يخص الداعي الأغنياءَ بالدعوة، أو يقتصر على دعوة الأثرياء وذوي الوجاهة والغنى، فقد قال : ((شر الطعام طعام الوليمة، يُدعى لها الأغنياء، ويُمْنَعُها المساكين، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى اللهَ ورسولَه)) رواه مسلم. ذلك أن الفقير والمسكين بحاجة إلى الطعام، وهو الذي إذا دُعي بادر وأسرع في تلبية الدعوة وأجاب، بخلاف الغني فإنه قد يستثقل المجيء فلا يجيب، وهذا المراد من الحديث السابق، ومعناه أن شر طعام الوليمة ما اقتُصر فيه على دعوة الأغنياء وترك الفقراء، وليس المراد أن كل وليمةٍ طعامها شر الطعام، وإلاَّ لما حث عليه الصلاة والسلام على إجابتها وأوجب ذلك على المدعو.
سابعًا: لو أمعنا النظر في حال كثير من الناس اليوم، لوجدنا عدة مخالفات ترتكب عند إقامة ولائم الزواج، منها تعمد البعض المفاخرة في وليمة زواجه أو زواج قريبه أو قريبته، بحيث يختار لها أفخم قاعات الفنادق وأغلى قصور الأفراح وأرقى صالات الاحتفالات، ويدفع مقابل ذلك مبالغ مالية باهظة، ويحرص البعض على ذلك رغبة في الظهور بمظهر الغني القادر، وتقليدًا أو محاكاة للآخرين، حتى يظهر أمام أهل الزوجة بمظهر الثري الذي لا يعجز أن يفعل مثلَ أو أكثر مما فعله غيره، وهذه نظرة خاطئة تجلب كثيرًا من المتاعب للشباب الذين لا يطيقون تحمل الأعباء المالية التي تزيدهم إرهاقًا مع دفع المهور المرتفعة، مما يُشكل عبئًا ماليًا كبيرًا، من شأنه أن يؤدي بالكثير منهم إلى الإحجام عن الزواج مع شدة الرغبة والتوقان إليه.
ثامنًا: أن إقامة ولائم الزواج لا تخلو في معظم حالاتها اليوم من الإسراف المتناهي، حيث يظهر البذخ والتبذير بتقديم الأطعمة من اللحوم وأنواع المأكولات والمشروبات والحلوى وغير ذلك بكميات كبيرة، تزيد في أكثر الحفلات عن أعداد المدعوين، إذ إن من يُدعى لحضور الولائم يتخلف كثيرٌ منهم، فتبقى تلك الأطعمة، ولا يؤكل إلا القليل منها، ويكون مصير الباقي منها الإتلاف دون الإفادة منها، أو توزيعها على الفقراء والمساكين والمعوزين والمحتاجين.
وذلك كله بسبب مخالفة الهدي الإلهي والتوجيه الرباني: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، وعدم التقيد بالإرشاد النبوي الوارد في قول المصطفى الكريم : ((كلوا واشربوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة)) رواه أحمد والنسائي.
فإلى متى يتمادى بعض النَّاس في الإعراض عن الضوابط الشرعية التي وضعها الإسلام في دعوته إلى الاعتدال والتوسط بين الإسراف والتقتير في المآكل والمشارب والملابس وما يقدم في الحفلات والمناسبات، وبالأخص ولائم الزواج والأعراس؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3894)
الاعتدال في حفلات الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إقامة الوليمة في النكاح سنة ثابتة. 2- استحباب تعميم الدعوة للوليمة على كافة طبقات المجتمع. 3- وجوب إجابة الدعوة إذا كانت خاصة. 4- خطأ ما يفعله بعض الأولياء من اشتراط الأماكن الفارهة لإقامة الوليمة. 5- القصد من بطاقة الدعوة هو الإعلام بموعد الزواج. 6- الإسراف والبذخ في طعام الوليمة. 7- التحذير من المنكرات المصاحبة للوليمة. 8- عزوف كثير من الشباب عن الزواج بسبب تكاليفه الباهظة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إقامة الوليمة للزواج وإعداد الطعام ودعوة الأهل والأقارب والأصدقاء سنة مشروعة، فعن أنس أن النبيّ أولم على زينب بشاة، وقال لعبد الرحمن بن عوف: ((أولم ولو بشاة)) متفق عليه.
وتستحب الدعوة إلى وليمة العرس، ومن دُعي إليها لزمته الإجابة لقوله : ((أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها)) متفق عليه.
ولا ينبغي للداعي أن يخصّ بالدعوة عِليةَ القومِ وأثرياءهم ووجهاءهم ويؤكد على الأغنياء والأعيان ويهمل الفقراء والمساكين، بل يدعو أهل الصلاح والتقوى وإخوانه المسلمين أيًّا كان مستواهم الاجتماعي وحالهم المادي، قال : ((شرّ الطعام طعام الوليمة؛ يُدعَى لها الأغنياء، ويُترك الفقراء، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله)) متفق عليه، وعن جابر قال: قال رسول الله : ((إذا دُعي أحدكم إلى طعامٍ فليجب، فإن شاء طعِم وإن شاء ترك)) رواه مسلم.
ومراده بقوله: ((شر الطعام طعام الوليمة)) أي: طعام الوليمة التي يُدعى إليها الأغنياء ويترك الفقراء، ولم يرد أن كل وليمة طعامها شرّ الطعام، فإنه لو أراد ذلك لما أمر بها، ولا حثّ على الإجابة إليها، ولا فعلها، ولأن الإجابة تجب بالدعوة، فكل من دُعي فقد وجبت عليه الإجابة.
ولنتوقف عدة وقفات، نتعرّض خلالها لبعض المظاهر الاجتماعية الحالية المصاحبة لإقامة حفلات الزواج ووليمته:
الوقفة الأولى: إن وجوب إجابة الدعوة إنما يكون في حالة ما إذا خصَّه بالدعوة بعينه، بأن قال: يا فلان، أنت مدعوّ للحضور، أو أرسل إليه شخصًا أو بطاقة أو هَاتَفَه أو نحوَ ذلك، أما إذا دعاه دعوة عامة، كأن يكون في اجتماع فيه عدد كبير أو في مسجد أو نحو ذلك فقال: أيها الناس، أنتم مدعوّون لحضور الوليمة، ففي مثل هذه الحالة لا تلزم الإجابة، إلا إذا دَعَا كلَّ شخص بعينه.
الوقفة الثانية: إن بعض الأولياء يشترط إقامة حفل الزواج في أغلى الفنادق أو في أفخم قصور الأفراح أو أغلى صالات الاحتفالات أو أجمل القاعات، وهذا من أكبر الأخطاء المصاحبة لإقامة الحفل، فإنّ الغالب هو قصدُ المباهاة والمفاخرة، والتقليد الأعمى للآخرين، وحُب الظهور على حساب الزوج الذي يلجأ في معظم الحالات إلى استدانة الأموال أو الاقتراض من غيره حتى يلبي تلك الرغبة، وفي ذلك إهدار للأموال وتضييع وصرف لها في غير محلها، وقد نَهى النبي في أحاديث كثيرة عن إضاعة المال.
الوقفة الثالثة: يعمد بعضُ الأزواج إلى إعداد بطاقات الدعوة وطباعتها بأشكال جذابة وألوان مختلفة وإطار مزخرف، واختيار أغلى البطاقات ثمنًا وأعلاها كلفة، وكتابتها بصيغتين مختلفتين: واحدة للرجال وأخرى للنساء، وهذه مبالغة غير محمودة، وتبذير وتحمل لمبالغ طائلة، والمقصود من إرسال البطاقة إلى المدعوين إنما هو إعلامهم بموعد ومكان إقامة الوليمة، وذلك يحصل بأقل من هذه التكلفة.
الوقفة الرابعة: إعداد وليمة الزواج بأحجامٍ يظهر فيها الإسراف والبذخ والتبذير، إذ يعمد القائمون عليها إلى إعداد أنواع الأطعمة وأصناف المأكولات والمشروبات من اللحوم والأرز والفواكه والحلوى والعصيرات، ويعدّ ذلك بكميات كبيرة فائضة عن أعداد المدعوين الذين قد يتخلّف الكثير منهم عن الحضور، فتزيد تلك الأطعمة، وتبقى كما هي، لم يؤكل منها إلا الشيء اليسير، ويبقى الكثيرُ منها دون الإفادة منه. وفي ذلك مخالفة شرعية صريحة للنصوص الإلهية والأحاديث النبوية التي حذرت من الإسراف بشتى صوره، ونهت عن التبذير بمختلف أشكاله.
فقد أمر الله تعالى بالتوسط والاعتدال في الأكل والشرب، فقال جل ذكره: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: أحل الله تعالى في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة. وقد ورد هذا المعنى عن رسول الله بقوله: ((كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده)) رواه أحمد.
وذكر الله تعالى من صفات عباده المتقين: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقال جل شأنه: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27]، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، كلها تدعو إلى الاعتدال، وترغب في القصد والاقتصاد، وتنهى عن التبذير والإسراف، أوَلَم يكفنا اتباع سيرة رسول الله وأصحابه رضي الله عنهم التي كانت مليئة بمجاهدة النفس والأهل والعيش على الكفاف والخشونة والتقشف؟! وحين يدرك المسلم ذلك يقف مشدوهًا لما يراه من الإسراف والتبذير.
وإن الناظر لما عليه الحال في بعض المجتمعات البائسة التي تعيش حالات الجوع والفقر يدرك ما أنعم الله به علينا، فيدفعه ذلك إلى مزيد من الشكر والثناء والإقرار بنعم الله وحفظها وصونها ومراقبة الله تعالى فيها والخوف من أليم عقابه وشديد انتقامه، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
الوقفة الخامسة: يضاف إلى ما تقدم من الإسراف ما يصحب الحفلَ من المخالفات الشرعية والأمور المنكرة كالتصوير والغناء والمبالغة في سائر الأمور، والزوج في النهاية هو الذي يتحمل تلك المبالغ المالية الباهظة المترتبة على تلك الاحتفالات التي أفرزت إنفاقه مبالغ كبيرة، كان الافتخار والمباهاة وحب الشهرة والتقليد الأعمى وطاعة النساء وتنفيذ آرائهن هو الدافع وراء ذلك كله.
فلنتق الله تعالى في أمرنا كله، ولنلتزم جانب الاعتدال والاقتصاد في سائر نفقاتنا، وبالأخص ما يتعلق بنفقة وتكاليف الأفراح، فإن كثيرًا من الشباب عندما يرى أو يسمع بتلك النفقات يقدّم رِجلاً ويؤخّر أخرى، بل ربما يصرف النظر عن الزواج لعدم قدرته على الوفاء بما يتطلبه، فتتعطّل سنة الزواج التي حثّتنا عليها الشريعة الإسلامية، ورغبنا فيها الرسول المصطفى الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3895)
حقوق الزوج على الزوجة
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث الإسلام على حسن المعاشرة بين الزوجين. 2- أهم ا لحقوق الواجبة للزوج على زوجته: الطاعة في المعروف، عدم خروجها إلا بإذنه، عدم الإذن أحد في بيته إلا بإذنه، أن تصون نفسها عن غيره، إجابة الزوج إلى فراشه، الاعتراف بفضل الزوج، المحافظة على ماله، عدم صيام النفل حال وجوده إلا بإذنه، المعاشرة الحسنة، الحرص على مواساته وإدخال السرور عليه، خدمتها له، أن لا تتصدق من ماله إلا بإذنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى في كتابه الكريم مخاطبًا الأزواج: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]، وقال : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) رواه الترمذي وصححه.
لقد أوجب الإسلام على الزوجين أن يعاشر كلُّ واحد منهما صاحبه بالمعروف، وذلك لما للمعاشرة الحسنة من أهمية كبيرة في سعادتهما، واستمرارِ حياتهما الزوجية، وتقوية صلة كلٍّ منهما بالآخر، فيجدُ كلُّ واحد منهما الأنس بصاحبه والمحبةَ له والفرح بلقائه.
وللزوج حقوق على زوجته أوجبها الشارع ورتبها، وحث الزوجة على الالتزام بها، حتى تدوم الألفة والمودة بينهما. ومن خلال تتبع النصوصِ الواردة في ذلك من الكتاب والسنة يمكن أن نلخص أهم الحقوق الواجبة على الزوجة لزوجها بما يأتي:
أولاً: يجب على الزوجة طاعةُ زوجها وقبول أمره ما لم يكن معصية، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]، ولا تكون المرأة صالحة إلا إذا كانت مطيعة لزوجها. وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله : ((لو كنتُ آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده، لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حقَّ زوجها كلَّه، حتى لو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه)) رواه أحمد وابن حبان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "قوله تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34]، يقضي وجوب طاعتها لزوجها مطلقًا، فإن المرأة إذا تزوجت كان زوجها أملك بها من أبويها، وطاعة زوجها عليها أوجب".
ثانيًا: عدم خروجها من بيته إلا بإذنه، قال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، ففي الآية دلالة على أن النساء مأمورات بلزوم البيت، منهياتٌ عن الخروج.
وفي الحديث قال : ((إذا استأذنت المرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها)) متفق عليه، فيفهم من الحديث أنها إذا أرادت الخروج لا بد أن تستأذن، كما يُفهمُ منه أن للزوج منع زوجته من الخروج إلا ما استثني شرعًا، فالإسلام حينما جعل بيت المرأةِ قرارًا لها، وحذرها من الخروج منه، فإنه أباح لها الخروج عند الحاجة أو الضرورة، ومن ذلك الخروج لحضور صلاة الجماعة في المسجد كما في الحديث السابق، وكذا الخروج إلى مصلى العيد أو الجهاد أو ما إليه ضرورة.
إنَّ الإسلام دين حكمة، يضع الأمور في مواضعها، فهو يأمر المرأة بالقرار في البيت وعدم الخروج لغير حاجة، فإذا جاء وقت الحاجة أباح لها أن تخرج، وتعمل في أحرج المواقف وأشدها خطرًا، وهي أوقات الحروب، وأعمال المرأة تختلف فيها باختلاف الأحوال، فهي تسقي تارة، وتداوي أخرى، وتحمل السلاح لتدافع عن نفسها، فالإسلام حكيم عادل، بخلاف ما يدعو إليه دعاة الضلال الذين يغرون المرأة بالخروج إلى أماكن اللهو والفجور ومواطن الشك والارتياب، والمواقع الأخرى التي لا حاجة لوجود المرأة فيها، إذ يُكتفى فيها بالرجال.
ومع أن الإسلام أمر المرأة بعدم الخروج، إلا أن حسن المعاشرة يحتم على الزوج أن يكون حكيمًا، وأن يدرك أن المرأة ليست حبيسة المنزل، فيأذن لها في الخروج فيما تحتاج في نفسها، أو ما تحتاجه من زيارة أبويها أو أقاربها؛ لأن في ذلك صلة للرحم التي أمر الشرع بصلتها، وهذا مشروط بأن لا يكون في خروجها ضرر يعود على زوجها أو على نفسها، فإن وجد شيء من ذلك تعين على الزوج منعها.
لقد اجترأ كثير من النساء في هذا الزمن للخروج من بيوتهن بلا ضرورة، بل لارتياد المتاجر، لا لشراء ما هن في حاجة إليه، بل لمعرفة ما استحدث من نماذج وموضات جديدة للملابس التي تظهر المفاتن، وتكشف عما أُمرت المرأة بستره، وكأنها بخروجها تعرض مفاتنها لتوجه أنظار الرجال إليها، أو تثير إعجابهم بمحاسنها، وأصبح خروجها بهذه الطريقة عادة مألوفة في كثير من المجتمعات، وقد توعد النبيّ المرأة التي تخرج على تلك الصفة، فقال: ((أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرَّت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية)) رواه أحمد والنسائي.
ثالثًا: ومن حق الزوج على زوجته أن لا تأذن لأحد بدخول بيته إلا بإذنه، فقد قال : ((ولا تأذن في بيته إلا بإذنه)) متفق عليه.
رابعًا: أن تصون نفسها عن غيره، فتحافظ على فراش زوجها، ولا تتساهل في خلوة أي أجنبي بها، ولا سيما أقارب الزوج وأقاربها الذين ليسوا بمحارم، فقد حذر رسول الله من الخلوة بالمرأة بصفة عامة، وحذر من الأقارب غير المحارم بصفة خاصة، فقال : ((إياكم والدخول على النساء)) ، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: ((الحمو الموت)) متفق عليه.
خامسًا: إجابة الزوج إذا طلبها إلى فراشه، فإن عصيانه في هذه الحالة من أكبر المعاصي، روى أبو هريرة قال: قال رسول الله : ((إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح)) متفق عليه، وقال : ((إذا دعا الرجل زوجته لحاجته فلتأته وإن كانت على التنور)) رواه الترمذي وَحَسَّنَه.
سادسًا: الاعتراف بفضل الزوج عليها وعدم إنكار معروفه، فلا تنكر الزوجةُ ما قدمه لها وأسداه إليها من معروف، فإن كثيرًا من النساء تجحد فضل زوجها عليها، وخاصة عندما تغضب، وذلك من أسباب دخولها النار، قال : ((ورأيتُ النار، فلم أرَ كاليوم منظرًا قطُّ، ورأيتُ أكثر أهلِها النساء)) ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ((بكفرهنَّ)) ، قيل: أيكفرنَ بالله؟ قال: ((يكفرن العشير، ويكفرنَ الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدهر ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قطُّ)) متفق عليه.
سابعًا: أن تحفظ ماله ولا تفرط فيه أو تبعثره، فلا يجوز للزوجة أن تضيع مال زوجها الذي تعب في تحصيله وتحمل المشاق في جلبه وكسبه، سواء كان ذلك نقودًا أو طعامًا أو ملابس أو أثاثًا أو غير ذلك، فليس لها أن تبذر إذا أنفقت منه؛ لأنه قد ائتمنها على ذلك، وتبذيرها له خيانة، والخيانة من صفات المنافقين، وليس لها الحق في أن تتصرف بشيء من ماله دون إذنه ورضاه، إلا إذا كان حريصًا على المال حرصًا شديدًا، بحيث لا يوفر لها حتى النفقة على نفسها وأولادها، فيجوز لها حينئذ أن تأخذ ما يكفيها ويكفي أولادها بقدر الحاجة. يدل لذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت هندُ إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال : ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) متفق عليه.
ثامنًا: أن لا تصوم صيام تطوع وزوجها موجود إلا بعد أن تستأذنه، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه)) متفق عليه.
قال الحافظ: "والحديث دليل على أن حق الزوج آكد على المرأة من التطوعِ بالخير؛ لأن حقه واجب، والقيام بالواجب مقدم على التطوع"، وقال الإمام النووي: "وسبب هذا التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بزوجته في كل وقت، وحقه واجب على الفور، فلا تفوته بالتطوع"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وقد سئل عن امرأة تصوم النهار وتقوم بالليل، وكلما دعاها الزوج إلى فراشه تتمنع قال: "لا يحل لها ذلك باتفاق المسلمين، بل يجب عليها أن تطيعه إذا طلبها إلى الفراش، وذلك فرض واجب عليها، وأما قيام الليل وصيام النهار فتطوع، فكيف تقدّمُ مؤمنةٌ النافلةَ على الفريضة؟!".
تاسعًا: أن تعاشره معاشرة حسنة، فتبتسم في وجهه، وتظهر البشر والسرور، وتتجمل له، وتظهر أمامه بالمظهر الذي يعجبه، وتعمل كل ما من شأنه أن يحببها إليه ويرغبها فيه، ولا ينبغي أن تظهر أمامه بمظهر ينفر منه، كأن تلبس ملابس سيئة المنظر، أو تقترب منه وبها روائح غير مناسبة من آثار الطبخ وغيره، فإن ذلك من شأنه أن يكرّه الزوج فيها، ويُنَفِّره منها، وقد يعقبه بغض شديد لها، لا سيما إذا داومت على ذلك المظهر السيئ.
وكثير من النساء لا تعتني بمظهرها أمام زوجها، لا في ملبسها ولا في نظافتها، وتعكس ذلك إذا خرجت في زيارة خارج المنزل، فتراها تعتني بنفسها وتلبس أجمل ثيابها، وهذا الفعل يعتبر من أسوأ الأفعال وأشنع الصفات التي تصدر من الزوجة مع زوجها، فإنه أحق بتجملها وتنظفها وتطيّبها، وإنَّ امرأةً تفعل مثل هذا توشك أن تعيش حياة نكدة، وتجلب على نفسها وعلى زوجها البلاء والشقاء إذا ما صبر عليها وأبقاها زوجة له، والغالب أن مثلها لا تبقى مع الزوج إلا إذا كان مضطرًا اضطرارًا يلجئه إلى بقائها.
عاشرًا: أن تواسيه، وتعمل على فعل الأسباب التي تدخل عليه البهجة والسرور، وتزيل عنه الهمَّ والغم والتعب، وتهدئه في حال الغضب بالأساليب المناسبة، والرجل في حاجة إلى مواساة امرأته وتسكينها إياه في حالات الغضب، أو نزول حوادث محزنة، كموت ولدٍ أو فقد مال أو ما أشبه ذلك، ولقد ضربت أم سليم زوج أبي طلحة رضي الله عنهما أنصع مثال في هذا، فعن أنس بن مالك قال: مات ابن لأبي طلحة من أم سليم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه، فلما جاء قرَّبت إليه العشاء فأكل وشرب، قال: ثم تزينت له أحسن ما كانت تفعل قبل ذلك فبات معها، ثم قالت له: يا أبا طلحة، أرأيت لو أن قومًا أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب وقال: تركتِني حتى تلطختُ، ثم أخبرتِني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله فأخبره بما كان، فقال له رسول الله : ((بارك الله لكما في ليلتكما)) متفق عليه.
حادي عشر: أن تقوم بالخدمة في بيته، وتصبر على ما قد تعانيه من تعب ومشقة، وليس الزوج ملزمًا بأن يؤمّن لها خادمةً، بل الصحيح من أقوال العلماء أنه يجب على الزوجة خدمة زوجها، ويدل لذلك حديث علي أن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله أتت النبيّ تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنه جاءه رقيق فسألته خادمًا، فقال النبيّ : ((ألا أدلكما على خير مما سألتما؟ إذا أخذتما مضاجعكما ـ أو أويتما إلى فراشكما ـ فسبّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)) متفق عليه.
وفي بنت رسول الله التي جُرحت يدُها مما تزاول من أعمالِ بيتها أسوة حسنة لزوجات المؤمنين، وقد كان نساء النبيّ وغيرهن من نساء الصحابة يخدمن أزواجهن في بيوتهن وخارج بيوتهن إذا دعت الحاجة، ولا خير في حدوث إشكالٍ بين الزوجين بسبب خدمة البيت، والخيرُ في تعاونِهما جميعًا، والله تعالى يأمر المؤمنين بالتعاون، وهو بين الزوجين آكد من غيرهما.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن عقد الزواج يُنزلُ على العرف السائد بين الناس، والعرف بين الناس أن الزوجة تقوم بخدمة الزوج كما تقوم بشؤون البيت الداخلية".
ثاني عشر: أن لا تتصدق من مال زوجها إلا بإذنه، لما روى أبو أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله يقول: ((لا تنفق المرأة شيئًا من بيتها إلا بإذن زوجها)) ، قيل: يا رسول الله، ولا الطعام؟! قال: ((ذلك أفضلُ أموالنا)) رواه أحمد. غير أن المتصَدَّقَ به إذا كان يسيرًا من عادة الزوج أن يسمح بمثله فللزوجةِ التصدق به ولو لم يأذن الزوج.
هذه هي أهم الحقوق والواجبات التي يلزم المرأة أن تقوم بها، وإن التوافق بين الرجل وزوجته وحسن المعاملة بينهما وتحمل كل واحد منهما صاحبه مما يضفي على حياتهما جوًا من السعادة والبهجة، ويغرس في قلبيهما المودة والرحمة، فليست الشكليات الزائفة والمظاهرُ البراقة التي قد تعمد بعض الأسر إلى توفيرها عنوانًا على السعادة، بل ربما كانت سببًا رئيسًا في إحداث نوع من الخلل داخل الأسرة، وإن قناعة الزوجة بما يقدمه زوجها وما يمكن أن يسعدها به على قدر استطاعته مما يجعل المرأة كبيرةً في عين زوجها قد اكتسبت محبته ورضاه، وقد قال : ((أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة)) رواه الترمذي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3896)
حقوق الزوجة على الزوج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الإسلام للمرأة. 2- من حقوق الزوجة على زوجها: حسن العشرة، النفقة والكسوة، تعليمها أمور دينها، السماح لها بالخروج عند الحاجة، أن يحفظها ويصونها، العدل بين الضرائر.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد كانت المرأة في كثير من المجتمعات القديمة لا اعتبار لها ولا قيمة، بحيث ينظر إليها الرجل نظرة ازدراء واحتقار، لا يعتد بها، وليس لها أي منزلة في المجتمع، بل كانت تقوم بأدوارٍ تافهةٍ وضيقة.
ولما جاء الإسلام أبرز مكانة المرأة، وبوّأها منزلةً مرموقة، وقرر لها من الحقوق والواجبات ما لم يكن من قبل، فقرر لها أهلية التملك كالتملك بالإرثك لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]، وقرَّر صلاحيتها للعبادة والتكاليف الشرعية وألزمها بذلك: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124].
وأناط الإسلام بالمرأة كثيرًا من المهام، وكان النبي يخص النساء بتوجيهاته الكريمة، ويحث الرجال على الإحسان إليهن وعدم الإضرار بهن، فقال : ((استوصوا بالنساء خيرًا)) متفق عليه.
وجعل الإسلام للمرأة حقوقًا، وألزم الزوج أن يقوم بِها ويعمل على تحقيقها: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، فلهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن.
ويجدر بنا أن نقف على أهم تلك الحقوق الواجبة للزوجة، فمنها:
أولاً: أن يعاشرها معاشرة حسنة، بلطف ولين، وأن لا يغلظ عليها في الكلام، ويبتعد عن أسلوب الزجر والتوبيخ في كل أمر من الأمور، بل يصبر على ما قد يبدر منها مما لا ينبغي، كأن تتنكر له، أو تجحد معروفه، فإن هذا من طبائع النساء، فليكن سمحًا لينًا في غير ضعف وقت تعامله معها، فإنه لو قابل الشدة بمثلها والعنف بالعنف ربما أدى ذلك إلى فصم العلاقة بينهما، وتشتيت شمل الأسرة، وقد نبَّه الرسول إلى ذلك، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن المرأة خُلقت من ضِلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وبها عِوجٌ، وإن ذهبتَ تقيمها كسرتَها، وكسرُها طلاقُها)) رواه مسلم، وقال : ((لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم.
ثانيًا: أن ينفق عليها ويكسوها على قدر حاله من غنى وفقر وما بينهما، ولا يتكلَّف ما لا يطيق، قال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، وقال تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [الطلاق:6].
ونفقة الزوجة مقدمة على نفقة غيرها، وهي حق ثابت لها بمقتضى عقد النكاح، سواء كانت الزوجة غنية أم فقيرة، موظفة أم ربة بيت أم طالبة؛ لأن سبب وجوبِ النفقة هو الزواج الصحيح، وذلك أمر متحقق في سائر الزوجات، وقد قال : ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) رواه مسلم.
ومع أن النفقة حق للزوجة فإن الزوج يؤجر عليها، وينال الثواب من الله تعالى بإنفاقه على زوجته، فقد قال : ((دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينارٌ أنفقتَه في رقبة، ودينار تصدقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك)) رواه مسلم.
فإن كان الزوج شحيحًا ولا يعطيها ما يكفيها وأولادها من النفقة والكسوة واستطاعت أخذ شيء من ماله دون علمه فلها ذلك، بشرط أن يكون ما تأخذه على قدر حاجتها دون إسراف ولا تبذير، قال لهند امرأة أبي سفيان: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) متفق عليه.
ثالثًا: أن يعلمها أمور دينها التي لا غنى لها عنها، كالطهارة بأنواعها وأركان الإسلام الخمسة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، ووقاية الأهل من النار تحصل بتعليمهم ما يجب عليهم وما يحرم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما يجب أن يبصِّرَها بحقوقه عليها حتى تقوم بأدائها، فلا يحصل بينهما نزاع بجهلها تلك الحقوق.
رابعًا: السماح لها بالخروج إذا احتاجت إليه كزيارة والديها وأقربائها وجيرانها، ويسمح لها بالصلاة في المسجد، إن لم يكن ثمة ضررٌ يترتب على خروجها، وكان خروجها إليه خروجًا شرعيًا بحيث لا تمس طيبًا، ولا تظهر زينة تفتن بها الرجال، فمن السنة أن يأذن لها، قال : ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)) رواه أحمد وأبو داود.
خامسًا: أن يحفظ زوجته ويحرص على عفتها وكرامتها واحتشامها بالبقاء في بيتها وعدم الخروج منه لغير حاجة، وإذا خرجت يجب أن تكون محتجبةً غير سافرة؛ لئلا يطمع بها الآخرون، والرجل الذي يسمح لزوجته أن تخرج بين الرجال الأجانب مظهرة لزينتها ويتركها تختلط بِهم رجل ديوث، قد فقد شعور الإنسانِ النزيه، مخالف للدين الذي أمرها بالتستر والاحتشام، وقد أصبح بعض الرجال لا يبالي من أن يكون كذلك، فيترك لامرأته الحرية التامة في أن تلتقي بالرجال الأجانب وتصافحهم وتتحدث معهم وهي سافرة مبدية لزينتها، وقد قيل:
إنَّ الرِجالَ الناظرين إلى النِّسا مثلُ الكلابِ تطوف باللّحمان
إن لم تَصُنْ تلكَ اللحومَ أسودُها أُكِلَتْ بلا عوضٍ ولا أثمانِ
(1/3897)
حقوق الزوجة على الزوج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الإسلام للمرأة. 2- من حقوق الزوجة على زوجها: حسن العشرة، النفقة والكسوة، تعليمها أمور دينها، السماح لها بالخروج عند الحاجة، أن يحفظها ويصونها، العدل بين الضرائر.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد كانت المرأة في كثير من المجتمعات القديمة لا اعتبار لها ولا قيمة، بحيث ينظر إليها الرجل نظرة ازدراء واحتقار، لا يعتد بها، وليس لها أي منزلة في المجتمع، بل كانت تقوم بأدوارٍ تافهةٍ وضيقة.
ولما جاء الإسلام أبرز مكانة المرأة، وبوّأها منزلةً مرموقة، وقرر لها من الحقوق والواجبات ما لم يكن من قبل، فقرر لها أهلية التملك كالتملك بالإرثك لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]، وقرَّر صلاحيتها للعبادة والتكاليف الشرعية وألزمها بذلك: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124].
وأناط الإسلام بالمرأة كثيرًا من المهام، وكان النبي يخص النساء بتوجيهاته الكريمة، ويحث الرجال على الإحسان إليهن وعدم الإضرار بهن، فقال : ((استوصوا بالنساء خيرًا)) متفق عليه.
وجعل الإسلام للمرأة حقوقًا، وألزم الزوج أن يقوم بِها ويعمل على تحقيقها: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، فلهن من حقوق الزوجية على الرجال مثل ما للرجال عليهن.
ويجدر بنا أن نقف على أهم تلك الحقوق الواجبة للزوجة، فمنها:
أولاً: أن يعاشرها معاشرة حسنة، بلطف ولين، وأن لا يغلظ عليها في الكلام، ويبتعد عن أسلوب الزجر والتوبيخ في كل أمر من الأمور، بل يصبر على ما قد يبدر منها مما لا ينبغي، كأن تتنكر له، أو تجحد معروفه، فإن هذا من طبائع النساء، فليكن سمحًا لينًا في غير ضعف وقت تعامله معها، فإنه لو قابل الشدة بمثلها والعنف بالعنف ربما أدى ذلك إلى فصم العلاقة بينهما، وتشتيت شمل الأسرة، وقد نبَّه الرسول إلى ذلك، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن المرأة خُلقت من ضِلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعتَ بها استمتعتَ بها وبها عِوجٌ، وإن ذهبتَ تقيمها كسرتَها، وكسرُها طلاقُها)) رواه مسلم، وقال : ((لا يَفْرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم.
ثانيًا: أن ينفق عليها ويكسوها على قدر حاله من غنى وفقر وما بينهما، ولا يتكلَّف ما لا يطيق، قال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، وقال تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى [الطلاق:6].
ونفقة الزوجة مقدمة على نفقة غيرها، وهي حق ثابت لها بمقتضى عقد النكاح، سواء كانت الزوجة غنية أم فقيرة، موظفة أم ربة بيت أم طالبة؛ لأن سبب وجوبِ النفقة هو الزواج الصحيح، وذلك أمر متحقق في سائر الزوجات، وقد قال : ((ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) رواه مسلم.
ومع أن النفقة حق للزوجة فإن الزوج يؤجر عليها، وينال الثواب من الله تعالى بإنفاقه على زوجته، فقد قال : ((دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينارٌ أنفقتَه في رقبة، ودينار تصدقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك)) رواه مسلم.
فإن كان الزوج شحيحًا ولا يعطيها ما يكفيها وأولادها من النفقة والكسوة واستطاعت أخذ شيء من ماله دون علمه فلها ذلك، بشرط أن يكون ما تأخذه على قدر حاجتها دون إسراف ولا تبذير، قال لهند امرأة أبي سفيان: ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) متفق عليه.
ثالثًا: أن يعلمها أمور دينها التي لا غنى لها عنها، كالطهارة بأنواعها وأركان الإسلام الخمسة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]، ووقاية الأهل من النار تحصل بتعليمهم ما يجب عليهم وما يحرم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، كما يجب أن يبصِّرَها بحقوقه عليها حتى تقوم بأدائها، فلا يحصل بينهما نزاع بجهلها تلك الحقوق.
رابعًا: السماح لها بالخروج إذا احتاجت إليه كزيارة والديها وأقربائها وجيرانها، ويسمح لها بالصلاة في المسجد، إن لم يكن ثمة ضررٌ يترتب على خروجها، وكان خروجها إليه خروجًا شرعيًا بحيث لا تمس طيبًا، ولا تظهر زينة تفتن بها الرجال، فمن السنة أن يأذن لها، قال : ((لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن)) رواه أحمد وأبو داود.
خامسًا: أن يحفظ زوجته ويحرص على عفتها وكرامتها واحتشامها بالبقاء في بيتها وعدم الخروج منه لغير حاجة، وإذا خرجت يجب أن تكون محتجبةً غير سافرة؛ لئلا يطمع بها الآخرون، والرجل الذي يسمح لزوجته أن تخرج بين الرجال الأجانب مظهرة لزينتها ويتركها تختلط بِهم رجل ديوث، قد فقد شعور الإنسانِ النزيه، مخالف للدين الذي أمرها بالتستر والاحتشام، وقد أصبح بعض الرجال لا يبالي من أن يكون كذلك، فيترك لامرأته الحرية التامة في أن تلتقي بالرجال الأجانب وتصافحهم وتتحدث معهم وهي سافرة مبدية لزينتها، وقد قيل:
إنَّ الرِجالَ الناظرين إلى النِّسا مثلُ الكلابِ تطوف باللّحمان
إن لم تَصُنْ تلكَ اللحومَ أسودُها أُكِلَتْ بلا عوضٍ ولا أثمانِ
سادسًا: أن يعدل بينها وبين ضرائرها، فإن الله تعالى حين أباح للرجل التعدد قيد ذلك بالعدل بينهن: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء:3].
وقد حذر من ترك العدل وتفضيل إحدى الزوجات، فقال : ((من كانت عنده امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه مائل)) رواه الترمذي، وكان يقسم فيعدل ويقول: ((اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك)) رواه أبو داود. يعني: ميل القلب ومحبته للزوجة الأخرى.
والعدل بين الزوجات يكون في أمور كثيرة منها المبيت، فيجب عليه أن يساوي بين الزوجات في مبيته، فإذا بات عند هذه ليلة بات عند الأخرى مثلها، وقد كان يقسم بين زوجاته. وكذلك إذا أراد أن يسافر وبصحبته إحداهن، فإن رضين بسفر من يريد منهن وإلا أقرع بينهن، كما كان يفعل النبيّ. ويجب عليه أن يساوي بين زوجاته في النفقة والكسوة والعطية، ولا يفضل إحداهن على الأخرى.
إن احترام كل من الزوجين لصاحبه وتقديره له والبشاشة في وجهه مما يقوي العلاقة بينهما، ويغرس روح المودة والأنس في نفسيهما، وإن حسن المعاشرة بين الزوجين تتمثل في مراعاة كل واحد منهما حق صاحبه.
فليحافظ كل منهما على الأدب في مخاطبة الآخر، وليستجلب مودته ومحبته، وليتنازل عما يراه من الآخر من زلة في القول أو خطأ في المعاملة، وليقابل ذلك بالصبر والكلمات الرقيقة والعبارات اللطيفة، ويحفظ حق صاحبه، فالمرأة العاقلة هي التي تكسب ود زوجها، وتصون عرضها، ولا تثقل كاهل الزوج بكثرة الطلبات وزيادة التنقلات، وتبعثر أمواله بشراء الكماليات، بل تعمل جاهدة على حفظ ماله، فلا تصرفه إلا فيما يعود بالنفع عليها وعلى أولادها.
والزوج العاقل الوفي هو الذي يلتزم بحقوق زوجته عليه، فيوفر لها ما تحتاجه، ويهتم بأولاده، فيجلس معهم، ويرعى شؤونهم وحاجاتهم، فلا يكثر السهر خارج المنزل إلى ساعة متأخرة من الليل، فإن ذلك يقلق الزوجة، ويكدر صفو الحياة العائلية، وربما أدى استمراره إلى انفصال الزوجين وانفصام العلاقة بينهما وهدم كيان الأسرة وشتات الأولاد.
إن حسن العشرة بين الأزواج يجلب الخير والسعادة ويبعد الشرَّ والشقاوة، ففي حسن المعاشرة الرحمة والسرور، فهي تجلب الصحة في الأجسام والراحة في العقول والأبدان والاقتصاد في الأموال، وتُنْبِتُ في الأسرة المتفاهمة الذريةَ الصالحة التي يسعى الجميع إلى مصاهرتها والاقتراب منها، قال : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم)) رواه الترمذي وابن حبان.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3898)
النفقة على الزوجة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, النكاح, قضايا الأسرة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النفقة من حقوق الزوجة على زوجها. 2- وجوب توفير النفقة والكسوة للزوجة بحسب الطاقة. 3- فضيلة النفقة على الزوجة والأبناء. 4- للزوجة الأخذ من مال زوجها بالمعروف إذا كان مقصرًا في النفقة عليها. 5- لا نفقة للزوجة الناشز. 6- على الزوجة الحذر من تبديد أموال زوجها.
_________
الخطبة الأولى
_________
من الواجبات اللازمة للزوجة على زوجها والحقوق التي ألزم بها النفقة عليها مقابل ما تقوم به من الطاعة والولاء له. والنفقة من أسباب القوامة التي جعلها الله تعالى في يد الزوج في قوله جل شأنه: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34] أي: أن الزوج متى عجز عن النفقة عليها لم يكن قوَّامًا عليها.
ويجب على الزوج أن يوفر لزوجته ما تحتاجه من النفقة والسكنى والمأكل والملبس والمشرب، ولا يتأخر في شيء من ذلك، بل يؤديه إليها كاملاً، دون مِنَّة أو أذى، أو يظهر لها أن كل ما يوفره لها مما تحتاجه تفضُّل منه وإحسان وبر ومعروف وإكرام، وهذا خلاف ما أوجبه الله تعالى عليه، حيث قال جل شأنه: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:233]. فالنفقة واجبة عليه، وملزم بها في حدود إمكاناته المادية وقدرته المالية، وهو حين يسعى ويعمل ويكد ويتعب ليوفر لزوجته وأولاده ما يحتاجونه من متطلبات هذه الحياة فإنه يؤجر على أعماله هذه، وتكون قربة له عند الله يثيبه عليها، وينال أجره حسنات تُدخر له.
فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((دينار أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقتَه في رقبة، ودينار تصدَّقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك)) رواه مسلم، بل إن الزوج يحصل له الثواب حين يُطعم زوجته، فقد قال : ((وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فيّ امرأتك)) متفق عليه.
فالزوج حين يقدم النية الحسنة بتوفيره النفقة لأهله حتى يعفهم ويسترهم يكتب له ثواب ذلك وأجره على حسن قصده، قال : ((إذا أنفق الرجل على أهله نفقة وهو يحتسبها كانت له صدقة)) متفق عليه، وقال : ((ما أطعمتَ نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمتَ ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمتَ زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمتَ خادمك فهو لك صدقة)) رواه أحمد.
إن الزوج حين يقصر في نفقة زوجته وأولاده فإن للزوجة الحقَّ في الأخذ من ماله دون علمه، لكن في حدود الوسط دون إسراف ولا تقتير، فقد روت عائشة رضي الله عنها أن هندًا قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال : ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) متفق عليه.
وهذا يدل على جواز أخذها من مال زوجها، لكن بحدود ضيقة، وهي أن تقتصر على ما تمس الحاجة إليه من ضرورات الحياة، لا أن تجعل ذلك عادة مستمرة لها في الأخذ من ماله دون سببٍ ملجئ لها إلى التصرف بحقوقه دون علم منه.
وفي المقابل أيضًا فإن الزوجة حين تقصّر في أداء حقوق الزوج عليها، فلا تلبي رغباته أو تخرج من منزله دون إذنه بلا عذر، فإذا أهملت زوجها ولم تنهض بالواجبات التي ألزمت بها تجاهه فإن من حق الزوج أن يمتنع عن الإنفاق عليها، ويسقط ما لها من حق في ذلك حتى تعود إلى رشدها وتعمل على طاعة زوجها، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "إذا كان الله سبحانه وتعالى قد أذن للزوج في هجرها في المضجع لخوف نشوزها كان مباحًا له ترك الإنفاق عليها". وسئل الإمام الشعبي رحمه الله عن امرأة خرجت من بيتها عاصية لزوجها، ألها نفقة؟ قال: "لا، وإن مكثت عشرين سنة".
فالنفقة إنما تجب للزوجة بتسليمها نفسها لزوجها وتمكينها منه، وتفريغها نفسها لمصالحه، فإنها بامتناعها عن ذلك تكون عاصية، قد فوتت على نفسها ما وجب لها من النفقة، فلم تستحق شيئًا منها.
إن نفقة الزوج على امرأته وأولاده إنما تكون على قدر ما وهبه الله تعالى من المال وما كَتَبَ له من الخير والفضل، فلا يُطَالَبُ بتوفير ما لا يتحمل، ولا يلزم بما لا يطيق، فمن النساء من تحاول إرغام زوجها لتوفير المستحيل في نظره، بحيث تكثر طلباتها اليومية، وتشترط أوصافًا معينة لأشياء تطلب منه إحضارها، وهو عاجز عن ذلك، وإن استجاب لها مرة فقد يعجز مرَّات، وربما اقترض وتَحَمَّلَ الديون حتى يوفر لها ما تطلبه، غير أن المرأة العاقلة هي التي تراعي أحوال زوجها وتقدر ظروفه، فترضى باليسير وتقنع بالقليل.
أما تلك الزوجة التي تصر على إحضار ما يصعب عليه لقِصَرِ نظرها وعدم تقديرها للعواقب فإنها تتعب زوجها، وتكدر عليه صفو عيشه، فهي ترمي ببصرها إلى النظر في أحوال الأثرياء وما يوفرونه لزوجاتهم، مما هو مناسب لأحوالهم؛ إذ من أسهل الأمور عليهم تأمين متطلبات المنزل من ضرورات وكماليات، لما يتمتعون به من الغنى والسعة، وهذه التي تدعو زوجها غير القادر إلى أن يأتي بمثل ما يأتي به أولئك تجلب الهمَّ والنكَدَ لزوجها بتطلعها إلى من هم أعلى من مستواها، وقد جاء عنه أنه قال: ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم)) رواه مسلم، وقال : ((إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّلَ عليه في المال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم)) متفق عليه.
كما أن من نُبل الزوجة وحسن نظرها محافظتها على مال زوجها وعدم المسارعة إلى تبديده هنا وهناك في أشياء لا تجد لها في نهاية المطاف فائدة ولا نفعًا، فتسعى وراء المناظر الزائفة والمظاهر البراقة الكاذبة، مفاخرة لزميلاتها، ومباهاة أمام صديقاتها، فليس ذلك من حسن التدبير، ولا من شكر الجميل.
كما أن الزوج الذي يبادر إلى وضع أمواله وصرفها فيما لا تمس الحاجة إليه وما لا منفعة فيه لم يدرك حقيقة هذا المال، وأنه وسيلة للعيش، يوفّر به قوت يومه وليلته، دون أن يكون مسرفًا أو مبذرًا، فقد يحتاج في يوم من الأيام، فيجد أن أمواله قد نَفَدَت لسوء تصرفه وعدم إدراكه لعواقب الأمور.
فالمسلم معتدل في مصروفاته، وسط في توفير متطلبات حياته، مبتعدٌ عن التضييق على أسرته والتقتير عليها، كما أنه في الوقت نفسه لا يقع فيما نهاه الله تعالى عنه من الإسراف، وقد بين جَلَّ وعز أن من صفات عباد الرحمن التوسط في الإنفاق في قوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3899)
نفقة الزوجة الناشز
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
النكاح, قضايا الأسرة, مساوئ الأخلاق
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معاني النشوز في القرآن الكريم. 2- تعريف النشوز في اصطلاح الفقهاء. 3- من صور نشوز الزوجة. 4- سقوط النفقة عن الزوجة الناشز.
_________
الخطبة الأولى
_________
ذكر المفسرون أن كلمة (النشوز) في القرآن على أربعة أوجه:
الأول: عصيان المرأة زوجها، ومنه قوله تعالى: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34].
الثاني: ميل الرجل عن امرأته إلى غيرها، ومنه قوله تعالى: وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا [النساء:128].
الثالث: الارتفاع، ومنه قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا [المجادلة:11].
الرابع: الحياة، ومنه قوله تعالى: وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا [البقرة:259].
وفي اصطلاح الفقهاء: معصية المرأة لزوجها فيما له عليها مما أوجبه له النكاح.
وللنشوز صور عديدة عند الفقهاء، فمنها:
1- إذا منعت زوجها من الاستمتاع بها بالوطء أو مقدماته، أو لم تبت معه في فراشه إذا لم يكن ثمة عذر شرعي يبيح لها الامتناع.
2- إذا خرجت من منزله بلا عذر.
3- إذا سافرت الزوجة بدون إذنه حتى لو كان سفرها للحج تطوعًا، أو امتنعت من السفر معه وكان الطريق مأمونًا.
4- أن تتطوع بصوم نفل دون إذن زوجها، فتمنع نفسها منه.
5- إذا لزمتها عِدَّة من غيره بأن وُطئت بشبهة مطاوعة.
6- إذا امتنعت عن الانتقال معه إلى منزله بغير حق شرعي، وقد دعاها إلى الانتقال وأعَدَّ المسكن إعدادًا لائقًا.
7- إذا كان الزوج يقيم مع زوجته في بيتها بإذنها، ثم منعته من الدخول، ولم تطلب منه الانتقال إلى مسكن آخر، ولم تترك له فرصة البحث.
8- إذا أسلم الزوج وتخلفت المرأة فلا نفقة لها؛ لأنها بامتناعها عن الإسلام تكون ناشزة.
8- إذا كانت المرأة صاحبة حرفة كالتدريس أو التمريض أو غيرهما من المهن، وكانت تشتغل بحرفتها خارج البيت كل النهار أو بعضه ثم تعود إلى البيت ليلاً، أو كانت تشغلها الليل أو بعضه، فلا نفقة لها إذا لم يرض الزوج باحترافها وطلب منها عدم الخروج وعدم الاشتغال بمهنتها ولم تمتثل، أو رضي أول الأمر ثم امتنع.
والزوجة الناشز تسقط نفقتها ولا شيء لها، وهو قول جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ومنهم الأئمة الأربعة؛ لقوله تعالى: وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً [النساء:34]. قال الإمام الشافعي رحمه الله : "إذا كان الله سبحانه وتعالى قد أذن للزوج في هجرها في المضجع لخوف نشوزها كان مباحًا له ترك الإنفاق عليها".
فالله تعالى أمر الأزواج أن يمنعوا زوجاتهم النواشز القسمة لهن بقوله: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ، ومعروف أن الحظ في الصحبة قاسم مشترك بين الزوجين وأمر متبادل بينهما، وأما النفقة فهي من حقوق الزوجة الخالصة لها، فإذا كان النشوز يسقط الحق المشترك بينهما فإن إسقاطه للحق الخالص للزوجة أولى.
وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف)) رواه مسلم. فالنبي أوجب على الأزواج نفقة زوجاتهم وكسوتهن مقابل طاعتهن لأزواجهن وعدم الإتيان بالفاحشة أو ما يكرهونه، فدل على أن معصية المرأة لزوجها وعدم طاعتها له يسقط عنها النفقة والكسوة.
وعن عامر الشعبي أنه سئل عن امرأة خرجت من بيتها عاصية لزوجها: ألها نفقة؟ قال: "لا، وإن مكثت عشرين سنة". وعن شعبة قال: سألت حماد بن أبي سليمان عن امرأة خرجت من بيت زوجها عاصية: هل لها نفقة؟ فقال: "ليس لها نفقة"، وعن هارون قال: سألت الحسن عن امرأة خرجت مراغمة لزوجها: ألها نفقة؟ قال: "لها جوالق من تراب"، وقيل لشريح: هل للناشز نفقة؟ فقال: "نعم"، فقيل: كم؟ قال: "جراب من تراب"، معناه: لا نفقة لها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3900)
الجمال والزينة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
اللباس والزينة, المرأة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث الشرع الحنيف على الزينة. 2- تأكد استحباب التزين في المناسبات. 3- هدي النبي في التزين. 4- تزين الزوجين لبعضهما من حسن العشرة. 5- من المخالفات التي تقع فيها النساء في هذا الباب: إهمال التزين للزوج والحرص عليه خارج المنزل، كثرة خروج المرأة من بيتها لغير حاجة، التطيب وعدم الالتزام بالحجاب الشرعي حال الخروج، إهدار المرأة للأوقات الكثيرة في سبيل التزين للمناسبات، وقوع كثير من النساء في النمص ووصل الشعر.
_________
الخطبة الأولى
_________
الزينة صفة محمودة، يميل إليها كل إنسان بطبيعته، ويحرص الرجلُ والمرأة على التجمل والتزين، كيف وقد أمرنا ديننا الحنيف بها، وحثنا عليها بندائه لجميع فئات المجتمع الإسلامي وأفراده بالتحلي بِها، يقول الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، ويقول جل شأنه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32].
وإذا كان الكل يحرص على المظهر الجميل والملبس الأنيق حين يقابل الآخرين وأن يبدو أمامهم بأطيب منظر وأحسن ملبس وأبْهى حُلَّة، فإن ذلك يتأكد في المناسبات، عندما يلتقي المرء بإخوانه وأصدقائه، ويتأكد أكثر في اللقاءات الدينية: في صلوات الجماعة والجمع والأعياد.
وذلك كله يأتي به المسلمُ وَفقَ الإرشادات الدينية التي تحضه على ذلك وتوُجِّهُه إليه، قالت عائشة رضي الله عنها: كان نفر من أصحاب رسول الله ينتظرونه على الباب فخرج يريدهم، وفي الدار رَكْوةٌ فيها ماء، فجعل ينظر في الماء، ويسوي لحيته وشعره، فقلت: يا رسول الله، وأنت تفعل هذا؟! قال: ((نعم، إذا خرج الرجل إلى إخوانه فليهيئ من نفسه، فإن الله جميل يحب الجمال)) أورده القرطبي في التفسير.
وكان لا يفتأ يوجه أصحابه إلى حُسْن المظهر وجمالِ الهيئة، فكان جالسًا في المسجد، فدخل رجلٌ ثائر الرأس واللحية، فأشار إليه أن اخرج، وكأنه يعني إصلاح شعر رأسه ولحيته، ففعل الرجل ثم رجع، فقال : ((أليس هذا خيرًا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان؟!)) رواه ابن حبان.
كما كان يحرص على الطيب والرائحة الحسنة، وكان يقول : ((حُبّب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)) رواه أحمد، وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله : ((من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه طيب الريح خفيف المحمل)) رواه مسلم.
ويستحب لكل من الزوجين أن يتزين للآخر، فإن ذلك من حسن العشرة، قال الله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]، وقد نُقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إني لأحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي)، وكان محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة رحمهما الله يلبس أجمل الثياب وأحسنها وأغلاها، ويقول: "إن لي نساءً وجواريَ، فأزين نفسي كي لا ينظرن إلى غيري".
لكن زينة المرأة وتجمُّلها قد نظَّمها الدين الحنيف، ووضع لها ضوابطَ، وألزمَها أن لا تتجاوزها، وأن تأخذ بها، ولنقف عندها الوقفات الآتية:
أولاً: كل امرأة تحب الجمال وترغب في التزين، وتميل بفطرتها إلى أن تكون حسنة الهيئة أنيقة الشكل، وقد أباح الشرع ذلك لها حتى تحظى بإعجاب زوجها، وتشتد رغبته فيها، ويأنس بها، فعن أبي هريرة أن النبيّ قال: ((خير النساء التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسه وماله)) رواه أحمد.
وقد فرَّط بعض النساء في هذا الجانب؛ إذ إن اعتناءها بمظهرها وتجملها يكون حال خروجها من بيتها لحضور المناسبات، أو حين تستقبل صديقاتها في منزلها، حيث تعتني بنظافة نفسها ولبس أجمل ثيابها، أما أمام زوجها فينعكس ذلك كله، فلا اهتمام عندها بالمظهر ولا الملبس ولا الهيئة، وهذا خطأ واضح، فإن الزوج أحقُ من تتجمل له، والزوجة التي تداوم على ذلك قد تفقد زوجها لسوء عشرتها معه، وفي الغالب أنه لا يصبر على سوء تصرفها هذا إلا إذا كان مُلجأً إلى بقائها معه.
ثانيًا: كثير من النساء يخرجن من بيوتهن لغير حاجةٍ أو ضرورةٍ تدعو لذلك، ويصحب خروجهن مبالغة في التجمل وإفراط في الزينة وارتداء للملابس الضيقة اللافتة وتعطر بالطيب الذي منعت منه خارج بيتها، قال : ((أيما امرأة استعطرت فمرت على قوم ليجدوا من ريحها فهي زانية)) رواه النسائي.
وهي حين تخرج على تلك الصفة من الزينة المفرطة توقع نفسها وغيرها في الإثم؛ إذ يُخيل إليها أنها أجمل مخلوق، وأنها محل نظر وإعجاب الرجال بها، فتقتنصها السهام الشيطانية، وجاء في الحديث عنه أنه قال: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)) رواه الترمذي، أي: جمّلها وزيَّنها في نظر الرجال لتحصل الغواية لها وبها، فهي على وشك الوقوع في المحظور إن لم تتدارك نفسها، وتبتعد عن هذا المسلك الخطير.
ثالثًا: الوقت مع نفاسته لا قيمة له في قاموس كثير من النساء اليوم، فكم من ساعات تهدرها المرأة حين تجلس ساعات تنتظر في محلات التجميل، ومثلها أمام المرآة والتهيؤُ للخروج لحضور مناسبات الأفراح وغيرها، ثم كم من الوقت تمضيه حين تقضي ساعات الليل في قاعات الاحتفال والسهر مع بنات جنسِها في قصور الأفراح.
وتَصَوَّر كم مجموع تلك الساعات حينما يتكرر ذلك بخروجها لحضور مناسبات الزواج المتعددة في معظم أيام الأسبوع، خلال الإجازة الصيفية خاصة، وكم يصحب ذلك من مخالفات شرعية، ووقوع فيما لا يعودُ عليها إلا بالإثم والضرر، وكم من الأموال تصرفها في مرات ذهابها، فتثقل كاهل زوجها، أو تبذِّر تلك الأموال التي جمعتها من كسبها ووظيفتها، ولو أنفقتها في مساعدة المحتاجين وإعانة الضعفاء والمساكين لكان ذلك خيرًا لها وأعظم أجرًا.
وكم من الأحاديث الواردة في تحذير المرأة من الوقوع في مخالفات شرعية هي ترتكبها مع علمها بذلك، منها قوله : ((أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيت زوجها فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل)) رواه أحمد، وهذا كنايةٌ عن إبداء زينتها وتكشفها وعدم احتشامها في لباسها من الرجال الأجانب.
ومن ذلك تعرضها لِلَّعْنَةِ بنتف شعر حاجبيها أو قصِّه أو نحو ذلك، قال ابن مسعود : لعن رسول الله الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة. متفق عليه. وكثير من النساء أصبح النمصُ والوصل عندهن من الضرورات، فتساهلن في الوقوع في هذه الكبيرة والآفة الخطيرة التي تستحق اللعن والطرد والإبعاد من رحمة الله تعالى، وكل ذلك انسياق منهن وراء الموضات الوافدة والإغراءات الخادعة والمظاهر الزائفة، فالله المستعان.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3901)
(1/3902)
العشرة الطيبة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, النكاح, قضايا الأسرة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام البالغة بالعلاقة الزوجية. 2- تأكيد الشريعة على حسن العشرة بين الزوجين. 3- ضرورة استخدام الحكمة والرفق في الخلافات الزوجية. 4- الخطوات الشرعية لحل النزاعات الأسرية: الوعظ والتذكير، ثم الهجر في المضجع، ثم الضرب غير المبرح، ثم تدخل المصلحين بينهما.
_________
الخطبة الأولى
_________
العلاقة بين الزوجين علاقة في غاية الأهمية، عُني الإسلام بتوثيقها، وعمل على بقائها واستمرارها، وأكد على ضرورة المحافظةِ على هذه الرابطة، وحضَّ الزوجين على الحرص على إنمائها وديمومتها.
ولذلك نجد أن حسن العشرة بين الزوجين من أهم الركائز التي يؤكد عليها الدين الحنيف، وينتج عنها عيش الأسرة في ود وسلام وصفاء ووئام، قال تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19]، وقال جل شأنه: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]، وفي الحديث عنه أنه قال: ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) رواه الترمذي، وقال : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله)) رواه الترمذي.
فالدعوة إلى التآلف بين الزوجين وتقوية الروابط بينهما من أهم ما أكدت عليه الشريعة الإسلامية، ضمانًا لصيانة الأسرة من التفكك والانشقاق والتمزق والافتراق.
وحين يدب الخلاف بين عمودي الأسرة نتيجة سوء العشرة بينهما فإن الرياح العاتية والعواصف المدمرة تنذر بهدم ذلك الكيان القائم وتشتيته في كل اتجاه، وعند حدوث أي خلاف بين الزوجين فإنه ينبغي التغلب عليه داخل كيان الأسرة بالتفاهم والتراضي والعمل على القضاء عليه واستئصالِ جذوره، دون سريانه إلى أطرافٍ أخرى أجنبية عن الأسرة.
ولا ينبغي للزوج أن يتسرع، أو يعجز عن مقاومةِ الخلاف من أول وهلة، بل عليه أن يصبر، فإن استعجاله في حسم الخلاف قد يندم عليه ندمًا يصحبه طيلة حياته، وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
وإذا كان بعض النساء تميل بطبعها إلى محبة افتعال مشكلةٍ أو تلمس أدنى خطأ من الزوج فإن عليه أن يكون أعقل وأثبت وأحلم في موقفه منها، فلعل فيها من الصفات الأخرى والمحاسن والمحامد ما يُغطّي زلاتِها ويمحو أخطاءها، وقد قال : ((لا يفرك ـ أي: لا يبغض ـ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها آخر)) رواه مسلم.
إلا أن بعض النساء تنظر إلى صفح الزوج عنها وتسامحه عن هفواتها وعفوه عن زلاتها بأنه ضعف في جانبه، وخَوَرٌ في موقفه، واهتزازٌ لشخصيته، فيزيد استعلاؤها، وتتمادى في عنادها، وكلما اقترب من رأب الصدع والتئام الشمل ابتعدت عنه وترفعت عن التفاهم معه.
وهنا يضع الإسلام خطوات متوالية وإجراءات متتابعة لحل النزاع وإعادة الأُنس والصفاء الذي كانت تعيش في ظلاله الوارفة وسمائه الصافية، قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا [النساء:34].
فيبدأ الزوج بوعظ شريكة حياته وملاطفتها بالكلام بأسلوب رقيق وألفاظ حسنة مهذبة، تؤثر في نفسها، وتقرب عاطفتها، ويعيدها بذاكرتها إلى أيام حياتهما الزوجية الأولى، وما كان بعدها من المشاعر والأحاسيس الرقيقة الفياضة التي جمعت بينهما في محبة ووئام ومودةٍ والتئام، والمرأةُ العاقلة هي التي تؤثر فيها تلك الكلمات الصادقة من الزوج، فتعود إلى رشدها وتلبي رغبته.
فإن لم تعبأ بذلك انتقل إلى هجرها في فراشها، وذلك بأن يدير ظهره إليها، ويبدي لها امتعاضه منها، فلا يكلمها ولا يلتفت إليها، وليس المراد من هجرها نومه في غرفة مستقلةٍ عنها، فإن ذلك ربما أدى إلى زيادة تأزم العلاقة بينهما واتساع الفجوة في حياتهما.
فإذا لم تستجب الزوجة لهذا التأديب المعنوي انتقل الزوج إلى الخطوة الثالثة وهي قوله تعالى: وَاضْرِبُوهُنَّ ، فإن الضرب هو الذي يصلحها له، ويحملها على توفيةِ حقوقه وقيامها بها.
لكن لا يتبادر إلى الذِّهن الضربُ الشديد القاسي الذي من شأنه التأثير في جسدها، أو إلحاق عاهةٍ أو أذى بها، أو إهانتها والانتقام منها، أو قهرها وإذلالها، بل المراد الضرب التأديبي غير المبرح، أي: الذي لا يؤدي إلى شيء مما ذُكر، بل يضربها ضربًا خفيفًا، وقد نبه إلى ذلك رسول الله بقوله في خطبة عرفات: ((فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح)) متفق عليه.
وقد بين أن البعد عن العنف وترك القسوة في التعامل مع الزوجة دليل على حسن العشرة، وذلك مما يجب على الزوج تجاهها، فقد سأل أحد الصحابة رضي الله عنهم رسول الله عن حق المرأة على الزوج، فقال : ((يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت)) رواه أبو داود.
فهذا يدل على أن الضرب المراد في الآية هو ما قُصد منه تنبيه المرأة إلى أنها قد حادت عن الطريق الأمثل في تعاملها مع زوجها، وأن عليها أن تعود إلى رشدها وتؤوب إلى صوابها. وقد سئُل ابن عباس رضي الله عنهما عن صفة الضرب الوارد في الآية فقال: بالسواك ونحوه. فُعرف أن المقصود من ذلك تهذيب المرأةِ وتقويم اعوجاجها وإصلاحها، دون أن يؤدي الضرب إلى إيذائها أو إهانتها أو إلحاق الضرر بها، فإن جاوز ذلك فهو متعدٍ قد جنى عليها وخالف المراد من ذلك.
هذه الخطوات الثلاث: وعظ الزوجة، ثم هجرها، ثم ضربها ضربًا خفيفًا، إن لم تُجْدِ ولم يكن لها نتيجة إيجابية في إعادة صفو العلاقة الزوجية إلى ما كان عليه، وازداد الخلاف والتباين بين الرجل والمرأة، وظهرت في الأفق بوادر وعلامات التباعد، فإن على المصلحين المسارعة إلى لمِّ الشمل، واختيار اثنين من أهل الرأي وأصحاب الخبرة والمشورة، يعملان على التقريب بين الزوجين، قال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [النساء:35].
فينظر الحكمان الثقتان في الأصلح للزوجين من دوام العلاقة الزوجية بينهما واستمرارها أو التفريق بينهما، من خلال دراستهما لأحوال الزوجين ومعرفة أسباب الخلاف بينهما وما كَدَّرَ صفو حياتهما حتى الوصول إلى هذه الحال، ومحاولة التقريب بينهما، واستفراغ وسعهما في إزالة كافة العوائق والعقبات التي تقف في طريق حياتهما الزوجية، وسيهديهما الله تعالى إلى السبيل الأمثل إذا قصدا الجمع والتقريب بين الزوجين، قال جل في علاه: إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:35].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3903)
(1/3904)
أسباب الخلافات الزوجية
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة الإسلام إلى حسن التعامل بين الزوجين. 2- أسباب الخلافات الزوجية: سوء اختيار شريك الحياة، تقصير كل منهما في حق الآخر، تعالي الزوجة على زوجها، تزين المرأة لغير زوجها، إفشاء الأسرار الزوجية، استخدام الألفاظ النابية.
_________
الخطبة الأولى
_________
يدعو الدين الإسلامي إلى حسن المعاملة بين الزوجين وطيب العشرة ولين الكلام ولطف القول، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21]. وحذر من كل ما ينغّص الحياة الزوجية ويؤدي إلى تعكير صفو العلاقة الأسرية، أو يرمي بها في أحضان الفرقة والانقسام والتباعد والشتات.
والمتأمّل لنصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة يجد فيها دعوة الزوجين إلى الألفة والتحلي بالشفقة، والبعد عن كافة الأسباب التي قد تعصف بحياتهما الزوجية، وتُلقي بمركبها في خضم الأمواج الهادرة والرياح العاتية التي ربما دمرت ذلك البناء الذي أسساه والعُش الذي بنياه والكيان الذي تعاهداه بالرعاية والصون سنوات طويلة.
وكثيرة هي الأسباب التي قد تعصف بالأسرة وتفرّق شملها، وتُذهِب ودّها ووئامها، وتمحو تآلفها وانسجامها، سواء كان ذلك بتقصير من أحدِ الزوجين في حقوق الآخر أو منهما جميعًا، ومن تلك الأسباب:
أولاً: سوء الاختيار من أول تأسيس الأسرة، فالشاب أو الفتاة والرجل أو المرأة ينبغي أن يعملا جاهدين على اختيار ذي الدّين والخلق، ومن عُرف بطيبِ العشرة وحسن المعاملة والصلاح والاستقامة، فإنّ الدين مطلب أساسيّ في الزوج والزوجة، كما قال : ((إذا أتاكم من ترضَون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)) رواه الترمذي.
وأكّد على ذلك، وأمر بالبَحث والتنقيب والسؤال والتحري عن هذه الصفة العظيمة صفة الدين فقال: ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) متفق عليه.
ذلك أن عمودَي الأسرة ـ وهما الزوجان ـ حين يتّصفان بالدين والصلاح والبر والتقوى يبنيان أسرة مستقيمةً بإذن الله تعالى، تقيم حدود الله، وتنفذ تعاليم الإسلام العظيمة، بعيدًا عن الانحراف والسلوك الأهوج والتصرف الأعوج، فإذا فُقدت هذه الصفة الأساسية والخصلة الذهبية كان أمر استمرارِها ودوامها متعذّرًا، إذ تتسرّب إليها المخالفات، وتضعف عن إقامة الشعائر والواجبات، فتبقى في مهبّ الريح، وتكون عرضةً للزوال عند أوّل هزّةٍ تعتريها، ومن كان بالله أعرَفَ، كان منه أخوف.
ثانيًا: تقصير كلّ منهما في حقّ الآخر، فكما أنّ لهما حقوقًا، فإنّ عليهما واجباتٍ يلزم أداؤها والعناية بها، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البقرة:228]. وعلى كل منهما مراعاة الآخر وحفظه في كل حال والعفو عن زلاته والصفح عن هفواته وتلبية حاجاته ورغباته، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
ثالثًا: تطاول الزوجة عليه والتمرد على أوامره وعدم انصياعها لأقواله، وتلك معاملة سيئة قد تصدر من بعض الزوجات اللائي لا يُقدرن الحقوق الزوجية، ولا الواجبات الدينية التي تُحتّم عليها طاعة زوجها وتلبية أوامره، وقد قال : ((لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد، ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها؛ لِما عظَّم الله عليها من حقّه)) رواه ابن حبان والترمذي.
وبعض الزوجات يفتقِدن الفِطنة وحسنَ التقدير في كيفية التعامل مع الزوج، فحين يدخل المنزل عائدًا من عمله متعبًا مرهقًا يرغب في التماس شيء من الراحة تستقبله الزوجة بكمّ هائل من الطلبات وعبارات مليئة بالتسخط واللّوم وشكاية له بما حدث من تصرف الأولاد وسوء صنيعهم، إلى غير ذلك من الأمور التي تُقلق باله وتكدّرُ أحواله، وكان من الأجدر أن تختار الزوجة وقتًا مناسبًا لعرضها عليه.
رابعًا: ومما يخطئ فيه كثير من الزوجات تعمّدها التزيّن في جسمها ولبس أحسن الملابس والظهور بأجمل مظهر عند خروجها من البيت لحضور مناسبة ما، أو عند استقبالها الزائرات والصديقات في منزلها، بينما تكون على العكس من ذلك إذا كانت في البيت وأمام زوجها، فلا تعتَني بنفسها، ولا يضيرها أن تظهر بمظهر جميلٍ أو عكسه، فربما قابلته بمنظر باهت، بعيدًا عن الجمال والزينة، فمثل هذا التصرف يُنغِّصُ على الزوج حياته، ويُحْدِثُ في نفسه ردّة فعل من شأنِها أن تؤدّي به إلى بغض زوجتِه ونُفرته منها، لا سيما إذا تكرّر ذلك منها وداومت عليه، فإنه أولى بأن تتجمّل وتتزيّن له، وأحوج أن تتنظّف وتتطيّب عند لقائه، والمرأة التي تداوم على مثل ذلك التصرّف غير اللائق تجلب على نفسها التعاسةَ والشقاء؛ لأن صبر الزوج له حدودٌ معينة، وفي الغالب أنه لا يبقيها عنده إلا إذا كان مضطرًا لذلك، فعليها أن تكون فطِنة في تعاملها مع زوجها، أنيقة في منظرها ومظهرها أمامه.
خامسًا: عدم محافظة البعض على أسرار الزوجية، فتلك أمانة عظيمة، يجب على كل واحد منهما أن يدفنها في سرّه، وقد صوّر النبيّ إفشاءَ ذلك بأقبح صورة وأبشع منظر، فقال : ((إنما مثل ذلك مثل شيطان لقي شيطانةً فغشيَها والناس ينظرون)) ، وقال أيضًا: ((إنّ من شرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر أحدهما سر صاحبه)) رواه مسلم.
سادسًا: استخدام الألفاظ النابية والعبارات اللاذعة والكلمات الجارحة في التخاطب بينهما، فيُسْمِعُ كلُّ واحدٍ منهما الآخر ما لا يتحمّله، ويتلفّظ بما لا يطيقه، أو يجرحه في خَلقه وخُلُقه.
والزوج الفطِن والزوجة الذكيّة من يكون لبقًا أمام الآخر، يستخدم الكلمة المناسبة والعبارة اللطيفة واللفظة اللينة في الموقف المناسب، ويستطيع بحكمته وتعقّله أن يحوّل الموقف الكلامي المتأزّم إلى موقف مضادّ، ويحوّله من المشادّة والعنف إلى المفاهمة واللّطف، فيقود السفينةَ التي كادت أن تغرق في هذا البحر المتلاطم الأمواج، ويدفع بها إلى شواطئ الأمان.
وما أجمل البيت الذي ترعاه زوجةٌ ديِّنةٌ مصونة فطِنةٌ لبِقةٌ مأمونة، تنتقي ألفاظها بكلّ عناية، وتختار كلماتها بأحسنِ عبارة، تعطي كلّ موقف ما يناسبه، وكلّ مقام ما يستدعيه، بعيدة عن القيل والقال والثرثرة، نائية عن الغلظة والجفاء والقسوة، تكرَه سلاطة اللسان، وتبغض كثرةَ الكلام، أنيقة في مظهرها، نقيّة في مخبرها، عذبة في منطقها، فتلك التي تملأ المنزلَ فرحةً وسعادة، وتضفي على الأسرة جوًّا من الهناء والمودّة واللطافة، وأمثالها في مجتمعنا كثير، فالحمد لله اللطيف الخبير.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3905)
الخادمات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, النكاح, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اهتمام الإسلام بالعلاقة بين الزوجين وعنايته بها. 2- قيام الزوجة بواجباتها تجاه زوجها مما يسهم في استمرار السعادة بين الزوجين. 3- للزوجة المسلمة أسوة حسنة بالصحابيات رضوان الله عليهن. 4- خدمة الزوجة لزوجها من الحقوق الواجبة عليها. 5- التأكيد على حسن اختيار الخادمة. 6- حقوق الخدم: إحسان المعاملة، العفو عنهم، عدم تكليفهم ما لا يطيقون، توفيتهم أجورهم، العناية بالجانب الديني لديهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
تعتبر العلاقة بين الزوجين النواة الأولى التي تنبثق عنها سائر العلاقات البشرية في المجتمع الإنساني، ولذلك فقد أولى الإسلام هذه العلاقة رعاية خاصة وفريدة، حيث جعل لها أسسًا وضوابط وتنظيمات، تعمل على توفير الراحة والسعادة والحياة الهنيئة بينهما، فعلى كل واحد من الزوجين أن يعمل على توطيد تلك العلاقة والقيام بالحقوق اللازمة عليه تجاه الآخر ومعاملته معاملة حسنة.
وإن مما يضفي على الحياة الزوجية أجواء البهجة والسعادة قيام المرأة بالحقوق التي أمر بها الدين الحنيف، وتهيئة الجو المناسب لزوجها من خلال إعداد نفسها إعدادًا يُدخِلُ على زوجها الراحة والطمأنينة، وأن تصبر على ما قد تعانيه من تعب وما تواجهه من مشقة، وتقدم إليه ما يحتاجه من خدمة، وما يطلبه منها من عناية، وللزوجة المسلمة أسوة حسنة في ابنة رسول الله التي كانت تزاول أعمالها بيدها، حتى أصيبت يدها بجروح وأضرار. وقد كان نساء النبيّ وغيرهن من نساء الصحابة ـ رضي الله عن الجميع ـ يخدمن أزواجهن في بيوتهن.
وجاءت فاطمة رضي الله عنها تشكو إلى النبيّ ما تلقى في يدها من الرَّحى، وتسأله خادمًا، وذكر ذلك أيضًا عليٌ للنبي فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تتلوى بطونهم لا أجد ما أنفق عليهم، ألا أدلكما على خير مما سألتما ـ أي: طلب الخادم ـ ؟! إذا أخذتما مضاجعكما وأويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبرا أربعًا وثلاثين، فهو خير لكما من خادم)) متفق عليه.
فلم يلبِّ النبيّ طلب فاطمة بأن يحضر لها خادمًا، ولم يأمر عليًا بذلك، فدل أن على الزوجة القيام بخدمة زوجها، وأن لا تلزمه أو تكلفه ما لا يطيق في استجلاب خادمة، وتحمله أموالاً طائلة لاستقدامها، وبالتالي تأمينه مرتباتها ونفقاتها، إلا إذا كانت المرأة في حالة لا تسمح لها بخدمة الزوج وأولاده، كأن تكون مريضة لا يمكنها أن تقوم بالأعمال المنزلية، ولا تستطيع تهيئة كل ما يحتاجه الزوج، أو كانت معلمة أو موظفة تغيب عن بيت الزوجية بعض الوقت. وليكن إحضار الخادمة للمنزل مقرونًا بالحاجة الماسة إلى وجودها، للمساعدة في النهوض ببعض الأمور التي تحتاجها الأسرة.
وعلى الزوج أو رب الأسرة أن يحسن اختيار الخدم، بحيث يكون الدين هو أول أسس الاختيار، فيشترط أن تكون الخادمة مسلمة مخلصة، تخاف الله تعالى وتراقبه، فلا ينبغي لهم أن يستقدموا خادمة لا تدين بدينهم؛ لأن وجودها بين المسلمين وفي داخل المنزل خطرٌ على أهل البيت وخاصة الصغار منهم، إذ قد يؤدي ذلك إلى إفسادِ عقائدهم وأخلاقهم، ويترتب على اختلاطها بهم كثير من الأضرار والمساوئ.
كذلك ينبغي أن تكون الأمانة من أهم الصفات؛ لأن الخادمة تطلع على أشياء داخل البيت لا يراها غيرها، فإذا فُقدت منها هذه الخصلة أذاعت الأسرار، وأشاعت الأخبار، وكشفت ما تعرف بداخله للآخرين، كما أن المهارة والخبرة في أعمال المنزل من ألزم الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الخادمة.
ولا يجوز لأهل البيت أن يعاملوا الخدم معاملة سيئة، فإن الإسلام قد وضع لهؤلاء حقوقًا يجب على المخدومين أن يقوموا بها تجاه الخدم، وأن يوفوا بها دون مماطلة أو نقص، فيخاطب الخادم بأسلوب سهل وكلام لين، دون جفاء أو غلظة في القول، فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه، والتواضع مع الخادم يؤنسه، ويشعره بالطمأنينة وعدم الحرج من العسر والفقر والحاجة، والتكبر عليه يوحشه، ويشعر بسببه أنه محتقر لا قيمة له، فيضطرب ويعيش كئيبًا حزينًا، وقد يؤثر ذلك على عمله وإنتاجه وجودة خدمته وإتقانه.
وينبغي العفو والسماح عنه إذا أساء أو أخطأ، فإن النقص والخطأ من طبيعة الإنسان، ولا يكاد يسلم من ذلك أحد، روي عنه أنه قال: ((إن أحسنوا فاقبلوا، وإن أساؤوا فاعفوا)) رواه البزار.
ولا يُكلَّف من العمل فوق طاقته، بل تخصص له ساعات للراحة، فإن استدعت الحاجة تكليفهم بعمل إضافي فينبغي معاونتهم، قال : ((ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)) متفق عليه.
وينبغي الإحسان إليهم بالطعام واللباس، وأن يُمكَّنوا من الأكل مما يأكل منه أصحاب المنزل، فإنه ليس من المروءة أن يأكل أهل البيت أجود الطعام وأحسنه ويأكل الخدم أقل منه، قال : ((من كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس)) متفق عليه.
ومن الأمور المهمة التي ينبغي التنبيه عليها توفية الخدم أجورهم ومرتباتهم، فيجب أن يعطى استحقاقه أولاً بأول، دون مماطلة أو نقص، متى طلب ذلك، فإنه قد تغرَّب عن أهله وولده وبلده من أجل أن يكسب شيئًا يعينه على شؤون حياته، فيحرم استحلال كدّه وتعبه وكدحه دون مقابل، وقد قال : ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقُه)) رواه ابن ماجه، وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) رواه البخاري. فليحذر المسلم من أن يكون اللهُ تعالى خصمَه في الموقف العظيم.
ومن أهم الأمور التي ينبغي للمسلم الالتزام بها تجاه الخدم الاعتناء بالجانب الديني، بأن يعلمهم أمور دينهم وما يحل وما يحرم، ويحثهم على التحلي بالأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة، ويحذرهم من مساوئ الأخلاق وسفاسف الأمور، والبعد عن اقتراف الأشياء المحرمة، وأن يمكنهم من أداء الشعائر الإسلامية؛ لأنه أصبح مسؤولاً عنهم كمسؤوليته عن سائر أفراد الأسرة، وقد قال : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3906)
هم العدو فاحذرهم
الإيمان
نواقض الإيمان
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
15/1/1423
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوى المنافقين الإصلاح وهم أبعد الناس عنه. 2- ظهور النفاق في العهد النبوي. 3- مواقف المنافقين في عصر الرسول وصحابته. 4- دور المنافقين في الفتنة التي كانت بين الصحابة. 5- دور المنافق ابن العلقمي في سقوط الخلافة العباسية. 6- العلمانية صورة جديدة للنفاق.
_________
الخطبة الأولى
_________
هم في الأمة كالورم الخبيث الكامن في الجسد، ينتظر لحظة من الوهن والضعف ليظهر نفسه، كالحرباء في تلونهم، يلبسون جلود الضأن على قلوب السباع، يدّعون الإسلام وهو منهم براء، خطرهم على الإسلام أشد من خطر الكافر المعلن لكفره، فهم كاللّصّ المخالط الذي يلبس ثوب صديقٍ وفيٍّ أمينٍ، فلا يحذَر جانبه، كما قيل: لصّ الدار لا ترقبه الأنظار. هم العدو الحقيقي الذي يُغفَل عنه مع شدة خطره، هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ [المنافقون:4].
روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) أي: علمه بالإسلام لا يتجاوز حدودَ لسانه، فكلامه يخدع المؤمنين ويذهب بالقلوب، لكنه يضمر في قلبه المكر والكيد والخديعة، وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4]، فهم يختارون العبارة التي يخدعون بها الأمة ويزوِّقون بها باطلهم، ينسبون لأنفسهم كل جميل، فهم رعاة المصلحة وأدعياء الحرية! وهم المحافظون على حقوق المرأة والحريصون على رقي الأمة! ألسنتهم تردّد: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، قد حصروا الصلاح فيهم، فهم أهله وَسَدَنَته! ثم سلّطوا ألسنتهم وأقلامهم على أهل الخير والصلاح، حتى يختصّوا هم بالصلاح! فرموا أهل الخير بكل بلية، ووصموهم بكل رزية، فهم معقَّدون متطرِّفون متخلِّفون أصحاب مشاكل! في تهمٍ لا تنقطع، تتجدّد حسب العرض والطلب.
لقد زعم المنافقون الإصلاحَ من قبلُ فكذَّب الله دعواهم بل حصر الإفساد فيهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
فهل تجد أصدق من كلام الله حديثا وأوضح منه بيانًا؟! إذ يحصر الفساد فيهم وهو العليم الخبير، فهم حاضنو الفساد بكل صوره، ودعاته المخلصون، ورعاته الرسميون. إنه النفاق بتعدّد صوره ومكره وخداعه وأساليبه.
فتعال نستنطق التاريخ ونستخرج شهاداتِه ونقلب بعض ملفاته وصفحاته، لننظر أي رزية حلت بالمسلمين من جراء الركون إليهم والتهوين من خطرهم، والله سبحانه يقول: هُمُ ?لْعَدُوُّ فَ?حْذَرْهُمْ.
حين هاجر النبي إلى المدينة ظهرت أول خلايا النفاق الخبيثة، فبدأ النفاق يحِدُّ سكينته ويسقيها سمّ الخديعة والمكر، ينتظر لذلك اللحظة المناسبة ليرمي بها من يريد. لقد عانى منهم رسول أشدّ المعاناة، فقد وقفوا لدعوته موقفَ العداء المُبَطّن، شَرَقت نفوسهم من دعوته وضاقوا بها ذرعًا، روى ابن إسحاق بسنده عن أسامة بن زيد رضي الله عنه: أن رسول الله ركب إلى سعد بن عبادة يعوده من مرض أصابه، قال أسامة: فأردفني خلفه على حمار، فمرّ بعدوّ الله عبد الله بن أُبيّ بن سلول وهو جالس إلى الظل وحوله رجال من قومه، فكره النبي أن يجاوزه حتى ينزل، فنزل فسلّم ثم جلس قليلاً، فتلا القرآن ودعا إلى الله، وذكّر به وحذّر وبشّر وأنذر وابن أُبي لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله من مقالته قال ابن أُبيّ للنبي : يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، فإن كان حقًا فاجلس في بيتك، فمن جاءك له فحدثه إياه، ومن لم يأتك فلا تؤذه به، ولا تأته في مجلسه بما يكره. شرق بها هذا المنافق وورثه أحفاده الذين شرقوا بالدين وبالصحوة والمصلحين، فردّ عليه ابن رواحة فقال: بل اغْشَنا يا رسول الله، فهو والله ما نحبّ ومما أكرمنا الله به.
ويلجأ المنافقون إلى أسلوب الاستهزاء والسخرية، يسخرون من الدين ومن حملته، فيظهرونهم مظهر الازدراء والتنقص، ويسخِّرون قنواتِهم وإذاعاتِهم وصحفَهم ومجلاتِهم لذلك، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ [الصف:8].
أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ وابن مردَوَيْه والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك قال: سمع زيد بن أرقم رجلاً من المنافقين يقول والنبي يخطب: إن كان هذا صادقًا لنحن شرّ من الحمير، قال زيد: هو والله صادق، وأنت شرّ من الحمار، فرفع ذلك إلى النبي فجحد القائل، فأنزل الله: يَحْلِفُونَ بِ?للَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ ?لْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلَـ?مِهِمْ [التوبة:74].
وهذا يزيد بن حاطب بن أمية رضي الله عنه يخرج مع المسلمين في غزوة أحد فتصيبه الجراح حتى تثنيه، ثم يُحمل إلى دار أهله، ويجتمع إليه طائفة من المسلمين وهو يعاني سكرات الموت، فجعلوا يقولون له: أبشر ـ يا ابن أبي حاطب ـ بالجنة، فينكشف نفاق أبيه حينئذ فيقول مستهزئًا: أجل جنة والله من حَرْمَل، ـ الحرمل نبات، وهو إشارة إلى الأرض التي سيدفن فيها، أي: هذه جنتك التي يقولون ـ ثم يقول: غررتم والله هذا المسكين في نفسه.
وحيث إن المنافقين لفرط خوفهم وجبنهم لا يستطيعون أن يتميزوا مع المشركين فيحاربوا الدين والدعوة جهارًا، فقد قاموا بدور كبير في الإرجاف وإدخال الخوف في صفوف المسلمين، ولا زالت هذه سبيلهم في المسلمين؛ يعظمون أمر الأعداء، ويضعفون قوة المسلمين، ويربطون الناس بالماديات فحسب.
خرج رسول الله إلى تبوك لمقابلة الروم، وكان في الجيش بعض المنافقين، فقاموا يرجفون ويخوّفون المسلمين فقال بعضهم: أتحسبون جِلادَ بني الأصفر ـ أي: الروم ـ كقتال العرب بعضهم بعضًا، والله لكأنا بكم غدًا مُقرَّنين في الحبال.
ويموت النبي ، ويزداد كيد المنافقين ومكرهم، إذِ الوحي قد انقطع فما عادوا يخشَوْن فضيحة تخبر بما في صدورهم، فاستعلنوا بالنوايا، وأظهروا الطوايا، وكشفوا عن نفاق مستور، فجهروا بالامتناع عن أداء الزكاة التي كانوا يقدمونها إلى النبي ، وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمْ الدَّوَائِرَ [التوبة:98]، حتى قال بعضهم:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا فيا لعباد الله ما لأبي بكر؟!
وتأتي خلافة عمر فيَنْخنس النفاق وَيشرق برِيقهِ، فيدبرون ويمكرون في الخفاء حتى يكون اغتيال عمر بتدبير منهم كما تشير إلى ذلك أكثر الدلائل.
وكذا فعلوا مع الخليفة الحييّ عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكان قتلُه بمؤامرة من عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام وأبطن النفاق والكفر.
ذكر إحسان إلهي ظهير رحمه الله إجماع مؤرِّخي السنة والشيعة أن ابن سبأ هو من أضرم نار الفتنة، وسعى بالفساد في أرض الخلافة، وأغرى الناس ضد عثمان.
وكذا فإن لابن سبأ الدور الكبير في الفتنة العظمى التي حصلت بين الصحابة، حتى إنه لما سعى علي رضي الله عنه بالصلح بينه وبين طلحة والزبير وساروا في ذلك قام ابن سبأ فيمن كان على رأيه فقال: إنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة، وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، ولا طاقة لكم بهم، فإذا التقوا ـ يعني للصّلح ـ فأنشِبوا الحربَ والقتال بينهم، ولا تدعوهم يجتمِعون، فاختلط المنافقون بالناس، وبينما الجيشان المسلمان يسيران إلى طريق العودة للصلح عزم الأشرار على إثارة الحرب بينهم مع طلوع الفجر، فابتدؤوا الحرب بالهجوم على من يلونهم من جيش طلحة والزبير، وثار الناس مغضبين، وتفاجَؤوا مما حدَث، فاتهم بعضم بعضًا، ونشب القتال الذي ذهب ضحيته خلق كثير من المسلمين.
وتستمر مكائد المنافقين لهدم دولة الإسلام في كل زمان ومكان، والسبب هو غفلة المسلمين عن خطر هؤلاء المنافقين، فهذا الرافضي الخبيث المنافق ابن العلْقَمِي كان وزيرًا للخليفة العباسي المستعصم بالله محمد الظاهر، وكان لابن العلقمي الدور الكبير في دخول التتر إلى بغداد، وسقوط الخلافة العباسية فيها، والمذابح المروعة التي نتجت عن ذلك، فقد كتب ابن العلقمي إلى هولاكو ملك التتر يبدي له استعداده أن يسلمه بغداد إذا حضر بجيشه إليها، فكتب هولاكو لابن العلقمي: إن عساكر بغداد كثيرة، فإن كنت صادقًا فيما قلت لنا وداخلاً تحت طاعتنا ففرّق العسكر، فلما وصل الكتاب إلى ابن العلقمي دخل على المستعصم، وزين له أن يسرح خمسة عشر ألف فارس من عسكره؛ لأن التتر قد رجعوا إلى بلادهم، ولا حاجة لتكليف الدولة كلفة هؤلاء العساكر، فاستجاب الخليفة لرأيه، وأصدر أمرًا بذلك، فخرج ابن العلقمي بنفسه ومعه الأمر واستعرض الجيش واختار تسريح أفضلهم، وأمرهم بمغادرة بغداد وكل ملحقاتها الإدارية فتفرقوا في البلاد.
وبعد عدة أشهر زين للخليفة أن يسرح أيضًا عشرين ألفًا فاستجاب لطلبه، وفعل ابن العلقمي كما فعل في الأولى فاختارهم على عينه، كان هؤلاء الفرسان الذي سُرّحوا ـ كما يقول المؤرخون ـ بقوة مائتي ألف فارس.
ولما أتم مكيدته كتب إلى هولاكو بما فعل، فركب هولاكو وقدم بجيشه إلى بغداد، وأحسَّ أهل بغداد بمداهمة جيش التتر لهم، فاجتمعوا وتحالفوا وقاتل المسلمون ببسالة، وحلت الهزيمة بجيش التتر، ثم عاد المسلمون مؤيَّدين منصورين، ونزلوا في خيامهم مطمئنين، فلما جاء الليل أرسل الوزير ابن العلقمي جماعة من أصحابه المنافقين الخونة، فحبسوا مياه دجلة ففاض الماء على عساكر بغداد وهم نائمون في خيامهم، وصارت معسكراتهم مغمورة ومحاطة بالوحل. وكان ابن العلقمي قد أرسل إلى هولاكو يعلمه بمكيدته، فعاد هولاكو بجيشه وعسكر حول بغداد، فلما جاء الصباح دخل جيش التتر بغداد ووضعوا السيف في أهلها، وقتلوا الخليفة وابنه قتلة شنيعة، وأفسدوا أشدَّ الفساد.
ثم دعا هولاكو بابن العلقمي ليكافئه، فحضر بين يديه، فوبخه على خيانَتِه لسيّده الذي وثِق به، ثم قال: لو أعطيناك كلَّ ما نملك ما نرجو منك خيرًا، فما نرى إلا قتلَك فقتِل شرَّ قِتلة، وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43].
الحديث حول المنافقين وخطرهم يطول، كيف وقد لبسوا اليوم لباس العلمانية، فنسبوا أنفسهم إلى العلم بهتانًا وزورًا، ولا يكون العلم بأساليب الخداع والمكر والسخرية والاستهزاء والإرجاف والتخويف، وبئس ما يعملون.
ولكن المصيبة كل المصيبة أن يوجد من المسلمين من يكون أُذُنًا لهم، يسمع حديثهم ويصدق أخبارهم وينجرف خلفهم في مقترحاتهم وآرائهم دون أن يشعر، الشيء الذي عابه الله على بعض المسلمين فقال: وَفِيكُمْ سَمَّـ?عُونَ لَهُمْ [التوبة:47]، قال ابن كثير: "أي: مطيعون لهم مستحسنون لحديثهم وكلامهم"اهـ.
فالحذر الحذر من كيدهم ومخططاتهم وتلقّف سمومهم، فهم يريدون أن يشبعوا شهواتهم ورغباتهم، ولو كان ضحية ذلك هو ضياع الأمة. يريدون بالأمة أن تسير على ركب الحضارة الغربية بحلوها ومرّها وخيرها وشرها، كما صرح بذلك أحد كبارهم عليه من الله ما يستحق.
وَ?للَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ ?لَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ?لشَّهَو?تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا [النساء:27].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3907)
وداع رمضان
فقه
الزكاة والصدقة, الصلاة, الصوم
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
29/9/1422
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المقبولون والمحرومون في رمضان. 2- زكاة الفطر وبعض أحكامها. 3- أحكام صلاة العيد. 4- الحث على الاستغفار والأعمال الصالحة في ختام شهر رمضان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله.
بالأمس أقبل مُشرق الميلاد شهرُ التُّقاة وموسمُ العباد
واليوم شد إلى الرحيل متاعه قد زود الدنيا بخير الزاد
لا أوحش الرحمن منك منازلاً ذكراك يعلو في الربى والوادي
ما أشبه الليلة بالبارحة، كنا في جمعة ماضية نعيش أول يوم من رمضان، واليوم نعيش وداعه أو ما يسبق وداعه بيوم. مضى الشهر وودعناه وما استودعناه، ذهب شاهدًا لنا أو علينا، فليت شعري من المقبول منا فنهنيه، ومن المحروم فنعزيه.
يا من وُفّق للاجتهاد بالعمل الصالح في هذا الشهر، ها قد انقضى الشهر، فهل تذكر ألمَ الجوع والعطش من فقدِ الطعام؟! أم هل أجهدك القيام؟! لقد ذهب التعب والنصب وثبت الأجر إن شاء الله. قد كنت من أول الشهر تقوم لله وتصلي وتسجد وتقرأ وتذكر، وغيرك لم ينفك عن التعب، فقد قام لكن لهواه، واجتهد لكن في تحصيل دنياه، أضاع ليله ونهاره حتى ذهب عنه الشهر ولا أجر، بل هو الوزر وربِّي وبئس ما فعل، وزر في رمضان؟! ((كل الناس يغدو؛ فبائع نفسه: فمعتقها أو موبقها)) رواه ابن ماجه والترمذي. ذهبت الدنيا بأتعابها، وبقيت تبعاتها.
ما ضاع من أيامنا هل يغرم؟ هيهات والأزمان كيف تقوَّم؟
يوم بأرواح تباع وتشترَى وأخوه ليس يُسام فيه الدّرهم
أيها المسلمون، شرع الله لكم في ختام شهركم شرائع، فاعلموها لتعملوا بها ولا تضيّعوها، والأعمال بالخواتيم.
شرع للمسلم في ختام الشهر إخراج زكاة الفطر، وهي فرض واجب كما في حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: أن رسول الله فرض زكاة الفطر. شرعت زكاة الفطر في ختام الشهر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وكم هو النقص في صيامنا الذي يحتاج إلى إتمام، والخلل الذي يحتاج إلى تسديد.
تجب زكاة الفطر على الصغير والكبير والذكر والأنثى والحر والعبد من المسلمين، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: فرض رسول الله زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين. رواه البخاري. فمن أدركه غروب شمس ليلة العيد وهو حيٌّ مسلم وجبت عليه، ومن مات قبل الغروب أو ولد بعد الغروب لم تجب عنه. ويستحب إخراجها عن الجنين الذي في البطن.
وتخرج من عامة طعام البلد كالبر والتمر أو الأرز، لحديث ابن عباس رضي الله عنه: أمرنا رسول الله أن نؤدي زكاة رمضان صاعًا من طعام.
ومقدار زكاة الفطر صاعٌ عن كل واحدٍ، وهو ما يساوي كيلوين وأربعين غراما.
ولا تدفع إلا لمستحقيها، وهم المساكين دون بقية الأصناف الثمانية على الصحيح، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: فرض رسول الله زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين. رواه أبو داود وابن ماجه. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها الذين يقبلونها. رواه البخاري.
ويجوز أن توزّع على عدة مساكين أو تعطى لمسكين واحد.
وجمهور أهل العلم على أنها لا تعطى إلا المسلم، لحديث ابن عمر السابق، قال شيخ الإسلام: "لا ينبغي أن تعطى الزكاة لمن لا يستعين بها على طاعة الله، فإن الله فرضها معونة على طاعته لمن يحتاج من المؤمنين، فمن لم يصلّ من أهل الحاجات لا يُعطى شيئًا، حتى يتوب ويلتزم أداء الصلاة" إلخ.
ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين، وأفضل وقت إخراجها قبل الخروج لصلاة العيد، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخرت عنها فإنما هي صدقة من الصدقات.
وجمهور العلماء على أنه لا يعتبر في زكاة الفطر ملك النِّصاب، بل تجب على كل من ملك صاعًا فاضلاً عن قوته يوم العيد وليلته.
ولا يجوز دفع القيمة بدل الطعام لأنه خلاف المنصوص عليه، قال أبو داود: سئل أحمد وأنا أسمع: يعطى دراهم؟ قال: "أخاف أن لا يجزئه؛ خلافُ سنة رسول الله ".
ولا يجوز إخراج الرديء في الزكاة، فالله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيّبَـ?تِ مَا كَسَبْتُمْ [البقرة:267]، فأخرجوها طيبة بها نفوسكم، وزكوا بها صيامكم، واجبروا النقص، وسدّدوا الخلل.
أيها المسلمون، ومما شرع في ختام الشهر صلاة العيد والاستعداد لها، فإليك بعض أحكامها:
يحرم صيامُ يومي العيدين لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم النحر. رواه مسلم. وعيد الفطر يوم واحد فقط، ولذا يجوز ابتداء صيام الستّ من شوال أو القضاء من اليوم الثاني لشهر شوال.
ويستحب الخروج لصلاة العيد للرجال والنساء، بل ذهب بعض أهل العلم كشيخ الإسلام وغيره إلى وجوب الخروج لصلاة العيد، لحديث أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيَّض وذوات الخدور، فأما الحيَّض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين.
ويستحب التجمّل للعيد ولبس أحسن الثياب والطيب، فقد كان الصحابة يفعلون ذلك ويقرّهم النبي عليه. أما النساء فيبتعدن عن الزينة إذا خرجن، لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب، ويحرم على من أرادت الخروج أن تمسّ طيبًا أو تتعرّض للرجال بفتنة.
ويستحبّ الاغتسال قبل الخروج لصلاة العيد، فقد صحّ في الموطأ وغيره أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلى، وصحّ ذلك أيضًا عن علي رضي الله عنه، قال النووي رحمه الله: "اتفق العلماء على استحباب الاغتسال لصلاة العيد".
ويستحب أن لا يخرج في عيد الفطر للصلاة حتى يأكل تمرات، لما روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن النبي كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات. وإنما استحب الأكل قبل الخروج مبالغة في النهي عن صوم ذلك اليوم وتحقيق الفطر فيه.
ويستحب إتيان المصلى ماشيًا إن تيسر ذلك، فقد أخرج الترمذي وصححه الألباني من قول علي: (من السنة أن تخرج إلى العيد ماشيًا).
ويسن التكبير ليلة العيد ويومه إلى أن يدخل الإمام لصلاة العيد، يرفع الرجال أصواتهم بذلك، وتخفض النساء إذا كانت بحضرة أجانب، ويكون ذلك في البيت والمسجد والسوق والعمل، وكل مكان يمكن ذكر الله فيه، وهي سنة من السنن المهجورة، تطلُب من يحييها.
وصفة التكبير أن يقول: "الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد"، "الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيرا"، "الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا"، وكلّها ألفاظ صحيحة ثابتة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، لا ربّ غيره ولا معبود بحق سواه، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخليله ومصطفاه.
إذا الروض أمسى مجدبًا في ربيعه ففي أيّ حين يستنير ويخصبُ؟
إذا كان الشهر قد وَدّع وأناس في غيّها لم تَرجع فمتى تكون اليقظة؟ ومتى يكون الرجوع؟ كل ما لا يثمر من الأشجار في أوان الثمار فإنه يقطع ثم يوقد في النار. ومن لم تُلِنْ قلبَه المواعظُ وتوقظه الزواجر فليعلمْ أن النار تذيب الحديدَ وقلبَ كل جبار عنيد.
ألا من لقلب في الهوى غير منتهٍ وفي الغيّ مطواع وفي الرشد مكره
أشاوره في توبة فيقول: لا فإن قلت: تأتي فتنة قال: أين هي؟
ألا أيها المقصر وكلنا كذلك، ويا أيها المفرط وكلنا كذلك، أين مُقلتك الباكية؟! وأين دمعتك الجارية؟! وأين زفرتك الرائحة والغادية؟! لأي يوم أخَّرت توبتك؟! ولأي يوم ادخرت عدتك؟! إلى عام قابل وحول حائل؟! كلا، فما إليك مدة الأعمار، ولا معرفة الأقدار، فكم من مؤمِّل أمَّل بلوغَه فلم يبلغه، وكم من مدرِك له لم يختمه، وكم مُعِدٍّ لطيب عيده جُعِل في تلحيدِه، وثياب لتزيينه صارت لتكفينِه، ومتأهّب لفطرِه صار مرتهنًا في قبره, فاحمدوا الله ـ عباد الله ـ على بلوغ اختتامه، واسألوه قبول قيامه وصيامِه.
أيها المقصّر المفرّط، إن الفرصة مواتية، ولا زال في العمر بقية، فأحسن الختام، فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها، والأعمال بالخواتيم. فطوبى لمن غَسَل دَرَنَ الذنوب بتوبة، ورجع عن خطاياه قبل فوات الأوبة.
أيها المسلمون، أكثروا الاستغفار في ختام شهركم، قال الحسن رضي الله عنه: "أكثروا من الاستغفار؛ فإنكم لا تدرون متى تنزل الرحمة"، وقال لقمان لابنه: "يا بني، عوّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائل"، كان بعض السلف إذا صلى صلاة استغفر من تقصيره فيها كما يستغفر المذنب من ذنبه. كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى الأمصار يأمرهم بختم صيام رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر، ويقول: "إن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، والاستغفار يرفع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث".
أيها المسلمون، ومما يجمل في ختام الشهر الإكثار من الصدقة التي بها يُطفَأ غضب الربّ عن التقصير، ويُستَدرُّ بها عفو الله وكرمه. ابذل الصدقة في مشاريع الخير ولا تبخل، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد:38].
(1/3908)
الحث على طلب العلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
محمد الداه بن أحمد الشنقيطي
نواكشوط
جامع الشرفاء (جامع القرآن)
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التقوى أعظم أسباب النجاة والعلم هو الطريق إليه. 2- فضل العلم وأهميته. 3- فضل نشر العلم والدعوة إليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله وأطيعوه فيما أمر، وانتهوا عما نهى عنه وزجر، واعلموا أنكم في دار ممر لا دار مقر، وأنه لا علم لأحد منا بمصيره إلى الجنة أم إلا سقر، التي لا تبقي ولا تذر، فلا بد إذًا لمن يريد النجاة أن يتّخذ أسبابها الموصلة إليها، وإن أعظم أسباب النجاة تقوى الله تعالى، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131].
وإن هذه الوصية لا يمكن تنفيذها إلا بالعلم بما يتَّقى ويتجنَّب، والعلم بما يطلَب ويقرّب ويحِّب، فعلينا جميعًا أن نقبِل على طلب العلم وتحصيله والتقرّب إلى الله بذلك، ثم علينا أن ننشر ما تعلمناه، وأيّ عذر لنا بين يدي الله تعالى إذا لم نسع في هذا الطريق؟! ألم يمتنّ الله علينا في كتابه بما ركّب فينا من أسباب تحصيل العلم وأدواته: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]؟! ألم يخبرنا أنه سائلنا عن استعمال هذه الأدوات: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
عباد الله، إنه لم يؤمَر الجاهل بالتعلّم إلا بعدما أخذ الميثاق على العالم أن يعلّم ويبيّن ولا يكتم، وأنه يكفيكم من شرف العلم أنه يدّعيه من ليس من أهلِه ويفرح بنسبته إليه من ليس من طلاّبه، ويكفيكم أيضًا من شرفه أن التقوَى لا تنال إلا به، فكيف تتَّقي من لا تعلم، وترغب فيما عند من لا تعلم؟! ولكن إذا أخذتَ في طريق التعليم سهّل الله لك به طريقًا إلى التقوى، ((ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله به طريقًا إلى الجنة)) ، وهل للجنة طريق غير العلم والتقوى؟! وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282]، شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49]، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
بالعلم تنال التقوى، وبالتقوى يعلّمك الله ثم يجعلك شهيدًا؛ إذ بدأ في الآية الكريم بنفسه، وثنى بملائكته، وثلّث بأولى العلم، وناهيك بذلك فضلاً وشرفًا، ثم تكون من الذين يعلمون قدر الآيات التي جعلت في صدورهم ويعقِلون الأمثال والمواعظ، فيتعظون بها، فيخشون الله تعالى ولا يخشون أحدًا إلا الله، وعند ذلك يرفعهم الله درجات في الدنيا والآخرة، ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع آخرين))، وهل طلب أكمل الناس الزيادة إلا من العلم؟! وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].
عباد الله، إن فضل العلم لا يخفى على أحد منا، وإن النصوص في ثواب طلبه ونشره واتباعه كثيرة، فما المانع إذًا من أن نكون طلبة علم بكبيرنا وصغيرنا وموظفينا وعاطلنا ذكرِنا وأنثانا؟! إنه لا يمنعنا من ذلك إلا ما يزينه الشيطان لنا ويصدنا عن هذا الطريق الموصل للجنة، وإلا فإن جلَّ الصحابة تعلموا بالجلوس والاستماع، لا قلَمَ ولا محبرة، وإن جلّ التابعين تعلموا بالقلم والدواة والمحبرة، وقد حفظوا لنا ديننا وعلومنا الإسلامية، ونحن مطالبون بتعلّم علومنا وحيازة علوم غيرنا النافعة وكل ما تحتاجه أمتنا وما يمكّن لديننا ويعز أمتنا، وإنه لمن علامات التوفيق والرشاد وحسن السياسة والرعاية والسداد ما تسير عليه هذه الدولة من جعل العلم كالماء والهواء أمر مشاع بين الناس وحقّ متاح لكل الناس، فنشرت مدارسه ومراكزه في الداخل والخارج حتى أوصلته إلى عاصمة أمريكا، فهنيئًا لها هذه النظرة البعيدة والسياسة الرشيدة، قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي : ((مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)).
وإن في تحصيل العلم ونشره جوائز كثيرة، منها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) ).
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3909)
المرأة في الإسلام
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
المرأة, محاسن الشريعة
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وضع المرأة في الجاهلية. 2- تكريم الإسلام للمرأة. 3- سبب تفضيل الرجل على المرأة. 4- صياتة الإسلام المرأة. 5- المؤامرة الجديدة لإخراج المرأة من بيتها وعن طبيعتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، اتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب ما نهاكم عنه لعلكم ترحمون وتفلحون.
عباد الله، إن حديثنا في هذه الخطبة سيكون عن موضوع شغل بال الإنسانية قبل الإسلام وبعده، وقد جاء الإسلام بما ميزه الله عن سائر الأديان، ففصل فيه ووضع له الحل الكافي والدواء الشافي، ألا وهو موضوع المرأة؛ لأن أهل الشر اتخذوا من هذا الموضوع منطلقًا للتضليل والخداع عند من لا يعرف وضع المرأة في الجاهلية ومكانتها في الإسلام ووضعها عند الأمم الكفرية المعاصرة.
فقد كانت المرأة في الجاهلية تعد من سقط المتاع، لا يقام لها وزن، حتى بلغ من شدة بغضهم لها آنذاك أن أحدهم حينما تولد له البنت يستاء منها جدًّا ويكرهها، ولا يستطيع مقابلة الرجال من الخجل الذي يشعر به، ثم يبقى بين أمرين: إما أن يترك هذه البنت تعيش مهانة، ويصبر هو على كراهيتها وتنقص الناس له بسببها، وإما أن يقتلها شر قتلة، بأن يدفنها وهي حية ويتركها تحت التراب حتى تموت، وقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنْ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُون [النحل:58، 59]. وأخبر سبحانه أنه سينصف هذه المظلومة ممن ظلمها وقتلها بغير حق، فقال تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9].
وكانوا في الجاهلية إذا لم يقتلوا البنت في صغرها يهينونها في كبرها، فكانوا لا يورّثونها من قريبها إذا مات، بل كانوا يعدونها من جملة المتاع الذي يورث عن الميت، فلهم الحق فيها، فنزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا [النساء:19].
وكان الرجل في الجاهلية يتزوج العدد الكثير من النساء من غير حصر بعدد، ويسيء عشرتهن، فلما جاء الإسلام حرم الجمع بين أكثر من أربع نساء، واشترط لجواز ذلك تحقق العدل بينهن في الحقوق الزوجية، قال تعالى: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ الآية [النساء:3].
نعم أيها الإخوة في الله، لقد جاء الإسلام والمرأة على هذا الوضع السيئ فأنقذها منه، وكرمها وضمن لها حقوقها، وجعلها مساوية للرجل في كثير من الواجبات الدينية وترك المحرمات وفي الثواب والعقاب على ذلك، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
ولقد فضل الله الرجل على المرأة ـ أيها المسلمون ـ في مقامات معينة، ولأسباب تقتضي تفضيله عليها، كما في الميراث، فتأخذ المرأة نصف ما يأخذ الرجل، وشهادة الرجل بامرأتين، والدية والقوامة والطلاق؛ لأن الرجل عنده من الاستعداد الخَلْقي والخُلُقي ما ليس عند المرأة، وعليه من المسؤولية في الحياة ما ليس على المرأة، كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ [النساء:34]، وقوله: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228].
جعل الله للمرأة حقًّا في الميراث: وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]. جعل الله لها حق التملك والتصدق والإعتاق كما للرجل، قال تعالى: وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ [الأحزاب:35]. جُعِل لها حقٌ في اختيار الزوج، فلا تُزوّج بدون رضاها.
معاشر المسلمين، إن المرأة صانها الله بالإسلام من التبذل، كف عنها الأيدي الآثمة والأعين الخائنة التي تريد الاعتداء على عفافها والتمتع بها على غير وجه شرعي، وهكذا عاشت المرأة تحت ظل الإسلام وكرامته أمًّا وزوجة وقريبة وأختًا في الدين، تؤدّي وظيفتها في الحياة ربة بيت وأسرة، وتزاول خارج البيت ما يليق بها من الأعمال إذا دعت الحاجة إلى ذلك مع الاحتشام والاحتفاظ بكرامتها، ومع التزام الحجاب الكامل الضافي على جسمها ووجهها، وتحت رقابة وليها، فلا تخلو مع رجل لا يحل لها إلا ومعها محرمها، ولا تسافر إلا مع محرم.
هكذا ينبغي أن تكون المرأة في ظل الإسلام دين الرحمة والكمال والنزاهة والعدل، وقد أوصى بها النبي وصية خاصة في حجة الوداع فقال: ((واتقوا الله في النساء، فإنهن عندكم عوان)) أي: أسيرات، هذا وصف تقريبي للمرأة في الإسلام.
أما وصفها في المجتمعات المعاصرة الكافرة أو من تتسمى بالإسلام ولكن قد استوردت نظمها وتقاليدها من الكفار، إن وضعها اليوم مزري ومخجل وفاضح، فقد جعلت المرأة فيها سلعة رخيصة، تعرض عارية أو شبه عارية أمام الرجال في مواطن تجمعهم، على خادمات في البيوت أو موظفات في المكاتب والمؤسسات والشركات أو ممرضات في المستشفيات أو خادمات في الطائرات أو خادمات في الفنادق ومدرسات للرجال في دور التعليم وممثلات الأفلام التلفزيونية والسينمائية والفيديو، والآن صار العرض أغرى وأفضح، فالمرأة تظهر عارية تمامًا من خلال طبق الدش الخبيث، والذين عصمهم الله من التلفاز أو الأجهزة المرئية فإنهم بذلوها في وسائل أخرى بصوتها في المذياع مذيعة أو مغنية، وبصورتها الفوتوغرافية في الصحف والمجلات الدورية أو على أغلفة السلع التجارية، بل وللدعاية للشاحنات أو الحراثات الزراعية، فتجدهم يختارون أجمل فتاة يجدونها ويضعون صورتها على هذه الصحف والمجلات والسلع والدعاية؛ ليتخذوا منها وسيلة لترويج بضاعتهم، وليقرّوا أهل الفساد الخلقي بفسادهم ليفتنوا الأبرياء، هكذا أصبحت المرأة في عصرنا الحضاري، أقصد عصرنا الحضاري الجاهلي المتخلف بهذه الأفكار، يا لرخص المرأة ـ يا عباد الله ـ في المجتمع المتحضر! ويا لتبذلها بين الرجال دون حياء منها لأنها ألفت ذلك ورضيت به!
كانت قبل الإسلام مستعبدة، وهي اليوم طليقة من كل قيد، أما الإسلام الذي جعلها في حالة متوسطة لها حقوقها في حدود، ولها معالم تنتهي إليها ثم تعود، فلا يرغب فيه هؤلاء الناعقون، لقد ظلموها فخلعوا عنها لباس الستر، تركوها عارية مظهرة لمفاتن جسدها، تنفذها سهام الأنظار المسمومة من كل جانب، كانت في بيتها ترعى زوجها وأبناءها، فأخرجوها باسم الحرية والتقدمية والحضارة، فقذفوها في بحار الاختلاط العفن، حرموا عليها ما أحل الله كالميراث وغيره، وأحلوا لها ما حرم الله من التبرج والتبذل والفسوق والعصيان.
هذا هو فعل أعداء الدين وأعداء المسلمين في حق المرأة المسلمة العفيفة بدينها وخلقها، وإنك لتعجب ـ أخي المسلم ـ حين تعلم أن من بين المسلمين أبواقًا تنادي بمقالات وادعاءات الحرية للمرأة من العلمانيين أذناب الكفرة واليهود، يرددون أقوالهم، كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة:118].
أيها المسلمون، تنبهوا ـ رحمكم الله ـ لدسائس أعدائكم ومخططاتهم، متخذين المرأة سلاحًا ضدكم يشهره في وجوهكم بعض المخدوعين من أبنائكم، فسُدوا عليهم الطريق، واعرفوا من أين جاءت سمومهم، فامنعوا المجلات التي تحطم بيوتكم وتفسد نساءكم، فإن الخطر كل الخطر منها ومن غيرها من وسائل الإعلام الهدامة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3910)
تحصين البيت من الجن والشيطان
الإيمان
الجن والشياطين
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كيد الشيطان بالأسرة المسلمة. 2- أذكار تحصن البيت المسلم. 3- قراءة سور القرآن. 4- تطهير البيت من المعازف والغناء. 5- تطهير البيت من التصاوير. 6- وسائل أخرى تحمي البيت المسلم من كيد الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إن الله لطيف بعباده، يحب لهم كل خير ويكره لهم كل سوء، وإنه حذّرنا من أعداء لنا من أهمهم وعلى رأسهم إبليس أخزاه الله، ولكننا غفلنا عن هذه الفريضة الربانية عداوة الشيطان، قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، فلم يتخذه كثير من الناس عدوًا، بل جعلوه حبيبًا ناصحًا لهم، وفي مجالسهم مسامرًا، وفي طرقاتهم رفيقًا، فتحوا له أبواب قلوبهم قبل أبواب دورهم، أرضوه بمعصية ربهم، ولم يغضبوه بفعل منكراتهم، فصار لهم وليًا، إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]، إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وقال تعالى محذرًا من اتخاذه وليًا: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً [الكهف:50]. فزادهم رهقًا ووهنًا، مع علمنا أن ربنا أخبرنا بضعفه وعجزه، فقال تعالى: فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76].
ولكنهم ببعدهم عن هدي ربهم ورضاهم بوسوسته ووصيته لهم بالسوء صاروا في ضلال عن الهدى، ووقعوا بغيّهِ في مهاوي الردى، قال تعالى: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121].
وبعد هذا العرض ـ أحبتي ـ وددت أن أذكر لكم حصونًا من الأذكار النبوية الصحيحة المأثورة عنه ، التي أرشدنا إليها نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو الذي كان بالمؤمنين رحيمًا، حتى تحفظنا بإذن ربنا في بيوتنا وأهلنا وذرياتنا، ونكون بذلك قد أرضينا ربنا، واتبعنا سنة نبينا ، وخالفنا عدونا إبليس عليه لعنة الله، وحافظنا على إيماننا من الخلل والتوكل على غير الله، واعتقاد الضر والنفع بغيره سبحانه جل في علاه.
وتحصين البيت أساس مهم؛ إذ فيه الأب والأم والأولاد والبنات، ولأنه أهم أمرٍ يحرص الشيطان على هدمه وإزالة المودة بين سكانه وبث البغضاء والشقاق فيه، مما يؤدي إلى الفرقة بين الزوجين وضياع الأخوين وفساد كبير لكلا الطرفين، فيكون بذلك هدم للمجتمع الذي ينطلق من الفرد ثم الأسرة. فعودًا على بدء ـ أحبتي ـ ارجعوا إلى حياض ونبع دينكم: الكتاب والسنة، وطبقوها في بيوتكم وأنفسكم تفلحوا بإذن ربكم.
وأول هذه الحصون ذكر الله عند دخول البيت، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إذا ولج الرجل بيته فليقل: اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج، بسم الله ولجنا، وبسم الله خرجنا، وعلى ربنا توكلنا، ثم يسلم على أهله)) رواه أبو داود، وقال الألباني في تخريج الكلم الطيب: "إسناده صحيح".
2- التسليم على الأهل، قال النووي رحمه الله: "يستحب أن يقول: بسم الله، وأن يكثر من ذكر الله تعالى، وأن يسلم سواء كان في البيت آدمي أم لا، لقوله تعالى: فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً [النور:61]".
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا بني، إذا دخلت على أهلك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك)) رواه الترمذي وقال: "حسن صحيح"، وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل)) وذكر آخرهم: ((ورجل دخل بيته بسلام، فهو ضامن على الله سبحانه وتعالى)) رواه أبو داود بإسناد جيد.
قال النووي: "ضامن على الله تعالى أي: صاحب ضمان، والضمان الرعاية للشيء، معناه: أنه في رعاية الله" اهـ. ولا أجمل ـ أحبتي ـ من هذا العطاء، أن يظل الرجل في رعاية الله.
3- ذكر الله عند الطعام والشراب، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال الشيطان: أدركتم المبيت والعشاء)) رواه مسلم.
تأمل ـ أخي ـ فضل ذكر الله تعالى عند دخولك وأكلك وشربك، تأمل معي هذا الحديث وانظر إلى كثير من الناس في زماننا هذا حينما يدخل وهو يغني، أو يدخل ويسب ويشتم، فاحذر ـ أخي ـ الغفلة، وكن ذاكرًا لربك.
4- كثرة تلاوة القرآن في البيت، وبالذات سورة البقرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان)) ، وفي رواية أخرى صحيحة قال النبي : ((وإن الشيطان إذا سمع سورة البقرة تقرأ خرج من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)).
الله أكبر يا أمة القرآن، يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام، كم هي غفلتنا عن القرآن قراءة وحفظًا وتدبرًا وتحاكمًا واستفتاءً وتعبدًا، ولتعلم ـ أخي ـ أن بقراءتك للقرآن كما أن الشيطان يفرّ من بيتك فكذلك الملائكة تدنو من بيتك، وقد حصل ذلك لأسيد بن حضير كما صح من حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم.
5- تطهير البيت من صوت إبليس، قال تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64]، قال مجاهد : "صوت الشيطان الغناء"، وقال رسول الله : ((ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)) رواه البخاري.
وأورد ابن القيم في إغاثة اللهفان لابن ماجه بسند صحيح عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله أنه قال: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، ويُعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم قردة وخنازير)).
قال أبو حنيفة: "الغناء فسق"، وقال مالك عندما سئل عن الغناء: "إنما يفعله الفساق"، بل ترد شهادته كما ورد ذلك عن الشافعي للمستكثر منه.
وبعد: فقد تبين لك ـ أخي المسلم ـ حرمة الغناء، وأنه صوت الشيطان، وسيجتمع جنوده في بيتك، وسيعيثون فيه فسادًا، وسيوقعون فيه الشقاق والفرقة، فطهّر بيتك ـ يا عبد الله ـ من هذا الغناء المؤدي بك إلى الهلاك والدمار، وأبدله بتلاوة كتاب ربك المنان، فلا يجتمع صوت الرحمن وصوت الشيطان.
6- تطهير البيت من الأجراس والكلاب، والتي هي على صوت ناقوس الكنيسة، وهو صوت متقطع بين فترتين معروف، ولا يدخل في ذلك جرس الهاتف وأجراس البيوت، إلا إذا كانت على نفس صوت ناقوس الكنائس أو الجرس الموسيقي، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((الجرس مزامير الشيطان)) رواه مسلم، وقال : ((لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس)) رواه مسلم. وينقص من أجر من اقتنى كلبًا، ما لم يكن كلب صيد أو ماشية.
7- تطهير البيت من التصاليب؛ لأنها شعار النصارى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه. رواه البخاري.
8- تطهير البيت من التصاوير والتماثيل التي تمنع من دخول الملائكة، ويقصد بالصور والتماثيل التي لها روح، أما ما ليس له روح كصورة شجرة أو بحر أو غيره فلا حرج في ذلك، إذ بخروج الملائكة من البيت تدخل الشياطين.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تدخل الملائكة بيتًا فيه تماثيل أو تصاوير)) رواه مسلم.
واعلم ـ أخي المسلم ـ أن التحريم عام شامل لجميع أنوار الصور، إلا ما كان لحاجة ضرورية، كصورة بطاقة التعريف، فهي مرخّص فيها للحاجة.
_________
الخطبة الثانية
_________
- الإكثار من صلاة النوافل، فعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا)). ومن المعلوم أن المقابر والفلوات والأماكن الخربة مساكن الشياطين، فكأنه يريد منا أن نجعل لبيوتنا قسطًا من صلاة النافلة لطرد الشياطين منها.
10- الكلمة الطيبة والابتسامة المشرقة، من المعلوم أن الشيطان يريد أن يهدم المجتمع المسلم، فهو يكيد له ويدبر ويخطط، ومن هذه الخطط تقويض عرش الأسرة المسلمة؛ لأنها هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، قال رسول الله : ((إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه ويقول: نعم أنت)) ؛ وذلك لأن التفريق بين الزوجين هدم للمجتمع من أساسه، وهذا هدف للّعِين.
11- تحصين الأهل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادمًا فليقل: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)).
12- تحصين الأولاد من الشيطان، فعلى المسلم أن يقول عند إتيانه لزوجته: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه لو قضي بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدًا، كما صح بذلك الحديث عند البخاري.
والأذان طارد للشيطان، فيستحب أن يؤذن في أذن المولود عند ولادته لما صح عن الرسول فعله.
13- تحصين الأولاد من الهوام والحسد بأن تجمع أولادك في الصباح والمساء وتمسح على رؤوسهم وتقول هذا الدعاء: أعيذكم بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.
(1/3911)
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, القرآن والتفسير
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحوال مبكية للأمة المسلمة بسبب هجر كتاب الله. 2- تذكير شهر رمضان بواجب العودة إلى كتاب الله تدبرًا وعملاً وحكمًا. 3- ما لمثل هذه الصور نزل القرآن. 4- حال السلف مع القرآن. 5- تدبر القرآن الكريم. 6- دعوة للتبرع لجماعة تحفيظ القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، واستمسكوا بكتابه القويم وهدي رسوله الكريم في جميع شؤون حياتكم الخاصة والعامة، قولاً وعملاً واعتقادًا وفكرًا، فمن ابتغى الهدى في غيرهما فقد ضل وغوى.
عباد الله، إن المتأمّل من خلال القرون القليلة الماضية في أحوال الأمة الإسلامية ليرى انتكاسة رهيبة قد ألمت بها، فقد تصدعت أركانها، وتسلط عليها أعداؤها، واستبدل الله جل جلاله قوتها بضعف، وعزتها بذلة، واجتماعها بفرقة وشتات، أصبحت مستباحة الحمى مكسورة الجناح، يعبث بها كل عابث، ويفسد فيها كل مفسد، تنتهك حرماتها، وتغتصب مقدراتها، وتسلب ديارها، شعوبها قد تشتت، وشُرّد أبناؤها، وقتل دعاتها، رمّلت نساؤها، ويتّم أطفالها، غدت أمتنا في كل أرض لها مأساة، وفي كل بلد لها محنة، وهي لا تملك حولاً ولا طولاً.
فما الذي جرى لأمتنا حتى وهنت وآل بها الحال إلى هذا المآل؟! ما الذي جرى حتى غُيّبت هذا الغياب المذهل الذي أفقدها اتزانها ووجودها؟!
تأمل ذلك بتدبر في قوله تعالى: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:123-127].
إذًا هذا هو السر ـ عباد الله ـ وموضع الداء الذي أوهن أمتنا وصدع بنيانها، إنه إعراض الأمة عن شرع الله تعالى وهجر كتاب الله عز وجل علمًا وعملاً، وترك سنة المصطفى وراءها ظِهريًا، وحل محلها القوانين الوضعية والاجتهادات البشرية، فكانت النتيجة الملموسة التي تجنيها الأجيال من التخبط والشقاء الذي نرى آثاره تزداد يومًا بعد يوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أيها الأحبة في الله، كم ذاقت الأمة من البلاء وأصابها من الشدة واللأواء بسبب إدبارها وإعراضها عن شرع الله ووحيه المنزل؟! وكم تقلبت في ألوانٍ وألوانٍ من الذل والهوان؟!
تأملوا ـ رحمكم الله ـ حال الأمة الإسلامية من أدناها إلى أقصاها، وسوف تجدون حالة من القلق وعدم الاتزان، وصدق الله إذ يقول: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الملك:22]، وقال : ((أبشروا، فإن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسكوا به، فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدًا)).
إن السعادة ـ عباد الله ـ والطمأنينة إنما هي في تعظيم شرع الله تعالى واتباعه والاهتداء بهديه، والشقاوة والتخبط كل التخبط إنما هو في الإعراض عن شرع الله والاستهانة به وهجره، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28].
إن مقدم شهر رمضان المبارك على الأمة الإسلامية ليذكرها بضرورة العودة الصادقة إلى كتاب الله العظيم، ففيه نزل القرآن: هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، فهو مصدر القوة والعزة وأساس التمكين والرفعة، فيه الهدى والنور، من آمن به حق الإيمان وصدق به حق التصديق فقد هداه الله وآتاه من فضله وأعانه على كل خير، قال تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:2]، ومن هجره وأعرض عنه علمًا وعملاً ولم يؤمن بمتشابهه ويعمل بمحكمه فقد أضله الله وختم على قلبه وبصره، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175، 176]. وصدق نبينا إذ يقول: ((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين)).
إخوة الإسلام، إن القرآن ليس آيات تهتز لها الرؤوس، وتتمايل بها العمائم، ويطرب بها الدراويش في الموالد والمآتم والاحتفالات، وليس آيات تهَذّ كهذّ الشعر، أو تنثَر نثر الدقل، كلا، بل هو آيات بينات تتنزل على قلوب المؤمنين فتغمرها بالسكينة والطمأنينة، وتملؤها بالثقة والثبات وتدبر آيات الله عز وجل ومعرفة مقاصدها ومراميها والوقوف عند عظاتها وعبرها. قال الحسن البصري رحمه الله: "إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها في النهار".
إنها نعمة عظيمة من النعم التي يوفق إليها العبد المسلم حينما يتدبر آيات ربه، ويتفكر في معانيها وفقهها وأسرارها، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
ولهذا وصف أبو عبد الرحمن السلمي الصحابة رضي الله عنهم بقوله: "حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن، كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لأن أقرأ البقرة في ليلة فأدّبّرها وأرتّلها أحب إليّ من أن أقرأ القرآن أجمع هذرمة).
واحذر ـ أخي المسلم ـ من أن يطغى الران على القلب، ومن أن تنتكس الفطر بالعبث واللهو، فإن ذلك مؤذن بحجب نور القرآن عنك، والحيلولة بينك وبين الهدى والحق، قال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، وقد توعد الله المعرضين عن كتابه العزيز بقوله عز وجل: فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِين [الزمر:22].
وأما أهل الإيمان فقد وصفهم الله بقوله تعالى: وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:105-109].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
أما بعد: فعلينا ـ عباد الله ـ أن نتدبر القرآن الكريم عند قراءتنا له، وأن نفهم معانيه وكلماته، ونعمل بأوامره وننتهي بنواهيه وننزجر بزواجره، وأن نقرأ من الكتب التي تعين على ذلك من التفاسير الميسرة.
ولقد كان لسلفنا الصالح مع القرآن الكريم وتدبره قصص معبرة، فمن ذلك قدوتنا محمد بأبي هو وأمي إذ قال لابن مسعود: ((اقرأ عليّ القرآن))، قال: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: ((إني أشتهي أن أسمعه من غيري ))، فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] فقال: ((حسبك)) ، قال ابن مسعود: فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان. وقام ليلة كاملة مردّدًا آية واحدةً: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118].
وقام تميم الداري ليلة حتى أصبح، يقرأ آية يرددها ويبكي: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
ألا فاتقوا الله عباد الله، وعظموا كتاب ربكم، وأدوا حقه عليكم من القراءة والتدبر والحفظ والمراجعة والعناية به، فإنه لا فلاح ولا نجاح ولا سؤدد لأمة الإسلام وأبنائها إلا بالعودة إلى حياضه، والتمسك به وبسنة رسولنا قولاً وعملاً واعتقادًا وفكرًا، واعلموا أن الطريق إلى ذلك ـ رحمكم الله ـ هو تعلم وتعليم هذا القرآن لأنفسنا وأبنائنا وبناتنا وجميع أفراد مجتمعنا، وحمل هذه المسؤولية على عاتق من هو أهل لهذه المهمة العظيمة، فالدور مشترك بين أفراد المجتمع بالدعم المادي والمعنوي، بالدعاء والمؤازرة والتأييد، ومن حملوا هذه الأمانة للقيام بها خير قيام، ألا وهي الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم.
وإنني أذكركم ـ أحبتي ـ بعظيم الأجر لمن أنفق في هذا الشهر خاصة، ولتعليم كتاب الله تعالى بقول المصطفى : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
وأنت ـ أخي المنفق ـ داخل في هذا الحديث إن شاء الله، إذ إنك تعلّم بالمساهمة بمالك والدعاء والنصيحة لإخوانك، وتذكر قول الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261].
وكما عهدناه منكم ـ أيها الإخوة الفضلاء ـ من المسارعة في أبواب البر والخير لما يقربكم الله تعالى، وأذكّر بإحصائية أجريت عام 1989م تشير إلى مجموع التبرعات الكنسية لأغراض التنصير، في حين أن البعض من المسلمين يبخل أن يقدم مبلغًا من ماله لتعليم كتاب الله، فتشير الإحصائية إلى أنه جمع مبلغ وقدره مائة وواحد وخمسون ألف مليون دولار، سُخرت كلها لخدمة النصارى في دعوتهم إلى النصرانية المحرفة الباطلة، أليس حريّ بنا ـ إخوتنا ـ ونحن أهل الإسلام والدين الحق وأهل القرآن المهيمن التام أن نبذل بأموالنا ما يساهم في إصلاح أبناء أمتنا الإسلامية؟! بلى، نحن أحق بذلك منهم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
اللهم إنا نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك...
(1/3912)
شرح حديث: ((اتق الله حيثما كنت))
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, أعمال القلوب
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى التقوى. 2- صفات المتقين كما أخبرت بها الآيات القرآنية. 3- منزلة المتقين عند الله. 4- تقوى الله في السر. 5- المتقون يحافظون على حقوق العباد. 6- صيام ست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله، ولنا اليوم وقفة مع صفة جليلة وخلة عظيمة، فبها نعَتَ اللهُ فئة من عباده، وإليها دعا أنبياءه، وبها تميز أولياؤه. إنها كلمة صغيرة في حجمها، ولكنها عظيمة في أثرها. إنها ـ إخوتي ـ كلمة التقوى.
أما نادانا بها ربّنا في قوارع التنزيل؟! بلى، أما ذكر الله لنا ثواب أهلها فنالوا بذلك المقام الجليل؟! بلى. إذًا، فَحُقّ لنا ـ إخوتي ـ أن نقف عندها، ونتأمّل فيها ونتدبرها، عسى ربنا أن يجعلنا من أهلها، إنه جواد كريم.
فالتقوى في أصلها ـ أحبتي ـ أن يجعل العبد بينه وبين ما يخاف ويحذر وقاية، وأن يعلم ما يُتقى ثم يتقي. وربنا هو أهل التقوى، فمن يُخشى غير الله؟! ومن يعظَّم ويجَلّ ويكرّم إلا الله؟!
والتقوى كما قال علي رضي الله عنه: (الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل). هذه هي التقوى، فمن هو التقي إخوتي؟
سئل معاذ رضي الله عنه: من المتقون؟ قال: (قومٌ اتقوا الشرك وعبادة الأوثان، وأخلصوا لله بالعبادة)، وقال ابن عباس: (المتقون الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى، ويرجون رحمته في التصديق بما جاء به)، وقال الحسن رحمه الله: "المتقون اتقوا ما حُرّم عليهم، وأدّوا ما افترض عليهم"، وقال سفيان رحمه الله: "إنما سُمّوا متقين لأنهم اتقوا ما لا يُتقى"، وقال ميمون بن مهران: "المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه"، وقال ابن مسعود في قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ قال: (أن يطاع فلا يُعْصى، ويذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر).
وتبلغ التقوى تمامها كما قال ذلك أبو الدرداء رضي الله عنه حين يتقي العبد ربه من مثقال ذرة، حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حرامًا، ليكون حجابًا بينه وبين الحرام، فإن الله بيّن للعباد الذين يُصيّرهم إليه فقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]، فلا تحقرن شيئًا من الخير أن تفعله، ولا شيئًا من الشر أن تتقيه.
وننتقل بكم الآن ـ إخوتي ـ إلى نعوت أهل التقوى في كتاب الله، فقال عنهم: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3، 4]، وقال عنهم: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:134، 135].
وأخبر أيضًا عنهم فقال سبحانه: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
إن التقوى ـ إخوتي ـ تفتح مغاليق القلوب، فيدخل فيها نور العلم، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282].
بالتقوى ـ أحبتي ـ يكون الفرقان بين الحق والباطل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]. وبالتقوى ـ إخوتي ـ توسع الأرزاق وتفرج الكربات، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]. وبالتقوى تضاعف الأجور، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].
والمتقون ـ عباد الله ـ أكرم الخلق عند الله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، ولا يقبل العمل من غيرهم، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِين [المائدة:27].
هم الناجون من السعير، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71، 72]. ولهم الفوز أخيرًا بدار الحبور، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
وقد قيل في وصفهم: هم أهل الفضل، منطقهم صواب، وملبسهم في اقتصاد، ومشيهم في تواضع، غضوا أبصارهم عن الحرام، ووقفوا أسماعهم على ما يستفاد، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء، عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، مطالبهم في هذه الدنيا خفيفة، وأنفسهم عما فيها عفيفة، صبروا أيامًا قصيرة فأعقبهم راحة طويلة، يَصُفُّون في الليل أقدامهم، يرتلون قراءتهم، جاثون على الركب، يطلبون النجاة من العطب، لا يرضون من الأعمال الصالحة بالقليل، ولا يستكثرون منها الكثير، من ربهم وجلون، ومن أعمالهم مشفقون، يتجمعون في الفاقة، ويصبرون في الشدة، ويشكرون على النعمة، قريب أملهم، قليل زللهم، الخير منهم مأمول، والشر منهم مأمون.
عباد الله، ولا يظهر الصدق في التقوى إلا حين يستوي عند العبد تقاه في سره ونجواه، إذ كيف يتقي العبد الذنوب أمام خلق الله، ويُظْهِرها في خلوته بمولاه؟! ألم تصف لك المعصية إلا حين خلوت بربك؟! ألم تستح منه حياءك من بعض خلقه؟! وقد قيل قبل: "اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك".
ووصى بعض الواعظين فقال: أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال، في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك.
وإذا ما وقع الإنسان في الخطيئة تعمل التقوى عملَها، فيرجع إلى ربه ويؤوب، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
إخوة الإسلام، وأخيرًا بقيت إشارة إلى ركن مهم في التقوى، كثيرًا ما يغفل عنه الناس، ألا وهو الحفاظ على حقوق العباد بجانب حقوق الله، وقد ذكر ابن رجب رحمه الله ذلك في قوله: "وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيام بحقوق الله والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها"، حتى قال: "والجمع بين القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيز جدًا، لا يقوى عليه إلا الكُمّل من الأنبياء والأتقياء، وقد قال بعض الحكماء: من عزيز الأشياء حسن الخلق مع الديانة، وحسن الإخاء مع الأمانة". جعلني الله وإياكم من المتقين. آمين.
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في أنفسكم، واتقوه في أهليكم، واتقوه في الناس أجمعين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18، 19].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد المرسلين، صلى الله عليه وآله وصحبه الغر الميامين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: اتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله يسّر لعباده طرقًا للطاعات والقربات، يتمّون بها نقصهم، ويسدون بها خللهم، ويحسّنون بها ما سلف من أعمالهم، فالموفق من اغتنمها ففاز بها، والمغبون من غَفلَ عنها فحُرِم منها.
إخوة الإسلام، ما أجمل الحسنة تتبعها الحسنة، والطاعة تتلوها الطاعة، وما أحسن الإحسان يتلوه الإحسان، وإن من الإحسان بعد شهر رمضان المبارك ـ شهر الصيام والقيام والذكر والدعاء ـ أن نُتْبِعَه ستًا من شوال، حيث ندب نبيكم الأمّة إلى ذلك بقوله: ((من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر كله)) رواه مسلم.
ولعل من حكمة مشروعية صيامها إظهار شكر الله، وترويض النفس على متابعة الإحسان بالإحسان، وبيان أن فعل القُرَب ليس مقصورًا على رمضان، وإنما يتجدد في كل زمان.
أما كونُ صيام الست من شوال بعد رمضان كصيام الدهر فهو أن الله يجازي على الحسنة بعشر أمثالها كما في قوله تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]. فصيام رمضان مضاعفًا بعشرة شهور، وصيام الست من شوال بستين يومًا، فحصل من ذلك أجر صيام سنة كاملة.
ومن كان عليه قضاء لشهر رمضان فعليه بالوفاء لما أفطره، ثم يصوم الست من شوال، ولا يُشترط فيها أن تكون متتابعة، وذلك من تيسير الله لعباده ورحمته بهم.
(1/3913)