النفس اللوامة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
11/12/1417
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أقسام النفس في القرآن الكريم. 2- أقسام اللوم المحمود. 3- علامات اللوم المحمود. 4- وجوب المحاسبة قبل العمل وبعده.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، من الموضوعات المهمّة التي تحدّث عنها القرآنُ الكريمُ حديثًا مستفيضًا الحديثُ عن النفس الإنسانيةِ، حيثُ تحدث عن خصائصها بتفصيلات دقيقة لا قبل لعلماء النفس بمعرفتها فضلاً عن غيرهم، ولم الاستغراب؟! أليس هو خالقها وفاطرها؟! وصدق الله: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
لقد تحدث القرآن عن صعودها وهبوطها، وعن جنوحها واعتدالها، وعن ضعفها وعجزها، وعن تقواها وفجورها، وعن زكاتها وطهارتها، وعن تمردها ومكابرتها، وعن حرصها وشحها، كما لفت الأنظارَ إلى أن التفكر في النفس هو أحدُ وسائلِ إدراكِ الحقِ والاعتبارِ، فقال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، وقال: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [فصلت:53].
ولأهميةِ النفس وكونِها محورَ التغيير كما قال: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53]، إضافة إلى أنها سببُ الشقاء أو السعادة أقسم الله بها فقال: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، وقال: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2].
والنفس في القرآن ثلاثة أنواع، هي النفس الأمارة بالسوء واللوامة والمطمئنة، وكل نفس أخرى فهي تندرج تحت أحدِ هذه الأنواع، وقد اختلف هل هي أنواع أم صفات وأحوال؟ بمعنى: هل لكل إنسان ثلاثُ أنفس، أم له نفسٌ واحدةٌ لها ثلاث أحوال؟ والأرجح أن له نفسًا واحدةً لها ثلاث أحوال، لكنه يُنسبُ إلى ما يغلب من طبعه؛ إما أمّارة أو لوامة أو مطمئنة وإن كان له حظًا من الحالتين الأخريين.
أيها الإخوة، والواقع يشهد بما أخبر القرآنُ الكريمُ من أن الشايعَ بين الناس وللأسف هي النفس الأمارة بالسوء، كما قال تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53]، ووجه الاستدلال أن الأصل في المستثنى أنه الأقلُ دائمًا، وقد أكد هذه الحقيقةَ في هذه الآية بثلاثة مؤكدات يعلمها أهلُ اللغة وهي: (إنّ) والجملة الإسمية ولام الابتداء في الخبر (لأمارة)، كما دلت عدة آيات أن النفوس الخيّرةَ هي الأقلُ دائمًا، منها: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، وقوله: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا [الإسراء:89]؛ لذلك كان أهلُ النار أكثرَ بكثير من أهل الجنة، جاء في البخاري عن أبي سعيد عن رسول الله قال: ((يقول الله تعالى: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك، فيقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فعنده يشيب الصغير، وتضع كلُّ ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد)) ، قالوا: وأينا ذلك الواحد؟! فقال: ((أبشروا، فإن منكم رجلاً ومن يأجوج ومأجوج ألف)) ، ومن هنا قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين"، وصدق القائل:
لا تعجبنّ من هالك كيف هوى بل فاعجبنْ من سالم كيف نجا
أيها الإخوة، إن النفس الأمارة بالسوء مذمومة دائمًا ومطلقًا، ليس لها وضع تحمد فيه، وعليه فهي في هذه الحالة مثل الشيطان الرجيم لا يحمد أبدًا، كما قال لأبي هريرة عن الشيطان لما نصحه بنصيحة صحيحة: ((صدقك وهو كذبوب)) ، وانظر إلى صيغة المبالغة في لفظ الرسول ، وكذلك وصف القرآن النفسَ الأمارةَ بصيغة مبالغة: لأَمَّارَةٌ ، إذًا فالنفسُ الأمارة بالسوء والشيطانُ لا تُقبَل نصيحتُهما مهما بدت أنها خالصة، وصدق الشاعر:
وخالف النفسَ والشيطان واعصهما وإن هما محضاك النصحَ فاتَّهمِ
ولمّا كانا بهذه الخطورة في الصدّ عن الحق وتزيين الباطل مقابل عجز الإنسان عن مقاومة شرورهما وتزينهما كان لزامًا على الإنسان أن يلجأ إلى الله مستعيذًا به من شرهما ووسوستهما، ولعل هذا سببُ كثرة استعاذة رسولِ اللهِ بالله من شرور النفس في خطبِه قائلاً: ((ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا)). ومن هذا المنطلق أيضًا علَّم أبا بكر دعاءً يقوله صباحًا ومساءً يستعيذ فيه بالله من النفس والشيطان، روى الترمذي وصححه أن أبا بكر قال: يا رسول الله، مُرني بشيءٍ أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت قال: ((قل: اللهم فاطرَ السمواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ، ربَّ كلِ شيءٍ ومليكَه أشهد أن لا إله إلا أنت، أعوذُ بك من شرِّ نفسي ومن شرِّ الشيطان وشِركِهِ، قله إذا أصبحتَ وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الإخوة، النفسُ الثانيةُ هي اللوامة، وقد أقسم الله بها في قوله: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2]، واللوامةُ هي كثيرةُ التعنيفِ والتوبيخِ لصاحبها، وقد ذهب بعضُ المفسرين أن وصفها باللوامة ذمٌ لا مدحٌ، والصواب التفصيل بالنظر إلى ما تلوم عليه، فإن لامت على الخير فهي مذمومة وملحَقةٌ بالأمارة؛ لأنها ندمت على فعل الخير، وإن لامت على الشر فهي محمودةٌ وفي طريقها في الرقي إلى مرتبة النفس المطمئنة.
واللوم المحمود نوعان: مؤقّت ودائم، فالمؤقت غير مثمِر، وهو اللوم العابر الذي لا أثر له، كلومِ الإنسانِ نفسَه على التقصير عند سماع موعظة، أو إذا مرت به مصيبةٌ وشدةٌ، أو رأى مبتلًى، لكن لفترةِ الحدث دون أن يعزم على الترك أو الفعل بمقتضى اللوم، فيكون مجردَ حديث نفس، ولذلك اشترط العلماء في التوبة المقبولة شرطين غيرَ الندم كدليلٍ على صدق الندم هما: الإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة.
أما اللوم الدائم فهو المثمر، وهو الذي يستمر أثره في النفس وتعقبه محاسبة ومراقبة، ونتيجته الاستقامة، وهو نوعان: لوم وتأنيب على ارتكاب العمل المحرم؛ كلوم النفس على الزنا وشرب الخمر والغش والخيانة وتعاطي الربا ونحو ذلك، ولوم وتأنيب على التقصير في العمل الصالح، وله صورتان: الأولى: لومُ النفس على التقصير في أصلِ العمل الصالح؛ كترك الصلاة وترك التصدق على المسكين أو عدم قراءة القرآن الكريم ونحوه، والثانية: لومُ النفس على التقصير في الاستكثار من العمل الصالح؛ كلومها على التصدق بمبلغ صغير وكلومها على عدم المواظبة على الورد القرآني وعلى قيام الليل وقتًا قصيرًا ونحوه.
أيها الإخوة، كما أشرنا حتى يكون هذا اللوم نافعًا ومثمرًا لا بد أن يكون جادًا وصادقًا لا تمثيلاً وادعاءً، وله علامات:
أولها: المبادرةُ إلى الترك أو الفعل وتركُ التسويف.
ثانيها: اتخاذُ الأسباب والوسائلِ المعينة على الترك أو الفعل، كهُجران رفقاء السوء الذين يذكّرونه بالمعصية، وكالنوم المبكر وتوقيت المنبّه لمن ينام عن صلاة الفجر، وبدون المبادرة واتخاذ الأسباب يغدو الندم مجرّد دموع التماسيح وأماني، وقد قال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ [النساء:123]، أي: ليس ما وعد الله من الثواب يحصل بأمانيكم أيها المسلمون، ولا بأماني أهل الكتاب، وإنما يحصل بالإيمان والعمل الصالح. وانظر كيف عرَّض القرآنُ بالمنافقين واعتبرهم كاذبين في ندمهم على عدم الخروج في غزوة تبوك فقال تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة:46].
أيها الإخوة، إن اللوم والتأنيب الصادق يمكن أن يكون مضادات معنوية تحمي الإنسان من التفريط والتقصير، كما تحمي المضادات الحيوية جسمه من الجراثيم، بل يمكن أن يكوِّن مناعة دائمة للنفس حتى تصبحَ نفسًا مطمئنة، وذلك إذا تعود الإنسان على محاسبة نفسه قبل أي فعل وبعده. يقول الحسن رحمه الله: "إن المؤمن ما تراه إلا يلوم نفسه: ماذا أردت بكلامي؟ وماذا أردت بعملي؟ وإن الكافر يمضي ولا يحاسب نفسه ولا يعاتبها"، ويقول ابن القيم رحمه الله: "المحاسبة قبل العمل وبعده، فأما قبل العمل: فبأن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رُجحَانُه على تركه، وقال الحسن: رحم الله عبدًا وقف عند همّه، فإن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر، هذا قبل العمل، وأما بعد العمل فبمحاسبتها على طاعة قصّرت فيها فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي، فإن كان مما يستدرك استدركه، وإلا عاد على نفسه باللوم والندم والتوبة والاستغفار، وجدد العزم وسأل الله العفو والصفح والغفران.
وأتمنى لو أن كل واحد منا قبل أن يقدم على عمل سأل نفسه ثلاثة أسئلة: هل هذا العمل يحقق مرضاة الله أم سخطه؟ وهل هذا العمل يحقق أهدافي وغاية وجودي أم لا؟ وهل هذا العمل يقوي أمة الإسلام أم يضعفها؟ فإن كان الجواب بالنفي فلا ينبغي أن يقدم عليه، ولو أجابته نفسه فإنه من الشيطان ومن النفس الأمارة بالسوء.
(1/3700)
حِكم تأخر النصر
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
10/1/1418
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ذكر الآيات القرآنية الدالة على انتصار الحق واندحار الباطل. 2- أسباب تأخر نصر الله للمؤمنين 3- من أسباب النصر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، يقرأ المسلم في القرآن عشرات الآيات التي تؤكد انتصار الحق واندحار الباطل، فآيات تعد المؤمنين بالنصر والتمكين كقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، وآيات تبين أن نصر المؤمنين وعد من الله، ووعد الله حق لا يتخلف: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وقوله: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ [الصافات:171-173]، وآيات تنفي أن يكون للكافرين سلطان على المؤمنين: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، وأخرى تؤكد أن الكفرة مهزومون مغلوبون غيرُ معجزين: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21]، وقوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ [الأنفال:59]، وقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ [النور:57]، وتأمل المؤكدات اللغوية في الآيات.
وهذه الآيات كلها محكمة غير منسوخة، لكن واقع أمة الإسلام اليوم يجعل المسلم في حَيرةٍ من أمره، فبالمقياس المادي والمنظور القريب لا يرى المسلم ملامح النصر تلوح في الأفق، بل لا يرى إلا الذلة والهوان وتسلط الأعداء والوِصاية على الأمة والاستخفاف بها.
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذنون وهم شهود
ولولا هذه الآيات والأحاديث الواعدة لأصيب الإنسان باليأس والقنوط. وهنا يبرز سؤال، بل تحصل فتنة للمسلم: أين نصرُ الله؟! ومتى يتحققُ وعدُ الله؟!
أقول: إن الله لم يرد أن يكون حَمَلةُ دعوتِه وحُماةُ دينه من التنابلةِ الكُسالى الذين يجلسون في استرخاء ينتظرون نصرًا سهلاً هينًا بلا عناء، لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون بالدعاء كلما مسهم الأذى ووقع عليهم الاعتداء.
نعم، يجب أن يفعلوا ذلك، لكن هذه العبادةَ وحدها لا تؤهّلهم لحمل دعوةِ الله وحمايتِها، كما أن النصرَ السريعَ الهينَ الذي ينزل على أناس غيرِ مؤهلين لم يبذلوا من أجله شيئًا سيكون رخيصًا في نفوسهم، ولن يبذلوا جهدًا للحفاظ عليه، فما جاء هينًا ذهب هينًا ولا بد، ولقد حاول سيد رحمه الله استلهام حِكم تأخرِّ النصرِ، فذكر عدة حِكم منها:
فقال: "النصر قد يبطئ؛ لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها"، نعم هذه أهمُ الحكم؛ فالأمة لم تنته بعد من تيهها، فلقد غُيِّبت حينًا من الدهر عن دينها، ورفعت شعارات فكرية تصطدم مع عقيدتها أغلى ما تملكه، ومارست كثيرًا من الشركيات السلوكية، وما زال أهم مقتضيات التوحيد مائعًا أعنى: الولاء، يقول رسول الله : ((إن أوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله)) ، فما زال ولاء الأمة متشتّت في الشرق والغرب، بل أصبح وللأسف تعاملنا مع بعضنا بعكس ما وصف الله المؤمنين في قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54]، وأصبح بأسنا بيننا شديدا، بل أشدّ مما على اليهود، كما قال الشاعر:
وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضًا عيانًا
وقال: "قد يبطئ النصرُ حتى تبذلَ الأمةُ المؤمنةُ آخرَ ما في طوقِها من قوةٍ، وآخرَ ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا إلا بذلته رخيصًا في سبيلِ اللهِ". أقول: ليسأل كلّ واحدٍ منا نفسه: ماذا بذل؟ وما حجمُ تضحياته من أجل نصرة دينه، أو تأييد العاملين لنصرة الدين مقارنة بما يبذله من أجل دنياه؟! لو أن النصر تحقق لنا الآن ونحن نؤثر عليه دنيانا لن تكون له أيُ قيمةٍ في نفوسنا، بل سنقول: ها نحن قد نُصرنا ونحن محادّين لدينه ومشاقّين له، فما قيمةُ العبادةِ والطاعةِ إذًا، وبعد نزول النصر ـ بلا شك ـ لن نكون حريصين على المحافظة عليه؛ لأن ما جاء هينًا وبلا بذلٍ سيذهبُ كما جاء.
وقد يبطئ النصر حتى تجرّب الأمة آخرَ قواها، فتدركَ أن هذه القوى وحدها بدون سند من الله لا تكفل النصر، بل النصر من عند الله.
إن القوةَ الماديةَ رغم أهميتها إلا أنها ليست هي الأساس، بل هي تبع، وفي يوم حنين اغترّ المسلمون بالقوة المادية، فتلقّوا درسًا قاسيًا، وعُلِّموا أن النصر لا يعتمد على القوّة المادية بالدّرجة الأولى، قال تعالى: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا [التوبة:25]. لقد تلقّوا الهزيمة أوّل الأمر، وفرّ القوم حتى لم يثبت مع رسول الله إلا قرابةُ مائةِ، وقبل قليل يقول أحدهم: لن نهزم اليوم من قلة، اغترارًا بالعَدد، وعلى هؤلاء القلةِ الثابتةِ مع رسول الله نزلَ النصرُ وأسِرَ ستة آلاف أسيرا، ولكثرة الغنائم كان يعطي الرجل من المؤلفة مائة من الإبل، قال تعالى: ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [التوبة:26].
وقد يبطئ النصرُ لتزيدَ الأمةُ المؤمنةُ صلتَها بالله، نعم يجب أن تركن إلى الله وحده، وتكفرَ بأي سند سوى الله، وتؤمِن يقينًا بقول الله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]، وبقدر قوة الصلة بالله والركون إليه والتوكل عليه تكون سرعة تنزل النصر، لذلك كانت وصيةُ الخلفاءِ لجيوشهم حثَهم على تقوى الله وتحذيرَهم من المعاصي، فمن وصايا عمر لقادته: (آمرك ومن معك بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، آمرك ومن معك أن تكون أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليس كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا فلن نغلبهم بقوتنا).
_________
الخطبة الثانية
_________
من الحكم أنه قد يبطئ النصرُ لأن الأمة المؤمنة لم تتجرّد بعد من حظوظ نفسها، كثيرٌ منا يريد إسلامًا بمقاس معين يتكيّف مع رغباته، فإن تعارض مع هذه الرغبات طوَّعَه وإلا تركه، وأظهر حظوظ النفس حب الدنيا والرياء والسمعة والانتصار للنفس حمية والاستحسان العقلي، ومن هنا كان الشرك والرياء والبدعة محبطة للعمل، قال رسول الله : ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) ، وقال رسول الله : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) ، وسئل رسول الله عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه: فأيها في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة هي العليا فهو في سبيل الله)). نعم، ليس لحزب أو جماعة أو طائفة أو قبيلة، ويوم حصل جزء من النصر والنفوس لم تتجرد من حظوظ نفسها وجه المسلم سلاحه الذي كان موجها إلى الكفرة لأخيه المسلم ـ اللهم إنا نعوذ بك من شماتة الأعداء ـ لأن الباطل لم ينكشف زيفه أمام الناس، والله يريد إظهار الباطل عاريًا للناس حتى لا ينخدع به أحد بعد ذلك.
يا لها من حكمة عظيمة، قد يدّعي الصلاح والإصلاح من هو عدوّ للصلاح والإصلاح، ويمثل الدور بإتقان، ويظهر غَيرتَه على الدعوة، فيغترّ كثير من الناس بعدو الله ولا يشكّون فيه؛ لأن اسمه محمد أو أحمد، بل قد يتهم غيره بالعمالة والخيانة، فيلتبس الأمر على الناس، وقديمًا اتهم فرعون اللعين موسى الكليم عليه السلام بالخيانة والتآمر: وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]، فيتأخر النصرُ حتى ينكشفَ الباطلُ كلُه ويتعرّى، وما يعود أحد يغترّ به، فيأذن الله بزهوق الباطل وظهور الحق، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]؛ لأن البيئة لا تصلح بعد لاستقبال الحقّ والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة؛ لأن الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة فيه بقايا خير يريد الله أن يستخلص هذا الخير، ليُهلكَ بعد ذلك الشرَ المحضَ.
أيها الإخوة، إن النصر آت لا محالة كما وعد الله، لكن السؤال الذي ينبغي أن يسأل كل واحد منا نفسه: هل أنا ممن استحق أن يتنزل عليه نصر الله؟ وهل أنا ممن يحسِبُ الأعداءُ له حسابًا، أم أنني ممن يتمنى الأعداء أمثاله؟ وهل أنا صفر ذو قيمة في الصراع بين الحق والباطل، أم أني من الأصفار التي لا يؤبه بها لأني من أصفار الشمال؟ ليس الذي يحدد ذلك شهادتك أو مركزك أو جاهك، كلا، بل الذي يحدد ذلك أهدافك وأمانيك وبرامجك، هل هي تدور مع مصلحة الإسلام أينما دار، أم تدور مع مصالحك الشخصية؟
ارتفع ـ يا عبد الله ـ لمستوى التحدّي الذي تتعرّض له أمتك أن نكون أو لا نكون، عش لدينك ولأمتك تعش كبيرًا وتمت عزيزًا ويخلد ذكراك، وإن أبيت إلا أن تعيش لمصالحك الشخصية فستعيش صغيرًا وتموت ذليلاً وتعدّ في عداد الأموات وأنت حيّ، وصدق الشاعر:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات
أو كما قال شوقي:
الناس صنفان: موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء
(1/3701)
وقفة مع أرجى آية في القرآن
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التوبة, القرآن والتفسير
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
24/1/1418
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب نزول قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وما روي في فضلها من أحاديث. 2- وقفات تأمل مع الآية الكريمة. 3- دعوة للتوبة والإنابة قبل حلول الأجل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، لنا وقفة في هذه الجمعة مع آية اعتبرها بعض الصحابة كعلي وابن مسعود رضي الله عنهما أنها أرجى آية في كتاب الله، أتدرون ما هذه الآية؟ أرجو أن تفتحوا لهذه الآية قلوبَكم وتُعيروها أسماعَكم وتتدبروا ألفاظَها وكلماتِها، لعل الله يشرح صدورَنا وينيرُ عقولَنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
ما أعظمَها من آية، وما أرجاها من رحمة، أين أين الصادقون الراغبون في رحمة الله؟! ألا هلمّوا وتعالَوا وأقبلوا، ها هنا بغيتكم وحاجتكم، يا لغبن من يئس من غفران ذنوبه، وقنطَ من إصلاح علاقته مع الله بعد هذه الآية، يا له من محروم، أتدري فيمن نزلت هذه الآية؟! اسمع ما ذكره الشيخان وغيرهما في سبب نزولها: عن ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [الفرقان:68]، ونزل: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].
ولفرح رسول الله بهذه الآية رحمةً بأمّته كما وصفه الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] روِي أنه قال: ((ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية)) ، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك؟ فسكت النبي ثم قال: ((ألا ومن أشرك)) ثلاث مرات. أخرجه أحمد.
وفي المسند عن عَمرو بن عَبسة قال: جاء رجل إلى النبي شيخ كبير يَدَّعم ـ يستند ـ على عصًا له، فقال: يا رسول الله، إن لي غَدَرات وفجَراتٍ فهل يُغفر لي؟ قال: ((ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟!)) قال: بلى، وأشهد أنّك رسول الله، قال: ((قد غُفر لك غَدَرَاتُك وفجراتُك)). والفجور: إتيان المعاصي مع عدم المبالاة بفعلها.
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية وقد أورد هذه الأحاديث: "فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع الذنوب مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت؛ فإن باب الرحمة والتوبة واسع، كما قال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [التوبة:104]، وقال عز وجل: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]، وفتح الباب للمنافقين فقال: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا [النساء:145، 146]، وقال عن أهل التثليث: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:73]، ثم فتح لهم باب التوبة فقال: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:74]، وفتح الباب لقتلة أوليائه فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، فقيد العذاب بعدم التوبة، يقول الحسن رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرمِ والجودِ، قتلوا أولياءَه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة".
ولنتأمل في ألفاظ هذه الآية، لقد بدأها بنداء: يَا عِبَادِي ، ما ألطفه من نداء، يَا عِبَادِي أي: يا أيّها المنتسبون إليّ، فنسبهم إلى نفسه نسبَة تشريف وتكريم وأعطاهم الأمان.
ومما زادني تيهًا وشرفًا وكدت بأخمصي أطأ الثُريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن أرسلت أحمدَ لي رسولاً
لا إله إلا الله، أتدري من ينادي الكبيرُ المتعالُ الغنيُ الحميدُ؟ إنه يناديني أنا وأنت، بل ينادي من بالغ منا في المعصية الَّذِينَ أَسْرَفُوا ، ينادينا بهذا النداء اللطيف الرحيم وهو غني عنا وعن طاعتنا وعن عبادتنا، كما قال في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا)) ، أيعقل؟! الغني ينادي الفقير، والقوي ينادي الضعيف، وغير المحتاج ينادي المحتاج، ألسنا نحن المعنيين بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]؟! ما أكرمك وما أحلمك يا الله.
يا عباد الله، إن هذا النداء ـ بجانبِ الرحمة ـ يُبرزُ لنا جانبًا عظيمًا من جوانب هذا الدّين، وهي العلاقة المباشرة بين العبد وربّه، فلا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء بين العبد وربّه، فلا تحتاجُ لتصلحَ علاقتك مع الله إلى وساطات، أو تقديمِ اعترافات أمام عالم أو إمام، وبابه ليس عليه بوّابين ولا حراس لتستأذنهم للدخول، كلا.
تعال إذًا ـ يا عبد الله ـ ولج، فبابُه مفتوح على مصرعيه، هيا ادخل على رب كريم غير غضان، إياك إياك أن تقع في شراكِ عدوك إبليسَ اللعين، احذر أن يقنطَك من رحمة الله، فمولاك يقول لك: لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ، لا تيأس فاليأس كفر، إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87]، وكيف تعالج الذنب الصغير بذنب أكبر؟! إن ربك لا يبالي بعظمِ ذنبك ما دام أنك رجعت إليه تائبًا ومنيبًا، أما سمعت ما قال على لسان رسوله في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بِقُراب الأرض ـ بما يقارب مِلأها ـ خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
نعم يا عباد الله، ودّ عدونا لو يظفر بتيئيسنا من رحمة الله، كما يقول الحسن البصري رحمه الله لمّا قيل له: ألا يستحي أحدنا من ربه، يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود؟! فقال: "ودَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تَمَلّوا من الاستغفار"، ولذلك قال ابن عباس : (من آيس ـ عبادَ الله ـ من التوبةِ بعد هذا فقد جحد كتاب الله عز وجل).
ثم لاحظ ـ يا عبد الله ـ المؤكداتِ التي جاءت بعد النهي عن القنوط من رحمة الله فقال: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، وهذا يَعُمُّ جميعَ الذنوب، ومع ذلك لم يكتف بذلك الإطلاق بل أكده بقوله: جَمِيعًا ، ثم ختم الآية بإظهار صفتين من صفات الله ذي اللّطف والرحمة، فقال: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أخي في الله، صحيح أن البابَ مفتوحٌ، لكنه لن يظلَ مفتوحًا إلى الأبد، فقد يُغلق في أيّ ساعة، وقد يَحولُ الموتُ بينك وبين دخوله إن لم تنتهز هذه الفرصة، لو حصل ذلك ـ لا قدّر الله ـ ستندم حين لا ينفعُ الندم، وتغتم حسرةً، وعندها ستكون أحدَ ثلاثةٍ لا قدّر الله، اسمع ما يقول مولاك: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:54، 55].
عندها ستعتذر بأعذار واهية وهي ثلاثة، اسمع العذر الأول: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ [الزمر:56]، والعذرُ الثاني: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]، أما الثالثُ: أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58].
يقول ابن عباس : (أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه)، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14]. وفي مسند أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله قال: قال رسول الله : ((كلُ أهلِ النار يرى مقعده من الجنة، فيقولَ: لو أن الله هداني، فتكونَ عليه حسرة)) ، قال: ((وكلُ أهلِ الجنة يرى مقعدَه من النار، فيقولَ: لولا أن الله هداني، قال: فيكونُ له شكر)).
أيها الإخوة، أتدرون ماذا يكونُ الجوابُ عن تلك المبررات والأعذار؟ إنه التكذيب والإدانة التي لا يملك معها الإنسان الإنكارَ؛ لأن شهودَ الإدانة هم أقرب الأشياء إلينا، نعم إنها أعضاؤنا وجوارحنا، وأنى لأحدٍ الإنكار والفاعلُ يُقرُّ بفعلته؟! إنه الخزيُ والعارُ والفضيحةُ.
اسمع الرد على الأعذار الواهية والأمنيات الفارغة: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ [الزمر:59]، أي: من الجاحدين بلسان حالك أو مقالك.
يا عبد الله، إذا كنتَ لا تريدُ أن تقفَ موقفَ الخزيِ والعارِ ـ وما إخالك إلا كذلك ـ فالبدارَ البدارَ إلى التوبة والأوبة واتباعِ أحسن ما أُنزل إلينا قبل فوات الأوان بالموت أو الران، وفي الحديث: ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).
اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجدَّ بالكفار مُلحِق، اللهم قاتل الكفرة والمجرمين الذين يحاربون دينك، ويصدون عن سبيلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.
(1/3702)
التقوى
الإيمان
فضائل الإيمان
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التقوى. 2- رد على فهم خاطئ لكون التقوى في القلب. 3- فوائد التقوى. 4- عاقبة المتقين.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي عمر بتقواه قلوب المتقين ، وجعل تقواه سبيل النجاة للأولين والآخرين ، فمن رام الفوز والفلاح ورغب في السلامة والنجاح فعليه لزوم نهج المتقين وسلوك سبيل المحسنين ، أحمده تعالى وأشكره ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين ، بعثه بالهدى ودين الحق.
أما بعد: عباد الله ، اتقوا الله وأطيعوه ، فالتقوى وصية الله للأولين والآخرين ، كما قال تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء:131]. وهي من أول ما صاح به المرسلون في أقوامهم ، كما حكى الله عن رسله فقال: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:107]، وقال تعالى: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:124]، وقال: إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:161]، وقال: إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ [الشعراء:177].
وكان نبينا يوصي بها أصحابه في خطبه ومواعظه ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بها نبيه خاصة ، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ [الأحزاب:1]. والمطالع لكتاب الله سبحانه وتعالى يرى ويشهد بأنه سبحانه أمر بالتقوى كثيرًا ، حتى إنني لأظن أن الله تبارك وتعالى لم يكرر الأمر بشيء من محبوباته كما كرر ورود الأمر بالتقوى.
وأنت ـ أيها الأخ المبارك ـ لا يكاد يمر عليك عدد من الأيام إلا ويطرق سمعك الأمر بتقوى الله تعالى ، إما في خطبة الجمعة ، أو غيرها من المواعظ ، أو في قراءتك للسنة النبوية أو القرآن ، ولا شك أن تكرر هذا الأمر وتردده وعناية الله به واتفاق الرسل في دعوة أقوامهم إليه يوجب أن يقف عنده المتدبرون ، ويتأمله العارفون ، فيكشفوا حقيقته وسر اعتناء الله ورسله به ، ويتعرفوا على فضل التقوى ، وصفات أهلها ، عسى أن يكونوا من المتقين الفائزين.
فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية ، تقيه وتحميه ، فتقوى العبد لربه سبحانه هي أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية بفعل أوامره ، وترك نواهيه ، رغبة ورهبة. قال عمر بن عبد العزيز: "ليس تقوى الله بصيام النهار ، ولا بقيام الليل ، والتخليط فيما بين ذلك ، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله ، وأداء ما افترض الله".
فتقوى الله ـ أيها المؤمنون ـ ليست شعورًا جامدًا محبوسًا في قلب العبد ليس له أثر ولا ثمر ، بل التقوى هي حارس قائم في أعماق الضمير ، يحمل المؤمن على امتثال أمر ربه ، وترك نهيه، فكل حركة وسكنة لا بدّ فيها من تقوى الحي القيوم ، فتقوى الله تعالى يحتاجها العبد كلما تردد نفَسه ، أو خفق قلبه ، أو نبض عرقه ، أو تحرك لحظُه ، يحتاجها الصغير والكبير ، والذكر والأنثى ، ولذلك كانت وصية النبي لمعاذ بن جبل رضي الله عنه ولكل مؤمن ومؤمنة: (( اتق الله حيثما كنت )) [1].
فاتقوا الله عباد الله ، والتزموا شرعه في العسر واليسر ، والفقر والغنى ، والمنشط والمكره ، والغيب والشهادة، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
فتقوى الله يحتاجها كل أحد ، احتاجها المرسلون في تبليغ رسالة ربهم ، وتقوى الله يحتاجها العلماء والدعاة للوفاء بما أخذ عليهم من بذل الحق والصدع به ، والنصح للأئمة والأمة ، صغيرها وكبيرها ، ذكرها وأنثاها ، ليكونوا كما وصفهم الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
وبهذا يتبين لنا خطأ الذين ظنوا أن تقوى الله تعالى هي الشعور الكامن في القلب الذي لا يتدخل في شؤون الجوارح ، فتجد صاحب هذا الظن يقصر في الطاعات ، ويغامر في أنواع من المنكرات ، ثم إذا قلت له: اتق الله ، دارت حماليق عينه ، وفار الدم في عروقه ، وقال لك بلسان الواثق ، ضاربًا بيده على صدره: التقوى ها هنا! التقوى ها هنا! التقوى ها هنا!
الله أكبر، ما أخطر انقلاب المفاهيم ، وتبدل الأفكار ، إنها ـ والله ـ كلمة حق أريد بها باطل ، فهل يصح عند أولي العقول والأبصار ، فضلاً عن المتقين الأخيار أن يتقلب العبد بين ترك الواجبات وانتهاك المحرمات ، ثم يكون ممن امتحن الله قلوبهم للتقوى؟! لا والله ، وألف لا.
وما أراد النبي بقوله: ((التقوى ها هنا)) وأشار إلى صدره ، ما يزعمه أصحاب هذا الفهم المغلوط والدين المنقوص، إنما أراد أن يبين أن أصل التقوى في القلب ، كما قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج: 32]، فإن ما في القلوب من خير أو شر لا بد وأن ينكشف عنه الستر ، إما في الدنيا ، أو يوم تبلى السرائر.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
أيها المؤمنون ، إن تقوى الله سبحانه وتعالى إذا استقرت في القلوب وارتسمت بها الأقوال والأعمال والأحوال أثمرت وأعقبت من الفضائل والفوائد والثمار شيئًا كثيرًا ، به تصلح الدنيا والآخرة دار القرار ، وبه تشحذ همم أولي الأبصار إلى صراط العزيز الغفار.
أيها المؤمنون ، إن من فوائد التقوى وثمارها أنها سبب لتيسير العسير ، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4]. وتقوى الله تعالى سبب لتفريج الكروب وإيجاد المخارج والحلول عند نزول الخطوب ، وهي سبب لفتح سبل الرزق ، قال الله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].
[1] أخرجه أحمد من حديث معاذ بن جبل (21047), وهو عند الترمذي في البر والصلة من حديث أبي ذر (1910).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين ، والصلاة على إمام المتقين ، نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: أيها المؤمنون ، إن تقوى الله تعالى هي خير ما يَقْدم به العبد على الله يوم العرض، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
هذه بعض فوائد التقوى وثمارها في هذه الدنيا، أما يوم المعاد، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من اتى الله بقلب سليم، فإن تقوى الله تعالى أعظم جُنة يحتمي بها العبد في ذلك اليوم، قال ابن القيم رحمه الله:
وخذ من تقى الرحمن أعظم جُنة ليوم به تبدو عيانًا جهنم
ويأتي إله العالمين لوعده فيفصل ما بين العباد ويحكمُ
فتقوى الله سبب لنجاة العبد من الهلاك والعذاب والسوء ، قال تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61]، وهي سبب لتكفير السيئات ورفع الدرجات والفوز بالغرف والجنات ، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:5]، وقال تعالى: لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ [الزمر:20].
فاتقوا الله عباد الله ، فإن تقوى الله تعالى هي أكرم ما أسررتم ، وأعظم ما ادخرتم ، وأزين ما أظهرتم.
قال تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]. والآيات في بيان جميل عاقبة المتقين كثيرة عديدة ، وكفى بقوله : وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين [القصص:83] على ذلك دليلاً.
فتزودوا ـ أيها المؤمنون ـ من تقوى الله تعالى ، فإنها خير زاد ، كما قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، ولا نجاة إلا بهذا الزاد:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت يوم الحشر من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله وأنك لم تُرصد كما كان أرصدا
فاتقوا الله عباد الله، وتواصوا بينكم بذلك، فإن هذا هو سبيل المتقدمين من السلف الصالحين المتقين.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى ابنه عبد الله: (من عمر بن الخطاب، إلى عبد الله بن عمر.
أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل، فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه، ومن شكره زاده، واجعل التقوى نصب عينيك، وجلاءَ قلبِك).
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل من أصحابه: "أوصيك بتقوى الله، فإنها أكرم ما أسررت، وأزين ما أظهرت، وأفضل ما ادخرت، أعاننا الله وإياك عليها، وأوجب لنا ولك ثوابها".
ولما كان هذا هو سبيل الأولين بارك الله في أعمالهم وأقوالهم وأرزاقهم، وفتح عليهم من الخيرات ما لم يكن منهم على بال، فكانوا خير أمة أخرجت للناس في دينهم ودنياهم. وكل من أراد العز في الدين والدنيا والبركة في الرزق والوقت والعمل فعليه بتقوى الله تعالى، فإنها من أعظم ما استنزلت به الخيرات، واستدفعت المكروهات.
قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96].
(1/3703)
شخصية أسماء بنت أبي بكر
سيرة وتاريخ
تراجم
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
1/2/1418
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر البيت في التنشئة الصالحة. 2- مناقب أسماء بنت أبي بكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
من المسلَّمات أن أثرَ القدوة العمليّة لا يعدلها شيء في هذا الباب، فكثيرًا ما تكون المبادئ صحيحة، لكن يحول دون الالتزام بها عدم وجود القدوات في المجالات المتعدّدة، يجسدون المبادئ والأخلاق بأفعالهم لا بأقوالهم، منفّذين لا منظِّرين، وصدق القائل:
ما أقبح التزهيد من واعظ يزهِّد الناس ولا يزهَد
ولقد اصطفى الله لنبيه رجالاً ونساءً رباهم على عينه، وجعلهم منارات هدى يستضاء بها عبر التاريخ، وكلما خلا زمانٌ من القدوات ـ وفعلاً قد خلا زماننا من أمثالهم ـ وعُقمَ النساء أن يلدن أمثال عمر وخالد والمثنى رضي الله عنهم، فما بقي إلا التشبه بهم، كما قيل: وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاحٌ
قدوتنا اليوم امرأة لكنها ليست كالنساء، وقفت مواقف رجولية يعجز عنها الرجال بل عما دونها، قال المتنبي:
ولو أن النساء كمن فقدنا لفضِّلت النساء على الرجال
فلا التأنيث لاسم الشمس عيبٌ ولا التذكير فَخرٌ للهلال
قدوتنا صحابية جليلة كريمة عزيزة أبيّة، ورِثت العزةَ والكرامة من أبيها، وصدق الله: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:34]، وانظر إلى أثر البيت في التنشئة على مبادئ الإسلام وقيَمه، نشأت في بيتٍ أهلُه أعزّاء لا يعرفون الذلّ، كرماء لا يعرفون البخل، شجعان لا يعرفون الجبن، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا تأخذهم في الله لومة لائم، قال أبوها: (أينتَقَص الدين وأنا حيّ؟!)، وذلك يوم ارتدّت العرب بعد وفاة رسول ، وقال بكل عزيمة: (والله، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدّونه إلى رسول الله لقاتلتهم عليه). وردّ أخوها على مروان بن الحكم لمّا دعا إلى بدعة وسوّغها بالزعم أنها سنةُ أبي بكر وعمر، فقال: (بل سنّة هرقل وقَيصر). وسترى مواقفها هي كذلك أمام الكفرة والظلمة.
إنها إمرأةٌ جمعت فضائلَ شتى ومزايا جمّة، فأبوها الصديق، وزوجها حواريُ الرسول، وابنها شهيدُ الحق، وهي صاحبة اللقب الشريف: ذاتُ النطاقين، أتدري ما ذاتُ النطاقين؟ أي: ذات الوعاءين، جعلت نطاقها قسمين: أحدهما لحمل طعام رسول الله، والآخر لنقل شرابه يوم اختفى في غار ثور، فقال رسول الله: ((أبدلك الله بنِطَاقِكِ هذا نطاقين في الجنة)).
أما مزاياها ومناقبها:
1- فأولها: أنها من السابقين إلى الإسلام، فقد كان إسلامها بعد سبعة عشر شخصًا دخلوا في الإسلام، وحسبك بها من منقبة عظيمة، قال عنها الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة:10، 11]، وقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10].
2- هي الأمينة المؤتمنة، فقد ائتمنها رسول الله على حياته ثقة بأمانتها، فاتخذ رسول الله قراره الخطير وهي شاهدة، لمّا قرر رسول الله الهجرة وجاء إلى بيت أبي بكر ليخبره قال له: ((أخرج عني من عندك)) ، فأجاب أبو بكر: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، فلم يعترض رسول الله إقرارًا منه بتزكية أبي بكر لهما، وهذه إشارة من الرسول أن أسماء وعائشة قد ارتفعتا ـ رغم صغر سنهما يومئذ ـ إلى مستوى المسؤولية، فلا حرج من شهودهما اتخاذ القراراتِ الخطيرةِ والمصيريةِ.
وليس أدلّ على هذه الثقة من رضاه لتكون مسؤولة عن تموينهما في فترة الاختفاء واشتداد الطلب لهما من أعدائهما، وهذا أكبر دليل على أمانتها وحفظها للأسرار، بل حتى مع تعرضها للتعذيب تأبى الخيانة، وإليك هذا الدليل: لما علم المشركون بخروج الرسول جنّ جنونهم، وفقدوا صوابهم فهاجوا وماجوا، وفي مقدمتهم عدوُ الله أبو جهل، جاء هائجًا كالثور إلى منزل أبي بكر فقابلته قدوتنا، فلما فتح له الباب، قال: أين أبوك؟ ومتى خرج؟ وإلى أين سار؟ لقد زادته هيجانًا بردها الهادئ: لا أعلم، ازداد غيظًا وأقسم باللات والعزى مهددًا لئن لم تفصحي لنؤذينك، فجاء جوابها أثبت من الأول: لا أعلم، وافعل ما بدا لك، ما كان من النذل الطاغية إلا أن لطمها لطمةً أطارت خرصها من إذنها، وسال دمها الزكي الطاهر، لكنها لم تبال ولم تضعف، بل زادها قوة وثباتًا، ولمَ نستغرب من ثباتها وأمانتها؟! أليست ابنةَ الصديق؟!
3- من مناقبها أنها كانت معينةً لأبيها في نيل رضا الله، ذابةً عن عرضه أن يمسَ بغير حق، ولو كان من أقرب الناس إليها كأبيه وجدها، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]، والعبرة بعموم اللفظ.
وقال القائل:
وظلم ذوي القرى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
فكم صد ذوو القربى عن الطاعة والثبات، ما هو الموقف الذي أخذ منه هذه المنقبة؟ كما هو معلوم عن أبي بكر أوقف كل ماله، بل ونفسه وأولاده لخدمة الإسلام، ولذلك حمل كل ماله في هجرته، فجاءها أبوه وجدها أبو قحافة وقد كف بصره، فقال: والله، إني لأراه قد فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه، أيّ تثبيط هذا؟! وأي إثارة للمشاعر هذه؟! فهل أثر ذلك في أسماء وخاصة جاءت ممن لا شكّ في حرصه ونصحه لها؟! انظر وتعلّم واقتدِ، عمدت إلى كيس وملأته حجارة ووضعته في المكان الذي كان أبوها يحفظ نقوده، ثم وضعت يده عليه، فقالت: إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن، وفي هذا بلاغ لكم، لعن الله الدنيا وقد لعنها رسول الله في عدة أحاديث، كم ثبّطت وأسقطت ونكّست هامات كانت شامخة، نسأل الله الثبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5، 6].
_________
الخطبة الثانية
_________
4- من مناقبها: أن ولاءها للإسلام كان واضحًا وخالصًا لا دخن فيه ولا لبس، لم تصرفه للطين والتراب، أو الجنس والعرق، كلا، لم توال كافرًا وإن كان أقرب الناس إليها، ولو كانت أُمها التي حملتها وأرضعتها. لمّا فرّق بينهم الإسلام. نعم، ولوكانت أمها، فكيف بمن دونها؟!
اسمع: في مسند أحمد عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقُرَظ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها، فسألت عائشةُ النبي ، فأنزل الله تعالى: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها. لمّا بيَّن لها رسول الله أن البر والصلة لا دخل له في الولاء الممنوع للكافر أجابتها، أما قبل ذلك فلا؛ لأنها من أهل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الحجرات:1]، ولماذا تستغرب؟! أليست ابنة الصديق؟!
5- ومن مناقبها: الجراءةُ والصراحةُ وتأييدُ الحقِ ولو كان مُرًا، ففي أيام فتنةِ ابنِها مع الحجاج انْفَضَّ عنه أهلُ المصالحِ والنفعيون والمرتزقةُ، فدخل على أُمّه أسماءَ وقد بلغت المائة من عمرها وعَميت، فقال لها مستشيرًا: يا أماه، خذلني الناس، ولم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدّفع أكثرَ من صبر ساعة، والقومُ يعطونني ما أردتُ من الدّنيا، فما رأيُكِ؟ أي: أن الأعوان خذلوه، والأعداء طمّعوه بالدنيا الفانية الملعونة، فماذا كان جوابُ الحكيمةِ صاحبةِ المبادئ؟ لقد أجابته ـ مع كبرِ سِنها وضعفِ جسمها وذهاب بصرها ـ بنفسية أبيها يوم الردّة عندما رأى تخاذلاً عن قتال المرتدين: (والله، لأقاتلنهم ما استمسك السيف بيدي)، قالت: أنت والله ـ يا بنيّ ـ أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض إليه، فقد قُتل عليه أصحابُك، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكتَ نفسك وأهلكت من قُتل معك، وإن قلتَ: كنتُ على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت، فهذا ليس فعل الأحرارِ ولا أهل الدين، وكم خلودك في الدنيا؟! القتل أحسن.
هل سمعتم منطقًا أفضل من هذا في هذا الباب؟! هكذا يكون المستشار أمينًا ولو كانت المشورة مُرّة، فالرسول يقول: ((المستشار مؤمتن)) ؛ أي: في كتم ما استشير عليه وفي الاجتهاد في إبداء النصح.
إذا المرءُ أرعى واستشارك فاجتهد له النصحَ وأمره بما كنت آتيا
ولقد كانت نعم النّاصح مع إدراكها للعاقبة، فأعجبه ردّ أمّه وقال: هذا ـ والله ـ رأيي الذي قمت به داعيًا إلى يومي هذا، ما ركنت إلى الدنيا، ولا أحببت البقاء فيها، وما فعلت ما فعلت إلا غضبًا لله، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فزدتيني بصيرةً مع بصيرتي.
وهناك مناقبُ كثيرة، كالكرم والعفة والشعر والشجاعة المادية، لكني أختمها بشجاعتها الأدبية، فقد ورثت جراءة أبيها وأخيها في الصدع بالحق ومواجهة الظلمة، فلما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير ذكروا أن الحجاج دخل على أسماء بنت أبي بكر فقال لها: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وإن الله قد أذاقه من عذاب أليم وفعل به وفعل، فقالت له: كذبت ـ كيف لا تواجه الحجاج وقد واجهت زعيمَ الكفر؟! ومَن الحجاج بجانب أبي جهل؟! ـ قالت: كذبت؛ كان برًا بالوالدين صوامًا قوامًا، ولكن ـ والله ـ لقد أخبرنا رسول الله أنه سيخرج من ثقيف كذابان، الآخر منهما شرّ من الأول، وهو مبير. وقال الحجاج لأسماء بعد قتل عبد الله: كيف رأيتني صنعت بابنك؟ ـ انظر إلى هذه الصفاقة والجراءة على صحابي ابن صحابي ابن صحابيّة حفيد صديق الأمة ـ فقالت له ـ ما دام أن الجراءة وصلت إلى هذا الحد ـ: أفسدتَ عليه دنياه، وأفسدَ عليك آخرتَك.
(1/3704)
حِكم الابتلاء
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
15/2/1418
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأمة الإسلامية اليوم. 2- وصف الدين الإسلامي في القرآن. 3- بيان بعضِ حِكم الابتلاء عمومًا والابتلاء من أجل دين الله ودعوته خصوصًا. 4- رد على شبهات ومغالطات في باب الابتلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، يصوّر أحدُ الشعراء الغيورين وضعَ الإسلامِ اليوم قائلاً:
أين اتجهتَ إلى الإسلامِ في بلدٍ تجده كالطيرِ مقصوص جَناحاه
نعم، لقد صدق، فالإسلامُ اليومَ مستهدفٌ من أعدائه، ومحاصرٌ في بلاده، ومضطهدٌ من أبنائه، ومحقّرٌ وممتهن ومشكك في صلاحيته، رغم أن الله وصف الإسلامَ والقرآنَ والالتزام بشرعه بأنه برهان ونور وهدى في عدة آيات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، وقال: الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [إبراهيم:1]، وقال: هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [الحديد:9]، وقال: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، وقال: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22].
أقول: رغم هذا الوصف ممن له الخلق والأمر ورغم كل هذه الآيات وغيرِها تَعجبُ كيف يجرؤ بعضُ أبنائه بوصفِ حُكمِ الإسلامِ ومنهجِه بالظلام ووصف دعاتِه بالظلاميين، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
ويا لها من جراءة بل وقاحة، ولو صدر هذا الطعن من الكفرة لقلنا: ليس بعد الكفر ذنب، ولكنه يصدر ممن يدّعون الإسلام.
وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند
وصدق المتنبي:
ومن يك ذا فمٍ مرٍّ مريضٍ يجد مرًا به الماءَ الزّلالا
بل صدق اللهُ تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، وأنى لمن يحاربُ النورَ الرباني أن يكون له نورٌ؟!
أتدري متى سيدركُ هؤلاء أنهم هم الظلاميون، إن لم يتوبوا ويعودوا إلى إسلامهم؟! سيدركون ذلك يوم يطلبون بذلّ ومهانة ممن يتهمونهم بالظلامية أن ينتظروهم، لماذا؟ ليقتبسوا من نورهم يوم تُطفأ أنوارُ جميعِ المخادعين، سبحان الله! يقتبسوا من نور من كانوا يسمونهم ظلاميين!! نعم استمع وتأمل: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمْ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [الحديد:12-14].
أيها الإخوة، إن المسلمَ ليحارُ ـ ما لم يدركْ حِكمةَ الله ـ عندما يرى أولياءَ الله وقد تسلط عليهم أعداءُ الله من الكفرة المجاهرين والمنافقين المخادعين، يسومونهم سوء العذاب، ويضعون العراقيل أمام مشروعهم الإسلامي، لا عقوبة من الله على تقصير منهم في طاعتة وإن لم يخْلُ، بل لأنهم مطيعون له وصادقون، وتزدادُ حَيرتُه ليقينه بعدل الله تعالى وعلمه بأنه لا يظلم أحدًا، وأنه سبحانه أغيرُ على دينه من دعاته، بل من أنبيائه الذين تعرضوا حتى للقتل من أعدائهم، أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة:87].
أضف إلى ذلك أن الله بيده مقاليدُ كلِ شيء، ولا يعجزه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وأمره بين الكاف والنون، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، ومع ذلك لم يعاجلْ الصادينَ عن دينه والمحاربين لأوليائه، الأمر الذي زاد المؤمنَ حَيرةً إلا أن يكون مدركًا لِحِكَمِ الله فلا تزيده إلاّ يقينًا وتسليمًا، كما قال: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، وهذا الوضعُ كذلك زادَ الكافرين تماديًا وتكذيبًا، وزاد المنافقين اضطرابًا وتشككًا، لذلك لا بد من بيان بعضِ حكم الابتلاء عمومًا، والابتلاء من أجل دين الله ودعوته خصوصًا.
أولها: الإعدادُ الحقيقيُ لتحمل الأمانة. إن أيَ عَملٍ كلما كان دقيقًا أو معقدًا كان المرء محتاجًا إلى بذل جهد أكبر في الإعدادِ له والتدربِ من أجله، ولمّا كان العمل لدين الله يتميّز بأنه عملٌ متنوعٌ وواسعٌ ومستمرٌ ومسؤولية الفرد فيه تزداد يومًا بعد يوم، بل مسؤوليتُه بعد الانتصار أعظمُ منها قبل ذلك؛ كان لا بد له من إعدادٍ خاصٍ مكافئٍ لضخامة هذا العمل؛ ولذلك شاء الله أن يخضعَ المؤمنون وفي مقدمتهم الأنبياءُ لصنوف من الاختباراتِ الصعبة والتدريباتِ الشاقةِ لتحمل المسؤولية الكبرى، مسؤوليةِ الاستخلافِ في الأرض والتمكينِ لدين الله وإقامةِ العدل، ولأن التمكين وعد من الله فلا بد للأمة من ميلاد، ولا بد للميلاد من مخاض، ولا بد للمخاض من آلام، كما يقول سيد رحمه الله.
فمنذ أن أذن الله بصحوة الأمة من غفلتها ومِن لامبالاتها بدينها بدأ حملُها، وبدأت معه آلامُ الحمل، هل رأيت حملاً بلا آلام أو ولادةً بلا مَخاض؟! هذه واحدة فاعقلها.
والثانية: المحافظةُ على الأمانة بعد تسلُّمِها. من المعلوم أن الشعورَ بقيمة الشيء يتناسبُ تناسبًا طرديًا مع ما يُبذلُ في سبيله، ومسؤوليةُ الخلافةِ وإقامة العدل في الأرض لا يتأتى إلا بالتضحيات والآلام، ولن يحافظَ على هذه الأمانة بعد تسلّمها إلا مَن بَذَل في سبيلها الغاليَ والنفيسَ، وأرخص في سبيلها كلَ عزيز، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، يقول سيد رحمه الله: "وعندئذ تُمحّص الصفوفُ، فيتميز الأقوياء من الضعفاء، وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها واجتازوا امتحانها وبلاءها، أولئك هم الأمناء عليها الذين يتحملون تكاليف النصر وتبعاته، وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين".
والثالثة: تطهيرُ الصفِ من الأدعياءِ. يدعي الإيمانَ بل والغَيرةَ على الدين وقت العافية والسراء كلُ أحد، لكن هذه الدعوى تحتاج إلى دليل وإثبات، فكان الابتلاءُ هو الميزانُ الذي يتميز به الصادقُ من الكاذبِ، والمؤمنُ من المنافق، والطيب من الخبيث، والأصيل من الدخيل، كما قال: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ [آل عمران:179]، وقال: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، يقول صاحب الظلال: "ولله الحكمة البالغة، فإن بروز المجرمين لحرب الأنبياء والدعوات يقوي عُودها، ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها، وكفاح أصحابها هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعاوى الزائفة، وهو الذي يمحص القائمين عليها، ويطرد الزائفين منهم، فلا يبقى بجوارها إلا العناصرُ المؤمنةُ القويةُ المتجردة، التي لا تبغي مغانم قريبة، ولا تريد إلا الدعوة خالصة تبتغي بها وجه الله تعالى".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
_________
الخطبة الثانية
_________
ومنها: محبةُ الله لهم ورفعُ درجاتهم. قد يكون الابتلاءُ دليلاً على حب الله للمبتلى وإرادةِ الخيرِ له، فلعل الله يريد أن يُبلغه درجات عاليةً في الجنة، فيبتليه ليبلغه ذلك المقام، أو ليكفّرَ عنه خطاياه، ففي الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله : ((إن عظم الجزاء مع عظم الجزاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السُخط)) ، وفي الترمذي أيضا عن أنس قال: قال رسول الله : ((إذا أراد الله بعبده خيرًا عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة)) ، وفيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)).
ولهذا كان الابتلاء مع الاستقامة دليلاً على قوة الإيمان والمكانة عند الله، لا كما يظن الجهلةُ والشامتون أن هذا دليلٌ على خطأ طريقهم وضلالهم، وربما زادوا جهالةً وسفاهةً فاستشهدوا بحال أنفسهم، وقالوا: ها نحن لم نبتلَ، وهذا دليلٌ على صحة طريقنا.
أما الرد على هذه المغالطات فأن يقالَ لهم: قد قال المنافقون الأولون وهم يؤذون سيدَ المرسلين قريبًا من هذا: وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ، فكان الردُّ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ [المجادلة:8].
أما الرد الفصلُ على هذه الشبهة أو المغالطة، فهو ما رواه الترمذي عن سعد قال: قلت: يا رسول الله، أيُّ الناس أشدُ بلاءً؟ قال: ((الأنبياء ثم الأمثل ثم الأمثل، فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينُه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقّةٌ ابتلي على حسب دينه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئةً)) ، فهل يعي الجهلةُ والمتشمتون هذه السنن والمعاني والمعادلات الصعبة التي لا يعقلها إلا المؤمنون؟! وتقديمُ الدليلِ العملي على جدارةِ الدعوة وصدقِِ دُعاتها.
أيها الإخوة، إن هذا الدينَ عجيبٌ، يأتي أعداءه من حيث لم يحتسبوا، فأعداؤه يظنون أن التضييقَ عليه واضطهادَ دعاتِه سيكون مُنفرًا للعامة ومرعبًا للخاصة، فإذا العكس هو الصحيح، اشتدّ عودُ الخاصةِ وأقبل العامةُ، كما قال الله: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:2].
أما الدعوات الأرضية أو الزائفة فنعم، تتلاشى تحت ضربات أعدائها وتندثر، وفي هذه الأيام قضية حيّة شبيهة يراهن عليها كثيرٌ من المراقبين والمستطلعين للآراء، بأنه لو أجريت انتخابات في ذلك البلد لفاز بها دُعاةُ الإسلام، رغم الاضطهادات التي تعرضوا لها من اللادينيين في ذلك البلد الذي يدعي الديمقراطية.
أيها الإخوة، إن كثيرين أقبلوا على الدعوة عندما رأوا ثباتَ أهلِها واصطبارَهم على تَحمّل الابتلاءِ الذي لا تثبت له الجبالُ الراسياتُ، يقول سيد رحمه الله: "والذي يقع غالبًا أن كثرة الناس تقف متفرجةً على الصراع بين المجرمين وأصحاب الدعوات، حتى إذا تضخم رصيدُ التضحيات والآلام في صف أصحاب الدعوات وهم ثابتون على دعوتهم ماضون في طريقهم قالت الكثرةُ المتفرجة أو شَعرت أنه لا يتمسك أصحابُ الدعوة على دعوتهم ـ على الرغم من التضحيات والآلام ـ إلا أن في هذه الدعوة ما هو أغلى مما يضحون به وأثمن، وعندئذ تتقدم الكثرةُ المتفرجةُ لترى ما هذا العنصرُ الغالي الثمينُ الذي يرجحُ كلَ أغراض الحياة، بل ويَرجحُ الحياةَ ذاتَها عند أصحاب الدعوة، وعندئذ يدخل المتفرجون أفواجًا في هذه العقيدة بعد طول التفرجِ بالصراع".
ونختم حديثنا بمناداة الصادين عن دين الله خاصة ممن يدعي الإسلام بنداء الجن لقومهم لما عرفوا الحق: يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأحقاف:31 ، 32]، ونقول للمضطهدين من أجل دينهم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104].
(1/3705)
الخوف من الله
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الخوف في الإسلام.2- صور من خوفه من ربه. 3- نماذج مشرقة من خوف الصحابة رضي الله عنهم من ربهم. 4- علامات الخوف منه سبحانه وتعالى. 5- آثار ترك الخوف منه سبحانه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون بالله ورسوله، اتقوا الله فإن الله شديد العقاب، ذو الطول لا إله إلا هو إليه المصير.
عباد الله، اتقوا الله، واحذروا عقابه وشديد عذابه وسخطه، فإنه سبحانه وتعالى شديد العذاب، قال الله جل ذكره: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49، 50]. وقد حذركم الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه فقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران:28].
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: "أي: يخوفكم الله من نفسه أن تركبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن إليه مرجعكم ومصيركم بعد مماتكم، فإن خالفتم أمره نالكم من عقاب الله ما لا قِبل لكم به، فاتقوه واحذروه أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب".
أيها المؤمنون، إن الله تبارك وتعالى ببالغ حكمته فرض علينا خوفه وأوجبه، قال جل ذكره: فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:51]، وقال سبحانه: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي [البقرة:150]. بل قد جعل سبحانه وتعالى خوفه شرطًا لصحة الإيمان، فقال سبحانه عز وجل: فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:175].
وقد أنذركم الله ـ أيها المؤمنون ـ الأمن من مكره وعذابه، فقال تعالى: وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13]، وقال سبحانه: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أي: عملوا السيئات أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47]، وقال سبحانه وتعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
أيها المؤمنون، إن الخوف من الله تعالى من أجل العبادات، ومن أعظم القربات، فهو الذي يحول بينكم وبين محارم الله عز وجل ومعاصيه، فلِلَّه ما أعظمه، ولله ما أحوجنا إليه، ولله ما أحسن عاقبته في الدنيا والآخرة، إذ بالخوف ـ يا عباد الله ـ ينزع العبد عن المحرمات، وبه يقبل على الطاعات، فهو ـ والله ـ أصل كل فضيلة، وباعث كل قربة.
وبالخوف ـ أيها المؤمنون ـ يستيقظ القلب من غفلته، وينتفع بالإنذار، ويتأثر بآيات القرآن، قال الله تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:2، 3]، وقال سبحانه: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
عباد الله، إن الخوف من الله تعالى هو من أخص صفات عباد الله المتقين وأوليائه المحسنين، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال:2]، قال الإمام الطبري رحمه الله: "المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عذابه" [1].
أيها المؤمنون، لقد كان النبي شديد الخوف من الله تعالى، عظيم الخشية له، مع ما خصه الله سبحانه وتعالى به من الخصائص والفضائل والهبات، ففي الصحيحين قال : ((والله، إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله، وأعلمكم بما أتقي)) ، وعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل، يعني يبكي. رواه النسائي وغيره [2].
أيها المؤمنون، هذا نبيكم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، بلغ الغاية في العمل والطاعة، ومع ذلك كله كان شديد الخوف من ربه، حتى كان أكثر دعائه كما في جامع الترمذي: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) ، وكان من دعائه كما في صحيح مسلم: ((اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك)) [3].
أما صحابته الكرام فهم الذين قال فيهم القائل:
إذا ما الليل أظلم كابدوه فيُسْفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هُجوع
فسيرهم رضي الله عنهم حافلة بالعبر والعظات، فهذا صديق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها المبشر بالجنة وعظيم المنة كان إذا قام إلى الصلاة كأنه عود من خشية الله تعالى.
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه المبشر بالجنة قرأ سورة الطور حتى إذا بلغ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِع [الطور:7] بكى واشتدّ بكاؤه حتى مرض وعاده الناس، وكان يقول لابنه وهو في الموت: (ويحك، ضع خدي على الأرض؛ عساه أن يرحمني).
وهذا عثمان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر بكى، حتى يبل لحيته رضي الله عنه.
أما جمهور الصحابة رضي الله عنهم فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس أنه قال: خطب رسول الله خطبة ما سمعت مثلها قط، قال: ((لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا)) [4] ، قال أنس: فغطى أصحاب رسول الله وجوههم، ولهم خَنِين. فرضي الله عنهم وأرضاهم، ما أجمل فعلهم، وأعذب ذكرهم.
عباد الله، هذه نماذج من مخاوف القوم، مع ما خصهم به الله تعالى من الرضا والغفران، وتبشير بعضهم بالجنان. فليت شعري، ماذا نقول وقد قست منا القلوب، وأمنت منا المخاوف؟! فلا بقرب الرحيل ننتبه، ولا بآيات الله نتعظ. فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
[1] تفسير الطبري (6/178).
[2] أخرجه النسائي من حديث عبد الله بن الشخير (1199).
[3] أخرجه مسلم في القدر (4798).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (986), ومسلم في الصلاة (646).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: اتقوا الله، واعلموا أن من علامات خوف الله تعالى وخشيته عدم الأمن من عذاب الله وعقابه وسخطه، قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 57-60].
فهؤلاء ـ يا عباد الله ـ قوم حسُنت أعمالهم، وطابت سرائرهم، وزكت قلوبهم، واستقامت جوارحهم، إلا أنهم مع ذلك لم يأمنوا عقاب الله وعذابه، فقلوبهم وجلة خائفة، أنهم إلى ربهم راجعون.
وهذا يفسر لنا ما كان عليه النبي من شدة الحذر من عقاب الله، والخوف من سخطه، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا كان يوم الريح والغيم عُرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مَطَرَت سُرَّ به، وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته فقال: ((إني خشيت أن يكون عذابًا سُلط على أمتي )) [1]. وفي رواية أخرى للبخاري قال لها لما سألته: ((يا عائشة، ما يُؤْمِنّي أن يكون فيه عذابٌ، عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قومٌ العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)) [2].
ولما كسفت الشمس في عهده خرج إلى المسجد مسرعًا فزعًا، يجرُّ رداءه من شدة الفزع، فقام بأصحابه قيامًا طويلاً شديدًا، حتى جعلوا يخرون من طول القيام، فاستكمل رسول الله في الركعتين أربع ركعات، وأربع سجدات، رأى في صلاته تلك الجنة والنار، فلما فرغ من تلك الصلاة خطب خطبة عظيمة بليغة، كان منها أن قال : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يَخْسِفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله، وكبروا، وصلوا، وتصدقوا. يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيرًا)) [3].
فلا إله إلا الله، ما أطيب قلوبهم، وأزكى سرائرهم، وأشد خوفهم وحبهم وتعظيمهم لربهم جل وعلا، فإن هذه الآيات والعظات لا يعتبر بها إلا من عَمر الخوف قلوبهم، قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ [هود:103]، وقال سبحانه: وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [الذاريات:37].
أيها المؤمنون، إنه لما ضعف إيماننا بالله، وقلّ خوفنا منه وتعظيمنا له، قست منا القلوب، وساءت الأعمال، وصدق في كثير منا قوله جل وعلا: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون [يوسف:105]، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
[1] أخرجه مسلم في صلاة الاستسقاء (1495).
[2] أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4454).
[3] أخرجه البخاري في الجمعة (986), ومسلم في الصلاة (646).
(1/3706)
الصلاة الصلاة
فقه
الصلاة
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الصلاة في الإسلام. 2- خطورة ترك الصلاة. 3- الأدلة على كفر تارك الصلاة. 4- وجوب صلاة الجماعة. 4- نصائح وتوجيهات للآباء تجاه أبنائهم ومعاهدتهم لهم بالصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، فالصلاة عماد الدين وعصام اليقين، هي ناصية القربات وعزّ الطاعات، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذِروة سنامه الجهاد)) رواه أحمد والترمذي بسند لا بأس به [1].
والصلاة ـ أيها المؤمنون ـ أعظم شعائر الدين، وأهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) متفق عليه [2].
والصلاة ـ يا عباد الله ـ أحب الأعمال إلى الله تعالى، فعن عبد الله بن مسعود قال: قلت: يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)). وروى الحاكم عن ثوبان مرفوعًا: ((استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)).
والصلاة ـ أيها الإخوان ـ صلة بين العبد وربه تبارك وتعالى، فعن أبي هريرة مرفوعًا: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء)) رواه مسلم [3]. وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين ، قال: مجدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين ، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، قال: هذا لعبدي، ولعبدي ماسأل)) رواه مسلم [4].
والصلاة ـ أيها المؤمنون ـ مفتاح من مفاتيح الجنة، فعن ربيعة بن كعب قال: كنت أبيت مع رسول الله ، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: ((سل)) ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: ((أوَغير ذلك؟)) قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) رواه مسلم [5] ، وعن أبي موسى مرفوعًا: ((من صلى البَرْدين ـ أي: الصبح والعصر ـ دخل الجنة)) متفق عليه [6].
والصلاة ـ يا عباد الله ـ من أعظم ما يكفر الخطايا ويرفع الدرجات، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم، يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا)) متفق عليه [7] ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)) قالوا: بلى يارسول الله، قال: ((إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) رواه مسلم [8].
والصلاة ـ يا عباد الله ـ نور، قال النبي : ((الصلاة نور)) [9]. وهي ـ أيها المؤمنون ـ من أهم أسباب ترك الفحشاء والمنكر، قال الله تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].
وقال الله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59]، فرتب الله تعالى اتباع الشهوات ولقيان الغي على إضاعة الصلاة.
هذا ـ أيها المؤمنون ـ طرف من فضائل هذه الشعيرة الكبرى، وإلا فإن فضائلها تفوق الحصر، كيف لا وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أكثر أحاديث النبي في الصلاة والجهاد".
وقد أجاد من قال:
ألا في الصلاة الخير والفضل أجمع لأن بها الأرباب لله تخضع
أيها المؤمنون، إنّ الله تعالى أمركم بالصلاة فقال تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [النور:56]، وقال تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، وقال تعالى: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
وقد أمر الله تعالى بالمحافظة عليها فقال: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]. وقد حث النبي على ذلك فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) رواه أحمد وغيره، وإسناده لا بأس به [10].
وقد توعد الله تعالى المضيعين لها بالغي والإثم والتورط في وحل الشهوات، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، وقد هدد الله تعالى الساهين عن الصلاة بالويل فقال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُون [الماعون:4، 5].
أيها المؤمنون، إن أعظم صور إضاعة الصلاة والغفلة عنها ذاك الذنب العظيم الخطير الكبير، الذي تورط فيه جمع غير قليل، ألا وهو ترك الصلاة والعياذ بالله، ويا لها من نكبة كبرى ومصيبة عظمى ونازلة شنعاء أن يقطع العبد صلته بمولاه، الذي لا غنى له عنه طرفة عين.
أيها المؤمنون، إن ترك الصلاة انخلاع من الدين، وانسلاخ من الإسلام، وكفر بالله الواحد القهار. فترك الصلاة والمحافظة على عدم القيام بها لا يكون من رجل في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، بل ـ والله ـ لا يصدر إلا من قلب قد عشعش فيه الشيطان، كما قال الله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّه [المجادلة:19]. ولذا فإن النبي الذي لا ينطق عن الهوى حكم على تارك الصلاة بالكفر، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) رواه مسلم [11] ، وفي المسند قال : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)) [12].
وقد أجمع الصحابة الكرام على كفر تارك الصلاة، فعن عبد الله بن شقيق قال: "كان أصحاب محمد لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة" رواه الترمذي بإسناد صالح، وقد قال عمر رضي الله عنه: (لا إسلام لمن لم يصل)، وقال علي رضي الله عنه: (من لم يصل فقد كفر).
وقد جعل الله ترك الصلاة من أسباب دخول النار، فاستمع ـ بارك الله فيك ـ إلى جواب أهل النار عندما يسألون عن سبب دخولها، قال الله تعالى: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:42-47].
فيا ليت شعري، هل علم أولئك المستهترون الساهون الذين حافظوا على ترك الصلوات واستهانوا بها بأنه لا إيمان لمن لا صلاة له؟! فترك الصلاة كفر أيضًا، أولئك متلاعبون بدينهم، يظنون أن الأمر هين سهل، لا والله، إن الأمر جد خطير، فإن ترك صلاة واحدة سبب لإحباط العمل، فعن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من ترك صلاة العصر حبط عمله)) متفق عليه [13]. فكيف ـ أيها الإخوان ـ بترك الصلاة تلو الصلاة؟!
واعلموا ـ بارك الله فيكم ـ أن إحباط العمل ليس خاصًا بترك صلاة العصر، بل هو ثابت بترك أي صلاة من الصلوات المكتوبة.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على هذه الشعيرة العظيمة التي من لم يحافظ عليها أدركه الخذلان، وغشيته اللعنة والسخط، وانقطع عنه من ربه المدد، ومن حافظ عليها فقد أخذ بأسباب السعادة والنجاة والفوز والفلاح.
[1] أخرجه أحمد من حديث معاذ بن جبل (21008).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (7), ومسلم في الإيمان (20).
[3] أخرجه مسلم في الصلاة (744).
[4] أخرجه مسلم في الصلاة (598).
[5] أخرجه مسلم في الصلاة (754).
[6] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (540), ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (1005).
[7] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (497), ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (1071).
[8] أخرجه مسلم في الطهارة (369).
[9] أخرجه مسلم في الطهارة (328).
[10] أخرجه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو (6288), والدارمي في الرقاق (2605).
[11] أخرجه مسلم في الإيمان (116).
[12] أخرجه أحمد (21859).
[13] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (559).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، إن الصلاة من أعظم العبادات، وقد أمر الله تعالى بها الأنبياء جميعًا، فهذا إمام الحنفاء إبراهيم عليه السلام يسأل ربه فيقول: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، وأمر تعالى بها موسى فقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، ومما يؤكد أهمية الصلاة أنها واجبة على كل أحد ولا تسقط ما دام الفعل ثابتًا، ويظهر مكانتها أن النبي أوصى بها وهو في سكرات الموت وفي الرمق الأخير، كان يقول لأصحابه في مرضه الذي توفي فيه: ((الصلاة، وما ملكت أيمانكم)) فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه [1] ، وفي رواية: كان عامة وصية رسول الله وهو يغرغر بنفسه: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)) رواه ابن ماجه بسند حسن [2].
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب لأمراء الأمصار: (إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع). وبقدر اهتمامك بالصلاة وحرصك عليها تعرف ـ يا عبد الله ـ مدى حبك له تعالى، ورغبتك في الله، وقدر الدين في قلبك، قال الإمام أحمد رحمه الله: "إنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة"، ثم قال رحمه الله: "فاعرف نفسك يا عبد الله، احذر أن تلقى الله عز وجل ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك".
فاعرفوا ـ أيها المؤمنون ـ مكانة هذه الشعيرة، وحافظوا عليها، أدوها في أوقاتها، أتموا ركوعها وخشوعها وسجودها، حافظوا على هذه الصلوات في المساجد مع الجماعة، فإن صلاة الجماعة واجبة، قال الله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، وقال : ((ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأُحَرِّق عليهم بيوتهم بالنار)) متفق عليه [3].
فكيف يطيب لك ترك الجماعة والجلوس في البيت أو المكتب والنبي الذي وصفه الله تعالى بقوله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] همَّ أن يحرق بيوت الذين لا يشهدون الصلاة.
فالصلاة مع الجماعة لها منزلة عظيمة، لذا أمر الله تعالى: وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء:102]. فكان الصحابة رضي الله عنهم إذا جاءت الصلاة تركت منهم طائفة القتال، وأقبلوا على صلاتهم، كما قال الأول في وصفهم:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جامًا أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا يدعون ربًا بالفضائل أنعما
واسمع ـ أرشدك الله ـ وصية ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف) [4].
فليت شعري، ماذا تراه يقول ابن مسعود لو رأى أولئك الذين هجروا بيوت الله، وعمروا الشوارع والطرقات، أو البراري والاستراحات، لا يقيمون ولايشهدون الجماعات، تعاهدوا على العصيان؟! أم ماذا تراه ابن مسعود يقول لو رأى أولئك الذين قضوا الساعات تلو الساعات على مدرجات الكرة، يدخل وقت الصلاة ويخرج، وهم على ما هم عليه من لهو، ولا يصلي منهم إلا نفر قليل؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فاتقوا الله عباد الله، وحافظوا على هؤلاء الصلوات في المساجد حيث ينادى بهن.
أيها المؤمنون، مروا أبناءكم بالصلاة، وحثوهم عليها، وتعاهدوهم عليها، فإن الله تعالى قد أمركم بذلك قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
عباد الله، إن ما نشهده من استهتار كثير من الشباب بهذه الفريضة، وتهاونهم بها، إنما هو نتاج تفريط الآباء في الغالب، فاتقوا الله ـ أيها الآباء والأولياء ـ فيمن استرعاكم الله إياهم، قوموا بما أمر الله به من الرعاية والصيانة، فإن الأمر جد خطير، إذ الصلاة فرقان بين أولياء الله وبين أولياء الشيطان، فمن تركها فإنه كافر.
ربوهم على ارتياد المساجد من صغرهم، وإياكم والتفريط والتهاون في ذلك، فإن عواقبه وخيمة، فإذا أهملتَ اليوم صعب عليك الإصلاح غدًا، ولا ينفع عندها الندم.
ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذريتنا، ربنا وتقبل دعاء.
[1] أخرجه ابن ماجه في ما جاء في الجنائز (1614).
[2] أخرجه ابن ماجه في ما جاء في الجنائز (2688).
[3] أخرجه البخاري في الأذان (608), ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (1041).
[4] أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (1046).
(1/3707)
العلم وفضله
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم في الكتاب والسنة. 2- حاجة الأمة للعلم الشرعي. 3- سبل تحصيل العلم. 4- العلم الشرعي فضل ومِنّة من الله تعالى. 5- توجيهات عامة لطالب العلم. 6- العلم نوعان: ضروري، وكفائي. 7- تيسّر العلم في هذا الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي شيد منار الدين وأعلامه، وأظهر للخلق شرائعَه وأحكامَه، وشرح صدور من أراد هدايتهم للإسلام، ونوّر بالعلوم والمعارف الإلهية بصائر ذوي العقول والأفهام، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهد بذلك لنفسه في كتابه، واستشهد على ذلك بالملائكة الأبرار، وأولي العلم الراسخين الأخيار، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]. والصلاة والسلام على من بعثه الله رحمة للعالمين، يتلو عليكم آياته، ويزكيكم، ويعلمكم الكتاب والحكمة، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، فصلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين، وعلى سائر عباد الله الصالحين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أفضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب وعمرت به الأوقات ونال به العبد الرفعة في الدارين هو العلم الذي يورث الإيمان، ولذا قرن الله سبحانه وتعالى بينهما فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. فالعلم حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور، وهو الميزان الذي يوزن به الرجال، وتوزن به الأقوال والأعمال. به يتمكن العبد من تحقيق العبودية لله الواحد الديان، فهو الكاشف عن الشبهات، والمزيل للشهوات. مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، ومدارسته تعدل الصيام والقيام.
فالحاجة إلى العلم فوق كل حاجة، فلا غنى للعبد عنه طرفة عين، قال الإمام أحمد رحمه الله: "الناس إلى العلم أحوج منهم إلى الطعام والشراب، فالرجل يحتاج إلى الطعام والشراب مرة أو مرتين، وحاجته إلى العلم بعدد أنفاسه".
وكيف لا تكون هذه منزلة العلم؟! وهو الذي به يعرف العبد ربه وأسماءه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه، وبهذه المعارف يحصّل العبدُ أكملَ السعادات وأشرفَ الغايات، به يُخرج الله العباد من الظلمات إلى النور، قال الله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
ولما كانت هذه منزلة العلم ومكانته جاءت نصوص الوحيين متضافرةً في الحث عليه، وبيان فضله، وفضل أهله، وشحذ الهمم إليه.
فمما ورد في ذلك قوله تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]، وقال الله تعالى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَاب [الرعد:19]. فما ثمّ إلا عالم أو أعمى، وأهل العمى هم أهل الجهل والضلال.
وقال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، قال ابن كثير رحمه الله: "أي: إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير العليم، الموصوف بصفات الكمال، المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتم والعلم أكمل كانت الخشية له أعظم وأكثر".
وقال الله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269]، ففيها أن أفضل ما يعطى المرء القرآن والسنة.
وأما ما ورد عن النبي في بيان فضل العلم والحث عليه فأكثر من أن نحيط به في هذه العُجالة، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين)) [1]. وهذا يدل على أن من لم يفقهه الله في الدين فإنه لم يرد به خيرًا، وأن من أراد به خيرًا رزقه فقهًا في الدين، مصاحبًا للعمل بهذا الفقه.
ومن أعظم ماورد في بيان فضل العلم والحث عليه ما رواه أصحاب السنن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء هم ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) [2].
وهذه الفضائل والمناقب التي جعلها الله تعالى للعلم توضح مدى أهميته وأثرِه في تحقيق عبودية الله سبحانه، وإصلاح أحوال الخلق.
والعلم الذي وردت فيه هذه المزايا إنما هو علم الوحيين: الكتاب والسنة.
قال ابن القيم رحمه الله:
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه
وأمتنا اليوم هي أشد ما تكون حاجةً إلى العلم النافع الصحيح، وإلى العلماء الذين يذبون عن أركان الشريعة، وهم أمناء الله من خلقه، وهم الواسطة بين النبي وأمتِه، المجتهدون في حفظ ملته، الذين هم بالشرع مستمسكون، ولآثار الصحابة والتابعين مقتفون، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء، يبلغون رسالات الله ويخشونه، ولا يخشون أحدًا إلا الله.
فيا أمة العلم والقرآن، هلا شمرنا عن سواعد الجد والاجتهاد، وهجرنا السِنَةَ والرقاد، وجفونا الملاهي والملذات، في سبيل تحصيل العلم الذي به تسمو الأقدار، وتشرئب إلى أهله القلوب والأبصار، وتحصل به الدرجات الكبار، إذ العلم عز لا تثلمه الليالي والأيام، ولا تنحفه الدهور والأعوام، فهو هيبةٌ بلا سلطان، وغنى بلا مال، ومنعةٌ بلا أعوان.
فعليكم ـ أيها الإخوة الكرام ـ بميراث الأنبياء فاطلبوه من مظانه، واجتهدوا في تحصيله الليالي والأيام، وابذلوا في سبيل ذلك الأنفس والأموال، واسألوا الله سبحانه التوفيق إلى التمام والكمال، واستعينوا على ذلك بالإخلاص والذكر اللذين بهما تُجتاز هذه المفاوز والقفار.
ومما يؤزنا إلى العلم أزًا، ويدفعنا إليه دفعًا أن نعلم أنه بالعلم يعبدُ المرءُ ربَه على بصيرة وهدى، وبالعلم يدعو أهل الدعوة الخلق إلى الله على مناهج أولي الأبصار والنهى، وبالعلم نميز الحق من الباطل، ونفرق بين الهدى والضلال.
وبالعلم الصحيح الصادق والدعوة الخالصة المثابرة والجهاد الدائم في سبيل الله تخرج أمتنا من أنفاق التعاسات والظلمات والانتكاسات إلى ساحات السعادات والأنوار والانتصارات، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55]. ولن يكون إيمان وعمل صالح إلا بعلم نافع، ولا استخلاف ولا تمكين إلا بدعوة وجهاد.
تعلّم فإن العلم زين لأهله وفضلٌ وعنوان لكل المحامد
تفقه فإن الفقه أفضل قائد إلى البر والتقوى وأعدل قاصد
هو العَلمُ الهادي إلى سنن الهدى هو الحصن ينجي من جميع الشدائد
[1] أخرجه البخاري في العلم (69), ومسلم في الزكاة (1719).
[2] أخرجه الترمذي في العلم (2606), وابن ماجه في المقدمة (219).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على نبينا محمد، المبعوث إلى عامة الورى بالحق والهدى والنور والضياء، وعلى آله وأصحابه الأطهار الأنقياء، وعلى سائر عباد الله الأتقياء.
أما بعد: عباد الله، اعلموا أننا عندما نتحدث ونتكلم عن العلم وفضله ومنزلة أهله، فإننا لا نخاطب بذلك فئة من الناس، أو شريحة من المجتمع، بل نتحدث ونخاطب الجميع؛ الصغير والكبير، الذكر والأنثى، فالعلم ليس وقفًا على طائفة من الناس، لا يَرِده غيرهم، بل هو مطلب للجميع، إذ العلم يحتاجه كل أحد.
فحري بنا ـ كبارًا وصغارًا، ذكورًا وإناثًا ـ أن نبذل قُصارى جهدنا في تحصيل العلم وكسبه. فلا يمنعن كبيرًا كِبَرُ سنه أن يطلب العلم ويتفقه، ويستدرك ما فات من عمره، فإن استدراك المعالي فضيلة، ولأن تكون كبيرًا متعلمًا أولى من أن تكون كبيرًا جاهلاً، وقد حُكي أن بعض العلماء رأى شيخًا كبيرًا يحب العلم ومجالسه، إلا أنه يستحي من كبر سنه، فقال له: "يا هذا، أتستحي أن تكون في آخر عمرك أفضل منك في أوله؟!".
والمطالع في سير العلماء الفضلاء والأئمة النبلاء يرى أن بعض كبار من ذاع صيتُهم، وعلا ذكرهم، وترددت أسماؤهم في مجالس الذكر وكتب العلم ودواوين السنة لم يبدؤوا رحلتهم في طلب العلم وتحصيله إلا بعد أن تقدمت بهم السن، ومع هذا كله حازوا الفضائل وبلغوا الأماني، وكان لهم من الأثر في زمانهم وبعده ما حفظه التاريخ لهم، والسر في هذا: أن العلم فضلٌ من الله تعالى ومنَّة ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
فليست الفضائل العلمية والمراتب العلية مرهونة بالأسباب المادية؛ من حضور الحِلَق وقراءة الكتب وثني الركب فحسب، بل الأمر أعظم من ذلك، فالعلم حقيقته ما قاله الأول:
فتلك مواهب الرحمن ليست تحصل باجتهاد أو بكسب
ولكن لا غنى عن بذل جهدٍ بإخلاص وجد لا بلعب
فعليكم ـ يا من سلكتم دروب العلم وركبتم مناهج الطلب ـ بصدق التوجه إلى الله تعالى، ودعائه بذُلٍّ وخضوع أن يرزقكم علمًا نافعًا، قال الله تعالى: مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [فاطر:2].
أيها المؤمنون، اعلموا أن من العلم ما لا يعذر العبد بجهله وتركه، وضابط هذا العلم أنه هو الذي يستقيم به دين العبد، سواءُ كان ذلك في العقائد أو الأحكام، ويجمع أصول ما يجب معرفته في العقائد والأحكام حديث جبريل الطويل، والذي فيه أنه سأل النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان، وعن أمارات الساعة، فإن في آخر الحديث قال النبي لأصحابه: ((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) [1].
وقد تيسرت للأمة في هذه الحقبة من التاريخ سبلُ العلم ووسائل تحصيله، فالدروس قائمة، والمحاضرات متوافرة، والأشرطة العلمية والكتب الدينية منتشرة ميسرة. فهل بعد هذا من عذر؟! أم هل بعد ذاك من مبررٍ لتفشي الجهل بين الأمة ؟!
لا، ولكنه الإعراض عن الخير، والزهد في البر، والرضا بالجهل، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن كانت هذه حاله فإنه يُخشى أن لا يُرجى فلاحه، ولا يؤمل صلاحه، فإن من أعرض عن العلم أعرض الله عنه، ومن تركه وأدبر عنه كان ضلاله مستحكمًا، ورشاده مستبعَدًا، وكان هو الخامس الهالك الذي قال فيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (اغد عالمًا، أو متعلمًا، أو مستمعًا، أو محبًا، ولا تكن الخامس فتهلِك). وقال ابن القيم رحمه الله:
والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران في التركيب متفقان
نص من القرآن أو من سنة وطبيب؛ ذاك العالم الرباني
وفقنا الله وإياكم إلى العلم النافع الراسخ، ورزقنا منه أوفر الحظ والنصيب.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (9).
(1/3708)
العمل بالعلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, قضايا دعوية
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على العمل بالعلم. 2- ذم ترك العمل بالعلم. 3- وقفة محاسبة وحالنا مع العمل بالعلم. 4- فوائد العمل بالعلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن العلم الذي حُمِد في الكتاب والسنة أمرُه وكثرت فضائله وتعددت مناقبه وسمت مراتبُ أهله وأشهر سيَرهم وأبرزَ مآثرَهم هو العلم النافع الذي يَعرف به العبدُ ربَّه، فتورثه هذه المعرفةُ خشية الله ومحبتَه والقربَ منه والأنسَ به والشوق إليه والعملَ بشرعه والدعوةَ إلى دينه.
قال الحسن رحمه الله: "العلمُ علمان: فعلم على اللسان فذاك حجة الله على ابن آدم، وعلم في القلب فذاك العلم النافع"، الذي تعلو به الدرجات وتوضع به السيئات، إذ إن العلم إذا رَسَخَ في القلب صدَّقته الجوارح بالأعمال.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله في بيان منزلة العمل بالعلم: "إني موصيك ـ يا طالب العلم ـ بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه، فإن العلم شجرةٌ والعملَ ثمرةٌ، وليس يُعدُّ عالمًا من لم يكن عاملاً... فإذا كان العمل قاصرًا عن العلم كان العلمُ كلاً على العالم، ونعوذ بالله من علم عاد كَلاً، وأورث ذلاً، وصار في رقبة صاحبه غلاً... فلولا العملُ لم يُطلبْ علمٌ، ولأَن أدع الحق جهلاً به أحب إليّ من أن أدعه زهدًا فيه".
عباد الله، اعلموا أن نصوص الكتاب والسنة وآثار سَلف الأمة قد تواردت وتواطأت على ذم ترك العمل بالعلم، قلَّ العلمُ أو كثر، فمن ذلك ما ذكره الله تعالى عن اليهود ـ عليهم لعنة الله ـ حيث أعرضوا عن العمل بالعلم، قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5]، فحظ من لم يعمل بعلمه كحظ الحمار من الكتب التي أثقلت ظهره.
قال ابن القيم رحمه الله عن هذه الآية: "فهذا المثل قد ضُرب لليهود، فهو متناول من حيث المعنى لمن حُمِّل القرآن فترك العمل به، ولم يؤد حقه ولم يرعه حق رعايته".
ومما ورد في ذم ترك العمل بالعلم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3]، والمعنى أن الله سبحانه وتعالى يبغض بغضًا شديدًا أن تخالف الأعمالُ الأقوالَ.
وقد توعد الله سبحانه من ترك العمل بالعلم بعقوبة شديدة، ففي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه ـ يعنى أمعاءَه ـ فيدور بها كما يدور الحمارُ برحاه، فيجتمع عليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، ما شأنك؟! ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟! فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن الشر وآتيه)) [1].
فيا لهُ من موقف عظيم تعلن فيه الأسرار، وتشهر فيه الأخبار، فيظهر للخلق ما أضمرت، ويُبدى ما أخفيت، ويُكشف ما أكنت، فالسر يومئذ علانية، فمن طوى قلبه على البر والإحسان فاز برضا الرحيم الكريم الرحمن، ومن طواه على الفسق والعصيان والكفران فضحه العليم الخبير الديان.
ومما ورد في الحث على العمل بالعلم ما أخرجه الترمذي وغيره عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تزولُ قدما عبد يوم القيامة حتى يُسألَ عن عمره فيم أفناه، وعن علمه ما فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن شبابه فيم أبلاه)) [2].
وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى؛ فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول فيما أخرجه البيهقي وغيره بسند جيد: (إنما أخشى من ربي يوم القيامة أن يدعوَني على رؤوس الخلائق فيقولَ لي: يا عويمر، فأقول: لبيك ربي، فيقول: ما عملت فيما علمت؟)، وقال رضي الله عنه: (لن تكون بالعلم عالمًا حتى تكون به عاملاً).
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يحتفون بالعمل ويعتنون به ويهتمون له، حتى إنهم كانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يجاوزوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلموا القرآن والعمل جميعًا.
وإليك ما أوصى به أمير المؤمنين علي بنُ أبي طالب حملة العلم، فقال رضي الله عنه: (يا حملة العلم، اعملوا به فإنما العالمُ من علم ووافق عملُه علمَه).
وما منا إلا ومعه شيء من العلم قلّ أو كثر، فلا تتوهم ـ أخي ـ أننا نريدُ غيرك أو نخاطب سواك.
فعلينا ـ أيها المؤمنون ـ أن ننشغل بتحقيق ما علمناه من دين الله سبحانه، فكم هم الذين يعلمون أشياء من شرائع الدين وأحكامه وهم عن العمل بها معرضون وعنها مشتغلون؛ غرّهم ما معهم من العلوم والمعارف، فليت شعري هل علم هؤلاء أن العبرة بالعمل؛ إذ العلمُ بلا عمل حجةٌ على صاحبه.
وقد صاح ابن الجوزي رحمه الله واعظًا نفسَه لما رآها أقبلت على التشاغل بصورة العلم عن حقيقته وثمرته، فقال مخاطبًا نفسهُ: "فصحت بها: فما الذي أفادكِ العلم؟! أين الخوف؟! أين القلق؟! أين الحذر؟! أوما سمعتِ بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم؟! أَمَا كان النبي سيدَ الكلّ ثم إنه قام حتى ورمت قدماه؟! أَمَا كان أبو بكر شجيَّ النشيج كثيرَ البكاء؟! أَمَا كان في خد عمر بن الخطاب خطان من آثار الدموع؟!"، ومضى رحمه الله مع نفسه مذكرًا، ولها واعظًا أَمَا كان؟! أَمَا كان؟! ثم قال موصيًا نفسه: "احذري الإخلاد إلى صورة العلم مع ترك العمل به فإنها حالة الكسالى" انتهى كلامه.
وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل هي حالة ـ والله ـ في غاية الخسران ومنتهى الخبال، فإن أشدَّ الناس حسرة رجلٌ نظر إلى علمه في ميزان غيره، سعد به الناس وشقي هو به، فالمسكين من ضاع عُمره في تحصيل علوم لم يعمل بها، ففاتته لذاتُ الدنيا وزينتُها وخسر خيراتِ الآخرِة ونعيمها، فقدم على الله مفلسًا من كل خير مع قوة الحجة عليه، وهذا يصدق فيه ما قاله سفيان بن عيينة: "العلمُ إن لم ينفعْك ضرَّك".
ولو لم يكن من فوائد العمل بالعلم إلا أنه يقي المرء مصارعَ السوء ودركات الشر ومقامات الخزي لكفى به حاثًّا على الاستكثار منه والانشغال به والاهتمام به.
إذا العلمُ لم يُعمل به كان حجةً عليك ولم تعذر بما أنت حاملُ
فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما يُصدِّقُ قولَ المرء ما هو فاعلُ
[1] أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق (3267)، ومسلم في الزهد والرقائق (2989).
[2] أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاعلموا ـ بارك الله فيكم ـ أن العمل بالعلم من أعظم أسباب ثبوتِ العلم وحفظهِ ورسوخِه؛ إذ العمل بالعلم يوجب تذكرَه وتدبرَه ومراعاتَه والنظرَ فيه، فإذا أهمل العبد العمل بعلمه كان ذلك سببًا لنسيانه واضمحلاله، فالبئر التي لا تنزح تنضب. وكان بعض من فقه هذا يثبّت علمه بالعمل، قال الشعبي رحمه الله: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"، وقال وكيع بن الجراح رحمه الله: "كنا نستعين في طلب العلم بالصوم".
فالعمل بالعلم من أبرز أسباب زيادته ونمائه وثباته؛ إذ العمل بالعلم من تقوى الله، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29].
والعمل بالعلم والأخذ به أدعى لقبول ِالناسِ قولَ العالم، فإن قولاً أولُ من يخالفه قائلهُ شمسُه آفلة، ونجمه زائل، وتأثيره غائب، وإنما يعرف الناسُ صدقَ الدعوات بثبات أصحابها عليها وعملِهم بها، فامتثال العلم في الواقع وترجمته في حياة الناس وإحياؤه بالعمل به أبلغُ وسائل الدعوة والتأثير، إذ النائحة الثكلى ليست كالنائحة المستأجرة.
والعالم العامل يأخذ بمجامع العقول والألباب، وفي فلكه تدور قلوب العباد، إذ القول يحسنه كل أحد وإنما يتمايز الناس ويتفاضلون بالأعمال، والخلق إلى أن يوعظوا بالأعمال أحوج منهم إلى أن يوعظوا بالأقوال.
فعلى أهل العلم وطلبته وأهل الصحوة والدعوة أن يتحسسوا أنفسهم، وأن يداووا ما قد يكون بنفوسهم من علل تصد عن الحق، وتصرف عن الهدى، فإن الناس لا يأخذون عَمَّن اكتفوا من العلم بالانتساب، وارتضوا الخروج عنه بالأعمال، ولذا عاب الله على الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، فقال: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، وكان سفيان الثوري يردد قول الشاعر:
فإن كنت قد أوتيت علمًا فإنما يُصدق قولَ المرء ما كان فاعله
وقد امتدح الله الصادقين في أقوالهم وأعمالهم فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
والناظرُ في سير الأئمة الأعلام الذين سمت أقدارهم وكان لهم لسان صدق في الأمة يلاحظ أن سمة العمل بالعلم انتظمت جميعهم، فلا تكاد ترى رجلاً ممن أحيا الله به ما اندرس من معالم الدين أو ممن كتب لهم القبول لهجت ألسُن الناسِ بذكره والثناء عليه إلا وقد ضرب في العمل بنصيب وافٍ، فالعمل بالعلم من أبرز ما يبلغ الرجالَ منازل الربانيين، فالرباني هو الذي علم وعمل وعلّم، فإن العالم العامل هو من كان بعلمه عاملاً ولعلمه معلمًا.
قال الحسن رحمه الله في وصف العالم الرباني: "هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحًا في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، فهذا خليفة".
والعمل بالعلم سبب لتحصيل الحسنات ورفع الدرجات، لذا قرن الله بين الإيمان والعمل في كثير من النصوص، فمن ذلك قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة:9]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11]، ونظائر هذا في كتاب الله كثيرة.
وفقنا الله وإياكم إلى علم نافع راسخ، وإلى عمل صالح دائم.
(1/3709)
انحرافات في مفهوم العبودية
الإيمان, التوحيد
الألوهية, الشرك ووسائله, شروط التوحيد, نواقض الإيمان
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العبودية ومكانتها. 2- أركان العبودية. 3- شمولية العبودية لجميع مناحي الحياة. 4- تعريف العبودية وبيان شروطها. 5- مفاهيم خاطئة حول مفهوم العبودية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله وأطيعوه، واعلموا أن الله تعالى قد خلقكم ـ إنسكم وجنكم ـ لعبادته، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. فعبادة الله تعالى وإفرادها لله وحده لا شريك له هي الغاية القصوى والمطلب الأسمى والمقصود الأعلى من الخلق كما دلت عليه الآية، فإن الله تعالى ذكر ذلك بالنفي والاستثناء اللذين هما أقوى صور الحصر والقصر، فنفى أي غاية لوجود الإنس والجن غيرَ عبادته سبحانه.
وهو تعالى ذكره وتقدست أسماؤه لما خلقنا لذلك لم يتركنا هملاً بلا بيان ولا توضيح للعبادة التي خلقنا لها وأمرنا بها، بل بين لنا معنى العبودية لله سبحانه ووضح سبيل ذلك، فبعث الرسل مبشرين ومنذرين، وإلى عبادته وحده داعين، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [النحل:36]، فكل رسول جاء إلى قومه كان أول ما يقول لهم: يا قوم، اعبدوا الله ما لكم من إله غيرُه.
وهذه الدعوة التي جاءت الرسل بها أمرٌ فطر الله تعالى الخلق عليه، ومع ذلك انقسم الخلق حيال دعوة الرسل إلى قسمين، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن:2]. فمن الناس من وفقه الله إلى الإيمان، فهو على الفطرة في عبوديته للواحد الديان، ومن الناس من ابتلي بالحرمان فاجتاله الشيطان، فوقع في عبودية الأصنام والأوثان.
أيها المؤمنون، إن العبودية لله تعالى التي هي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وسرور النفوس مبنية على ركنين عظيمين لا تصح إلا بهما، الأول: محبة الله تعالى، والثاني: الذل له سبحانه.
قال ابن القيم رحمه الله:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
فكلما امتلأ قلب العبد لله تعالى حبًا، وله سبحانه ذلاً وتعظيمًا، ولأوامره وشرعه انقيادًا وعملاً، كملت فيه العبودية لله تعالى.
وهذه العبودية التي دعت إليها الرسل أمر عام واسع رحب، يضرب برواقه على جميع مناحي الحياة وشؤونها، ويتبين هذا واضحًا جليًا من خلال إجالة النظر في آيات الكتاب الحكيم، ومن خلال مطالعة دواوين السنة، فإن الله تعالى خاطب عباده المؤمنين بالأمر والنهي في أمورٍ كثيرة تتعلق بمعاشهم وحياتهم.
ويمكن أن يتضح شمول العبودية لجميع مناحي الحياة من تعريف أهل العلم والفقه لمعنى العبادة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة".
فعلى هذا تكون العبادة شاملة للأعمال القلبية كمحبة الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه والتوكل عليه والإخلاص له والصبر لحكمه، وهي شاملة للأركان الشعائرية من الصلاة والزكاة والصيام والحج وتطوعاتها وما يتبعها، وهي أيضًا شاملة للعلاقات الاجتماعية والأحوال الشخصية والأخلاق والفضائل التعاملية، وهي تشمل أيضًا الأحكام القضائية التشريعية والشؤون التجارية والاقتصادية والسياسية.
فالدينونة لله تعالى والعبودية له سبحانه دائرة واسعة تحيط بجميع جوانب الحياة وفروعها، من آداب الأكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة وسياسة الحكم.
وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم هذا المعنى، بل وعرفه المشركون والمخالفون لدعوة الإسلام في ذلك الوقت، ففي صحيح مسلم عن سلمان رضي الله عنه قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم يعلمكم، حتى يعلمكم الخراءة ـ أي: قضاء الحاجة ـ، فقال: أجل نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القبلة، ونهى عن الروث والعظام وقال: ((لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار)) [1].
والمتأمل في سيرة الصحابة الكرام رضي الله عنهم يرى ويشهد أنهم كانوا يراجعون النبي في كثير من الأحوال وفي أكثر الأحيان، وأنهم كانوا يتوقفون في انتظار الوحي في كثير من قضاياهم وشؤونهم، إلا أنه مع مضي الأوقات وفشو الجهالات وقلة العلماء والدعاة اعترى مفهوم العبودية كثيرٌ من التغيير والتبديل والانحراف، حتى أصبحنا نرى ونسمع من يدعي الانتساب إلى الإسلام ثم إنه لا يرى ضيرًا ولا حرجًا أن يصرف أنواعًا من العبادات القلبية أو العملية لغير الله تعالى؛ إما بحجة أنهم أولياء الله أو أنهم وسطاء، أو أنهم وسائل أو غيرُ ذلك من الشبه.
وأصبحنا نرى ونشاهد من وحد الله بالقصد فلم يعبد إلا الله تعالى، لكنه لم يتابع النبي فيما جاء به، فعبد الله بهواه وما تمليه عليه رغبته.
وكلا الفريقين ضل الطريق وأخطأ السبيل؛ فإن الله تعالى أمرنا بعبادته وحده سبحانه فقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وأمرنا أيضًا أن لا نعبده إلا بما شرع، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، وقال النبي : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) رواه البخاري ومسلم [2].
فالواجب على العبد الراغب في تحقيق عبوديته لله تعالى أن يطهر قلبه ويصفيه ويخليه من كل شائبة شرك أو قصد لغير الله تعالى، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتغي به وجهه سبحانه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)) رواه مسلم [3]. وعليه أيضًا أن يجتهد في متابعة النبي واقتفاء أثره، فإن خير الهدي هدي محمد ، وعلى حسب متابعة العبد للنبي ينال من انشراح الصدر ورفع الذكر وكثرة الأجر عند الله سبحانه وتعالى.
فعليكم ـ عباد الله ـ بالإخلاص والمتابعة للنبي ، فليست العبرة بكثرة العمل مع التفريط في الإخلاص لله ومتابعة الرسول، بل العبرة بحسن العمل، قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]. قال الفضيل بن عياض رحمه الله: "العمل الحسن هو أخلصه وأصوبه"، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: "إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص ما كان لله، والصواب ما كان على السنة".
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من أهل الإخلاص والمتابعة، وأن يوفقنا إلى خير الأقوال والأعمال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (262).
[2] أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (1718) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[3] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإنه قد تقدم لنا في الخطبة الأولى صورتان من صور الانحراف الذي طرأ على الأمة في مفهوم العبودية لله تعالى.
ومن صور الانحراف في مفهوم العبودية لله تعالى أن بعض من أعمى الله بصيرتهم وأضلهم عن سواء السبيل تصوروا أو صُوّر لهم أن عبادة الله تعالى هي تلك الأقوال والأعمال التي تضبط علاقة العبد بربه من صلاة أو زكاة أو صيام أو حج أو تلاوة وذكر فحسب، أما ما عدا ذلك من الأمور فليس لها بالعبادة أو العبودية لله تعالى صلة، بل هي موكولة إلى الناس يفعلون فيها ما يشاؤون ويحكمون ما يريدون. ولا شك أن هذا فهم مبتور مغلوط دلّت نصوص الكتاب والسنة على بطلانه، بل دل العقل على ضعفه وضلاله؛ إذ كيف يستقيم في الأذهان أو يصح عند أولي العقول والأبصار أن يعلم النبي المختار أمته تفاصيل ودقائق آداب قضاء الحاجة ثم يعرض ويترك تعليمهم الأمور العظام والقضايا الجسام التي بها تستقيم الحياة في المدن والأمصار؟! بل لو قال قائل: إن هذا فيه أعظم التنقيص والإزراء بالشرائع والأنبياء لما جانب رأي الألباء والعلماء.
وقد خلّف هذا الفهم المغلوط انحرافاتٍ خطيرةً توشك أن تخرج بأصحابه عن سبيل أهل الإسلام.
ومن هذه الانحرافات الجسام أننا سمعنا من يقول ويكتب: إن الدين والعبودية لله ليس لها دخل في التجارة أو الاقتصاد أو السياسة أو الإعلام أو غير ذلك من مجالات الحياة، بل آل الأمر بكثير من أصحاب هذا الفكر الضال المنحرف أن فصلوا الدين عن الحياة، وجعلوا الكتاب والسنة اللذين هما سبيل النجاة ينظمان علاقة العبد بربه ولا يتجاوزون بهما هذا الحد، بل لم يقتصر الأمرُ على ذلك فرأينا أصحاب هذا الانحراف الذين ضرب النفاق قلوبهم بجرانه ينكرون على كل من يصدر عن السنة والقرآن في سياساته أو اقتصادياته أو أحكامه أو أنظمته أو سائر شؤون حياته، ويقذفون بأقذع الأسماء ويصفون بأبشع الأوصاف كُل من دعا إلى تحكيم الكتاب والسنة، فتارة يسمون المتمسكين بالكتاب والسنة في دق الأمر وجليله رجعيين، وتارة ظلاميين، وتارة أصوليين، وتارة متطرفين أو إرهابيين، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المؤمنون، احذروا هؤلاء المضللين المنافقين؛ فإنهم من أعظم ما يفسد الأديان ويخرب الأوطان، وتمسكوا بكتاب ربكم وسنة نبيكم فهما سفينة النجاة، وقد أمر الله بذلك فقال لنبيه : فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43]، وجاء عن النبي من طرق عديدة أنه قال: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)) [1].
ولا يخدعنكم هؤلاء المنحرفون بألاعيبهم وأساليبهم وتضليلاتهم، فهم أشبه من ينطبق عليهم وصف النبي الذي رواه حذيفة رضي الله عنه عن أهل الشر الذين يكونون آخر الزمان: ((دعاة ضلالة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)) ، قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، فقال: ((هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)) [2].
فنعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلال بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الاهتداء.
[1] أخرجه ابن عبد البر في التمهيد (128).
[2] أخرجه البخاري في المناقب (3606).
(1/3710)
أهمية الصبر
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, مكارم الأخلاق
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الصبر وأهميته. 2- أنواع الصبر. 3- أصناف الناس عند نزول المصائب. 4- درجات الصبر. 5- الوصية بالصبر لدعاة الحق والخير والإصلاح. 6- أسباب تعين على الصبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، ألا وإن أعظم ما تحصل به التقوى وتجنى به ثمارها الصبر.
واعلموا أن الله سبحانه جعل الصبر جوادًا لا يكبو، وصارمًا لا ينبو، وحصنًا لا يهدم ولا يثلم، وقد أجمع العلماء على وجوبه؛ فقد أمر الله تعالى به عباده، فقال جل ذكره: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، ونهى عن ضده فقال سبحانه مخاطبًا نبيه : فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [الأحقاف:35]، وقال جل وعلا: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل:127]، وقال: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
وقد أثنى الله على أهله: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]. وأوجب سبحانه للصابرين محبته فقال تعالى: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، وأخبر أنه خير لأهله فقال: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء:25]، وقال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل:126]، ووعدهم سبحانه بعظيم الأجر فقال سبحانه: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]. وقد أخبر النبي أنه خير ما يعطاه العبد، فقال: ((وما أعطي أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر)) رواه الشيخان [1].
والصبر ـ أيها المؤمنون ـ ضرورة حياتية قبل أن يكون فريضة دينية شرعية، فلا نجاح في الدنيا ولا فلاح في الآخرة إلا بالصبر، فلا تحقق الآمال ولا تنجح المقاصد ولا يؤتي عمل أُكله إلا بالصبر، فلولا الصبر ما حصد الزارع زرعه، وما جنى الغارس ثمره، ولا حصَّل الساعي قصده، فكل الناجحين في الدنيا بمقاصدهم إنما حققوا آمالهم بالصبر؛ استمرؤوا المُرّ واستعذبوا العذاب، واستهانوا بالصعاب ومشوا على الشوك، ووطنوا أنفسهم على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار النتائج دون ملل، ومواجهة العقبات دون كلل، مضوا في طريقهم غير وانين ولا متوقفين، حاديهم في سيرهم: "من صبر ظفر"، وشاعرهم يهتف مرددًا:
إني رأيت وفي الأيام تجربة للصبر عاقبةً محمودةَ الأثر
وقلّ من جد في أمر يحاوله واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
فالصبر طريق المجد وسبيل المعالي، فالرفعة في الدنيا لا تنال إلا بركوب المشقات وتجرّع الغصص، فمن اختطّ طريقًا يبلغ به أمانيه غير هذا فقد أخطأ الطريق وضلّ السبيل، وما أصدق قول القائل:
لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا
أيها المؤمنون، إذا كانت الدنيا ـ على هوانها وأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة ـ لا تحصل إلا بالصبر والمصابرة، فكيف تحصل الجنة التي عرضها السماوات والأرض، والتي أعد الله فيها لأوليائه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بالكسل والضجر والعجز والجزع؟!
أيها المؤمنون، إن حاجة طلاب هذا النعيم وخطَّاب هذه الجنة إلى الصبر أحوج وألزم، فطريقهم مليء بالأشواك والعقبات ومحفوف بالمخاطر والمكاره.
ولن تبلغ ـ أيها المؤمن ـ ما ترجوه من فضل الله ورحمته وعظيم منّه وعطائه بمثل الصبر، وهذا سرُّ احتفاء القرآن الكريم بالصبر، حتى ذكره الله تعالى في كتابه في نحو تسعين موضعًا.
أيها المؤمنون، أنتم محتاجون إلى الصبر عند فعل ما أمركم الله تعالى به، وعند ترك ما نهاكم الله عنه، وعند حلول الكرب ونزول الضيم والبلاء، فالصبر لازم لكم إلى الممات وإليكم بيان ذلك:
أما الصبر على طاعة الله تعالى فذلك لأنّ النفس جبلت على حب الراحة والدعة والكسل والعجز، فحملُها على فعل ما أمر الله به يحتاج إلى صبر ومجاهدة وتحمل ومعاناة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً عبادة تحتاج إلى صبر، لذلك أمر الله بالصبر عنده: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17].
والصلاة فريضة متكررة تحتاج إلى صبر وجهد، قال تعالى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132].
وعشرة المؤمنين والإبقاء على مودتهم والإغضاء عن هفواتهم والرضا بهم وهجر غيرهم خصال تحتاج إلى صبر ومصابرة، لذا قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
والخلاصة ـ أيها الإخوة الكرام ـ أن العبادة بشتى صورها وصنوفها تحتاج إلى صبر ومجاهدة، ولذلك جعل الله الصبر سببًا لدخول الجنة، إذ إنه هو الذي يحمل على فعل الطاعات، قال تعالى عن أهل الجنة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24].
وقال ابن القيم عنهم:
صبروا قليلاً فاستراحوا دائمًا عزة التوفيق للإنسان
أما النوع الثاني من الصبر الذي تحتاجه ـ يا عبد الله ـ فهو الصبر عن الشهوات والملذات، وذلك أن النفس ميالة إلى الآثام، تَوَّاقة إلى الشهوات، فإن لم تلجمها بلجام التقوى وتحكمها بحكمة الصبر وقعت في الآثام وتلطخت بالأوزار، فالإعراض عن الملاهي والإدبار عن الشهوات لا يأتي إلا لمن تدرّع بلباس المجاهدة والصبر، ولا يلقاه إلا الصابرون، قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28].
فيا أخي الحبيب، إذا دعتك شهوتك إلى مواقعة ما حرمه الله عليك فعليك بالصبر عن ذلك، فإن سلعة الله غالية، وإذا أزتك نفسك لغيبة أخيك أو سبه أو شتمه أو التنقص منه فاصبر عن ذلك.
فعاقبة الصبر الجميل جميلة وأحسن أخلاق الرجال التحفظ
وإذا سوّلت لك نفسك ودعاك جشعك إلى أن تظلم إخوانك وتأخذ حقوقهم بغير حق فكفَّ عن ذلك واصبر، فبالصبر تنجو من غوائل المعاصي والرزايا، وتحصل الفضائل والمزايا.
أيا صاحبي إن رمت أن تكسب العلا وترقى إلى العلياء غير مزاحم
عليك بحسن الصبر في كل حالة فما صابر فيما يروم بنادم
وأما ثالث أنواع الصبر التي يحتاجها العبد فهو الصبر على أقدار الله تعالى، ألا وإن من أعظم الصبر الصبر على قضاء الله، وهذا النوع من الصبر لا غنى للإنسان عنه، فإنه إذا استحكمت الأزمات وتعقدت حبالها وترادفت الضوائق وطال ليلها وادلهمت الخطوب والنكبات واشتد أوارها فالصبر خير مطية يرتحلها العبد لتخطّي تلك الظلمات، وهو وحده الذي يخرجك من تلك الظلمات وينجيك من تلك المدلهمات، فالدنيا مليئة بالغُصص والمنغصات، قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، فمن ذا الذي لا يشكو همًّا ولا يحمل همًا، ولم تطرقه الدواهي وتَغْشَه الكروب، فهي كما قال الأول:
جُبِلتَ على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأقذار والأكدار
فكلنا يشكو ضيمًا ويحمل همًا كما قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، أي: عناء ومشقة:
كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن؟!
والناس إزاء هذه الحقيقة الخلقية القدرية الكونية صنفان: قوم قابلوا أقدار الله تعالى بالسخط والضجر والجزع، فخسروا دينهم وأضاعوا دنياهم، فذلك لا يرفع خطبًا ولا يكشف كربًا، بل هو إثم وذنب، وقوم إذا نزلت بهم نازلة تذكروا قول الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن:11].
فآمنوا بالله، واصبروا على قضاء الله وقدره، وافزعوا إلى ما أرشدكم إليه نبيكم حيث قال: ((ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهمّ أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها، إلا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرًا منها)) رواه أحمد بسند جيد [2]. فاسترجعوا وصبروا، ففازوا وظفروا.
فاحرصوا ـ عباد الله ـ على أن تكونوا من الصابرين المسترجعين عند حلول البلاء، والشاكرين المقرين عند نزول النعماء.
[1] أخرجه البخاري (1400)، ومسلم (1053) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] وأخرجه مسلم (918) من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فالصبر ـ يا عباد الله ـ درجات ومنازل، أعلاها صبر المرسلين والأنبياء الذي نالوا به عِزّ الدنيا والآخرة، صبر الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله، الذين منهم من قتل، ومنهم من ضرب، ومنهم من جرح وجلد وسجن، فصبر هؤلاء لله وبالله.
فيا ورثة الأنبياء، ويا حملة الرسالة، ويا دعاة الإسلام، ويا علماء الشريعة، ويا أبناء الصحوة، ويا أهل الخير والدعوة، ويا أيها المؤمنون، أنتم أحق الناس بهذه الصفة وأحوج الخلق إلى هذه الخلة، فإنكم ستلقون خطوبًا عظامًا وعقبات كبارًا ومتاعب وآلامًا تنوء بها الظهور، وتضعف عن حملها الجبال، فأنتم تدعون الناس إلى عبادة الله وحده وهجر الهوى والشيطان، وترك المحاب والشهوات، وتطالبونهم بأن يقفوا عند حدود الله أمرًا ونهيًا وفعلاً وتركًا، فأعداؤكم كثر، ومعارضوكم أكثر الخلق، قال الله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ [الأنعام:116].
فما أحوجكم إلى صبر تقطعون به هذه المفاوز، ومجاهدة تتحملون بها معارضة أكثر الخلق، فإن أشق ما على النفس أن تدعو بملء فيك وبأعلى صوتك بشيرًا ونذيرًا، فلا تجد إلا آذانًا صمًا وقلوبًا غلفًا.
ما أمس حاجتكم إلى صبر جميل تستعينون به على تلقي ما يلحق بكم من أذى قولي أو فعلي حسيّ أو معنوي. فأعداء الله لا يرقبون في مؤمن إِلاً ولا ذمة، ولا يتورّعون عن إيقاع الأذى بشتى صنوفه على أولياء الله من العلماء والدعاة والعباد، بل وعلى كل من قال: لا إله إلا الله، وما قصة أصحاب الأخدود عنا ببعيد، ولا ما يجري على كثير من أهل الإسلام ورجالاته وعلمائه ودعاته من الأذى والقتل والضرب والسجن والمطاردة والإبادة ومصادرة الحقوق والحريات وغير ذلك عنَّا بغائب.
فعليكم ـ أيها المؤمنون ـ أن توطّنوا أنفسكم على احتمال المكاره دون ضجر، وانتظار الفرج دون ملل، ومواجهة الأعباء والصعاب دون كلل، فإن هذه سنة الله تعالى في عباده ليميز الخبيث من الطيب، قال الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186].
وما أشد حاجتكم إلى الصبر ـ يا ورثة الأنبياء ـ عند تأخر النصر والمدد من الله، فإن النصر لا تشرق شمسه إلا بعد ليل طويل حالك مليء بالشدائد والمحن التي تدمع لهولها الأبصار، وتبلغ لشدتها القلوب الحناجر، قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [214].
ومما يعينك ـ يا عبد الله ـ على الصبر في التعلّم والدعوة والصدع بالحق أن تنظر إلى حسن العاقبة وعظيم الأجر وما أعد الله تعالى للصابرين، فقد قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وأن الله سبحانه وتعالى معك ينصرك ويؤيّدك، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153].
ومما يعينك أيضًا أن تنتظر الفرج من الله، فإن الفجر لا يطلع إلا بعد اشتداد ظلمة الليل والعاقبة للمتقين.
ومما يعينك أيضًا أن تتذكر حال السابقين الصادقين من النبيين وغيرهم، وما جرى لهم، وكيف كانت العاقبة لهم، فإن ذلك مما يثبتك ويصبرك، قال الله تعالى مخاطبًا نبيه: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35].
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أننا في هذه الأزمان المتأخرة من أشدّ الناس حاجة إلى الصبر؛ فإن الباطل انتعش وكثر أعوانه ودعاته، فتكالبت علينا الأعداء من كلّ حدب وصوب، وقد أرشدنا إلى ذلك نبينا محمد حيث قال: ((فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيها مثل القبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه [1] ، وهو كما قال بمجموع طرقه.
وتذكروا: أن الصبر والمجد لا يحصل إلا بالتعب والكد.
بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
[1] أخرجه أبو داود في الملاحم (4341)، والترمذي في تفسير القرآن (3058)، وابن ماجه في الفتن (4014) من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.
(1/3711)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الوالدين في الإسلام. 2- فضل بر الوالدين. 3- حقوق الوالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، واعلموا أن تقوى الله تعالى لا تستقيم لكم حتى تقوموا بما فرض الله عليكم من الواجبات والحقوق، وتذروا ما نهاكم عنه من القطيعة والعقوق.
أيها المؤمنون، إن بر الوالدين من آكد ما أمر الله به عباده، كيف لا وقد قرن الله حقهما بحقه سبحانه وتعالى، وشكرهما بشكره جل علاه، فقال الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وقال جل وعلا: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].
ومما يظهر مكانة بر الوالدين في ديننا الحنيف النصوص النبوية الكثيرة المستفيضة، والتي تحث على بر الوالدين، وتنهى عن عقوقهما، فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قال: ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) ، قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) [1] ، وفيهما أيضًا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال: ((أحيّ والداك؟)) قال: نعم، قال: ((ففيهما فجاهد)) [2] ، وعنه أيضًا قال: قال رسول الله : ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)) [3].
أيها المؤمنون، فضل الوالدين كبير، وإحسانهما سابق عظيم، تذكر رعايتهما لك حال الصغر وضعف الطفولة، حملتك أمك ـ يا عبد الله ـ في أحشائها تسعة أشهر، وهنًا على وهن، حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا.
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي لها من جواها أنّة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليك مشقة فكم غصص منها الفؤاد يطير
وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها صفوًا وإشفاقًا وأنت صغير
هذه حال أمك، أما أبوك ـ أيها الأخ ـ فتذكر كده وسعيه، وتنقله وسفره، وتحمله الأخطار والأكدار، بحثًا عن كل ما تصلح به معيشتك، وإن كنت ناسيًا فلا تنس انشغاله بك، وبصلاحك ومستقبلك وهمومك.
نعم أيها الأخ الكريم، هذان هما والداك، ألا يستحقان منك البر والإحسان والعطف والحنان؟! بلى والله، إن ذلك لمن أعظم الحقوق.
أيها المؤمنون، إن مما يحثنا ويشجعنا على بر الوالدين تلك الفضائل التي رتبها الكريم العليم على بر الوالدين، فمن تلك الفضائل أن بر الوالدين سبب لدخول الجنة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، فلم يدخل الجنة)) [4].
ومن فضائل بر الوالدين تفريج الكربات وإجابة الدعوات، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم، حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أَغْبِقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيء يومًا، فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غَبُوقَهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أَغبق قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقَدَح على يدي أنتظر استيقاظهما، حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئًا لا يستطيعون الخروج)) ، قال النبي : ((وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم، كانت أحب الناس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها، وهي أحب الناس إليّ، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة، غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها)) ، قال النبي : ((وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء، فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد، ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أد إليّ أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك، من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي، فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه، فلم يترك منه شيئًا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)) [5].
ومن فضائل بر الوالدين سعة الرزق وطول العمر، ففي الصحيحين عن أنس مرفوعًا: ((من سره أن يبسط عليه رزقه ويُنسأ في أثره فليصل رحمه)) [6] ، وبر الوالدين أعظم صور صلة الرحم.
ومن فضائل بر الوالدين ما ورد في شأن من عق والديه، فإن الأحاديث كثيرة مستفيضة في تغليظ عقوق الوالدين، ولو لم يكن في ذلك إلا تحريم الجنة على العاق ـ نعوذ بالله من الخسران ـ لكفى، ففي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) [7].
أيها المؤمنون، لو لم يكن في عقوق الوالدين وترك برهما إلا أنه غصص وأنكاد يتجرعها من لم يألُ جهدًا في الإحسان إليك لكان كافيًا في حملك على تركه، واستمع ـ بارك الله فيك ـ إلى تلك الزفرات التي أطلقها والد ابتلي بعقوق ابنه له، حتى ترى عظم ذلك وفداحته، قال الوالد مخاطبًا ذلك الابن العاق:
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أؤملُ
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذا لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليّ بما لي دون مالك تبخلُ
فيا أيها المؤمنون، اتقوا الله، وقوموا بما فرض الله عليكم من بر والديكم والإحسان إليهم، فإن حقهما عليكم عظيم كبير، جاء رجل إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فقال: إن لي أمًا قد بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديت حقها؟ فقال الفاروق المحدَّث رضي الله عنه: (لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك، وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن، والله يجزي المحسنين على القليل الكثير).
[1] أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (496), ومسلم في الإيمان (120).
[2] أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2782), ومسلم في البر والصلة (4624).
[3] رواه الترمذي في البر والصلة (1821) وسنده جيد.
[4] أخرجه مسلم في البر والصلة (4627).
[5] أخرجه البخاري في الإجارة (2111), ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4926).
[6] أخرجه البخاري في الأدب (5526), ومسلم في البر والصلة (4638).
[7] أخرجه البخاري في الأدب (5525), ومسلم في البر والصلة (4637).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إن للوالدين حقوقًا وواجبات نشير في هذه الخطبة إلى بعضها، رجاء أن يثمر ذلك عملاً صالحًا، وبرًا حانيًا، فلئن كانت النفوس السوية مجبولة على حب من أحسن إليها، فإن من شرائع الدين وسمات المروءة وضرورات العقل أن يقابل الإحسان بالإحسان، قال الله تعالى: هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إلا الإحْسَانُ [الرحمن:60].
فمن حقوق الوالدين عليك محبتهما وتوقيرهما على من سواهما، روى البخاري في الأدب المفرد أن أبا هريرة أبصر رجلين فقال لأحدهما: ما هذا منك؟ فقال: أبي، فقال: (لا تسمه باسمه، ولا تمشِِ أمامه، ولا تجلس قبله).
ومن برهما الإحسان إليهما بالقول والعمل والحال، كما قال الله تعالى: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].
ومن حقوقهما الدعاء لهما في الحياة وبعد الممات، قال الله تعالى: وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24]، وفي الحديث: ((إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك)) [1].
ومن حقوقهما صلة أهل ودهما، فقد روي عن ابن عمر مرفوعًا: ((إن من أبرّ البر صلة الرجل أهل ودِّ أبيه)) [2].
ومن حقوقهما النفقة عليهما إذا كانا محتاجين للنفقة، وعند الولد ما يزيد على حاجته، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "على الولد الموسر أن ينفق على أبيه وزوجة أبيه وعلى إخوته الصغار، وإن لم يفعل ذلك كان عاقًا لأبيه، قاطعًا لرحمه، مستحقًا لعقوبة الله في الدنيا والآخرة".
ومن حقوقهما التواضع لهما وخفض الجناح، قال الله تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
هذه ـ أيها المؤمنون ـ بعض الحقوق التي افترضها الله عليكم لوالديكم، ولا يظن من وفقه الله في القيام ببعض الحقوق أنه قد قام بما عليه، وقد جزى والديه حقهما، قال النبي : ((لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا، فيشتريه فيعتقه)) [3]. ورأى ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يمانيًا بالبيت، قد حمل أمه وراء ظهره، وهو يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرتْ ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: (لا، ولا بزفرة واحدة). أي: عند الولادة.
اللهم إنا نسألك أن تعيننا على القيام بما افترضت علينا من بر الوالدين.
[1] أخرجه أحمد (10202) وسنده حسن.
[2] أخرجه مسلم في البر والصلة (4631).
[3] أخرجه مسلم في العتق (2779).
(1/3712)
الضيف الأخير
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب الخوف من الموت. 2- علامات دنو الأجل. 3- وصية في الاستعداد للموت قبل حلوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها دليل الحيران ورِيّ الظمآن وأنيس الولهان، بها يسمو المرء ويرتفع، وتُصقَل النفس وتنتفع، هي الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال ؟!
مع من سنقف وإياكم؟! سنقف وإياكم مع الزوّار، مع الضيوف الذين نستقبلهم طوال حياتنا، من هؤلاء الضيوف؟! من هؤلاء الزوار؟!
هؤلاء الضيوف لهم مدّة محددة يعلمها الله عز وجل؛ لأن الضيف لا يطيل. من الناس من يحسن استقبال هؤلاء الضيوف والتعامل معهم.
من هؤلاء الضيوف المصيبة, فالمصيبة تزورك يا عبد الله، ولها مدة محددة يبتليك الله بها، أتصبر أم لا؟ أتشكو حالك إلى الناس أم تشكو حالك إلى الملك جل وعلا، ولسان حالك: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ [يوسف:86].
تأتيك المصيبة ـ يا عبد الله ـ أتَتَذلّل للمخلوق أم تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وتصبر وإنما الصبر عند الصدمة الأولى.
ومن هؤلاء الضيوف النعمة والعافية، يبتليك الله بها: أتشكر أم تكفر أم تنسى حال النعمة؟! كما قال تعالى: وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا [الإسراء:83].
ومن هؤلاء الضيوف هذه الأيام وهذه الدقائق التي نعيشها، ما هي إلا ضيوف تحل علينا ثم تنطلق, وما من يوم ينشقّ فجره إلا وينادي ابن آدم: أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فاغتنمني فإني لا أعود إلا يوم الوعيد. وما أنت يا ابن آدم إلا أيام معدودات، إذا ذهب يوم ذهب بعضك حتى تنتهي ويقال: مات فلان.
عبد الله، اليوم 24 ساعة، كل ساعة خزانة فارغة فاملأها بما تريد، املأها بالذكر والقرآن والإحسان والإيمان، أو املأها بالشر والكفر والعصيان، فإذا ما انتهت الساعة أغلقت تلك الخزانة ولن تفتح إلا يوم القيامة، وحينئذ يقال لك: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14].
ومِن الضيوف التي تحل علينا المرض، يبتلينا الله به ليكفر الله بها من خطايانا ويمتحن صبرنا ويذكرنا بنعمة العافية.
ومن هؤلاء الضيوف شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن, هذا الضيف المبارك الذي يستمرّ عندنا أيامًا معدودات ثم ينطلق، فمن الناس من يغتنم هذا الضيف فيفوز بالعتق من النيران، ومن الناس من يفرط فيه ويخرج من بين يديه بلا شيء.
ومن هؤلاء الضيوف والزوار الزائر الأخير الذي ليس بعدَه زائر، والضيف الذي ليس بعده ضيف، ألا وهو الموت، مفرّق الجماعات وهادم اللذات وميتّم البنين والبنات. ولا بد من وقفة مع هذا الضيف الأخير.
عباد الله، كلّنا يكره هذا الزائر الأخير, كلنا لا يحبه، فلماذا؟ لماذا نكرهه مع أن النبي حين خُيّر بين البقاء في الدنيا والموت قال: ((بل الرفيق الأعلى)) ؟! وعلى دربه سار أصحابه الذين كانوا يرحبون بالموت ويحسنون استقباله، فهذا بلال بن رباح مؤذّن النبي يأتيه الموت فتبكي زوجته وتولوِل وتقول: وا كرباه عليك يا بلالاه، وا حزناه عليك يا بلالاه، فقال بلال: (لا تقولي: وا كرباه، بل قولي: وا طرباه؛ غدًا نلقى الأحبّة محمدا وصحبه)، وهذا أبو هريرة يأتيه الموت فيقول: (اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي، مرحبًا بالموت حبيبًا جاء على فاقة).
ترى ما الفارق بيننا وبينهم؟! لماذا نكره قدومه؟! لماذا نخاف زيارته؟! لماذا يرتعد القلب وجلاً من ذكره؟! ما هي الأسباب؟! نحن نخاف الموت أولاً: حياء من الله، قيل لإحدى التابعيات: أتحبين الموت؟ قالت: لا، قيل: ولم؟ قالت: لو عصيت آدميا ما أحببت لقاءه، فكيف أحبّ لقاء الله وقد عصيته؟!
أخي، قل:
يا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي أن تتوبي واعص الهوى فالهوى ما زال فتانا
نحن نخاف الموت ثانيًا لأننا لا ندري أين النزول وإلام المصير، هل نحن من الفائزين السعداء أم نحن من الخاسرين الأشقياء؟! قال سعيد بن أبي عطية: لما حضر أبا عطية الموت جزع منه، فقالوا له: أتجزع من الموت؟! قال: "ما لي لا أجزع، وإنما هي ساعة ثم لا أدري أين يذهب بي".
وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل
لما حضرت أحمد بن خضرويه المنية سئل عن مسألة فدمعت عيناه، وقال: "يا بني، كنت أدق بابه خمسا وتسعين سنة، وها هو يفتح الساعة، لا أدري يفتح بالقبول والسعادة أو الشقاوة، فأنّى لي أوان الجواب؟!".
الموت باب وكل الناس داخله يا ليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار دار نعيم إن عملت بما يرضي الإله وإن فرطت فالنار
دخلوا على الشافعي وهو يموت، فقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: "أصبحت من الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى الله واردًا، ولا أدري أروحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أم إلى النار فأعزيها، ثم أنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك ربي سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منَة وتكرما"
ولما حضرت إبراهيم النخعي الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "أنتظر من الله رسولاً يبشرني بالجنة أو بالنار".
عباد الله، نحن نخاف الموت ثالثًا لقلّة الزاد، ماذا قدمنا؟ هل عملنا أعمالا تبيض وجوهنا يوم نلقى الله؟! هل عملنا أعمالا تثبّتنا عند قدوم الموت؟! قال جلّ وعلا: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ [المنافقون:10].
تحسر بعض الناس عند موته، فقيل له: ما بك؟ فقال: "ما ظنكم بمن يقطع سفرًا طويلاً بلا زاد، ويسكن قبرًا موحشًا بلا مؤنس، ويقوم بين يدي حكم عدل بلا حجة".
عبد الله، ما أخبار زادك؟! بكم ركعة في جوف الليل أعتقت رقبتك من النار؟! بكم يوم صمته في شدة الحر اتقيت حر جهنم؟! كم شهوة تركتها ترجو نعيم الأبد؟! أين الزاد الذي يُبَلِغ؟! أين العمل الذي يصلح؟!
نحن نخاف الموت رابعًا لأننا مسرفون على أنفسنا بالمعاصي، فالمسرفون في المعاصي يخافون القدوم ويهابون المنون، أساؤوا فخافوا، وعاثوا فهابوا، ماتوا فلاقوا ما كانوا يحذرون.
لاه بدنياه والأيام تنعاه والقبر غايته واللحد مثواه
يلهو ولو كان يدري ما أعدّ له إذا لأحزنه ما كان ألهاه
أو ما جنت يده لو كنت تعرفه ويلاه مما جنت كفاه ويلاه
عباد الله، إن هذا الزائر الأخير أرسل الله لنا برقيات قبل وصوله رحمة بنا؛ لعلنا نتوب، لعلنا نرجع، لعلنا نعود.
عبد الله، قد بعث إليك الموت برقيات تعلمك بقرب وصول أجلك، ما هي؟
أولاً: المرض، لما مرض عبد الملك بن مروان مرض الموت جعل يلوم نفسه ويضرب بيده على رأسه ويقول: وددت أنني كنت اكتسبت يومًا بيوم ما يكفيني, وأشتغلُ بطاعة الله.
إنه المرض يا عباد الله، كم من متكبرين وأعزاء أذلهم المرض، كم من أقوياء أضعفهم المرض، كم من أغنياء أفقرهم المرض.
فيا من استبعد موته وأطال أمله ونسي قبره فليقرأ موعظة الحسن البصري حين قال: "من لم يمت فجأة مرِض فجأة، فاتقوا الله واحذروا مفاجأة ربكم".
إن الطبيب بطبِّه ودوائه لا يستطيع دفاع نحب قد أتى
ما للطبيب يموت بالدّاء الذي قد كان أبرأ مثله فيما مضى
مات المداوي والمداوَى والذي جلب الدواء وباعه ومن اشترى
ثانيًا من برقيات الموت الشيب، فالله الله في العمل قبل المشيب.
يا مسكين، أحين يعطيك القوة تنساه، وحين يسلبك إياها تذكره؟! أف لك. أما تعلم أنه ما من شعرة تبيضّ إلا وهي تقول للتي تليها: أختي، قد جاء الموت فاستعدّي له.
أخي، الشيب رسول الله إليك، يخبرك بدنوّ أجلك، فأعدّ لما بعده.
إذا الرجال ولدت أولادها وبليت من كبر أجسادها
وأصبحت أمراضها تعتادها تلك زروع قد دنا حصادها
واعلم أنك على سفر، وأنك مغادر لا محالة.
وإذا رأيت بنيك فاعلم أنهم قطعوا إليك مسافة الآجال
وصل البنون إلى محل أبيهم وتجهز الآباء للتّرحال
رحم الله الحسن البصري حين أيقظ الشيخ بقوله: "يا معشر الشيوخ، ما ينتظر بالزرع إذا بلغ؟!" قالوا: الحصاد، وأيقظ الشباب بقوله: "يا معشر الشباب، إن الزرع قد تبلغه العاهه قبل أن يبلغ".
رابعًا من رسائل الضيف الأخير فراق الأحبة. كان الرجل من السلف يبلغه موت أخ من إخوانه فيقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون، كدت والله أن أكون أنا الميت"، فيزيده الله بذلك جدًا واجتهادًا.
افهم يا هذا ما أقول، كان ملك الموت قريبًا منك في الدار التي تجاورك وقبض منها أخاك، وكان من الممكن أن يغير وجهته ويقبضك، لكن الله أعطاك فرصة أخرى، ومد لك في العمر حتى تفيق، فهل أفقت؟!
أيها المسلمون، لقد وعظتكم القبور فلم تترك مكانًا لوعظ الواعظين.
أخي، كم مرة استمعت فيها لوعظ القبور؟! كم مرّة زرتها؟! إلى من يشكو قسوة القلب والرجوع إلى الذنب ونكث العهد مع الرب والبعد عن الله بعد القرب، ألم تسمع أبدًا قبل ذلك عن وعظ القبور؟! زر المقبرة لترى مكانك القادم، فهل أعددت لك زادًا وأنيسًا ورفيقًا؟!
أتيت القبور فناديتها: أين المعظَّم والمحتقَر
تفانوا جميعا فما مخبر وماتوا جميعًا ومات الخبر
فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيها معتبر؟
عباد الله، كل يوم نموت فيه ونحيا، ننام ونصحو، إلى أن يأتي اليوم الذي ننام فيه لنستيقظ على نفخة الصور يوم القيامة؛ فالنوم أخو الموت، فالنوم موت أصغر والموت نوم أكبر، وكما تنامون تموتون، وكما تستيقظون تبعثون، في الحديث أنّ النبيَّ كان إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ثم يقول: ((باسمك الهم أحيا، وباسمك اللهم أموت)) ، وإذا استيقظ قال: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)).
ليذكر الإنسان الموت كل ليلة مع منامه، بل ويذوق طعمه وإمكانية حدوثه إن ظنّ لحظة أنه معمّر أو مخلد, رُبّ شروق بلا غروب، ربّ ليل بغير نهار، كم من رجل أمسى من أهل الدنيا وأصبح من أهل الآخرة، وكم من رجل بات يقسم ميراث أبيه فلما حل الصباح لحق بأبيه.
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أين الهروب من الموت؟! نشرت مجلّة القصيم السعودية أن شابا في دمشق حجز ليسافر، وأخبر والدته أن موعد إقلاع الطائرة في الساعة كذا وكذا وعليها أن توقظه إن دنا الوقت، ونام هذا الشاب، سمعت أمه أخبار الأحوال الجوية في التلفاز، وعلمت أن الرياح هوجاء وأن الجوّ غائم وأن هناك عواصف رملية، فأشفقت على وحيدها فلم توقظه أملا في أن تفوته الطائرة، ولما تأكدت أن الرحلة قد أقلعت أتت إلى ابنها لتوقظه فوجدته ميتًا في فراشه.
فر من الموت وفي الموت وقع
ومن المقدور لا ينجي الحذر
وصدق ربنا: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].
تأمل يا عبد الله، انظر إلى هذه النماذج التي اصطحبت معها في قبرها ما تتقرب به إلى ربها لتنال بها الشفاعة: سعد بن أبي وقاص آخر العشرة المبشرين بالجنة موتًا، وقد أوصى أن يكون شاهد إثباته جبة صوف كان لقي المشركين فيها يوم بدر، فقال: (أخبئها لهذا)، فكفن فيها.
وها هو علي بن عبد الله بن حمدان سيف الدولة جمع من نفض الغبار الذي اجتمع له من غزواته شيئًا، وعمله لبنة بمقدار الكف، وأوصى أن توضع في لحده، فنفذت وصيته.
وها هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد الفقهاء السبعة الذي أوصى وقال: "كفنوني في ثيابي التي كنت أتهجد فيها".
ترى ما حالك أنت يا عبد الله؟! أي عمل من الصالحات سيؤنس وحشتك بعد موتك؟! جبّة قتال، أم لبنة جهاد، أم ثياب تهجّد، أم صلة رحم، أم ركعات في الليل، أم طاعة والدين، أم حسن خلق؟!
أخي، بادر من الآن. أخي، غدًا تسافر فأين زادك؟! أنقله إلى غير مسكن؟! أسفر من غير تزود؟! أقدوم إلى بلاد ربح بغير بضاعة؟!
أخي يا عبد الله، احرص على زيارة المقابر مرة في الشهر، وادع في هذه الزيارة لأموات المسلمين من عرفتَ منهم ومن لم تعرف. شيّع جنازة كلما استطعت، واذكر قوله : ((من تبع جنازة إيمانًا واحتسابًا وكان معها حتى يصلّى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن يدفن فإنه يرجع بقيراط من الأجر)).
لا تصرف جزء من وقتك في عمل تندم عليه بعد الموت، واملأ أوقات فراغك بما يفيدك في أمر دنيا أو أمر آخرة. اعف عمن ظلمك، صل من قطعك، أعط من حرمك، فالدنيا جيفة لا تستحق التنازع من أجلها، وكلّنا على سفر منها عاجلا أو آجلا.
أنفق مالك قبل أن يوزّع غدًا على الورثة، وكلّما كان إنفاقك في الدنيا أكثر كانت أملاكك في الجنة أكبر. إذا صليت فصلّ صلاة مودّع وكأنها آخر صلاة.
أسأل الله أن يحسن ختامنا، وأن لا يميتنا إلا وهو راض عنا.
وصلوا وسلموا على عبد الله ورسوله فقد أمركم الله بذلك فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن أصحابه أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين...
(1/3713)
مع أهل الفجر
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, الكبائر والمعاصي
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل صلاة الفجر. 2- عواقب ترك صلاة الفجر جماعة. 3- وسائل تساعد على القيام لصلاة الفجر في جماعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، سنقف وإياكم مع الفجر ورجاله، مع الفجر وأصحابه.
عباد الله، صلاة الفجر تشكو من قلة المصلين فيها، مع أنها صلاة مباركة مشهودة، أقسم الله بوقتها فقال: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، وقال تعالى: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78].
عباد الله، كم أجور ضيّعها قاطع صلاة الفجر، كم حسنات ضيعها مضيّع صلاة الفجر أو مؤخّرها، كم من كنوز فقدناها يوم تكاسلنا عن صلاة الفجر:
1- صلاة الفجر تعدل قيام ليلة كاملة؛ يقظة من قيام + إجابة للأذان + صلاة مع أهل الإيمان = ثواب قيام ليلة. قال : ((من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله )) أخرجه مسلم.
2- الحفظ في ذمة الله لمن صلى الفجر؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من صلى الصبح فهو في ذمة الله)) رواه مسلم. نعم، إنها ذمة الله ليست ذمة ملك من ملوك الدنيا، إنها ذمة ملك الملوك ورب الأرباب وخالق الأرض والسماوات ومن فيها، ومن وصف نفسه فقال: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
ذمة الله التي تحيط بالمؤمن بالحماية له في نفسه وولده ودينه وسائر أمره، فيحس بالطمأنينة في كنف الله وعهده وأمانه في الدنيا والآخرة، ويشعر أن عين الله ترعاه.
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان
فاستمسك بحبل الله معتصما فإنه الركن إن خانتك أركان
اللهم احفظنا بحفظك ورعايتك، وكن لنا معينًا ومؤيدًا وناصرًا وكافيًا.
3- صلاة الفجر جماعة نور يوم القيامة؛ قال : ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) رواه الترمذي وابن ماجه.
والنور على قدر الظلمة، فمن كثر سيره في ظلام الليل إلى الصلاة عظم نوره وعّم ضياؤه يوم القيامة، قال رسول الله : ((فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرة وينطفئ مرة)) ، قال تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ [الحديد:12]. اللهم نور قلوبنا، ونور قبورنا، ونور بصائرنا، يا نور السماوات والأرض.
4- دخول الجنة لمن يصلي الفجر في جماعة، قال : ((من صلى البردين دخل الجنة)) ، والبردان هما الفجر والعصر، وقال : ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)).
5- تقرير مشرِّف يُرفع لرب السماء عنك يا من تصلي الفجر جماعة؛ قال : ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح والعصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم: كيف وجدتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهو يصلون، وأتيناهم وهم يصلون)).
فيا عبد الله، يا من تحافظ على صلاة الفجر، سيرفع اسمك إلى الملك جل وعلا، ألا يكفيك فخرًا وشرفًا؟!
6- قال : ((ركعتا الفجر خير من الدينا وما فيها)). الله أكبر، إذا كانت سنة الفجر خير من الدنيا وما فيها، فكيف بأجر الفريضة؟! الله أكبر سيكون أعظم وأشمل.
7- الرزق والبركة لمن صلّى الفجر جماعة؛ هذا الوقت وقت البركة في الرزق فإنّ النبي : ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)). اللهم زد في أرزاقناـ وبارك لنا فيها، ووفقنا للصلاة في جماعة يا رب العالمين.
يا قومنا هذي الفوائد جمّة فتخيروا قبل الندامة وانتهوا
إن مسّكم ظمأ يقول نذيركم: لا ذنب لي قلت للقوم: استقوا
عباد الله، ذكر الله عُمَار المساجد فوصفهم بالإيمان النافع وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أمُّها الصلاة والزكاة، وبخشية الله التي هي أصل كل خير، فقال تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]. وحضورنا للصلاة مع الجماعة إنما هو عمارة لبيوت الله، وبالأخص صلاة الفجر.
ومن ترك صلاة الفجر فقد آثر حبّ النفس وحب النوم على محاب الله ورسوله، قال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24].
عباد الله، كما أن للمحافظ على صلاة الفجر جماعة أجورا وكنوزا، فإن لمن ضيعها آثارا مدمرة وعقوبات مخيفة:
أولها: الاتصاف بصفات المنافقين، قال تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:142]، وقال : ((ليس صلاة أثقل على المنافقين من صلاة العشاء والفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)) رواة الشيخان عن أبي هريرة، وها هو ابن مسعود يقول: (لقد رأيتنا وما يتخلف عن صلاة الفجر إلا منافق معلوم النفاق)، ويقول ابن عمر: (كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر أسأنا به الظن).
ثانيها: الويل والغيّ لمن ترك صلاة الفجر، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، وقال عز وجل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]. أضاعوها فأخروها عن وقتها كسلاً وسهوا ونومًا، والغيّ واد في جهنم تتعوذ منه النار في اليوم سبعين مرة.
ثالثها: يبول الشيطان في أذنيه كما روى ابن مسعود قال: ُذكر رجل عن النبي نام ليلة حتى أصبح، قال: ((ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه)). وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الشيطان قد استولى عليه واستخفّ به حتى جعله مكانًا للبول، نعوذ بالله من ذلك.
رابعها: الخبث والكسل طوال اليوم لمن نام عن صلاة الفجر، وبهذا روى مسلم أن النبي قال: ((يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيّب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان)) ، ليس هذا فحسب، بل وتعلن فضيحة على الملأ وتفوح معصية في الأرجاء، قال أحد التابعين: (إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته).
خامسها: كسر الرأس في القبر ويوم القيامة؛ فقد ثبت في البخاري أن النبي ذكر مما رآه في المنام: ((أن رجلاً مستلقيًا على قفاه وآخر قائم عليه بصخرة يهوي بها على رأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر، فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصحّ رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى)) ، وفي آخر الحديث قال : ((قلت لهما ـ أي الملكين ـ: فإني رأيت منذ الليلة عجبا، فما هذا الذي رأيت؟ قالا لي: إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)).
عباد الله، كيف نأمل أن ينصرنا الله عز وجل وأن يرزقنا ويهزم أعداءنا وأن يمكن لنا في الأرض ونحن في تقصير وتفريط في حق الله؟! كيف نسمع نداءه في كل يوم: "حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم" ونحن لا نستجيب؟! هل أمِنا مكر الله؟! هل نسينا وقوفنا بين يدي الله؟!
فيا عبد الله، قم عن الفراش، وانهض من نومك، واستعن بالله رب العالمين.
سادسها: يمنع الرزق وبركته؛ قال ابن القيم: "ونومة الصبح تمنع الرزق؛ لأنه وقت تقسم فيه الأرزاق". رأى ابن عباس ابنًا له نائمًا نوم الصبح، فقال له: قم، تنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق.
فيا عبد الله، لا تفرط في الصلاة عامة وصلاة الفجر خاصة، وشمّر عن ساعد الجد واستعن بالله.
_________
الخطبة الثانية
_________
وهذه أمور تساعدك على أداء صلاة الفجر في جماعة:
أولها: نم مبكّرًا واترك السهر، نبينا محمد أخبرنا أن الجسم له حقّ علينا، فإن إطالة السهر له تأثير على صحة الإنسان، فالنوم المبكر خير، والكلام بعد صلاة العشاء ورَد كراهته عن نبينا كما في الصحيح إلا ما استثناه الدليل من مسامرة الزوج زوجته والجلوس مع الضيف ومدارسة العلم، أما إذا خشي فوات صلاة الفجر فلا يجوز.
وثانيها: احرص على آداب النوم، كالنوم على طهارة، وأداء ركعتي الوضوء، والمحافظة على أذكار النوم، والاضطجاع على الشق الأيمن، ووضع الكف الأيمن تحت الخد الأيمن، وقراءة المعوذتين في الكفين ومسح ما استطاع من الجسد بهما، وغير ذلك من الآداب، وادع الله أن يوفقك للقيام.
ثالثها: ابذر الخير تحصد الخير؛ فمن نام عقب أداء طاعة من صلة رحم أو بر والدين أو إحسان إلى جار أو صدقة سرًا أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو سعي في حاجة مسلم كافأه الله بأن يكون ممن يشهدون الفجر.
رابعها: عدم الإكثار من الأكل والشرب، فأن كثرة الأكل تولّد ثقلاً في النوم بل حتى الطاعة تقل والخشوع يذهب؛ لأن من أكل كثيرًا شرب كثيرًا فتعب كثيرًا فنام كثيرًا فغفل كثيرًا فخسر كثيرًا.
وخامسها: ابتعد عن المعاصي في النهار كي تستطيع أن تقوم للصلاة، وذلك بحفظ الجوارح عما لا يحلّ لها، بالبعد عن النظر الحرام، وكذلك اللسان والسمع وسائر الأعضاء، فمن نام على معصية ارتكبها من غيبة مسلم أو خوض في باطل أو نظرة إلى حرام أو إخلاف وعد أو أكل حرام عوقب بالحرمان من شهود الفجر؛ لأن من أساء في ليله عوقب في نهاره، ومن أساء في نهاره عوقب في ليله، أسأل الله أن يوفقنا لطاعته وأن يبعدنا عن معصتيه.
سادسها: لا تنس عاقبة الصبر، فمن عرف حلاوة الأجر هانت عليه مرارة الصبر، والعاقل الفطن له في كل ما يرى حوله عبرة، فمن سهر الليالي بلغ المعالي، ومن استأنس بالرقاد استوحش يوم المعاد. ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة. أسأل الله أن يوفقنا لطاعته، وأن يبعدنا عن معصتيه.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/3714)
محاسبة النفس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أعمال القلوب, التربية والتزكية
أمير بن محمد المدري
عمران
مسجد الإيمان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة للمحاسبة. 2- من ثمرات محاسبة النفس. 3- وقفات تأمّليه مع بعض آيات الكتاب. 4- صور من محاسبة بعض الصالحين لأنفسهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن نقدم لأنفسنا أعمالاً صالحة مباركه تبيض وجوهنا يوم نلقاه عز وجل، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، يوم تجد كل نفس ما عملت من خيرٍ محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن. نسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا، وأن يكِره إلينا الفسوق والعصيان ويجعلنا من الراشدين.
ثم أما بعد: يقول الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وقال تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد:33].
أيها المسلمون، إن الله سيحاسبنا على كل شيء، على الصغير والكبير والفتيل والقطمير، فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره.
أصحاب القلوب السليمة والعقول الواعية عرفوا أن الله لهم بالمرصاد، فعرفوا أنه لن ينجيهم إلا لزوم المحاسبة ومطالبة النفس ومحاسبتها على الأنفاس والحركات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
تأمل ـ يا عبد الله ـ هذه الآية التي أشارت إلى تقوى الله فيما مضى من عمرك من أعمال، والنظر والمحاسبة فيما قدمت لآخرتك، والله خبيرٌ بما تعمل في هذه اللحظة.
قال عمر الفاروق: (أيها الناس، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية)، قال الفضيل بن عياض: "من حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته، وأكيس الناس من دان نفسه وحاسبها وعاتبها وعمل لما بعد الموت، واشتغل بعيوبه وإصلاحها".
عباد الله، ينبغي للعاقل أن يكون له في يوم ساعة يحاسب فيها نفسه كما يحاسب الشريك شريكه في شؤون الدنيا، فكيف لا يحاسب الإنسان نفسه في سعادة الأبد وشقاوة الأبد؟! نسأل الله أن يجعلنا من الأبرار والسعداء. قال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه".
ومن فوائد محاسبة النفس ـ يا عباد الله ـ أنها تعرِّف الإنسان بنعمة الله عليه فيشكرها ويستخدمها في طاعة الله، ويحذر من التعرض لأسباب زوالها، قال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
1- فبداية المحاسبة أن يقيس العبد ويوازن بين نعم الله عليه من عافية وأمن وستر وغنى وبين ذنوبه، فحينئذٍ يظهر التفاوت، فيعلم العبد أن ليس له إلا عفو الله ورحمته أو الهلاك.
حاسبت نفسي لم أجد لي صالحًا إلا رجائي رحمة الرحمن
ووزنت أعمالي فلم أجد في الأمر إلا خفة الميزان
وبهذه المقايسة والمحاسبة يعلم العبد أن الرب رب بكرمه وعفوه وجبروته وعظمته، وأن العبد عبد بذله وضعفه وفقره وعجزه، وأن كل نعمة من الله فضل، وكل نقمة منه عدل.
وبهذه المحاسبة يسيء العبد الظن بنفسه؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال الصلاح والتقوى، فيرى المساوئ محاسن والعيوب كمالاً.
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، فهذا صله بن أشيم يقول أحد أصحابه: كنت أسمعه يقول بعد صلاة الفجر في دعائه: "اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي لا يستحق أن يطلب الجنة".
وكلما عرف الإنسان ربه حق المعرفة عرف أن ما معه من البضاعة والطاعة مهما عظمت وكبرت وزادت لا تساوي شيئا ولو جاء بعمل الثقلين؛ لأنه أمام رب سريع الحساب، فها هو أبو بكر يدخل مزرعة أحد الأنصار ويرى طائرا يطير من شجرة إلى أخرى، فيتأمل ويقول: (هنيئًا لك يا طائر، ترد الشجر وتأكل وتشرب وتموت ولا حساب ولا عقاب، يا ليتني كنت شعرة في صدر عبدٍ مؤمن).
وها هو عمر بن الخطاب يخاطب نفسه، يقول أنس: سمعته وبيني وبينه جدار وهو يحاسب نفسه ويقول: (عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ، والله لتتقين الله أو ليحاسبنك الله)، ويكررها.
قال الحسن البصري في قوله تعالى: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2] قال: "نفس المؤمن، لا تلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه: ماذا أردت بكلمتي؟ ماذا أردت بأكلتي؟ والفاجر يمضي قُدمًا لا يعاتب نفسه".
2- الاستغفار: أرباب البصائر أشد ما يكونون ذليلين مستغفرين عقب الطاعات، فالاستغفار سمة المؤمنين كلما أذنبوا وأساؤوا استغفروا ورجعوا إلى الله؛ لأنه وحده الغافر ، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون [آل عمران:135].
عباد الله، الاستغفار ليس للعاصين فقط، بل لأصحاب الطاعات، فالمصلون بعد إتمام الصلاة الخاشعة المطمئنة يستغفرون من كل نقص وزلل في الصلاة، وبعد رحلة الحج العظيمة والطواف والسعي ورمي الجمار قال تعالى : ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199 ]، وبعد أن مَنَّ الله على نبيه بالنصر والتمكين والفتح المبين أمره بالاستغفار قال تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر].
عباد الله، على المؤمن أن يحاسب نفسه، فالطاعة والفروض رأس المال، والمعاصي هي الخسائر، والنوافل هي الأرباح، وليعلم أنّ كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة يمكن أن يشتري بها كنزا من كنوز الآخرة؛ فإذا أصبح العبد وفرغ من صلاة الصبح ينبغي أن يفرغ قلبه ساعة فيقول لنفسه: ما لي بضاعة إلا العمر، ولو توفاني الله لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يومًا حتى أعمل صالحًا، ومن ثم ينوي فعل الخيرات ليكون من الرابحين.
فهذا الربيع بن خثيم كان له تحت سريره حفرة كلما رأى من نفسه إقبالاً على الدنيا نزل فيها وكأنه في قبره، ويصبح ويبكي وكأنه في عداد الموتى، ويقول: رب ارجعون رب ارجعون، ثم يصعد من الحفرة ويقول: يا نفس، ها أنت في الدنيا فاعملي صالحًا.
ويقول إبراهيم التيمي: "مثلت لنفس كأني في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأطوف في وديانها وأعانق أبكارها، ثم مثلت لنفسي وكأني في النار آكل من زقومها وأشرب من حميمها وأصيح بين أهلها، ثم قلت: يا نفس أي دار تريدين؟ فقالت: أعود إلى الدنيا فأعمل صالحًا كي أنال الجنة، فقلت: يا نفسي، ها أنت في الدنيا فاعملي".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وجميع إخوانه.
وبعد: عباد الله، لنستمع ونفقه هذه الآيات التالية:
قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِرَامًا كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، وقال عز وجل : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18]، وقال سبحانه وتعالى: وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28، 29]، وقال تعالى: وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ [البقرة:284]، وقال تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِى السَّمَاء وَالأرْضِ إِلاَّ فِى كتابٍ مُّبِينٍ [النمل:75]، وقال تعالى: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ [غافر:19]، وقال جل وعلا: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السماواتِ أَوْ فِى الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]، وقال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30]، وقال جل وعلا: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا [النبأ:29].
فيا عبد الله، حاسب نفسك قبل أيّ عمل تقوم به: هل هو لله أم لدنيا أم لشهوة؟ فإن كان لله فاستعن بالله، ثم حاسب نفسك أثناء العمل وأخلص النية، وأخيرًا حاسب نفسك بعد العمل أن لا يخالطه عجب ولا رياء، ثم استغفر من كل نقص.
ومن فوائد محاسبة النفس ـ يا عباد الله ـ أنها تذكّر الإنسان وتبعَث فيه الاستعداد للقاء الله عز وجل الذي سوف يكون بين يديه الحساب.
ها هو الأحنف بن قيس كان يجيء بالمصباح فيضع أصبعة ثم يقول: حُسّ يا حنيف، ما حملك على ما فعلت يوم كذا ويوم كذا؟ ألك قدرة على النار؟!
وها هو عبد الله بن رواحه لما قتل جعفر بن أبي طالب في معركة مؤته قام ابن رواحه وأخذ القيادة ولم يكن قد ذاق طعامًا قبل ذلك، ثم تقدم وقاتل فأصيبت إصبعه، فارتجز وجعل يقول:
هَل أَنتِ إِلا إِصبَعٌ دَميتِ
وَفي سَبيلِ اللَهِ ما لَقيتِ
يا نَفسُ إِلا تُقتَلي تَموتي
هَذا حِمامُ المَوتِ قَد صَليتِ
إِن تَسلَمي اليَومَ فَلَن تَفوتي
أَو تُبتَلي فَطالَما عوفيتِ
وَما تَمَنَّيتِ فَقَد أُعطيتِ
إِن تَفعَلي فِعلَهُما هُديتِ
وَإِن تَأَخَّرتِ فَقَد شَقيتِ
ثم قال: يا نفس، إلى أي شيء تتشوقين؟ إلى فلانة؟! فهي طالقة ثلاثة، إلى فلان وفلان العبيد؟! هم أحرار لوجه الله، إلى البيت الفلاني؟! هو لله ولرسوله.
أَقسَمتُ يا نَفسُ لَتَنزِلِنَّه
طائِعَةً أَو لا لَتُكرَهِنَّه
إِن أَجلَبَ الناسُ وَشَدّوا الرَنَّه
ما لي أَراكِ تَكرَهينَ الجَنَّه؟!
قَد طالَما قَد كُنتِ مُطمَئِنَّه
هَل أَنتِ إِلا نُطفَةٌ في شَنَّه؟!
ها هو يزيد الرقاشي كان يحاسب نفسه كل يوم ويتذكر الآخرة ويقول: "ويحك يا يزيد، من ذا يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا يصوم عنك بعد الموت؟! من ذا سيتصدق عنك بعد الموت؟! مَن الموت طالبه، مَن القبر بيته، مَن الدود أنيسه، مَن التراب فراشه، مَن منكر ونكير جليساه"، ثم يقول: "أيها الناس، ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم ما تبقى من حياتكم؟!", ثم يبكي بكاء شديدًا.
وها هو تابعي آخر بلغ من العمر 60 سنة، فحاسب نفسه وحسب أيام عمره، فإذا هي 21500 زادت على العشرين ألف يوم. الله أكبر فصرخ وقال: يا ويلتا! لو عصيت الله في اليوم بذنب واحد أألقى ربي بعشرين ألف ذنب؟! فكيف لو كان في اليوم عشرة ذنوب أو مائة ذنب؟! ثم خرّ مغشيًا عليه.
وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد أن يجالسني".
أخي الحبيب، حاسب نفسك لتعرف رصيدك من الخير والشر: حقوق الله هل وفيتها؟! حقوق العباد هل أديتها؟! ما حالك مع الصلاة؟! هل تؤديها بشروطها وأركانها؟! متى آخر مرة بكيت من خشية الله؟! فعينان لا تمسهما النار، إحداها عين بكت من خشية الله، ما حالك مع كتاب الله؟! ولا تكن ممن قال الله تعالى عنهم على لسان نبيه: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]. ما حالك مع النوافل والمستحبات؟! فهي علامة الإيمان وطريق محبة الرحمن.
يقول الحسن البصري في قوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18]: "يا ابن آدم، بسطت لك صحيفتك، ووكل بك ملكان، أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال، فصاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، فإذا متّ طويت صحيفتك حتى يوم القيامة، فيقال لك: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا"، ثم قال: "عدَل ـ والله ـ من جعلك حسيبَ نفسك".
عبد الله، اجلس مع نفسك وحاسبها، وقل لها: يا نفس، أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها فمصيره الموت؟! يا نفس، أوَما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ثم ذهبوا؟! أما ترينَهم كيف يجمعون ما لا يأكلون ويبنون ما لا يسكنون ويؤمّلون ما لا يدركون؟! يبني كل واحد قصرا مرفوعا إلى جهة السماء ومقرّه قبر محفور تحت الأرض. ويحك يا نفس، أما تستحين من الله؟! تزيّنين ظاهرك للخلق وتبارزين الله في السر بالعظائم. ويحك، أهو أهون الناظرين إليك؟! أتأمرين الناس بالخير وأنت ملطخة بالرذائل؟! فانظري ـ يا نفس ـ بأيّ بدن تقفين بين يدي الله؟! وبأي لسان تجيبين؟! فأعدّي للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا. يا نفس، اخرجي من الدنيا خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار.
عبد الله، قل:
أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدّته المنايا أن يتوبا
أنا العبد الذي أضحى حزينا على زلاته قلقا كئيبا
أنا المضطر أرجو منك عفوا ومن يرجو رضاك لن يخيبا
فيا أسفى على عمر تقضّى ولم أكسب به إلا الذنوبا
ويا حزناه من حشري ونشري بيوم يجعل الولدان شيبا
فيا من مدّ في كسب الخطايا خطاه أما آن الأوان أن تتوبا
قال مالك بن دينار: "مكتوب في التوراة: كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد".
فتب إلى مولاك من قريب، فوالله ما ظلمك من جعلك حسيب نفسك.
عن أنس قال: قال رسول الله : ((يقول العبد يوم القيامة: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدًا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعْدًا لكنّ وسُحْقًا فَعَنْكُنَّ كنت أُنَاضِل)).
تبارك من أجرى الأمور بحكمه كما شاء لا ظلما ولا هضما
أخي، فحاسب نفسك بنفسك، وأخلص تخلص، فالناقد بصير.
العمر ينقص والذنوب تزيد وتقال عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد رجل جوارحه عليه شهود؟!
عباد الله، صلوا وسلموا على سيد البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم...
(1/3715)
جنايات الموضة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الأبناء, الفتن, اللباس والزينة, المرأة, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموضة آثارها وأخطارها. 2- أخطاء ومخالفات في ألبسة النساء. 3- حرمة التشبه بالكفار. 4- حرمة تشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال. 5- أسباب وقاية المرأة من الفساد. 6- التذكير بواجب الآباء تجاه أولادهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله الذي كرّم بني آدم ذكَّرهم وأنَّثهم، وفضّلهم على كثير ممن خلق ورفعهم، فشرع لهم من الشرائع ما يصونهم ويحفظهم، ويحقق في الدارين سعادتهم، أحمده تعالى وأشكره على عظيم فضله وسابغ نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله بأحسن الشرائع وأكملها، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر عباد الله الصالحين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن الله منّ عليكم بلباسين عظيمين: لباس تزيّنون به بواطنكم وهو لباس التقوى، ولباس تجمّلون به ظواهركم وتسترون به عوراتكم وهو لباس الظاهر من الثياب وغيرها، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:26]، فلباس التقوى يستر عورات القلب ويزينه، ولباس الظاهر يستر عورات الجسم ويجمله.
فمن تقوى الله تعالى والحياء منه ينبثق الشعور باستقباح التعري والتكشف، فمن لا يستحي من الله ولا يتقيه لا يهمه أن يتعرى وأن يدعو إلى العري.
وقد حذر الله سبحانه بني آدم ذكرهم وأنثاهم من اتباع خطوات الشيطان وأعوانه، الذين يسعون إلى تحطيم حياء الإنسان وأخلاقه، ويدعون إلى العريِِ والتهتك والتكشف باسم الزينة والحضارة والتقدم والموضة وغير ذلك من الشعارات البراقة، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا [الأعراف:27]، وما هذا إلا وسيلة لإشاعة الفساد والمعاصي والرذائل والتلطخِ بأوضار الدنايا والخطايا.
والمتأمل في واقع الناس اليوم وخاصة النساء يؤمن بصدق ما ذكرنا؛ فإن شياطين الإنس والجن سعوا بكل وسيلة وأخذوا بكل سبب لنشر التعري والتهتك بين نساء المسلمين، فسموا التكشف أناقة، والعري حضارة، وبنوا لهم صنمًا جعلوه قبلتهم سموه الموضة التي هي أكبر ما يفسد الأديان، ويهدم البنيان، فاستباحوا بهذه الموضة المحرمات، واستحلوا الموبقات، فاستنزفوا الأموال واستهلكوا الأوقات، وضيعوا الأهداف والغايات، حتى صارت الموضة همَّ كثير من نسائنا وشغلهن الأوحد، يلاحقنها ويتابعنها هنا وهناك. وقد جاءتنا هذه الفتنة الكبرى بألوان من البلايا والرزايا التي ظهرت في ألبسة كثير من نسائنا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فمن ذلك أن هذه الموضة التي تعظمها كثير من نسائنا أباحت لهن التعري والتكشف وإظهار المفاتن، فانتشر بين بناتنا ونسائنا لبس الأزياء والثياب التي تظهر الصدور والبطون والظهور وغير ذلك من المفاتن.
وشاع بين كثير من نسائنا وأخواتنا لبس القصير الذي يعري أكثر الساقين، وقد يبدي ما فوق الركبتين، وفشا بين نسائنا لبس الضيق الذي يحجم الجسم ويفصل مقاطع البدن ويظهر مفاتنه، كالبنطلونات وغيرها من الألبسة الضيقة.
وظهر عند كثير من نسائنا لبس الخفيف الذي لا يستر ما خلفه فينكشف ما تحت الثياب، ودرج كثير من نسائنا على لبس الثياب والأزياء التي تكثر فيها الفتحات من الأمام والخلف، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون، اعلموا أن كلّ هذه الألبسة محرمةٌ لا يجوز لبسها للنساء، لا بين الرجال ولا بين النساء، بل إن لابستها ملعونة فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم [1]. فقوله : ((كاسيات عاريات)) ينطبق على جميع الصور التي فشت وشاعت وانتشرت في ألبسة كثير من نسائنا، فالويل الويل لمن عصى الله وتعدى حدوده.
ومن بلايا هذه الفتنة العظمى التي يسمونها الموضة أن سوغت لكثير من نسائنا وبناتنا التشبه بالرجال، فلبست كثير من النساء ملابس الرجال، كالبنطلونات الضيقة أو الواسعة وغيرها، وقصت بعض نسائنا شعورهن على هيئة قصات الرجال، وهؤلاء المتشبهات بالرجال ملعونات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لعن رسول الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. رواه البخاري [2] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لعن رسول الله الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل. رواه أبو داود [3].
ومن رزايا متابعة الموضة والافتتان بها تشبه كثير من نسائنا بالكافرات الفاجرات، أو بالفاسقات من المسلمات في الأزياء والموديلات، وفي الألبسة والقصات، حتى رأينا من بعض نسائنا من تلبس لباسًا فاضحًا قبيحًا وتحتج بالموضة، وسمعنا عن بعض النساء المفتونات بالموضة من تقص شعرها حتى قد تبدو فروة رأسها، أو تقص قصة يسمونها الفرنسية، وتبلغ السفاهة وقلة الدين والعقل منتهاها عند بعض نسائنا فيستسغن قص شعورهن قصة تسمى قصة كلب فلانة، يريدون إحدى الكافرات.
فكل صرعة تصدرها دور الأزياء الغربية أو الشرقية يتلقّفها بعض نساء المسلمين بلا تردد ولا تفكير، ولا مراجعة قيم ولا دين، بل حالهن كما قال الأول:
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
ولا شك أن التشبه بالكفار أمر خطير عظيم قد يوصل إلى الكفر بالله العظيم، قال النبي فيما أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن ابن عمر رضي الله عنهم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [4].
وقد تعتذر بعض المتشبهات بالكافرات في لباسهن بأنها لا تقصد بهذا الزي وبهذا اللباس التشبه بالكفار، فالجواب عن هذه الشبهة ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما نهي عنه من مشابهتهم ـ أي: الكفار ـ يعُم ما إذا قصدت مشابهتهم أو لم تقصد" [5] فالحذر الحذر من التشبه بهم وتقليدهم.
ومن ويلات الموضة وبلائها أن جعلت بعض نسائنا يلهث وراء الاشتهار بين الناس بلباس مميز، أو بقصة غريبة ملفتة للأنظار، وقد ورد التحذير عن هذا الفعل، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من لبس ثوب شهرة في الدنيا ألبسه الله ثوب مذلة يوم القيامة ثم ألهب فيه نارًا)) رواه أبو داود وابن ماجه بإسناد جيد [6]. والمراد بلباس الشهرة: ما يتميز به لابسه عن ألبسة الناس بلون أو بشكل أو بهيئة، بحيث يجذب انتباه الناس، ويسرق أنظارهم إلى اختيال لابسه وعجبه على الناس [7].
أيها المؤمنون إننا لا نحارب التجمل أو ننهى عن التزين، ولكننا ندعو إلى ضبط التجمل والتزين بضابط الشرع، فإن الله جميل يحب الجمال، ولكن شتان بين التجمل والتزين وبين التكشف والتعري والتهتك.
[1] أخرجه مسلم في اللباس والزينة (3971).
[2] أخرجه البخاري في اللباس (5435).
[3] أخرجه أبو داود في اللباس (3575).
[4] أخرجه أبو داود في اللباس (3512)، وأحمد من حديث ابن عمر (4868).
[5] الاقتضاء (1/420).
[6] أخرجه أبو داود في اللباس (3511)، وابن ماجه في اللباس (3597).
[7] أحكام المرأة (3/335).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فقد سمعنا شيئًا مما جنته الموضة على نسائنا، ولا شك ـ أيها المؤمنون ـ أن هذا الأمر خطر داهم يجب أن نتعاون جميعًا على سد منافذه، وإغلاق أبوابه، وعلاج أعراضه، وقمع دعاته. وإلا فإن دائرته ستتسع وتعم البلوى به، وهذا يهدد بفساد المجتمع وخرابه، إذ إن المستهدف الأول في هذه الفتنة هم نساؤنا وبناتنا وأخواتنا، وهؤلاء هن المصنع الأساسي للرجال والأجيال، فإذا فسد هؤلاء فسدت الأسر، ويتلوها فساد المجتمع، وهذا هو السر وراء اهتمام كثير من أعداء الأمة وعملائهم بإفساد المرأة، وقد حذر النبي من فساد النساء فقال: ((فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء)) رواه مسلم [1]. وقد جاء في بعض الآثار أن فتنتهن كانت المبالغة في التزين وإغواء الرجال بذلك.
أيها المؤمنون، إن المرأة ضعيفة عاطفية، سريعة التأثر والانجذاب، فعلى أولياء الأمور من الآباء والإخوان وغيرهم القيام بتوجيه النساء ورعايتهن، وحمايتهن من أشرار هذه الفتنة التي أفسدت كثيرًا من النساء، فإن هذا من أعظم حقوقهن على أوليائهن، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
ومن ضروريات القيام بواجب الوقاية والحماية لنسائنا وبناتنا قطع أسباب الفتنة والفساد التي تغري بالوقوع في الرذائل والخطايا والموبقات، ومن أبرز هذه الأسباب ما تبثه بعض وسائل الإعلام وقنوات البث المباشر التي تنشر صور النساء المتبرجات من الكافرات أو الفاسقات.
ومن أسباب هذا البلاء المجلات التي تتصدر صفحاتها صور النساء الفاتنات أو الفاسقات، وخاصة ما يسمى بمجلات الأزياء الشرقية منها أو الغربية. فعلى أولياء الأمور أن يمنعوا ذويهم من هذه المجلات ومن تلك البرامج.
ومن أسباب هذه الفتنة أيضا بعض المحلات التجارية ومحلات الخياطة التي تتسابق في عرض آخر التقليعات وأحدث الموضات دون أن يراقبوا الله تعالى فيما يحل من هذه المعروضات وما يحرم، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله، وليعلموا أن فعلهم هذا من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وقد قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
وعلى أولياء الأمور أن يمنعوا نساءهم من التعامل مع هؤلاء، وليذكروهن بأن من ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه.
وعلى الجهات المسؤولة أن تأخذ على أيدي هؤلاء التجار؛ حماية للمجتمع من أخطارهم وشرورهم.
ومن واجب أولياء الأمور تجاه أبنائهم وبناتهم تنبيههم على الأخطاء، وتفقدهم في البيوت وعند الخروج، فيمنعوا نساءهم وأهليهم عن كل ما يخالف الحشمة والحياء.
أما ما يفعله كثير منا وللأسف من عدم المبالاة بملابس نسائهم ولو كان عليه ملاحظات فإن هذا من التفريط والغش لهم، وقد توعد النبي من فعل ذلك بحرمان الجنة نعوذ بالله من الخذلان، فعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) متفق عليه [2] ، وفي رواية: ((فلم يحطها لم يجد رائحة الجنة)).
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وقوموا بما أوجب الله عليكم من المحافظة على بناتكم ونسائكم وأهليكم، فإنكم غدًا بين يدي الله تعالى موقوفون، وعن هذه الأمانة مسؤولون، واعلموا أن حسن تربية البنات سبب للنجاة من النار، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار)) متفق عليه [3] ، وأعظم الإحسان إليهن تربيتهن على الطهر والعفاف والحياء والحشمة والدين.
أعاننا الله وإياكم على القيام بهذه الأمانة.
[1] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4925).
[2] أخرجه البخاري في الأحكام (6618)، ومسلم في الإيمان (203).
[3] أخرجه البخاري في الزكاة (1329)، ومسلم في البر والصلة (4763).
(1/3716)
حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الخلق الحسن في الإسلام. 2- فضائل الخلق الحسن. 3- حقيقة حسن الخلق. 4- منبع الأخلاق الحسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله ربكم واعملوا بخصال التقوى، فإن لتقوى الله جل وعلا خصالاً لا تتم إلا بها.
ومن تلك الخصال ـ يا عباد الله ـ حسن الخلق وصالح السجايا والشيم، فإن من مقاصد البعثة المحمدية إتمام صالح الأخلاق، فإن الله بعث محمدًا على حين فترة من الرسل ليتم به صالح الأخلاق وفاضلها، فعن أبي هريرة مرفوعًا: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق)) رواه أحمد وغيره بسند جيد [1].
وقد جعل الله تزكية النفوس وإصلاحها بالفضائل والمكرمات إحدى وظائف النبي : لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
أيها المؤمنون، إن شأن الأخلاق عظيم في هذه الشريعة المباركة؛ إذ هي مبنية على القيام بحقوق الله تعالى، والقيام بحقوق العباد ابتغاء وجه الله تعالى، فبقدر ما معك من استقامة الخلق بقدر ما معك من استقامة الدين، قال الله تبارك وتعالى في بيان أعظم آيات النبي الدالة على صدق نبوته: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، قال ابن عباس: (أي: على دين عظيم).
وقد جعل النبي حسن الخلق من دلائل كمال الإيمان فقال: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا)) رواه أحمد [2].
فحسن الخلق ـ أيها المؤمنون ـ صفة من صفات الأنبياء والصديقين والصالحين، بها تنال الدرجات، وترفع المقامات، وهو واجب من الواجبات الدينية، وفريضة من الفرائض الشرعية، وقد أمر به النبي ، ففي حديث أبي ذر قال: قال رسول الله : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)) رواه أحمد والترمذي [3].
أيّها المؤمنون، إن لحسن الخلق وطيب الشيم فضائل عديدة في الكتاب والسنة وكلام الأئمة.
فمن فضائل حسن الخلق أمر الله تعالى به في قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، فإن هذه الآية أجمع آية لمكارم الأخلاق وأصول الفضائل.
ومن فضائل حسن الخلق الاقتداء بالنبي الذي كل الخير والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة مرتهنة بالاقتداء به واتباع سنته، وهو أجمل الناس خلقًا وأطيبهم شيمًا، قال الله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
ومن فضائل حسن الخلق ـ أيها المؤمنون ـ أن به يبلغ المؤمن درجة الصائم القائم، قال : ((إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)) رواه الترمذي [4].
ومن فضائل حسن الخلق ـ أيها المؤمنون ـ أنه يثقل ميزان العبد يوم القيامة، ففي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((ما من شيء أثقل في الميزان يوم القيامة من حسن الخلق)) [5].
أيها المؤمنون، إن من فضائل حسن الخلق أنه من أسباب القرب من النبي يوم القيامة، ففي صحيح ابن حبان قال : ((ألا أخبركم بأحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة؟! أحاسنكم أخلاقًا)) [6].
عباد الله، إن خيرية الرجل لا تقاس بصلاته وصيامه فحسب، بل لا بد من النظر في أخلاقه وشيمه، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله فاحشا ًولا متفحشًا، وكان يقول: ((خياركم أحاسنكم أخلاقًا)) متفق عليه [7].
أيها المؤمنون، هذه بعض فضائل حسن الخلق، ولو لم يكن فيه إلا ضمان النبي بيتًا في أعلى الجنة لمن حسن خلقه لكان كافيًا، ففي سنن أبي داود قال : ((أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) [8].
فاجتهدوا ـ أيها المؤمنون ـ في تحسين أخلاقكم؛ لتحرزوا بذلك تلك الفضائل العظيمة والدرجات الرفيعة والأجور الوفيرة، فقد صدق من قال:
لو أنني خيرت كل فضيلة ما اخترت غير محاسن الأخلاق
اللهم اهدنا لصالح الأعمال والأخلاق، فإنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف سيئها إلا أنت.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.
[1] أخرجه مالك بلاغًا في موطئه (1609)، وأحمد موصولاً في مسنده (8939)، والحاكم في المستدرك (4221)، وقال: "صحيح على شرط مسلم".
[2] أخرجه أحمد (10436) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد (21026)، والترمذي ( 1987)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
[4] أخرجه أحمد (25010)، والحاكم في المستدرك (199)، وقال: "صحيح على شرطهما".
[5] أخرجه أحمد (26971) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
[6] صحيح ابن حبان (485) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في الأدب (6035)، ومسلم في الفضائل (2321).
[8] أخرجه أبو داود في الأدب (4800) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وحسنوا أخلاقكم، فإن تقوى الله وحسن الخلق أكثرُ ما يدخل الناس الجنة.
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن حسن الخلق الذي رتبت عليه تلك الأجور العظام والفضائل الحسان إنما هو ما ابتغي به وجه الله ووافق فيه الظاهر الباطن، كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) متفق عليه [1].
فحسن الخلق المطلوب ـ أيها المؤمنون ـ سلامة في الظاهر ونقاء في الباطن.
وإن جماع حسن الخلق جاء في آية واحدة في كتاب الله تعالى وهي: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].
فمن عمل بهذه الآية فقد اجتمع له حسن الخلق، ففيها الأمر بإيصال الخير والنفع إلى الخلق أجمعين، وفيها الحث على احتمال الجنايات والعفو عن الزلات، وفيها الأمر بمقابلة السيئات بالحسنات.
قال ابن تيمية رحمه الله: "وجماع حسن الخلق مع الناس أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له والاستغفار، والثناء عليه والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمن ظلمك في دم أو مال أو عرض".
أيها المؤمنون، إن من أعظم ما تزكو به الأخلاق وتطيب به الخصال وتستقيم به الخلال كتاب الله الحكيم القرآن العظيم، فإن أخلاقه أزكى الأخلاق وأشرفها، وأفضلها وأطيبها وأعظمها، قال الله تعالى واصفًا خلق النبي : وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، ولقد سئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلقه ، فأجابت بما شفى وكفى، فقالت: كان خلقه القرآن، فلم يكن رسول الله فاحشًا ولا متفحشًا ولا صخابًا بالأسواق، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح. هذا ما قالته عائشة رضي الله عنها في وصف خلقه. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي: أف قط، وما قال لي لشيء صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ وكان رسول الله من أحسن الناس خلقًا [2].
فخير الأخلاق ـ يا عباد الله ـ ما كان مقتبسًا من مشكاة القرآن الكريم.
فأقبلوا عليه ـ أيها المؤمنون ـ تلاوةً وحفظًا وعلمًا وعملاً، احرصوا على معرفة سنة نبيكم وأخلاقه؛ فإنها من أعظم ما تطيب به الأخلاق.
اللهم إنك تحب معالي الأخلاق وتكره سيئها، اللهم وفقنا إلى أحسن الأخلاق والأعمال، واصرف عنا سيئها، اللهم إنا نعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأعمال والأدواء.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الأدب ( 6038)، ومسلم في الفضائل (2309) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(1/3717)
حق الجار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الجار في الإسلام. 2- حقوق الجار الكبرى. 3- الضابط في تحديد الجار. 4- من أحول الناس اليوم مع جيرانهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، عباد الله، إن من نعم الله تعالى علينا في هذه الشريعة المباركة أن ألف بين قلوب المؤمنين وجمع شتاتها ولمَّ شعثها.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى لتحقيق ذلك شرائع وحد حدودًا، ففرض سبحانه وتعالى على المؤمنين واجبات وحقوقًا لبعضهم على بعض، تصلح ذات بينهم، وتجمع قلوبهم، وتؤلف بين صدورهم، فكان من تلك الشرائع حق الجوار.
أيها المؤمنون، إن حق الجار على جاره مؤكد بالآيات البينات والأحاديث الواضحة، فهو شريعة محكمة وسنة قائمة، قال الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36]. ففي الآية الوصية بالجيران كلهم قريبهم وبعيدهم، مسلمهم وكافرهم.
وقد أكد النبي حق الجار تأكيدًا عظيمًا، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم قالا: إن رسول الله قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) [1]. وهذا يدل على تأكيد حق الجار؛ فإن النبي ظن أن نهاية هذا الحرص وتلك الوصايا من جبريل عليه السلام أن يكون للجار نصيب من الميراث.
أيها المؤمنون، إن حقوق الجار كثيرة عديدة، وهي في الجملة دائرة على ثلاثة حقوق كبرى: الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، واحتمال الأذى منهم.
أما الحق الأول فإنه الإحسان إلى الجيران، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه فقال سبحانه: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)) [2]. وقد أمر النبي بإكرام الجار وجعل ذلك من لوازم الإيمان، فقال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) [3].
أيها المؤمنون، إن من الإحسان إلى الجيران سلامة القلب عليهم، وحب الخير لهم، ففي البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه)) [4].
وفي هذا تأكيد حق الجار، وأن الذي لا يحبّ لجاره ما يحبّ لنفسه من الخير فإنه ناقص الإيمان، وفي هذا غاية التحذير ومنتهى التنفير عن إضمار السوء للجار قريبًا كان أو بعيدًا.
أيها المؤمنون، إن من الإحسان إلى الجار الحرص على بذل الخير له قليلا كان أو كثيرًا، كما قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) [5]. فرسنُ الشاة هو حافرها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا ولو أنها تهدي ما لا ينتفع به في الغالب" [6].
والمقصود أن يتواصل الخير والود والبر بين الجيران، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) [7].
وأولى الناس بالإحسان من الجيران أقربهم منك بابًا، ففي البخاري من حديث عائشة قالت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال : ((إلى أقربهما منك بابًا)) [8].
وأما ثاني الحقوق فهو كف الأذى عنهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)) [9]. ولهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) , قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) [10]. أي: لا يأمن شره وخطره، وفي رواية لمسلم قال : ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) [11].
وهذا فيه تعظيم حق الجار ووجوب كف الأذى عنه، وأن إضراره من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي، وقد عظم الله جل وعلا إلحاق الأذى بالجار، وغلظ فيه العقوبة، ففي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله : أي الذنب أعظم؟ فقال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك)) , قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)) [12]. وفي مسند الإمام أحمد قال : ((لأن يسرق من أهل عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره)) [13].
وأما ثالث الحقوق الكبرى فهو احتمال الأذى منهم والصبر على خطئهم والتغافل عن إساءتهم، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة)) ، وذكر في الثلاثة الذين يحبهم: ((رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت)) [14].
[1] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6015)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2625).
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (48).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6019)، ومسلم في الإيمان (47).
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (45).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6017)، ومسلم في الزكاة (1030).
[6] الفتح (10/445).
[7] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2625).
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6020).
[9] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6018)، ومسلم في الإيمان (47).
[10] أخرجه البخاري في الأدب (6016).
[11] أخرجه مسلم في الإيمان (46).
[12] أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4477)، ومسلم في الإيمان (86).
[13] أخرجه أحمد (23342) من حديث المقداد بن الأسود.
[14] أخرجه أحمد (21020) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إن للجوار في دين الإسلام حقًا عظيمًا، حتى إن جبريل أعاد في أمر الجار وأبدى تأكيدًا لحقه وبيانًا لحرمته.
فاتقوا الله عباد الله، فإن الكرام خيار الناس للجار، وقد قيل:
يلومونني أن بِعت بالرخص منزلي ولم يعلموا جارًا هناك ينغص
فقلت لهم: كفّوا الملام فإنما بجيرانها تغلو الديار وترخص
أيها المؤمنون، إنّ الجار الذي تجب له تلك الحقوق هو الذي يُعَدّ في العرف جارًا، وليس لذلك ضابط من عدد أو غيره، فالمرجع في تحديد من هو الجار يعود إلى عرف الناس، فكل من عده الناس جارًا لك فهو جار تجب له تلك الحقوق، وأكثرهم فيها من كان أقربهم منك بابًا.
أيها المؤمنون، إن الناظر في واقع الناس اليوم يرى كيف أن الدنيا قد استولت على قلوب كثير من الناس، فعصفت بكثير من الأخلاق والقيم، وأنست كثيرًا من الحقوق والواجبات الشرعية، فتباعدت القلوب وتنافرت النفوس، فعق الولد أباه، وقطع الأخ أخاه، وهجر الجار جاره، فضاعت الحقوق، وقامت سوق القطيعة والعقوق إلا من رحم الله، فكم هم الذين أساؤوا إلى جيرانهم فمنعوهم الإحسان، وبذلوا لهم القطيعة والأذى.
فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا إلى جيرانكم، مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ابذلوا لهم الخير ما استطعتم، وردوا عنهم الشر ما ملكتم، تلطفوا إليهم بالهدية والزيارة، فإن لم تجدوا خيرًا تبذلونه فلا أقل من كف الشر عنهم.
(1/3718)
حق الجار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الجار في الإسلام. 2- حقوق الجار الكبرى. 3- الضابط في تحديد الجار. 4- من أحول الناس اليوم مع جيرانهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، عباد الله، إن من نعم الله تعالى علينا في هذه الشريعة المباركة أن ألف بين قلوب المؤمنين وجمع شتاتها ولمَّ شعثها.
وقد شرع الله سبحانه وتعالى لتحقيق ذلك شرائع وحد حدودًا، ففرض سبحانه وتعالى على المؤمنين واجبات وحقوقًا لبعضهم على بعض، تصلح ذات بينهم، وتجمع قلوبهم، وتؤلف بين صدورهم، فكان من تلك الشرائع حق الجوار.
أيها المؤمنون، إن حق الجار على جاره مؤكد بالآيات البينات والأحاديث الواضحة، فهو شريعة محكمة وسنة قائمة، قال الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36]. ففي الآية الوصية بالجيران كلهم قريبهم وبعيدهم، مسلمهم وكافرهم.
وقد أكد النبي حق الجار تأكيدًا عظيمًا، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر وعائشة رضي الله عنهم قالا: إن رسول الله قال: ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) [1]. وهذا يدل على تأكيد حق الجار؛ فإن النبي ظن أن نهاية هذا الحرص وتلك الوصايا من جبريل عليه السلام أن يكون للجار نصيب من الميراث.
أيها المؤمنون، إن حقوق الجار كثيرة عديدة، وهي في الجملة دائرة على ثلاثة حقوق كبرى: الإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم، واحتمال الأذى منهم.
أما الحق الأول فإنه الإحسان إلى الجيران، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بذلك في كتابه فقال سبحانه: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)) [2]. وقد أمر النبي بإكرام الجار وجعل ذلك من لوازم الإيمان، فقال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) [3].
أيها المؤمنون، إن من الإحسان إلى الجيران سلامة القلب عليهم، وحب الخير لهم، ففي البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره ما يحب لنفسه)) [4].
وفي هذا تأكيد حق الجار، وأن الذي لا يحبّ لجاره ما يحبّ لنفسه من الخير فإنه ناقص الإيمان، وفي هذا غاية التحذير ومنتهى التنفير عن إضمار السوء للجار قريبًا كان أو بعيدًا.
أيها المؤمنون، إن من الإحسان إلى الجار الحرص على بذل الخير له قليلا كان أو كثيرًا، كما قال الله تعالى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا [الطلاق:7]، وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) [5]. فرسنُ الشاة هو حافرها. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا ولو أنها تهدي ما لا ينتفع به في الغالب" [6].
والمقصود أن يتواصل الخير والود والبر بين الجيران، ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يا أبا ذر، إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك)) [7].
وأولى الناس بالإحسان من الجيران أقربهم منك بابًا، ففي البخاري من حديث عائشة قالت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال : ((إلى أقربهما منك بابًا)) [8].
وأما ثاني الحقوق فهو كف الأذى عنهم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)) [9]. ولهما عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) , قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) [10]. أي: لا يأمن شره وخطره، وفي رواية لمسلم قال : ((لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه)) [11].
وهذا فيه تعظيم حق الجار ووجوب كف الأذى عنه، وأن إضراره من كبائر الذنوب وعظائم المعاصي، وقد عظم الله جل وعلا إلحاق الأذى بالجار، وغلظ فيه العقوبة، ففي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سُئل رسول الله : أي الذنب أعظم؟ فقال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك)) , قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني حليلة جارك)) [12]. وفي مسند الإمام أحمد قال : ((لأن يسرق من أهل عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره)) [13].
وأما ثالث الحقوق الكبرى فهو احتمال الأذى منهم والصبر على خطئهم والتغافل عن إساءتهم، ففي مسند الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله عز وجل يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة)) ، وذكر في الثلاثة الذين يحبهم: ((رجل كان له جار سوء يؤذيه فيصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت)) [14].
[1] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6015)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2625).
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (48).
[3] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6019)، ومسلم في الإيمان (47).
[4] أخرجه مسلم في الإيمان (45).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (6017)، ومسلم في الزكاة (1030).
[6] الفتح (10/445).
[7] أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2625).
[8] أخرجه البخاري في الأدب (6020).
[9] أخرجه البخاري في كتاب الأدب (6018)، ومسلم في الإيمان (47).
[10] أخرجه البخاري في الأدب (6016).
[11] أخرجه مسلم في الإيمان (46).
[12] أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4477)، ومسلم في الإيمان (86).
[13] أخرجه أحمد (23342) من حديث المقداد بن الأسود.
[14] أخرجه أحمد (21020) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إن للجوار في دين الإسلام حقًا عظيمًا، حتى إن جبريل أعاد في أمر الجار وأبدى تأكيدًا لحقه وبيانًا لحرمته.
فاتقوا الله عباد الله، فإن الكرام خيار الناس للجار، وقد قيل:
يلومونني أن بِعت بالرخص منزلي ولم يعلموا جارًا هناك ينغص
فقلت لهم: كفّوا الملام فإنما بجيرانها تغلو الديار وترخص
أيها المؤمنون، إنّ الجار الذي تجب له تلك الحقوق هو الذي يُعَدّ في العرف جارًا، وليس لذلك ضابط من عدد أو غيره، فالمرجع في تحديد من هو الجار يعود إلى عرف الناس، فكل من عده الناس جارًا لك فهو جار تجب له تلك الحقوق، وأكثرهم فيها من كان أقربهم منك بابًا.
أيها المؤمنون، إن الناظر في واقع الناس اليوم يرى كيف أن الدنيا قد استولت على قلوب كثير من الناس، فعصفت بكثير من الأخلاق والقيم، وأنست كثيرًا من الحقوق والواجبات الشرعية، فتباعدت القلوب وتنافرت النفوس، فعق الولد أباه، وقطع الأخ أخاه، وهجر الجار جاره، فضاعت الحقوق، وقامت سوق القطيعة والعقوق إلا من رحم الله، فكم هم الذين أساؤوا إلى جيرانهم فمنعوهم الإحسان، وبذلوا لهم القطيعة والأذى.
فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا إلى جيرانكم، مروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، ابذلوا لهم الخير ما استطعتم، وردوا عنهم الشر ما ملكتم، تلطفوا إليهم بالهدية والزيارة، فإن لم تجدوا خيرًا تبذلونه فلا أقل من كف الشر عنهم.
(1/3719)
حقوق القرآن العظيم
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل القرآن الكريم. 2- أوصاف القرآن العظيم. 3- حقوق القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله واشكروه على نعمة إنزال القرآن، الذي جعله الله ربيع قلوب أهل البصائر والإيمان، فهو كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه: (هو كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:1، 2]، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
أمة القرآن، هذه بعض أوصاف كتابكم الحكيم، وقد ذكر الله كثيرًا من أوصافه في القرآن العظيم، بيّن في تلك الأوصاف وظيفة الكتاب ومهمته وعمله، وما يجب له من الحقوق والواجبات.
فمن ذلك ـ أيها المؤمنون ـ أن الله وصف كتابه الحكيم بأنه روح قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ [الشورى:52]، فالقرآن العظيم روح يحيي به الله قلوب المتقين، فللَّه كم من ميت لا روح فيه ولا حياة أحياه الله تعالى بروح الكتاب قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
فاطلبوا ـ أيها المؤمنون ـ حياة قلوبكم من كتاب ربكم، فلا أطيب ولا أكمل من الحياة بروح القرآن.
عباد الله، إن من أوصاف القرآن العظيم أنه نور قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن:8]، وقال: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
فالقرآن ـ يا عباد الله ـ نور تشرق به قلوب المؤمنين، ويضيء السبيل للسالكين المتقين، وذلك لا يكون إلا لمن تمسك به فعمل بأوامره وانتهى عن زواجره.
أيها المؤمنون، إن من أوصاف القرآن العظيم أنه فرقان، قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1].
فالقرآن فرقان يفرق بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الغي والرشاد، وبين العمى والإبصار، وهو فرقان فرق الله فيه وبه بين المؤمنين الأبرار وبين الكافرين الفجار.
فاحرصوا ـ عباد الله ـ على التحلي بصفات المؤمنين، والتخلي عن صفات الكافرين والفاسقين.
أيها المؤمنون، إن من أوصاف القرآن العظيم أنه موعظة وشفاء، وهدى ورحمة للمؤمنين، كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].
فالقرآن ـ يا عباد الله ـ أبلغ موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو أنجع الأدوية لما في القلوب من الآفات والأمراض، ففي كتاب الله تعالى شفاء أمراض الشبهات، وشفاء أمراض الشهوات، وهو هدى ورحمة لمن تمسك به، يدله على الصراط المستقيم، ويبين له المنهاج القويم، ويوضح سبيل المؤمنين.
أيها المؤمنون، هذه بعض الأوصاف التي وصف الله تعالى بها القرآن العظيم، وهي أوصاف عظيمة جليلة تبين عظم قدر هذا الكتاب المجيد الذي جعله الله خاتم كتبه إلى أهل الأرض، فهو أعظم آيات النبي ، بل هو أعظم آيات الأنبياء، فلم يؤت نبّي مثل هذا القرآن العظيم الذي أعجز نظامه الفصحاء، وأعيت معانيه البلغاء وأسر قلوب العلماء، فصدق ـ والله ـ ربنا حيث قال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ [الزمر:23].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إن لهذا الكتاب العظيم حقوقًا كثيرة وواجبات عديدة، فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بحقوقه وواجباته.
فمن حقوقه ـ أيها المؤمنون ـ وجوب الفرح به، فكتاب الله المجيد خير ما يفرح به، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58]. قال أبو سعيد رضي الله عنه في هذه الآية: (فضل الله القرآن، ورحمته أن جعلكم من أهله).
ومقتضى هذا الفرح ـ يا عباد الله ـ هو تعظيم هذا الكتاب، وإيثاره على غيره، فإنه ـ والله ـ خير من كل ما يجمعه الناس من أعراض الدنيا وزينتها.
أيها المؤمنون، إن من حقوق هذا الكتاب المجيد تلاوته، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ليُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30]، وقد قال : ((اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)) رواه مسلم [1].
فحافظوا ـ أيها المؤمنون ـ على تلاوة القرآن، واستكثروا من ذلك، فإن تلاوة القرآن تجلو القلوب وتطهرها وتزكيها، وتحمل المرء على فعل الطاعات وترك المنكرات، وترغبه فيما عند الله رب البريات.
أيها المؤمنون، إن من حقوق هذا الكتاب العظيم والفرقان المبين تدبر معانيه، قال الله تعالى: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ [ص:29]. وقد ذم الله تعالى المعرضين عن تدبر كتابه فقال جل وعلا: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
فاتقوا الله عباد الله، وتدبروا كتابه العظيم، فإنه لا يحصل الانتفاع بالقرآن إلا لمن جمع قلبه عند تلاوته وسماعه، واستشعر أنه خطاب ربه جل وعلا إلى رسوله، وقد جاء عن بعض السلف رحمهم الله أنهم كانوا يقيمون الليل بآية واحدة يرددونها ويتدبرون ما فيها.
أيها المؤمنون، إن من حق هذا القرآن المجيد تعظيمه وإجلاله وتوقيره، فإنه كلام ربنا العظيم الجليل، وقد أجمع العلماء على وجوب تعظيم القرآن العزيز وتنزيهه وصيانته، فمن استخف بالقرآن أو استهزأ به أو بشيء منه فقد كفر بالله العظيم، وهو كافر بإجماع المسلمين، فعظموا هذا الكتاب ـ يا عباد الله ـ واحفظوه من عبث العابثين.
عباد الله، وإن من تعظيمه أن لا يمس القرآن إلا طاهر أي: متوضئ، ولا يقرأه جنب أي: من كانت عليه جنابة، ولا يجوز استدباره أو مدّ الرِّجل إليه أو وضعه حيث يمتهن، فاتقوا الله وعظموا كتابه: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
أيها المؤمنون، إن من حقوق هذا الكتاب الاستمساك به كما أمر الله تعالى بذلك نبيه، فقال تعالى: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الزخرف:43]، والاستمساك به يكون باتباعه، بإحلال حلاله وتحريم حرامه والاقتداء به والتحاكم إليه وعدم الكفر بشيء منه، كما قال تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:3].
فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بكتاب ربكم تمسكًا صادقًا تُرى آثاره في أعمالكم وأقوالكم وأخلاقكم، وأقبلوا عليه تلاوة وحفظًا وتدبرًا وفكرًا وعلمًا وعملاً، فإنه من اعتصم به فقد هدي، فاعتصموا بحبل الله جميعًا أيها المؤمنون.
[1] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها (804) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
(1/3720)
التذكير بنعم الله تعالى
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
11/12/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة نعم الله. 2- نعمة الله على بني آدم بحسن خلقهم. 3- نعمة الله على بني آدم بوسائل العلم والمعرفة. 4- نعمة الله على بني آدم بالمآكل والمشارب. 5- نعمة الله على بني آدم بالملابس والمساكن. 6- نعمة الله على بني آدم بالأهل والأولاد. 7- نعمة الله على بني آدم بالمراكب. 8- نعمة الله على بني آدم بتسخير الملائكة. 9- الغاية من النعم. 10- أعظم النعم. 11- عاقبة كفران النعم. 12- حقيقة الشكر. 13- جميع الصالحات لا تفي بشكر نعمة واحدة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله، اتقوا الله تعالى وخافوا يومَ لقائِه؛ فإنه قائم على كلّ نفس بما كسَبَت.
عبادَ الله، إنَّ لله على عباده نِعمًا لا تحصَى وخيراتٍ لا تستقصَى، تفضَّل الله بهذه الخيرات والنِّعَم على خَلقِه، ووَعَد عبادَه الزيادةَ إن هم شكَروه، وضمِن لهم بقاءها واستمرارَها إن هم أطاعوه، فقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وهباتُ الله تعالى وعطاياه ظاهرةٌ وباطنة، جليّة وخفيّة، معلومة ومجهولَة، كما قال عزّ وجلّ: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20].
ونِعمةُ الله على ابنِ آدم في حُسنِ خَلقِه وتناسُب أعضائِه وشرَف هيئتِه، قال الله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]. ونعمةُ الله على عبادِه في تعليمِهم الحلالَ والحرام، والخيرَ من الشرّ، والهُدى من الضلال، والتفضُّل عليهم بالسمعِ والبصَر والعقل، قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]. ونِعَم الله على عبادِه في المأكَل بإخراجِ أصناف النّباتِ الناحِل الضعيفِ مِن باطن الأرضِ الصّلبة، وحِفظِه من الآفات، وإمدادِه بأسباب الحياة من الضّوء والماء والهواء وغير ذلك؛ حتّى يعطيَ ثمرَه حبًّا مأكولاً أو فاكهَةً نضيجَة أو بقولاً طريّة نافعة، قال الله تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:33-35]، فالحمدُ لله على فضله، والشّكرُ له على جزيلِ منّته أبدًا، وقال تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون:21].
ونِعَم الله على خلقه في شرابِهم بإنزالِه الماءَ عذبًا فُراتًا على قطَراتٍ بقَدر حاجة العباد حتَّى لا يضرَّهم في معاشهم، ثم حفظه في طبَقَة الأرض القريبَة ليستخرِجوه وينتفِعوا به وقتَ الحاجَة، قال الله تعالى: أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة:68-70]، ويقول تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ [المؤمنون:18، 19].
ونِعَم الله على عبادِه في الملابِسِ بما أخرجَه الله للنّاس من أصنافِ اللّباس واختلافِ ألوانِه وتعدُّد منسوجَاتِه من ليِّنٍ رقيق وغليظٍ كثيف وما بين ذلك، يستر به الإنسانُ عورتَه، ويتجمَّل به بين الناسِ، ويدفع به الحرَّ والبرد عن نفسِه، قال الله تعالى: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]، ويقول تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:81]، والسّرابِيل هي الألبِسَة والثيابُ التي تقِي من الحرِّ والبرد، والسّرابيل التي تقي من البأسِ هي الدروعُ من الحديد ونحوه، وفي الحديث القدسيّ عن الربِّ تبارك وتعالى أنه قال: ((يا عبادي، كلّكم عارٍ إلا من كسَوتُه، فاستكسوني أكسُكم)) [1].
ونِعمةُ الله على عبادِه في المساكن التي يأوُون إليها، ويطمئِنّون فيها، وتستُرهم عن الأعين، وتضُمّ أموالهم، وتُريح أبدانَهم من العَناء، وتدفع عنهم عادِيات المنَاخ من الحرِّ والبرد والمطَر، فيشعُر الإنسان بالسّكون والأنس والاستقرارِ النفسيِّ والهدوء العصبيِّ والسعادة القلبيةِ والأمنِ على نفسه وأهلهِ وماله، وقد رحِم الله هذا الإنسانَ فلم يجعله مشرَّدًا بلا مأوى، ولم يجعله تائِهًا بلا مَسكَن، قال الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [النحل:80].
وإذا كانَتِ البيوت من جلودِ الأنعام نعمةً عظمى ومنَّة كبرى فإنَّ أعظمَ منها نِعمة القصورُ الشاهِقة والبيوت الأنيقة والأبنيَة الفَخمة التي أخرَجَها الله في هذا الزّمانِ، ويسَّر لها ما يرتَفِق به الناسُ، وجمَع الله في هذه البيوتِ الماءَ البارد والدافئ والنورَ التّام والاتصالَ السريع والأثاثَ الثّمين والتّكييفَ النافع، فلا يخشَى صاحبُها أن يخرَّ عليه السقفُ من المطر، ولا يخاف أن تزعزِعَه العواصف، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
ونعمةُ الله على عباده بالأهلِ والوَلد بأن جعلَ الزوجَ من نفسه وجِنسه، لا من جنسٍ آخر، وذلك ليتمَّ المقصود من التآلُف والتعاوُن والتفاهُم، ورزق من يَشاء الولَدَ امتدادًا لحياةِ الوالدين ونفعًا لهما في الحياةِ وبَعد الممات، يقول الله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ [النحل:72].
ونِعمةُ الله على عبادِه في المراكِبِ الفارِهة التي تحمِل الأثقالَ مِن بلدٍ إلى بلَد، وتنقل الإنسان إلى مقصدِه وتوصِله إلى غايته. وفي السفُن التي تجري في البحرِ بأمرِ الله وتحمِل البضائعَ والأرزاق والمنافع يقول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ [غافر:79، 80].
وإذا كان ركوب الأنعامِ والسّفن الشراعيّة والانتقالُ عليها فيما مضى نعمةً كبيرة، فإنَّ أعظمَ من ذلك نعمةً رَكوبُ وسائلِ النَّقل الحديثَة التي خَلَقها الله، فراكِب الطائرة والسيّارة يقطَع في ساعة وساعات معدودة ما كان يقطعُه في أشهر وأيّام فيما مضى، وهو في سَفَره وتنقُّله لا يشعر بالوَحدة، ولا يتعرَّض لوهَج الشّمس، ولا يَلفَحه لهَب الصحراء، ولا يحرِق جَوفَه الجوع والظمأُ، ولا يناله نَصَبٌ ولا تعب، ولا يخاف قاطِعَ طريق، ولا يضرُّه هُطول المطَر، ولا يؤذيه البردُ والحرّ، بل يكون سفرُه تنزُّهًا وتنقُّله تمتّعًا، يَسبِق الريحَ في جَرَيانها، ويخلِّف الطيرَ السابِحَ وراءَه في الفضاء، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية:13].
والسّفُن العِظام التي تمخُر المحيطاتِ بما يَنفع الناسَ أعظَمُ نعمةً مما عَرَفه الناس قديمًا؛ فإنَّ ما تحمِله الواحدةُ من هذه قد يكفِي شعبًا كاملاً، فسبحانَ مَن في السماءِ عرشُه وفي الأرض سلطانُه وفي البحرِ سبيله وفي الجنّة رحمته وفي النارِ عذابُه.
ونعمَة الله على ابن آدَم في تسخيرِ الملائكة، قال الله تعالى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11]، أي: بأمر الله عز وجل، وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [إبراهيم: 33]. فنِعمةُ الله عزّ وجلّ في تسخيرِ هؤلاء الملائكة الذين يحفَظ الله بهم بدَنَه وروحَه من كلِّ من يريد بهم سوءًا، فإذا جاءَ قدَر الله تخلَّوا عنه.
والغايَةُ من النِّعَم والحِكمَة من تفضُّل الله على خَلقِه بأنواع العطايا والهِبات هي أن يشكُروه ويسلِموا له ويحمَدوه عزّ وجلّ ويعبدوه لا يشركونَ به شيئًا كما قال عزّ وجلّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل:81].
وأجلُّ النِّعَم ـ يا عبادَ الله ـ دينُ الإسلام، فلولا الدّين الإسلاميُّ لصار الناسُ كالعَجماوَاتِ، لا يعرفون معروفًا، ولا ينكِرون منكَرًا، ولأكَل القويّ الضعيفَ، ولصَبَّ الله العذابَ على الناس من فوقِهِم، وأرسل عليهم العقوبةَ من تحت أرجلهم، ولولا الإسلامُ لما اطمئنَّت الجنوبُ في المضاجع، ولما جفَّت الأعين مِنَ المدامع، ولانحَطَّ النوع الإنسانيّ في منزلة البهائِمِ التي تتسَافد في الطّرُقات.
إنَّ الإسلام ـ يا عبادَ الله ـ هو المنّةُ العظمَى، وتكاليفُه ما هي إلا تهذيبٌ للنفوس وتدرُّج بالإنسانِ في مصاعِدِ الكمال، قال الله تعالى: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة:6].
فاشكروا اللهَ على نِعَمه، واستقيموا على دينِه، فإنَّ قومًا غرَّتهم الحياةُ الدنيا وجرَّأتهم النعَم على المعاصي، فخسِروا الدنيا والآخرة، فاحذَروا الغِيَر، فإنَّ الله قائمٌ على كلِّ نفس بما كسَبَت، ولله سنن، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [الأحزاب:62].
فقد قصَّ الله علينا في كتابِه ما فيه العِبرةُ لمن اعتبر، وما فيه النجاة لمن حذِر، وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [القمر:4]، فكان ممّا قاله الله تعالى وممّا قصَّ الله علينا مِنَ الأمم الماضية قولُه تعالى: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ [سبأ:15-17]، فتجرّعوا كؤوسَ النّدَم، وفرّقهم الله عزّ وجلّ في البلادِ، وذاقوا وبالَ أمرِهم، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
نعوذ باللهِ من زوالِ نعمته وتحوُّلِ عافيته وفجأَةِ نِقمتِه وجميع سخطه، ولقَد كان سلَف الأمّة رضي الله عنهم يَوجَلون ويخافون ممّا فُتِح عليهم من الدّنيا خشيةَ أن تكونَ طيِّباتٍ عُجِّلت وحسَناتٍ قدِّمت مع أنَّ الله تعالى شهِد لهم في كتابِه وأثنى عليهم رسولُه في سنّتِه، وكانوا يجتَهِدون في العبادةِ والطاعة، ولا يركَنون إلى زهرةِ الدّنيا، ولا يغترّون بزُخرُفِها، فقد رَوَى مسلِم من حديثِ خالِد بن عُمير العَدَويّ قال: خطَبَنا عُتبة بن غَزوان رضي الله عنه فقال: (ولقد رأيتُني سابِعَ سبعةٍ مع رسول الله ، ما لنا طعَام إلاّ ورَق الشّجَر حتى قرِحَت أشداقنا، فالتقطتُ بُردةً فشقَقتُها بيني وبين سعد بن أبي وقّاص، فاتَّزَرتُ بنِصفِها، واتَّزَر سعد بنِصفِها الآخر، فما أصبَحَ اليومَ منّا أحدٌ إلاّ أصبح أميرًا على مِصرٍ من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكونَ في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا) [2].
فاقتدوا بهم ـ يا عباد الله ـ في السّرّاءِ والضّراء والثباتِ والاستقامة؛ لتُحشَروا معهم وتفوزوا بحُسن العاقبة، قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:18].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعَني وإيّاكم بما فيهِ مِنَ الآياتِ والذّكر الحَكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب البر (4674) عن أبي ذر رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم: كتاب الزهد (2967).
_________
الخطبة الثانية
_________
لله ذي الجلالِ والإكرام، أحمده سبحانَه وأشكره على حسناتِه العظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحقُّ المبين، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيّدنا عبده ورسوله الصادقُ الوعدِ الأمين، اللهم صلِّ وسلّم وبارِك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإنَّ شكرَ النّعَم لا يكون إلا بثلاثةِ أمور: الاعترافُ بحقِّ المنعِم سبحانه وتعالى، وحُبُّ الله تعالى بالقَلب، وصرفُ النعمةِ فيما يحبّ الله عزّ وجلّ، كما قال الرسول : ((أحبّوا الله من كلِّ قلوبكم لما يغذُوكم به من النِّعَم)) [1] ، ثمّ التحدُّث بذلك باللسان قال الله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، ثمّ الاجتهادُ في الطاعة والثباتُ على الدّين وترك معصية الله والبُعد عنها والمسارَعةُ إلى فِعلِ الأوامر كما قال عزّ وجلّ: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ [سبأ:13]، وكما في الحديثِ عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يقوم من اللّيلِ حتى تتفطَّر قدماه، فقلت: يا رسولَ الله، تفعَل هذا وقد غفَر الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! فقال عليه الصلاة والسلام: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!)) [2].
واعلموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ العبدَ مهما قام به من الطاعَةِ واجتنَب من المعصية ومهما شكرَ الله فلن يستطيعَ أن يؤدِّيَ شكرَ أقلِّ نعمةٍ لله عليه، فقد روى الحاكم وقال: "صحيح الإسناد" من حديث جابِر رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((إنَّ جبريلَ قال لي: إنَّ لله عبدًا من عباده عبَدَ الله خمسمائة سنَة على رأسِ جَبَل في البَحر، وأخرج الله له عَينًا عَذبة وشَجرةَ رُمّان تخرِج له في كلِّ ليلةٍ رمّانة، يتعبَّد يومَه فإذا أمسَى نزل فأصابَ مِن ذلك، ثم قام لصلاتِه فسألَ الله ربَّه عندَ الأجَلِ أن يقبِضَه ساجدًا حتى يبعثَه ساجدًا فاستَجَاب الله له، فنَجِد له في العِلمِ أنّه يُبعَث يومَ القِيامة ويوقَف بين يديِ الله فيقول له الربّ: أدخِلوا عبدي الجنةَ برحمتي، فيقول: ربِّ بل بعمَلي، فيقول الله: قايِسوا عبدِي بنِعمتي عليه وبِعَمله فتوجَد نِعمَة البَصر أحاطت بعبادةِ خمسمائة سنَة، وبقِيت نِعمة الجسَد فضلاً عليه، فيقول الله: أدخلوا عبدِي النار، فيُجرُّ إلى النار، فينادي: ربِّ برَحمتك أدخلني الجنة، فيقول الله: ردّوه، فيقول: يا عبدِي مَن خلَقَك ولم تك شيئًا؟ فيقول: أنت يا ربّ، فيقول الله: مَن قوّاك على عبادةِ خمسمائة سنَة، فيقول: أنت يا ربّ، فيقول: من أنزلك من جبلٍ وسَط لجّة وأخرجَ لك الماءَ العَذب مِنَ المالح وأخرَجَ لكَ كلَّ ليلةٍ رُمّانة وإنما يخرُج كلَّ سنَةٍ مرّة، فيقول: أنت يا ربّ، ثم يقول الله تعالى: أدخِلوا عبدي الجنة برحمَتي، ونِعمَ العبدُ كنتَ)) [3] ، وفي الحديث عن النبيِّ أنه قال: ((لن يدخُلَ الجنّةَ أحدٌ منكم بعمله)) ، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ((ولا أنا إلاّ أن يتغمَّدني الله برحمته)) [4].
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قالَ : ((مَن صلَّى عليَّ صلاةً واحِدة صلّى الله عليهِ بها عشرًا)).
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليمًا كثيرا...
[1] أخرجه الترمذي في المناقب (3789)، والطبراني في الكبير (3/46، 10/281)، وأبو نعيم في الحلية (3/211)، والبيهقي في الشعب (408، 1378) من طريق هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما وليس فيه: ((من كل قلوبكم)) ، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (4716)، وقال الذهبي في السير (9/582): "هذا حديث غريب فرد، ما رواه عن ابن عباس إلا ولده علي، ولا عن علي إلا ابنه محمد أبو الخلفاء، تفرد به عنه قاضي صنعاء عبد الله بن سليمان، ولم يروه عنه إلا هشام... وليس النوفلي بمعروف"، وضعفه الألباني في ضعيف سنن الترمذي (792).
[2] أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4837)، ومسلم في صفة القيامة (2820).
[3] مستدرك الحاكم (7637)، وأخرجه البيهقي في الشعب (4/150-151)، وضعفه العقيلي في الضعفاء (165)، والذهبي متعقبا الحاكم بقوله: "لا والله، وسليمان غير معتمد"، وانظر: السلسلة الضعيفة (1183).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6463، 6467)، ومسلم في صفة القيامة (2816، 2818) من حديث أبي هريرة ومن حديث عائشة رضي الله عنهما.
(1/3721)
رسالة إلى حاسد
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب, مساوئ الأخلاق
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تأثير القلب على الجوارح. 2- أضرار الحسد. 3- مراتب الحسد. 4- الفرق بين الحسد المحمود والحسد المذموم. 5- سبل الوقاية من الحسد. 6- أسباب دفع شر الحاسد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وطهروا قلوبكم من الأمراض والآفات والرذائل والآثام، فإن القلب سيد الجوارح؛ فهي منقادة له يستعملها ويستخدمها كيف شاء، فالجوارح آلات له في سعيه وسيره، ومن القلب تكتسب الجوارح الاستقامة أو الضلالة، ويشهد لهذا ويدل عليه ما أخرجه الشيخان عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) [1].
فالقلب أشرف الأعضاء وأعظمها خطرًا وأكثرها أثرًا وأدقها أمرًا وأشقها إصلاحًا، فبالقلب يسير العبد إلى ربه ويتعرف عليه، فهو العامل لله والساعي والمتقرب إليه. ولما كانت هذه منزلته ومكانته كان زلله والعياذ بالله عظيمًا خطيرًا وزيغه فظيعًا، أدناه قسوة وميل عن الله تعالى، ومنتهاه ختم وطبع وكفر بالله تعالى. ولذا فإن آكد ما يجب عليك ـ يا عبد الله ـ أن تصلح قلبك وأن تطهره من الآفات والآثام التي تهلك القلب وتوبقه، فإن الأمر كما قال الأول:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا
أيها المؤمنون، إن من أخطر الآفات التي تفسد القلب وتصرفه عن صحته واستقامته إلى مرضه وانحرافه الحسد. ذلك الداء من أعظم الأدواء، والابتلاء به من أشد البلوى، يحمل صاحبه على مراكب الذنوب والآثام، ويبعده عن منازل أهل التقوى والإيمان، فللَّه ما أعظمه من بلاء، ما دخل قلبًا إلا أفسده وأعطبه، وأفسد عليه حاضره ومستقبله.
والحسد داء قديم حتى قيل: "إنه أول ذنب عصي به الله تعالى"، وليس ذلك ببعيد.
أيها المؤمنون، إن المرء بالحسد يقع في ألوان من الذنوب والآثام، أعلاها الكفر بالله، وأدناها كراهة الخير لعباد الله، فللَّه كم جَرّ الحسد على الخلق من الرزايا والبلايا، فهل أخرج إبليس من فضل الله ورحمته إلى سخطه ولعنته إلا الحسد؟! وهل قتل قابيل أخاه هابيل إلا بالحسد؟! وهل أعرض أكثر صناديد الكفر عن اتباع الأنبياء والرسل إلا بالحسد؟! وهل نقم اليهود والنصارى على أمة الإسلام إلا لأجل الحسد؟! وهل استطال أقوام لبسوا لباس السنة والاتباع في أعراض أهل السنة من العلماء والدعاة وأهل الصحوة والدعوة إلا حسدًا على ما آتاهم الله من فضله؟! كما قال الله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء:54].
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أنداد له وخصوم
أيها المؤمنون، إنّ النبي حذّر أمته الحسد وعظّم أمره في أحاديث كثيرة، منها ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولاتدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) رواه الشيخان واللفظ للمسلم [2].
وقد بين لنا شدة إفساده لدين العبد، فقال صلى فيما أخرجه الترمذي بسند لابأس به عن الزبير بن العوام رضي الله عنه مرفوعا: ((دبّ إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر)) [3].
وقد أخبرنا بإفنائه للحسنات وإفساده للطاعات، فعن أبي هريرة وعبد الله بن كعب رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله : ((إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) رواه أبو داود وغيره بسند جيد [4].
أيها المؤمنون، إن الحسد الذي ورد في السنة ذمُّه والتحذير منه هو أن يحبّ المرء زوال نعمة الله عن المحسود. أما محبة مساواة غيره في الخير والفضل أو حتى الامتياز عليه كأن تحب أن يكون لك من الخير والفضل كما لفلان أو أفضل منه دون أن تزول النعمة عنه فهذا من التنافس في الخير، وليس من الحسد المذموم، ومنه قوله تعالى عند ذكر نعيم الجنة: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، ومنه قوله : ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق)) رواه الشيخان [5].
عباد الله، احذروا الحسد فإنه داء عضال فتاك، لا يوقّر كبيرًا لكبره، ولا شريفًا لشرفه، ولا عالمًا لعلمه، بل يطرق قلب الصغير والكبير والشريف والوضيع والعالم والجاهل.
فطهروا قلوبكم منه، واحرصوا على قطع أسبابه وإزالة دواعيه، فإن النجاة منه فوز أكيد.
فإن تنج منه تنج من ذي عظيمة وإلا فإني لا إخالك ناجيا
أيها المؤمنون، إن مما يزهدك في الحسد ويعينك على تركه أن تعلم أن الحاسد مضاد لله تعالى ومحادّ له في قدره وشرعه؛ فبالحسد سخطت قضاء الله تعالى وكرهتَ نعمته التي قسمها بين عباده، واعترضت على عدله الذي أقامه في ملكه بخفيّ حكمته ولطيف صنعه، فاستنكرت ذلك واستبشعته، وهذا ـ والله ـ نقص في توحيد الله الواحد الديان، وقذى في عين الإيمان.
فللَّه ما أخبثَ هذه النفس التي عصت الله في أمره، وتقدمت بين يديه في قضائه وقدره، أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].
ومما يعينك أيضًا على تطهير قلبك من هذه الخطيئة أن تعلم أن الحاسد أوّل ضحايا الحسد، فإن الحاسد معذب مهموم مغموم، حتى قيل: "لم نرَ ظالمًا أشبه بمظلوم من الحاسد".
وقد وصف بعضهم حال الحاسد فقال: "طول أسف ومحالفة كآبة وشدة تحرق، فهو مكدر النعمة لا يجد لها طعمًا، يرى كل نعمة على الخلق نقمة عليه، فهو طويل الهم دائم السخط منغَّص العيش". وهذه عاجل عقوبته؛ همّ وغمّ بغير اجتلاب دنيا مع ذهاب الدين، فلا دنيا حصل، ولا دينًا أبقى، ولذا فإن بعض المحسودين يدعو الله أن يبقي حساده ليطول عذابهم، حتى قال أحدهم:
أبقى لي الله حسادي وغمهم حتى يموتوا بداء غير مكنون
ومما يعيننا ـ أيها الإخوة ـ على تطهير قلوبنا من الحسد أن نعلم أن الحسد يهيج أنواعًا من الذنوب والخطايا، فيكثر شرّكك ومعاصيك، فبالحسد تقع في الغيبة، وبه تتبع عورات المسلمين، بل عورات المتقين والعلماء العاملين والدعاة الناصحين، فتبحث عن السقطة والزلة، وتشيع الهفوات والهنات بحجة النقد، وبدعوى التصحيح والنصح، وغير ذلك من الدعاوى التي يتشبث بها بعض مرضى القلوب مما عشش في قلوبهم من الغل والحسد والحقد، ويأبى الله إلا أن يذل ويفضح من عصاه.
تكاشرني كرهًا كأنك ناصح وعينك تبدي أن قلبك لي دوي
بدا منك عيب طالما قد كتمته أذابك حتى قيل: هل أنت مكتوي؟
ومما يعيننا على محاربة الحسد والتخلي عنه علمنا أن الحاسد مخذول محروم، فلا يكاد يظفر بمراده ولا يظفر على عدوه، فالحسود غير منصور؛ إذ إن مراده زوال نعم الله عن عباده المسلمين، وأعداؤه هم من المسلمين أو المؤمنين، وقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38].
ومن أعظم ما ينفع المرء ويعينه على ترك الحسد القناعة بما قسم الله تعالى وقضى، فإنه سبحانه أعلم بمحالِّ فضله وجوده، فطب ـ أيها المؤمن ـ نفسًا بقسمة الله، وقرّ عينًا بقضائه وقدره؛ فإنه عزيز حكيم عليم خبير.
ومما يعينك على كَسرِ سَورة الحسد وفلّ غربها معاملة المحسود بنقيض ما يقتضيه الحسد من قول أو فعل، فكفّ عنه الأذى، وابذل له الخير والندى، عسى الله أن يعينك على التخلص من هذا الداء الدوي، وأحبه على ما تلقى من جراء ذلك، فإنه من لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء.
فالصبر كأس مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
[1] أخرجه البخاري في الإيمان، باب: فضل من استبرأ لدينه (52)، ومسلم في المساقاة، باب: أخذ الحلال وترك الشبهات (1599).
[2] أخرجه البخاري كتاب الأدب (6064)، ومسلم في البر والصلة والآداب(2559).
[3] أخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2510).
[4] أخرجه أبو داود في الأدب (4903).
[5] أخرجه البخاري في العلم (73)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (816) من حديث ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن الحسد فاشٍ منتشر في قلوب كثير من الناس، حتى قال أحدهم في وصف كثرته وانتشاره:
ولم أر مثل اليوم أكثر حاسدًا كأن قلوب الناس في قلب واحد
وسر هذا الانتشار هو إقبال الناس على الدنيا التي فتنوا بها حتى أخذت بمجامع قلوبهم، فعليها يوالون وعليها يعادون، والدنيا مهما اتّسعت فإنها لن تسع الناس جميعًا، ولذا يتزاحم الناس عليها وعلى المنازل فيها، ولو فطن هؤلاء إلى ما ينفعهم لكفوا أبصارهم عنها، ولمدوا أنظارهم إلى فضل الله ومنّه وكرمه الذي وسع كل شيء، فإن خزائن فضل الله ورحمته ومنّه وكرمه لا تنفد، وبحور جوده وعطائه وهباته لا تَنَضب. فاسألوا الله من فضله كما أمركم بذلك، فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، قال الله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [النساء:32].
أيها المؤمنون، إن الله سبحانه وتعالى أمركم بالاستعاذة من شر الحساد فقال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق].
شرّ وضرر متعدّد، وهذه السورة من أكبر أدوية الحسد، ولذا كان النبي يقرؤها في الصباح والمساء، وبعد الصلوات وعند النوم؛ وما ذلك إلا لما فيها من عظيم النفع وكبير الدفع للشر وأسبابه. فاحرصوا عليها وعلى عامة الأذكار؛ فإنها من أسباب دفع شر الحاسد.
ومن أسباب دفع شر الحاسد تقوى الله تعالى، فإنه من يتق الله يجعل له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب.
ومن أسباب دفع شر الحاسد التوكل على الله، فإنه من يتوكل على الله فهو حسبه، أي: كافيه ومانعه.
ومن أسباب دفع شر الحاسد التوبة إلى الله تعالى من الذنوب والمعاصي، فإن التوبة من أعظم أسباب زوال الشر والفساد. قال ابن القيم رحمه الله: "فليس للعبد إذا بُغي عليه أو أوذِي أو تَسلّط عليه خصم شيءٌ أنفع من التوبة النصوح". فتوبوا إلى الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
ومن أسباب زوال الحسد وشر الحاسد والباغي والموذي الإحسان إليه، فكلما ازداد أذًى وشرًا وبغيًا وحسدًا ازددتَ ـ أيها الراشد ـ إليه إحسانًا وله نصيحةً وعليه شفقة، قال الله تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].
وما أجمل ما قاله الأول:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
(1/3722)
مؤتمر مكافحة الإرهاب
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
25/12/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ضرورة الإحساس بالمسؤولية. 2- دعوة المملكة للمؤتمر العالمي ضدّ الإرهاب. 3- اكتواء بلاد الحرمين بنار الإرهاب. 4- أسباب الدعوة لهذا المؤتمر. 5- مفاسد الأعمال الإرهابية. 6- الإجماع على تجريم الأعمال التخريبية. 7- موقف الإسلام من أهل الذمة والمعاهدين والمستأمنين. 8- واجبنا تجاه ظاهرة الإرهاب. 9- إفلاس مسالك العنف والإرهاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتقوا الله رحمكم الله، فأنفاسُ المرءِ خُطاه إلى أجَلِه، ودقَّاتُ قلبه تعُدّ عليه سُوَيعاتِ عمُره، كيف يأنَس بالدنيا مفارِقُها؟! وكيف يأمَن النار واردُها؟! اليَومُ يهدِم الشهرَ، والشّهر يهدم السنَة، والسّنواتُ تهدِم العمرَ، ومن طَلب المعالي اشتغَل بالعوالي، ومن لازَم الرُّقاد فاتَه المراد، ومن دامَ كسَله خابَ أمَله، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصت:46].
أيّها المسلمون، المسؤوليّة عُظمى، والنّاس كلُّهم في سفينةٍ واحدة، ومن خَرقَها غَرِقَ وأغرَقَ الجميعَ، والتّهاوُن والتساهُل يقود إلى الانفلاتِ والفَوضى، والإحساسُ الجادّ بالمسؤولية وخطورةِ النتائج يحمِل كلَّ عاقل ومسؤول على النّظَر في شؤون أمّته، ينصَح لها، ويسعَى في حِفظ كيانها وحمايةِ بيضَتها والاجتماع علَى كتابِ ربِّها والاعتصامِ بحبلِ الدّين المتين وعروةِ التوحيدِ الوثقى.
أيّها الإخوة في الله، والأمر لا تحصره كلِماتٌ، والموضوعُ لا تحدّه صفَحات، ولكنّه يحتاج إلى وَقفةٍ جادّة ووَقفاتٍ، وبرامجَ مدروسةٍ تتجاوَز ردودَ الأفعال؛ فَمصلحة الدِّين والأمةِ والدّيار بل ومصلحةُ البشريّة جمعاء والإنسانيّة قاطِبة فوق مصالحِ الأفرادِ والهيئاتِ.
وحين تُذكَر المسؤولية وحِفظ الكيان تأتي بلادُ الحرمَين الشريفَين المملَكة العربيّة السعودية خادِمةُ الحرمين وحاضِنَتُهما وراعِيَتُهما قَلبُ المسلمين النابض، تأتي لتُؤكِّد على مسؤوليتها وتبرهِن على رِيادَتها، وها هِيَ مِن منطَلَق مسؤولياتها وموقِعِها الإسلاميّ والدولي توجِّه الدعوةَ لمؤتمرٍ يجمَع رجالاتٍ مِن قادَةِ العالم وساسَتِه ومُفكِّريه؛ ليناقِشَ قضيّةً أقضَّت المضاجعَ، واكتَوَى بنارِها دُولٌ ودِيار، وأُزهِقت فيها أنفسٌ ودمِّرت ممتلكَات، واختَلَط في كثيرٍ من المواقِعِ الحابلُ بالنّابل، واضطرَبَت أحوالُها، واختَلَّ أمنها.
إنها دعوةٌ صدَرت في ظروفٍ تموج بالمتغيِّرات، بل بالأطماعِ والنِّزاعات وإيقادِ الصِّراعات واستغلالِ الخلافات، وغيرُ خافٍ أنّ دَعوتَها هذه قد صدَرت منها وهي أوّلُ من اكتَوَى بنارِ الإرهاب، بل إنَّها مِن أوّلِ المستهدَفين في آثارِه ونتائِجِه، ولقد علِم كلُّ عاقلٍ ومنصِف أنها بحمدِ الله ومِنّته مأرِز الإسلام ومَنبَع الدّعوة وأمانُ الخائفين وعَون المستضعَفين، يدٌ حانِية تداوي الجِراح، وتنطلِق منها أعمالُ الإحسان وأنواعُ البرّ لكلِّ أصقاع الدنيا، هي بفضلِ الله مصدَر الخير، فلما تبيَّن صِحّةُ تديّنِها وصِدقُ فِعالها وثمارُ أعمالها وصلابَة مواقِفها وسلامةُ منهَجها وجَّه إليها أعداؤها سهامَ الإرهاب، يريدون تقويضَ خِيامِها والعَبَث بأمنِها، يريدونها أن تغيِّر أو تبدِّل، وهيهاتَ هيهات بإذنِ الله وعونِه. ونبرَأ إلى الله أن يُقال ذلك عاطِفةً أو مجامَلةً، عياذًا بالله، حاشا وكلاّ، ولكنّه اليقينُ والتّحقيق والنظرُ في الآثار والسّنَن، فمن يَصِل الرّحمَ ويحمِل الكَلَّ ويُكسِب المعدومَ ويَقري الضيفَ ويعين على نوائبِ الحقّ لا يخزيه الله أبدًا، ومن كثُرت حسناتُه حسُنت بإذن الله عاقِبتُه، وسلَّمَه ربُّه في دنياه وآخرَتِه، وحفظَه في دينِه وأهلِه ودارِه، ولا نزال ولله الحمد نرَى الخيرَ من ربِّنا والبركةَ في أرزاقنا والصّلاحَ في ديارنا، ونحن بإذن الله مطمئنُّون لحسنِ العاقِبَة، بل إنّ ذلك كلَّه هو الذي دعَا إلى التّداعِي والتّنادي لمثل هذا الاجتماعِ، شُعورًا بالمسؤوليّة، وحبًّا في الخير ونَشرِ الأمن والسّلام، وبَيانًا للحقّ، وإزالةً للَّبس، ودَفعًا للشُّبَه.
لماذا هذه الدعوة؟ لأنَّ الأمنَ مطلبٌ عزيز، هو قِوام الحياة الإنسانية وأساسُ الحضارَةِ والمدنيّة، مطلَبُ الأمنِ يسبِق طلَبَ الغِذاء، بِغَير الأمنِ لا يُستَساغ طعام ولا يهنَأ عيش ولا يلذّ نوم ولا يُنعَم براحةٍ.
لماذا هذا التجمُّع؟ لأنّ الإرهابَ ضرَبَ مواقِعَ كثيرةً من العَالَم، فهو عابِرُ قارّات، لا وَطَن له ولا جِنسَ ولا دينَ، فعلى الدّنيَا شعوبًا وحكوماتٍ وهيئات أن تتصدَّى لهذا الشّرِّ الذي يهدِّد استقرارَ الناس وطمأنينةَ الشعوب، تجمّعٌ وتنادٍ ومؤتمر يتجاوَز العلاقاتِ العامّة إلى العَمَل المنظَّم والتنسيق العالميّ العِلميّ والتكاتف الدوليّ الشّعبيّ، في مشاركةٍ فاعِلةٍ مِنَ الخُبراءِ والمختصِّين وأصحابِ القَرار ممن يملِك الملفّات والخبرات.
لماذا هذا التجمّع؟ ولماذا هذَا المؤتمر؟ لأنّ الإرهابَ إزهاقٌ للأرواح وإراقَة للدماء المعصومةِ، مفاسِدُ عظيمة وشرورٌ كثيرة وإفساد في الأرض وترويعٌ للآمنين والمؤمنين ونَقضٌ للعهود وتجاوُز على ولاةِ الأمور، أعمالٌ سيّئة شِرّيرة، تثير الفِتنَ، وتولِّد التحزّب وتفتح أبوابَ الشرّ أمام ألوانٍ من الصراعاتِ وإشاعة للفوضى.
إنَّ مثلَ هذه الإِقدامات الحَمقاء قدَّمت الذرائعَ والمسوِّغات لمزيدٍ من التدخُّل والتسلّط ومزيدٍ من الإِثارات والثّارات على الأهل والدّيار. ألم يدرِك هؤلاء الغلاةُ المتنطِّعون أنه لم يستفِد من هذه الأعمالِ الإرهابيّة إلا الحاقدون والموتورُون، والذين يسرّهم أن يختلِطَ أَمرُ الأمّة ويختلَّ أمنُها ويضربَ بعضها بعضًا؟! ألم يَرَوا أنّ الأمّة قد أصبَحَت بعُلَمَائها ورِجالِها وساسَتِها وقادَتها ودُعاتها بل وشبَابها مادّةً يلوكها ويجترّها الإعلام بوسائِله وقنواتِه؟! ويحَهم ووَيلٌ لهم، هل يريدون جَرَّ الأمّة إلى ويلاتٍ تحلِق الدينَ وتشيع الفوضى؟! يريدون أن تتقطَّع الدوَل ويُشرَّد الناس من ديارهم وتُنتَهك الحرمات؟! يريدون إثارةَ فِتنٍ وقودُها الناس والممتَلَكات والدّيار؟!
أيّها المسلمون، حُجّاجَ بيت الله، وإنّ من نِعَم الله عزّ وجلّ على عبادِه ولطفِه بهم ورَحمتِه أنَّ الإنكارَ عليهم قد تضافَر من أهلِ العِلم مجتمعين ومنفَرِدين، بل لا يوجد أحدٌ من أهلِ العلم في هذا العصر ممّن يُعتَدّ بكلامه وعِلمه إلاّ وأنكر عليهم ورَدَّ عليهم مزاعِمَهم وشُبَهَهم وجرَّم أفعالهم ومَسَالكهم، وكيف يُتَصوَّر أن يستجيزُ عاقلٌ فضلاً عن عالمٍ بشرع الله وحدوده، كيف يستجيز هذه التصرّفات ويسوِّغ هذه الأفعال وقد روَّعوا الآمنِين ونقَضوا العُهود وخفَروا الذّمَم وتجاوَزوا على ولاة الأمور وكفَّروا المسلمين وسعَوا في الأرض فسادًا؟!
والدّلائلُ من كتابِ الله وسنّة رسوله أكثرُ مِن أن تُحصَر وأشهَر مِن أن تُذكَر، ألم يقُلِ الله عز وجل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟! ولقد عَلِم كلُّ ذِي عِلمٍ مِن أهلِ الإسلام أنَّ قتلَ النّفسِ بغير حقٍّ مِن أكبرِ الكبائر، وهي قرينُ الإشراكِ بالله عياذًا بالله، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، وفي الحديثِ الصّحيح: ((أكبرُ الكبائر الشّركُ بالله وقتلُ النفس)) [1] ، وعن ابنِ عمَرَ رضي الله عنهما: (إنَّ من ورطاتِ الأمور التي لا مخرَج منها لمن أوقعَ نفسَه فيها سفكَ الدّمِ الحرام بغيرِ حِلِّه) أخرجه البخاري [2] ، ويقول الرّسول : ((كلُّ ذنبٍ عَسَى الله أن يغفِرَه إلاّ الرجل يموتُ مشرِكًا أو يقتل مؤمِنًا متعمّدًا)) [3] ، ويقول : ((مَن قتَل مؤمنًا فاغتَبَط بقتلِه لم يقبَلْ الله منه صَرفًا ولا عدلاً)) [4] ، وعند الترمذيّ: ((لو أنَّ أهل السماءِ والأرض اشترَكوا في دمِ مؤمن لأكبَّهم الله في النار)) [5] ، وعند البخاريّ في صحيحه: ((من قتَل معاهَدًا لم يرَح رائحةَ الجنّة، وإنَّ ريحَها يوجدُ من مسيرةِ أربعين عامًا)) [6].
ولقد أتلَفوا أموالاً وممتلكاتٍ بغيرِ وجهِ حقٍّ، وكأنّه لم يطرُق أسماعَهم حديثُ رسول الله : ((إنّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) [7] ، وقولُه : ((كلُّ المسلمِ على المسلِمِ حرام: دمُه وماله وعرضه)) [8].
وروَّعوا الآمنين، وقد حذَّر رسول الله من ذلك أشدَّ التحذير، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يحِلّ لمسلمٍ أن يروِّعَ مسلمًا)) [9].
وحمَلوا السلاح على الناسِ، وقد نهى رسول الله عن مجرَّدِ الإشارة به، فكيف بالإشهارِ به والقتل والإعانةِ؟! وفي الحديثِ: ((لا يشِر أحدُكم إلى أخيه بالسّلاح؛ فإنّه لا يدرِي لعلّ الشيطانَ ينزِع في يدهِ فيقَع في حفرةٍ من النّار)) [10] ، فأيّ وعيدٍ أشدّ من هذا؟! فنعوذ بالله من الضّلال والخذلان.
أيّها المسلمون، وأهلُ الذمّةِ والمعاهَدون والمستَأمَنون محفوظَةٌ حقوقُهم في الإسلام وفي ديارِ المسلمين، دِماؤهم معصُومَة، وأموالهم محتَرمَة، يستوونَ في ذلك مع المسلِمين لعمومِ النصوص وخصوصِها في أهلِ الذّمّة والمعاهَدين، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام:151]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الآية [المائدة:46]، ومَن قتَل نفسًا معاهدًا لم يرَح رائحة الجنّة، وإنّ ريحها يوجَد من مسيرةِ أربعين عامًا.
فلا يصِحّ في دينِ الإسلام إيذاؤُهم ولا التعدِّي عليهم في أنفسِهم ولا أموالِهم ولا ممتلَكَاتهم ولا أهلِهم، وفي السنن الكبرى عن عليٍّ رضي الله عنه: (من كانَت له ذمّتُنا فدَمُه دمُنا) [11]. وأهلُ الذّمّة والمعاهَدون والمستَأمَنون ممّن يتعيَّن معامَلَتُهم بالبرِّ والقسط على حدِّ قوله سبحانه: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8].
واستَمِعوا إلى موقِفِ شيخ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله وهو يفاوِضُ في فكِّ الأسرَى، يقول رحمه الله: "لا نرضَى إلا بافتِكاكِ جميعِ الأسرى من اليهودِ والنصارى؛ فهم أهلُ ذمّتِنا، ولا ندَع أسيرًا لا مِن أهلِ الذّمّة ولا من أهلِ الملّة" [12] ، مع أنّه رحمه الله كان في حربٍ مع الصليبيِّين.
هذه بعضُ النصوص والأحكام وكلامِ بعضِ المحقّقين من أهل العلم، فهلا اتّقى اللهَ هؤلاء، ناهيك عمّا وقَعُوا فيه من شقِّ عصا الطاعةِ ومفارقة الجماعةِ، فذلك كبيرةٌ من كبائر الذنوب، وفي الحديث الصحيح: ((مَن خرَج من الطاعةِ وفارق الجماعة فمات مَاتَ مِيتةً جاهلية)) [13]. فلا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله، جرائِمُ لا يقدِم عليها إلاّ من طمِسَت بصيرته وزُيِّن له سوءُ عَمَله فرآه حسنًا.
أيّها المسلمون، إنَّ المخاطِرَ كثيرة، وإن الإحساسَ الصادق بالمسؤولية واستشعارَ المهمّة يستوجِب اليقظةَ في مواجهَة كلِّ فكرٍ ضالّ أو تصرُّفٍ عنيف أو سلوك إرهابي. إنَّ هذا الإفسادَ في الأرض يستهدف الجميع، وتهدِّد نتائجُه وآثاره الجميعَ، يجِب توعيَةُ الناشِئَة وتذكيرُهم وتعليمُهم ليعظِّموا أوامِرَ الله وحرُماتِه ويحذَروا سَخَطه ونواهِيَه. إنّنا بحاجةٍ إلى المواجهة بكلمةِ الحقِّ الصادِعَة والقولِ السديد، ينهَضُ به العالم والمعلِّمُ والواعظ والخطيبُ والمفكِّر والكاتب. إنَّ على العلماءِ والمفكِّرين وأصحابِ الرأيِ والقلَم وهم حرَّاس الدينِ والدّيار والقِيَم والمكتسبات، إنّ عليهم مسؤوليّةً كبرى في توجيهِ الشّباب وتثقيفِهم وتوعيَتِهم وحمايَتِهم من الانسياقِ وراءَ أصحابِ الأفكار الشاذّة والتوجُّهات المنحرِفة وأصحاب الأغراض والأهواءِ، لا بدَّ من حُسنِ التّوظيفِ للمنابِرِ ووسائِل الإعلامِ والنّشر والمناهج، يجِب التوجُّه نحوَ حِفظ الحقوق وبِناء القوّة والسّعي الجادّ إلى جمعِ الكلمة والمحافظة على وَحدَةِ الصّفّ ومعرفةِ فِقهِ الخِلاف وأدَبِ الاختلاف وحُسنِ الدّعوة إلى الله والجِدال بالتي هي أحسنُ والحِوار الهادِف البنّاء. وعلى الآباءِ والأمّهات الاهتمام بأبنائِهم، فلا يُترَكوا لأصحاب الأفكار الهدّامة والمناهج المنحرفة والمسالك المشبوهة، ولا يترَكوا للتّجمُّعات المرِيبَة والرَّحَلات المجهُولَة، فكلُّ ذلك مَراتِعُ أصحابِ التّضليل ومصائِد الذّئاب المفتَرِسة. لا بدّ من توسيعِ دائرة الاتّصالِ والثِّقَة المتَبادَلة بين الناشِئة والعلماء والمربِّين.
ألا فاتَّقوا الله رحمكم الله، وعُوا مسؤوليّاتكم، وانصَحوا لأمّتِكم وأئمَّتِكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:204، 205].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الديات (6871)، ومسلم في الإيمان (88) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الديات (6863).
[3] أخرجه أحمد (4/99)، والنسائي في تحريم الدم (3984)، والطبراني في الكبير (19/365) عن معاوية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (8031)، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (511). وفي الباب عن عبادة وأبي الدرداء رضي الله عنهما.
[4] أخرجه أبو داود في الفتن (4270)، والطبراني في مسند الشاميين (1311) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2450).
[5] سنن الترمذي: كتاب الديات (1398) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، وقال: "حديث غريب"، وقال ابن كثير في إرشاد الفقيه (2/258): "في إسناده يزيد الرقاشي عن أبي الحكم وهو عبد الرحمن بن أبي نعم عنهما، ويزيد ضعيف جدّا، ولكن هذه الأخبار يشد بعضها بعضا"، ولذا صححه الألباني في صحيح الترغيب (2438، 2442).
[6] صحيح البخاري: كتاب الديات (6914) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[7] أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679) عن أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه البخاري أيضا في الحج (1639) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وورد عن غيرهما من الصحابة.
[8] أخرجه مسلم في البر (2564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، وابن أبي شيبة في مسنده (958، 959، 971)، وهناد في الزهد (1345)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) عن رجال من أصحاب النبي ، وحسنه العراقي كما في الفيض (6/447)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (447). وفي الباب عن أبي هريرة وأنس والنعمان بن بشير وابن عمر رضي الله عنهم.
[10] أخرجه البخاري في الفتن (7072)، ومسلم في البر (2617) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] السنن الكبرى (8/34) وأخرجه محمد بن الحسن في الحجة (4/353-355)، وعنه الشافعي في مسنده (ص344)، والدارقطني في السنن (3/147)، وفي سنده أبو الجنوب الكوفي الراوي عن علي قال الدارقطني: "ضعيف الحديث"، وانظر: السلسلة الضعيفة (3/224).
[12] انظر: مجموع الفتاوى (28/617-618).
[13] أخرجه مسلم في الإمارة (1848) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا لا منتهى لعدَدِه، والشّكر له شكرًا لا يتنَاهى في مدَدِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةَ صادقٍ في توحيده مخلِصٍ في معتَقَده، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، المؤيَّدُ بالمعجِزات والآيات حتى نبَع الماءُ من أصابِع يدِه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، عزَّروا نبيَّهم ووقَّروه وآزروه في رخاءِ الأمرِ وشدائده، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، إنّ مسالِكَ الغلوّ وأساليبَ العنف وأعمالَ الإرهاب من تفجيرٍ وتدمير وسطوٍ وسَفكٍ للدماء وخروجٍ على النّظام العامّ لا تهدِم القِيَم الكبيرة، ولا تقوِّض المنجَزات السّامِقَة، لا تحرِّر شعبًا، ولا تفرِض مذهبًا، ولا تنصُر حِزبًا.
إنّ العنفَ والإرهاب لا يمكِن أن يكون قانونًا محترَمًا أو مَسلكًا مقبولاً، فضلاً عن أن يكونَ عقيدةً أو مذهبًا. الغلوّ والعُنف والإرهاب لا يحمل غير التخريبِ والإفساد. العنفُ والإرهابُ لم يفلِح في أيِّ مكانٍ من العالم ولا زمانٍ مِن الدّهر في تحقيقِ أهدافه، بل إنّه يقضِي على أصحابه، ويؤكِّد الطبيعةَ العدوانيّة والروحَ الدّمويّة لتوجُّهات أصحابِه الفكريّة، والمشاعرُ والعقول كلُّها تلتَقِي على استنكارِه ورَفضِه والبراءَةِ منه ومن أصحابِه، ومِن ثَمَّ فإنّه يبقى علامَةَ شذوذٍ ومظهرَ انفرادٍ وانعزاليّة، والمجتمعُ لن يسمَحَ لحفنةٍ من الشّاذِّينَ أن تُمليَ عليه تغييرَ مَسارِه أو التشكيك في مبادئِه ومسلَّماتِه.
إذا تبيَّن هذا ـ أيّها المسلمون ـ فإنَّ على الجميع تقوَى الله والتعاونَ علَى البرّ والتقوى والسعيَ في اجتثاثِ هذا الخطرِ على الدّين والدّنيا والناس والدّيار والتوعيةَ بخطوةِ هذا المسلَكِ والردِيء ومناصَحَة من وقَعَ في هذا الطريقِ المظلِم المهلِك ومَن التَبَست عليه بعضُ الأفكارِ والشّبهات، ومن أصرَّ على باطِلِه أو عُلِم منه التخطيطُ لأعمالٍ إجراميّة وجَب الإبلاغُ عنه كفًّا لشرِّه وحَقنًا للدماء وحِفظًا على الأمّة.
ألا فاتّقوا الله رحمكم الله، واجتمِعوا على الحقّ، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
ثمّ صلّوا وسلّموا على نبيّ الرحمة والهدى، فقد أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال قولا كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأكمل، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/3723)
مكافحة الإسلام للإرهاب
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا الأسرة, محاسن الشريعة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
25/12/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معنى الإرهاب. 2- حديث القرآن عن الإرهاب. 3- الإرهاب في العصر الحاضر. 4- الدعوة للتصدي للإرهاب. 5- براءة الإسلام من الأعمال الإرهابية. 6- محاربة الإسلام للإرهاب. 7- محاسن الإسلام. 8- لا إكراه في الدين. 9- وسائل الوقاية من الإرهاب. 10- ضرورة التعريف الصحيح للإرهاب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الإرهابُ هو الإفزاعُ والإخافة، يقال: أرهبَه ورهَّبه أي: أخافه وأفزعه، وبذلك فسِّر قوله تعالى عزّ وجلّ: وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116].
وقد تحدَّث القرآن عن بعضِ صُوَر الإرهاب، ومِن ذلك ما ذكَره الله تعالى عن المفسِدين من قومِ ثمودَ في قوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:48، 49]، ومِن صورِه إرهابُ فرعون لما آمَن السحرة: فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى [طه:71]، ومِن صوَر الإرهابِ ما بيّنته الآيات عن أصحابِ الأخدود الذين حفِرَت لهم الحفَر، وأُضرِمَت فيها النار، وأُلقوا فيها وهم أحياء، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10].
والإرهابُ في عصرِنا يمثِّل قضيّةَ الساعة وخطَرَ المستقبل، يتولَّد عن خطَأ في المعتَقَد والفكرِ والسلوك ومِن عدَمِ التّعايُشِ مَع الواقِعِ وعدَم الرّغبة في صناعَةِ المستَقبَل، فقد ينتج عن مَطمَع دنيوي أو يأس مع النفسِ أو انتقامٍ شِرّير.
ومِنَ الإرهاب الأعمال التخريبيّة التي وقعت في بلادِنا، أعمالٌ تهدم ولا تبني، تخيف ولا تؤمِّن، بل أحدثت شرورًا عظيمة ومفاسدَ كثيرة وأضرارًا جسيمةً على المجتمعاتِ والأفراد.
وممّا اشتدَّ على أهل الإسلام أثرُه أنّ موقدَها بعضُ أبناء المسلمين الذين استَهوَتهم شياطين الإنس والجنِّ، فصَدّوهم عن الصراط المستقيم، فغَدَوا أسلحةً موجَّهة ضدَّ الإسلام وأهلِ الإسلام؛ بما فعلوا من أمورٍ عظيمة منكرَة، لم تعُد خفيَّة، فقد شاهدها الناس وعانَوا منها وشهِدوا عليهم بها، وقانَا الله شرَّها.
ومِن ذلك تكفيرُهم المسلمين وقتلُ المستَأمَنين، وإعلانُهم الخروجَ عن طاعة وليِّ الأمر واعتداؤهُم على الممتَلَكات وسَعيُهم إلى الإخلالِ بالأمن وترويعُهم للآمنين في هذهِ البلاد وغيرها وإشاعةُ الفوضى، وهنا ينبغِي أن لا نعمِّم الخطَأ على جميعِ الأمّة الإسلامية، فالإرهاب لا يرتبِط بدينٍ ولا وطن ولا أمّة، بل هو بضاعةُ إبليس يزرَعها في فكرِ من ضلَّ سعيُه وخاب عمَلُه، وقد عمَّ العالمَ ضرَرُ الإرهاب وتطايَر شررُه.
ولخطورتِه تعالَت الصّيحات إلى ضرورةِ التصدّي له وتحديد مفهومِه وبيانِ أشكاله وصوَرِه، كما تنادَت الهيئات وعُقِدت المؤتمرات وطرِحَت هذه المادّة على طاولةِ البَحث للدّراسة الموضوعيّة والتحليل العلميّ الدقيق.
وينبغي أن ندركَ أنّ الإسلامَ أرفَعُ وأشرَفُ وأسمى من كلِّ هذه السّلوكيّات الخاطِئَة والمعتَقَدات الضالّة، بل الإسلام حجّةٌ على المسلِمين في أحكامِه وتشريعاتِه، فمن عَرَفه عرَف الحَقَّ؛ لأنَّ من يعرِف الحقَّ يعرف رجالَه.
هذه التّصرّفاتُ الشاذّة لا تعبِّر إلاّ عن معتَقَد أصحابها وما يحمِلونَه من أفكارٍ منحرِفَة تخالِفُ الطّرَق الشرعيّة والأساليبَ النبويّة، ومِن عَجبٍ تمحُّلُ بعض الحاقدين حينَ ركِبوا متنَ الشّطَط والغلوّ، ولمزوا قِيَم الإسلام ومبادِئَه والدعوةَ والدعاة، في مغالَطةٍ للحقائق وكَيدٍ للإسلام وترهيبِ النّاس من الدِّين والتديُّن، وهذا تزييفٌ واضح للأجيال وافتراءٌ مَشين أملَته قلوبهم المريضةُ وأقلامهم المسمومة، وروَّجوا بأنَّ أهلَ الإسلام والداعين له ليسوا غيرَ إرهابيِّين، ينشرون الذّعرَ والرعبَ. إنّنا حين نرفض الإرهابَ ونشجبه نستَنكِر مَن يصطادُ في الماء العَكِر ويشوِّه قِيَم الدّين ويركب موجةَ الإرهاب لتمييعِ ثوابتنا، وكأنّه لا عنفَ إلاّ عند المسلِمين.
ونحن واثقون أنّ هذه الأحداثَ لها وضعٌ طارئ، وسَوفَ تتوارَى بإذن الله فلولُ السلوكِ الخاطئ والفكر المغلوط بالتوعية والبيانِ والقوّة والسِّنان، ومجدُ الإسلامِ الزّاهر مسطَّرٌ بمدادٍ مِن نورٍ من زَمَن النبوّة ثم الخلافَة الراشِدَة إلى عصرنا، ولم تَشهَد البشريّة أمنًا وسلامًا وعدلاً مشرِقًا إلا بالإسلام.
لقد سبَق الإسلامُ جميعَ القوانين في مكافحَةِ الإرهاب وحمايةِ المجتمعات من شروره، وفي مقدّمة ذلك حفظُ الإنسانِ وحماية حياتِه وعِرضه وماله ودينه وعقله، من خلال حدودٍ واضحة منعَ الإسلام من تجاوُزها. إنّه دينٌ يحمِي الكَرامةَ والحياةَ الإنسانيّة، وجعل من قتل أيَّ نفسٍ بغير حقٍّ بمثابة قتلِ الناس جميعًا: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. وتحقيقًا لهذا التّكريم مَنعَ الإسلام بغيَ الإنسان على أخيه، وحرَّم كلَّ عملٍ يلحِق الظلمَ به، قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:33]. شنّع على الذين يؤذون الناسَ في أرجاءِ الأرض: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].
الإسلام دينُ الرحمة، ورحمته صلواتُ الله وسلامُه عليه امتدَّت لتشمَلَ الحيوانَ والنبات، بل كلّ شؤون الحياة، ألم يشِر صلوات الله وسلامُه عليه إلى أنّ رجلاً دخل الجنّةَ في كلبٍ سقاه [1] ، وامرأةً دخلت النارَ في هِرّة حبَستها؛ لا هي أطعَمتَها ولا هي ترَكتها تأكل من خشاش الأرض [2] ؟! ألم يدعُ صلوات الله وسلامه عليه إلى عِمارة الكون وإحياء المواتِ مِنَ الأرض: ((من أحيَا أرضًا ميّتة فهي له)) [3].
هذا هو نهجُ الإسلام، دين التعميرِ والبِناء، لا التدمير والإفساد. حاربَ الإسلام الإرهابَ بتحريمه بكلِّ وسيلةٍ غير مشروعة يُتَوصَّل بها إلى هدفٍ مشروع، فالغاية في الإسلامِ لا تسوِّغ الوسيلةَ، فلا بدّ من مشروعيّة الغاية وما يُتَوَصّل به إليها، كلُّ ذلك ليحقَّقَ الاستقرار ويعُمَّ الأمن والأمان في المجتمعات الإسلاميّة.
دينُنا دين العدل والإحسان، أمر المسلمين أن يعدِلوا مع إخوانهم وغيرِ إخوانهم: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ [النحل:90]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ أي: شهداءَ بالعدل؛ تقولون العدلَ وتعملون به، تطبِّقونه على أنفسكم وعلى غيركم، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] أي: لا تحملكُم عداوتُكم لبعض الناس أن تجوروا، ولم ينهَ الله المسلمين عن الإحسانِ لغيرهم وبِرِّهم إذا لم يقاتِلوهم ويخرجوهم من ديارهم، قال تعالى: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8].
دينُنا أمر بطاعة وليّ الأمر: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وقال : ((من رأى من أميره شيئًا يكرهُه فليصبِر عليه؛ فإنّه من فارق الجماعةَ شبرًا فمات إلا ماتَ ميتةً جاهلية)) [4].
دينُنا أمر بالابتعاد عن كلِّ ما يثير الفِتَن، وحذَّر من مخاطِر ذلك، فقال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25].
دينُنا وجَّه الفردَ والجماعَةَ إلى الاعتدالِ واجتِثاث نوازِعِ الجُنوح والتطرّف وما يؤدِّي إليهما من غلوٍّ في الدّين لأنَّ في ذلك مهلكةً أكيدة، فقال : ((إيّاكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلك مَن كان قبلَكم الغلوّ في الدين)) [5].
دينُنا عالج نوازِعَ الشرِّ المؤدّية إلى التخويف والإرهاب والترويعِ والقتل، فقال : ((لا يحلّ لمسلمٍ أن يروِّع مسلِمًا)) [6] ، وقال: ((من أشار إلى أخيه بحديدةٍ فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهيَ وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) [7].
دينُنا شرَع حدَّ الحِرابة للمفسدِين في الأرض، لجريمة الإفساد التي تروِّع الأبرياءَ وتقتُلهم وتضعِف أمَّتَهم، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ [المائدة:33].
يقوم منهجُنا في ديننا في الدَّعوة على إقامةِ الحجّة والبرهان، لا يجبِر أحدًا على الدخول في دعوتِه، وإن كان يتمنَّى أن يجدَ الناس حلاوةَ الإيمان، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [العنكبوت:51]، فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ [الغاشية:21]، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ [ق:45]، إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ [الشورى:48]. وما انتشَر الإسلام إلا بحكمةِ رجالِه وقوّة إيمانهم واستبشارهم لقوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].
صرّح القرآن الكريم بمنعِ الإكراه في الدين فقال تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، والمسلمون لم يكرِهوا ولن يكرهوا أحدًا على الدخولِ في الإسلام، وقد دلَّت وقائِعُ التاريخ على هذا، فلم يثبُت في أيِّ حقبةٍ زمنيّة أنّ المسلمين أكرهوا أحَدًا على الإسلام، وبهذا تثبُت الحقيقة أنّ الإسلامَ لم ينتشِر بالسيف، قال تعالى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99].
دينُنا للعالمين، ينشد العالميّةَ بالهدى والنور، بالقرآنِ والسّنّة، بالأسلوب الحسن والحوارِ البنّاء والجدَل بالتي هي أحسن، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46]، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : "إنّ الله بَعثَ محمّدًا بالحقّ هاديًا، ولم يبعَثه جابيًا" [8].
هذا دينُنا، وتِلك قِيَمنا، لا تقوم على عواطِفَ سائرة وحماسٍ أهوَج، لا تتلاعب بها الشعاراتُ الرنّانة، وإنما أسُسٌ وقواعد، فيها حُكمٌ وإِحكام وتشريعٌ بليغ البيان، يسير على هديِه أهلُ الإسلام، قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي [يزسف:108].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرّحيم.
[1] حديث الرجل الذي دخل الجنة في كلب سقاه أخرجه البخاري في الوضوء (174)، ومسلم في السلام (2244) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] حديث المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها أخرجه البخاري في بدء الخلق وفي أحاديث الأنبياء (3318، 3482)، ومسلم في البر وفي السلام (2242، 2243) عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما. وثبت من حديث جابر أيضا عند مسلم في الكسوف (904).
[3] أخرجه أحمد (3/304، 338، 356، 381)، والترمذي في الأحكام (1379) عن جابر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (5205)، وصححه الألباني في الإرواء (1550). وفي الباب عن عمرو بن عَوف وسَعيد بن زَيد وعائِشة وسَمُرة وعُبادة وعَبد اللَّه بن عَمرو وأبي أسيد، قال ابن حجر في الفتح (5/19): "وفي أسانِيدها مَقال, لكِن يتقوَّى بعضها ببعض".
[4] أخرجه البخاري في الفتن (7054)، ومسلم في الإمارة (1849) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] أخرجه أحمد (1/215)، والنسائي في المناسك (3057)، وابن ماجه في المناسك (3029)، وابن الجارود (473)، والضياء في المختارة (10/30-31) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه ابن خزيمة (4/274)، وابن حبان (3871)، والحاكم (1/466)، ووافقه الذهبي، وقال ابن تيمية في الاقتضاء (ص106): "وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم"، وخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة (1283).
[6] أخرجه أحمد (5/362)، وأبو داود في الأدب (5004)، وابن أبي شيبة في مسنده (958، 959، 971)، وهناد في الزهد (1345)، والقضاعي في مسند الشهاب (878)، والبيهقي في الكبرى (10/249) عن رجال من أصحاب النبي ، وحسنه العراقي كما في الفيض (6/447)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (447). وفي الباب عن أبي هريرة وأنس والنعمان بن بشير وابن عمر رضي الله عنهم.
[7] أخرجه مسلم في البر (2616) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه ابن سعد في الطبقات (5/384).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بنعمَتِه تتمّ الصالحات، أحمده سبحانه وأشكره حمدًا يليق بالنّعَم المترادِفات، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له إلهُ البريّات، وأشهد أن سيّدنا ونبيّنا محمدًا عبده ورسوله الدالّ على الخيرات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه صلاةً دائمة إلى يومِ العَرَصات.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إخوةَ الإسلام، وللوقايةِ من الإرهاب فلا بدّ من تربيةِ شَباب الأمّة على الكتابِ والسنّة، والتوعيةِ بأهمية الاعتدال والوسطيّة في الفكر والسلوك، وإيضاحِ الموقفِ السّليم في طريقة التعامل مع المخالِف، يضطلِع بهذا الدور العلماءُ الربانيّون والدعاة المتمسِّكون بسنّة سيد المرسَلين، الذين ينطلقون في دعوتهم ووعظِهم من هديِ الرّسُل الكرام، ولا يخفى أن رسالَتهم في هذه المرحَلَة عظيمة، ومسؤوليّتهم كبيرة، وموقفهم حسّاس ودقيق.
ومن وسائلِ الوقاية نشرُ العِلم الصحيح الذي يزيل الغبَشَ ويمنع الانحرافَ ويصحِّح الفهم، كما حدث مع الخوارِج الذي خرجوا على عليٍّ رضي الله عنه، وقد قال بأنهم يقرؤون القرآنَ ولكنّه لا يجاوز حناجِرَهم [1] ، يؤوِّلونه على غيرِ تأويله، ويفهمونَه على غير مراده، قال الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187].
ومِن الوسائلِ تكاتف المسلمين واجتماعُهم مؤسّساتٍ وأفرادًا للتّصَدي لهذا الفكرِ ومعرفةِ جذوره وأسبابِه والقضاء عليه.
ومن ذلك السعيُ الحثيث لتصحيحِ المفاهيمِ الإسلاميّة ونشر الوعيِ بين أفراد المجتمع.
ومنها تمكينُ العلماء والدعاةِ للدعوة إلى الله والتصدِّي لهذا الفكر من خلال القنواتِ الإعلامية ودعمهم ومساندتهم.
ومن الوسائِل الاهتمامُ بغرسِ المبادئ الصحيحةِ في نفوس الناشِئة، وتقويَة وتركيز المناهِجِ الشرعيّة في المراحِلِ التعليميّة، ودعم دورِ الأسرة والمدرسةِ لتكون محاضنَ تربويّة آمنة.
ومنها الاهتمامُ بطباعةِ الكتُب والرسائل والنشَرات التي تظهِر الإسلامَ في مظهَره الصحيح.
ومنها مناظرةُ أصحاب الفِكر المنحرف؛ فالفِكرُ يقارَع بالفكرِ والحجّةِ والبيان.
وخِتامًا فإنَّ تعريفَ الإرهابِ ما زال غيرَ دقيقٍ في قاموس المنظَّمات والمحافلِ العامّة، ولم يتحقَّق إجماعٌ على تعريفٍ جامِع مانِع، وتحديدُ المصطَلَحات أمرٌ في غايَةِ الأهمية، وإلاّ التَبَست الأمور واختَلَط الحقّ بالباطل، فهناك من يعتَبِر التزامَ المرأة بالحجاب تزمُّتًا وعدَمَ الاختلاطِ تحجّرًا وسنّةَ النبيّ إرهابًا. ولا يخفَى أنّ الذي يحمي وطَنَه ويُعِزّ أمّتَه ويصون عرضَه ويذودُ عن دينه وعِرضه ويضحِّي من أجل مقدَّساته عزيزٌ في الدنيا شهيدٌ في الآخرة، ليس بإرهابيٍّ كما يزعُمون، كما أنّ للشّعوبِ حقَّها في مواجهةِ من يحتلُّها أو يعتَدِي عليها، وهذا حقٌّ فطريّ تكفله الشريعة، وتعترِف به حتى القوانِين والمواثيق الدّوليّة، قال تعالى: وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الشورى:41، 42].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5058)، ومسلم في الزكاة (1064) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
(1/3724)
شهر المحرم وعاشوراء
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
7/1/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نبذة مختصرة عن الأشهر الحُرُم. 2- فضل شهر الله المحرم. 3- فضل صيام يوم عاشوراء وسبب صيامه. 4- بدع يقع فيها بعض الناس في يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كافَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِين [التوبة:36].
هذه آيات قرآنية من سورة التوبة، يبين فيها سبحانه عدد أشهر السنة، وأن من هذه الأشهر أربعة حرم، حرمها الله سبحانه وأمر بالابتعاد فيها عن الظلم، فخص هذه الأربعة بقوله: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ، قال ابن عباس: (لا تظلموا أنفسكم في الشهور كلها، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر، فجعلهن حرامًا وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم)، وقال قتادة: "إن الظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن اللّه يعظم من أمره ما يشاء".
هذه الأشهر الحرم ـ إخوة الإيمان ـ هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وقد كانت العرب في الجاهلية تُجلُّ هذه الأشهر وتحرِّم فيها القتال، ولكنهم كانوا أيضا يُغيِّرون ويبدلون هذه الأشهر كما يحلو لهم، فإذا احتاجوا أن يغزوا قوما أو يحاربوهم بدلوا الشهر الحرام بغيره، وهو ما يسمى عندهم بالنسيء أي: التأجيل، يقول شاعرهم:
ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما؟!
فجاء الإسلام، وذم الله سبحانه في كتابه هذا الأمر فقال عز وجل: إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين [التوبة:37]، ثم لم يمت رسول الله حتى عادت دورة الزمان إلى وضعها الطبيعي، وعادت الأشهر التي بدلها المشركون إلى موضعها الصحيح، فقال في حجة الوداع فيما أخرجه أبو داود عن أبي بكرة: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان)).
فهذه ـ إخوة الإيمان ـ نبذة عن هذه الأشهر العظيمة التي لا يعرفها الكثير منا رغم معرفتنا بأشهر النصارى شهرًا شهرًا، فأكثر الناس لا يعرف ذكر الأشهر العربية ولا ترتيبها، فكيف سيعرف الأشهر الحرم؟! وهذا الجهل بالأشهر القمرية والأخذ بغيرها مفسدة عظيمة؛ لأنه مخالف لما كان عليه رسول الله وأصحابه، ولأنه يُفوِّت على المسلم بعض الشعائر وفضائل الأعمال التي لا تعرف إلا بمعرفة هذه الأشهر، كصيام البيض مثلاً وهي أيام الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر هجري، التي حث رسول الله على صيامها، فكيف سيصوم هذه الأيام من لا يعرف متى دخل الشهر القمري ومتى خرج؟!
وهذا الشهر الذي نحن فيه الآن شهر المحرم، شهر عظيم من الأشهر الحرم، ورد في فضله الكثير من الآيات والآثار والأحاديث، فالله سبحانه خص الأشهر الحرم بالذكر، وشدد فيها على عدم الظلم كما ذكرنا في الآيات السابقة، وجاء غيرها من الآيات التي ذكرت حرمة ومكانة هذه الأشهر الحرم، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْيَ وَلاَ الْقَلآئِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2]، ويقول سبحانه: جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المائدة:97]، كما ذكر رسول الله هذه الأشهر وخص شهر المحرم بالذكر، فقد أخرج مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل)).
في هذا الشهر ـ عباد الله ـ يوم عظيم هو يوم عاشوراء، وهو يوم من أيام الله سبحانه، نجَّى فيه نبيه موسى من عدوه فرعون بعد أن تكبر فرعون ورفض دين الحق ولم يسمح لبني إسرائيل باتباع موسى، بل إنه أنكر وجود رب العالمين وقال بكل تكبر وتجبر: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] ، يبين لنا القرآن كيف أهلك الله فرعون وجنوده لما طاردوا موسى وبني إسرائيل، فنجى الله موسى وقومه، وأغرق فرعون وجنوده، وجعلهم عبرة للمعتبرين، يقول سبحانه: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:52-68]، هكذا يسرد لنا القرآن هذه القصة العظيمة وهذه الملحمة والمعركة من معارك الكفر والإيمان التي نصر الله فيها أولياءه وهزم أعداءه، وكانت الغلبة فيها لدينه وشرعه، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، فهذا الشهر إذًا شهر عظيم، فيه هذه المناسبة العظيمة التي ينبغي أن نقف عندها ونتأمّلها ونستفيد من دلالاتها.
ظل اليهود يعظمون هذا اليوم العظيم يوم عاشوراء، وعندما هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة وجدهم يصومون هذا اليوم، وعندما علم السبب جعله يوما مميزا من أيام المسلمين، أخرج ابن ماجه عن ابن عباس قال: قدم النبي المدينة فوجد اليهود صياما، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى وأغرق فيه فرعون فصامه موسى شكرًا، فقال رسول الله : ((نحن أحق بموسى منكم)) ، فصامه وأمر بصيامه.
نعم إخوة الإيمان، نحن أحق بموسى منهم؛ لأن الانتماء إلى الأنبياء ليس انتماء نسب أو بلد، إنما الانتماء للأنبياء يكون باتباع هديهم وتعاليمهم، والمسلمون هم الذين يتبعون هدي الأنبياء وعقائدهم ويؤمنون بهم جميعا، لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [البقرة:285]، لهذا كانوا أحق بالأنبياء من أقوامهم الذين كفروا بهم وحرفوا دينهم وبدلوا شرعهم، يقول سبحانه تصديقا لهذا: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68].
فيوم عاشوراء هذا اليوم الذي نصر الله فيه أولياءه وقهر أعداءه، واليوم الذي ارتفعت فيه كلمة الحق وأزهقت كلمة الباطل، اليوم الذي قال فيه موسى لقومه لما قالوا له وهم يرون فرعون وجنوده خلفهم: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، قال موسى بلغة المؤمن الواثق من وعد الله: كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، اليوم الذي قال فيه فرعون المتجبر المتكبر المتألّه، قال فيه صاغرا لما أيقن بالهلاك: آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90]، فردّ الله عليه هذا الإيمان الاضطراري وهذه الدعوى الكاذبة فقال عز من قائل: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس:91، 92].
هذا اليوم حُق لكل مؤمن أن يعرف قدره ومقداره، وأن يتيقن فيه من سنة الله الكونية في نصرة أوليائه الذين ينافحون عن دينه ودحر أعدائه الذين يعارضون شرعه في كل زمان ومكان.
هذا اليوم ـ أيها المسلمون ـ شرع لنا فيه الصيام تقربا إلى الله سبحانه وشكرا على نجاة موسى عليه السلام، لهذا صامه رسول الله وصامه أصحابه رضي الله عنهم، ولا زالت الأمة تصوم هذا اليوم وتتأسى بنبيها في صيامه. ولقد سن لنا نبينا أيضا صيام اليوم التاسع من هذا الشهر، يقول في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس: ((لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع)) أي: إن عشت إلى العام المقبل لأصومن التاسع أيضا، ولكنه مات قبل أن يصومه ، لهذا يسنّ صيام هذين اليومين اللذين رتب الله سبحانه على صيامهما أجرا عظيما، لا ينبغي لمسلم أن يزهد فيه أو يفرط، فقد ذكر أن صيام عاشوراء يُكفِّر السنة التي قبله، فيا له من فضل عظيم، ويا لها من بشرى طيبة، عن أبي قتادة أن رسول الله قال عن صيام يوم عاشوراء: ((إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله)) أخرجه أبو داود.
يصوم الإنسان هذا اليوم مؤمنا مخلصا محتسبا، فيكفر الله عنه خطايا عامه المنصرم، ويستقبل عامه الآتي بنفس منشرحة وقلب عامر بالإيمان، فهذه نعمة يتفضل بها الله سبحانه على عباده، وهذا ميدان للتنافس والتسابق على إحراز الحسنات، ينبغي لكل حازم أن يضرب فيه بسهم، وأن يزاحم عليه ما دام في العمر فرصة وفي الجسد قوة، يقول سبحانه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَات وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وصلاة وسلاما على عبدك ورسولك محمد الداعي إلى رضوانك، وعلى آله وصحبه الذين أنعمت عليهم بفضلك وإحسانك.
إخوة الإيمان، لقد فضّل الله سبحانه في هذه الدنيا بعض الأيام، فبارك فيها وجعل أجر الأعمال الصالحة فيها مضاعفا؛ لكي نتخذها وسيلة إلى مضاعفة الثواب ووسيلة إلى الجنة، وأمرنا سبحانه بالمسارعة والمسابقة إلى مغفرته وجنته، يقول سبحانه: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21]، فلا شك أن العبد المؤمن يسعى إلى الخير والنور، ويحب أن يرضي الله سبحانه في أفعاله وأقواله، وأن يطيعه في الأمور التي رغب في فعلها أو الأمور التي حذر من فعلها.
ومن بين الأمور التي يجب على كل مسلم أن يُقدِّرها ويحترمها ويطيع الله فيها شعائر الله والمناسبات التي جاءت الشريعة بتكريمها وتبجيلها، يقول سبحانه: ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:33]، ولكن كثيرا ما ينحرف الناس في احتفالهم بهذه المناسبات، فتضيع روح المناسبة ومغزاها وما شرعه الله ورسوله فيها، وتبقى مظاهر وعادات لا علاقة لها بالمناسبة ولا علاقة لها بالشرع، يتوارث الناس هذه العادات ويقدسونها، ومن تركها اعتبروه مخالفا، رغم أنها بعيدة كل البعد عن هدي رسول الله.
ومن هذه المناسبات مناسبة عاشوراء، فقد ارتبطت هذه المناسبة عندنا ببعض العادات خصّصها الناس بهذا اليوم، كزيارة المقابر وغيرها من عادات تعرفونها، يفعلها المسلمون بدون دليل ولا برهان، كما ارتبطت مناسبة عاشوراء عند بعض الطوائف في الدول العربية بالحزن والعويل وضرب الصدور وغير ذلك من خزعبلات ينبغي أن يبتعد عنها المسلمون وأن يستبدلوا بها هدي رسول الله ، فخير الهدى هدى محمد، ينبغي أن يُحيوا هذه المناسبة بالصوم وتدارس سبب هذه المناسبة وتعليم أبنائهم ما معنى عاشوراء وما ينبغي أن نفعله فيها، فهذا الذي يفيدنا فعلاً، أما أن نلتزم كل عام بأمور لا معنى لها ولا تفسير ولا دليل ونضيع الصوم والذكر والأجر فهذا ـ والله ـ هو الحرمان والخسارة التي لا تعوض.
فاحرصوا ـ هداني الله ـ وإياكم على الامتثال لأمر الله والاقتداء برسول الله ومتابعة هديه في مثل هذه المناسبات تكونوا من الفائزين. واعلموا أنه كما أن في الحياة الدنيا فرصا ومواسم فإن للآخرة أيضا فرصا ومواسم، ولكن شتان بين الفرص التي تنال فيها لذات فانية يفارقها الإنسان ويتركها خلفه فجأة دون أي عِلم مسبق أو استعداد وبين الفرص التي تجعل الإنسان مخلدا في النعيم المقيم والأنهار الجارية، فاحرصوا ـ هداني الله وإياكم ـ على شهود مواسم الخير والتعرض لنفحات الله.
أسأل الله سبحانه أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته...
(1/3725)
التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
14/1/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التوبة. 2- من الذي يجب عليه أن يتوب؟ 3- وقت التوبة. 4- التحذير من التسويف والتأجيل في التوبة. 5- ثمار التوبة. 6- علامات التوبة الصادقة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: يقول تعالى في كتابه العزيز: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم [التوبة:104].
معشر المسلمين، التوبة كلمة عظيمة؛ لأنها تعني الرجوع إلى الله سبحانه، تعني إصلاح العلاقة بالخالق العظيم وإنهاء مرحلة الشرود عنه وعن تعاليمه، لهذا اهتم الإسلام بالتوبة وعظم شأنها وحث عليها الله سبحانه ورسوله ، بل إن التوبة اسم لإحدى السور الطويلة العظيمة في القرآن الكريم.
يدعو الله سبحانه إلى التوبة؛ لأنه سبحانه يريد بعباده الخير واليسر، ويدل عباده على طريق الجنة وطريق السعادة: وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [يونس:25]، لهذا دعا الرحمن عباده إلى التوبة ، دعاهم إلى التطهر من ذنوبهم وآثامهم والتوجه إلى رحاب الله الطاهرة، إلى ساحة فضله وعفوه، يقول سبحانه: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. فهذه دعوة لجميع المؤمنين بدون استثناء أن يتوبوا إلى الله إن كانوا يريدون الفلاح والنجاح، كما دعا رسول الله إلى التوبة ورغب فيها فهو القائل: ((الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له)) أخرجه الطبراني من حديث أبي سعيد الأنصاري.
فالتوبة إذًا أمر كبير الأثر عظيم الأجر، ولكن من الذي يجب أن يتوب؟ هذا سؤال نخطئ كثيرا في الإجابة عنه، فمن الناس من يظن أن التوبة إنما تكون من العصاة فقط، أما غير العصاة فليسوا مطالبين بالتوبة، ومن الناس من هو على عكس ذلك، فهو يظن أن التوبة تقبل من الصالحين الطيبين الذين لم يسرفوا في الذنوب والمعاصي، أما من بالغ في المعاصي وأكثر من الذنوب فإنه لا توبة له، وهذان الفهمان خاطئان عباد الله، فلا ينبغي للمؤمن الصالح أن يعتقد أنه في غنى عن التوبة أو أن التوبة إنما هي للعصاة فقط، فالله سبحانه يخاطب المؤمنين الذين حققوا الإيمان ويطالبهم بالتوبة رغم إيمانهم، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَار [التحريم:8].
فهذا نداء وأمر بالتوبة من الله سبحانه للمؤمنين؛ ليبين لهم أنه مهما بلغ إيمانهم ومهما أطاعوا الله فإنهم لا يستغنون عن التوبة والرجوع إليه سبحانه، بل إن أكرم الخلق وأعرفهم بالله سبحانه وأخوفهم منه الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر رسول الله كان يتوب إلى الله، فهو القائل : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إلى الله وأستغفره في كل يوم مائة مرة)) أخرجه أحمد، وأخرج أبو داود عن ابن عمر قال: إن كنا لنعد لرسول الله في المجلس الواحد مائة مرة: ((رب اغفر لي وتب علي، إنك أنت التواب الرحيم)) ، فهذا هو النبي الهادي المعلم يعلمنا أنه يتوب إلى الله سبحانه، فكيف بالله عليكم ننسى التوبة؟! كيف بالله عليكم لا نستحي أن يتوب رسول الله ولا نتوب، وأن يستغفر حبيب الله ولا نستغفر؟! هل جنون بعد هذا الجنون؟! وهل غرور بعد هذا الغرور؟!
أما التوبة للعصاة والمسرفين على أنفسهم الذين أكثروا من الذنوب فإن بابها مفتوح أيضا، ومن وسوس إليه الشيطان أو ظن أن توبته لا تقبل فإن كتاب الله يرد عليه، يقول سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25]، فالله يقبل التوبة عن عباده، وكل الناس عباد الله سبحانه، فلا ينبغي لأحد من عباد الله أن يقنط من رحمة الله وعفوه مهما كان ذنبه، يقول سبحانه: قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، دعوة كريمة من رب كريم إلى كل عاص ومسرف على نفسه إن كان يريد الخلاص، وباب يشرعه رب الكون ليلجه كل من خاف عذاب الآخرة وخاف غضب الجبار، بل إن الله سبحانه يبدل سيئات العاصين حسنات إذا هم تابوا وأنابوا وتركوا ما كانوا فيه من المعاصي، يقول سبحانه في سورة الفرقان بعد ذكر أصحاب الكبائر وما سيلاقونه من عذاب يقول: إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:70]، يستثني الله سبحانه من عذابه من تاب من العصاة وعمل صالحا، ويعدهم بتبديل سيئاتهم حسنات، فهل أرحم من هذا الرب وأكرم؟! جل شأنه وعز سلطانه، فلا أحد تحجب عنه التوبة أو يغلق في وجهه بابها حتى الكافر، فكيف بالمسلم العاصي؟! يقول سبحانه: قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ [الأنفال:38].
ولكن هل للتوبة وقت محدد لا تقبل إلا فيه، أم أنها مقبولة في كل الأوقات؟ فلنعلم ـ عباد الله ـ أن التوبة مقبولة من الإنسان في كل الأوقات إلا في وقتين: عند نهاية عمر الإنسان وظهور علامات الموت وعند نهاية عمر الدنيا وظهور علامات القيامة، فالتوبة لا تقبل عند نهاية عمر الإنسان وعند الغرغرة؛ لأنه أيقن بالهلاك، فسبب توبته ليس إيمانه، بل إن سببها يأسه من الدنيا، فإذا أيس الإنسان من الدنيا ومن الرجوع إليها أظهر التوبة وأمر بتوزيع الأموال وهذا أمر لا يقبل، لا بد للإنسان أن يتوب وهو معافى عنده أمل في الدنيا حتى تكون توبته صادقة يقبلها الله سبحانه، يقول سبحانه: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:17، 18].
فالله يبين في هذه الآيات الوقت الذي تقبل فيه التوبة، ويبين جل وعلا أنه يعلم ما يخفيه الإنسان وما يضمره في نفسه، لهذا فهو سبحانه الذي يحدد ممن يقبل التوبة وعمن يحجبها، أخرج الإمام أحمد عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)) ، فهذا حِلم من الله وفضل أن يمهل الإنسان إلى هذا الوقت، ولكن هل يؤجل مسلم عاقل التوبة إلى الغرغرة؟ وهل من عصى الله ونسيه طيلة حياته سيذكره عند الغرغرة؟! لا بد لمن أراد الخاتمة الحسنة أن يعمل لها أثناء حياته حتى يوفقه الله سبحانه إليها.
أما الوقت الآخر الذي لا تقبل فيه التوبة هو ـ كما قلنا ـ عند نهاية الدنيا، فعند ظهور علامات القيامة الكبرى يقفل باب التوبة؛ لأنها عند ذلك لا تكون توبة إيمانية صادقة، بل توبة اضطرارية، سببها اليأس من الدنيا، والله سبحانه لا يُخدع، فهو رحيم كريم يقبل توبة عبده ما دام صادقا، ولكنه لا يقبل أن يخدعه العبد، فهو سبحانه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، لهذا يقول سبحانه في كتابه العزيز: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158]، ويقول رسول الله فيما أخرجه الطبراني في الكبير عن صفوان بن عسال: ((إن للتوبة بابا عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها)) ، إذًا فهذا وقت تمنع فيه التوبة، وهو وقت يعلم فيه كل إنسان بقرب انتهاء الدنيا لظهور العلامات الكبرى، لهذا فإن باب التوبة عندها يقفل.
ولا بد لنا ـ عباد الله ـ أن نحذر من الأمور المضرة بالتوبة، ومن أخطر هذه الأمور التسويف والتأجيل في التوبة، وهذا من الأمور العجيبة التي يفعلها الإنسان، فهو إذا أراد أن يعصي أو يذنب أذنب مباشرة، أما إذا أراد أن يتوب فإنه يسوف ويؤجل، وهو لا يشعر أن تأجيله وإصراره على الذنب يسبب في تراكم الران على قلبه حتى يختم له الله بخاتمة سيئة، يقول رسول الله : ((إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه، فإذا تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الران الذي ذكره الله في كتابه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )) أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة.
فلا ينبغي لمسلم أن يؤجل في التوبة لأن الأعمار بيد الله، ولأن القلوب أيضا بيد الله، ولا ينبغي أيضا أن يغتر العبد بحلم الله عليه أو بنعم الله عليه إن كان غير مطيع لله؛ لأنها ليست دليل رضا الله عليه، بل قد تكون دليل سوء مآله وعاقبته والعياذ بالله، يقول : ((إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب من الدنيا على معاصيه فإنما هو منه استدراج)) أخرجه أحمد عن عقبة بن عامر.
فلنحذر ـ عباد الله ـ أن نكون من المستدرجين ونحن لا نشعر، ولنحذر أن نكون من الذين يأكلون نعم الله ويرفلون في فضله ونعيمه ثم لا يعبدونه ولا يشكرونه ولا يتوبون إليه، وليعلم كل مسلم محسن أو مسيء بأن الله سبحانه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، لهذا فإن بابه سبحانه مفتوح ما دام في عمر العبد بقية، ويده سبحانه مبسوطة لمن أراد التوبة والرجوع إليه، أخرج مسلم عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله قال: ((إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)) ، فهل نتوب ـ عباد الله ـ إلى مولانا أم نركب رؤوسنا ونضيع هذه الفرصة وهذا الكرم من الرب الكريم؟! أسأل الله أن يتوب علينا وأن يهدينا سواء السبيل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: إخوة الإيمان، لقد تجولنا في رحاب التوبة، وتناولنا معانيها الطيبة، فالتوبة كلها خير لأنها رجوع إلى الخالق البارئ سبحانه، ولأنها بُعد عن سبيل الشيطان وطريقه، ومع أن التوبة تعود بالنفع على الإنسان لوحده وتنقذه من عذاب الله سبحانه إلا أن الله رغم ذلك قد أعد للتائب أجرا عظيما، فللتوبة ثواب يناله العبد في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا يعيش العبد التائب الطائع حياة طيبة مطمئنا راضيا بما قسمه الله له، يبارك له الله في حياته ورزقه، ويتمتع بالمتع الحلال من الدنيا، وفي الآخرة يَقدُم على رب كريم يجزيه بالحسنى ويضاعف له أجره ويجزل له العطاء، يقول سبحانه: وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَه [هود:3].
ومن ثمار التوبة وثوابها أيضا حب الله سبحانه، فلا تحرموا أنفسكم حب الله سبحانه وقربه، يقول سبحانه: إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، إلى غير ذلك من ثواب وثمار، بل إن الرب الرحيم سبحانه الغني عن عباده يفرح بتوبة عبده التائب ويفرح برجوع من شرد من عباده إليه، يقول : ((والله، لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن للتوبة وصدقها علامات، من أهم هذه العلامات أن يحب الإنسان بعد توبته الخير من الأفعال والخيرين من الناس، وأن يكون حاله بالجملة مع الله ومع الناس بعد التوبة أفضل من حاله قبلها، فلا معنى للتوبة إذا بقي العبد على ما كان عليه قبل التوبة، يقول شقيق البلخي: "علامة التوبة البكاء على ما سلف والخوف من الوقوع في الذنب وهجران إخوان السوء وملازمة الأخيار".
هذه هي التوبة عباد الله، ليس فيها إلا الخير والنور والعز وراحة النفس، فمن أراد كل هذه النعم فعليه بالتوبة إلى الله وإصلاح علاقته بمولاه، لهذا قال أهل الزهد والصلاح: "من أراد عزا بلا عشيرة وهيبةً بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله عز وجل إلى عز طاعته".
أسأل الله سبحانه أن يتوب علينا، وأن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، اللهم اهدنا فيمن هديت...
(1/3726)
حديث السبعة
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, خصال الإيمان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
21/1/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب حديث القرآن عن أهوال الآخرة. 2- حديث السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة. 3- شرح الحديث.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: إخوة الإيمان، لقد وصف الله سبحانه يوم القيامة ووصف أحوال العباد فيه، وبين أحوال الناجين المكرمين وأوصافهم ليحرص المسلم أن يكون منهم، وبين أحوال المعذبين المهانين ليتجنب المسلم أعمالهم ومخازيهم، ولقد وصف رسول الله في حديث واحد من أحاديثه أوصاف سبعة أصناف من عباد الله يظلهم الله في ظله، ويكرمهم بكرامته، ويطمئنهم ويسكن روعهم في ذلك اليوم المشهود، فمن هؤلاء السبعة؟ وما أوصافهم؟
هذا سؤال مهم، لو كانت إجابته مجهولة قد استأثر الله بها في غيبه ولم يبينها سبحانه لكنا نبحث بشغف عن هوية هؤلاء السبعة وعن أعمالهم؛ حتى نسعى لأن نكون منهم، ولكن الله سبحانه جلاهم لنا أحسن تجلية وبينهم أوضح بيان على لسان نبيه فذكرهم فردًا فردًا.
يقول في الحديث الذي أخرجه الشيخان وأحمد والنسائي عن أبي هريرة: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)).
يبين في هذا الحديث حال سبعة أصناف من المسلمين يوم القيامة، يبين حالهم في يوم عظيم، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين: 6] ، ذلك اليوم العصيب الرهيب الطويل الذي يحتاج فيه العبد إلى نفحة من رحمة الله تسكن فؤاده وتروي ظمأه وتؤمِّن خوفه، في هذا اليوم العظيم يكرم الله سبحانه ـ وهو أكرم الأكرمين وربّ العالمين ـ سبعة أصناف من عبيده، وها هو رسول الله يصف لنا حال هؤلاء القوم حتى نسعى إلى أن نكون أحد هذه الأصناف، حتى نسعى إلى أن نخلص في أعمالنا فننال هذه الدرجة الرفيعة وننال هذه الكرامة العظيمة، وحتى نأمن في يوم تشيب فيه مفارق الولدان، يوم تذهل فيه المرضعة عن رضيعها، يوم يقول فيه الأنبياء: اللهم سلّم سلّم.
أول هذه الأصناف السبعة: إمام عادل، إمام خاف الله في رعيته وعدل فيهم، وكان بهم رحيما شفيقا، وأخذ بحق المظلوم من الظالم، كما كان يفعل رجال الأمة الأوائل خلفاء رسول الله ، يقول أبو بكر الصديق في خطبة خلافته والتي أوردها ابن كثير في البداية والنهاية، يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه: (أما بعد: أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف منكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يُشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم). هذه هي كلمات الإمام العادل أبي بكر الصديق وأرضاه.
والإمام العادل ـ إخوة الإيمان ـ ليس المقصود منه الحاكم فقط، بل هو كل من يلي أمرا يكون فيه حكما أو رئيسا، يقول بعض أهل العلم: "إن الإمام العادل في هذا الحديث هو كل من إليه نظر في شيء من أمور المسلمين".
الصنف الثاني: شاب نشأ في طاعة الله، هذا شاب عاش عابدًا لله، تاليًا لكتابه، متبعا لسنة نبيه ، غاضًا لبصره، حافظًا لجوارحه عما حرم الله، لم يستسلم للملهيات والمسكرات، بل عمر وقته في طاعة مولاه، وإنما أكرم الله هذا الشاب لأنه جاهد نفسه وهي عصية عليه في سبيل الله، وعبّدها لله، فمن السهل أن يتعبد الشيخ الهرم الذي أفنى عمره، أما أن يتعبد ويتقي الله شاب في فورة الشباب وريعانه فهذا سؤدد ما بعده سؤدد، وهذه عزيمة يحبها الله سبحانه.
هذا الشاب ـ إخوة الإيمان ـ هو الذي تحتاجه الأمة لتقيم صرحها، وتستعيد مجدها، وتدافع عن عقيدتها وكرامتها، وترد أعداءها خاسئين، شباب يعيش لله ويسعى إلى صالح نفسه وصالح أمته ووطنه:
شباب ذللوا سبلَ المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا
وإن جنَّ المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا
شباب لم تحطمه الليالي ولم يُسْلِمْ إلى الخصم العرينا
ولم تشهدهم الأقداح يوما وقد ملؤوا نواديهم مجونا
وما عرفوا الأغاني مائعات ولكن العلا صيغت لحونا
ولم يتشدقوا بقشور علم ولم يتقلبوا في الملحدينا
كذلك أخرج الإسلام قومي شبابا مخلصا حرا أمينا
وعلمه الكرامة كيف تُبْنَى فيأبى أن يذل وأن يهونا
الصنف الثالث: رجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، والقلب ـ عباد الله ـ يتعلق بما عودته عليه، فإن عودته على الطاعة بإخلاص اعتادها ولم يجد أنسه إلا فيها، وإن عودته المعصية وأدمنت فعلها تعلق بها، فالصالحون إنما يأنسون بذكر الله سبحانه، لهذا فإنهم متعلقون بأماكن الطاعة، لا يجدون راحتهم إلا فيها، إذا غادروها فسرعان ما يشتاقون إليها، هؤلاء ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
فانظر يا عبد الله، هل قلبك معلق بالمسجد أم معلق بغيره من أماكن اللهو واللعب؟ وما هي الأماكن التي تشتاق وتحِنُّ إلى الذهاب إليها؟ واعلم أن خير البقاع في الأرض المساجد، فالتمس الأجر في المسجد، والتمس ظل الله يوم القيامة بتعمير المسجد، يقول فيما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي هريرة: ((كفارات الخطايا: إسباغ الوضوء على المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)).
أما الصنف الرابع من هؤلاء السعداء: فرجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه، هذان رجلان لم تجمعهما مصالح الدنيا ومكاسبها، ولم تجمعهما عصبية بغيضة أو تحزب ممقوت، إنما اجتمعا في طاعة الله وفيما يرضي الله، هذا سبب اجتماعهما، لهذا فإن الله سبحانه يجزيهما خير الجزاء على هذا الحب فيه، ويحبهما سبحانه ويثني عليهما، أخرج مسلم عن أبي هريرة عن النبي : ((إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ـ أي: على طريقه ـ ملكًا، فلما أتى عليه قال الملك: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه نعمة تربها؟ ـ أي: هل تريد أن تحافظ على أمر دنيوي بينك وبينه بهذه الزيارة ـ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)).
هكذا يجزي الله الصادقين المخلصين الذين يجعلون مقياسهم في حب الناس وبغضهم خالصا لله سبحانه، إذا والوا ففي الله، وإذا عادوا ففي الله، وهذا المقياس في الحب والبغض أوثق عرى الإيمان، إذا ضيعه المسلم أصيب بخلل في إيمانه، يقول : ((أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله عز وجل)) أخرجه الطبراني عن ابن عباس.
الصنف الخامس ممن يظلهم الله بظله: رجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، هذا رجل يستحضر هيبة الله ويستحضر مخافته، يخشى الله في السر والعلن، هذا رجل ممن قال الله فيهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون [الأنفال: 2 ]، فهذا الذي ذكر الله خاليا ففاضت عيناه إنما نزلت هذه الدمعة الطاهرة لله لا لغيره، لأن هذا الرجل كان خاليا لوحده ما معه أحد، فهي دمعة مخلِصة مخلَصة ليس وراءها رياء ولا سمعة، وهكذا الصالحون الأوابون، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أنس: ((عينان لا تمسهما النار أبدا: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
فمتى ـ عباد الله ـ تصفو منا النفوس؟! ومتى ترق منا الأفئدة وتخشع القلوب؟! متى نتوجه إلى الله بإخلاص، ونقف بين يديه خائفين منكسرين نادمين على ما بدر منا، طالبين عفوه ورحمته؟! دموع خشية الله التي مبعثها الخوف والصدق والإخلاص منجاة للعبد من عذاب الله وحجاب له من ناره، يقول : ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم)) أخرجه أحمد عن أبي هريرة.
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في السر والعلن، وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلاة وسلاما على رسوله الأمين.
إخوة الإيمان، أما الصنف السادس ممن يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله فهو رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، عزيمة قوية وثقة في موعود الله لا تتزعزع أمام أشد الفتن، علم هذا الرجل أن الله معه فاستحى أن يبارزه بالمعصية، وعلم أن الآخرة خير من الأولى فاختار الحور العين على نساء الدنيا.
هذا رجل اجتمعت فيه خصال ذكرها الله في كتابه في قصة نبيه يوسف عليه السلام، فقد قال عليه السلام حين دعته امرأة العزيز إلى الفاحشة: مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُون [يوسف: 23 ]، إنها امرأة عزيز مصر، وليست من رعاع الناس، وهي ذات جمال، ولها صولة وقدرة، ولكن صولة الله في قلوب الصالحين أقوى وعذابه أشد، لهذا فهم أبعد الناس عن معاصيه وأصبر الناس على الفتن مهما اشتدت، كذلك هذا الرجل فالمرأة التي دعته ذات منصب وذات جمال، فالأمر مغر من الناحيتين، فهي ليست من الفقراء أو من عامة الناس، بل هي من علية القوم الذين يحب كل الناس التقرب إليهم، وهي ليست قبيحة ترغب عنها النفوس، بل هي جميلة، كما أنها هي المبادرة بالدعوة إلى الفاحشة، ومع هذا قال هذا الرجل بلسان المؤمن الذي لا يقيس الذنوب بميزان البشر ميزان الشهوة العاجلة، بل يقيسها بميزان الله سبحانه، ويعلم أنها شهوة تزول وتبقى غصتها ما دامت الدنيا، ويصلى عذابها يوم القيامة، قال قولته التي سدت على هذه المرأة كل منفذ وأيستها منه: إني أخاف الله رب العالمين.
الصنف السابع: رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، الصدقة ـ عباد الله ـ أمر عظيم وشعيرة مهمة، يجزي الله سبحانه عنها خير الجزاء؛ لأنها تتعلق بعباد الله سبحانه، لأنها تفك عسرة المعسر وتطعم الجائع وتكسو العاري، وكل مسلم تعودت يده الصدقة فهو في خير وعلى خير؛ لأنه يشكر الله على نعمه بالعطاء، فهذه النعمة التي أنعم الله عليه بها اعترف هو بفضل الله عليه فيها، فأخذ منها وأعطى الفقير والمحتاج والمعسر، فهو على خير دائما.
وبالمقابل كل مسلم تعودت يده الإمساك والتقتير فهو على خطر كبير؛ لأن المال عارية مستردة، الله يعطيه والله يسلبه، والدنيا بما فيها لله، وسيرثها في يوم من الأيام وهو خير الوارثين، فلماذا نبخل بها ونستأثر بها ولا نعطي منها الفقير والمحتاج؟! إن ملائكة الرحمن تدعو لصاحب الصدقة يوميًا، وتدعو على مانع الصدقة يوميًا، يقول : ((ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا)) متفق عليه من حديث أبي هريرة.
هذه هي أعمال من سيظلهم الله بظله في يوم لا ظل إلا ظله، وهؤلاء هم الذين يأمنون في ذلك اليوم والناس خائفون، لقد قاموا في الدنيا بأعمال إيمانية راقبوا الله فيها، أعمال مبعثها الإخلاص ومحبة ما عند الله وإيثار الآجلة على العاجلة.
فنسأل الله سبحانه أن يقوي الإيمان في قلوبنا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته...
(1/3727)
الصلاة وأهميتها
فقه
الصلاة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
28/1/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم الصلاة في الإسلام. 2- أحوال الناس تجاه الصلاة. 3- وصية في أمر الأهل والذرية بالصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا [النساء: 103 ]، ويقول سبحانه: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، ويقول : ( (أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)) أخرجه الطبراني عن أنس.
الصلاة ـ إخوة الإيمان ـ أعظم ركن من أركان الإسلام بعد الشهادتين، ولعل هذه الحقيقة مسلَّمة يعرفها كل مسلم، ورغم هذا فإن هذه الحقيقة المسلَّمة غائبة في الواقع ولا نراها متجلية في حياة المسلمين، ومهما تتابعت من خطب وألقيت من دروس وسُوِّدت من صحف فلا يزال المسلمون يجهلون أهمية الصلاة ولا يقدرون هذه الشعيرة حق قدرها؛ فمن المسلمين من لا يصلي أبدا، وهذا حكمه عند علماء الأمة يتأرجح بين الكفر والفسق، فقد قال : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كف)) أخرجه النسائي عن بريدة، وقال في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن أم أيمن: ((ولا تترك الصلاة متعمدا، فمن ترك الصلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله)).
ومنهم من يصلي صلاة ويسهو عن أخرى أو يجمع بين الصلوات، وهذا أيضا على خطر كبير، يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، وتصوَّر شدة هذا الوعيد للساهي فكيف بالتارك للصلاة؟!
ومن المسلمين من يصلي ولكن في البيت، ويترك صلاة الجماعة التي شدد عليها ديننا الحنيف، قال تعالى: وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة: 43]، وقال للأعمى الذي جاء يعتذر عن حضور صلاة الجماعة، قال له: ((هل تسمع النداء؟)) فقال: نعم، قال: ((فأجب)) أخرجه مسلم.
هذه هي أحوال كثير من المسلمين مع الصلاة، أما الموفقون فهم الذين يصلون الصلوات الخمس في أوقاتها ومع الجماعة في المسجد، نسأل الله سبحانه أن يجعلنا منهم، وأن يثبتنا على هذا حتى نلقاه.
ولن نكون من هؤلاء الموفقين ـ أيها الإخوة ـ إلا إذا عرفنا أهمية الصلاة، فلا زال كثير من المسلمين يتعامل مع الصلاة على أنها أمر عادي من أمور الدين، يؤديها متى شاء ومتى فرغ من شغله وبأي طريقة، وإذا تعارض وقت الصلاة مع أحد أشغاله أخَّر الصلاة، وإذا تعارض وقت الصلاة مع موعد من مواعيده أخَّر الصلاة وهكذا، فهي ليست الأهم عنده، وهذا من أخطر الأمور، بل إن من الناس من يؤخر الصلاة من أجل اللهو واللعب، ومتى تعوَّد الإنسان على هذا ضاعت منه أكثر الصلوات، وهان قدر الصلاة عنده، بل عوِّد نفسك ـ يا عبد الله ـ على الصلاة ومع الجماعة في الأوقات الخمس آخر ما يمكن أن تضحّي به.
ولتعلَمَ قدر أهمية الصلاة فانظر إلى الشرع كيف جعل أحكاما للصلاة بحيث تُؤدّى على كل الأحوال وفي أي ظرف، ولم يسقطها أبدا عن الإنسان كما فعل مع الصيام والزكاة والحج، فهذه الفروض أحيانا تجب وأحيانا تسقط بحسب قدرة وظروف الإنسان، أما الصلاة فلا إلا في حالتي الحيض والنفاس عند النساء، فقد شُرع التيمم بديلا عن الوضوء حتى لا يترك الإنسان الصلاة في ظروف فقدِ الماء أو المرض، وشرعت صلاة المريض حتى لا يترك الصلاة حال المرض، وشرعت صلاة الخوف فصلّى المسلمون الأوائل والدماء تسيل والرؤوس تتساقط في المعارك، هذا أكبر دليل على أهمية الصلاة، أفَبَعد هذا يترك الإنسان الصلاة أو يؤخرها لشغل أو لفرح أو لحزن؟!
إن الإنسان أحوج ما يكون إلى الصلاة في مثل هذه الظروف، فإن كان مريضا فليصل ليشفى أو ليُختم له بخير، وإن كان فرحا بزفاف أو بغيره فليصل شكرا لله، وليصل حتى يبارك الله له في هذا الفرح، وإن كان في حزن فليصلّ رضا بقضاء الله وطلبا لتفريج الهم، فهل يعقل ـ عباد الله ـ أن نترك أو نؤخر الصلاة التي فرضها الله علينا لأمر عارض يختبرنا الله به؟!
دليل آخر ـ عباد الله ـ وهو من أوضح العلامات على أن الصلاة أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين وأهم مطلوب لله من العباد، ذلكم أن الصلاة هي الركن الوحيد من أركان الإسلام الذي فرض في السماء، أمر الله سبحانه رسوله بها دون واسطة ولا ملك عندما عرج به ، فانظر إلى من تولى بنفسه إعلام الرسول بفرض الصلاة، وانظر إلى المكان الذي اختير لتفرض فيه هذه الشعيرة، تعلم أهميتها ومقدار خسارة وهلاك من فرط فيها.
ومن دلائل أهمية الصلاة أيضا أن رسول الله جعلها الفيصل في الحروب والغزو، فقد كان يأمر أصحابه عند محاربة أعداء الدعوة والواقفين دون إبلاغها أن يتريثوا حتى يدخل وقت صلاة الصبح، فإن سمعوا الأذان توقفوا، وإلا غزوا على بركة الله، روى الشيخان والترمذي عن أنس أن رسول الله كان إذا غزا قوما لم يُغر حتى يصبح، فإن سمع أذانا أمسك، وأن لم يسمع أذانا أغار بعدما يصبح. فهذا من أهم الأدلة وأقواها على أن الصلاة وإقامتها فصل وفرق بين الكفر والإيمان، كما أنه دليل على أهمية الصلاة وأهمية الأذان للصلوات وأهمية إعلان الأذان على الملأ.
ومن أدلة أهمية الصلاة أنها كانت من آخر وصاياه التي شدد عليها قبل وفاته، ومعلوم أن أهم وصايا المرء في عمره هو ما يوصي به قبيل وفاته؛ لأن صلته بالدنيا ستنقطع بعدها، فكيف إذا كان صاحب هذه الوصية هو من أرسل إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وأمر بتبليغ ما أنزل إليه؟! أخرج أحمد عن أم سلمة قالت: كان من آخر وصية رسول الله : ((الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)) ، حتى جعل نبي الله يلجلجها في صدره وما يفيض بها لسانه، أي: أنه جعل يردد هذه الكلمة: ((الصلاة الصلاة)) ، وعندما صعب عليه نطقها لشدة ما نزل به من كرب الموت جعل يغرغر بها في صدره حرصا على الأمة ونصحا لها، فهو الموصوف بالرأفة والرحمة بأمته: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128]، فهل يمكن لك ـ أيها المسلم ـ أن تنتسب إلى أمة محمد وأن تدعي حبه وأنت تفرط وتقصر في أهم وآخر وصاياه؟!
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
لا بد لكل مسلم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا أن يعمل بتوجيهات هذا النبي وأوامره، فهذا هو دليل الحب، وهذا هو دليل الطاعة، وخاصة وصاياه الأخيرة التي مات وهو يكررها عليه صلوات الله وسلامه حرصا وإشفاقا على أمته مما ينتظرها إن هي ضيعت هذه الأمور، فهل لا يزال المسلم بحاجة إلى سرد أدلة عن أهمية الصلاة في شرعنا المطهر؟!
الأدلة والنصوص كثيرة، ونحن لا نقصد أن نستقصيها في هذه الخطبة، ولكننا اخترنا بعضا منها لنبين ونتبين ماذا تعني الصلاة وماذا تعني هذه الأدلة التي تتكلم عن أهميتها.
فالصلاة الصلاة يا عباد الله، فإنها شعار الإسلام، وخَتمُه الذي يؤكد انتماء المرء لهذه الأمة، فمن ضيع هذا الختم أخلّ بهذا الانتماء، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : (لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة)، فهل يكون عاقلا من يضيع حظه في الإسلام بسبب إعراضه عن ركعات معدودة في اليوم والليلة، لا تستغرق في مجموعها ساعة من يومه؟! هل يكون عاقلا من يجلس للهو واللعب ساعات ويأبى أن يعيش في رحاب الله ساعة؟!
يا عبد الله، إنك إن لم تطع الله الآن، إن لم تصلِّ الآن، إن لم تحافظ على الصلوات في أوقاتها، فإنك ستندم عند حضور الأجل، وستطلب أن تؤخر دقائق لتصلي لله ركعتين، فلا تُعطى لك هذه الدقائق، فلماذا لا تصلي الآن وتحافظ على هذه الصلاة في أوقاتها وأنت في فسحة طويلة قد تدوم شهورا وأعواما؟! عجبا لأمر هذا الإنسان! يضيع السنين والأعوام المديدة في غير طاعة الله، وعند حضور أجله يطلب دقائق ليطيع الله فيها! وهيهات له أن يحصل على ما يريد. لقد خلِقنا لعبادة الله، وكل وقت يضيع منا في غير طاعة الله فهو خسارة، وكل عمل يلهينا عن طاعة الله فهو وبال علينا.
هذه هي الصلاة يا عباد الله، وهذه هي منزلتها، فلا يستخفنكم الشيطان فتعتمدوا على رحمة الله وأنتم مقصرون في أهم شعائر الدين، لا تركنوا إلى الأماني، وحافظوا على صلواتكم في أحرج الظروف؛ لكي تنالوا ثمرتها في أحرج الأيام يوم التغابن، يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19].
يذكر الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء عن الشيخ الإمام أبي عبد الله محمد بن خفيف أنه كان به وجع الخاصرة، فكان إذا أصابه مرض أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يحمل على ظهر رجل، فقيل له: لو خففت على نفسك؟ فقال: إن سمعتم "حي على الصلاة" ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقبرة.
نفعني الله وإياكم بما سمعنا، وأعاذني الله وإياكم من سماع بدون عمل، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلم، إن معرفة أهمية الصلاة ليست من الترف المعرفي، وليست ثقافة نحفظها ونثرثر بها، إن معرفة أهمية الصلاة تقتضي أن نلتزم بهذه الصلاة ونحافظ عليها، يقول سبحانه وتعالى: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]، فإن حافظنا عليها وأقمناها كما يريد الله منا فزنا برضوانه وغفرانه، وإلا فوا خيبة المسعى.
إن معرفة أهمية الصلاة تقتضي أن نأمر أزواجنا وأبناءنا بها، فهم أمانة في أعناقنا، يقول سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ طه: 132] ، فمن قصر في حث أهله على الصلاة فقد خان أمانته نحوهم، وعرضهم لعذاب الله وسخطه، وعرضهم لعذاب نار جهنم، والله يأمرنا أن ننقذ أهلنا وأنفسنا من النار، يقول سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ولكننا نجد الأب اليوم إذا أصيب ابنه في هذه الدنيا بمرض أو إصابة يبكي لأجله ويسعى به إلى كل مكان لإسعافه وتطبيبه، ولا يفطن هذا المسكين إلى أن ابنه تارك للصلاة ومعرَّض لعذاب أشد بكثير مما يلقاه الآن في الدنيا، فأي العذابين أحق بأن يحمي ابنه منه؟! وهل يكون صادقا من يدعي حب ولده وهو يراه يسير نحو الهاوية ولا يحذره؟!
لقد كان الصالحون من سلف الأمة يعرفون قيمة الصلاة ومنزلتها، لهذا كانوا يحرصون على أدائها في أوقاتها ويحزنون أشد الحزن لفواتها، يقول حاتم الأصم: "فاتتني صلاة فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف نفس؛ لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا".
فانظروا كيف يعزي الصالحون بعضهم البعض عندما تفوتهم صلاة من الصلوات؛ لأنهم علموا أن وجودهم في هذه الحياة محدود، وكل طاعة تضيع عن وقتها لا يمكن أن تعوض أو تعود، فما ضاع من متاع الدنيا قد يعود، أما ما ضاع من الأوقات الفاضلة أو من ثواب العبادات الموقوتة فلا يعود، لهذا كان من دعاء رسول الله كما عند الترمذي من حديث ابن عمر قوله: ((ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)).
فاستعيذوا بالله من مصائب الدين؛ لأنها لا تبقي ولا تذر، واحرصوا على أن تكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/3728)
الخشوع في الصلاة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة, خصال الإيمان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
5/2/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الخشوع وبيان فضله. 2- حالنا مع الخشوع في الصلاة. 3- السرقة في الصلاة. 4- أمور تعين المسلم على الخشوع في صلاته.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: نواصل الحديث في هذه الجمعة عن الصلاة أعظم واجبات المسلم وأهمها، هذا الفرض العظيم من فروض ديننا الحنيف، هذا الركن الركين من أركان شرعنا المطهر، هذه الشعيرة التي هانت على الأمة فهانت الأمة على الله سبحانه وتعالى؛ لأنها قطعت الحبل الذي بينها وبين الله، فأصبح الاتصال بينها وبين خالقها مقطوعا، وعندما انقطع الاتصال بين الأمة وخالقها ذهب دعاء الأمة واستغاثاتها وتضرعها أدراج الرياح، تهاونت الأمة في الصلاة فاستهان بها الأعداء وضحكوا عليها ملء أشداقهم؛ لأن الأمة التي أعزها الله بالدين لن تقوم لها قائمة بغيره، بل ستظل دائما في ذيل الأمم ما دامت بعيدة عن دينها.
نتكلم اليوم عن الخشوع في الصلاة، وهو أمر أثنى الله عليه وعلى المتصفين به في كتابه العزيز، يقول سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1، 2]، ويقول سبحانه في الثناء على بعض أنبيائه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
فمن الأمور المهمة في باب الصلاة أداؤها كما يريد الله، فلا بد أن نؤديها كما يريد الله سبحانه لا كما نريد نحن، وأن لا نمتنَّ على الله بها، بل هو الذي يمتن علينا أن هدانا للإسلام وجعلنا من المصلين، قُل لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين [الحجرات:17].
يمتنّ عليك ـ أيها العبد ـ بأن أعطاك شرف مقابلته متى شئت، فأنت في هذه الحياة الدنيا من المستحيل أن تقابل سلطانا أو وزيرا أو حتى رئيس بلدية، وإن قابلته فبعد جهد جهيد وترتيبات ومواعيد قد تدوم أشهرا، فإذا كان هذا مع المخلوق فكيف ستكون مقابلة خالق المخلوق، خالق السماوات والأرض، خالق الشمس والقمر والبحار والجبال الجبار المتكبر؟! لا شك أن المنطق يقول بأن مقابلته أصعب وأشد استحالة، ولكن جبار السماوات والأرض منحك هذا الشرف، متى شئت أنت قابلته وكلّمته، فما عليك إن أردت ذلك إلا أن تتطهر وتتوجه إلى القبلة بخشوع وتقول: الله أكبر، عندها يقبل عليك الرب وتكون في حضرته وبين يديه، فعليك أن تؤدي هذه الصلاة كما يريدها هو، وكما شرعها لك في كتابه وعلى لسان نبيه ، لا كما تريدها أنت فتنقرها سريعة كما يحلو لك ودون خشوع وتؤخرها عن وقتها، فهل هكذا أرادها الله منك؟! وهل تفعل مع المخلوق مثل هذا الأمر؟! إن طلب منك رئيسك في العمل تقريرا أو أمرا ما هل تؤديه كما يحلو لك وتقول له: هذا هو العمل، أم أنك تؤديه كما طلب منك وبناء على تعليماته الدقيقة؟! فلماذا تفعل هذا مع تعليمات المدير ولا تفعله مع تعليمات رب المدير مع تعليمات السميع البصير القوي القدير؟!
اعلم ـ يا عبد الله ـ أنك إن أديت عملا لله على غير ما يريد الله فكأنك لم تؤده. فاحذر، واعلم أن الله تعالى يقول: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23]، والصلاة من ضمن الأعمال، والخشوع من أهم شروطها، يقول : ((خمس صلوات افترضهن الله عز وجل، من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه)) أخرجه أبو داود عن عبادة بن الصامت.
الخشوع في الصلاة ـ إخوة الإيمان ـ من أهم الأمور، فما هو الخشوع؟ تذكر كتب اللغة في معنى الخشوع أنه الخضوع والسكون والتذلل، ويقول قتادة: "الخشوع هو الخوف وغض البصر في الصلاة"، وقال ابن زيد: "الخشوع الخوف والخشية لله" وقرأ قول الله تعالى: خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ [الشورى:45]، قال: "قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم وخشعوا له".
إذًا فالخشوع أمر جميل محبوب؛ لهذا أثنى الله على المصلين المتصفين به، وإذا نظرنا إلى أنفسنا: هل يحقق كل منا هذا الأمر الأساسي من أمور الصلاة؟ لوجدنا أن أكثر المصلين ـ إلا من رحم الله ـ لا يحقق هذا الأمر، بل بالعكس تجدنا نقف أمام المخلوق برهبة أكثر من رهبتنا أمام الخالق، فعندما يقف المرء منا أمام مدير المؤسسة التي يشتغل بها أو أمام أمير المعسكر أو غيره من أصحاب المكانة والجاه، فإن حواسه كلها تكون منتبهة وحركاته محسوبة، القلب يدق بسرعة، وأنفاسه يسمعها تتردد، وعقله متيقظ، فلا تفوته كلمة أو لفتة من لفتات هذا المسؤول الذي أمامه، فما بالنا إذا وقفنا بين يدي الله لا نقف باحترام ولا نعطي هذه الوقفة حقها؟! فالهندام غير مرتب، والقلب هائم لا يدري عن شيء، والأعضاء والجوارح تتحرك في كل اتجاه، فتجد الواحد منا يتململ ثم يحك رأسه ثم يضع إصبعه في أنفه، وتراه يقلب بصره في سقف وحوائط المسجد، فماذا وعى هذا المصلي من الصلاة؟! أكثرنا ـ يا عباد الله ـ إلا من رحم الله لا نعي من الصلاة إلا أمرين نعلم أننا فعلناهما في أكثر الصلوات هما: تكبيرة الإحرام والتسليم، أما ما بينهما فلا تسألني: ماذا فعلت؟ أو ماذا قرأت؟ أو ماذا قرأ الإمام؟ أو غير ذلك، فالجسد في المسجد والقلب يحوم في هذه الدنيا طولا وعرضا، والله المستعان.
الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها أمر ضروري يا عبد الله، لأنك عندما تقف في الصلاة فأنت تناجي الله، والله أمامك يراك، فكيف تغفل عنه وأنت بين يديه ولا تعطي لهذا المقام احترامه؟! يقول في الحديث الذي رواه أحمد عن أبي ذر: ((لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت، فإذا التفت انصرف عنه)) ، فما دمت تقف بين يدي خالق الخلق ومدبر الرزق الإله الحق فحاول قدر استطاعتك أن تنضبط في هذه الصلاة وتعقل ما تفعل فيها، ولا يكن همك أن تنهي صلاتك بأي كيفية، فتؤديها ناقصة الاطمئنان وناقصة الأركان ومبتورة الحركات والسكنات، فإن هذا من السرقة، والسرقة في الصلاة من أسوأ السرقات، يقول : ((أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته)) ، قالوا: يا رسول الله، كيف يسرق من صلاته؟! قال: ((لا يتم ركوعها ولا سجودها، ولا يقيم صلبه في الركوع والسجود)) أخرجه أحمد عن أبي قتادة. فهل نمتنع عن السرقة من أموال الناس ثم نسرق من صلاتنا التي تقدمها لخالقنا، والتي إن أنقصنا منها اليوم فسنجدها ناقصة يوم القيامة؟! هذا إن قبلت منا.
وللخشوع أمور تعين عليه إخوة الإيمان، نذكرها لعل الله ينفعنا بمعرفتها ويعيننا على تحقيقها:
أول هذه الأمور: استحضار هيبة من نقدم هذه الصلاة له، فعندها سنؤدي هذه الأمانة كما ينبغي، فأنت تقدم هذه الصلاة إلى قيوم السموات والأرض من عنت له الوجوه وخشعت له الأصوات وذل له الخلق أجمعون، فكيف لا تخشع لهذا الإله؟! ومن أحق بخشوعك من دونه؟! كان علي بن أبي طالب إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين؟ فيقول: (جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها)، ويروى عن علي بن الحسين أنه كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ فيقول: "أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟!".
ومن الأمور المعينة على الخشوع إفراغ النفس من المشاغل عند الدخول في الصلاة، فحاول ـ أيها المسلم ـ أن لا تدخل إلى الصلاة وأنت مشغول البال مشتت الفكر، وعوِّد نفسك أن تؤجل التفكير في أمورك الدنيوية إلى ما بعد الصلاة؛ لأن هذه الأمور تشغلك عن الإقبال على الله بخشوع، والله سبحانه يريد منك ـ أيها العبد ـ أن تقبل عليه في كامل وعيك، لا أن يكون جسمك عنده والقلب في مكان آخر، فإن المخلوق لا يقبل منك هذا، فكيف يقبله الخالق؟! لذلك راعى الإسلام هذا وحرص على أن لا يدخل المسلم في العبادة وهو مشغول بغيرها، عن أنس أن رسول الله قال: ((إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدؤوا بالعشاء)) متفق عليه. فانظر إلى هذا الدين السمح الذي راعى جوع الإنسان وانشغاله بالطعام فقدمه على الصلاة؛ حتى يؤدي المؤمن صلاته كما ينبغي ولا ينقرها نقر الغراب استعجالا للأكل.
ومن الأمور المعينة على الخشوع النظر إلى مكان السجود؛ لأنك بذلك تكون أكثر خشوعا، وتقيد عينيك عن الحركة والانشغال بما يحيط بك، وتبعدهما عن النظر إلى السماء أو السقف، لأنه أمر منهي عنه، يقول فيما أخرجه البخاري وأحمد من حديث أنس: ((لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم)).
ومن الأمور المعينة على الخشوع والمطلوبة في الصلاة عدم تحريك الأعضاء ومنها اليدان، وهما أكثر الأعضاء حركة، رأى بعض السلف رجلا يعبث بيده في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه"، فالخشوع ليس للقلب وحده، ولكن الجوارح أيضا تخشع، يقول سبحانه: وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا [طه:108]، ويقول في ركوعه: ((خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي)) أخرجه النسائي عن علي.
هذه من أهم الأمور المعينة على الخشوع وأداء الصلاة كما ينبغي، فاجتهدوا ـ يا عباد الله ـ في أن تحققوا هذه الأمور؛ لأن الصلاة بلا خشوع ـ كما يقول بعض أهل العلم ـ جثة هامدة بلا روح، علينا أن نخشع في صلاتنا وأن نعي ونعلم ما نقول فيها حتى تنفعنا هذه الصلاة. لما سمع بعض السلف قوله تعالى: لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43] قال: "كم من مصلّ لم يشرب خمرا هو في صلاته لا يعلم ما يقول؛ أسكرته الدنيا بهمومها".
فاتقوا الله عباد الله، واستعينوا بكل ما يعينكم على أن تؤدوا صلاة مقبولة عند خالقكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، علمنا فيما مضى أن الخشوع أمر عزيز عظيم القدر، علينا أن نسعى قدر طاقتنا حتى نحققه لنشعر بلذة العبادة ولننال ثوابها كاملا بإذن الله، ولا يتحقق الخشوع كما قلنا إلا بمعرفة من نقف أمامه في صلاتنا، فإذا امتلأت قلوبنا بهيبته وخشيته تحقق لنا الخشوع شئنا أم أبينا. علينا أن نوقن ونعتقد اعتقادا جازما أن الرب الذي نقوم له ونقدم له صلواتنا وعباداتنا هو الله سبحانه المتفرد بالعبادة وحده، وهو المتصرف في الكون وحده، وإليه وحده لا لغيره تصرف الأعمال والعبادات والقربات والنذور، لا إله غيره ولا رب سواه، فإذا تأصلت هذه المعاني في النفس وتربعت على عرش القلب عندها سيعلم الإنسان وهو يتهيأ للصلاة أن الأمر جلل، وأن الخطب عظيم، وأن الموقف رهيب، فيخشع قلبه، وترق نفسه، ثم لا يلبث أن تصبح الصلاة عنده لذة لا يرتاح ولا تقر عينه إلا فيها، يقول كما في سنن أبي داود من حديث أبي الجعد: ((يا بلال، أقم الصلاة، أرحنا بها)).
هكذا كان حاله مع الصلاة، فيها راحته وبها يأنس، ولا عجب في ذلك فهو القائل أيضا فيما أخرجه النسائي عن أنس: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)) ، كل ذلك لأنه أقرب الخلق إلى مولاه، وأعلم الخلق بالله، كان خاشعا لله، وجلا من الله، وهو أسوتنا ، فلا بد أن نحقق هذه المعاني العظيمة، وأن نعلم أنه لا إله إلا الله؛ لتعمر قلوبنا بحب الله ومخافته، يقول ابن القيم في كتاب الفوائد: "إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة".
بمثل هذه المعاني الجميلة يتحقق الإيمان إخوة الإيمان، ويتحقق الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها، والذي هو أفضل ما عمرت به القلوب، لهذا تعوَّذ رسول الله من قلب لا خشوع فيه فقال: ((اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)) أخرجه مسلم عن زيد بن أرقم.
نسأل الله أن يرزقنا الخشوع، وأن يعيننا عليه، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك...
(1/3729)
عقوبة تارك الصلاة
التوحيد, فقه
الصلاة, نواقض الإسلام
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
12/2/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساهل الناس في الصلاة. 2- عقوبة تارك الصلاة. 3- وجوب أمر الأهل والذرية بالصلاة والتوبة إلى الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: معشر المسلمين، إن من عدل الله سبحانه أن لا يساوي بين المحسن والمسيء وبين المطيع والعاصي، بل اقتضت حكمته سبحانه أن يميز بين فريق الخير وفريق الشر، فهو القائل سبحانه: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35، 36]، لهذا وحتى يتجلى العدل في أسمى وأجلى معانيه جعل الله سبحانه للطائع رفعة وثوابا وتكريما يناله في الدنيا والآخرة، وجعل للعاصي عقوبة وعذابا ونكالا يلقاه في الدنيا والآخرة، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف : 49].
نتكلم اليوم عن عقوبة تارك الصلاة في كتاب الله وفي كلام رسوله ، ولا نقصد من كلامنا هذا إرهابا ولا تقنيطا من رحمة الله سبحانه، ولكن إبلاغا للمسلمين وإعذارا إلى الله؛ لأن المسلمين اليوم اتكلوا على رحمة الله وعلى أنهم من أمة محمد ، وظنوا أن هذا الانتساب بدون عمل يكفي للنجاة من عذاب الله، فأصبحوا يرتكبون كل الموبقات وقلوبهم مطمئنة إلى أنهم مرحومون، حتى صار الذي يسب الله في اليوم مرات ومرات يعتبر نفسه من أمة محمد وأن مآله إلى الجنة في نهاية الأمر، وهذا لأن الأمة اتبعت سنن من كان قبلها من اليهود والنصارى في كل ما فعلوه من موبقات وارتكبوه من معاصي واعتقدوه من عقائد، وهذا ما أخبر به رسول الله ، فهو القائل في الحديث الذي أخرجه أحمد عن أبي سعيد الخدري: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لسلكتموه)) ، فقد قالت اليهود والنصارى: نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18]، وقالت اليهود: لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً [البقرة:80]، فأصبح المسلمون يرددون كلاما شبيها بهذا الكلام، ويتكلون على الأماني، ويمنون أنفسهم برحمة الله وفضله وإنعامه رغم أنهم مفرطون في أهم أركان الدين وأهم دعائم العقيدة، لهذا نتكلم عن هذا الأمر في هذه الخطبة ليحذر كل منا، وليبلغ من وراءه من أهل وولد، ولنعلم أن الله لم يخلقنا عبثا، ولم يفرض علينا فريضة الصلاة لنكون مخيَّرين بين فعلها أو تركها، بل إنها أمانة عظيمة، من ضيّعها عرّض نفسه لعقوبة عظيمة، بل إن من ضيّع صلاة منها أو بضع صلوات عمدا أحبط الله عمله والعياذ بالله، يقول فيما أخرجه أبو داود عن أبي الجعد: ((من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه)) ، ويقول أيضا: ((من ترك صلاة العصر متعمدا حبط عمل)) أخرجه أحمد عن أبي الدرداء.
إن الله كما جعل الصلاة راحة وسكينة وبركة لمؤديها والحريص عليها وقرة عين لنبيه وللصالحين من عباده فإنه جعل تاركها والمفرط فيها في غم وفي تعب وضنك في دنياه وأخراه.
تبدأ عقوبة تارك الصلاة من دنياه؛ فإن حياة المعرض عن الصلاة حياة نكد واضطراب وإن كان من أغنى الناس، يقول سبحانه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة ِأَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126]، ويقول تعالى: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ، إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج: 19-24]، فالله سبحانه وتعالى يبين في هذه الآيات أن الناس في حال الخير وفي حال الشر ضائعون، ففي حال الشر جزع وخور وتذمر، وفي حال الخير منع وغفلة وطغيان، فهي حياة لا طمأنينة فيها ولا بركة، ثم استثنى من ذلك المصلين الذين من أهم صفاتهم المحافظة على الصلاة والمداومة عليها، إلى جانب الصفات الحميدة الأخرى المذكورة في الآيات، وهذا أمر طبيعي يا عباد الله؛ لأن البركة والتوفيق وغيرها من أمور الخير والعطايا الإلهية لا تباع في الأسواق، ولا تجلبها الأموال مهما كثرت، وإنما يمنحها الله لمن يشاء من عباده، وتارك الصلاة والمتهاون فيها حباله غير موصولة بالله، فأنَّى له أن يتمتع بهذه العطايا والمنح الإلهية؟!
ومن عقوبات تارك الصلاة أنه يُعذَّب بعد موته في البرزخ، ففي الحديث الذي أخرجه البخاري عن الرؤيا التي رآها رسول الله ، يقول : ((وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتدهده الحجر، فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت سبحان الله ما هذان؟)) ، فقيل له: ((إنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه، وينام عن الصلاة المكتوبة)). فانظروا إلى هذا العذاب الشديد الذي يلقاه المفرط في الصلاة، وقد ذكر السيوطي رواية لهذا الحديث في صحيح الجامع أن هذا العذاب يُفعل به إلى يوم القيامة.
ومن عقوبات تارك الصلاة يوم القيامة أنه يمنع من السجود عندما يدعى الناس إلى السجود لله سبحانه، يقول تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم:42]، يسجد الصالحون الذين صلوا لله في هذه الحياة الدنيا، فيحاول تارك الصلاة أن يسجد معهم لعله بهذه السجدة يغطي على جرائمه ومعاصيه ومخازيه في الدنيا، ولكن هيهات، فإن ظهره يصبح قطعة واحدة كاللوح، يرى الناس سجودا وهو لا يستطيع، فالجزاء من جنس العمل، كما رفض السجود بين يدي الله في الدنيا يمنع من السجود بين يديه سبحانه يوم القيامة.
ومن عقوبات تارك الصلاة دخوله النار، يقول سبحانه وتعالى: إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَع الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ [المدثر:39-47]، هذا سؤال يوجه إلى أهل النار عن سبب دخولهم إليها، فيكون أول أمر يذكرونه الصلاة، يجيبون بكل يسر: لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ، لقد عرف أصحاب النار سبب دخولهم إليها، ولكن هذه المعرفة جاءت متأخرة، جاءت بعد أن ألقوا في الهاوية، فما فائدة هذه المعرفة؟!
ومن العذاب الذي يلقاه تارك الصلاة ما ورد في قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، والغي هو الخسران المبين، كما أنه اسم لواد في جهنم أعاذنا الله منه ومنها، يقول القرطبي في جامع أحكام القرآن: "والأظهر أن الغي اسم للوادي، سمي به لأن الغاوين يصيرون إليه"، وعن كعب قال: "غي واد في جهنم، أبعدها قعرا وأشدها حرا، فيه بئر يسمى البهيم، كلما خبت جهنم فتح الله تعالى تلك البئر تتسعر بها جهنم"، وقال ابن عباس: (الغي واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره).
هذا هو الغي يا عباد الله، موعد ينتظر تارك الصلاة ومضيعها، فكيف يهنأ عيش من هذا موعده؟! وكيف يغتر بهذه الحياة القصيرة من هذا مصيره؟! وكيف يضحك من هذا مسكنه في الآخرة؟! إنه ـ والله ـ وعيد عظيم وتهديد شديد لمن كان له عقل يعقل أو قلب يفقه.
ومما توعد الله به المتهاون في الصلاة الويل، يقول سبحانه: فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون:4، 5]، والويل معناه المشقة في العذاب، وقيل: إنه واد في جهنم بين جبلين يهوي فيه الهاوي أربعين خريفا، وقيل: إنه واد يجري بفناء جهنم من صديد أهل النار، وقيل غير ذلك.
فاحذر ـ يا عبد الله ـ أن تترك فريضة الصلاة أو تتهاون فيها، فيمسّك هذا العذاب الذي توعد الله به تاركي الصلاة والمفرطين فيها.
ومن عقوبات تارك الصلاة في النار مرافقته للظالمين والمفسدين في الأرض من كل الأمم، ذكر الصلاة يوما فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)) أخرجه أحمد وابن حبان عن عمرو بن العاص. وكل مسلم يعلم ما توعد الله به هؤلاء المفسدين من عذاب شديد، فهل ترضى ـ يا عبد الله ـ أن يكون هؤلاء الكفرة رفقاءك؟! يقول ابن قيم الجوزية: "تارك الصلاة يحشر مع مثيله في الصد والامتناع، فهو إما أن يشغله ماله أو ملكه أو رياسته ووزارته أو تجارته، فمن شغله ماله فهو مع قارون، ومن شغله ملكه فهو مع فرعون، ومن شغله رياسته ووزارته فهو مع هامان، ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف". أعاذني الله وإياكم من هذا المصير.
فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على هذه الفريضة، ولا تفرّطوا فيها مهما كانت الظروف، فقد سمعتم ما أعد الله للمفرط في هذه الفريضة من عذاب وإهانة، ويكفي تارك الصلاة عقوبة ـ لو تَفكّر ـ أنه بتركه للصلاة محروم من الوقوف بين يدي مولاه، محروم من الدخول عليه ومناجاته، محروم من الانطراح بين يديه وتسليم أمره إليه، فهذه العقوبة تكفي لمن تدبر واعتبر.
أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن يقيمون الصلوات ويحافظون عليها، وأن يجعل الصلاة لي ولكم راحة وقرة عين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الغفور الرحيم، العفو الكريم، الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه واتبع هداه.
أيها المسلمون، سردنا فيما مضى من الخطبة عقوبة تارك الصلاة والمفرط فيها، وما أنذره به الله ورسوله من عقوبات، وكما قلنا فإننا لا نفعل هذا إرهابا ولا تقنيطا، فلسنا أوصياء على دين الله، فكلنا عبيد الله، وكلنا خطاء، ولكن فعلناه تذكيرا لأنفسنا ولإخواننا بخطورة هذا الأمر وعظمته.
وهذا التذكير ـ يا عباد الله ـ يستوجب التبليغ، فكل من لديه أخ أو ابن أو قريب تارك للصلاة فليذكره بالله وليأمره بالصلاة إن كان فعلا يحبه، يقول سبحانه موجها الخطاب إلى رسوله الخاتم : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [طه:132]، وها هو العبد الصالح لقمان يأمر ابنه بهذه الفريضة العظيمة فيقول: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [ لقمان:17]، فليوص كل منا أهله بالصلاة، وليحضهم على التوبة، فالله يقبل توبة العبد إذا تاب مهما اقترف من ذنوب؛ لأن الذنب من طبيعة البشر، يقول : ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة. فالخسارة والمصيبة ليست في الذنب، ولكن الخسارة والخطر والهلاك في الإصرار على الذنب وعدم الاستغفار منه، فكلنا نذنب كما قلنا، ولا يسلم من الذنب أحد، يقول في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أنس: ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) ، فتب إلى الله يا تارك الصلاة، ارجع إلى الله يا متهاونا في هذا الركن العظيم، ارجع إلى ربك ومولاك، ارجع إلى سيدك ومدبر أمرك، اذكره يذكرك، واشكره يزدك، واسجد له يرفعك، وأعل ذكره يعل ذكرك، وتواضع له يزدك عزا، واعلم أنك بالتكبر عليه لن تضر إلا نفسك، فالعبد لا يصلح إلا أن يكون عبدا، ومن لم يكن عبدا لله فسيكون عبدا لسواه.
أسأل الله سبحانه أن يجعلنا عبادا أوابين منيبين توابين، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يثبت أقدامنا وينصرنا على القوم الكافرين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
(1/3730)
ثواب الصلاة وأجرها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
19/2/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الصلاة طهارة للعبد. 2- الصلاة أمان للعبد. 3- الصلاة منجاة من النار. 4- الصلاة سبب لظل الرحمن. 5- الصلاة طريق إلى الجنة. 6- الصلاة سبب لرؤية الباري عز وجل. 7- فضل صلاة الفجر.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: نختم في هذه الخطبة ـ بإذن الله ـ كلامنا في موضوع الصلاة، على أننا سنعود بين الحين والآخر إلى هذا الموضوع المهم في حياة المسلم، والذي يلازم المسلم بداية من بلوغه سنّ التكليف إلى أن يغادر هذه الدنيا إلى مولاه عز وجل، ونتكلم اليوم عن موضوع ثواب الصلاة وأجرها، فكما تكلمنا في الخطبة الماضية عن عقوبة تارك الصلاة نتناول في هذه الخطبة الثواب والكرامة التي أعدهما الله للمصلي المحافظ على صلواته، حتى يكون في هذا بشرى للمصلين من عباد الله الصالحين وحافز لهم على المداومة والاجتهاد في هذا الأمر الجليل، ودافع للمفرِّطين في الصلاة لأن يلتحقوا بركب المصلين حتى ينالوا من هذا الفضل وهذا التكريم الإلهي.
من ثواب الصلاة وفضلها أنها طهارة للعبد من خطاياه، فهي تمحو هذه الخطايا وتغسلها، يقول : ((أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا)) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
فالصلوات الخمس محطات وفرص يومية، منحها الله سبحانه وتعالى لعباده ليطهروا بها أنفسهم من الذنوب والخطايا التي يرتكبونها، وليذكروا أنفسهم بخالقهم وبواجبهم نحو هذا الإله، فكلما سها العبد وأخطأ أتى وقت صلاة من الصلوات ووجد نفسه بين يدي الله سبحانه وتعالي، فيندم ويتوب ويستغفر مما أصاب من ذنوب، فيغفر الله سبحانه وتعالى له، يقول فيما أخرجه مسلم والترمذي من حديث أبي هريرة: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تُغش الكبائر)) ، ويقول أيضا في الحديث الذي أخرجه الطبراني بسند حسن عن ابن مسعود: ((تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يُكتب عليكم حتى تستيقظوا)).
انظروا إلى هذا الفضل العميم وهذه الرحمات المنشورة التي يرفض الكثير من الناس التعرض إليها والغنيمة منها، وانظروا إلى هذا الرب الكريم الرحيم الذي يغفر لعبده ويطهره من ذنوبه مهما كثرت ما دام العبد محافظا على الصلاة وعالما أن له ربا يغفر الذنوب ويعفو عن السيئات.
ولقد وعد الرحمن عز وجل مقيم الصلاة بأنه لا يخاف ولا يحزن فقال عز من قائل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:277]، كما وعدهم سبحانه بأن لا يضيع أجرهم، بل يحفظه لهم كما حفظوا صلاتهم وحفظوا أوامر الله عز وجل، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف:170].
ومن ثواب الصلاة وفضلها أنها منجاة للعبد من النار، فمداومة الصلوات والمحافظة عليها تنجي صاحبها من النار التي توعد بها الله سبحانه وتعالى تاركي الصلاة والساهين عنها، وفيه تبرئة لهذا المصلي من النفاق، عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((من صلى أربعين يوما الصلوات في جماعة لا تفوته تكبيرة الإحرام كتب الله له برائتين: براءة من النفاق وبراءة من النار)) أخرجه الترمذي، كما يقول في الحديث الذي رواه مسلم عن عمارة بن رويبة: ((لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها)) يعني الفجر والعصر.
فالصلاة ـ يا عباد الله ـ فضلها كبير وقدرها عظيم، ولكن الإنسان من طبيعته أنه لا يعرف قيمة الأشياء إلا بعد أن يفقدها، فإذا فقدها أحسّ بقدرها بعد أن حيل بينه وبينها، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله مرّ بقبر فقال: ((من صاحب هذا القبر؟)) فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم)) أخرجه الطبراني والمنذري. ركعتان قد لا تعني عندنا شيئا، لكنها أحب إلى صاحب هذا القبر من بقية دنيا أصحاب رسول الله.
ومن كرامات المحافظ على الصلاة في المساجد وثوابه الذي يلقاه من الله سبحانه جزاء محافظته على الصلاة ومداومته عليها وتعميره لبيوت الله سبحانه أن الله سبحانه وتعالى يظله بظله يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله، وأكرم بها من منزلة عالية وتكريم عظيم في ذلك اليوم العصيب الذي تدنو فيه الشمس من رؤوس الخلائق، ويغرق الناس في عرقهم كل حسب عمله، ويصيبهم كرب شديد وعناء كبير، في هذه الظروف تُكرَّم ـ يا عبد الله، يا من ترتاد المساجد وتصلي فيها ويهفو قلبك إليها ـ تكرَّم بكرامة عظيمة بأن يظلك الرحمن بظلّه، فتنجو من هذا الكرب الذي يلقاه الناس ويعانونه، يقول : ((سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله)) ، وذكر منهم: ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة. فمن بين هؤلاء السبعة رجل قلبه معلق ببيوت الله، محب للصلاة فيها، يشتاق إلى هذه الأماكن الطاهرة، ويجد الراحة والهناء فيها، ما إن يقترب وقت الصلاة حتى تأخذه رجلاه دون أن يشعر إلى بيت الله طالبا للراحة والأمن، وما دامت راحته في بيوت الله سبحانه لا في بيوت شياطين الإنس والجن وأماكن المعصية فإنه حقّ على الله سبحانه أن يظله في ظله يوم تختفي كل الظلال إلا ظل الرحمن عز وجل.
ومن ثواب المحافظ على الصلاة دخول الجنان والتنعم بنعيمها المقيم الدائم، فالله سبحانه وعد أهل الصلاة والمحافظين عليها أن يدخلهم ومن صلح من ذرياتهم وآبائهم وأزواجهم جنات عدن التي أعدها للصالحين من عباده يقول سبحانه: وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:22-24]، ويقول فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلا كلما غدا أو راح)).
فليحتسب كل مسلم خطواته إلى الصلاة، ليحتسب عند الله غدوّه ورواحه إلى المسجد، وليعلم أنه لن يضيع من ذلك شيء، بل إن الله يعده بمنزل في الجنة في كل غدو ورواح، كما وعد سبحانه المصلين بالليل والناس نيام القائمين بين يديه بالأسحار الذين يناجونه في هدأة الليل وحلكة الظلمة ونومة العيون وخفوت الأصوات، وعدهم بغرف أخروية غير غرف الدنيا الفانية، ونعيم غير نعيمها الزائل، يقول فيما أخرجه ابن حبان من حديث أبي مالك الأشعري: ((إن في الجنة غرفا يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، أعدها الله لمن أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام)).
ومن أعظم ثمرات الصلاة وجوائزها أنها من أهم الأمور التي تؤهل المسلم إلى رؤية الله سبحانه في الآخرة، هذه الرؤية التي يفوق نعيمها كل نعيم في الجنة، يقول في الحديث المتفق عليه والذي رواه جرير بن عبد الله: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا)) ، وهل نعيم أعظم من نعيم رؤية الباري عز وجل؟! وهل ثواب أكبر من هذا الثواب الجليل؟!
فلنفعل ـ يا عباد الله ـ ما يرشدنا إليه رسول الله حتى نفوز بهذا النعيم المقيم وهذه السعادة التامة، فالصلاة الصلاة يا من ترغب في الجنان، والمسجد المسجد يا من ترغب في الأمان، فهما أقرب رفيقين للمسلم في حياته، وهما أصدق من يشهدان له بالفلاح بين يدي الله سبحانه، فمحروم من لم يحافظ على صلاته وصلته بالله سبحانه، ومحروم من لم يعرف الطريق إلى بيوت الله سبحانه.
فاتقوا الله عباد الله، وعمّروا آخرتكم بالسعي والعمل في دنياكم، يقول سبحانه: وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [هود:114، 115].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لا رب غيره ولا معبود سواه، والصلاة والسلام على رسوله ومصطفاه، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أيها الإخوة الكرام، ثواب الصلاة عند الله عظيم كما ذكرنا، وكرامة المحافظ على الصلاة عند الله كبيرة، وإذا كان ثواب الصلوات بصورة عامة كل هذه الخيرات وكل هذا النعيم فإن لبعض الصلوات من الفضل والبركة ما ليس لغيرها، فلا بد للمسلم أن يحرص عليها حتى ينال ما في هذه الصلوات من فضل وثواب.
ومن أهم هذه الصلوات صلاة الفجر، هذه الصلاة التي جعلها الله امتحانا لكثير من عباده؛ لأنها تأتي في وقت حساس، وقت يكون فيه كل الناس أو معظمهم في نوم عميق، فيصبح الاستيقاظ في هذا الوقت أمرا عسيرا، والتغلب على النفس والشيطان أعسر، وتزداد هذه الصعوبة في أوقات البرد والشتاء، فالقائم من نومه لهذه الصلاة استجابة لأمر الله سبحانه قد حقّق قدرا كبيرا من الصدق مع الله والامتثال لأمره.
هذه الصلاة من أكثر الصلوات التي رتب الله عليها الأجور العظيمة، ولكن المسلمين لا يعطونها حقها، وهذا خطأ فادح لأنها ـ أولا ـ صلاة مفروضة مثل باقي الصلوات التي فرضها الله سبحانه فلا ينبغي التهاون فيها، ولأنها ـ ثانيا ـ تميزت بهذه الميزات والفضائل العظيمة، فكيف يهون على من يريد الجنة أن يفرِّط في هذه الكرامات؟! وكيف لمن يحب الله ورسوله أن ينام عن هذه الصلاة أو يصليها في بيته وهو يسمع دعوات الله ورسوله إلى حضورها والتنعم ببركاتها؟! عن سهل الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة)) أخرجه ابن ماجة وابن خزيمة. نعم النور التام فضلا من الله ونعمة، فكما تغلبت ـ يا عبد الله ـ على نفسك وعلى الشيطان ورميت غطائك الدافئ وغادرت فراشك الوثير في هذا البرد لتتوضأ وتخرج من بيتك لا من أجل غنيمة أو مصلحة دنيوية وإنما من أجل طاعة الله سبحانه ورضوانه فلك هذه البشرى العظيمة من رسول الله ، وكما مشيت في الظلام إلى بيت الله سبحانه فإن لك النور التام يوم القيامة من الله سبحانه وتعالى، فهل يزهد في هذا الفضل عاقل؟!
ويقول أيضا عن هذه الصلاة المباركة: ((من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم)) أخرجه مسلم عن جندب البجلي. هذا الحديث يخبرنا فيه أن الذي يصلي الصبح في جماعة هو في ذمة الله، والمعنى عند بعض العلماء أنه في عهد الله وحماه، فمن تعرض لهذا الإنسان بظلم فإن الله خصيمه، ومن كان الله خصيمه هلك.
فحافظوا ـ بارك الله فيكم ـ على صلاتكم، تنالوا العز والثواب الحسن من الله في الدنيا والآخرة.
أسال الله أن يوفقني وإياكم إلى صالح القول والعمل...
(1/3731)
الشرك خطورته وبعض مظاهره
التوحيد
الشرك ووسائله
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
26/2/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة المعاصي. 2- خطورة الشرك وشناعته. 3- تعريف الشرك وبيان بعض مظاهره. 4- سد الذرائع للمحافظة على التوحيد والبعد عن الشرك وأسبابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: إخوة الإيمان، المعاصي من أهم الأمور التي تحول بين الإنسان وبين تحقيق مرضاة الله عز وجل؛ لأن الإنسان كلما اقترف معصية ابتعد عن سبيل الرحمن واقترب من سبل الشيطان، ولأن المعاصي تحدث في القلوب وحشة وظلمة تجعل هذه القلوب عصية في قبول النور والاستجابة لله سبحانه، لهذا وحتى نحذر من المعاصي وخطورتها سنتكلم في مجموعة من الخطب ـ بإذن الله ـ عن بعض المعاصي وأثرها وعقوبتها، سائلين الله سبحانه أن يمنحنا من خشيته ما يحول به بيننا وبين هذه المعاصي.
من أعظم المعاصي وأشدها والتي لم يُعص الله سبحانه بمثلها معصية الشرك؛ لهذا نبدأ بها هذه المعاصي.
معصية الشرك معصية عظيمة وجناية فادحة في حق المولى الذي خلق وسوى ورزق وأمات وأحيا، ومع هذا يُشرك به سبحانه، ويكفي في عظمة هذه المعصية أن الله سبحانه بين في كتابه أنه قد يغفر كل معصية اقترفها العبد ومات عليها إلا معصية الشرك، يقول سبحانه: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، وعن عبد الله بن مسعود قال: سألت النبي : أي الذنب أعظم؟ قال: ((أن تجعل لله ندا وهو خلقك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك)) ، قلت: ثم أي؟ قال: ((أن تزاني بحليلة جارك)) متفق عليه.
هذه هي عظمة الشرك، لذا ـ أيها الأحبة ـ لا بد لنا من أن نعرف الشرك ومظاهره لنحذر منها ونبتعد عنها حتى لا تحبط أعمالنا ونحن نظن أننا نحسن عملا، يقول سبحانه: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
ويخطئ كثير من الناس حين يعتقدون أن الشرك هو فقط الكفر العلني بالله، أو هو عبادة غير الله بالصلاة له أو ما شابهه، فالشرك أعم من ذلك؛ لأنه يدخل في كثير من مظاهر العبادة، فالعبادة ليست الصلاة والحج والصوم فقط، بل إن الخوف عبادة والتوكل عبادة والدعاء عبادة والقسم عبادة والنذر عبادة والاستعاذة عبادة، إلى غير ذلك من عبادات، فلا بد أن نراعي في كل هذه العبادات ما أمرنا الله به؛ حتى لا تفضي بنا إلى الشرك والعياذ بالله.
ومظاهر الشرك ـ إخوة الإيمان ـ كثيرة، منها ما هو عظيم خطير ومنها ما هو أخف، منها ما هو أكبر ومنها ما هو أصغر، ولكنها بالجملة مظاهر شركية ينبغي أن نبتعد عنها ليسلم لنا ديننا وتسلم لنا عقيدتنا.
من مظاهر الشرك التي حذرنا الله منها إتيان الكهان والعرافين والمشعوذين وتصديقهم فيما يقولون، وهم أناس بعيدون عن نور الله، بعيدون عن ذكر الله، بعيدون عن هدي رسول الله ، متجرئون على الغيب، يتعاملون مع الجن والشياطين، ويأكلون أموال الناس بالباطل، لهذا لا ينبغي لمسلم أن يقصدهم لأي حاجة من حوائجه، فمن قصدهم فقد عرض دينه للطعن وعرض عقيدته للخدش. عن بعض أمهات المؤمنين أن رسول الله قال: ((من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)) أخرجه مسلم وأحمد. أما من أتى هؤلاء السحرة والمشعوذين وصدقهم فيما يقولون فإنه على خطر كبير إن لم يتب من ذنبه، يقول فيما أخرجه أحمد عن أبي هريرة: ((من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)). فاحذروا ـ عباد الله ـ هذه الأمور، ولا تعرضوا أنفسكم لهذه الفتنة.
ومما حذرنا الله منه أيضا التحاكم إلى غير شرع الله من أعراف وقوانين، يقول سبحانه وتعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَر بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا [النساء:65]، وحذرنا أيضا من طاعة الأمراء والعلماء في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم؛ لأن في هذا إشراكا لهم فيما اختص به الله سبحانه وتعالى، أخرج الطبراني عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ((يا عدي، اطرح هذا الوثن من عنقك)) ، فطرحته فانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة، فقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] حتى فرغ منها، فقلت: إنا لسنا نعبدهم! فقال: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتستحلونه؟!)) قلت: بلى، قال: ((فتلك عبادتهم)).
أيها المسلمون، ومما حذرنا منه شرعنا المطهر الاستغاثة بغير الله وطلب الحوائج بدعاء غير الله، فمن الناس من يتوجه إلى أضرحة الأولياء لشفاء المريض وقضاء الحوائج، وهذا أمر حذر منه الله ورسوله، يقول سبحانه: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُم وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13، 14]. ومن الناس من إذا تعرض إلى خطر ما أو سقط ولده أو غير ذلك فأول شيء ينطقه لسانه: "يا سيدي فلان"، فبدل أن يقول: "بسم الله" مثلا أو "يا رب" أو "يا الله" يستغيث بمخلوق لا يسمعه ولا يملك له ضرا ولا نفعا، يقول سبحانه: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:5، 6].
ومن هذه المظاهر الشركية أيضا الذبح لغير الله سبحانه، كالذبح للأضرحة، والذبح لطرد الجن، والذبح من أجل حفظ الأشياء الجديدة، فالله سبحانه حذر من هذا؛ لأن النسك والذبح عبادة، والعبادة لا تؤدى ولا تصرف إلا لله، يقول سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:162-164]، ويقول سبحانه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، ويقول فيما أخرجه ابن حبان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: ((لعن الله من ذبح لغير الله)).
وعلينا كذلك أن نحذر من الحلف بغير الله، فالله سبحانه حرم على العبد أن يحلف بغيره، وحث سبحانه نبيه على الحلف بربه لا بغيره، يقول سبحانه موجها الخطاب إلى نبيه معلما إياه كيف يقسم: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِين [يونس:53]، ويقول سبحانه: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُن [التغابن:7]، ويقول : ((من حلف بغير الله فقد أشرك)) أخرجه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما، ويقول كما في صحيح الجامع من حديث ابن عمر: ((كل يمين يحلف بها دون الله شرك)).
ومن هذه المظاهر تعليق التمائم والخرز وغيرها مما يعلق لأجل الحفظ من العين ودفع الأمراض، يقول فيما أخرجه أحمد عن عقبة بن عامر: ((من علق تميمة فقد أشرك)) ، فالحافظ والشافي من الأمراض والدافع للضر هو الله، يقول تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:78-81]، فلا بأس من طلب العلاج الطبي العادي، ولا بأس من الرقية الشرعية بالقرآن والأدعية النبوية، أما غيرها من طلاسم وخزعبلات فقد نهى الشرع عنها.
كذلك علينا ـ إخوة الإيمان ـ الابتعاد عن التطير، وهو التشاؤم، فبعض الناس يتشاءم من بعض الأشياء أو بعض الحيوانات أو بعض الناس، فإذا أصابه ضرر أو تعطلت مصلحة كان يريد قضاءها جعل ذلك الشيء الذي رآه أو اصطبح به سببا فيما أصابه، وهذا لا يجوز، بل إن بعض الناس قد يترك الخروج لحاجة من حوائجه إذا رأى شيئا يتشاءم منه، وهذا كله خلل في العقيدة، فالله وحده مسبب الأسباب وبيده النفع والضر سبحانه، يقول فيما أخرجه أحمد عن ابن عمر: ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)) ، إلى غير ذلك من مظاهر شركية حذر الشرع منها.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن حق المولى على العباد أن لا يشركوا به شيئا، وحقهم عليه إن فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة وينجيهم من النار، عن معاذ بن جبل قال: مر بي رسول الله وأنا على حمار، فقال: ((يا معاذ، هل تدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟)) قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم)) أخرجه الشيخان.
فلننته ـ عباد الله ـ عن هذه العادات التي تلبسنا بها وفعلناها عن جهل، ولنعتصم بكتاب الله وسنة نبيه ففيهما النجاة والفلاح، ولنتب إلى الله إنه كان توابا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، لقد حذر الله سبحانه وتعالى نبيه من الشرك، بل إنه سبحانه أوحى إلى رسوله وأفضل خلقه وإلى الأنبياء من قبله بأنهم لو أشركوا لأحبط الله أعمالهم، يقول سبحانه مخاطبا نبيه: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّه فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:65، 66].
ولقد علم رسول الله أن أهم أمور الدين التوحيد، وأنه لا دين لمن لا توحيد له، وأن الشرك أعدى أعداء المسلم، لهذا كان رسول الله متسامحا رفيقا في القول والإنكار فيما دون الشرك من أخطاء، فقد تسامح مع من بال في المسجد، ومع من تكلم في الصلاة، ومع غير ذلك من أخطاء لا تخل بالتوحيد، عن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس، فقال لهم رسول الله : ((دعوه، وأهريقوا على بوله دلوا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) أخرجه النسائي، وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السّلَمِيّ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا أُصَلّي مَعَ رَسُولِ اللّهِ إِذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ الله، فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمّيَاهْ! مَا شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إِلَيّ؟! فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بِأَيْدِيهِمْ علَىَ أَفْخَاذِهِمْ، فَلَمّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمّتُونَنِي، لَكِنّي سَكَتّ، فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ ـ فَبِأَبِي هُوَ وَأُمّي ـ مَا رَأَيْتُ مُعَلّمًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ، فَوَالله مَا كَهَرَنِي وَلاَ ضَرَبَنِي وَلاَ شَتَمَنِي قَالَ: ((إِنّ هَذِهِ الصّلاَةَ لاَ يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلاَمِ النّاسِ، إِنّمَا هُوَ التّسْبِيحُ وَالتّكْبِيرُ)) أخرجه مسلم.
هكذا كان إنكار رسول الله وتصرفه مع الناس فيما دون الشرك من أمور، أما حين يتعلق الأمر بجناب التوحيد وحين يقترب من الشرك فإن الرد يكون صارما حازما حاسما لا تأجيل فيه ولا مداراة، فها هو ينكر بشدة على الصحابة عندما طلبوا أن تكون لهم شجرة مثل شجرة المشركين المسماة ذات أنواط، عن أبي واقد الليثي أن رسول الله لما خرج إلى حنين مر بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي : ((سبحان الله! هذا كما قال قوم موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة. والذي نفسي بيده، لتركبن سنة من كان قبلكم)) أخرجه الترمذي، وها هو يرد على جارية عندما نسبت إليه علم الغيب، أخرج ابن ماجه عن أبي الحسين أن رسول الله دخل على الربيع بنت معوذ وعندها جاريتان تغنيان، وكان فيما تقولان: وفينا نبي يعلم ما في غد، فقال : ((أما هذا فلا تقولوه؛ ما يعلم ما في غد إلا الله)) ، وها هو أيضا يرد بحزم على من قال له: ما شاء الله وشئت، عن ابن عباس قال: جاء رجل إلى النبي ، فراجعه في بعض الكلام، فقال: ما شاء الله وشئت، فقال رسول الله : ((أجعلتني مع الله عدلا؟! ـ وفي لفظ: ندا؟! ـ لا، بل ما شاء الله وحده)) أخرجه أحمد وابن ماجه. كل هذا الحرص دفعا لمعصية الشرك وذرائعها. هكذا نعلم ـ إخوة الإيمان ـ أن جناب التوحيد عظيم، وأن الشرك من أعظم الذنوب.
فاتقوا الله وابتعدوا عن كل ما يخدش سلامة توحيدكم وإيمانكم، أسأل الله أن يثبتنا على الإيمان والتوحيد حتى نلقاه، وأن يميتنا مسلمين محسنين لا مبدلين ولا مغيرين.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/3732)
عقوق الوالدين
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الوالدان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
4/3/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف العقوق وبيان بعض صوره المعاصرة. 2- أسباب عقوق الوالدين. 3- عقوبة عاق والديه.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فقد تحدثنا في الخطبة السابقة عن أعظم معصية هي معصية الشرك، وتناولنا بعض مظاهره، واليوم نتكلم عن معصية لا تقل خطورة عن معصية الشرك، فقد قرن الله سبحانه وتعالى بينها وبين الشرك في كتابه فقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء: 23 ]، وقرن بينهما أيضا رسول الله فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟! الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقول الزور)) أخرجه الشيخان عن أبي بكرة.
نتكلم اليوم عن عقوق الوالدين، هذا الذنب العظيم وهذه الجناية الخطيرة التي تتصدع بها البيوت وتنهار بها الأمم وتحجب بها الرحمات عن الخلق، فما هو العقوق؟
العقوق كما في شرح الترمذي: يقال: عق والده يعقه عقوقا إذا آذاه وعصاه وخرج عليه، وأصله من العق وهو الشق والقطع، فالعقوق في مجمله هو أي أذى يلحق بالوالدين من ولدهما.
وكثير منا إذا سمع لفظة: (الأذى) أو (العقوق) أو غيرها من هذه المعاني يقول: أنا لا أعق والديّ ولا أؤذيهما، ولكن ـ يا عبد الله ـ لست أنت من يحدد الأذى والعقوق، إنما يحدده الشرع ثم يحدده والداك، فهما أدرى بما يؤذيهما، فقد يؤذيهما لفظ أو حركة تذمر أو نظرة، فما بالك بالسب والشتم أو رد الكلام أو الهجران أو تقديم الزوجة والأولاد عليهما؟! فالله المستعان على هذا الأمر العظيم.
ولننظر كيف حدد الشرع هذا الأذى، يقول تعالي: فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23]، أفّ كلمة تذمر وتأفف نهى الله عنها في حق الوالدين، كلمة صغيرة تتكون من حرفين، فما بالك بالعظيم من الكلام؟! لا تقل لهما: أف فكيف حالك يا من تقسو عليهما بالكثير من الكلام؟! لا تقل لهما: أف فكيف حالك يا من تصرخ في وجهيهما؟ لا تقل لهما: أف فكيف حالك يا من ترفع صوتك فوق صوتيهما؟! هل هذا هو جزاء شقائهما من أجلك ورعايتهما لك في الصغيرة والكبيرة؟!
إن الوالدين يتأذيان مما لا يخطر على بالك من أمور فاحذر، عن عمارة أبي سعيد قال: قلت للحسن: إلى ما ينتهي العقوق؟ قال: "أن تحرمهما وتهجرهما وتحد النظر إليهما".
تدبروا يا عباد الله، قولة "أف" من العقوق، وأن تحد النظر إليهما من العقوق، إذًا فهل يخلو بيت لدينا من العقوق؟! لا أظن أن بيتا لدينا يخلو من العقوق، اللهم إلا إذا كان هذا البيت بدون أبناء، وإذا كان الأمر كذلك فأين ستنزل رحمة الله؟! وعلى من ستنزل؟!
عقوق الوالدين سرى في مجتمعنا إلى درجة أنك إذا رأيت شخصا بارا بوالديه تعجبت، أصبح الوالد ذليلا أمام ولده بينما المولى يأمرنا بعكس ذلك، فبينما يخبر سبحانه بأن العزة لله وللرسول وللمؤمنين بقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين [المنافقون:8]، فإنه يستثني من هذا في الدنيا موقفا يخفض فيه الإنسان جناح الذل، وهذا الموقف هو موقفه أمام والديه حيث يقول سبحانه: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].
فهل أنت ـ أيها المسلم ـ ذليل أمام والديك من أجل رضا الله، أم أنك تقف أمامهما بشموخ وترفض طلباتهما وهما اللذان يخفضان لك جناح الذل من الخوف؟! هذه الأسئلة لا بد أن نطرحها على أنفسنا، فالله سبحانه يقول: وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف: 15 ]، هذه وصية من الله، ووصايا الله واجبة التنفيذ، وإلا عرض الإنسان نفسه إلى سخط الله، والله سبحانه كرر من وصية الولد بوالديه ولم يفعل ذلك مع الوالدين؛ لأن الوالدين يعطيان كل ما عندهما من عطف وجهد ومال للولد دون وصية، فيجوعان من أجل أن يشبع، ويمرضان من أجل أن يشفى، ويشقيان من أجل أن يرتاح، أما الولد فرغم وصايا الله فإنه يجحد نِعَم الوالدين وفضلهما، وكأنه منذ أن ولد ولد مستغنيا عنهما، وكأنه ما تخبط في بطن أمه تسعة أشهر، وكأنه ما رضع من ثديها من أجل أن ينمو جسمه ويشتد عوده، وكأن والده ما شقي من أجله ليلا ونهارا، ينسى الولد كل هذا رغم وصايا الله سبحانه، ورغم أفضال الوالدين عليه، لهذا وصانا الله بالوالدين ولم يوص الوالدين بنا.
ولا شك ـ إخوة الإيمان ـ أن العقوق بجميع أنواعه متمثل فينا، ومنتشر انتشار النار في الهشيم، ففي مجال الضرب ضَرَب بعض الناس آباءهم، وفي مجال الطرد طُرِد الآباء والأمهات من البيوت ووضعوا في دور الرعاية وأبناؤهم أحياء يرزقون، ومن الناس من يتقاسمون ضيافة والديهم، فلا يتحمّل كل واحد منهم والده أو والدته أكثر من أسبوع، وإذا خرج والداه من بيته إلى بيت أخيه أو أخته تنفّس الصعداء، وكأنه أزاح حملا ثقيلا من على صدره، هذا بدل أن يتنافس كل منهم من أجل أن يبقي والديه لديه، وفي مجال السب والشتم فحدث ولا حرج، وفي مجال النفقة ينفق الإنسان منا على زوجته وأولاده وبيته الآلاف من الدنانير، وإذا أراد أن يعطي لوالديه أعطاهما دنانير معدودة يخرجها بصعوبة، ويظن أنه قد وفاهما حقهما، لا، ما وفّيتهما حقّهما، فلا تخدع نفسَك يا عبد الله، ولا تتعب نفسَك بكثرة العمل إذا كنت عاقّا لوالديك، بل سارع إلى إرضائهما والإحسان إليهما؛ لأن عقوقهما من الكبائر ومن المحرمات، يقول : ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات، وكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)) أخرجه الشيخان عن المغيرة بن شعبة.
فيا من تعق أمك من أجل زوجتك أو أبنائك، أين كان هؤلاء عندما كانت أمك تحملك ثقيلا؟! وأين كان هؤلاء عندما كانت أمك تصرخ من آلام المخاض لتخرج أنت إلى هذه الحياة؟! أين كان هؤلاء عندما كانت أمك تطعمك الطعام لقمة لقمة وتمضغه وتلينه لك ولا تمل ولا تسأم بل تناغيك وتلاعبك؟! أين كان هؤلاء عندما كانت أمك تسهر الليل لمرضك وتحزن إن حزنت وتفرح إن فرحت؟! أفتنسى كل هذا بمجرد أن تكبر ويشتد عودك؟! وصدق الله سبحانه: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34 ]. فاتقوا الله عباد الله، وفروا من العقوق فراركم من الشرك؛ لأن العقوق من الذنوب المهلكة.
وللعقوق أسباب نذكر بعضا منها بعون الله، ولعل من الغرابة أن يكون الوالدان اللذان يتعرضان إلى العقوق هما أحد الأسباب الرئيسية فيه، حيث إنهما هما اللذان قاما بتربية هذا الابن العاق وتنشئته، فالابن لا يولد عاقا منحرفا بل يولد صفحة بيضاء، يولد على الفطرة كما قال رسول الله ، ووالداه هما اللذان يقومان بالتأثير عليه وتوجيهه، يقول كما في صحيح الجامع من حديث الأسود بن سريع: ((كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)).
فالتربية السيئة أحد أهم أسباب العقوق، فغالب تربيتنا لأبنائنا فيها خلل، فمنا من يربي ابنه على الدلال الزائد، ومنا من يربيه على الشدة الزائدة على حدودها، ومنا من يربيه على الإهمال بل ويترك تربيته للشارع، ثم إذا كبر الابن وكان عاقا لا يعرف حقوق الوالدين تعجب الوالدان من هذا رغم أنهما هما اللذين زرعا في الابن من حيث لا يشعران هذا الأمر. فيا من تريد ولدا بارا يريحك في كبرك، عليك بتعهده منذ الصغر، تعهده بالتربية كما يتعهد الفلاح النبتة يوما بيوم حتى تصير شجرة مثمرة.
ومن أسباب العقوق غياب الوازع الديني لدى الأبناء، وغياب أهمية بر الوالدين لديهم، فالكثير منا لا يراقب نفسه وتصرفاته وأخلاقياته على ضوء الإسلام، وهل هي ترضى الله عز وجل أم لا؟ بل كلنا يحصر الإسلام في الشعائر فقط، لهذا فهو لا يراقب نفسه في أمر بر الوالدين، ولا يهتم بهذا الجانب، فيضيع حق الآباء والأمهات، وهذا عند الإنسان المصلي المحافظ على أركان دينه، أما عند الإنسان المفرِّط في دينه فالوضع أسوأ من ذلك.
ومن أسباب العقوق المعاملة السيئة من الآباء نحو الأبناء، مثل التفريق بين الأبناء في التعامل وفي العطاء، فهذا يولّد في أكثر الأحيان ردة فعل من الابن نحو الأب أو الأم، يقول فيما أخرجه الطبراني عن النعمان بن بشير: ((اعدلوا بين أولادكم في النحل كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف)) ، ومعنى الحديث: أن على الأب أن يعدل بين أبنائه في عطائه لهم، حتى لا يفتح على أبنائه دواعي العقوق، إن الله حرم عليكم جال النفقة الله عليه وسلم قال وقد يفعل الوالد هذا الخطأ بحسن نية وبدون قصد، لكنه يفتح بابا للعقوق خاصة لدى المتسرعين والعصبيين من الأبناء، وهذا الخطأ من الآباء ليس مبررا للابن بأن يعصي أباه ويعقه، فالله أمر بالإحسان إلى الوالد في حال الشرك فكيف بما دونها من الحالات؟! يقول سبحانه: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
ومن أسباب العقوق الأساسية أن الأب أو الأم يكون في السابق عاقا لوالديه هو أيضا، فيبتليه الله سبحانه وتعالى بابن يعقه كما كان هو يعق والديه، والجزاء من جنس العمل، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49]، فعلى كل منا أن يتذكر وهو يعق والديه ويسيء إليهما أنه سيكبر وسيكون له أبناء، فهل يرضى أن يفعلوا به كما يفعل هو بوالديه؟! إن كنا لا نرضى بهذا فعلينا ببر الوالدين حتى يجازينا الله على ذلك بأبناء يبروننا ويكونون قرة لأعيننا وسندا نتكئ عليه عند الكبر.
أسأل الله أن يوفقنا إلى بر الوالدين والإحسان إليهما، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه الطيبين الشرفا.
إخوة الإيمان، أما عقوبة عاق الوالدين فهي عقوبة عظيمة على قدر هذا الذنب العظيم، ومن سمات ذنب العقوق أن فاعله ينال جزاءه في الدنيا قبل الآخرة، فالكثير من الذنوب قد يفعلها الإنسان ولا ينال عقوبتها في الدنيا، بل تكون عقوبتها أخروية، أما العقوق فإن آثاره السيئة يراها الإنسان في الدنيا قبل الآخرة، يقول فيما أخرجه الطبراني عن أبي بكرة: ((اثنان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين)).
وهذا أمر مشاهد في الحياة اليومية، بل أصبح من المسلّمات، فما من إنسان كان عاقا لوالديه مسيئا لهما إلا وجدت الله سبحانه وتعالى قد أنزل به المصائب والهم والفشل في كل ما يقدم عليه، وكانت حياته حياة نكد وضنك.
كما أن العاق لوالديه مستوجب لسخط الله عليه، وعندما نقول سخط الله فهي ليست كلمة سهلة نرددها، بل هي طامة عظيمة؛ لأنها تعني أن رب السماوات والأرض وخالق الكون الكبير المتعال ساخط عليك أيها العبد الضعيف، فهل لك قدرة على هذا؟! يقول كما في صحيح الجامع من حديث ابن عمر: ((رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما)) ، فاحذر من سخط الله يا من تفرط في وصايا الله التي أنزلها في كتابه وبلغها لنا على لسان نبيه، احذر فإن سخط الله من سخط الوالدين، بل إن رسول الله أخبر بخزي وخسار مضيع حق الوالدين، أخرج الإمام مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أوكلاهما ثم لم يدخل الجنة)) ، ومعنى ((رغم أنفه)) كُره وخُزي وذلّ، نعوذ بالله من ذلك. فالوالدان استنادا إلى هذا الحديث فرصة ذهبية للدخول إلى الجنة لمن عرف كيف يستغلها. فيا من أدركت والديك على قيد الحياة أو أدركت أحدهما، إنك في نعمة قد فقدها كثير من الناس الذين لم يدركوا والديهم أحياء أو مات والدوهم وهم صغار، إنك في فرصة فلا تضيعها، واجعل من والديك جسرا يوصلك إلى الجنة، فإن ضيعت هذه الفرصة فرغم أنفك وخاب سعيك.
ومن عقوبات العاق المُصِّر على عقوقه عدم دخوله الجنة، يقول : ((لا يدخل الجنة عاقّ ولا مدمن خمر ولا مكذّب بقدر)) أخرجه أحمد عن أبي الدرداء. فالعاقّ وفقا لهذا الحديث ممنوع من دخول الجنة؛ لأن المضيّع لحقّ الوالدين هو لما سواه من الحقوق أضيع، نسأل الله السلامة والسداد.
وعاق الوالدين كتبت عليه الشقاوة، فلا سعادة في حياته وإن ظنه الناس سعيدا؛ لأن السعادة ليست ما تراه العين من مال وغنى، بل السعادة شيء في القلب لا يتحصل عليه العاق، بل يكون شقيا شقاوة لا شقاوة بعدها، ورد في تفسير ابن كثير في سورة مريم قال أحد السلف: "لا تجد أحدا عاقا لوالديه إلا وجدته جبارا شقيا"، ثم قرأ: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]. نعوذ بالله من الشقاوة، ونسأله أن يوفقنا إلى بر والدينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك اللهم من سخطك والنار...
(1/3733)
المولد النبوي
قضايا في الاعتقاد
الاتباع, البدع والمحدثات
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
11/3/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تأريخ ولادته. 2ـ بعض المظاهر والبدع في يوم مولده. 3- حقيقة المحبة. 4- نصيحة عامة في المحافظة على المال وعدم صرفه فيما لا ينفع.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: إخوة الإيمان، كان من المفترَض أن نواصل الحديث عن بعض المعاصي التي بدأنا بتناولها فيما مضى من الخطب، ولكن نرجئ الحديث عن المعاصي إلى الجمعة القادمة بإذن الله، ونتكلم اليومَ عن مناسبة المولد النبوي التي توافق هذا الشهر شهر ربيع الأول، نتكلم عن هذه المناسبة وأهميتها وواجبنا نحوها، فهي مناسبة مولد خير البشر ومن بعثه الله رحمة للعالمين، يقول تعالى: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
لقد ولد في وقت كانت الدنيا فيه تغرق في ظلام الشرك والجاهلية، وكانت جزيرة العرب تعيش أرذل أيامها وأسوأ عصورها، فكانت الأصنام تعبد والخمر تشرَب والبنات توأد، وكانت القبائل يغير بعضها على بعض، وكان بعض العرب يطوفون بالبيت عراة، فولد هذا النبي الكريم الذي أراد الله سبحانه بحكمته أن يرسله إلى الناس كافة بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].
ولد رسول الله يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، واختلف في أي يوم من هذا الشهر ولد، فقيل: إنه ولد في اليوم الثاني من هذا الشهر، وقيل: ولد في اليوم الثامن، وقيل: في اليوم العاشر، وقيل: في اليوم الثاني عشر، وقيل غير ذلك، وسمي عام مولده بعام الفيل نسبة إلى فيل أبرهة الذي جاء لهدم الكعبة، فرده رب البيت عن بيته وأهلك أصحاب الفيل، وخلد الله سبحانه هذه الحادثة بأن أنزل سورة من سور القرآن تتلى منذ أكثر من ألف وأربعمائة سنة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تروى قصة أصحاب الفيل وما حلّ بهم من انتقام العزيز الجليل، وسماها سورة الفيل، يقول سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ [سورة الفيل].
لقد كان مولده ثم بعثته إيذانا ببزوغ فجر جديد على البشرية، تحرم فيه عبادة الأوثان وتطفَأ فيه نار المجوس، ويخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد سبحانه، وتبطل فيه الكثير من الأديان المحرفة. عندما نتكلم عن مولد رسول الله فإن هذا يعني أننا نذكر شمائل هذا النبي وأخلاقه وأوامره ونواهيه وما ينبغي علينا من واجبات نحو هذا كله.
من أهم واجباتنا نحو النبي حبه، فحبه وحب ما جاء به هو عين الإيمان، لهذا يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أنس: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) ، وعن أنس أن رسول الله قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)) أخرجه أحمد والشيخان.
هذا محك وميزان عظيم لا بد للمؤمن أن يحققه، ولا بد أن يتصف به، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في التحفة العراقية: "محبة الله بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين"، ولكن ـ إخوة الإيمان ـ كيف تكون هذه المحبة؟ فكل مسلم يدَّعي حب الله وحب رسول الله ، وليس ثمة على وجه الأرض مسلم يقول بأنه لا يحب الله ورسوله ، فما دليل هذه الدعوى وهذه المحبة؟ ما هو الدليل الذي يتبين به الصادق من الكاذب والمصيب من المخطئ؟
إن هذا الدليل ـ عباد الله ـ سهل يسير وواضح تمام الوضوح، سطره القرآن الكريم وبينه في آية تتلى على مر الزمان ويقرؤها المسلمون من أيام رسول الله وإلى يومنا هذا، يقول سبحانه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:31]. دليل المحبة وبرهانها الاتباع والطاعة، فلا يمكن أن تكون محبة بدون اتباع وطاعة، هذا هو دليل الصدق.
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
إذًا فالإيمان بأن محمدًا رسول الله يقتضي محبته، ومحبته تقتضي اتباعه، قال سفيان الثوري رحمه الله: "المحبّة اتباع الرسول ".
ولكن ـ إخوة الإيمان ـ لننظر في حال الأمة، هل حققت هذه الأمور الواجبة نحو رسول الله حتى تكون صادقة مع الله ورسوله، وحتى تؤدي ما أمرها به الله ورسوله، وحتى تنجو مما حذر منه وتوعدنا به الله ورسوله؟ لا شك كما قلنا أنه لا أحد في الأمة لا يحب رسول الله ، ولكن هل حققت الأمة دليل المحبة ألا وهو الاتباع؟ هل اتبعت الأمة رسولها ؟ هل استنّت بسنته واهتدت بهديه؟ وهل اتبعت تعاليمه النبوية في كل أمورها؟ ولننظر إلى هذه المناسبة العظيمة مناسبة مولده ، هذا اليوم العظيم الذي جعله الله يوم رحمة للعالمين، ماذا فعلت الأمة في هذا اليوم؟ وكيف حولته من يوم نعمة إلى يوم نقمة، من يوم هدوء وسكينة وخشوع إلى يوم إزعاج وضوضاء، من يوم كان إيذانا بإخماد نار المجوس إلى يوم تشتعل فيه الشوارع والأزقة بالنيران؟ هل يُعقل ـ أيها المسلمون ـ أن يكون احتفالنا بالنبيّ الذي أرسله الله رحمة للعالمين فقال عز من قائل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، هل يعقل وهل يجوز أن يتحول هذا اليوم من يوم رحمة ونور إلى يوم تمتلئ فيه المستشفيات بالمصابين من جراء الحرائق والمفرقعات، يوم يرقص فيه الناس ويغنون في الشوارع ويختلط فيه الرجال بالنساء، وتعطل فيه الطرقات ويتلوث فيه الجو بالأدخنة وتحرق فيه ملايين الدينارات؟ هل هذا يُرضي الله سبحانه ويرضي رسوله ؟
ونحن لو سألنا من يفعل هذه الأمور: لماذا تفعل هذا؟ لقال: لأني أحب رسول الله ، ولكن هل هناك أحد أحب رسول الله كحب صحابته له الذين ضربوا المثل الأعلى في حبهم له؟! يقول عمرو بن العاص كما في صحيح مسلم: ما كان أحد أحب إلي من رَسُول اللَّهِ ، ولا أجل في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه. وعندما سُئل زيد بن الدثنة قبل أن تقتله قريش: يا زيد، أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك، قال: والله، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي. ولقد شهد على هذا الحب العدو قبل الصديق، حتى إن أبا سفيان قال عندما كان مشركا: ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا.
هذا هو حب الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله ، وهذا مبلغ تقديرهم له، فلماذا لم يحتفلوا بمولده مثل احتفالنا؟ وكيف يقول من يفعل تلك الأفعال الشائنة التي ذكرناها أنه يفعلها حبا لرسول الله ؟! أليس في هذا اتهام لمن لم يفعل هذه الأفعال من صحابة وغيرهم بأنهم لا يحبون رسول الله ؟!
أيها الناس، إن الاحتفال بمولد رسول الله وذكر مولده لا يكون بهذه الطريقة، بل يكون باتباع سنته ومعرفة سيرته، الاحتفال بمولده لا يكون في يوم في السنة، فهذا بخل عليه ، بل الاحتفال به يكون كل يوم؛ بشكر الله على بعثته وكثرة الصلاة عليه واتباع هديه، الاحتفال به يكون بصيام يوم مولده الذي يأتي كل أسبوع، عن أبي قتادة أن أعرابيا قال: يا رسول الله، ما تقول في صوم يوم الاثنين؟ فقال: ((ذاك يوم ولدت فيه، وأنزل علي فيه)) أخرجه مسلم، فمن أراد الاحتفال الحقيقي بمولد النبي وأراد شكر الله على هذه النعمة حقا فليصم يوم الاثنين من كل أسبوع، هكذا نكون فعلا محتفلين بمولد رسول الله ، وهكذا نكون شاكرين لله حقا على هذه النعمة العظيمة التي أخرجنا بها من الضلالة إلى الهدى ومن الظلام إلى النور.
فاتقوا الله عباد الله، وأعطوا هذا النبي العظيم وهذا الرسول الكريم حقه من التوقير والتعزير والاحترام امتثالا لقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8، 9].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، لقد كانت بعثة رسول الله حدثا كبيرا من أحداث التاريخ، وكان مولده تمهيدا لهذه البعثة التي أخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور، وعلى الأمة واجب عظيم نحو هذا النبي يتمثل في تعظيمه وتوقيره وحبه وطاعته واتباع هديه، فقد أرسله الله ليطاع فقال سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ [النساء:64]، وجعل الهداية في طاعته فقال: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]، وجعل الفتنة والعذاب في مخالفة أمره فقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
فمن واجبنا نحو هذا النبي أن لا نسيء إلى مناسبة تمثل مولده، فنجعلها كرنفالا أو مهرجانا تختلط فيه الأمور، ونتشبه فيه بالنصارى، وتضيع فيه على الأمة الأموال الكثيرة في وقت تحتاج فيه الأمة إلى كل درهم وكل دينار لتصد بها هذه الهجمة وهذا التكالب الذي تتكالبه الأمم عليها، لا بد أن يعلم كل أب يشتري لأبنائه المفرقعات وغيرها مما لا فائدة فيه في هذه المناسبة العظيمة، لا بد أن يعلم أنه يطمس عن أبنائه المعنى الحقيقي لهذه المناسبة والمغزى العظيم من هذا الحادث الجلل، وأنه ينفق ماله فيما لا يرضاه الله سبحانه، فهو القائل سبحانه: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِل [البقرة:188]، وهو القائل: وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27]، كما أن رسوله يقول أيضا: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟)) أخرجه الترمذي عن ابن مسعود.
فاحذروا أن تنفقوا أموالكم فيما لا يرضاه الله سبحانه، واحذروا أن تجعلوا هذه المناسبة ذريعة إلى فعل المفاسد والنواهي، وتقيدوا بهدي نبيكم وهدي أصحابه رضوان الله عليهم، حتى لا تخالفوا أوامر ربكم سبحانه، وحتى تلقوا نبيكم وهو عنكم راض.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا برحمتك شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يعز من عاديت، ولا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت...
(1/3734)
سلامة الصدر
الأسرة والمجتمع, الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سلامة الصدر من لوازم التقوى. 2- صور مشرقة لسلامة الصدور عند السلف الصالح. 3- فضائل سلامة الصدر. 4- علامات سلامة الصدر. 5- أسباب سلامة الصدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن من لوازم التقوى سلامة الصدر من الغل والحقد والحسد والضغائن والرذائل، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]. ولا يكون صلاح ذات البين إلا بسلامة الصدر من تلك الآفات.
لذا فإن دين الإسلام قد حرص حرصًا شديدًا على أن تكون الأمة أمةً واحدة؛ في قلبها وقالبها، تسودها عواطف الحب المشترك، والود الشائع، والتعاون على البر والتقوى، والتناصح البناء الذي يثمر إصلاح الأخطاء، مع صفاء القلوب وتآلفها، دون فرقة وغل وحسد ووقيعة وكيد وبغي.
وقد جاءت الآيات القرآنية والآثار النبوية منسجمة متناسقة متضافرة لتحقيق ذلك المقصد الشرعي الكبير.
فمن تلك الآيات قول الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]. فالأخوة الإيمانية تعلو على كل خلاف مهما اشتدت وطأته واضطرمت شدته وبلغ حد الاشتباك المسلح.
أما الأحاديث فمنها قوله : ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) رواه الشيخان [1] ، ومنها قوله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه. رواه الشيخان [2].
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في سلامة القلوب وطهارة الصدور، فكان لهم من هذه الصفة أوفر الحظ والنصيب، فلقد كانوا رضي الله عنهم صفًا واحدًا، يعطف بعضهم على بعض، ويرحم بعضهم بعضًا، ويحب بعضهم بعضًا، كما وصفهم جل وعلا بذلك حيث فقال: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، وكما قال جل ذكره في وصفهم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29].
ولقد كان لسلامة الصدر عندهم منزلة كبرى، حتى إنهم جعلوها سبب التفاضل بينهم، قال إياس بن معاوية بن قرة عن أصحاب النبي : كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدرًا وأقلهم غيبة. وقد قال سفيان بن دينار لأبي بشر أحد السلف الصالحين: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا، قال سفيان: ولم ذاك؟! قال أبو بشر: لسلامة صدورهم.
أيها المؤمنون، إن المرء لا ينقضي عجبه من ذلك الجيل الصالح الكريم، حيث إن قلوبهم بقيت صافية وسليمة طيبة السريرة رغم ما وقع بينهم من فتن كبار، أشهرت فيها السيوف، واشتبكت فيها الصفوف، فلا إله إلا الله ما أطيب المعشر وأكرمه.
ومن تلك المواقف ما حفظه التاريخ عن الشعبي رحمه الله قال: رأى علي بن أبي طالب طلحة بن عبيد الله في وادٍ مُلقى بعد وقعة الجمل التي كانت بين علي وبين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فنزل فمسح التراب عن وجه طلحة وقال: (عزيز علي ـ يا أبا محمد ـ أن أراك مجندلاً في الأودية تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عُجري وبجري).
أيها المؤمنون، إن سلامة الصدر خصلة من خصال البر عظيمة، غابت رسومها، واندثرت معالمها، وخبت أعلامها، حتى غدت عزيزة المنال، عسيرة الحصول، مع ما فيها من الفضائل والخيرات. وها أنا ذا أذكر بعض فضائلها، عسى أن تكون حافزة لنا على الأخذ بها والحرص عليها، فإنه قبل الرماء تملأ الكنائن.
فمن فضائل سلامة الصدر أنها صفة أهل الجنة، الذين هم خير أهل ومعشر، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
ومن فضائل سلامة الصدر أن صاحبها خير الناس وأفضلهم، فإن النبي قد سئل: أي الناس أفضل؟ فقال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان)) ، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال : ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد)) رواه ابن ماجه بسند لا بأس به [3]. فبدأ بالتقوى التي تثمر صفاء القلوب وسلامتها من الآفات والرذائل.
أيها المؤمنون، إن من فضائل سلامة الصدر أنها معينة للقلب على الخير والبر والطاعة والصلاح، فليس أروح للمرء ولا أطرد للهّم ولا أقرّ للعين من سلامة الصدر على عباد الله المسلمين.
ومن فضائل سلامة الصدر أنها تقطع سلاسل العيوب وأسباب الذنوب، فإن من سلم صدره وطهر قلبه عن الإرادات الفاسدة والظنون السيئة عف لسانه عن الغيبة والنميمة وقالة السوء.
ومن فضائل سلامة الصدر أن فيها صدق الاقتداء بالنبي ، فإنه أسلم الناس صدرًا، وأطيبهم قلبًا، وأصفاهم سريرة. وشواهد هذا في سيرته كثيرة، ليس أعظمها أن قومه أدموا وجهه يوم أحد، وشجوا رأسه، وكسروا رباعيته، فكان يمسح الدم ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
[1] أخرجه البخاري في الأدب (5604), ومسلم في البر والصلة (4646).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5567), ومسلم في البر والصلة (4684).
[3] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4206) وسنده لا بأس به.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله، وطيبوا قلوبكم، وطهّروها من الآفات كما أمركم الله تعالى حيث قال: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام:120]، فإن سوء الطوية وفساد الصدور ومرض القلب من باطن الإثم الذي أمرتم بتركه.
أيها المؤمنون، اعلموا أنه لا نجاة ولا فلاح للعبد يوم القيامة إلا بأن يقدم على مولاه بقلب طيب سليم، كما قال الله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، وصاحب القلب السليم هو الذي سلم صدره وعوفي فؤاده من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدينا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعد عن الله تعالى.
أيها المؤمنون، إن لسلامة الصدر أسبابًا وطرقًا لا بد من سلوكها، فمن تلك الأسباب:
الإخلاص لله تعالى، فعن زيد بن ثابت مرفوعًا: ((ثلاث لا يُغِل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسملين)) رواه أحمد بسند صحيح [1]. قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلال الثلاث تُستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر".
ومن أسباب سلامة الصدر الإقبال على كتاب الله تعالى الذي أنزله شفاء لما في الصدور، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، فكلما أقبلت ـ يا عبد الله ـ على كتاب الله تلاوة وحفظًا وتدبرًا وفهمًا صلح صدرك وسلم قلبك.
ومن أسباب سلامة الصدر دعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانك المؤمنين، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
أيها المؤمنون، إنّ من طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) [2].
وقد أجاد من قال:
قد يمكث الناس دهرًا ليس بينهم ودّ فيزرعه التسليم واللطفُ
ومن أسباب سلامة الصدر الابتعاد عن سوء الظن، فإنه بئس سريرة الرجل، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]. وقد قال النبي : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) رواه الشيخان [3]. فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن؛ لأنه الذي عنه تصدر سائر الآفات المذكورة في الحديث، فالواجب عليك ـ يا عبدالله ـ أن تطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
أيها المؤمنون، هذه بعض أسباب صلاح القلب وسلامة الصدر، فإنه من صدق في طلبها أدركها، فـ:
لو صحّ منك الهوى أرشِدتَ للحيَل
اللهم إنا نسألك صدورًا سليمة، وقلوبًا طاهرة نقية، اللهم طهر قلوبنا من الشرك والشك والنفاق وسائر الآفات.
[1] أخرجه أحمد من حديث زيد بن ثابت (12871) وسنده صحيح.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (81).
[3] أخرجه البخاري في الأدب (5604), ومسلم في البر والصلة (4646).
(1/3735)
سيد الأيام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرف الأمة المحمدية. 2- الخصائص الكونية ليوم الجمعة. 3- الخصائص الشرعية ليوم الجمعة. 4- آداب وسنن متعلقة بيوم الجمعة. 5- اصطفاء الله تعالى واختياره لما يشاء من العباد والأزمان والأماكن. 6- أخطاء ومخالفات تقع ليلة الجمعة. 7- بدعة ليلة السابع والعشرين من رجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله خالق كل شيء ومبدعه، له ما في السماوات وما في الأرض، يخلق ما يشاء ويختار، ما كان لهم الخيرة، سبحانه وتعالى عما يشركون، أحمده تعالى حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه المباركين، وعلى سائر عباد الله الصالحين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى هذه الأمة الإسلامية على سائر الأمم، ونحلها وخصها بخصائص كثيرة وفضائل عديدة ومناقب عظيمة، فبعث فيها خاتم رسلِه، وأنزل إليها أعظم كتبه، ودلها على أحسن شرائعه، حتى غدت خير أمة أخرجت للناس.
ومما خص الله تعالى به هذه الأمة وميزها به هذا اليوم المجيد العظيم؛ يوم الجمعة الذي هو سيد الأيام، وخيرة الله منها، إذ خصه الله سبحانه بكثير من الحوادث الكونية والشعائر الدينية التي تميز بها عن سائر الأيام.
فمن خصائصه الكونية أنه خير يوم طلعت فيه الشمس، وأن الله تعالى قدر في هذا اليوم أهم حوادث الخلق وأبرز وقائع التاريخ الكبار؛ ففيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خيرُ يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها)) [1] ، وفي رواية له: ((ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)) [2] ، وعند أبي داود بسند لا بأس به قال : ((وما من دابة إلا وهي مُسِِيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقًا من الساعة، إلا الجن والإنس)) [3].
وقد فرض الله تعالى على عباده تعظيم يوم الجمعة، فضلّ اليهود عليهم لعنة الله فعظموا يوم السبت، وضلّ النصارى لعنهم الله فعظموا يوم الأحد، وهدى الله أمة الإسلام إلى خير الأيام وسيدها يوم الجمعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمِ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ)) [4]. فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وخصنا بأشرف الأيام.
وأما خصائصُ يوم الجمعة الدينية الشرعية فكثيرة متنوعة، فقد خص الله هذا اليوم بآداب شرعية وشعائر دينية تعبدية واجبة ومستحبة، فيجب على المسلمين أن يحتفوا بهذه الخصائص، وأن يهتموا بها علمًا وعملاً.
فمن أبرز خصائص هذا اليوم الشرعية صلاة الجمعة، التي فرضها الله على كل مسلم بالغ ذكر حر، ودليل وجوبها أمر من الله تعالى بالسعي إليها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9].
وقد ورد التحذير الشديد عن النبي في حق من تهاون بها أو تركها، ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله على أعواد المنبر يقول: ((لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجُمُعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين)) [5]. فترك الجمعة سبب للختم على القلب، وهذا من أعظم العقوبات وأشدها، فإذا ختم عليه ضعفت بصيرته وعمي، وإذا عمي القلب أظلم وانتكس، وفاتته خيرات الدنيا والآخرة.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى صلاة الجمعة سببًا لتكفير السيئات، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر)) [6] ، وعنه أيضًا: ((من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة، فاستمع وأنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا)) [7]. ولما كانت هذه الصلاة بهذه المنزلة وهذه المكانة فقد خصت بآدابٍ وأحكام، منها ما هو سابق لها، ومنها ما هو في أثنائها. أما الآداب السابقة:
فمنها: سنية الاغتسال والتنظيف والتطيب قبلها، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) متفق عليه [8]. وقد أخرج الإمام أحمد بسند جيد عن أوس بن أوس الثقفي قال: قال رسول الله : ((مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَغَسَّلَ، وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَدَنَا وَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا أَجْرُ سَنَةٍ؛ صِيَامُهَا وَقِيَامُهَا)). ويتأكد الاغتسال في حق من به رائحة يحتاج إلى إزالتها، ويستحب تأخيره إلى ما قبل خروجه للصلاة، وأما استعمال الطيب فقد قال النبي : ((حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَتَسَوَّكُ، وَيَمَسُّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ لِأَهْلِهِ)) أخرجه أحمد [9].
ومن الآداب السابقة للصلاة يوم الجمعة لبس أحسن الثياب التي يقدر عليها، فعن عبد الله بن سلام أنه سمع النبي يقول على المنبر يوم الجمة: ((ما على أحدكم لو وجد أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)) أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند جيد [10].
ومن الآداب أيضًا: التبكير في المجيء إلى صلاة الجمعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ، وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ، وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ)) متفق عليه [11].
ومن المؤسف والمحزن أنك تدخل المسجد قبل مجيء الإمام بوقت قليل، ولا ترى إلا عددًا يسيرًا من المصلين، حتى إذا قارب الإمام أن يفرغ من خطبته أو قلْ: فرغ منها اكتظت المساجد، وغصت بالمصلين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن الآداب المشروعة أثناء صلاة الجمعة: الإنصات والاستماع للخطبة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: "أنصت" والإمام يخطب فقد لغوت)) متفق عليه [12]. فالكلام أثناء الخطبة حرام لا يجوز، حتى ولو كان أمرًا بالمعروف أو نهيًا عن المنكر، إلا أن يكلّم الإمامَ نفسَه، فالواجب الإنصات وترك المشاغل عن الخطبة، فليست صلاة الجمعة ملتقى لتبادل الأخبار، ولا مكانًا لتداول الكلام، بل هي شعيرة من شعائر الدين، لإقامة ذكر الله تعالى.
ومن الآداب الدينية أثناء الخطبة: أن من جاء متأخرًا يجلس حيث انتهت الصفوف، ولا يجوز له تخطي رقاب الناس، فقد جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب فقال له: ((اجلس فقد آذيت)) رواه أبو داود بسند لا بأس به [13]. وهذا يدل على تحريم التخطي، إذ إن أذية المسلمين محرمة. ومن رغب في الخير وفي الصفوف الأولى فليبادر إلى الصلاة ولا يتأخر، فإن الفضائل والدرجات والمراتب لا تحصل بالكسل، بل هي كما قال الأول:
بعيد عن الكسلان أو ذي ملالة وأما من المشتاق فهو قريب
ومن الآداب الشرعية أيضًا: أن من دخل والإمام يخطب فلا يجلس حتى يصلي ركعتين خفيفتين، ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة والنبي يخطب فجلس، فقال رسول الله : ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطُب فليركع ركعتين، وليتجَوَّز فيهما)) [14].
رزقنا الله وإياكم التأدب بآداب الشرع، والأخذ بأحكامه ظاهرًا وباطنًا.
[1] أخرجه مسلم في الجمعة (1410).
[2] أخرجه مسلم في الجمعة (1411).
[3] أخرجه أبو داود في الصلاة (882), وأحمد من حديث أبي هريرة (9912), ومالك في النداء للصلاة (222), والترمذي في الجمعة (450).
[4] أخرجه البخاري في الجمعة (827), ومسلم في الجمعة (1412).
[5] أخرجه مسلم في الجمعة (1432).
[6] أخرجه مسلم في الطهارة (344).
[7] أخرجه مسلم في الجمعة (1419).
[8] أخرجه البخاري في الأذان (811), ومسلم في الجمعة (1397).
[9] أخرجه أحمد (15802).
[10] أخرجه أبوداود في الصلاة (910), وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة (1086).
[11] أخرجه البخاري في الجمعة (877)، ومسلم في الجمعة (1416).
[12] أخرجه البخاري في الجمعة (882)، ومسلم في الجمعة (1404).
[13] رواه أبوداود بسند لا بأس به في الصلاة (943).
[14] أخرجه مسلم في الجمعة (1449).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا إلى أحسن الأديان وسيد الأيام، وخصنا بذلك دون سائر الأنام، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن من الخصائص الشرعية التي خُصَّ بها هذا اليومُ أن فيه ساعةً لا يوافقها عبد مسلم، يدعو الله تعالى من خير الدنيا والآخرة، إلا أجاب الله دعاءه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إِنَّ فِي الْجُمُعَةِ لَسَاعَةً، لا يُوَافِقُهَا مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا إِلا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ)) وَقَالَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا يُزَهِّدُهَا [1]. فيا لها من نفحة عظيمة، وفرصة جليلة، ومنحة كريمة، يفتح فيها الله تعالى أبوابه لعباده ليسألوه، فالمحروم من حرم فضلَ هذا اليوم وبركة هذه الساعة المباركة، التي تتكرر علينا كل أسبوع، وأرجح الأقوال في تحديد وقت هذه الساعة أنها ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ ـ يُرِيدُ سَاعَةً ـ، لا يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا إِلا آتَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ)) [2].
ومن خصائص يوم الجمعة: أنه يُسن فيه قراءة سورة الكهف، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين)) [3].
ومن خصائص هذا اليوم: أن الصلاة على النبي فيها مزيد فضل، فعن أوس بن أوس الثقفي قال: قال رسول الله : ((من أفضل أيامكم يوم الجمعة... فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليَّ)) رواه أحمد وغيره بسند لا بأس به [4].
فأكثروا ـ أيها المؤمنون ـ من الصلاة والسلام على نبيكم محمد ، فإنه من صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
أيها المؤمنون، اعلموا أن الله العليم الخبير سبحانه وتعالى قد خص بعض البقاع والأمكنة وبعض الأوقات والأزمنة بمزيد فضل دون غيرها من الأماكن والأزمان، ولله تعالى في ذلك حكمة بالغة، قال الله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68 ]، فهو سبحانه يجتبي من خلقه ما يشاء، ويخصه بما يشاء من الفضائل والخصائص، فيجب تعظيم ما عظمه الله سبحانه وتعالى من الأمكنة والأزمنة، فإن من امتهن ما عظمه تعالى يوشك أن تنزل به عقوبته، أو يحل به سخطه، قال الله تعالى في حق من لم يعظم حرمه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، وقال في حق الأشهر الحرم: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36].
وهذا اليوم يوم الجمعة عظمه الله تعالى، واختاره على الأيام، فيجب تعظيمه بالإكثار من الطاعات المشروعة فيه، والتخفف من المعاصي والسيئات، فإن الطاعة تضاعف في المكان المبارك والزمان الفاضل، والمعصية تعظم في المكان الفاضل والزمان المبارك، فطاعة يوم الجمعة وليلتها ليست كطاعة في غيره من الليالي والأيام، إلا أنه لا تخص ليلتها بقيام، ولا يومها بصيام، دون سائر الليالي والأيام، والمعصية في يوم الجمعة وليلتها ليست كالمعصية في غيره. وإنه لمما يفطر القلب ويدمع العين أن ترى كثيرًا من المسلمين جعلوا ليلة الجمعة ويومها محلاً ومرتعًا للمعاصي والسيئات، فليلة الجمعة عند كثير من الناس تُعمر بالمعاصي والذنوب، وتُحيى بالسهر على المحرمات وألوان من السيئات، ولعمرو الله إن هذا لمما يغضب الله تعالى، إذ كيف يرضى ربنا سبحانه علينا وقد جعلنا خير أيامه وأفضلها عنده محلاً لمعصيته وتعدي حدوده؟!
وقد ذكر بعض أهل العلم أن سنة الله تعالى في تعجيل عقوبة من ينتهك حرمة هذا اليوم بالمعاصي والذنوب مشهودة، عافانا الله من عقوبته وعذابه وسخطه، وجعلنا من المسارعين إلى مغفرته وطاعته واغتنام مواسم فضله ونفحات كرمه.
ومما أحدثه بعض الناس الاحتفال بليلة السابع والعشرين من رجب وقيامها، والإكثار من العبادة فيها، زعموا أنها ليلة الإسراء، ولا شك أن ما يفعله هؤلاء في هذه الليلة لا أصل له في الدين، وهو من البدع المردودة على أصحابها، وهي لا تزيدهم من الله إلا بعدًا، فإننا نقول في الجواب على فعل هؤلاء:
أولاً: إنه لم يثبت بالنقل الصحيح تحديد الشهر الذي أسري فيه بالنبي ، فضلاً عن تحديد ليلة الإسراء.
ثانيًا: إنه لو ثبت أنه أسري به في شهر رجب، في ليلة السابع والعشرين، فإن هذا لا يسوغ الاحتفال بهذه الليلة، ولا خصها بشيء من العبادات أو الطاعات، بل هي ليلة كسائر الليالي، وذلك أن النبي والصحابة والتابعين من بعده لم ينقل عنهم تخصيصها بشيء، وهم أحرص منا على الخير والطاعة، فالواجب التمسك بما جاء به السلف الصالح رضوان الله عليهم.
فخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
[1] أخرجه البخاري في الدعوات (5921), ومسلم في الجمعة (1407).
[2] أخرجه أبوداود بسند لا بأس به في الصلاة (884).
[3] رواه الحاكم في مستدركه (3392), والبيهقي (5792) بإسناد لا بأس به.
[4] أخرجه أحمد من حديث أوس بن أوس الثقفي (15575).
(1/3736)
شهر النصر
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ, فقه
الصوم, القتال والجهاد, المسلمون في العالم, غزوات
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غزوة بدر. 2- فتح مكة. 3- رمضان شهر الصبر والتقوى. 4- حال الأمة الإسلامية اليوم. 5- وصف مخططات أعداء الدين. 6- أسباب النصر على الأعداء. 7- واجبنا نحو إخواننا المستضعفين في دينهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقو الله أيها المؤمنون، واعلموا أن شهر رمضان لم يكن عند سلفنا شهر صيام وقيام ودعاء واعتكاف وعمرة وإكثار من العبادة فحسب، بل كان شهر جهاد ومجاهدة ودعوة وعمل، فقد سطروا فيه أعظم الانتصارات وأكبر الفتوحات، وإن ليالي هذا الشهر وأيامه تحكي ما حققته الأمة من انتصارات وأمجاد، فقد كان في هذا الشهر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في غزوة بدر الكبرى التي هي شامة في جبين التاريخ.
إذا قامت الدنيا تعد مفاخرًا فتاريخنا الوضاح من بدر ابتدأ
فقد فرق الله في هذه الغزوة بين الحق والباطل، فنصر الله دينه، وأظهر نبيه، وأطاح رؤوس الكفر والشر والظلم والطغيان، قال الله تعالى: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]. فكانت هذه الغزوة صفحة من صفحات المجد المشرق في تاريخ هذه الأمة.
وقد منّ الله تعالى على الأمة في هذا الشهر أيضًا ففتح بيته لنبيه، وطهّره من أوضار الشرك ولوثات الكفر ومظاهر الظلم والاستكبار، فكان حديثًا عظيمًا كبيرًا ليس في تاريخ الأمة فحسب، بل وفي تاريخ البشرية كلها، كيف لا؟! وقد أعزّ الله بهذا الفتح دينه ورسوله وحزبه، واستنقذ به بلدَه وبيته من أيدي الكفار والمشركين، وقد استبشر بهذا الفتح أهل السماء، وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجًا، وانحسرت به الوثنية في جزيرة العرب. وما انفك هذا الشهر المعطاء أن يكون محلاً ومضمارًا لأمجاد وبطولات وانتصارات لهذه الأمة عبر التاريخ، وهذا يؤكد أن شهر الصيام له أثر بالغ في تحقيق النصر وصناعة المجد، وكيف لا يكون كذلك؟! وهو شهر الصبر والتقوى؛ أما الصبر فإن من الكلام المأثور: "الصوم نصف الصبر"، فالصوم يربي المسلم على ترك المحاب والملاذ والشهوات، ولذا قال النبي : ((قال الله تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وأكله وشربه من أجلي)) [1] ، أما التقوى فإن الله إنما فرض الصيام على عباده لتحقيقها، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. وبالصبر والتقوى يحقق العبد أول درجات النصر الكبرى وأسبابه، قال الله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [آل عمران:120]. فإذا صبرت الأمة واتقت الله سبحانه وتعالى وقاها شر عدوها ودافع عنها، إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38].
وهذا مما يؤكد أهمية تحقيق المقصود من الصيام، فإن المتقدمين لما حققوا غايات الصيام ومقاصده جعل الله شهر صومهم شهر عِزّ ونَصر وتمكين ومجد. ولما ضعف صبر الأمة وقلّ تقواها وتمسكها بدينها وتركت الجهاد جعلها الله غرضًا لأعدائها، فأحل بها الكفر أعظم الضيم، وأنزل بها الأعداء ألوان الكيد والتعذيب:
أحل الكفر بالإسلام ضيمًا يطول به على الدين النحيب
فحقٌّ ضائع وحِمى مباح وسيف قاطعٌ ودم صبيب
أيها المؤمنون، إن المتأمل لحركة المد والجزر في تاريخ الأمة لا يعتريه شك أن الأمة اليوم تمر بأصعب أيامها وأشد أحوالها، فإنه وإن كان قد نزل بالأمة نكبات وحلت بها الكوارث والأزمات فإنها لم تزل على ثقة بدينها وربها، معتزة بالإسلام، فخورة بالإيمان، لذا فإنها سرعان ما وثبت من سباتها وانقشعت كروبها بمراجعة دين ربها.
أما اليوم، فإن كثيرا من المسلمين أُصِيبوا في إيمانهم ودينهم، واجتمع عليهم أعداؤهم، فرموهم عن قوس واحدة، كما أخبر النبي حيث قال: ((يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُق كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا)) ، قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: ((أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ)) ، قَالَ: قُلْنَا: وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: ((حُبُّ الْحَيَاةِ، وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ)).
وواقع الأمة اليومَ يجسّد هذا الحديث ويوضحه، فأعداد المسلمين كثيرة، ولكنها لا تفرح صديقًا، ولا تخيف عدوًا، فهم غثاء كغثاء السيل، وأما أعداؤنا من اليهود والمشركين والنصارى والمنافقين فقد جمعوا فلولهم، ورصوا صفوفهم، وجمعوا كلمتهم على حرب الأمة وتدميرها وإذلالها ونهب ثرواتها.
فالوثنيون والملحدون ـ ممثلون بالعالم الشرقي ـ يسحقون المسلمين بالحديد والنار، يتربصون بالأمة الدوائر، ويكيدون لها المكائد، ولا يجدون فرصة ينفّسون فيها عن أحقادهم إلا فعلوا، وما تخفي صدورهم أكبر، وما يفعلونه بإخواننا في كشمير وفي الهند وفي بورما وفي بلاد الشيشان أكبر شاهد على ضراوة عداوتهم.
أما الصليبيون ـ ممثلون بالعالم الغربي الكافر ـ فهم ورثة الأحقاد والضغائن على الأمة، فالصليبيون ضائقون بالإسلام منذ ظهوره، وقد اشتبكوا مع المسلمين في حروب طويلة مضنية، إلا أن التاريخ لم يشهد حدة في العداء وخبثًا في الأداء وإصرارًا وتصميمًا على تدمير الأمة وإفنائهما كما يجرى منهم اليوم، فها هم خبراؤهم وكبراؤهم وساستهم يتنادون لحرب الإسلام، وما هذا الذي يجري في بلاد البوسنة والهرسك وغيرها من بلاد الإسلام إلا ثمرة أعمالهم وجني أحقادهم، وما هذه الهيمنة السياسية والتسلط الاقتصادي والاستكبار الحضاري على المسلمين إلا قليل من كثير وغيض من فيض، وقد صدق القائل:
عاد الصليبيون ثانية وجالوا في البطاح
عاثوا فسادًا في الديار كأنها كلأ مباح
أما اليهود فقد زرعوا دولتهم في قلب العالم الإسلامي، وهم سماسرة الكيد والمكر والخبث، وقد ضربوا أفظع الصور في تشريد المسلمين وإذلالهم والتسلط عليهم والتلاعب بهم وانتهاك مقدساتهم، ولا عجب في ذلك فهم الذين قال الله عنهم: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82]، وهم الذين آذوا رسول الله ودبروا له المكائد ونقضوا العهود والمواثيق، وهل ما يجري اليوم في فلسطين الغالية وفي غيرها من البلاد إلا من صنائعهم؟! فعجبًا لمن نسي الكتاب، وركض وراء السراب، بطلب الصلح أو السلم مع اليهود أرباب الغدر والمكر.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إيمان وإسلام
أما المنافقون فهُم أشدّ الأعداء خطرًا وأعظمهم فتكًا، لذا قال الله تعالى عنهم: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4]، لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]، لبسوا مسوح الضأن على قلوب الذئاب، فالظواهر ظواهر الأنصار، والبواطن قد تحيزت إلى الكفار، دعاة على أبواب جهنم، يصدّون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا، تلونت راياتهم، وتشكلت شعاراتهم، فتارة قوميون، وتارة وطنيون، وتارة علمانيون، تعددت الأسماء والكفر واحد، عاثوا في الأمة فسادًا ودمارًا، فهل التغريب الذي تعيشه الأمة إلا من صنعهم؟! وهل تنحية الشريعة وتطبيق القوانين الوضعية إلا من أعمالهم؟! وهل محاربة الدين وأهله وعلمائه ودعاته إلا تجارتهم؟! فللّه كم من راية للدين قد نكسوها؟! وكم من شعيرة من شعائره قد عطلوها؟! وكم من عالم أو عامل أو داعية لله قد آذوه؟! فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون، هؤلاء هم أعداء دينكم الظاهرون والمستترون، سعوا إليكم بالبوائق والأزمات، وجرمكم الذي اقترفتموه أنكم رضيتم بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8].
[1] أخرجه البخاري في كتاب التوحيد (6938).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إن أمتكم مغزوةٌ من داخلها، ومحاربة من خارجها، أما غزوها من الداخل فذلك بالمنافقين المتربصين؛ من العلمانيين وأشياعهم الذين أضعفوا إيمان الأمة بربها ودينها بشبهاتهم وشهواتهم.
وأما حربها من خارجها فبهذا التداعي العالمي لأمم الكفر من اليهود والنصارى والمشركين والملحدين على أمة الإسلام، ولن تنجو الأمة من هذين الشبحين إلا بإقبالها على ربها، ورجوعها إلى دينها، وإعلائها رايات الجهاد بأنواعها؛ جهاد النفس وجهاد العُصاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد المنافقين وجهاد الكفار، فإن ما أصاب الأمة ما أصابها إلا لما هجرت ظهور الخيل وأخذت بأذناب البقر، ويدلّ على ذلك ما رواه أبو داود وغيره بإسناد جيد عن عبد الله بن عمر عن النبي قال: ((إذا تبايعتم بالعِينَة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فعلينا ـ أيها الإخوة ـ الأخذ بأسباب النصر وسننه للخروج من مآسي اليوم وتحقيق آمال الغد، فإن النصر لا ينزل اعتباطًا، ولا يخبط خبط عشواء، بل هو وفق سنن وقوانين مضبوطة كسير الشمس.
فمن هذه السنن أن تعلم أن النصر من عند الله تعالى، كما أخبرنا مولانا حيث قال: وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [آل عمران:126]، فمهما طلبنا النصر من غيره أذلنا الله وخيب سعينا، وما أحوجنا إلى أن نجأر إلى الله تعالى بما قاله الأول:
فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى عليهم وهل إلا عليك المعول؟!
ومن أسباب النصر أن ننصر الله تعالى بأقوالنا وأعمالنا وقلوبنا، فإن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. ونصرنا لله تعالى يكون بتعظيم دينه وامتثال أمره وإعلاء كلمته وتحكيم شرعه والجهاد في سبيله، قال الله تعالى في بيان المستحقين للنصر: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
ومن سنن النصر أنه آتٍ لا محالة للمؤمنين الصادقين، وأن التمكين للإسلام متحقق رغم العوائق والعقبات، فالدين دين الله، والله ناصر دينه وأولياءه، قال الله تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51]. لكن هذا الوعد لا يعني أن لا يبتلى المؤمنون بالنكبات والأزمات، ولا يعني أن لا تصاب الأمة بالمصائب والكوارث، بل كل هذا لا بد منه، ليميز الله الخبيث من الطيب، قال الله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
وقد يبتلي الله تعالى الأمة بتأخير النصر أو تمكين الأعداء بسبب الذنوب والمعاصي، قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، فإذا أصررت أنا وأنت على تقصيرنا وذنوبنا فهل نرجو أن يصلح الله الأحوال ويرفع عنا هذا الذل والصغار والانكسار؟! إن هذا لمن المحال، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11]. فإن لم يكن منا نزوعٌ عن الذنوب وإقلاع عن المعاصي ونصرٌ للدين وأهله، فإن الله ينصر دينه بغيرنا، قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:11].
أيها الإخوة المؤمنون، اعلموا أن من أقل ما يجب علينا تجاه إخواننا أن نشعر بما يشعرون به من ألم وضيق، فإن النبي قال: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثلُ الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) متفق عليه.
وإن من واجبنا تجاه إخواننا أن ننصرهم بما نستطيع من مال، ونعينهم به على جهاد أعدائهم وأعدائنا، ونكسو أولادهم، ونطعم جائعهم، ونخلفهم في أهليهم وذويهم، وهذا هو أقل ما يجب علينا تجاههم، فأنفقوا في سبيل الله فإنها من أعظم النفقات، قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، وقال : ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه الرجل على دابته في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) رواه مسلم.
وما زال السلف الصالح رضي الله عنهم يبذلون جهدهم في الإنفاق في سبيل الله، والتقرب إلى الله تعالى بمساعدة الغزاة والمجاهدين، وإدخال السرور عليهم، بما تصل إليه استطاعتهم؛ قليلاً كان أو كثيرًا، حتى إن بعض نسائهم تصدقت بشعرها عقالاً لفرس في سبيل الله، وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38].
(1/3737)
دروس من التاريخ الإسلامي
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم, محاسن الشريعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
2/1/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- القضايا الحولية والموضوعات الموسمية. 2- الاتعاظ بمضي عام واستقبال عام. 3- دعوة لقراءة التأريخ الإسلامي. 4- محاسن الإسلام. 5- لا اجتماع ولا وحدة إلا برابط العقيدة الإسلامية. 6- الإصلاح من الداخل. 7- ضرورة التصدي لظاهرة الإرهاب. 8- أين دروس الهجرة وعبرها؟ 9- لا تمكين إلا بجماعة. 10- لا بد من وقفات تأمل ومحاسبة. 11- فضل شهر الله المحرم وصيامه. 12- التأكيد على صيام يوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوَى الله عز وجلّ، فمن رامَ خيرًا غفيرًا وأراد رزقًا وفيرًا ونشد مَقامًا كبيرًا فعليه بتقوى الله، فمن حقَّقها حقَّق في الدنيا مجدًا كثيرًا، وجزاه ربّه في الآخرة جنّة وحريرًا ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، وعلى إثر هذه الوصية الجامعةِ نبارك لأمتنا الإسلامية بإشراقةِ شمسِ هذا العام الهجريّ الجديد العامِ السادس والعشرينَ بعد الأربعمائة والألف من هجرة المصطفى ، ونبتهلُ إلى المولى جلَّ في علاه أن يُهلَّ هذا العامَ على أمّةِ الإسلام بالأمن والأمان، والسلامة والإسلام، والتوفيقِ لما يحبّه ويَرضاه، فإنّه إذا استُعين أعان، وأن يجعلَ هذا العامَ عامَ نصر للإسلامِ والمسلمين في كلّ مَكان، وأن يَعمَّ بالخير والعَدل والسّلام كافّةَ بني الإنسان، وأن يجعلَ حاضرَ أيّامنا خيرًا من ماضيها، ومستقبَلها خيرًا من حاضرِها، وأن يحفظَ أمّةَ الإسلام من شرور الفتَن والحوادِث وغوائلِ المحن والكوارث وظواهِرِ العنفِ والإرهاب، إنّه سبحانه المولى الكريم الوهّاب.
معاشرَ المسلمون، في ظلِّ ازدلاف الأمّة إلى سنةٍ جديدة وتطلُّعها لأوضاعٍ مستقبَليّة مشرقةٍ رغيدةٍ تبرز بجلاء قضايا حوليّة موسميّة، جديرةٌ بالإشادة والتّذكير، وحفيّةٌ بالوقوفِ والتّبصير، علّها تكون محرِّكا فاعلاً يستنهِض همما، ويشحَذ عزائمَها لمراجعةِ ذاتها وتدقيق حساباتها وتحديد رؤاها ومواقفها وتقويم مسيرتها؛ لتستعيدَ تأريخَها المجيد ومجدَها التليد وما امتازت به مِن حضارةٍ عَريقة وعالمية فريدة، بوّأتها في الطّليعةِ بَين أممِ الأرضِ جميعًا والإنسانيّة قاطِبة.
إخوةَ الإيمان، إنّ أجلى قضايا المناسبةِ تكمُن في وقفةِ المراجعة والمحاسبة، فاستقبالُ الأمّة لعامٍ جديد هو بمجرَّدِه قضيّةٌ لا يُستهان بها، وإن بدا في أنظارِ بعض المفتونين أمرًا هيِّنًا، لطولِ الأمل والغفلةِ عن صالح العمل، وإنَّ في مراحلِ العمُر وتقلّبات الدّهر وفجائع الزمان لعِبَرًا ومزدجرًا ومَوعِظة ومُدّكرًا، يحاسِب فيها الحصيف نفسَه، ويراجع مواقفَه، حتى لا يعيشَ في غَمرة ويؤخَذَ على غِرّة، ويكون بعد ذلك عِظةً وعبرة. ولئن أُسدِل الستار على عام مضى وحولٍ انقضى بأحداثه ووقائعه وآلامه وآماله فإنَّ كلَّ ماضٍ قد يُستَرجَع إلا العمُر، فإنّه نقص في الأعمالِ ودنوٌّ في الآجال.
إنّا لنفرح بالأيّام نقطعها وكلُّ يوم مضَى يُدني من الأجلِ
نسير إلى الآجال في كل لحظة وأيامنا تُطوى وهنَّ مراحلُ
فكم من خطوات مشيناها وأوقاتٍ صرفناها ومراحل قطعناها، ومع ذلك فالإحساسُ بمضيّها قليل، والتذكّر والاعتبار بمرورِها ضئيل، مهما طالت مدّتها وعظُمت فتراتُها ودامت بعد ذلك حسراتها.
معاشر الأحبّة، إنَّ عجلةَ الأعمار وقطارَ الزّمن يمضي بسرعةٍ فائقة، لا يتوقَّف عند غافِل، ولا يحابي كلَّ ناسٍ ذاهِل، كم ودَّعنا في العام المنصرم مِن أخٍ أو قريب، وكم فقدنا من عزيزٍ وحبيب، سبقونا إلى القبورِ، وتركوا عامرَ الدّور والقصور، فإلى متى الغفلةُ يا عباد الله؟! وماذا ران على قلوبنا؟! وماذا غشِي أبصارنا وبصائرنا؟!
إنَّ الموفّق الواعي من سَعى لإصلاح حالِه ليسعَدَ في مآله، والكيِّسَ الملهَمَ من أدام المحاسبةَ وتفقّد رصيدَ الآخرة وحاذَر كلَّ لوثةٍ عقديّة وفكرية وسلوكيّة؛ ليحيا حياةَ السعداءِ ويُحقِّق نزُلَ الشهداء، وما ذلك بعزيزٍ على ذي المنِّ والعطاء.
إخوة الإسلام، ولئن دار الزمان دورتَه فإنَّ العامَ الهجريّ الجديد ضيفٌ محبَّب لطِيف ومَغنَم آهِل وريف، فيه الأمَل والانشِراح، والتفاؤل والارتياح، وهجرٌ للمآسي والجراح، ولكن بِكلِّ أسى انبلَج صُبحُ هذا العامِ الجديد ولم تختَطَّ أمّتُنا الإسلاميّة بعدُ سبيلاً يبلُغ بها معارِجَ العزّة والصلاحِ، ولم تقِم لها عزًّا يعصِمها من تطاول الطامِع والمجتاح، ومع هذهِ الخطوبِ الوشيكةِ الملمَّة والعواصفِ المحْدقة المدلهمَّة يبقى التفاؤل ديدنَنا، والأملُ المشرق رائدَنا، أمَّا دِماء الأمّة فبالتوحيدِ تجري، وأمَّا قلوبُها فبالإيمانِ تثري، وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8].
وإنّنا لنرجو الله سبحانَه أن تكونَ مناسبةُ الهجرةِ النبويّة خيرَ أوانٍ للتّصحيح والمراجعة، وأفضلَ زمانٍ للتّصفية والمحاسبة، لتدركَ الأمّة أن تأسيسَ الأمور وإحكامَها وتمهيدَ القواعِدِ وإتمامَها رهينُ استعصامِها بكتاب ربّها واستمساكها بسنّة نبيّها ، كيف وفيهما الفلَقُ والسناء، والفَرقُ بين النعيم والشقاء؟! في معتقدٍ صحيح ومنهجٍ سليم، ليس يعروهما ريبٌ ولا امتِراء، ومن تطلّب المجدَ والكمالَ في سواهما فقَد رامَ المحالَ، وباء بالوبالِ، وليس له من دون الله من وليٍّ ولا وال.
أيها المؤمنون، إنَّه لن تستبدلَ الأمة ضعفَها بالقوَّة وهوانها بالعزّة إلا إذا عادَت إلى ذلك الطِّرازِ العالي الذي سطّره السّلفُ في العصور الخوالي، أعني إبرازَ الحقائقِ والمحاسن لهذا الدّين التي سعِد بها المصطفى وأصحابُه رضي الله عنهم، وأسعَدوا بها العالَم قرونًا من الزمان، وسيُصلِح الله شأنَنا إذا نظَرَنا في مرآةِ الشريعة ما شَانَنا، وممّا يعين على امتثالِ ذلك لزومُ المصداقيَّةِ مطلقًا مع النفسِ والمجتمع والأمّة في القول والعمَل والملّة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119]، وما ازدهارُ الأمَم ورِفعتُها إلا ثمرةُ الأعمال الصادقة المخلِصة التي يقدِّمها رجالُها المخلصون البرَرَة وبنوها الصادقون المهَرَة.
إِخوةَ العقيدة، ما أحوجَ الأمّةَ الإسلاميّة اليومَ وهي تتفيَّأ ظلالَ عامٍ جديد مفعَم بالتفاؤل والتَطلّعات للخروجِ من الفتَن والمشكِلات وتجاوُز العقبات والأزمات ومواجهة التحدّيات والنكبات أن تقرأ تأريخها؛ إذ فيه العبَر.
اقرؤوا التأريخ الإسلاميّ لتدرِكوا كيف كانت أحداثُه العِظام ووقائعُه الجِسام نقطةَ تحوّلٍ كبرى، لا في تأريخ الأمّة الإسلاميّة فحسب، بل في تأريخ البشريّة قاطِبة. اقرؤوا التّأريخ لترَوا كيف كانَت وقائعُه العظيمة منعطفًا مهمًّا غيّر مجرَى التأريخ الإنساني برُمّته. اقرئي ـ يا أمّتي ـ تأريخَك المجيد لتعلَمي كيف أرسَت مصادره وأحداثه مبادئَ الحقّ والعدل والأمن والسّلام، وكيف رسّخت وقائعُه منذ ما يزيد على أربعةَ عشَرَ قرنا من الزمان مفاهيمَ الحِوار الحضاري التي يتنادى بها العالمُ اليومَ.
أيّتها الإنسانيّة الحائِرَة، لتخرجي منَ الأحكام الجُزاف الجائرة اقرئي تأريخ حضارتِنا الإسلامية، لتَرَيْ بأمِّ عينيك كيف كفَل الإسلام حقوقَ الإنسان بجدارةٍ، أزال الطبقاتِ، ومحا العنصريّات، وألغَى الفروقَ والتّمايزات، في وحدةٍ تتضاءَل أمامَها الانتماءاتُ العنصريّة والأواصر والعلاقاتُ المادية، بل تضمحلّ أمامها كلُّ دعاوى الجاهلية.
إخوةَ الإيمان، الارتباطُ التأرخي الوثيق والانتماء الحضاريّ العريق يؤكِّد أنّه ليس غيرُ العقيدةِ الإسلاميّة الصحيحة جامعًا للعِقد المتناثر، ومؤلِّفًا للشّتات المتناكر، وناظمًا للرّأي المتنافر، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]. فهل تعي الأمّة بعد هذا التمزّقِ المزري والتخلّف المخزِي والتيه في الأنفاق المظلمة وسراديبِ الغواية المعدمة أنّه لا دربَ سِوى الإسلام، ولا إمامَ غير القرآن، ولا نهجَ إلا نهج سيّد الأنام عليه الصلاة والسلام؟! ألم تستيقِنِ الأمّةُ أنَّ التخلّيَ عن العقيدة والتساهلَ بأمر الشريعة والتفريطَ في الثوابت والمبادئ والتقصيرَ في المثُل والقِيَم مآلُه شقاءُ المجتمعات وانتقاضُ الحضارات وهَلاك العباد وخَراب البلادِ وطريقُ البوار وسَبَب الانهيار وحُلول التّبار، وبالتالي قرّة عيون الأعداء وتحقّقُ الدّمار؟! فهل يدرك أصحاب الرأي والنّظَر ودهاقنة الحلّ والفكر أنّ التحديّات السابقةَ والمعاصرةَ والتّصادمَ الحضاريّ والعِداء الثقافي والفكري إنما مردُّه إلى ثوابِتَ عند الغير، لا يتحقَّق الانتصارُ عليها إلا بالتمسّك بمَوروثِنا الحضاريّ العريق الذي ينضَح خيرًا وسلامًا للبشرية كافّة، وأمنًا وسعادةً للإنسانية قاطبةً، في بُعدٍ عن مسالك العنفِ والإرهاب التي أقضَّت مضاجِعَ العالم، ولا مخلِّصَ له منها إلاّ إعلاءُ القِيَم الإنسانيّة والإسلاميّة والتّأكيدُ على مبدأ الحوار الحضاريّ، بلا تميُّع ولا انهزاميّة.
اقرؤوا التأريخ لتدرِكوا أنَّ الحوارَ مع الآخر يجب أن يُبنى على الإصلاحِ من داخلنا وقناعاتنا، لا بإملاء غيرنا علينا، حينما تمتلِئ النفوس محبّةً ونزاهةً ومودّةً وحنانًا، وتوضَع اللّوائحُ المرعيّة وتُرسَم الضّوابِط الشرعيّة لحركةِ الانفتاح الفكريّ والثقافيّ والتّربويّ والإعلاميّ.
أمّةَ الإسلام، ومِن غيوم الفِتن التي تصاعدَ دُخانُها في سماءِ الأمّة ويُرجى مع بدايةِ العام انقشاعُ هذه الغُمّة ما مُني به الإسلام والمسلمون مِن حملةٍ إعلاميّة ظالمة وهجمة دعائيّة عاتية من أقوامٍ غلا الكيدُ من مراجِل قلوبهم، فَطفح زَبدُ أقلامهم، وعَلا فحيحُ إعلامهم، ولم يهتَدوا للوقوف على معاني الإسلامِ وحقائقِه، فناصَبوه الهجوم، وبدا على سُبُحاتِ وجوهِهم الوُجوم [1] ، وفي مقابلِ أولئك جماعاتُ الغلوّ والتكفير وفئات العنف والتدمير.
أمّةَ الإسلام، ومِنَ الظواهر الخطِرة التي مُنِيَ بها العالَم اليومَ ويترقّب كلُّ محبٍّ للخير والسلام تواريَها خلالَ هذا العام ظاهرةُ الإرهاب العالميّة الذي يعدُّ بحقٍّ جريمةَ هذا العصر. ولقد سعِد المتابعون لقضايا أمّتهم بما تحقَّق من إنجازٍ يستحقّ الإشادةَ خلالَ ما عُقِد في رحاب بلاد الحرمين ـ حرسها الله ـ من المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب، وما نتج عنه من توصياتٍ وقرارات جديرة بالمتابعة والتنفيذ لعلاج هذه الظاهرة العالمية الخطيرة التي تجاوزت حدودَ الزمان والمكان والدّيانة والجنسيّة؛ لكي يفيءَ شباب الأمة إلى منهج الاعتدال والوسطية وإظهار سماحة الإسلام وما ينضَح به من معالي الشيَم وفضائل القيَم للإنسانية جمعاء، فما كان العنف يومًا محقِّقًا لمجد، ولا صانعًا لحضارة، ولا محافظًا على إنجازات، ولا مبقيًا على مكتسبات، بل جرثومة قذرة وحربٌ مدمِّرة تقضي على الأخضر واليابس، ولعلّ إخضاعَ هذه الظاهرة للدراسات المستفيضة عبر مراكز علمية متميّزة وهيئات استشارية متخصِّصة يُسهم في علاج الإرهاب وتجفيف منابعه عبرَ أسلوب ناجحٍ ودواء ناجع، يحقِّق المصالح ويدرأ المفاسد.
ولقد قرَّتِ الأعينُ بالمقترَح الموفَّق بإنشاء مركزٍ دوليٍّ لمكافحةِ الإرهاب وحملةِ التضامن التوعويّة لمعالجته في أنموذج مشرق، يشدّ الأكفَّ بالأكفِّ من جميع شرائح المجتمع وأطيافه وقنواته؛ لاستئصال شأفته والقضاء عليه.
فهل يعي المتورِّطون والمزايِدون والمحرِّضون والسّاكتون خطورةَ الأمر، فيرجعوا إلى صوابهم ويفيئوا إلى رشدهم؟! فالعود أحمد والفيء أرشد. وهل يقرأ أولئك التاريخ وينظرون في السنن الشرعية والنواميس الكونية؟! وهل يكفُّ المصطادون بالماء العكِر عن كلِّ ما يزيد الطينَ بلّة والداء علّةً؟! وهل تكفّ وسائل المعلومات والفضائيات والتقانات عن كلِّ بواعثه وأسبابه ومهيِّجاته، وتحذرَ المواقف المتشنِّجة والملاسنات المسِفَّة وكلَّ ما يبعث على العنف والجريمة، ويتواصى الجميع بالعودة إلى الله والخروج من المظالم العامّة والخاصّة؛ ليتواردَ الجميع سفينة النجاة بمنهج الاعتدال الذي لا غلوَّ فيه ولا جفاء؟! حينذاك تنجلي سحابة الإرهاب القاتمة، وتعيش البلاد والعباد في مأمنٍ من غوائل الشرور وسوء العواقب في الأمور.
أمّةَ الإسلام، إنّه حينما تتقاذف سفينةَ الأمّة أمواجُ الفتن فإنّ قواربَ النجاة وصِمامات الأمان مرهونةٌ بولاءِ الأمة لدينها وتمسُّكها بعقيدتها، وحينَما يُجيل الغيور نظرَه في واقع أجيالٍ من المنتسبين إلى أمّتنا اليومَ ويرى التبعيةَ والانهزامية أمام تيّارات العصر العولميّة ومبادئ المدنيّة الزائفةِ ويُقارن بينهم وبين جيلِنا التأريخي الفريدِ يدرك كم كانت وقائِع تأريخنا المشرقِ الوضاء وحوادِثُ سيرتنا العَطِرة سببًا في العزّة والكرامة وسبيلاً للبذلِ والتضحية والفداء.
وإنّ من التطلّعات الملحّة استتبابَ الأمن والأمان في سائر ديار الإسلام، لا سيما في الأرض المباركة فلسطين وفي بلاد الرافدين والشعوب المستضعفة والمضطهدة في كلّ مكان.
وفي خِضَمّ هذه الظروف الحوالك التي اختلطت فيها المسالك يتأمَّل قُرّاء التأريخ ويتساءلون: أين دروسُ الهجرة وعِبَرها من شعاراتِ العصر بإنسانيّته الزائفة وديمقراطيّاته المزعومة وحرّيّاته الموهومة التي تُحسَب على دعاتها مغانِم وعلى [غيرهم] مغارِم، في غيابِ المنهجية الشوريّة المصطفويّة؟! أين دروس التأريخ وعِبَر الهجرة وأخوَّة المهاجرين والأنصار من أناسٍ مزّقهم التشرذم، وأحلُّوا العداوة والخِصام محَلّ المحبة والوِئام، وترسّبت في سويدائِهم الأحقاد، وتأجَّج في قلوبهم سعير الحسَد والبغضاء والغِلِّ والشحناء، حتى تمزَّقت الأواصر وساد التفكُّك الأسريّ والاجتماعيّ كثيرًا من المجتمعات؟!
اقرؤوا التأريخ ـ يا رعاكم الله ـ لتجِدوا كم تحتاج العقيدةُ والرسالة إلى وطنٍ ودولة وسلطان ينافح عن كيانها، ويذبّ عن بيضتها، ويذود عن حماها. ألا فليتيقَّن دعاةُ الإصلاحِ في الأمّة أن لا عقيدةَ ولا تمكينَ إلاّ بجماعَة، ولا جماعةَ إلاّ بإمام، ولا إمامَ إلاّ بسمعٍ وطاعة، لتُدرَأ عن الأمّة غوائل الشرور والفتن وعاديات الاضطِراب والمحن.
وفي الميدان التربويّ يجب أن يقرأَ التربوِيّون تأريخَنا ليَرَوا كيف تربَّى البيتُ المسلم على نُصرةِ العقيدة والولاء للقيادة، وكيف كان للشباب المسلم والمرأة المسلمة دورٌ أيّما دور في نصرة العقيدة والقيم والفضائل، وأن السعادةَ والصلاح والخير والنجاح يكمن في التمسّك بالمبادئ والأصول والثوابت.
وبعد: أيها المسلمون، فتلك إلماحةٌ إلى شيءٍ مِن وقائعِ التّأريخ ودروسِ السّيرة وعِبَرها، تظهر في حدثِ الهجرة النبويّة، تُقدَّم للأمّة في مستهلِّ عامها وفي مرحلة من أخطرِ مراحِلها، علّها تكون نواةً لمشروعٍ حضاريّ إسلاميّ إنسانيّ، يُسهِم في صلاح الحال وتقويم المسارِ، ويمثِّل بَلسَمًا شافيًا لعلاجِ الحمِلات الإعلاميّة المسعورة وسِهام الحِقد الطائشة ضدَّ دينِنا وأمّتنا ومجتمعنا وبِلادنا، التي ما فتئ أعداءُ الإسلام يصوِّبونها تجاهَنا، مستغِلِّين نقاطَ الضَّعفِ في الأمة، ويتصيّدونَ أخطاءَ بعضِ أبنائها النّشاز.
ألا ما أشدَّ حاجتَنا ـ ونحن نستشرِف آفاقَ العام الهجريّ الجديد ـ إلى وقفاتِ تأمُّلٍ ومحاسَبة، ومراجعةٍ جادّة لاستثمار كلِّ ما يعزِّز مسيرةَ أمتنا؛ لتزدلِفَ إلى عامٍ جديد وهي أكثر عزمًا وأشدُّ مضاءً لفتح آفاقٍ مشرقة لإسعادِ الإنسانية لتتبوَّأَ مكانتها الطليعيّة ومنزلتَها الرّيادية فوقَ هذا الكوكب الأرضيّ الذي ينشُد سكّانُه مبادِئَ الحقّ والعدل والأمن والسّلام، ولن يجدوه إلاّ في ظلِّ الإسلام وتعاليم الشريعة، زادُها في ذلك موروثٌ حضاريّ وتأريخيّ متميّز ونسيج عقديّ متأصِّل ومعينٌ قِيَمِي لا ينضب ومنظومةٌ اجتماعيّة متألّقة، تنهل من مُعطيات العصر وتِقاناته في خدمة دينِ الأمة ومُثُلها وقِيَمها.
والله المسؤول أن يجعلَ هذا العامَ عامَ خيرٍ وبركة ونصرٍ وتمكين للإسلام والمسلمين، وعامَ أمنٍ وأمان وعدلٍ وسلام للإنسانيّة قاطِبة، وأن يجمعَ فيه كلمةَ المسلمين، ويوحِّد صفوفهم، ويطهِّرَ مقدساتهم، وينصرهم على أعدائهم، إنّه خير مسؤول وأكرم مأمول.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الهدى والبيان، ورَزَقنا التمسكَ بسنّة المصطفى من ولَد عدنان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، من كلّ الذنوب والخطيئات، إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ ?لْعَلِيمُ ?لْحَكِيمُ [يوسف:100]، وَ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90].
[1] وجَم بالفتح يجِم وجوما، وهو ظهور الحزن وتقطيب الوجه منه مع ترك الكلام. قاله في مشارق الأنوار.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مقدِّر الأزمان والآجال، ومبدع الكون على غير سابق مثال، أحمده جلّ ثناؤه يعجز عن وصفه بليغ البيان والمقال، وأشكره وهو أهل للشكر على كلِّ حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الكبير المتعال، وأشهد أن سيدنا ونبيّنا محمدًا أزكى الخليقة محتِدًا وأكرمهم في الشمائل والخصال، صلّى الله وسلّم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، المخصوصين بالرِّضا وعريق الخلال، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يومِ المآل.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حقَّ التقوى، واعلَموا أنَّ الأعمارَ سريعة الانقضاء فلا تبقَى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، تزكو أحوالكم وفي معارج القبول ترقَى.
أيها الإخوة الأحبة في الله، تعيشون ـ يا رعاكم الله ـ هذه الأيّامَ غرّةَ شهور العام، إنه شهر الله المحرم، شهرٌ من أعظم الشهور عند الله تبارك وتعالى، مكانته عظيمة، وحرمته قديمة، فاتحةُ العام وشهر الله الحرام، فيه نصَر الله موسى وقومَه على فرعون وقومِه، وقد ندبكم نبيُّكم إلى صيامه، فقال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم في صحيحه: ((أفضلُ الصيامِ بعدَ رمضان شهرُ الله المحرم)) [1] ، لا سيّما يوم عاشوراء الأغرّ، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدِم النبيّ المدينةَ، فوجد اليهودَ صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يومٌ عظيم أنجَى الله فيه موسَى وقومَه، وأغرق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومُه، فقال : ((نحن أحقُّ بموسى مِنكم))، فصامه وأمَر بصِيامه [2] ، وفي صحيح مسلم عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنَّ رسول الله سئِل عن صيام يومِ عاشوراء، فقال: ((أحتسِب على الله أن يكفِّرَ السنةَ التي قبله)) [3].
الله أكبر، يا له من فضلٍ عظيم ونفحة من نفحات المولى الكريم، وقد عزَم على أن يصومَ يومًا قبلَه مخالفةً لأهلِ الكتاب، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنّ التاسع)) [4]. يقول الإمام العلاّمة ابنُ القيم رحمه الله: "فمراتِبُ صومِه ثلاثة: أكملها أن يُصام قبلَه يوم وبعدَه يوم، ويلي ذلك أن يُصامَ التاسع والعاشرُ، وعليه أكثر الأحادِيث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحدَه بالصيام" [5].
فينبغي للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداءً بأنبياء الله، وطلبًا لثوابِ الله، وأن يصوموا يَومًا قبله أو يومًا بعدَه مخالفةً لأهل الكتاب، وعملاً بما استقرّت عليه سنّة المصطفى الأوّاب عليه الصلاة السلام، وإنَّ صيام ذلك اليومِ لمِن شكر الله عزّ وجلّ على نعمه، واستفتاحِ هذا العامِ بعملٍ من أفضل الأعمال الصالحة التي يُرجَى فيها ثواب الله عزّ وجلّ، فأين المشمّرون؟! جعلني الله وإياكم منهم بمنّه وكرمه.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واستفتحوا عامَكم بالتوبة والإنابة والمداومة على الأعمال الصّالحة، وخذوا من مرورِ الليالي والأيام عِبرًا، ومن تصرُّم الشهور والأعوام مدّكرًا ومزدَجرًا، وإياكم والغفلةَ عن الله والدارِ الآخرة.
ثم صلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على نبي الهجرة والرحمة والملحمة المؤيَّد بالمعجزات الباهرة والآيات الظاهرة، النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضَى، كما أمركم بذلك المولى جلّ وعلا، فقال في أصدق القيل ومحكَم التنزيل: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء وأشرف المرسلين نبيّنا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن صحابته أجمعين...
[1] صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب: فضل صوم يوم عاشوراء (1130).
[3] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162).
[4] أخرجه مسلم في الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء (1134) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] زاد المعاد (2/76).
(1/3738)
التحذير من التألي على الله
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
25/12/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لا يستوي المؤمن والكافر. 2- التحذير من الحكم على المعين بالجنة أو النار. 3- القلوب بيد الله تعالى. 4- التحذير من الغرور والإعجاب بالنفس. 5- باب التوبة مفتوح. 6- موقف المسلم من أهل المعاصي والضلال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ اللهَ جلّ وعلا يقول: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:167]. ففي هذه الآيةِ بيانُ كمالِ رحمتِه وفضلِه وإحسانِه لمن أطاعَه واتَّقاه، وبيانُ كمالِ عقوبتِه وانتقامِه لمن كفَر به وأشرَك به وخالَف أوامِره.
أيّها المسلم، إنَّ من عدلِ الله جلّ وعلا عدمَ التسوية بين من أطاعَه وبين من عَصاه وخالفَ أمرَه، فمن كمالِ عدلِه أنّه فرَّق بين من أطاعه وبين من عَصاه، وأنكَر على الذين سوَّوا بين المجرِم الضّال وبين المؤمن التقيِّ، قال الله جل وعلا: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21]، لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:20]، قال تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35، 36]، قال تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].
أيّها المسلم، فإذا استقامَ في نفسِك ذلك وعرفتَ أنَّ مِن كمال العدل أن لا يُساوَى بين كافرٍ ومؤمن، بين مشرك ضالٍّ معرض وبين موحِّد مستقيمٍ على الطاعة، أنّ منازلَهم مختلفة، وذاك من كمال الله.
لكن أخي المسلم، ومع عِلمِك بهذا فأنتَ في هذه الدنيا لا يصحُّ لك أن تحكمَ على أيِّ إنسانٍ بأنّه في النار، أو بأنه الله لا يغفِر له، أو بأنّه من المخلَّدين في النار، أو تحكم لشخصٍ أنه من أهل الجنة وأنّه من المغفورِ لهم. هذا الحكمُ منك في الدّنيا لا يصحّ؛ لأنّ هذا أمرٌ غيبيّ والله المطلِّع على العباد ومآلِ أمورهم، وله الحِكمة في ذلك، لكن أنت ترجو لأهلِ الإحسان والاستقامةِ، ترجو لهم المثوبةَ مِن عند الله، وتخاف على المخالِفين مِن عقاب الله، أمّا الحكم على المعيَّن بأنّ هذا في الجنّة أو أنّ هذا في النار أو أنّ هذا مغفور له ولا يعاقَب فذاك حكمٌ على أمرٍ أنت غيرُ مطِّلعٍ عليه، حكمه عند ربِّ العالمين أعدَل العادِلين وأكرم الأكرمين.
فيا أيّها المسلم، إنَّ مِن الأدب مع الله أن لا تحكمَ على معيَّن إلاّ مَن حكم الله له ورسولُه بأنه في الجنة، فمَن أخبر الله عنه أنّه في الجنّة أو شهِد له رسوله أنّه في الجنّة فذا حكمٌ قطعيّ من ربِّ العالمين ومن نبيِّه الخبر عنه، وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3، 4]؛ لأنّ ربَّنا جلّ وعلا أخبرنا بقولِه: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18]، وقال في المهاجرين والأنصارِ: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة:100]، وشهِد رسول الله للعشرة المبشرين بالجنّة وبعضِ أعيانٍ منَ الصحابة، لكننا لا نحكم لكلِّ معيَّن، نحِبّ أهلَ الخير ونرجو لهم من الله المثوبَةَ، ونكره أهلَ الشرِّ ونخاف عليهم من عقابِ الله، لكننا لا نحكم على معيَّنٍ بشيء من ذلك.
في صحيح مسلم عن جندُب بن عبد الله أنَّ النبيَّ قال: ((قال رجل: والله لا يغفِر الله لفلان، فقال الله جلّ وعلا: من ذا الذي يتألَّى عليَّ أن لا أغفرَ لفلان؟ قد غفرتُ له وأحبطتُ عملَك)) [1] ، وفي بعض الألفاظ: ((كان يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر فلم يستجب له، فقال: والله لا يغفر الله لك، قال الله: من ذا الذي يتألّى عليَّ أن لا أغفِرَ له؟ قد غفرُ له وأحبطتُ عملك)) ، قال أبو هريرة: تكلَّم بكلمةٍ أوبقت دنياه وآخرتَه [2].
هذا العاصي هذا المخالِفُ هذا الذي تراهُ على طريقِ ضَلال لا تدري ماذا يُختَم له، فربما خُتِم له بخاتمة خير فلقِيَ الله على الإسلام والسنّة، وقد تظنّ بشخصٍ خيرًا فيما يظهر لك، ولكن يعلم من حاله ما لا تعلَمُه أنت، فيُختَم له بشرّ فيدخل النار، ولذا يقول : ((إنَّ أحدَكم ليعمل بعملِ أهل النار حتى ما يكون بينه وبينَها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها، وإنّ أحدَكم ليعمل بعملِ أهلِ الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهلِ النار فيدخلها)) [3].
لما توفِّي عثمان بن مظعون أثنَت عليه امرأةٌ من نسائه وقالت: أكرَمَك الله بالشّهادة، قال النبيّ: ((وما يدريك؟ أمّا عثمان فقد أتاه اليَقين، ونرجو له من الله خيرًا)) [4].
إذًا فنحن لا نحكم على الأشخاصِ بأعيانهم بالجنّة أو بالنار، لكنّنا نرجو لأهل الخيرِ ونخاف على المسيء، نرجو للمحسِن ونخاف على المسِيء، ولا يحملنَّك معصيةُ شخص أو ما ترى من مخالفَتِه أن تحكمَ عليه بالنارِ وعدَم المغفرة، فإنّ الله قادرٌ أن يغيِّرَ حاله من حالٍ إلى حال، فإنّ قلوبَنا بين أصبعَين من أصابع الرحمن يقلِّبها حيث يشاء، إذا أرادَ أن يقلِبَ قَلبَ عبدٍ قلَبَه، فاسألوا الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، ولا ينخدِع الإنسان بنفسِه، ولا يُعجَب بعمله، ولا يغترّ بأنه ذو طاعة وذو علمٍ ومعرفة، لا، لا يغتَرّ بنفسه، عليه أن يحمَدَ اللهَ على العافية، وأن لا يشمَتَ بمخلوق ولا يفرَحَ بنقصِه، وإنما يتمنَّى للمسلمين خيرًا، وإذا رأى المبتَلَى قال: الحمد لله الذي عافاني ممّا ابتلاه به وفضَّلني على كثير ممن خلَقَ تفضيلاً، دون أن يُعجَبَ بنفسه، فهو يدعو إلى الخير، ويُحبِّب الخيرَ للناس، ويدعوهم إلى الهدَى، لا يقنِّطهم من رحمةِ الله، لا يُيئسُهم من فضلِ الله، لا يغلِّب الشقاء عليهم، إنما يخوِّفهم من الله، ويفتَح لهم أبوابَ الخير، ويخبِرهم بما وعد الله التائِبين والمقلعين والمنيبين، وأنّ من تاب إلى الله تاب الله عليه، وأنّ الله يفرَح بتوبة عبده إذا تاب إليه، وأنه يحبّ التوّابين ويحبّ المتطهِّرين، وأنه يبدل سيّئاتِ التائب بالحسنات.
هكذا يكون المسلِم؛ مُرغِّبًا للناس في الخيرِ، محبِّبًا لهم طُرقَ الخير، حاثًّا لهم على سلوك الطريقِ المستقيم، لا يقنطِهم من رحمة الله، لا ييئِسهم من فضل الله، لا يغلِّب جانب الشقاء عليهم فيهربوا من الحقّ ويبتعدوا عنه.
أخبرنا نبيّنا عمّن قبلنا أنَّ رجلاً قتَل تسعةً وتسعين رجلاً، فسأل عن عالم فدُلَّ على عالم فقال: قتلتُ تسعةً وتسعين فهل لي من توبة؟ قال: ليسَ لك توبَة، فقتله فكمَّل به المائة، ثمّ بحث عن عالمٍ آخر فأتاه فقال: قتلتُ مائة هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبين التوبة؟! إلاّ أنَّ أرضَك هذه أرضُ فساد، فابتعد عنها، فلمّا خرج منها أدركه الموتُ، فاختَصمت فيه ملائكة الرحمةِ وملائكة العذاب، ملائكة العذاب تقول: هذا فعَل وفعَل، وملائكة الرّحمة يقولون: تاب وأناب إلى الله، فبعث الله لهم مَلَكًا يحكم بينهم، ثم قال الله لأرض الخير: تقاربي، ولتِلك الأرض: تباعدي، وأنه مال بصدره إلى الأرض التي أُمِر بأن يهاجرَ إليها، فغفَر الله له تلك الجرائمَ العظيمةَ بتوبتِه الصادقةِ النصوح [5].
إنَّ الله لا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفرَه مهما عظُمت الذّنوب وتنوَّع الإجرام وكثرتِ المخالفات إذا تاب العبد إلى الله يجد الله توّابًا رحيمًا، يقبل توبتَه، ويمحو زلّتَه، ويبدِّله بها حسنات، فعلى الداعي إلى الخير والآمِر بالخير أن لا يخاطبَ الناسَ بالكلِمات البذيئة أو الكلِمات التي تجعلُهم ييأسُونَ ويقنطون من رحمةِ الله، بل يبيِّن لهم فضلَ الله وكرمَه، كما يبيِّن لهم وعيدَه وعقوبته، فهذا هو المطلوب، ففي هذا سبيلُ الخير وهداية البشر.
أسأل الله لي ولكم الثباتَ على الحقِّ والاستقامةَ على الهدى.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه مِنَ الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هَذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح مسلم: كتاب الأدب (2621).
[2] أخرجه أحمد (2/323)، وأبو داود في الأدب (4901)، والبيهقي في الشعب (6689) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5712)، وحسنه ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص319)، ووافقه الألباني.
[3] أخرجه البخاري في بدء الخلق (3208)، ومسلم في القدر (2643) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[4] رواه البخاري في الجنائز (1243) نحوه.
[5] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3470)، ومسلم في التوبة (2766) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في عهدِ النبيِّ قنَت شَهرًا يدعو على أناسٍ مِن قريش، يدعو على سُهيل بنِ عمرو والحارثِ بن هشام، يدعو عليهم، فأنزل الله عليهِ قولَه تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]، فترَك النبيّ الدعاءَ عليهم [1] ، فهداهم الله فأسلَموا وحسُن إسلامُهم، وكان لهم في الإسلامِ المواقفُ المشهورَة.
ونبيُّنا حينما آذته قريشٌ وألحقوا به أشدَّ الأذى جاءه ملكُ الجبال يستأذِنه يخبِره أنَّ الله جعل أمرَ هلاكهم بيَدِه إن أراد أن يطبِقَ عليهم أخشبَي مكّةَ [2] فيهلكَهم، قال: ((لا، أتأنّى بهم؛ لعلَّ اللهَ أن يخرجَ مِن أصلابهم مَن يَعبُد الله لاَ يشرِك به شيئًا)) [3].
كلُّ هذا دليلٌ على أنّ الإنسان لا يمكن أن يحكمَ على إنسانٍ في ظاهره بحكمٍ عامّ، إنما يرجو للمحسِن ويخاف على المسِيء. في الصحيح عنه قال: ((عَجبًا لقومٍ يُقَادون إلى الجنّة بالسّلاسل)) [4] ، قال العلماءُ: معنى ذلك أنهم أناسٌ قاتلوا أهلَ الإسلام في أوّل الأمر، ووقفوا من الإسلام موقفَ العِداء، فجاهدهم المسلمون، فهداهم الله ومنَّ عليهم بالاستقامة، فجاهدوا في سبيل الله، فقضَوا على تلك السيئات الماضية والأخلاقِ السيئة بما نالوه من استِجابَتِهم لله ورسوله وتمسُّكهم بهذا الدين.
فالمسلِم ينبغي له أن يتَّقيَ الله، وإذا رأى من ابتُلِيَ بالمعصية فليُسِرَّ له النصيحةَ فيما بينه وبينَه، وليذكِّره بالله وبأيّامه، وليخوّفه من النتائجِ السيّئة، وليفتَح له بابَ الخير، وليطمّعه فيما عند الله من الثواب، وأنه إن ترَك تلك المعصيةَ طاعةً لله نال ثوابَ الله، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، فيبيِّن له الخير، ويحذِّره من الشر، ولكن لا يقول: أنت في النار، أنت خالِدٌ مخلّد في النار، أنت لا يغفِر الله لك، أنت لا تستحقّ المغفرة، أنت وأنت.. لا يا أخي، عواقِبُ الأمور إلى الله، اللهُ يعلم من يستحقّ العذابَ ممّن لا يستحقّ، والله يعلم من هو أهلٌ للرحمة والفضل ممن ليسَ أهلاً، هذه أمورٌ بيد الله، الله أرحَم الراحمين، رحمته وسِعَت كلَّ شيء، وهو جلَّ وعلا ينتقم ممن خالَف أمره، لكن على العِباد أن يفتَحوا للنّاس أبوابَ الخير، ويغلقوا أبوابَ الشرّ، ولا يقنّطوا العبادَ من ربهم، بل يحبِّبوا العبادَ إلى ربهم بما يذكُرونه لهم من سَعَة فضله وكرَمِ جودِه وعطائه، تعالى الله وتقدَّس وجلَّ علوًّا كبيرًا.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّد ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعةِ، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد بن عبد الله كما أمَركم ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك علَى عبدك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائِه الرّاشدين...
[1] أخرجه البخاري في المغازي (4069، 4070) من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه، لكن تسمية من دعا عليه النبي جاء فيه مرسلا.
[2] الأخشبين بالمعجمتين، قال ابن حجر في الفتح (6/316): "هما جبلا مكّة أبو قبيس والذي يقابله وكأنّه قعيقعان... وسمّيا بذلك لصلابتهما وغلظ حجارتهما, والمراد بإطباقهما أن يلتقيا على من بمكّة, ويحتمل أن يريدَ أنّهما يصيران طبقًا واحدًا".
[3] أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (3231)، ومسلم في الجهاد، باب: ما لقي النبي (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها بنحوه.
[4] أخرجه البخاري في الجهاد (3010) عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ((عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل)).
(1/3739)
إشارات من سورة القدر
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنزل الله القرآن في ليلة القدر. 2- فضيلة ليلة القدر وعظم منزلتها. 3- نزول الملائكة في ليلة القدر. 4- علامات ليلة القدر. 5- الأقوال في تعيين ليلة القدر. 6- تحري النبي ليلة القدر واجتهاده في العبادة فيها. 7- ما يسن قوله في ليلة القدر.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: يقول الحق سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، يخبر الحق سبحانه أنه أنزل القرآن ليلة القدرة، وهي الليلة المباركة التي قال الله فيها: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان:3-5]، والليلة المباركة التي أنزل فيها القرآن هي ليلة القدر، إنا أنزلناه في ليلة القدر، أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله.
وزاد تعظيم الله لهذه الليلة بقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر ، قيام ليلة القدر والعبادة فيها خير من عبادة ثلاث وثمانين سنة وأربعة أشهر.
وذكر النبي رجلاً من بني إسرائيل، وكانت أعمارهم طويلة، ذكر رجلاً منهم لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر بالنهار، ويقوم الليل بالصلاة والعبادة، فعجب المسلمون من ذلك، واستثكروا أن يستطيع إنسان منهم ذلك، فبشر الرحيم سبحانه الأمة المرحومة أن قيام ليلة القدر خير من عبادة ألف شهر، ليلة القدر خير من ألف شهر.
وذكر ابن أبي حاتم بإسناده إلى رسول الله أنه ذكر أربعة من بني إسرائيل عبدوا الله ثمانين عامًا، لم يعصوه طرفة عين، فذكر أيوب وزكريا وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، قال: فعجب أصحاب رسول الله من ذلك، فأتاه جبريل فقال: ((يا محمد، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوه طرفة عين، فقد أنزل الله خيرًا من ذلك، فقرأ عليه: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، هذا أفضل مما عجبت أنت وأمتك، قال: فسُرّ بذلك رسول الله والناس معه.
ومما جاء في فضلها أن رسول الله قال لما حضر رمضان: ((قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حُرِم)).
هي ليلة القدر التي شرفت على كلّ الشهور وسائر الأعوام
من قامها يمحو الإله بفضله عنه الذنوب وسائر الآثام
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ، يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن، ويحيطون بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم تعظيمًا له.
تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ ، تنزل الملائكة وجبريل عليه السلام، أو تنزل الملائكة والروح أرواح بني آدم، أو خلق من خلق الله على صور بني آدم وليسوا ملائكة ولا بشرًا، أو الروح هم أشرف الملائكة وأقرب إلى الرب عز وجل وصاحب الوحي، أو الروح القرآن، أو أنه ملك عظيم بقدر جميع المخلوقات، وعلى أيٍّ جاء معنى كلمة الروح ففيه دلاله على عظمة ليلة القدر، حيث نزل فيها القرآن والملائكة والروح، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ.
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ سلام هي أي: سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءً، أو يعمل فيها أذى، وتسلّم الملائكة فيها على المصلين حتى يطلع الفجر، سلام هي لا شر فيها.
تنزل الملائكة والروح فيها بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ كقوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان:3-6]، ففيها تُقضى الأمور وتُقدر الآجال والأرزاق.
وقال : ((ليلة القدر في العشر البواقي، من قامهن ابتغاء حسبتهن فإن الله يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهي ليلة وتر، تسع أو سبع أو خامسة أو ثالثة أو آخر ليلة)).
وعلامتها كما في الحديث أن ليلتها صافية بلجة، كأن فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية، لا برد فيها ولا حر، ولا يحل لكوكب يُرمى به حتى يصبح، وإن أمارتها أن الشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ.
وعن مالك أنه بلغه أن رسول الله أُرِي أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرًا من ألف شهر.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((التمسوها في العشر الأواخر من رمضان، في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى)). وقد فسر العلماء هذا الحديث على أنها ليالي الأوتار من العشر الأواخر.
وذهب جماعة من السلف إلى أنها ليلة السابع والعشرين، وقال سيدنا أبي بن كعب رضي الله عنه: (والله، إني لأعلم أي ليلة القدر هي التي أمرنا رسول الله بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها).
ومن المستأنس به أن كلمة هِيَ من السورة هي الكلمة السابعة والعشرون، فإذا حسبت عدد الكلمات: من إِنَّا أَنزَلْنَاهُ إلى هِيَ لوجدتها الكلمة السابعة والعشرين، ولقد أودع الله سرًا في الرقم سبعة، فقد خلق الله سبع سماوات وسبع أراضين وسبعة أيام، والإنسان يسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع، والبحار سبع، وحرم من نكاح الأقربين سبعًا، وقسم المواريث على سبع، وأعطى الله نبينا سبعًا من المثاني والقرآن العظيم، والرقم سبعة وتر، والله وتر يحب الوتر، ولقد رأى جمع من الصحابة ليلة القدر في السبع الأواخر من رمضان فقال رسول الله : ((أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر)).
وفي الصحيح أن النبي خرج ليخبر الصحابة بليلة القدر، فتلاحى رجلان أي: تخاصم رجلان، فرفعت، وهذه أمارة إلى أن النزاع والمماراة تقطع الخير عن عامة الناس، حيث حرمتِ الناس تعيين وقتها، لخصومة حدثت بين اثنين، فينبغي أن نتسامح ونتعاطف ونتراحم، ليعمنا الله برحمته ورأفته، ويمن علينا من بركات هذا الشهر العظيم، وهذه الليلة المباركة، جعلنا الله ممن يصوم نهارها ويقوم ليلها على الوجه الذي يرضي الله عنا، آمين.
ومن شدة اهتمام النبي بليلة القدر أنه كان يحبس نفسه في المسجد في العشر الأواخر، معتكفًا لله، قارئًا للقرآن، ذاكرًا لله، ساجدًا وقائمًا، مواظبًا على ذلك حتى توفاه الله عز وجل.
ومحل القدوة به عليه الصلاة والسلام في ذلك، أن نضاعف العبادة في هذه العشر الأواخر، فقد كان إذا بقي عشر من رمضان شد مئزره واعتزل نساءه، اجتهادًا منه في العبادة، وقالت عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر.
ويستحب الإكثار من الدعاء في هذه العشر الأواخر، قالت عائشة رضى الله عنها: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها يا رسول الله؟ أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: ((قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني)).
لليلة القدر عند الله تفضيل وفي فضلها قد جاء تنزيل
فجدّ فيها على خير تنال به أجرا فللخير عند الله تفضيل
واحرص على فعل أعمال تسرّ بها يوم المعاد ولا يغررك تأميل
فتب إلى الله واحذر من عقوبته عن كل ما فيه توبيخ وتنكيل
ولا تغرنك الدنيا وزخرفها فكل شيء سوى التقوى أباطيل
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3740)
تفسير وفضائل سورة الإخلاص والتوحيد
التوحيد, العلم والدعوة والجهاد
الأسماء والصفات, القرآن والتفسير
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة نعم الله تعالى على عباده. 2- القرآن من أعظم نعم الله على المسلمين. 3- أهمية معرفة فضائل سور القرآن وآياته. 4- المفاضلة بين سور القرآن. 5- سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن. 6- سورة الإخلاص حِرز من الشيطان ونزغاته ومن كل سوء. 7- الحكمة في اختصاص سورة الإخلاص بهذه الفضائل. 8- الحث على تأمّل المعاني السامية التي تضمنتها السورة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد مَنّ الله علينا إذ أرسل فينا نبيه محمدًا ، وزاد فضله وخيره سبحانه إذ أنزل الكتاب ليفتح به أعينًا عُميًا وآذانًا صُمًّا، ويهدي به من الظلمات إلى النور، وجعل الله كتابه شفاءً للأمراض ولوساوس الصدور، وجعله شفاعة لأصحابه يوم القيامة وقبل النشور، وزادت نعمة الله علينا حتى قال سبحانه: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
فمن نعم الله علينا أن القرآن نزل عربيًا بلساننا، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الزخرف:3]، وكلماته سهلة ميسّرة، وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر:17]، وأخبر ربّ العباد أنه شفاء من كل داء: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاء [فصلت:44]، وفضائل القرآن لا تحويها خطب الخطباء ولا كتب المؤلفين، ولا تسعها بلاغة الأدباء، وقد ذكر الله عز وجل في سورة الفرقان شكوى النبي من قومه إذ أعرضوا عن القرآن واستبدلوه بما صنعه ولد الإنسان: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].
لقد جاءت أحاديث عظيمة كثيرة صحيحة صريحة ممن لا ينطق عن الهوى ترغّب في قراءة سورٍ وآيات، وما صدر ذاك من مشكاة النبوة إلا ترغيبًا في المحافظة على قراءة ما ذُكِرت فضيلته من القرآن، وهذا لا يعني أن لبعض سور وآيات القرآن فضائل دون سائر القرآن، فقد قال الله عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، فكلمة (مِن) تفيد الجنس، أَي: وننزّل من جنس القرآن، أيّ آية من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.
حُدّث أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: (قل هو الله أحد) سورة الإخلاص يردّدها، فلما أصبح جاء إلى النبي فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالّها ـ أي: يراها قليلة ـ، فقال النبي : ((والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن)) ، وقال لأصحابه: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟)) فشقّ ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: ((الله الواحد الصمد ثلث القرآن)). وأمر الصحابة أن يحتشدوا، فقال: ((احْشُدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن)) ، فحَشَد من حَشَد، ثم خرج نبي الله فقرأ: قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ السورة ثم دخل، قال أبو هريرة: فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله : ((فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن)) ، إني لأرى هذا خبرًا جاء من السماء، ثم خرج نبي الله فقال: ((إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن)).
وقال لأحد الصحابة: ((قل)) ، قال: ما أقول؟ قال: ((قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمُسي وحين تصبح ثلاثًا تكفيك كل شيء)) ، وعن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، بم نجاة المؤمن؟ قال: ((يا عقبة، أخرس لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك)) ، قال: ثم لقيني رسول الله فابتدأني فأخذ بيدي فقال: ((يا عقبة بن عامر، ألا أعلّمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم)) ، قال: قلت: بلى جعلني الله فداك، قال: فأقرأني قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ ، قال: فما نسيتهنّ منذ قال: ((لا تنسهنّ)) ، وما بتّ ليلة قطّ حتى أقرأهن. قال عقبة: ثم لقيت رسول الله فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال: ((يا عقبة، صِل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك)).
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما وقرأ: قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ ، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
هذه بعض الأحاديث المرغّبة في الإدمان على قراءة سورة الإخلاص، والسبب في ذلك أن هذه السورة قد جمعت معاني من اعتقدها حرّم الله عليه النار، ولأن هذه السورة وأختيها الفلق والناس حصن حصين من جميع ما يخشاه المؤمن ويحذره، فالإنسان في طبيعته البشرية يطرأ عليه الخوف، ويُصاب أحيانًا بشتّى أنواع المصائب والابتلاءات، ونحن العرب ـ وللأسف ـ لا زلنا نلجأ إلى السحرة والمشعوذين، ويتعلق كثير منّا بالأسباب الواهيات، ويترك الرجوع إلى كتاب الله الكريم. فهذا رسول الله كان يحافظ على قراءة المعوذتين والإخلاص عندما يأوي إلى فراشه، وما ذاك إلا درس لنا في أن نتحصّن بكتاب الله، ونتمسّك بهدى رسول الله.
وزاد فضل الله علينا أن جعل هذه السور قصيرة، وكلماتها سهلة يسيرة، لا تتطلب منك جهدًا ولا عناءً، إنما المطلوب منك ـ أيها المؤمن ـ أن تدمن قراءتها؛ لتكون لك حصنًا من الأمراض النفسية والوساوس الشيطانية، وتكون بقراءتها قد استحضرت في قلبك أروع معان جاء الرسول لنشرها، ومن أجلها طُرد وعُذّب وأهين وشُرّد، بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم بأن الله أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
عند قيادتك لسيارتك أو في أي وقت فراغ رطّب لسانك بذكر الله، وأكثِر في هذه الأوقات من قراءة المعوذتين والإخلاص، ودُم على ذلك، وستزداد في النور والبهاء.
إذا استحضرت مع هذه التلاوة معاني الآيات فاستحضِر عند قراءتك: قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو سبحانه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، إذا اعتقدت ذلك: أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو سبحانه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، فأنت تخالف اليهود في قولهم: عُزير ابن الله، وتخالف النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، وتخالف المجوس في عبادتهم الشمس والقمر، وتخالف المشركين في عبادتهم الأوثان، فاستحضر هذا المعنى عند قراءتك: قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ ، واستحضر عند قولك: اللهُ الصَّمَدُ أن الله هو السيد الذي كَمُل في سُؤْدَدِه، والشريف الذي كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عظمته، والحليم الذي قد كَمُل في حِلمه، والعليم الذي قد كَمُل في علمه، والحكيم الذي كَمُل في حكمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع الشرف والسُؤْدد. سبحان من يصمد إليه العباد في قضاء حوائجهم. سبحان الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي في خلقه الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
سبحان من ليس له ولد ولا والد ولا زوجة، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ [الأنعام:101]، فهو سبحانه مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه؟! وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:88-95]، وقال ربّ العزة: ((كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد)).
فاحمدوا الله ـ أيها المؤمنون ـ على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3741)
فضل العلم
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين العلم والمعرفة. 2- ما جاء في فضل العلم وشرفه في الكتاب والسنة. 3- حال الأمة الإسلامية مع العلم قديمًا وحديثًا. 4- أبيات في الحث على الجدّ في تحصيل العلوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
ديننا الإسلامي دين علم ومعرفة، دين حارب الجهل والأمية من أول يوم، وفي أول كلمة من الوحي: اقْرَأْ ، فظلّ يعلّم النبيّ بعدها حتى انتقل للرفيق الأعلى.
يقول المولى سبحانه وتعالى مشرّفًا أهل العلم بأنهم يشهدون مع الله والملائكة: شَهِد َاللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ [آل عمران:18]، وقال سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِين لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، وقال سبحانه: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء [فاطر:28]، أي: إن العلماء هم الذين يخشون الله على الحقيقة، وقال سبحانه: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، ففي هذه الآية ألحق الله رتبة أهل العلم برتبة الأنبياء في الكشف عن كلمة الله عز وجل، وقال : ((من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين ويلهمه رشده)).
واعلموا أنه لا رتبة فوق النبوة، ولا شرف فوق شرف الوراثة لتلك الرتبة، وورثة النبي هم العلماء، كما قال : ((العلماء ورثة الأنبياء)) ، وبيّن أن العلم أفضل من العبادة فقال: ((فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي)) ، وقال لقمان الحكيم عليه السلام لابنه: (يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله سبحانه يحيي القلوب بنور الحكمة كما يحيي الأرض بوابل السماء).
لقد أوجب الله علينا طلب العلم، وجعله فرضًا، فعلى جميع الأمة أن تتعلم دينها، وفرض على جزء من الأمة أن تتخصص في باقي التخصصات المدنية والعسكرية، وكل علم شريف يثاب عليه المسلم وينال به عظيم الثواب، كما أن الأمة الآن جميعها عاصية لله وآثمة وعليها ذنب عظيم في تقصيرها في طلب العلم وتقهقرها في جميع الصناعات السلمية والحربية التي لا تقوم إلا بالعلم.
لقد رغّب الله سبحانه في التعلّم وأن يكون المسلم طالب علم بقوله سبحانه: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ [التوبة:122]، وقوله: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النحل:43]، وقال : ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة)) ، وقال : ((ما من خارج من بيته في طلب العلم إلا وضعت له الملائكة أجنحتها)) ، وقال : ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)).
عندما علمت الأمة بفضل العلم فعلمت وعملت ولم تكتفِ بعلم على حساب آخر تقدّمت وازدهرت حياتها، وقادت جميع الأمم حولها، وأوصل المسلمون العلم إلى حدود فرنسا وغابات أفريقيا وأواسط آسيا، فظهر في الأمة العلم والاختراع والتخصصات المتنوعة، وكان ديدن الأمة العمل والاجتهاد المصاحبين للبحوث والدراسات المنطقية والعقلية والتجريبية، وفي الوقت ذاته كانت بعض الأمم تجادل في الله: هل هو واحد أم ثلاثة؟! وهل العالم قديم أم حادث؟! والفلاسفة يتفلسفون، والسوفسطائية يثرثرون، فبلغت الأمة في عزها أن غزتهم في عقر دارهم؛ لأنهم كانوا أناسًا يجيدون الفعال والأقوال.
وأما عن حال الأمة الآن فها هي قد تركت هذا التراث العظيم، وزهدت في العلم والمعرفة، ولجأ أبناؤها إلى القيل والقال، وترك الشباب حِلق العلم والمؤسسات العلمية، وعمّت فينا البطالة والجهالة.
ولا تجد صناعة واحدة من الإبرة إلى الصاروخ، لا تجد صناعة تعتمد على العلم إلا وجدتها مستوردة من أعدائنا، ما السبب في تقدمهم؟! وما السبب في تخلفنا؟! تعلموا وجهلنا، وعملوا وكسلنا، وعملوا لعز أنفسهم وأوطانهم، وعملنا لذل أنفسنا وإفساد أوطاننا، فأين الشباب الحريص على طلب العلم والمعرفة؟! وأين الهمم العالية والسهر والتعب في طلب العلم وإخماد الجهالة؟!
بقدر الكدّ تكتسب المعالي ومن رام العُلا سهر الليالي
ومن رام العُلا من غير كدّ أضاع العمر في طلب المحال
تروم العزّ ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي
إذا كان يؤذيك ريح الخريف ويؤذيك حرّ المصيف وبرد الشتا
ويُلهيك حُسن زمان الربيع فأخذك العلم قل لي: متى؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3742)
التوبة وحسن الظن بالله
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, خصال الإيمان
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سوء الظن بالله تعالى مخالف للإيمان به. 2- كل بني آدم خطاء. 3- سعة رحمة الله تعالى. 4- الفهم الصحيح لحسن الظن بالله. 5- التوبة والعمل وحسن الظن. 6- الله أرحم بعباده من الأم بولدها.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: ليس من الإيمان في شيء سوء الظن بالله سبحانه، وخاصة من أصحاب الذنوب والكبائر، فعيب على أحدنا أن ييأس من روح ورحمة الله، ويصرّ على الكبائر، ملبّسًا عليه شيطانه ونفسه والهوى أنه بهتك ستره لن يغفر له ربُّه، وإذا زجرته أو نصحته أظهر لك يأسه وقنوطه من رحمة الرحيم، ورب العالمين يغفر الذنوب جميعًا، إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48]، إن الذي فرض علينا ترك المنكرات فرض علينا الاستغفار إذا وقعنا فيها: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء:110].
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فمن الذي يدعو ويرجو المجرمُ؟!
إن الإنسان بفطرته وطبيعته يحدث منه النسيان والخطأ، وإن العصمة من الخطأ ليست في مقدورنا، إنما الذي في مقدور الجميع أن يجدد العقد مع الله، وأن يصلح ما أفسد وفرط في جنب الله، وليعلم المؤمن أن رحمة الله سبقت غضبه، إنه رحيم بعباده، فارحموا ـ أيها الناس ـ أنفسكم، ارحموها بالتوبة، ارحموها برحمة عباد الله، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم من في السماء.
كن عبدًا ربانيًا، رحيمًا بنفسك وبالمؤمنين، ولا تيأس من رحمة الله، فقد جاء في الحديث الصحيح: ((إن لله سبحانه وتعالى مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وأخر تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بها عباده يوم القيامة)).
أيا رب عفوًا عن ظلوم لنفسه رجاك وإن كان العفاف به أولى
سألتك يا مولى الموالي ضراعة وقد يضرع العبد الذليل إلى المولى
لتصلح لي قلبًا وتغفر زلّة وتقبل لي توبًا وتسمع لي قولاً
ولا عجب فيما تمنيت إنني طويل الأماني عند من يحسن الطولا
حسن الظن بالله ورجاء رحمة الله لا يعني أبدًا أن نخدع أنفسنا بالأماني والإصرار، إنما معنى ذلك أن الإنسان منا كلما أحدث ذنبًا يحدث له توبة ورجاءً في الله أن يكفر عن آثار خطيئته، وأن يعزم العزم الأكيد أن لا يعود.
إن كثيرًا من الناس يظن مع عظيم ذنبه أنه يخلد في النار، أو واجب في حقه دخول النار، وهذا سوء أدب مع الله وفساد في العقيدة، والله يعامل العبد على حسب ظنه بالله، فليظن خيرًا، وجاء في الحديث: ((إن الله يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل منها مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم، فيخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)).
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعدّ لكل ما يتوقع
يا من يُرجى للشدائد كلِّها يا من إليه المشتكى والمفزع
يا من خزائن رزقه في قول: كن امنُن فإنّ الخير عندك أجمع
ما لي سوى فقري إليك وسيلة فبالافتقار إليك فقري أدفع
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة فلئن رددت فأيّ باب أقرع ؟!
ومن الذي أدعو وأهتف باسمه إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لجودك أن تقنط عاصيًا الفضل أجزل والمواهب أوسع
يا أهل التوحيد، أخلصوا أعمالكم لله، وأحسنوا ظنكم بربكم، واعلموا أن اليوم عمل وغدًا جزاء، ومن زرع حصد، ومن جد وجد، من أراد أن يعامله الله معاملة الرحمة والغفران فليرحم عباد الله، ويغفر لهم أخطاءهم ولا يقسو عليهم، ومن لم يقرع أبواب التوبة وظلم العباد وأهلك الضرع والزرع وأفسد في الأرض وأصر على ذنبه ولعب بدين ربه ثم يرجو رحمته لا شك أن هذا متلاعب مستهزئ بالله ودينه.
خافوا ذنوبكم، وارجوا رحمة ربكم، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53].
تُب وثُب وادع ذا الجلال بصد ق تجد الله للدعاء سميعًا
لا تخف مع رجاء ربك ذنبًا إنه يغفر الذنوب جميعًا
جاء في الحديث أن امرأة في بعض المغازي في يوم صائف شديد الحر بصرت بصبي، فأقبلت تشتد، وأقبل أصحابها خلفها، حتى أخذت الصبي وألصقته إلى صدرها، ثم ألقت ظهرها على البطحاء، وجعلته على بطنها تقيه الحر، وقالت: ابني ابني، فبكى الناس وتركوا ما هم فيه، فأقبل رسول الله حتى وقف عليهم، فأخبروه الخبر، فسُرّ برحمتهم، ثم بشرهم فقال: ((أعجبتم من رحمة هذه لابنها؟)) قالوا: نعم، قال : ((فإن الله تبارك وتعالى أرحم بكم جميعًا من هذه بابنها)) ، فتفرّق المسلمون على أفضل السرور وأعظم البشارة.
يا من يرى مَدَّ البعوض جناحها في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى مناط عروقها في نحرها والمخ في تلك العظام النُّحَّل
اغفر لعبد تاب من فرطاته ما كان منه في الزمان الأول
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3743)
فضل الذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الذكر في حياة العبد. 2- الذكر في الكتاب والسنة. 3- حال السلف مع الذكر. 4- من فقه الذكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
ذكر الله عز وجل أفضل ما يقوم به العبد للوصول لمولاه، وهو أساس معرفة الله عز وجل، والذاكر الكامل هو الذي يذكر الله بلسانه وقلبه.
ولقد أكد ربنا ونبّه على ضرورة الذكر، وجعل من علامة ذكر الله لعبده ذكر العبد لمولاه: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وبيّن سبحانه أن ذكر الله أكبر من كل قربة وعبادة فقال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45].
وإذا نظرنا إلى جميع العبادات نجدها محصورة بوقت محصور وعدد محدود، أما إذا نظرنا إلى الأمر بالذكر فنجد المولى سبحانه يأمرنا بالإكثار منه في كل زمان ومكان، وبدون سأم وملل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41، 42]، وكان رسول الله يذكر الله تعالى على كل أحيانه، وقال : ((سبق المفرّدون)) ، قالوا: وما المفرّدون يا رسول الله؟ قال: ((الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات)) ، وقال : ((أفضل الذكر: لا إله إلا الله)).
وهي أفضل وجوه الذكر فاشغل بها العمر تفز بالذخر
وشكا رجل لرسول الله كثرة أبواب الخير وحيرته فيما يختار لنفسه، فقال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ، فأخبرني بشيء أتشبّث به، فقال : ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله)). فبيّن في هذا الحديث أن ذكر الله أفضل أعمال البر، بل جاء في حديث آخر أنه أفضل حتى من الجهاد، قال : ((ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى، قال: ((ذكر الله تعالى)).
عجبت لمن يقول: ذكرت ربي وهل أنسى فأذكر من نسيت؟!
فذكر الله ـ عباد الله ـ هو منشور الولاية، ولا يكون وليًا لله من لم يذكر الله بلسانه، ويذكره عند الحلال والحرام، تذكر الله عند الحرام باجتنابه، وعند الحلال بامتثاله. وبلسانك، أي: ترطّبه بالتسبيح والتحميد والتكبير وغيرها من أنواع الذكر.
شكا رجل لأحد الصالحين بقوله: نحن نذكر الله تعالى ولا نجد في قلوبنا حلاوة الذكر! فقال له ذلك الرجل الصالح: "احمدوا الله تعالى على أن زيّن جارحة من جوارحكم بطاعته".
ومن رحمة الله أن جعل الأجر العظيم والثواب الجزيل على الأعمال السهلة اليسيرة؛ لنبادر بعملها، فقال : ((كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) ، وقال : ((لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس)).
ذكرتك لا أني نسيتك لمحة وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وخرج رسول الله يومًا إلى المسجد فوجد حلقة من أصحابه فقال: ((ما أجلسكم؟)) قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنّ به علينا، قال: ((آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟)) قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك، قال: ((أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة)).
إن المتتبع لسير أولياء الله الصالحين يجد من أول شمائلهم أنهم يذكرون الله ذكرًا كثيرًا، ومرّ بكم أن المصطفى كان يذكر الله على كل أحيانه. وجاء في الأثر أن أبا هريرة كان يسبّح في اليوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، وقال الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة والحافظ الذهبي في كتابه تاريخ الإسلام: إن سند هذا الأثر صحيح. وهو أن أبا هريرة كان يسبح في اليوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة.
وكان عمير بن هانئ يسبح في اليوم مائة ألف. وفي كتاب الكاشف للذهبي وحلية الأولياء لأبي نعيم أن الفقيه الكبير الثبت المهيب المخلص خالدًا الكلاعي كان يسبح في اليوم أربعين ألف تسبيحة، سوى ما يقرأ من القرآن. قال ابن الجوزي في كتابه صفة الصفوة: "فلما وضع ليغسّل عندما مات جعل يحرّك إصبعه بالتسبيح رضي الله عنه، ونفعنا الله بسيرته".
وكان بعض السلف يقول: تفَقّدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: الصلاة والذكر وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق. إذا وجدتم الحلاوة في الصلاة والذكر وقراءة القرآن فاعلموا أن قلوبكم حية، وإلا فهي ميتة جامدة. فالقلب يموت بحب الدنيا والإصرار على الذنوب. وكان الأبرار يتواصون بثلاث: بسجن اللسان عن الباطل، وكثرة الاستغفار، والعزلة عن الأشرار.
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغًا مستريحا
وإذا ما هممت بالقول في البا طل فاجعل مكانه تسبيحا
قال مالك بن دينار : "ما تنعّم المتنعّمون بمثل ذكر الله"، وقال ممشاد الدينوري : "ما أقبح الغفلة عن طاعة من لا يغفل عن برّك، وما أقبح الغفلة عن ذكر من لا يغفل عن ذكرك". وصاحب مخلدُ بن الحسين إبراهيمَ بن أدهم ، فكان مخلد بن الحسين ما ينبته من الليل إلا وجد ابن أدهم يذكر الله، قال: فأعزي نفسي بهذه الآية: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء [الحديد:21].
الذكر ذكران: ذكر الله عز وجل باللسان، وأن تذكر الله عز وجل عندما تشرف على معصية الله، ولا غنى لك عن أحدهما.
ذكر الله تعالى لا يتم إلا بتوفيق الله عز وجل، بأن يمتع القلب واللسان بذكر الرحيم الرحمن، والغفلة عن ذكر الله أشد من الغفلة في وجود ذكره، فلأن تذكره وأنت غافل خير من أن لا تذكره مطلقًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3744)
تواضع النبي وحسن معاشرته
الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ
الشمائل, مكارم الأخلاق
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوفاء في حياة النبي. 2- وفاء النبي لزوجاته. 3- صور من وفاء النبي. 4- تواضع النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
كان النبي شديد التحرّي للوفاء بالوعد، فما عهد عنه أنه أخلف وعدًا أبرمه، ولا موعدًا فأنقضه، وبهذا الخلق العظيم كسب النبي صداقة قومه ومحبتهم، وكان ذلك قبل بعثته. إن النبي قد سُمي من قبل المشركين بأنه الصادق الأمين، ولم يكسب هذه التسمية عن طريق اللقب الصوري، أو السمة على ذات الشخص فحسب، إن الأمانة والصدق كانتا دمًا يجري في عروقه الشريفة، وبرزت حقيقته في ظاهر معاملته، حتى لقب بالصادق الأمين.
وجاء في سنن أبي داود أن عبد الله بن أبي الحمار بايع النبي بيعًا وبقيت له بقية، فوعده أن يأتيه بها في مكانه، قال: فنسيت، ثم ذكرت بعد ثلاث، فجئت فإذا هو في مكانه، فقال: ((يا فتى، لقد شققت عليَّ، أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك)). ففي هذا الحديث يعلمنا النبي قولاً وعملاً الوفاء بالوعد وعدم إخلاف الوعد، فتأدّب ـ أيها المؤمن ـ بأدب النبي ، ولا تخلف وعدًا أبرمته؛ تكن رجلاً محمديًا.
ومن أخلاق النبي أنه كان وفيًا لزوجته، بلغ حبه لها أنه كان يكرم كل من له صلة بها، وفاءً لحق زوجته وحسن عهد وردا لجميلها الذي قامت به له وللإسلام، حتى لا ينسى الأزواج العشرة الطيبة مع زوجاتهم في حياتهن وبعد مماتهن.
قال أنس: كان النبي إذا أتُي بهدية قال: ((اذهبوا بها إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحب خديجة)) ، وقالت عائشة: (ما غرت من امرأة ما غرت من خديجة، لما كنت أسمعه يذكرها، وإن كان ليذبح الشاة فيهديها إلى خلائلها) أي: صديقاتها. ودخلت عليه امرأة فهش لها أي: انشرح صدره سرورًا لها، وأحسن السؤال عنها، فلما خرجت قال: ((إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن حسن العهد من الإيمان)).
إن وجه القدوة فيما سلف ذكره هو في وفاء النبي وحبه لزوجته، حتى امتد ظلال ذلك الحب والوفاء وطيب العشرة إلى صديقات زوجته ومن له صلة بها، فعليكم بالإحسان وأداء حقوق الزوجات، وأن تحسنوا لأقاربهن وصديقاتهن وفاءً لحقوق الزوجية.
ولم يقتصر حسن العهد والوفاء منه لبعض معاشريه، بل امتد وفاؤه وحسن عشرته لكل من أحسن إليه أو إلى أصحابه أو أهله، كان ذلك المحسن من كان، فقد وفد عليه وفد للنجاشي، فقام النبي يخدمهم بنفسه، فقال له أصحابه: نكفيك، فقال: ((إنهم كانوا لأصحابي مكرمين، وإني أحب أن أكافئهم)). وأحسن لأخته الشيماء، وأحسن إلى جميع الناس من قبيلة هوازن إكرامًا لأخته من الرضاعة.
ومن وفائه لابنته أنه كان يصلي بأمامة ابنة ابنته، يحملها على عاتقه، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها. وكان رسول الله جالسًا يومًا، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه فقعد عليه، ثم أقبلت أمه فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر فجلست عليه، ثم أقبل أخوه من الرضاعة فقام رسول الله فأجلسه بين يديه.
فسبحان من زيّنه بوفاء العهد وحسن العشرة وكرم النفس وسماحة الخلق والتواضع مع علو منصبه ورفعة رتبته، وإن هذه الصفات والشمائل كلهن أعظم المثل والأخلاق التي طالما تمنينا أن تكون هي ديدن المسلمين في أخلاقهم ومعاملاتهم مع الآخرين، وأن يتجه الدعاة لدعوة الناس إليها، ويبتعدوا عن المواضيع التي لا تسمن ولا تغني من جوع الجهل وسوء الخلق.
إن النبي خُيَّر بين أن يكون نبيًا ملكًا أو نبيًا عبدًا، فاختار أن يكون نبيًا عبدًا، فقال له إسرافيل عند ذلك: فإن الله قد أعطاك بما تواضعت له أنك سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من تنشق الأرض عنه، وأول شافع.
ومن تواضعه أنه كره قيام أصحابه له عندما خرج عليهم، وقال: ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم؛ يعظم بعضهم بعضًا)) ؛ وقال : ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
وبلغ من تواضعه أن امرأة كان في عقلها شيء جاءته، فقالت: إن لي إليك حاجة، فقال في تواضع وهو خير خلق الله: ((اجلسي يا أم فلان، في أي طرق المدينة شئت أجلس إليك حتى أقضي حاجتك؟)) قال أنس: فجلستْ، فجلس النبي حتى فرغت من حاجاتها.
لقد بلغ النبي في تواضعه أنه كان في بيته في مهنة أهله، في خدمة أهله، يفلي ثوبه، ويحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله أي: يخرز حذاءه، ويخدم نفسه، ويقم البيت أي: يكنسه، ويعقل البعير، ويعلف ناضحه أي: جمله، ويأكل مع الخادم، ويعجن معها، ويحمل بضاعته إلى السوق.
ومما ورد في تواضعه أنه حج على رحل رث وعليه قطيفة ما تساوي أربعة دراهم، فقال: ((اللهم اجعله حجًا لا رياء فيه ولا سمعة)). ومن تواضعه أنه لما فتحت عليه مكة ودخلها بجيوش المسلمين لم تأخذه نشوة النصر على الأعداء، بل طأطأ رأسه منحيًا حتى كاد يمس قادمة رحله تواضعًا لله تعالى.
إن النبي خير خلق الله وذلك بقوله هو: ((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) ، ونقول الآن: ومع هذه الحقيقة، لم يرضَ النبي من أصحابه أن يفضلوه على أحد من إخوانه الأنبياء، وذلك ليغرس في الأمة التواضع ونفي الكبر والعجب المبطلين لعمل العاملين. ففي صحيح مسلم أن رجلاً قال له: يا خير البرية، فأجابه بتواضع ونفى عن نفسه هذا اللقب بقوله: ((ذاك إبراهيم)) ، وقال لصحابته أيضًا في معرض التواضع وهضم النفس: ((لا تخيروني على موسى)) ، ودخل عليه رجل فأصابته من هيبته رعدة، فقال له سيد المتواضعين وخير خلق الله أجمعين: ((هوّن عليك، فإني لست بملك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد)).
إن النبي في تواضعه مع جميع الناس يمتثل أمر مولاه سبحانه بقوله: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]، ويبين النبي في صحيح سنته أن هذا الخلق واجب عليه وعلى جميع الأمة بقوله: ((إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحدٌ على أحد ولا يبغي أحدٌ على أحد)). إن التواضع يذهب الفخر والخيلاء، ويذهب الظلم المعبر عنه في الحديث بالبغي، ((ولا يبغي أحد على أحد)).
ويقول : ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه)). إن هذا الحديث يخاطب الذين يحبون المال والعز والرفعة، فمن أراد زيادة ماله فعليه بالصدقة، ومن أراد العز والجاه فعليه بالعفو عمن أساء إليه، ومن أراد رفعة القدر والمكانة فعليه أن يكون ذليلاً لله متواضعًا لمولاه، يكن رفيع القدر عند الناس.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3745)
حسن الخلق
الرقاق والأخلاق والآداب
مكارم الأخلاق
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف حسن الخلق. 2- فضيلة حسن الخلق وما جاء في ذلك من النصوص. 3- صور من حسن أخلاق السلف. 4- من أقوال السلف في حسن الخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
بعد: فإن حسن الخلق وصف نبيل، والثناء على صاحبه جزيل جميل، وحسن الخلق هو السجية الراسخة والطبيعة الهادئة، وحسن الخلق هو الفعل الجميل الصادر من الحليم، بسهولة في طبعه وفعاله، فحسن الخلق ـ أيها المؤمنون ـ هو مقابلة الأمور بلين وسهولة، بعيدًا عن التعقيد والفحش في الأقوال وشين الفعال.
قال أنس بن مالك : لقد خدمت رسول الله عشر سنين، فما قال لي قطّ: أفّ، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا.
ولقد جمع رسول الله معاني حسن الخلق في كلمة، كما أنه بيّن معنى الإثم بكلمة، فقال: ((البرّ حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه الناس)).
أحب معالي الأخلاق جهدي وأكره أن أعيب وأن أُعابا
وأصفح عن سباب الناس حِلما وشر الناس من يهوى السبابا
وأترك قاتل العوراء عمدا لأهلكه وما رأى جوابا
لقد بيّن رسول الله أن حسن الخلق والمعاملة الطيبة والكلام الرطب يزيد في مثقال الدرجات الصالحات، وأن السباب والكلام البذيء يُنقص مكيال الصالحات، ويرفع من معدل الإثم والخطيئات، فقال الصادق المصدوق : ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذيء)) ، وإن الله يبغض المتكلم بكلام الفسق والخنى.
وكل جراحة فلها دواء وسوء الخلق ليس له دواء
وليس بدائم أبدًا نعيم كذاك البؤس ليس له بقاء
لقد عمل الصالحون على تربية أنفسهم ورياضتها بصالح الأعمال وحسن الخلق، فهذا ابن عمر يُشهِد أصحابه: (إذا ساء خلقي على غلامي فاعلموا أنه حرّ لوجه الله تعالى). وعصى غلامٌ أمر سيدنا علي بن أبي طالب فقال له: ما حملك على معصيتي؟ فقال: أمنت عقوبتك فتكاسلت، فما زاده على قوله: امض، فأنت حرّ لوجه الله.
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
والنفس من خيرها في خير عافية والنفس عن شرّها في مرتع وخم
الخلق الحسن أن نَسَعَ الناس بأخلاقنا، وأن نختار لأنفسنا ما اختاره الله لنبيه بقوله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199].
الخلق الحسن أن تكون من الناس قريبًا ومعينًا، وفيما يخوضون من الباطل بعيدًا غريبًا، ولقد قالوا في الصديق والصاحب: لأن يصحبني فاجر حَسَن الخلق ـ أي: يعرف حقوق الناس ولا ينسى فضلهم ـ خير من أن يصحبني عابد سيئ الخلق قاسٍ في طبعه غليظٌ في معاملته.
عامل الناس بوجه طليق والق من تلقى ببشر رفيق
فإذا أنت جميل الثنا وإذا أنت كثير الصديق
وصدق رسول الله عندما أجاب عن سؤال السائل: ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق)) ، وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: ((الفم والفرج)).
إن أكثر الناس همًّا ومصائبَ هو صاحب سوء الخلق؛ لأنه بسوء خلقه يجني الحصاد المرّ الذي هو ثمرة جفوته وقسوة طبعه.
وما حسن أن يمدح المرء نفسه ولكن أخلاقًا تذمّ وتمدح
وجاء في تفسير قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4] أي: وخلقك فحسّن.
وسئل الإمام الصالح أبو الحارث المحاسبي عن حسن الخلق فقال: "حسن الخلق: احتمال الأذى، وقلة الغضب، وبسط الوجه، وطيب الكلام". وسئل أبو حفص النيسابوري عن قوله تعالى: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] فقال: "المعاشرة بالمعروف: تحسن للزوجة والعيال فيما ساءك ومن كرهت صحبتها"، أي: وإن كرهت زوجتك فعاشرها بالمعروف، كما قال تعالى: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229].
حسن الخلق بالابتعاد عن سيئ الأخلاق، بترك الغضب المفرط والألفاظ الشنيعة والبخل والحرص والسباب والشتائم وظلم العباد وقهرهم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة. قال : ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)) ، وقال : ((إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون)) ، قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثرثارون والمتشدقون، فما المتفيقهون؟ قال: ((المتكبرون)) ، وقال معاذ بن جبل : آخر ما أوصاني به رسول الله : ((حسن خلقك للناس يا معاذ)).
بحسن الخلق يكثر الأصدقاء، وتنجح المعاملات، وبه يتيسر الدخول إلى الجنات.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3746)
قصة الذبيح دروس وعبر
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
الإيمان بالرسل, القرآن والتفسير, القصص
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرح إجمالي لقصة الذبيح من خلال سورة الصافات. 2- امتثال إبراهيم عليه السلام التام لأمر الله. 3- حنان الوالد على ولده ولطفه به. 4- طاعة الوالد والتنفيذ لطلبه. 5- الدنيا دار اختبار وابتلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول المولى عز وجل: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ [الصافات:99- 111].
أيها المؤمنون، يخبر الله عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولدًا صالحًا، فبشره الله بغلام حليم، وهو إسماعيل عليه السلام، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ، فولد له وهو على رأس ست وثمانين سنة.
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ ، فلما شَبّ وصار يسعى في مصالحه وأطاق العمل، فلما كان هذا رأى إبراهيم عليه السلام في المنام أنه يؤمر بذبح ولده هذا، ورؤيا الأنبياء وحي.
إنه بلاء عظيم واختبار جسيم، حيث يختبر الله عز وجل خليله بذبح هذا الولد العزيز الذي جاء على كِبَر وقد طعن في السن، بعدما أمر بأنه يسكنه هو وأمه في بلاد قَفْر ووادٍ غير ذي زرع، ليس به حسيس ولا أنيس، ولا زرع ولا ضرع، مع هذا كله ـ وهنا العبرة أيها المؤمنون ـ امتثل أمر الله في هذا البلاء، وترك الولد وأمه ثقة بالله وتوكّلاً عليه، فجعل الله لهما فرجًا ومخرجًا، ورزقهما من حيث لا يحتسبان.
وما من مؤمن من ملة هذا الأب الصالح عليه السلام يمتثل أمر الله ـ وإن كان في نظرنا القاصر أنه صعب الفعل والامتثال ـ إلا ويسهله الله ويجعل منه خيرًا كثيرًا.
وهذا جانب الأسوة المهم في شخصية أبينا إبراهيم عليه السلام، بعد هذا الاختبار الشاق، حيث قذف بالابن وأمه في تلك الصحراء الجرداء، يأتيه الوحي باختبار أصعب من الأول، بعد هذا كله، أُمِر بذبح ولده، بِكره ووحيده الذي ليس له غيره، فأجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته.
إن الإيمان الصادق والإسلام الحقيقي يوجب على صاحبه امتثال الأمر الإلهي وإن كان في ظاهره كُرْها للعبد، فهو خير له في الدنيا والآخرة، وكان الله بكم رحيمًا.
ويبين لنا القرآن حنان الوالد على ولده، ويرسم للآباء منهج العطف والحنان مع الأبناء، بعيدًا عن التعنيف والإرهاب، وإن كان الأمر إلهيًّا ولا محيد عن فعله، ومع ذلك فإن الأب الحنون يطيب قلب ابنه، ويهوّن عليه شدة المحنة؛ لعل المحنة تصير منحة. إن في مقدور إبراهيم عليه السلام أن يأخذ الابن بشدة، ويذبحه بقهر، لكنها لفتات تربوية يغرسها القرآن للمربّين؛ لتكون نبتًا يافعًا يقطفون ثماره، قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى.
إن التربية الصالحة والتدين الصحيح غرستا في ضمير إسماعيل عليه السلام معنى الأمر الإلهي، وأنه لا محيد عن تحقيق إرادة الله، وإن معرفة إسماعيل لحق الوالد وقيمة كلماته، ليتعلم الأبناء منها حقوق الوالدين، ولو كانت أوامرهما في غاية الشدة على الولد، ما على الولد إلا أن يطيع، ما لم يؤمر بإثم.
فما قال الأب الحنون كلمته: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى إلا وبادر الغلام الحليم وتربية الخليل إبراهيم فقال: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ، جواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد.
إن خطاب الأب ابنه بقوله: يَا بُنَيَّ ، وقول الابن لأبيه: يَا أَبَتِ ، إشارة إلى أدب التخاطب بين أفراد الأسرة، بأن تكون ألفاظ الوالد ليّنة هيّنة، وألفاظ الأولاد ألفاظ أدب واحترام.
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ، فلما استسلما لأمر الله، وعزم على ذلك، وأضجعه للذبح ألصقه بالتراب، وسمّى إبراهيمُ وكبّر، وتشهّد الولدُ للموت، فعند ذلك جاء من الله الفرج، ونودي من الله عز وجل: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ، قد حصل المقصود، وهو اختبارك وطاعتك، ومبادرتك إلى أمر ربك، وبَذْلك ولدك للقربان، كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالك مبذول للضيفان.
إن وجه العبرة في هذا المقطع عظيم، وهو أن الله سبحانه إنما أمرنا بفرائض وأوامر لينظر هل نأتمر بها أم لا؟ ونهانا عن المحرمات والذنوب لينظر صدقنا في حقيقة انقيادنا وتصديقنا، حيث رضينا به ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا ورسولاً.
إن الله سبحانه وتعالى لا يستفيد من ذبح فلان أو موته أو حياته، فلا تنفعه سبحانه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العصاة، إنما هذه دار اختبار وممر، لا دار حبور ومقر، وعلى قدر الطاعة أو المعصية تكون درجة العبد.
إِنَّ هَذَا لَهُو َالْبَلاء الْمُبِينُ ، إن هذا الاختبار لاختبار بيِّن واضح، إنها محنة صعبة، وبهذا الاختبار ظهرت طاعة إبراهيم عليه السلام لأمر الله، وكانت النتيجة أنّ الله اصطفى إبراهيم خليلاً، وأغدق عليه في القرآن بأوصاف لا تنالها أمم بأكملها، فسمّاه الحق في القرآن بأنه وحده أمة، فقال سبحانه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120]، وقال في حقّه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ [هود:75].
إن إبراهيم عليه السلام لا تربطه بالله صلة قرابة، ولا لأنه من جنس معيّن، فإن الله منزّه عن كل نقيصة وشبه ومثل، إنما نال هذه المكانة بشدة تحرّيه لأوامر الله وطاعته. وفي الحديث القدسي: ((إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)).
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ، وجعلنا فداء ذبح ولده ما يسّره الله من العوض عنه، وهو كبش أبيض أعين أقرن.
إن مقطعًا صغيرًا من بعض الآيات القرآنية يجد فيه الناظر أحكامًا وعبرًا تحير العقول وتذهل الأفكار، ففي الآيات السابقة نرى درسًا في قوة اليقين والإيمان وحسن التوكل وقوة الصبر وأدب الحوار وبر الوالدين وحقوق الأبناء، وأن الطاعة وامتثال الأمر مآلها خير كثير في الدنيا والآخرة، وفيها عظيم درجة سيدنا إبراهيم وابنه الذبيح إسماعيل عليهما الصلاة والسلام، وسنة الذبح التي سنها لنا عليه السلام، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78].
ومن تلك المحنة التي انقلبت منحة أمر النبي بالضحية كل عام فقال: ((الضحية سنة أبيكم إبراهيم)) ، وجاء في الحديث: ((من وجد سعة ولم يضحّ فلا يقربن مصلانا)) ، ولقد جعل نبينا سنة الضحية بالاستطاعة كما مرّ في الحديث، وأنها من السنة على المستطيع.
اقرؤوا القرآن قراءة تدبر وتمعن، وأكثروا من ذكر الله عز وجل في كل أحيانكم، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، إن طلب الحلال وأداء الفرائض والابتعاد عن المنكرات والتسبيح والتحميد وصلة الأرحام وبر الوالدين وغيرها داخلة في معنى ذكر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3747)
عيد الأضحى
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الذبائح والأطعمة, محاسن الشريعة
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مظاهر الحنيفية في أعمال العيدين. 2- تأملات في اجتماع الحجيج على صعيد عرفة. 3- صفة صلاة العيد. 4- استحباب الأضحية وبيان أحكامها. 5- العيد فرصة لصلة الأرحام والتسامح والتعارف.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: تجتمع البهجة والسرور والفرحة والحبور على مسلمي العالم أجمع باجتماع مراسم البهجة والعيد والذبح، وقبلها يصلّي المسلمون صلاة العيد، وقد اجتمع الحجيج لحضور عرفة وإكمال مناسكهم، هذه المناسبات العظام وهذه الرحمات الجسام يمنّ الله بها علينا، ولَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7]، لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ [الحج:37].
في مراسم الذبح لله رب العالمين اتباع من هذه الأمة لأبيها إبراهيم، أمة الإسلام التي ورثت الإسلام من إبراهيم عليه السلام، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]، ورثنا منه الإسلام عقيدة، والاستسلام لقدر الله، طاعة في رضا.
لقد علم الله صدق إبراهيم وإسلامه واستسلامه، فلم يعذبه بالابتلاء، ولا آذاه بالبلاء، وأعفاه من التضحيات والآلام، وورث ـ والحمد لله ـ هذا الإكرام والفضل، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
لقد سنّ لنا نبينا محمد صلاة العيد، وأخبر أمته أن الله أبدلنا بأعياد الجاهلية عيدي الفطر والأضحى، هذان العيدان مناسبة تجتمع فيهما الفرحة والطاعة، حيث التعانق والتسامح والتصافح، وحيث ذكر الله عز وجل بصلاة العيد وأداء المناسك وذبح الأضحية، وقبل ذلك ينتهز المسلمون فرصة يوم عرفة، فيصومون راغبين في رحمة الله عز وجل، حيث وعد أن من صام يوم عرفة تكفر ذنوب سنته الماضية وسنته المقبلة. فتجتمع المناسبات العظام، من حضور جميع الحجيج على جبل عرفات، ومن صيام الأمة في مشارق الأرض ومغاربها ذلك اليوم، ثم حضورهم صباح يوم العيد في الساحات والمصليات والمساجد، ويخرج صغيرهم وكبيرهم وإناثهم وذكورهم، ذاكرين الله ومصلين، يستقبلون العيد بطاعة الله والصلاة، ويودعونه بصلة الأرحام والتكبير بعد الصلوات.
لو تأملت منظر الحجيج في تلك المسيرة الكبرى حيث يهتفون في عرفات وهم مجتمعون، وقد تجردوا من اللباس إلا من الأزر والأردية، وكلهم قد تساووا في المظهر، فلا عظمة إلا لله، ولا تقديس إلا له سبحانه، فأحدهم يناجي ربه بالعربية، والآخر بالإنجليزية، والثالث بالأوردية، والآخر أبكم يناديه بقلبه، والجميع يرجونه ويخافونه، يناجيه الجميع بلهجات العالم أجمع، فسبحان من لا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه المسائل، ولا يبرمه إلحاح الملحين.
هذا التجمع تعجز عنه جميع الملل، فأي دين في الأرض غير الإسلام يمكنه أن يحدث هذا الاجتماع وهذه الوحدة والتماسك؟! وحدة في العبودية، فلا معبود بحق إلا الله، وفي وقت واحد، وهو يوم عرفة، بل وبلباس واحد، يرى المسلم العربي أخاه من جنوب أفريقيا أو من شمال آسيا أو أستراليا وكلهم يهتفون، والهتاف لله وحده، إن أدنى تأمل في هذا المشهد يشعرك أن الإسلام يريد من هذه الأمة الاعتصام والوحدة، وإنه يوحي إليك من مظهر الحجيج العام الوحدة في الاجتماع بالأبدان وفي العبادة وفي المقصد.
صلاة العيد سنة عن نبيكم ، وقد واظب عليها، وكان يكبر في الركعة الأولى قبل القراءة سبع تكبيرات، وكان وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما يصلون العيد قبل الخطبة، وكان يرجع لبيته من طريق غير الطريق الذي ذهب منها لصلاة العيد، وذلك لتكثير الخطى في طاعة الله، فإن المسلم إذا خرج للصلاة فإنه في صلاة ما كانت الصلاة هي التي أخرجته، وله بكل خطوة حسنه، وترفع عنه بكل خطوة سيئة، وكم أضعنا من الخطى والحسنات.
ومن السنة أن تكون صلاة العيد في المصلى، وكان الصحابة رضي الله عنهم يكبرون ويدعون ويهللون إذا خرجوا للعيد، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكبر في الطريق وفي المصلى، حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير.
ومن السنة أيضًا التكبير بعد الصلوات الخمس، من ظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من اليوم الرابع، والتكبير في المساجد والجماعات، ومن يصلي منفردًا في بيته، وعلى هذا عمل أهل مدينة رسول الله من الصحابة والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين.
وينبغي للمسلم أن يتنظف ويتزين لهذا اليوم العظيم، ومن تمام الزينة إزالة الأوساخ والروائح الكريهة بالاستحمام، فقد استحب ابن عمر الاستحمام والاغتسال ليوم العيد، ومن عنده الجديد من الثياب فعليه به، فإن الله جميل يحب الجمال، ويحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
من تمام الخير والفرحة والأجر والسنة أن يذبح المسلم المستطيع، لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، كما أنه ليس من اللائق بالمسلم القادر على الذبح أن لا يذبح، وقال : ((سنّة أبيكم إبراهيم)) ، قالوا: ما لنا منها؟ قالوا: ما أجرنا منها؟ قال: ((بكل شعرة حسنة)) ، قالوا: فالصوف؟ قال: ((بكل شعرة من الصوف حسنة)).
من الأدب مع الله أن نجود في طاعة الله بأحسن ما يمكن من أجود أنواع الأموال، لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، ولقد ذم الله أناسًا ينفقون الرديء من أموالهم: وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267]، وضحّى رسول الله بكبشين أقرنيين أملحين، وقال : ((أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البيّن عورها، والعرجاء البيّن عرجها، والمريضة البيّن مرضها، والكبيرة التي لا تنقي)) ، والمرض الخفيف أو العرج الذي لا يؤثر على مشيها لا بأس بذلك.
من العيوب التي تمنع من جعل الدابة أضحية ذهاب أكثر الأذن، فإذا قطع أكثر من الثلث فلا تصلح كأضحية، سواء أكان هذا العيب في الأذن على شكل قطع أو خرق أو شق، وكل ذلك إذا ذهب بأغلب أذنها. وإذا عرف المسلم أحكام الذبح فمن السنة أن يباشر ذبح أضحيته بنفسه، ولو ذبح له غيره فلا بأس، وقد كان يذبح أضحيته بنفسه.
ولا تصح الأضحية إلا بعد ذبح الإمام، فمن ذبح قبل الإمام فلا تجزئة كأضحية؛ لقوله : ((من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)).
واعلموا أنه لا يجوز بيع جلود الأضحية، إذ كيف تتقرب إلى الله بذبحها ثم تبيع شيئًا منها؟! ولا بأس أن تتصدق به، أو تعطيه، أو تنتفع به، أو تتصدق به للمسجد، وجاء في حديث مختلف فيه بين الصحة والضعف: ((من باع جلد أضحيته فلا أضحية له)) ، وأمر سيدُنا رسول الله سيدَنا عليا أن لا يعطي الجزّار منها شيئًا مقابل جزارته. ومن السنة فيها توجيهها للقبلة، وأن يذكر اسم الله عليها.
هذه أيام رحمة وتسامح وفرح وسرور، أيام أكل وشرب، لا يجوز ويحرم صيام يوم العيد. ومن كان متخاصمًا مع قريبه أو صديقه أو جاره فليسامح، وليتخلق بخلق الله، فإن الله غفور رحيم، ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)) ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10]، الرحم من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله.
كما تقربت إلى الله بالنسك والذبح والصلاة فتقرب إلى الله بصلة رحمك ومسامحة من أساء إليك، قال : ((لا يحل لامرئ مؤمن أن يعرض عن أخيه فوق ثلاث، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) ، رضاء الناس غاية لا تدرك، فتقربوا إلى الناس بالابتسامة والكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة صدقة، واتقوا النار ولو بشق تمرة، والهدية تؤلف بين القلوب، فتهادوا تحابوا، وألقِ السلام على من عرفت ومن لا تعرف، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
انظر إلى أحوال البائسين لترفع عنهم بأسهم، أنفق على المحتاجين، وساعد ذوي العاهات وكبار السن، ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)). زوروا الغرباء والمنقطعين عن أهليهم، وارفعوا عنهم حزن الغربة والحنين إلى الديار والوطن، وأدخلوا عليهم الفرحة ببعض الأطعمة والكلام الطيب، ولا تنسوا إخواننا في فلسطين وسائر بلاد المسلمين من صالح الدعاء، فإنهم ـ كان الله في عونهم ـ تمرّ عليهم الأعياد أعياد الفرحة بالحزن، واللقاء بالفراق، وبزيارة الأحياء الأموات.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3748)
المحاسبة الجادة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الصوم
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
2/1/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعاقب الأعوام وتوالي الشهور. 2- ضرورة المحاسبة وتقييم المسار. 3- وصايا السلف بمحاسبة النفس. 4- ضرورة اغتنام العمر. 5- حقيقة الدنيا. 6- استنكار الأعمال التخريبية. 7- حال الأمة الإسلامية. 8- سبيل العزة والكرامة. 9- فضل صيام المحرم وعاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، تتعاقَب الأعوامُ، وتتوالى الشّهور، والأعمارُ تُطوى، والآجال تُقضى، وكلُّ شيءٍ بأجلٍ مسمّى. وفي استقبالِ عامٍ وتوديع آخَر فُرَص للمتأمِّلين وموعظةٌ للمتَّعظين وذكرَى للمتدبِّرين وعبرةٌ للمعتبرين، يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44]. فالعاقل البصيرُ والحاذق القدير هو من يتَّخِذ من صفَحاتِ الدّهر وانطوائِه وقفاتٍ للمحاسبةِ الجادّة ولحظاتٍ للمُراجعةِ الصّادقة ومحطَّاتٍ للنّظَر في الأحوال والتفطّن في الأوضاع.
إنَّ المؤمنَ حينما يودِّع مرحلةً من عمُره ويستقبِل أخرى فهو في حاجَةٍ ماسّة لمحاسَبَة نفسِه وتقييمِ مسارِه، فحقٌّ على الحازِمِ الموقن باللهِ واليومِ الآخر أن لا يغفلَ عن محاسبةِ نفسِه ومراجعة ميزانِ حرَكَاتها وسكنَاتها وتقييمِ مسارها في ماضِيها وحاضرِها ومستقبلها، يقول ابن القيّم رحمه الله: "وهلاكُ القلب من إهمالِ محاسبَتِها ـ أي: النفس ـ ومِن موافَقَتِها واتِّباع هواها" [1].
إِخوة الإسلام، مجامِع الخير ومكامِن السعادةِ في محاسبةِ المؤمن نفسَه، ينهاها عن كلِّ غيٍّ، ويزجُرها عن كلِّ إثم، ويسوقُها إلى مواطِنِ الخير وموارِدِ البرِّ، ويكفُّها عن مواقِع الآثام والشّرورِ. والكيِّس من دان نفسَه وعمِل لما بعدَ الموت، والعاجز من أتبَع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني. وربّنا جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
ذكَر الإمام أحمد عن عمَرَ رضي الله عنه أنّه قال: (حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزَنوا، فإنّه أهون عليكم في الحسابِ غدًا أن تحاسِبوا أنفسَكم اليومَ، وتزيَّنوا للعرضِ الأكبر، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]) [2].
وصايا سَلفِ هذه الأمّةِ تذكِّرنا كثيرًا بالحِرصِ علَى انتهازِ الفرَصِ بمحاسبَةِ النفس ومعاهَدَتها في كلِّ وقتٍ وحين، يقول الحسن رحمه الله: "إنّ العبدَ لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه وكانت المحاسبةُ من هِمَّته" [3] ، "المؤمِنُ قوّام على نفسه لله، وإنما [يخفُّ] الحساب يومَ القيامة على قومٍ حاسبوا أنفسَهم في هذه الدنيا" [4] ، ويقول ميمون بن مِهران رحمه الله: "إنّ التّقيَّ أشدُّ محاسبةً لنفسِه من سلطانٍ قاضٍ ومِن شريكٍ شَحيح" [5].
وفي كلامٍ بديع مَتين يقول ابن القيِّم رحمه الله: "وقد مثِّلَت النفسُ مع صاحبِها في المال، وكما أنّه لا يتمّ مقصودُ الشركة من الرّبح إلاّ بالمشَارطَة على ما يفعَل الشّريكُ أوّلاً، ثم بمطالعَتِه ما يعمَل والإشرافُ عليه ومراقبَته ثانيًا، ثم بمحاسبته ثالثًا، ثمّ بمنعِه مِنَ الخيانة إنِ اطَّلع عليها رابعًا، فكذلك النفسُ يشارِطها أوّلاً على حِفظِ الجوارح التي حِفظُها هو رأس المال، والتي هي مركَبُ العَطَب والنجاة، فمنها عَقِب من عقِب بإهمالها وعَدَم حِفظها، ونجا مَن نجا بحفظها ومراعاتها، فحِفظُها أساسُ كلِّ خيرٍ، وإهمالها أساسُ كلِّ شر.." إلى أن قال: فإذا شارَطَها على حِفظ هذه الجوارِحِ انتَقَل من هذه المشارطةِ إلى مطالَعَتها والإشرافِ عليها ومراقَبَتها، فلا يُهملها، فإنه إن أهمَلها لحظةً وقعَت في الخيانةِ ولا بدّ، فإن تمادَى في الإهمالِ تمادَت في الخيانةِ حتى يذهَبَ رأسُ المال كلّه، فمتى أحسَّ بالخسران وتيقَّنه استدرَك منها ما يستدرِكه الشريك من شريكِه من الرّجوع عليه بما مضَى والقيامِ بالحِفظ والمراقبةِ في المستقبل" انتهى [6].
أخي المسلم، تذكَّر وأنت تودِّع عامًا وتستقبِل آخَر أنَّ نجاتَك من محاسبة نفسِك وفوزَك في معاهدةِ ذاتِك: هل تجِدُك عاملاً بمقتَضَى أوامِرِ الله وأوامر رسوله ؟! هل أنت طائعٌ لله في كلِّ شأن، متَّبِع لرسول الله في كلِّ لحظةٍ وآن؟! هل كَفَفت النفسَ عن العِصيان وزَجَرتها عن الآثام؟! هل قمتَ بحقوق الخالِقِ كاملةً غيرَ [منقوصة]؟! هل أدَّيتَ حقوقَ المخلوقِ وافيةً غيرَ مبخوسة؟! هل تفقَّدتَ نفسَك وما فيها من الموبقاتِ وعالجتَها عمّا فيها من المهلكاتِ؟! ألا فليكُن لك من تِلك المحاسبةِ ما يكفُّك عن المناهِي والسيِّئات ويسوقك إلى فعل الأوامر والطاعات، ولا تكُن ممّن يرجو الآخرةَ بغيرِ عمل ويؤخِّر التوبةَ بطول الأمل، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
إخوةَ الإسلام، العُمر أعوامٌ وسنَوات، والمؤمِنون الموفَّقون في زيادةٍ من الخير والتقوى وفي سعيٍ حثيثٍ للفوزِ بالأخرى مهما توالَت عليهم الأعوام. المتَّقون في كلِّ زمنٍ وحين لا يزدادُون بالأعوام إلاّ خيرًا وبِرًّا، ولا تمرّ بهم السّنون إلاّ وهم في مسارعةٍ للخيرات واغتنامٍ للصّالحات، فربّنا جل وعلا يذكِّرنا بوصيّةٍ، ألا وهي قوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، ورسولُنا يقول في دعائِه: ((اللهمَّ اجعَل الحياةَ زيادةً لي في كلِّ خير)) [7] ، ويقول : ((خيرُكم من طالَ عُمره وحسُن عملُه)) [8].
فكن ـ أيّها المسلم ـ على حذرٍ من تضييعِ الأعمارِ سُدى ومن تفوِيتِ السنواتِ غُثا؛ فربُّنا جلّ وعلا يقول: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ [فاطر:37]، قال النوويّ رحمه الله: "قال ابن عبّاس والمحقّقون معناه: أولَم نعمِّركم ستِّين سنة؟"، وفي البخاريّ عن النبيِّ أنه قال: ((أعذَرَ الله إلى رجلٍ أخَّر أجلَه حتى بلَغَ السّتّين)) [9] ، قال النووي: "معناه: لم يترك له عذرًا؛ إذ أمهَلَه هذه المدّةَ".
معاشرَ المسلمين، في انصرامِ عامٍ وحلول آخَر موعِظةٌ وتذكير بأنَّ هذه الدنيَا لا تبقى على حالٍ، أمانيها كاذِبة، آمالها باطِلة، عيشُها نكَد، صَفوُها كدَر، المرء منها على خطَر؛ إمّا نِعمةٌ زائلة، وإمّا بليّة نازلة، نعيمُها ابتلاء، جديدُها يَبلي، مُلكها يَفني، أيّامُها معدودة، آجالها مكتوبَة، هي بمثابةِ ظلٍّ زائل أو سَرابٍ راحل، هي كأحلامِ نائِم أو كظلٍّ زائل، والله المستعان وعليه التّكلان، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39]، وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45].
فطوبى لمن لم تَشغَله هذه الدّنيا عن الاستعدادِ للدّار الباقِيَة، وهينئًا لمن لم يغترَّ ببريقِ هذه الدّنيا وسرابها وزينَتِها وزخارِفها عن الاستعداد ليومِ الرّحيل، والفوزُ والفلاح إنما هو لمن جعَل هذه الدنيا مَعبَرًا للدّار الآخرة وميدانًا للتّنافُس في الصالحات الباقيَة، روى مسلم عن النبيِّ أزهدِ مخلوق وأكرَمِهم عند ربّه أنه يصِف الدنيا بقوله: ((إنّ الدنيا حلوةٌ خضِرة، وإن اللهَ مستخلِفُكم فيها فينظُر كيف تَعملون، فاتّقوا الدنيا واتّقوا النساء، فإنَّ أوّلَ فِتنةِ بني إسرائيل في النساء)) [10] ، وخطب عمر بنُ عبد العزيز في الناس فقال: "أيّها الناس، لكلِّ سَفَرٍ زادٌ، فتزوَّدوا لسفَرِكم من الدّنيا إلى الآخرة بالتّقوى، وكونوا كمَن عايَنَ ما أعدَّ الله له من العَذاب، فترَغَّبوا وترهَّبوا، ولا يطولَنَّ فيكم الأمَد فتقسوَ قلوبكم وتنقادوا لعدوِّكم، فإنّه والله ما بُسِط أمَلُ من لا يدرِي لعلّه لا يمسي بعدَ صباحِه ولا يصبِح بعد مسائه" [11].
فحقٌّ على كلِّ مكلَّف وحَتمٌ على كلّ عاقل وهو يودِّع عامًا ويستقبل آخرَ أن يقِف وقفةَ صِدق يحاسِب فيها نفسَه ويسائل ذاتَه؛ ليجعَلَ تقلُّبَ الأزمان من أنصح المؤدِّبين وأفصحِ الواعظين له، لينتبِهَ من غَفلتِه ويعودَ عن غيِّه ويلينَ من قسوتِه، ففي قوارِع الدَّهر عِبَر وفي حوادثِ الأيّام مزدَجَر، يحاسِب نَفسَه ليعلَمَ أنّ هذه الدارَ متاعٌ حالُه فيها بين ماضٍ لا يدري ما الله صانِعٌ فيه وأجَلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فيا صاحبَ البَصَر النافذ والعقلِ الشاهد تزوَّد من نفسِك لنفسِك، ومن حياتك لموتِك، ومن شبابك لهَرَمك، ومن صحّتِك لمرضك، فالفُرَص تَفوت، والأجل موقوت، والإقامة محدودَة، والأيّام معدودة، والله المستعان.
إخوةَ الإسلام، في استقبالِ عامٍ وتوديعٍ آخر تأمّلاتٌ للمتأمِّلين ومواطِنُ تدبّر للمتدبِّرين. وإنّ من أهمِّ ما ينبغي لكلِّ مسلمٍ تذكُّره وتدبّره تلك المآسي التي وقعت في بلادِ الحرمَين في العامِ الماضي من الأفعالِ الإرهابيّة والأعمالِ الإجراميّة التي ما صَبَّت إلا في خدمةِ الأعداء. فحريٌّ بمن زلَّت به القدم وشانَ منه القول والفعلُ أن يتّقيَ اللهَ جلّ وعلا، وأن يعلَمَ أنّ الله جل وعلا له بالمرصاد؛ لأنه آذى عبادَه وضارّ بخلقِه، والله جلّ وعلا يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
إخوةَ الإسلام، تمرّ الأعوام والأمّةُ الإسلاميّة حُبلى بالمشكلاتِ وثَكلى بالفِتن والمغرِيات، فلا بدَّ مِن نَفضِ الغُبار ومراجعةِ المسار، وإنَّ بدايةَ كلِّ عامٍ هجريّ يذكِّرنا بحدثٍ عظيم غيَّر مجرَى التأريخ، حدَث غيَّر فسادَ البشريّة إلى صلاح، وشقاءَها إلى سعادة، حدَث سعدت به البشريّةُ كلُّها وصلحت به الأحوال جميعُها، إنّه حدَث الهجرَة المحمديّة على مهاجِرِها أفضل الصلاة والسلام، حدَث جعله الله طريقًا للنّصر والعِزّة ورَفعِ رايةِ الإسلام وتشييدِ دولتِه وإقامة صرحِ حضراته، فعَسى الأمّة اليومَ أن تعلَمَ أنّ صلاحَها وسَعادتها وعِزَّها مرهونٌ بمِثل هذا الحدَث وما تضمَّنه من مضامينَ خيِّرة ومعالم واضِحة، مَرهونٌ بالتّمسّك بالإسلام والالتزام بحقائِقِ الإيمان والاعتصامِ بحبلِ الرحمن، فلن تحَقِّقَ الأمّة قوّةً ولن تحصِّل عِزّة ولن تبلُغَ مكانة مرموقةً حتى يتحقَّق في واقعها وفي واقع حياتها العملُ الكامل الشامل بالإسلامِ عقيدةً وشريعة، عِلمًا وعملاً، سلوكًا وتحرُّكًا، حُكمًا وتحاكمًا.
إنَّ أمّةَ الإسلام لن تنجوَ من مصائبها وآلامها ولن تتغيَّر أحوالها وتحقِّقَ آمالها ولن تبلغَ مجدَها التليدَ وعِزَّها المستَلَب وديارها المغتَصَبة وحقوقَها المنتَهَكة حتى يتحقَّق الإسلام في حياتها واقعًا عمليًّا محسوسًا مُشاهدًا مَلموسًا في كلِّ نواحي الحياة، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123].
فيا قادة المسلمين، ويا علماءها، يا دعاةَ الإسلام، يا مفكِّري المسلمين، يا رجالَ التربية والتعليم والإعلام، يا حملةَ الأقلامِ، المسؤوليّةُ عظيمة، المسؤوليّة أمامَ الله جل وعلا عظيمة، فليؤدِّ كلٌّ أمانتَه، وليَقُم بواجبه، قبل فوات الأوانِ، وقبل العَرض على الواحد الدّيّان.
أمّةَ الإسلام، مضى عامٌ من حياتنا وقد كثُرت الفِتَن وتلاطَمَت أمواج المِحَن، استحكَمَت الشّهوات، وكثُرت الشبهات، وتعدَّدت المشكِلات والتحدِّيات، فلا خلاص للمسلمينَ مِن هذا كلِّه إلاّ بأن يتَّجِهَ المسلمون جميعًا ـ حُكّامًا ومحكومين، شبابًا وشيبًا، رجالاً ونساءً، علماءَ وعامّة ـ اتِّجاهًا صحيحًا بقلوبِهم وقوالبِهم إلى الوحيَين والعملِ بهما والتمسّكِ بهديِهما على منهج سلَفِ هذه الأمة، فبِذلك تحصُل الرِّفعة والقيادة والكرامةُ والرّيادة والعزّة والسيادة.
إنَّ المسلمين قد كثُرت عليهم المغرِيات والمتغيِّرات، وعظُمت بهم الهجماتُ والتحدِّيات، واشتدَّت بهم الكُرُبات والأزمات، إنهم كما هُم في كلِّ وقتٍ وحين في أشدِّ حاجةٍ وأمسِّ ضرورة إلى الدّواء الحقيقيّ الذي الضّرورةُ إليه فوقَ كلِّ ضرورة، والحاجة إليه أعظمُ من كلِّ حاجة، ذلكم هو التحلِّي بالإيمان والتوكّل والاعتماد عليه وحدَه والالتجاء إلى جنابِه، إنّه التسلُّح بسلاح العقيدةِ الربانية التي ليس على وجهِ الأرض قوّةٌ تضاهِي قوّتَها أو حتى تقارِبها، هي الضّمانُ الأوحَد لاستقامةِ الأفراد واستقرارِ المجتمعات.
ألا فلنتَّخِذ العقيدةَ التي جاء بها محمّدٌ نتّخِذها ميزاننا في العِلم والعَمَل، ميزاننا في الولاءِ والبراء، شعارنا في الغَضَب والرضا، دستورنا في التربيَةِ والإصلاح، ولهذا فلئن واجهتِ الأمّةُ ألوانًا من التّصدِّي السافر والتّحدِّي الماكر والتآمُر الرهيب من قِبَل أعداء الإسلام فليذكُرِ المسلمون وهم على أبوابِ سنةٍ هجريّة من هِجرةِ المصطفى ليتذكَّروا تلك الحقائقَ التي كلُّها معينٌ صافٍ متدفِّق، هي الشّمس الساطعة السّناءُ المشرِق المِشعَل الوضّاء النورُ المتألِّق للمسلِمين حين تغلِب عليهم الظلماتُ من كلِّ جانب وتتقاذفُ فيهم أمواجُ المِحَن وحلقاتُ الفتن من كلِّ صَوب، ولا يهلِك على اللهِ إلاّ هالِك، فربّنا جلّ وعلا يقول: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ويقول جلّ وعلا: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38].
عباد الله، اتَّقوا الله جلّ وعلا، والتزِموا بتلكَ الحقائقِ العظيمة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] إغاثة اللهفان (1/78).
[2] روي هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه من طرق لا تثبت: فأخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (ص29–30)، وأحمد في الزهد (ص120)، وأبو نعيم في الحلية (1/52) من طريق جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عنه رضي الله عنه، وثابت لم يدرك عمر. وعند ابن أبي شيبة في المصنف (13/270): عن جعفر بن برقان، عن رجل لم يسم، عن عمر. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103) عن مالك بن مغول بلاغا عن عمر. وأخرجه مالك في الموطأ (2/111 ـ رواية أبي مصعب ـ) بسند منقطع بين يحيى بن سعيد وعمر. وعلقه الترمذي في صفة القيامة (2459) بصيغة التمريض. وقد ضعف الأثر الألباني في السلسلة الضعيفة (1201).
[3] رواه أبو نعيم في الحلية (2/146).
[4] رواه ابن المبارك في الزهد (307)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/188)، وأبو نعيم في الحلية (2/157).
[5] رواه هناد في الزهد (1228)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/195، 235)، وأبو نعيم في الحلية (4/89)، وعلقه الترمذي في الرقاق (2459). وانظر: جامع العلوم والحكم (ص159).
[6] إغاثة اللهفان (1/79-80).
[7] رواه مسلم في كتاب الذكر (2720) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (5/40، 48)، والترمذي في الزهد (2330)، والدارمي في الرقاق، باب: أي المؤمنين خير؟ (2742) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (1/489)، والمنذري في الترغيب (4/126)، والألباني في صحيح الترغيب (3364).
[9] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6419) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[10] رواه مسلم في الرقاق (2742) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[11] رواه أبو نعيم في الحلية (5/291).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويَرضَى، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له في الآخرة والأولى، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله النبي المصطفى والرسول المجتبى، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِه الأصفيا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله حقَّ التقوى، والتزموا بطاعته في السرِّ والنجوى.
أيّها المسلمون، إنّ شهرَكم هذا منهلٌ للبرِّ والإحسان وموسِمٌ للرِّبح والغُفران، فاجعَلوا التقوى خيرَ بضاعةٍ، وكونوا من أهلِ الفَضل والبِرِّ والطاعة.
عبادَ الله، لقد رغَّب نبيّنا في صوم هذا الشهر فقال: ((أفضل الصّيامِ بعد رمضان شهرُ الله المحرَّم، وأفضل الصلاةِ بعد الفريضة صلاةُ الليل)) أخرجه مسلم [1] ، ولهذا يقول العلماءُ أفضل التطوّعاتِ المطلَقَة من الصّوم صومُ المحرم.
كما حثَّ نبيّنا على صوم يومِ عاشوراء، وهو اليوم العاشر من هذا الشهر، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إني أحتسِب على الله أن يكفِّرَ السّنةَ التي قبله)) أخرجه مسلم [2] ، وفي حديث ابنِ عباس رضي الله عنهما أن النبيَّ صام يومَ عاشوراء وأمَرَ الناسَ بصيامه [3].
والسنّةُ صيام يومِ التاسع مع العاشر، فعند مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيَّ قال: ((لئِن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسع)) [4] ، فمن لم يتمكَّن من صوم التاسع فالأفضل له والمستحَبّ أن يصومَ اليوم الحادي عشر كما جاء ذلك في الخَبر [5] ، وقد عدَّ بعضُ أهل العلم أن الأكمَلَ صومُ يومٍ قبله ويومٍ بعده [6].
هذا ما وَرَد في فضلِ يوم عاشوراء، وما عداه من إحداثِ عباداتٍ ونوافلَ يُزعَم بهتانًا أنها خاصّة بهذا اليوم فذلك بدعةٌ لم يرد بها حديثٌ عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، فاتَّبعوا ولا تبتدِعوا.
ثم اعلَموا أنَّ من أفضلِ أعمالنا وأزكاها عند ربِّنا ومليكِنا الصلاةَ والسلام على النبيِّ.
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك وأنعم على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين...
[1] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1163) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الصوم (2004)، ومسلم في الصيام (1130).
[4] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1134).
[5] وهو قوله : ((صوموا يوما قبله أو يوما بعده؛ خالفوا اليهود)) ، أخرجه أحمد (2154)، والبزار (1052 ـ كشف الأستار ـ)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصححه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): "رواه أحمد والبزار وفيه محمد بن أبي ليلى، وفيه كلام"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصح موقوفا عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).
[6] انظر: زاد المعاد (2/76).
(1/3749)
إشارات من فتح مكة
سيرة وتاريخ
غزوات
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شهر رمضان شهر المناسبات الإسلامية العظيمة. 2- سبب فتح مكة. 3- تجلّي العزة في مواقف الصحابة. 4- قصة كتاب حاطب إلى أهل مكة. 5- ظهور شخصية النبي الحكيمة القيادية السياسية في فتح مكة. 6- تواضع النبي في مواضع العزة. 7- الخطبة العظيمة التي ألقاها النبي بعد الفتح.
_________
الخطبة الأولى
_________
شهر رمضان المبارك شهر مُلئ بالمناسبات الطيبة التي يفتخر بها المسلمون على مر الأيام بالليل والنهار، فهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، وهو شهر ليلة القدر، وشهر الانتصارات في الغزوات كبدر وفتح مكة وغيرهما.
وفتح مكة كان في شهر رمضان سنة ثمان من هجرة النبي إلى المدينة، وسببها أن صلح الحديبية أباح لكل قبيلة عربية أن تدخل في عقد رسول الله إن شاءت، أو تدخل في عقد قريش، فارتضت بنو بكر أن تدخل في عقد قريش، وارتضت قبيلة خزاعة أن تدخل في عقد رسول الله ، واستعانت بنو بكر بأشراف قريش بعد العهد والعقد، ومكروا بخزاعة، وجاء الخبر إلى رسول الله ، فقام يجر رداءه وهو يقول: ((لا نصرت إن لم أنصر بني كعب مما أنصر به نفسي)) ، وقال: ((إن هذا السحاب ليستهل بنصر بني كعب، نصرة للمظلوم ووفاءً بالعهد)).
وندمت قريش على ما بدر منها، فأرسلت أبا سفيان بن حرب معتذرًا، يلتمس الصفح من رسول الله ، وهيهات فقد فات الأوان، وأخذ النبي العهد على نفسه لينصرنّ المظلوم من الظالم، وتكلم أبو سفيان مع النبي فلم يرد عليه؛ لأن المسألة قد تغيرت، والمواثيق قد حلت، وقريش وبنو بكر خانوا العهد.
ويظهر هنا موقف الاعتزاز بالعقيدة والإسلام، فهذا أبو بكر الصديق يرفض الوساطة لأبي سفيان، حيث جاءه طالبًا منه أن يكلم صاحبه في أن يغفر خطأهم، وأما عمر ـ وهو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل ـ لما أتاه أبو سفيان طلب منه أن يكلم النبي ، فقال له في موقف البراءة من المشركين والولاء لله والدين: (أأنا أشفع لكم إلى رسول الله ؟! فوالله لو لم أجد إلا الذرّ لجاهدتكم به)، والله لو لم أجد في قتالكم إلا النمل لقاتلتكم بالنمل.
في موقف عمر الذي كان دائمًا جريئًا في الحق على الأعداء، أنه لا ينفع الصلح مع أعداء يبيّتون العداء، ولو سامحهم النبي ولم يذهب إليهم فاتحًا لاستمروا في طغيانهم يعمهون، ورجع أبو سفيان عائدًا إلى مكة يجر أذيال الخيبة.
وتجهز النبي للخروج لفتح مكة، وأمر بإخفاء الأمر؛ لتتوفر فيه المباغتة والمفاجأة كي لا تحدث قريش مقاومة، وليقل نزف الدم والقتل، ويظهر من أمر الكتمان هذا يظهر النبي بمظهر القائد العسكري، وهو المربي الروحي، وتتنوع التخصصات في ذات المصطفى في هذه الغزوة وفي سائر حياته، ودعا بدعائه المشهور: ((اللهم خذ على أبصار قريش، فلا يروني إلا بغتة)).
وحدثت الخيانة العظمى ـ كما يسمونها اليوم ـ من أحد الصحابة البدريين، وأراد أن يتقرب للمشركين من أجل أهله بمكة، فتجسس على المسلمين، وأرسل رسالته المحذّرة تحت شعر إحدى النساء، والتجسس لحساب الكفرة كفر إذا رأى المتجسس أفضليتهم على المؤمنين، وإن كان التجسس من باب الطمع المادي فهو كبيرة من أكبر الكبائر.
هذا ما كان من حاطب بن أبي بلتعة، وجاء الوحي من السماء محذرًا النبي بأن يدرك الأمر قبل فواته، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعثني رسول الله أنا والزبير والمقداد، فقال: ((انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب ـ أي: بها امرأة تعمل لجاسوس ـ ، فخذوه منها)) ، فانطلقنا تعادي بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالمرأة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنُلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله ، فإذا برسالة التجسس تقول: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس بمكة من المشركين يخبرهم ببعض أمر رسول الله ، وجاء الاستدعاء، وحقق النبي بنفسه في هذه الخيانة: ((يا حاطب، ما هذا؟!)) فقال: يا رسول الله، لا تعجل عليَّ، إني كنت امرأ ملصقًا في قريش، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون قرابتي، ولم أفعله ارتدادًا عن ديني، ولا رضاء بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله بعد أن أنهى التحقيق مع المعترف التائب: ((أما إنه قد صدقكم)) ، فقال عمر: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال : ((إنه شهد بدرًا، وما يدريك لعل الله قد اطلع على من شهد بدرًا فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) ، وأثبت الله إيمان حاطب، وعاتبه هو والذين يحبون المشركين، فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ [الممتحنة:1]، وخرج النبي بعد أن فشلت محاولة حاطب في سرية تامة.
خرج النبي مثل هذا الخروج قبل ثمان سنوات، خرج خائفًا يترقب، ومن ورائه قريش تطارده هو وصاحبه فقط، والآن يعود بعشرة آلاف نفس، أرواحها في أكفها، لا يريدون إلا وجه الله وطاعته. وهو في الطريق في ذلك الحشد العظيم يقع درس من دروسه ، تلك الدروس والعظات التي ترسم لنا السير الصحيح لسلوك الطريق الطويل، ويظهر لون من ألوان العفو والمسامحة من الرسول العملاق، فقد كان ابن عمه وابن عمته من أشد الناس إيذاء له بمكة، فلما نزل بالأبواء ـ وهو مكان بين مكة والمدينة ـ أتياه فأعرض عنهما، فأشار علي بن أبي طالب على ابن عمه وهو أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، أشار عليه أن يأتيه من قبل وجهه، وأن يقول له ما قال إخوه يوسف: تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ [يوسف:91]، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن جوابًا منه، ففعل ذلك أبو سفيان فقال له : لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92].
إن من أهم العبر في سيرة المصطفى أنه كان يرد السيئة بالحسنة، وكان يعفو عمن ظلمه، فهل تخلقنا بأخلاق الحبيب أم أننا نأخذ من هديه وسنته ما يتمشى مع هوانا ونترك ما نريد؟! إن موقف العفو هذا جعل من أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب من أعظم رجالات الإسلام، ولو رد النبي اعتذاره إلى الأبد لدامت قطيعة وجفاء.
ومن مظاهر القيادة في الحرب والدقة في المحافظة على معنويات الجيش أمر النبي جيشه بالفطر؛ ليأخذوا بالرخصة، وليتقووا بالإفطار، فإن وراءهم فتح أم القرى، وخرجت دوريات التفتيش تحوط الجيش من جهاته كلها، وعثروا على أبي سفيان بن حرب في رجال معه، وغدا عم النبي العباس، غدا بصديقه أبي سفيان إلى رسول الله فقال له: ((ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟!)) فقال له أبو سفيان مندهشًا منبهرًا بحسن المعاملة وبطيب الكلام: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أمّا هذه ـ والله ـ فإن في النفس منها حتى الآن شيئا، فقال له العباس: ويحك، أسلم واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم.
إن أمثال أبي سفيان لا ينفع معهم الخطاب الديني أو الكلام الرقيق، إنه صنف من الناس عاش في حب الجاه والفخر والخيلاء، ولا يؤثر فيه إلا مظهر من مظاهر الشوكة والعنف، وهكذا كانت نفسه قبل أن يدخل في دين الله، فقد ثبت من غزوة فتح مكة مشهد من مشاهد النبي السياسي، عرفنا قبل قليل موقف النبي العسكري إن صح التعبير، والآن يظهر موقف من مواقف سياسته فيقول: ((من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)).
ومرت القوات العسكرية أمام أبي سفيان، ومن بين الكتائب، تمر به كتيبة مسلحة، لا يظهر من السلاح إلا العينان، كان أبو سفيان قبل هذه الكتيبة المرعبة يلحقه الشك، ولكن الرعب ملأ قلبه، وقال للعباس: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فإنه ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، فقال له العباس: هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار، وقال قولته المشهورة: والله يا أبا الفضل، لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا، فقال له العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة، قال: فنعم إذًا.
ففي هذا الأثر ترون أن أبا سفيان لم يتأثر بقول رسول الله : ((ويحك يا أبا سفيان، أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟!)) ووقع تحت تأثير القوة والسلاح بالقناعة والرضا، ليعلم المؤمنون أن لا إسلام إلا بقوة وعزة.
وتقدم رسول الله حتى وصل لذي طوى، فوقف على راحلته متواضعًا، وإنه ليضع رأسه ويطأطئه حتى يكاد يمس واسطة الرحل، دخل الحرم متواضعًا وهو الفاتح العظيم صاحب الجيش العظيم، دخل مكة وهو يقرأ: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر].
تواضع في موقف العزة والنصر، وما أخذته نشوة الفرح بالكبر والبطر والخيلاء، وحاشاه عليه الصلاة والسلام، بل صاحب تواضعه تلاوة القرآن، ذاكرًا لله خاشعًا، وهكذا كانت حياته كلها.
هلاّ تواضعنا لله، وهلاّ تواضعنا لخلق الله ونزعنا رداء العجب والفخر، إذ المطلوب منك ـ أيها المؤمن ـ أن تعطف وترحم المساكين، وأن تصل رحمك والوالدين، وأن تغض الطرف عن إساءة المسيئين، وتسامح المذنبين، وتأتسي بسيد العالمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
ودخل مكة متجهًا إلى البيت، دخل بعد أن استسلم سادتها وأتباعهم، وعلت كلمة الله في جنباتها، وسقط ثلاثمائة وستون صنمًا تحيط بالكعبة، بعد أن أخذ يطعنها الواحدة تلو الأخرى بعود في يده وهو يقول: ((جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا)) ، فوقعت على الأرض ترابًا وأحجارًا، وكانت قبل قليل آلهة تعبد من دون الله.
وكان داخل الكعبة آلهة وصور، فرفض أن يدخلها حتى أخرجت الآلهة ومحيت الصور، ويظهر هنا موقف من مواقف نصر الله عظيم، ذلك الموقف هو صعود بلال فوق ظهر الكعبة يؤذن للصلاة، فأقبل الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، هنا نتذكر بلالاً المطمور تحت صخور الظهيرة والحر الشديد، وهو يعذب ويوطأ بالأقدام على أن يذكر الآلهة بخير، وما يزيد على قول: أحد أحد، إنه وعد الله أن ينصر من ينصر دينه، فلما أبى بلال أن يذكر إلا الله، كذلك أبى الله إلا أن يطأ بلالُُُُ بقدميه المتشققتين في سبيل الله، أن يطأ ظهر بيت الله مناديًا: الله أكبر.
هذا النداء (الله أكبر) الذي طالما رفضته مكة وهي مخيرة مالكة لعزتها وقوتها، وأبى الله إلا أن يتم نوره، ويدخل الناس في دينه أفواجًا، بعد أن طهر النبي البيت من رجس الأوثان خطب في حشود المنتصرين من الصحابة الكرام والمنهزمين من أولاد الطلقاء، خطب فيهم خطبة المنتصر، خطبة تمثل أروع موقف من مواقف العفو ودفن الجاهلية، الجاهلية بدمها ومالها وفخرها بالآباء، الجاهلية التي تبيح الحرام متى شاءت، وتحرمه متى شاءت، الجاهلية التي تنقص من قدر النساء وتهضم حقهن.
مما جاء في تلك الخطبة المباركة: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدمي هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج. يا معشر قريش، إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعاظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟)) قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
وهذا موقف آخر من مواقف الرحمة والعفو، ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) ، سامحهم وهم الظالمون، وعفا عنهم وهم المجرمون، لطالما آذوه باليد واللسان، فهل عفوتم عن إخوانكم وسامحتموهم؟! وهل اتبعنا الرسول في مسامحته لمن آذاه من المشركين، وأن نفتح مع جميع المسلمين صفحة جديدة بيضاء، ننسى معها الخصام والتشاجر والحقد والبغضاء؟!
ليس من الإسلام أن نقطع ما وصل الله، أو نبغض من أمرنا الله بحبهم ووصلهم، هذه حقيقة الدين، وهذه مواصفات أهله، ومن ملأ صدره بالكُره وسوء الطوية فليس له من صلاته إلا المظاهر، وليس له من الإسلام إلا الاسم. إن صلاح القلوب هو الأساس لصلاح الأعمال، فأضمروا الحب والرحمة، وأظهروا الابتسامة والفرحة، وارم نفسك على إخوانك ببدنك ومالك ووقتك، وكن أخًا للفقراء والمساكين والأرامل والأيتام.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3750)
حنين الجذع وعظيم محبة الصحابة للرسول
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, الصحابة, معجزات وكرامات
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موجز خبر حنين الجذع. 2- سرد الروايات الواردة في حنين الجذع. 3- تأثّر الصحابة بحنين الجذع. 4- بيان عظمة هذه المعجزة. 5- تعظيم الرسول بعد موته كيف يكون؟ 6- صور من إجلال الصحابة للرسول. 7- الغرض من ذكر المعجزات.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فهذه خطبة في معجزات النبي ، نذكر فيها من معجزاته قصة حنين الجذع وغيرها.
هذه القصة ـ أيها المؤمنون ـ قبل أن أغوص بكم في كتب الحديث المبارك هي عبارة عن شوق عظيم من قطعة خشب صمّاء، فارقها النبي فلم يتمالك هذا الجذع الفراق، وكان يخطب عليها الجمعة، وظل ينوح ويصيح حتى مسح عليه النبي بيده الشريفة فهدأ وسكن، وهذه المعجزة صحيحة ثابتة، رواها أصحاب الصحيح والسنن، وحدَّث بها من الصحابة بضعة عشر صحابيًا، وقال عياض: "والخبر به متواتر". وقد رواها البخاري في صحيحه وغيره كما ستسمعون إن شاء الله تعالى، وقال أبو عيسى الترمذي في رواية أنس: "حديث صحيح".
إن من معجزات نبيكم أنه كان يحنّ إليه الشجر والحجر والمدر، ومن ذلك حنين وشوق ذلك الغصن الذي كان يخطب عليه.
فقد أخرج البخاري عن جابر بن عبد الله قال: كان جذع يقوم إليه النبي ، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العِشَار ـ الناقة العُشَرَاء إذا حُمِل عليها حنّت وأصدرت صوتًا ـ، حتى نزل النبي فوضع يده عليه فسكت.
وأخرج البخاري عن جابر أن النبي كان يقوم إلى نخلة، فجعلوها له منبرًا، فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي، فنزل فضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها.
وأخرج الدارمي من طريق عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: كان النبي يخطب إلى جذع، فاتخذ له منبر، فلما فارق الجذع وعمد إلى المنبر الذي صنع له جَزِعَ الجذع، فحن كما تحن الناقة، فرجع النبي فوضع يده عليه وقال: ((اختر أن أغرسك في المكان الذي كنت فيه فتكون كما كنت، وإن شئت أغرسك في الجنة فتشرب من أنهارها وعيونها، فيحسن نبتك وتثمر، فيأكل أولياء الله من ثمرك)) ، فسُمِع النبي وهو يقول: ((نعم قد فعلت)) مرتين، فسُئل النبي فقال: ((اختار أن أغرسه في الجنة)).
وقال أُبي بن كعب كان النبي يخطب إلى جذع فصنع له منبر، فلما قام عليه حنّ الجذع، فقال له: ((اسكن، إن تشأ أغرسك في الجنة فيأكل منك الصالحون، وإن تشأ أن أعيدك رطبًا كما كنت)) ، فاختار الآخرة على الدنيا.
وقال أبو سعيد الخدري : كان رسول الله يخطب إلى جذع، فصنع له منبر، فلما قام عليه حنّ الجذع حنين الناقة إلى ولدها، فنزل إليه رسول الله فضمه إليه فسكن.
حن جذع النخيل حين نأى عنه حنينًا كأنه عُشَراء
لو قلاه ولم يصله بضمّ أحرقته من وجده الصعداء
وفي البخاري عن ابن عمر أن النبي كان يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحوّل إليه، فحنّ الجذع، فأتاه النبي فمسحه فسكن.
وفي رواية ابن عباس أن النبي احتضنه فسكن وقال: ((لو لم أحتضنه لحنّ إلى يوم القيامة)).
وفي رواية أنس كان رسول الله يقوم إلى جذع، فلما اتخذ المنبر وقعد عليه خار الجذع كخوار الثور حتى ارتجّ المسجد بخواره، فنزل إليه رسول الله فالتزمه فسكت، فقال: ((والذي نفسي بيده، لو لم ألتزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزنًا على رسول الله )).
ولما رأى الناس هذه المعجزة لم يتمالكوا أنفسهم، وظلّوا يبكون من عظيم هذه الآية، فقد قال سهل بن سعد الساعدي : إن رسول الله كان يقوم إلى خشبة، فلما اتخذ المنبر حنّت الخشبة، فأقبل الناس عليها، فوقفوا إلى جنبها، فرقّوا من حنينها حتى كثر بكاؤهم، فنزل رسول الله فأتاها فوضع يده عليها فسكنت.
أيها المؤمنون، هذا جذع نخلة فارقه رسول الله فحنّ إليه واشتاق وهو جماد ميت، فأين شوقنا وحبّنا لرسول الله ؟! وكان الحسن البصري رضي الله عنه إذا حدّث بهذا الحديث لا يتمالك نفسه ويبكي ويقول: "يا عباد الله، الخشبة تحنّ إلى رسول الله شوقًا إليه لمكانه، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه".
ولقد جاء عن أبي بن كعب أن الخشبة من شدة الشوق انصدعت وتشققت، وقال الصحابي الجليل المطلب بن أبي وداعة: (لا تلوموه ـ أي: الجذع ـ؛ فإن رسول الله لم يفارق شيئًا إلا وجد عليه).
قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: ما أعطى الله نبيًا ما أعطى محمدًا ، فقال له عمرو بن سواد: أعطي عيسى إحياء الموتى! فقال له الإمام الشافعي: أعطي محمد حنين الجذع، فهذا أكبر من ذاك.
يقول القاضي عياض رحمه الله في كتابه الشفا: "واعلم أن حرمة النبي بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وعند ذكره وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعشيرته، وتعظيم أهل بيته وصحابته".
قال أبو إبراهيم التجيبي: "واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذُكِر عنده أن يخضع ويخشع، ويتوقّر ويسكن من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله به".
فمن تعظيم الصحابة وتوقيرهم وإجلالهم لرسول الله ما جاء في صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: وما كان أحب إليَّ من رسول الله ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.
وفي سنن الترمذي عن أنس أن رسول الله كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس، فيهم أبو بكر وعمر، فلا يرفع أحد منهم إليه بصره إلا أبو بكر وعمر، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويبتسمان إليه ويبتسم إليهما.
وفي صحيح البخاري عن عروة بن مسعود حين وجهته قريش عام القضية على رسول الله ، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى، قال عروة: وإنه لا يتوضّأ إلا ابتدروا وضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقًا ويتنخم نخامة إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمر بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له. فلما رجع عروة بن مسعود إلى قريش قال: يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكًا في قوم قط مثل محمد في أصحابه. وفي رواية: إن رأيت ملكًا قط يعظمه أصحابه ما يعظم محمدًا أصحابه، وقد رأيت قومًا لا يسلمونه أبدًا.
أيها المؤمنون، إن الغرض من ذكر المعجزات هو تثبيت الإيمان والتعريف بعظيم قدر المصطفى ، وأن نمتع أسماعنا بشيء من العلم الشريف الذي يغفل عنه الكثير من الجمهور، وأودّ أن أقول لكم: إن العبرة من الخطبة الأولى وهي تعظيم الشجر والحجر أمر رسول الله والخطبة الثانية وهي تعظيم الصحابة وشدة أدبهم مع رسول الله أن نسعى بكل وسعنا إلى احترام سنة رسول الله ، وأن نعمل بها، ولن تتحقق دعوى الحب إلا إذا سرنا على هديه وسنته، وإن قراءة شمائله وسيرته والإكثار من الصلاة عليه لموجب لذلك كله، إلى ترسيخ قدره وعظمته في القلوب.
قال أبى بن كعب : يا رسول الله، فأجعل صلاتي كلها لك، يا رسول الله، لا أزيد على الصلاة عليك، وأكثر منها، فأجعل حياتي كلها صلاة عليك؟ فقال له : ((إذًا تكفى همّك ويغفر ذنبك)). فيا أصحاب الهموم والمصائب والمعائب، ويا أصحاب الذنوب، أكثروا من الصلاة على سيدنا محمد طبّ القلوب.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3751)
من معجزات النبوة
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, معجزات وكرامات
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من معجزات النبي استجابة الجمادات والحيوانات له. 2- من معجزات النبي البركة في الماء والطعام اليسير. 3- تعظيم الصحابة للنبي وتبركهم به. 4- صور من توقير السلف للنبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المؤمنون، من معجزات نبينا أن الجمادات والحيوانات تنطق وتستجيب له، وتتأدب بحضرته الشريفة إكرامًا لمقامه العظيم عند الله عز وجل، فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه حيث ذكر أنس خادم رسول الله كيف كان ينفجر الماء بين أصابع رسول الله ، وكيف كانوا يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل.
قال رضي الله عنه: كنا مع رسول الله في سفر فقلّ الماء، فقال: ((أعطوني فضلة من ماء)) ، فجاؤوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: ((حيَّ على الطهور المبارك والبركة من الله)) ، قال أنس: فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.
وبلغ من فضل رسول الله أنه كان يُسلّم عليه الحجر إذا مرّ عليه أدبًا معه وتعظيمًا لحقّه، فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله : ((إني لأعرف حجرًا بمكة كان يُسلّم عليَّ قبل أن أُبعث، إني لأعرفه الآن)).
ومن معجزات النبي أنه كان يسقي الآلاف من الناس بقليل الماء، ففي البخاري عن جابر بن عبد الله قال: عطش الناس يوم الحديبية، والنبي بين يديه ركوة، فتوضّأ فجهش الناس نحوه ـ أي: أسرعوا نحوه ـ فقال: ((ما لكم؟)) قالوا: ليس عندنا ماء نتوضّأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا. قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة.
ومن معجزات النبي أنه كان يبصق في البئر فيزداد ماؤه ويعذب، فقد روى البخاري في صحيحه عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية فجلس النبي على شفير البئر، فدعا بماء فمضمض ومجّ في البئر، فمكثنا بخير بعد، ثم استقينا حتى روينا وروت أو صدرت ركائبنا.
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنهم كانوا مع رسول الله في سفر وفقدوا الماء، حتى وجدوا امرأة معها مزادتين، فجيء بها إلى رسول الله ونودي في الناس: اسقوا واستقوا، فسقى من شاء، والمرأة تنظر ما يفعل بمائها، وبعد أن أكملوا حاجتهم من الماء ملئت مزادتيها بالقدرة الإلهية أشد مِلأة منها حين ابتدئ فيها، معجزة لرسول الله.
وفي صحيح مسلم عن أنس أن النبي وضع يده في قدح فيه ماء فتوضأ من ذلك الإناء الصغير جميع أصحابه ببركته عليه الصلاة والسلام، وقال أنس: كانوا زهاء ثلاثمائة.
ومن معجزات النبي أن الطعام القليل كان يكفي العدد الكثير من الناس ببركته ، فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة أنه أتى بطعام يسير لرسول الله فدعا بالبركة، ثم قال: ((خذوا في أوعيتكم)) ، فأخذوا حتى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملؤوه، قال: وأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلة، وكان عددهم ألفًا وأربعمائة.
وفي الصحيحين عن جابر أنه أرسل للنبي بالطعام، وكان ذلك الطعام شيئًا قليلاً لا يكفي إلا النفر اليسير، فأذِن النبي لأهل الخندق كلهم بأن يحضروا الطعام، قال جابر رضي الله عنه: فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوا وانحرفوا، وإن برمتنا لتغط كما هي، وإن عجيننا ليخبز كما هو.
من معجزات نبينا في تكثير الطعام والشراب ما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه وجميع أهل الصفة شربوا من إناء واحد أعطاهم النبي ، فشربوا أجمعين ولم ينفد القدح، حتى شرب النبي الفضلة.
وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن ثلاثين ومائة من الصحابة الكرام أكلوا مع النبي من صاع طعام حتى شبعوا، وفضلت القصعتان، وحملوا الطعام على البعير.
وفي سنن الترمذي عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: كنا مع النبي نتناول من قصعة من غدوة حتى الليل، يقوم عشرة، ويقعد عشرة.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن أم مالك كانت تهدي للنبي في عُكّة لنا سمنًا ـ والعكة الإناء الذي يوضع فيه السمن ـ، وكانت تأكل منه هي وأبناؤها، لا ينفد أبدًا ببركة النبي ، فلما عصرتها نفد، فأتت النبي فقال: ((عصرتيها؟)) قالت: نعم، قال: ((لو تركتِها ما زال قائمًا)) أي: موجودًا حاضرًا.
وفي سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله يومًا بتميرات فقلت: يا رسول الله، ادع فيهن بالبركة، فضمّهنّ ثم دعا فيهن بالبركة، ثم قال: ((خذهن فاجعلهن في مزودك، فكلما أردت أن تأخذ منه شيئًا أدخل يدك فيه وخذه، ولا تنثره نثرًا)) ، قال: ففعلت، فلقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسق في سبيل الله ـ والوسق: ستون صاعًا ـ، فكنا نأكل منه ونطعم، وكان لا يفارق حقوي ـ أي: لا يفارق إزاره، حزامه الذي في وسطه ـ حتى كان يوم قتل عثمان انقطع.
ومن معجزات نبينا أن الحيوانات كانت تنقاد خاضعة له ومتأدبة بحضرته الشريفة، فقد أخرج مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله فتلاحق بي، وتحتي ناضح لي ـ أي: جمل ـ قد أعيا ولا يكاد يسير، فقال لي: ((ما لبعيرك؟)) قلت: عليل، فزجره ودعا له، فما زال بين يدي الإبل قُدّامها يسير، فقال لي: ((كيف ترى بعيرك؟)) قلت: بخير قد أصابته بركتك.
وأخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه بعث رجلاً فأتاه فقال: يا رسول الله، قد أعيتني ناقتي أن تنبعث، فأتاها فضربها برجله، قال أبو هريرة: والذي نفسي بيده، لقد رأيتها تسبق القائد.
وأخرج أحمد وأبو نعيم بسند صحيح عن أبي هريرة قال: جاء ذئب على راعي غنم فأخذ منها شاة، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئب على تلّ فأقعى أي: فجلس ـ وقال: عمدتَ إلى رزق رزقنيه الله تعالى فانتزعته مني، فقال الراعي: تالله إن رأيت كاليوم، ذئبًا يتكلم! قال: الذئب أعجب من هذا رجل في النخلات بين الحرّتين ـ وهي المدينة المنورة ـ يخبركم بما مضى وبما هو كائن بعدكم، وكان الرجل يهوديًا، فجاء النبيَّ وأخبره، فصدّقه النبي.
رعيت الضأن أحميها زمانا من الضبع الخفي وكل ذيب
فلما أن سمعت الذئب نادى يبشرني بأحمد من قريب
سعيت إليه قد شمّرت ثوبي عن الساقين قاصدة الركيب
فألفيت النبي يقول قولاً صدوقًا ليس بالقول الكذيب
فبشرني بدين الحق حتى تبينت الشريعة للمنيب
وأخرج أحمد وغيره، وصحح الحديث الهيثمي في مجمع الزوائد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لآل رسول الله وحش ـ دابة من الدواب ـ، فإذا خرج رسول الله لعب وذهب وجاء، فإذا جاء رسول الله ربَضَ ولم يترمْرَم ـ أي: سكن ولم يتحرك ـ ما دام رسول الله في البيت أدبًا مع النبي.
وأخرج الطبراني في معجميه الصغير والأوسط والحاكم والبيهقي ـ وللحديث أسانيد ترفعه للحسن ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي كان في محفل من أصحابه، إذ جاء أعرابي من بني سليم قد صاد ضبًّا، فقال: واللات والعزّى لا آمنت بك حتى يؤمن بك هذا الضب، فقال رسول الله : ((من أنا يا ضب؟)) فقال الضب بلسان عربي مبين يفهمه القوم جميعًا: لبيك وسعديك يا رسول رب العالمين، قال: ((من تعبد؟)) فقال: الذي في السماء عرشه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر سبيله، وفي الجنة رحمته، وفي النار عذابه، قال: ((فمن أنا؟)) قال: أنت رسول رب العالمين وخاتم النبيين، قد أفلح من صدقك، وقد خاب من كذبك، فأسلم الأعرابي.
وأخرج الحاكم في مستدركه وقال: "صحيح الإسناد" وأقرّه الذهبي عن سفينة مولى رسول الله قال: ركبت البحر في سفينة فانكسرت، فركبت لوحًا منها، فأخرجني إلى أَجَمة فيها أسد ـ أي: قصب فيه أسد ـ، إذ أقبل الأسد، فلما رأيته قلت: يا أبا الحارث، يا أسد، أنا سفينة مولى رسول الله ، فأقبل يبصبص ِبذَنبِه حتى قام إلى جنبي، ثم مشى معي حتى أقامني على الطريق، ثم هَمْهم ساعة، فرأيت أنه يودّعني.
إن معرفة السلف لحقيقة رسولنا الكريم أورثتهم الأدب معه ومع سنته، ومع كل شيء يحبّه عليه الصلاة والسلام، ودعاهم ذلك للتبرك به وبآثاره، فقد جاء في صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: لقد رأيت رسول الله والحلاق يحلقه، وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل.
وفي الترمذي بسند حسن غريب عن طلحة أن الصحابة من عظيم أدبهم مع النبي لا يجترئون على مسألته، ويوقرونه، ويهابونه.
قال مالك مخبرًا عن أدب أيوب السختياني عند ذكر رسول الله : ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه. وقال: وحج حجتين، فكنت أرمقةُ ولا أسمع منه، غير أنه إذا ذكر النبي بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي كتبت عنه.
قال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر النبي يتغير لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يومًا في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليَّ ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر، وكان سيد القراء، لا نكاد نسأله عن حديث أبدًا إلا ويبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق، وكان كثير الدعابة والتبسم، فإذا ذكر عنده النبي اصفرّ، وما رأيته يحدث عن رسول الله إلا على طهارة، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر النبي فينظر إلى لونه كأنه ينزف منه الدم، وقد جف لسانه في فمه، هيبة لرسول الله.
هذه بعض أحوال السلف في أدبهم مع النبي أورثهم الأدب مع رسول الله عند ذكر اسمه وعند سنته، ما جعلهم رمز القيادة والريادة لكل خير موصل لثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3752)
معجزات النبي
الإيمان, قضايا في الاعتقاد
الإيمان بالرسل, معجزات وكرامات
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كان النبي لا يقول قولاً إلا ويحققه الله تعالى له. 2- كلام النبي للبكم والموتى والجمادات. 3- شفاء المرضى وذوي العاهات على يدي النبي. 4- إجابة الله تعالى دعاء نبيه.
_________
الخطبة الأولى
_________
من عظيم منّة الله على نبيه أنه كان لا يقول قولاً ولا يفعل فعلاً فلا يكون إلا كما شاء، وهذه غاية حبّ الله لعبده، فقد جاء في مستدرك الحاكم وصحّحه وأقرّه الذهبي أن سفينة مولى رسول الله سمّاه النبي بذلك، وسبب التسمية أن رسول الله خرج هو وأصحابه فثقل عليهم متاعهم ـ لم يستطيعوا حمل أغراضهم ـ، فقال رسول الله لسفينة: ((ابسط كساءك)) ، فبسطه، فجعلوا فيه متاعهم الذي لم يستطيعوا حمله، فحملوه على سفينة، ولم يكن هذا اسمه، فقال : ((احمل، فإنما أنت سفينة)) ، قال: فلو حملت من يومئذ وِقْر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل عليَّ إلا أن يَجْفُوَ، وذلك لأن النبي قال له: ((احمل، فإنما أنت سفينة)).
ومن معجزات نبينا أنه كان يكلم الموتى والبكم والجمادات، فقد جاء في الصحيحين البخاري ومسلم وأبي داود عن أبي هريرة أن يهودية أهدت للنبي بخيبر شاة مَصْلِيّة ـ مشوية ـ سمّتها، فأكل رسول الله منها وأكل القوم، فقال: ((ارفعوا أيديكم، فإنها أخبرتني أنها مسمومة)) ، فكلّمته الشاة وهي ميتة مشويّة.
ثم سمت له اليهودية الشاة وكم سام الشقوة الأشقياء
فأذاع الذراع ما فيه من سم بنطق إخفاؤه إبداء
وكما كانت الأموات تتكلم معه ويحييها الله له بإذنه، كذلك كان يبرئ المرضى وذوي العاهات بإذن الله، قال عياض في كتابه الشفا بتعريف حقوق المصطفى: "إن قتادة بن النعمان أصيب يوم أحد بسهم في عينه، حتى سقطت على وجنتيه، فردّها رسول الله ، فكانت أحسن عينيه".
وأخرج النسائي والترمذي وحسّنه وصححه الحاكم والبيهقي عن عثمان بن حنيف الصحابي أن أعمى قال: يا رسول الله، ادع الله أن يكشف لي عن بصري، قال رسول الله : ((فانطلق فتوضّأ، ثم صلّ ركعتين، ثم قل: اللهم إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، يا محمد، إني أتوجّه بك إلى ربك أن يكشف عن بصري، اللهم شفّعه فيَّ)) ، قال: فرجع وقد كشف الله عن بصره.
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي تفل في عينَي عليٍّ يوم خبير، وكان رَمِدًا ـ أي: كان بعينيه مرض الرَّمَد ـ، فلما نفث النبي في عينيه أصبح بارئًا.
وفي البخاري أن رسول الله نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خبير فبرئت.
وفي صحيح البخاري أن ساق عبد الله بن عتيك انكسرت، فمسح النبي على الكسر، قال عبد الله بن عتيك: فكأنما لم أشكها قط.
وأخرج أحمد بسند رواته ثقات أن رسول الله نفث في يد محمد بن حاطب لما احترقت ذراعه، ومسح عليها، وجعل يتفل عليها ويقول: ((أذهب الباس، رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا)) ، فما قام من عنده حتى برئ وذهب الحرق الذي في يده.
وفي الصحيحين أن رسول الله قال: ((لن يبسط أحد منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من مقالتي شيئًا أبدًا)) ، فبسط أبو هريرة ثوبه، ثم جمعه لصدره، قال أبو هريرة: فو الذي بعثه بالحق، ما نسيت من مقالته تلك إلى يومي هذا. وأصبح أبو هريرة أكثر الصحابة رواية عن رسول الله ، ولم يأت أحد من الصحابة بالعدد الذي حفظه فرواه ، فقد حفظ عن النبي بعد تلك الضمّة المباركة خمسة آلاف حديث وأزْيَد.
وفي صحيح مسلم أن النبي أخذ حصيات من تراب عندما فرّ المسلمون، فرمى بهن في وجوه الكفار يوم حنين، ثم قال: ((انهزموا وربّ محمد)) ، فو الله ما هو إلا أن رماهم بحصياته قال العباس : فما زلت أرى حَدّهم كليلاً وأمرهم مُدبِرًا.
وفي الصحيحين عن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله ، فبينما النبي يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما تُرى في السماء قَزْعَة ـ أي: سحابة خفيفة ـ، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمُطِرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله، تهدّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا)) ، فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجَوْبة ـ أي: مثل الحفرة المستديرة الواسعة ـ، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدّث بالجود، وفي رواية: ((اللهم على الآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)) ، قال: فأقلعت، وخرجنا نمشى في الشمس.
ودعا للأنامِ إذ دَهَمَتْهُم سَنَةٌ مِنْ مُحولِها شَهْباءُ
فاسْتَهَلّتْ بالغَيْثِ سَبْعَةَ أَيَّا مٍ عليهم سحابةٌ وَطْفاءُ
تَتَحَرّى مَواضِعَ الرَّعْيِ وَالسَّقْ يِ وحيث العِطاشُ تُوهَى السِّقاءُ
وأتى الناسُ يَشْتَكُونَ أذاها وَرَخَاءٌ يُؤْذِي الأنام غلاءُ
فدعا فانجلى الغمام فقلت في وصف غيث إِقْلاعه استسقاءُ
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله ما أكره، فأتيت رسول الله وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله : ((اللهم اهد أم أبي هريرة)) ، فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف ـ أي: مغلق ـ، فسمعتْ أمي خَشَفَ قدمي ـ أي: حركة المشي وصوته ـ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خَضْخَضة الماء، ثم قال: فاغتسلتْ ولبستْ درعها، وعَجِلتْ عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله ، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيرًا، قال: قلت: يا رسول الله، ادع الله أن يحبّبني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين ويحبّبهم إلينا، قال: فقال رسول الله : ((اللهم حبّب عُبَيدك هذا ـ يعني أبا هريرة ـ وأمّه إلى عبادك المؤمنين، وحبّب إليهم المؤمنين)) ، فما خُلِقَ مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
وفي الصحيحين أن جرير بن عبد الله قال: كنت لا أثبت على الخيل، فذكرت ذلك للنبي فضرب يده على صدري حتى رأيت أثر يده في صدري، وقال: ((اللهم ثبّته، واجعله هاديًا مهديًا)) ، قال جرير: فما وقعت عن فرس بعد.
من معجزات نبينا ما رواه البيهقي بسند مرسل رواته ثقات أن امرأة جاءت لرسول الله بابن لها قد تحرك، فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا لم يتكلم منذ ولد، فقال رسول الله : ((أدنيه))، فأدنته منه فقال: ((من أنا؟)) ، فقال الأبكم: أنت رسول الله.
من معجزات نبينا أنه كان إذا غرس شجرة بيده أطعمت من سنتها التي غرسها فيها، فقد روى أحمد والبزار وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح" أن رسول الله غرس لسلمان الفارسي نخله كله إلا نخلة غرسها عمر، فأطعم نخله من سنته إلا تلك النخلة، فقال رسول الله : ((من غرسها؟)) قالوا: عمر، فغرسها رسول الله بيده، فحملت من عامها.
ومن معجزات النبوة ما رواه الطبراني في الأوسط ورواته ثقات عن عمران بن حصين قال: كنت مع رسول الله إذ أقبلت فاطمة فوقفت بين يديه ـ قال البيهقي: كان ذلك قبل نزول آيات الحجاب ـ، فنظر إليها وقد ذهب الدم من وجهها، وغلبت الصفرة على وجهها من شدة الجوع، فنظر إليها رسول الله فقال: ((ادني يا فاطمة، ثم ادني يا فاطمة)) ، فدنت حتى قامت بين يديه، فرفع يده فوضعها على صدرها في موضع القلادة، وفرّج بين أصابعه ثم قال: ((اللهم مُشبِع الجاعة ورافع الوضِيعة، ارفع فاطمة بنت محمد)) ، قال عمران: فنظرت إليها وقد ذهبت الصفرة من وجهها، وغلب الدم كما كانت الصفرة غلبت على الدم. قال عمران: فلقيتها بعد فسألتها، فقالت: ما جعتُ بعد ذلك يا عمران، ما شعرتْ بالجوع بعد أن دعا لها.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3753)
حقوق الأبناء
الأسرة والمجتمع
الأبناء
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الإسلام بالأبناء في شتى مراحل حياتهم. 2- استحباب الأذان في أذن المولود. 3- على الوالدين الرضا بالمولود ذكرًا كان أم أنثى. 4- الحرص على اختيار الاسم الحسن. 5- وجوب نفقة الوالد على ولده بالحلال. 6- أهمية الرحمة في تربية الأبناء. 7- من حق الأولاد تربيتهم على الأخلاق الحسنة وتعليمهم وتقوية صلتهم بالله. 8- الحث على غرس الرجولة في الأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
اهتم الإسلام بالوليد من أول لحظات ولادته، وعمل على توثيق صلته بخالقه في جميع مراحل حياته؛ من تسميته واختيار مطعمه وتعليمه وتنشئته تنشئة صالحة وتربيته على الرجولة وتعميق معاني الخير فيه، حتى يشبّ فردًا صالحًا يؤدّي حق دينه ووطنه عليه.
فكان أول شيء يفعله الوالد بولده عند بروزه للحياة أن يؤذّن في أذنه، والحكمة من ذلك أن يكون أول ما يطرق سمعه تكبير الله وشهادة الإسلام، فقد أذّن النبي في أذن الحسن بن علي رضي الله عنهما حين ولدته فاطمة رضي الله عنها.
ومن حق وواجب الوالد نحو ولده أن يرضى بالمولود ذكرًا كان أو أنثى، فمن رواسب الجاهلية في هذا العصر أن يفرح البعض بالبنين، ويضيقوا ذرعًا بالبنات، وذلك يتنافى مع التسليم بقضاء الله وحكمته العليا التي يعجز البشر عن إدراك مراميها.
والله سبحانه وتعالى قد أوضح في محكم كتابه أن الأولاد هبة منه لعباده، فقد يهب البعض إناثًا فقط، أو العكس، أو يهبه الصنفين معًا، وأحيانًا يحرمه منهما، فالله عز وجل يعلم مصلحة عباده، وهو وحده سبحانه صاحب الإيجاد والمنع، لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [الشورى:49، 50].
وبيّن الإسلام أن من سلوك الجاهلية أنهم يكرهون الإناث من الأولاد: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ [النحل:58، 59].
وبعض الناس يفرّق في معاملته بين أولاده الذكور والإناث، والرسول يقول: ((من ابتُلِي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهنّ كنّ سترًا من النار)).
ومن حق ابنك عليك أن تختار له اسمًا حسنًا؛ لأن الاسم يلازمه، والاسم الحسن يعيش صاحبه حياته متفائلاً بعيدًا عما توحي به الأسماء القبيحة من منغّصات، روى مالكٌ في موطئه في باب: ما يكره من الأسماء عن يحيى بن سعيدٍ أن رسول الله قال للقْحَة تحلب: ((من يحلب هذه؟)) فقام رجلٌ، فقال له رسول الله : ((ما اسمك؟)) فقال له الرجل: مُرّة، فقال له رسول الله : ((اجلس)) ، ثم قال: ((من يحلب هذه؟)) فقام رجلٌ فقال له رسول الله : ((ما اسمك؟)) فقال: حربٌ، فقال له رسول الله : ((اجلس)) ، ثم قال: ((من يحلب هذه؟)) فقام رجلٌ فقال له رسول الله : ((ما اسمك؟)) فقال: يعيش، فقال له رسول الله : ((احلب)).
قال الإمام الباجي في شرحه للموطأ: روى عبد الله بن عمر أن النبي غيّر اسم ابنةٍ لعمر بن الخطاب، كان اسمها عاصيةً فسماها جميلةً، وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي فقال له: ((ما اسمك؟)) قال: حزنٌ، قال له: ((أنت سهلٌ)) ، قال: لا أغيّر اسمًا سمّانيه أبي. قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه: فما زالت الحزونة فينا بعد.. إلى قوله رحمه الله: فاسم حربٍ يذكّر بما يحذر من الحرب وكذلك مُرّة، فتكرهه النفوس لذلك, وكان النبي يحبّ الفأل الحسن, وقد روي عنه أنه قال: ((أحب الفأل)) ، قيل له: وما الفأل؟ قال: ((الكلمة الحسنة)) ، وهي التي تذكر بما يرجوه من الخير فتسرّ به النفس، وربما كان بمعنى البشارة بما قدّره الله عز وجل من الخير، ولذلك قال النبي يوم الحديبية وقد طلع سهيل بن عمر: ((قد سهل لكم من أمركم)) ، فكان كما قال. وذكر الباجي مسائل ممتعة في الباب لا ينبغي للطالب الجهل بها.
وقال عمر لرجل: ما اسمك؟ فقال: جمرة، فقال: ابن مَن؟ فقال: ابن شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحرقة، قال: أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: بأيّها؟ قال: بذات لظى، قال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا، قال: فكان كما قال عمر بن الخطاب.
ومن حقّ ابنك أن تنفق عليه، فقد اقتضت إرادة الله تعالى إبقاء نوع الإنسان بالتناسل، وجرى بذلك قضاؤه، ولما كان الولد لا يعيش في العادة إلا بتعاون من الوالد والوالدة في أسباب حياته فقد أوجب الشرع الحكيم على كل منهما ما يتيسّر له، والمتيسّر من الوالدة الإرضاع، ومن الوالد الإنفاق قدر استطاعته، وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]. فالوالدة يجب عليها إرضاع ولدها إن لم يكن هناك عذر مانع من مرض ونحوه؛ لأن لبنها أفضل لبن لولدها باتفاق الأطباء، حيث كُوِّن من دمها، فهو الذي يلائمه ويناسبه، وقد اقتضت الحكمة الإلهية بأن تكون حالة لبن الأم في التغذية ملائمة لحال الطفل بحسب درجات سنه.
وقال : ((أفضل دينار ينفقه الرجل دينار ينفقه على عياله، ودينار ينفقه على فرسه في سبيل الله، ودينار ينفقه على أصحابه في سبيل الله)) ، فبدأ بذكر العيال، فأيّ رجل أعظم من رجل ينفق على عيال صغار، يعفّهم الله، وينفعهم به ويغنيهم؟! وإذا فرّط الأبوان أو أحدهما في قوت أولادهما فقد باءا بالإثم والخطيئة، وكفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يقوت، كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول.
ويجب على الآباء تحرّي الطيب الحلال؛ ليطعموا منه أولادهم، حتى يكونوا نبتًا طيبًا، لم يختلط بغذائهم كسب حرام من مال السرقة والرشوة والربا والاحتيال، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، فالله سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار، وذلك بالابتعاد عن كل ما يخالف أوامره، والذي من جملته كسب الحرام، وأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به.
من حق الأولاد على والديهم الرحمة بهم، فالطفل في حاجة إلى غرس الثقة في نفسه، وذلك يبدأ بإحاطته بنوع من الحنان والشفقة والرحمة، حتى لا ينشأ في رعب وفزع، وأمر الإسلام بالرحمة مع كل الناس، وبخاصة الأولاد، وقال : ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)) ، وكان يقبّل الحسن والحسين وعنده الأقرع بن حابس التميمي، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا قط، فنظر إليه ثم قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم)).
وعَجِب أعرابي من تقبيل الصبيان فقال: إنكم تقبّلون الصبيان وما نقبّلهم، فقال : ((أوَأملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك)) ، وقال أحد الصحابة: ما رأيت أحدًا كان أرحم الناس بالعيال من رسول الله ، وعثر أسامة بن زيد بعتبة الباب فدمي، فجعل النبي يمصّه ويقول: ((لو كان أسامة جارية لحلّيتها ولكسوتها حتى أنفّقها)).
وعثر الحسن والنبي على منبره فحمله وقرأ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:15]، وخرج بالحسين فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فلما قضى صلاته قالوا: قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمر، فقال: ((إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته)).
وجاء رجل لعبد الله بن المبارك فشكا إليه بعض ولده، فقال: هل دعوتَ عليه؟ قال: نعم، قال: أنت أفسدته، ((إنما يرحم الله من عباده الرحماء)).
من يرحم الخلق فالرحمن يرحمه ويكشف الله عنه الضر والباسا
ففي صحيح البخاري جاء متصلاً: لا يرحم الله من لا يرحم الناس
ومن حق الأولاد التربية، فالرحمة التي يجب أن يستظل بها الأولاد لا تعني التقصير في حقهم وإهمالهم من أنواع التربية التي يتعين على الآباء أن يمرّنوهم عليها حتى ينشؤوا نشأة طيبة، ويتربّوا على المكارم، ويتخلّقوا بكريم الصفات؛ ليكونوا دعائم قوية للحفاظ على العرض والدين.
قال الشافعي: "إياك أن تسترضي الولد إذا غضب بلين الكلام وخفض الجناح؛ فإن ذلك يتلف حاله، ويهون عليه العقوق، بل ذَكِّرْهُ بخطئه، وما أعد له من العقاب عليها، وإياك أن تسبه أو تشتمه؛ فإن ذلك يجرئه بمثله على إخوانه، بل معك".
ومن حق الأولاد أن يبسط الوالدان لأولادهم الأخلاق والقيم التي نادى بها الإسلام، ويزودوهم بها صغارًا، ليكبروا وقد تحلّوا بالفضائل، فالطفل ينشأ على ما كان عوّده أبوه، وقال : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه)) ، وإن أفضل هدية يقدمها الوالدان لأولادهم الأدب الحسن.
ومن حق الأبناء أن تصلهم بالله عز وجل، حيث ترغبهم بتعاليم دينهم، وتحبيب عبادة الله إليهم، وتعويدهم على طاعته، حتى يلتزموا الطريق المستقيم في نموهم وجميع مراحل حياتهم، ولقد بيّن لنا سيدنا لقمان عليه السلام، بيّن الخط الرباني السديد؛ لينظر المربّون التطبيق العملي في التربية القرآنية للأولاد، وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:16-19].
وهذا رسولنا الكريم يربي ابن عمه على الصلة بالله عز وجل، حيث يقول لابن عباس: ((يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، إذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفّت الصحف)).
ومن حق الأولاد أن يهتمّ وليّهم بتعليمهم، فإن ديننا الحنيف جاء حربًا على الأمّية والجهالة، والنبي جاء بالقرآن الكريم ليعلمنا الكتاب والحكمة، فهلاّ علّمنا أولادنا القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وهلاّ علّمناهم مكارم الأخلاق وما يصلح الدنيا ويوصل للآخرة بسلام. إن أول ما يجب تعليمه للطفل أمور دينه التي جاء بها القرآن الكريم، ووضحتها السنة النبوية الشريفة، ثم بعد ذلك يتعلم كل ما يقدر على تعلمه من معارف وعلوم نافعة، وقال عمر بن الخطاب : (علّموا أولادكم السباحة والرمي والفروسية).
وحق عليك ـ أيها الوالد وأيتها الوالدة ـ أن تبعثا بأولادكم إلى المسجد ليتعلموا القرآن الكريم ويحفظوه، بدلاً من التسكّع في الطرقات والأسواق والعكوف أمام شاشة المرئية، حيث تضيع منهم الفرص والأوقات، فيكونوا من الجاهلين، وذلك لأن الصبي إذا بدأ حياته مع القرآن الكريم وعرف تعاليم الدين الحنيف اختلطت هذه التعاليم بشخصيته كلما نما وبلغ مبلغ الرجولة، قال : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع)).
حرص الإسلام على أن يشبّ صغارنا بعيدًا عن تيارات الميوعة والتخنّث وحياة الترف التي تبعدهم عن القيام بدورهم في الحياة، فعليكم ـ أيها المؤمنون ـ بإنماء مواهب أولادكم وبناء شخصياتهم، فلا يُهمل رأيهم، ولا يُكبت شعورهم، ولا يُتجاهل إحساسهم بذات أنفسهم، راقبوا تصرفاتهم وتطلعاتهم، نظموا حياتهم وهذبوها، ربوا الذكور على الرجولة ليعيشوا رجالاً ويموتوا أبطالاً، عودوا بناتكم على العفة والطهارة ليخرج من تحت أيديهن جيل نقي قوي.
قال أحد الماضين في تعريف الولد: "ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة وسماء ظليلة، وبهم نثور على كل جليلة، فإن طلبوا أعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم، ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً، فيملوا حياتك، ويودوا وفاتك، ويكرهوا قربك".
إن الرجل لا يصلح للنعومة والرقة، فكم هو الفرق بين الدجاج والصقور، وبين النعاج والنمور، دفعت امرأة من الصحابيات لابنها يوم أحد السيف، فلم يطق حمله، فشدته على ساعده، ثم أتت به النبي فقالت: يا رسول الله، هذا ابني يقاتل عنك، فقال : ((أي بُني، احمل ها هنا)) ، فأصابته جراحة فصُرع، فقال النبي : ((لعلكِ جزعت؟)) فقالت: لا، يا رسول الله.
وكانت النسوة من السلف الصالح يحرضن أولادهن على تلقي العلم النافع وحضور حلقه ومجالسه، فمروا أولادكم ـ أيها المؤمنون ـ بتعلم القرآن والمحافظة على شرائع الإسلام، فإن رسول الله قال: ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3754)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع
الأرحام
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- للأقارب حقوق وواجبات. 2- أهمية صلة الرحم وما جاء من النصوص في ذلك. 3- وسائل صلة الرحم. 4- من آداب الزيارة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فلأقاربك عليك حقوق وواجبات، ولك عليهم حقوق وواجبات، فرض ديننا وشريعتنا أن نراعي هذه الحقوق والواجبات.
فمن تلك الحقوق عدم التباعد والعقوق، وجعل الله اللعنة فيمن أعرض عن أمر الله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]، ففي هذه الآية يذكّرنا ربنا بأن السخط والغضب على الذين يفسدون في الأرض بعد إصلاحها، ويقطعون صلتهم بأقاربهم من ذويهم.
لا خير في قربى بغير مودة ولرب منتفع بودّ أباعد
وإذا القرابة أقبلت بمودة فاشدد لها كفّ القبول بساعد
قال رسول الله : ((من سرّه أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه)) ، أي: من سره أن يوسع الله عليه في الرزق وأن يؤخر فيطيل الله عمره ببقاء ذكراه فليصل قرابته.
هذا حديث شريف مبارك، يرغب فيه رسول الله الأقارب أن يصلوا أرحامهم، كعادته في إرساء دعائم المجتمع المثالي المبارك.
أسرتك ـ أيها المؤمن ـ تتكون من أبيك وأمك، ومنك ومن إخوتك وأخواتك، وتمتدّ فتشمل أقاربك القريب منهم والبعيد، وديننا الإسلامي الحنيف حريص على أن تكون الروابط في الأسرة قوية، وأن تكون الصلات بين أفرادها وثيقة؛ لأن الأسرة هي الوحدة الصغرى التي يتكون منها المجتمع، ومتى كانت الأسر قوية كان المجتمع قويًا متماسكًا. ويتضح ذلك في هذا الحديث، فالرسول يرغب في صلة ذي القربى وفي برّهم، ويعد من يبرّ أقاربه أن الله يوسع له في رزقه، ويمدّ في عمره بتوفيقه إلى الخير والأعمال الطيبة التي تجعل حياته مباركة طويلة وإن قصرت، وتجعل ذكره جميلاً باقيًا بعد موته.
ووسائل البر بالأقارب كثيرة، منها أن يكون المرء رفيقًا بهم، ويحسن معاملتهم، ويعمل على إزالة ما قد يكون بينهم من خلاف، ويفعل ما يحبون، ويجتنب ما يكرهون، ويعين فقيرهم، ويعطف على ضعيفهم، ويشارك في مسراتهم وأحزانهم، ويبذل لهم ما يستطيع من ماله ومساعدتهم ونصيحتهم.
وليس أخي من ودّني بلسانه ولكن أخي من ودّني في النوائب
ومن مالُه مالي إذا كنت معدمًا ومالي له إن عضّ دهرٌ بغارب
فلا تحمدنْ عند الرخاء مؤاخيًا فقد تنكر الإخوان عند المصائب
قال تعالى: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء:26]، وقال عز وجل: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى [النحل:90]، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال : ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذلك لك)) ، ثم قال رسول الله : ((اقرؤوا إن شئتم: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23] )).
وينبغي للإنسان المؤمن حقًّا أن يصل رحمه ولو قطعه أقاربه، فقد جاء رجل لرسول الله وقال: يا رسول الله، إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال : ((لئن كنت كما قلت فكأنما تسفّهم الملّ ـ أي: الرماد الحار ـ ، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك)) ، قال الإمام النووي رحمه الله: "أي: كأنما تطعمهم الرماد الحار, وهو تشبيه لما يلحقهم من الألم بما يلحق آكل الرماد الحار من الألم, ولا شيء على هذا المحسن, بل ينالهم الإثم العظيم في قطيعته وإدخالهم الأذى عليه".
ولا أدفع ابن العم يمشي على شفا ولو بلغتني من أذاه الجنادع
ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه لترجعه يومًا إليَّ الرواجع
وأفرشه مالي وأحفظ عيبه وأرعاه غيبًا بالذي هو سامع
وحسبك من جهل وسوء صنيعة مُعاداة ذي القربى وإن قيل: قاطع
وجاء في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)).
وكما يثاب المؤمن على صلة رحمه فكذلك يضاعف له أجر صدقته إذا تصدق بها على أقاربه، ففي سنن الترمذي عن سلمان قال: قال : ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)).
وكان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيْرُحَاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ، وإن أحبّ مالي إليَّ بيْرُحَاء، وإنها صدقة لله تعالى، أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى، فضعها ـ يا رسول الله ـ حيث أراك الله، فقال رسول الله : ((بخ، ذلك مال رابح، بخ ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلتَ، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
أقاربك أقوى الناس صلة بك، وأسرع الناس على مشاركتك فيما يسرك أو يحزنك، فأحسن إليهم تلق جزاء ذلك محبة منهم ورضوانًا من الله تعالى، واعلم بأنه لا يضيع جهد أو مال تبذله في سبيل أقاربك؛ لأن الله يجزي به أوفى الجزاء.
واعلموا أنه لا يقاس عمر الإنسان بالشهور والسنين، وإنما يقاس بما فيه من أعمال طيبة باقية الأثر.
قال رسول الله : ((يقول الله تعالى: أنا الرحمن وهذه الرحم، شققت لها اسمًا من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)) ، وقال أبو ذر : أوصاني خليلي عليه السلام بصلة الرحم وإن أدبرت، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا. وعندما هاجر رسول الله من مكة إلى المدينة حرّضه رجل على غزو بني مدلج، فقال له : ((إن الله قد منعني من بني مدلج بصلتهم الرحم)).
وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: (مروا الأقارب أن يتزاوروا، ولا يتجاوروا). وقال بعض العلماء: أمرهم بالتزاور دون التجاور؛ لأن التجاور قد يورث التزاحم على الحقوق، وربما وحشة وقطيعة رحم.
ومسألة التزاور متوقفة على العرف، وعلى حال القريب، فَرُبَّ قريب يحب أن يزور وأن يُزار في كل يوم، كما قال أحدهم:
إذا حقّقت من خلّ ودادًا فزره ولا تخف منه مِلالا
وكن كالشمس تطلع كل يوم ولا تك في زيارته هلالا
وفي الوقت نفسه رأينا الذي يفضّل أن تكتحل عيناه بالسم ولا أن ترى لها قريبًا، وفي مثل هذا يصدق قول القائل:
توقّف عن الزيارة كل يوم إذا أكثرت مللت من تزور
وقال : ((زر غِبًّا تزدد حبًّا)) ، أي: زر بعد أيام، ولا تجعل الزيارة متتالية؛ تزدد حبًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3755)
من حقوق المسلمين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التعريف بكلمة الحقوق. 2- أهمية الحقوق والواجبات بين الناس. 3- من الحقوق التي جاء بها الإسلام: رد السلام، عيادة المريض، اتباع الجنازة. 4- على المؤمن أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه. 5- المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. 6- التحذير من الوقوع في النميمة. 7- الحث على التواضع.
_________
الخطبة الأولى
_________
حقوق المسلم على أخيه المسلم كثيرة سهلة على مَن إلى الخير وفّقه الله، وإنها لصعبة عسيرة على من إلى الشيطان أسلم قياده فأغواه.
وإن الحقوق جمع حقّ، والحقّ كلمة نستعملها في معنى الصدق والصواب، وفي الأمور البدهيات، وكأنّ الإنسان الذي لم يلتزم بحقوق أخيه الإنسان إنسان كاذب في معاملته، يتيه وراء الخيال، حيث إن الإنسان بطبعه كائن اجتماعي، يُحاط بالناس في منزله وفي الشارع وفي العمل وفي جميع أماكن تجمّعه، وإن الذي لا يَألف ولا يُؤلف إنما هو ذلك الذي يعيش في أدغال الغابات والكهوف.
فأنت ـ أيها الإنسان ـ من خيط إبرتك إلى سفينتك لا محيد لك ولا صول لك إليها إلا بأخيك الإنسان، وهذا من جانب مادي، وأما من الجانب المعنوي فلكلّ منا أفراح وأتراح، سعادة وأحزان، وإذا لم نبن صرح الحقوق والواجبات انهدم نظام الأسرة والجماعات.
لقد جاء الإسلام بأخوة الدين وبرّ الوالدين وصلة الأرحام والعطف على الصغير وتوقير الكبير، كما قال القائل:
اصدق وعفّ وبرّ واصبر واحتمل واصفح وكافِ ودارِ واحلم واشجع
والطف ولِن وتأن وارفق واتّئد واحزم وجدّ وحامِ واحمل وادفع
رباط متين من الأخلاق والسلوك، وتيجان لا كتيجان الملوك، يضعها ربّنا بين أيدينا مكلّلة بهدي السماء وبتوضيح سيد الأنبياء ، لعلّنا نعتصم ونتّحد.
من حق أخيك المسلم عليك أن ترد عليه السلام إذا سلّم عليك، وأن تزوره إذا مرض، وترفع معنوياته وتتّعظ، فكم من صحيح ذهب لمريض وطبيب عاد مريضًا وعالجه، فبرئ المريض ومات العُوّاد والطبيب.
وصحيح أضحى يعودُ مريضًا وهو أدنى للموت ممن يعود
كم من عليل قد تخطاه الردى فنجا ومات طبيبه والعود
إذا زرت المريض أدخلت على قلبه السرور، وكان مرضه نعمة من الله عليك، حيث مَنَّ عليك ببدن صحيح، وغيرك على فراش المرض والعجز يتقلّب، فيزيد ذلك من شكرك لمولاك، حيث أصحّ بدنك وأعطاك قوتك.
وزيارة المريض ينبغي أن تكون قصيرة؛ كي لا تملّه وتزيد من تعبه.
إذا عدت في مرض مكثرًا فخفّف وخَف أن تملّ العليلا
وإن كان ذا فاقة مُقتِرًا فأسعف وإن كان نَيلاً قليلاً
ومن حق المسلم أن تتبع جنازته إذا مات، وإذا حدثت عنده مناسبة تفرحه أو تحزنه فوجب عليك إعانته بما يحتاجه، وإذا عطس أمامك فشمّته، أي: قل عندما يعطس: يرحمك الله.
هذه المعاني الرقيقة اللطيفة جاءت على لسان من لا ينطق عن الهوى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((حق المسلم على المسلم خمس: ردّ السلام، وعيادة المريض، واتّباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)).
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُم [الفتح:29]، قال ابن عباس: معنى رُحَمَاء بَيْنَهُمْ : يدعو صالحهم لطالحهم، وطالحهم لصالحهم، فإذا نظر الطالح إلى الصالح من أمة محمد قال: اللهم بارك له فيما قسمت له من الخير وثبته عليه وانفعنا به، وإذا نظر الصالح إلى الطالح قال: اللهم اهده وتب عليه واغفر له عثرته.
ومن حق المسلم على أخيه المسلم أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإن تمني زوال نعمة الله على عباده أو الشماتة بهم أو الاستهزاء أو السخرية أو الأذية لهم كل ذلك مناف لأخوة الدين، قال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمّى والسهر)) ، وقال : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) ، فكما أن البناء لا يكون إلا إذا اجتمعت أجزاؤه وقويت قواعده وسقفه، فكذلك لن تكون دولة أو أمة أو شعب أو قبيلة أو عائلة أفرادها يتناحرون ويتعادون، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عمران:103]، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا.
ومن حقوق المسلمين أن لا تؤذيهم بفعل أو قول، فكم من إنسان يحب أن يعرض عضلاته على عباد الله، وكم من سفيه يتلذّذ بأعراض الناس، والنبي يقول: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ، فإذا لم تسطع نفع المسلمين ولا نفسك فما أجمل بعدك عن أذية نفسك وغيرك، ففي الحديث: ((فإن لم تقدر ـ أي: على فعل الخير ـ فدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدّقت بها على نفسك)) ، وأفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده.
إن الله برحمته ومغفرته يغفر ويرحم ذنوب العباد فيما بينهم وبينه سبحانه، أما حقوق العباد فلن يغفرها سبحانه حتى يأخذ صاحب الحق حقه، فاتقوا الله عباد الله، وابتعدوا عن الأذى والظلم.
من حقوق المسلمين أن تتواضع لهم ولا تتكبر عليهم، فإن الله لا يحب كل مختال فخور، وكان من خُلُق رسول الله التواضع، فكان يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي حاجته.
كم جاهل متواضع ستر التواضع جهله
ومميز في علمه هدم التكبّر فضله
فدع التكبر ما حييت ولا تصاحب أهله
فالكبر عيب للفتى أبدًا يقبح فعله
فالتواضع سبيل يسهل لك الانتفاع من غيرك، ويسهل على غيرك أن ينتفع منك، قال : ((إن الله تعالى أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد)).
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعًا فكم تحتها قوم هُمُ منك أرفع
فإن كنت في عز وخير ومنعة فكم مات من قوم هُمُ منك أمنع
ومن حق المسلمين أن لا تسمع ما يقوله بعضهم على بعض من الشر، ولا يجوز لك أن تبلّغه للخصم، فإن فعلت فأنت رسول شرّ وحرب، وأنت السبب فيما يقع بينهم عندها من عداوات، وقال : ((لا يدخل الجنة نمّام)).
لا تقبلن نميمة بُلّغْتَها وتحفظن من الذي أنباكها
إن الذي أهدى إليك نميمة سينمّ عنك بمثلها قد حاكها
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3756)
معصية شرب الخمر
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
18/3/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الخمر وبيان تحريمها وأضرارها ومفاسدها. 2- نماذج من سرعة انقياد الصحابة رضي الله عنهم. 3- عقوبة شارب الخمر الدنيوية والأخروية.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: إخوة الإيمان، نواصل حديثنا عن المعاصي، وحديثنا اليوم عن شرب الخمر، فشرب الخمر معصية عظيمة نهى الله سبحانه عنها وحذر منها وحرمها على المسلمين، فالخمر مذهبة لعقل الإنسان، يستوي الإنسان عند شربها بالبهائم، ويفعل ما لا يمكن أن يفعله حال صحوه قبل شربها، لهذا حرمها الله ورفضتها الفطرة السوية، فالإنسان السوي عندما يرى ما تفعله الخمر بشاربها فإنه ينفر منها حتى ولو لم يعلم تحريمها، يروي ابن كثير كما في البداية والنهاية أن عاصم المنقري ـ وهو من سادات العرب في الجاهلية ـ حرم على نفسه الخمر قبل الإسلام، وذلك لأنه سكر يوما فهجم على ذات محرم منه فهربت منه، فلما أصبح قيل له في ذلك فحرم على نفسه الخمر وقال:
رأيت الخمر منقصة وفيها مقابح تفضح الرجل الكريما
فلا والله أشربها حياتي ولا أشفي بها أبدا سقيما
فالخمر إذا منقصة، يدرك هذا كل ذي فطرة سوية، وقد سميت خمرا لأنها تخامر العقل وتحجبه، فهي ساترة للعقل الذي هو ميزة الإنسان، لهذا فإنه يدخل تحت مسمى الخمر كل ما استحدث من مسكرات ومخدرات، أورد القرطبي في أحكام القرآن ما مختصره: "إن للخمر ثلاثة معان: الأول: الستر والتغطية لأنها تخمر العقل وتغطيه، والثاني: أنها سميت خمرا لأنها تركت حتى اختمرت وأدركت كما يقال: اختمر العجين، أما المعنى الثالث: فأنها سميت خمرا من المخامرة أي: المخالطة لأنها تخالط العقل، والمعاني الثلاثة صحيحة. فالخمر تركت حتى اختمرت ثم خالطت العقل ثم خمرته أي: غطته".
وقد جاء الإسلام فحرم هذا الشراب المذهب للعقل؛ لأن الإسلام جاء ليكرم الإنسان وليحفظ المجتمعات من الآثار السيئة لكثير من المعاصي والجرائم، يقول الله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [المائدة:90، 91]، قال القرطبي: "قوله: فَاجْتَنِبُوهُ يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه من الوجوه، لا بشرب ولا ببيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك".
هكذا ـ معشر المسلمين ـ سد القرآن منافذ الخمر وحرم استعمالاتها حتى يحسم هذا الأمر، وحتى لا يحوم حول الخمر مسلم، وكذلك فعل رسول الله حيث بين أن أي تعاط أو اكتساب أو استفادة من الخمر محرم، يقول فيما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس: ((أتاني جبريل فقال: يا محمد، إن الله عز وجل لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقيها)) ، هكذا يحسم إسلامنا السمح الحنيف الأمر حسما جازما، ويرفع العذر عن أي مسلم يقع فريسة في يد هذه الآفة الخطيرة حين يحرم عليه كل الطرق التي تقربه من هذه المادة المحرمة.
وللخمر كثير من الآثار النفسية والجسدية السيئة كالأمراض وغيرها، وآثار اجتماعية أيضا كالتفكك الأسري وحالات الطلاق وضياع الأبناء، هذا غير الآثار السيئة الكبيرة على المستوى العام، ولا نريد أن نحول هذه الخطبة إلى أرقام وإحصائيات، ولكن يكفي أن نذكر أن خسائر العالم جراء الخمر تبلغ حسب منظمة الصحة العالمية 166 بليون دولار سنويا، وأن ثلث أسرَّة المستشفيات في الدول الصناعية يشغلها مرضى الخمر. إذا عرفنا هذا ـ إخوة الإيمان ـ علمنا شيئا من حكمة الباري عز وجل في تحريم تناول هذه المادة الخبيثة، وعلمنا مدى خسارة المجتمعات التي لم تهتد بنور الله عز وجل.
وقد حذرنا ديننا الحنيف أيما تحذير من الخمر، بل لقد سماها رسول الله بأسماء سيئة زيادة في التنفير منها، فسماها: أم الخبائث وهي أم الخبائث حقا، وقال عنها أنها مفتاح كل شر؛ وذلك لأن شاربها يفقد وعيه ورشده فيرتكب أي معصية إذا شربها، فهي تجر إلى السب والشتم، وتجر إلى السرقة، وتجر إلى الزنا والقتل، يقول : ((لا تشربوا الخمر فإنها مفتاح كل شر)) أخرجه ابن ماجة عن أبي الدرداء، ويقول أيضا فيما أخرجه أحمد والترمذي من حديث ابن عمر: ((من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة لم تقبل له صلاة أربعين صباحا، فإن تاب لم يتب الله عليه وسقاه من نهر الخبال)) ، هل بعد هذا التحذير تحذير؟! وهل بعد هذا النكير نكير؟! فكيف يسمح مسلم بعد هذا أن يجعل من بطنه مكانا لهذه المادة الخبيثة، ومن فمه ممرا لهذا الشراب المنتن؟!
لقد سمع أصحاب رسول الله نهي الله سبحانه عن الخمر وهي في أيديهم وعلى شفاههم فأقلعوا عنها وتابوا منها، بل وأهرقوها فورا ولم يسعوا حتى إلى التأكد من التحريم أو الاحتفاظ بها لعلهم يستفيدون منها بشيء، عن أنس قال: ما كان لأهل المدينة شراب حيث حرمت الخمر أعجب إليهم من التمر والبسر؛ فإني لأسقي أصحاب رسول الله وهم عند أبي طلحة مر رجل فقال: إن الخمر قد حرمت، ـ فما قالوا: متى؟ أو حتى ننظر ـ قالوا: يا أنس، أهرقها. أخرجه البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح.
هكذا يكون الامتثال، وهكذا تكون الفطرة السليمة، بل إن من الصحابة من كان ينتظر تحريم الخمر على أحر من الجمر؛ لأنه كان يعلم أثرها على سلوك الإنسان وعلى صلاته وعبادته، ذلكم هو فاروق الأمة عمر بن الخطاب ، يروي النسائي عن عمر أنه كان يدعو الله: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت الآية التي في البقرة، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [النساء:43]، فكان منادي رسول الله إذا أقام الصلاة نادى: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون [المائدة: 91 ] قال عمر : انتهينا انتهينا.
هذه الكلمة العظيمة: انتهينا انتهينا، قالها عمر وقالها صحابة رسول الله حينما سمعوا قوله تعالى: فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون ، قالوها صادقين ممتثلين لأمر الله عز وجل، فمتى ـ يا عباد الله ـ نقول هذه الكلمة صادقين؟! متى نقول: انتهينا عن الكذب، انتهينا عن الفسق، انتهينا عن الزنا، انتهينا عن الربا، انتهينا عن الخمر؟! متى نقول: انتهينا انتهينا امتثالا لأمر الله واتباعا لسلف الأمة الصالحين؟!
وشارب الخمر ـ إخوة الإيمان ـ معرض لغضب الله سبحانه فوق ما يصيبه في هذه الدنيا من هموم وغموم وكوارث، فالعجب كل العجب ممن تحكمت فيه الخمر ففقد صوابه، ولم يصده عنها لا آثارها الدنيوية ولا عقوباتها الأخروية، لقد توعد الله سبحانه شارب الخمر ومدمنها بوعيد شديد، من هذا الوعيد حرمانه من الجنة ومن خمر الجنة الذي قال الله عنه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى [محمد:15]، خمر لذيذ ليس كخمر الدنيا الخبيث، هذا الخمر اللذيذ يجري نهرا في الجنة، وعد الله به المؤمنين الذين يدخلون الجنة، أما من أدمن الخمر في الدنيا ولم يدخل الجنة فهو محروم من هذا، يقول : ((لا يدخل الجنة مدمن خمر)) أخرجه ابن ماجه عن أبي الدرداء، ويقول فيما أخرجه مسلم من حديث ابن عمر: ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم يتب لم يشربها في الآخرة)).
ومن هذا الوعيد أن شارب الخمر يلقى الله سبحانه وتعالى كعباد الأوثان والعياذ بالله، فكما كان في الدنيا عبدا لهذا الشراب الخبيث عاكفا عليه حشر يوم القيامة كغيره من عباد الأوثان، يقول : ((من مات وهو مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن)) أخرجه الطبراني عن ابن عباس.
ومن هذا الوعيد ـ والعياذ بالله ـ أن الله يسقي شارب الخمر من طينة الخبال وهي عرق وعصارة أهل النار، عن جابر أن رسول الله قال: ((كل مسكر حرام، وإن على الله لعهدا لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال عرق أهل النار)) أخرجه مسلم عن جابر، إلى غير ذلك من وعيد توعد الله به من أدمن الخمر أو شربها ولم يتب منها.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا وساوس الشيطان وخطواته، يقول تعالى: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة: 268].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارنا من خزيه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، لقد حرم الله الخمر على عباده لأنه سبحانه أعلم بما يصلحهم، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
ومع أننا مطالبون بالامتثال لأمر الله حتى ولو لم نعرف الحكمة من ذلك، إلا أننا عرفنا بوجه جلي الكثير من آثار الخمر السيئة على الإنسان، فيكفي أنها تتوجه بالأذى إلى مناط التكليف في الإنسان ومناط تكريمه ألا وهو عقله الذي فضله الله به على باقي الخلائق، يقول سبحانه: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]، كرم الله الإنسان بجوهرة العقل، فجاءت الخمر لتعطل عمل هذه الجوهرة وتحرم الإنسان من هذا التكريم الإلهي.
ولعل نظرة عابرة إلى ما أثبته المتخصصون المعاصرون من مساوئ للخمر ترينا شيئا من حكمة الباري عز وجل في تحريمها على عباده، فقد أثبتوا أن الخمر تؤثر في أعلى مكان في مخ الإنسان، وتضر بالكثير من خلاياه، فيكون من آثار ذلك تحلل الشخصية وضعف الإرادة وشرود الذهن إلى غير ذلك من آثار، كما أنها تسبب في الكثير من الأمراض، وتضر بالكثير من أجهزة الإنسان إضافة إلى المخ كالقلب والأوعية الدموية والكبد والكليتين والحلق وغيرها، ولكن الإنسان إذا ابتعد عن هدى الله سبحانه واتبع خطوات الشيطان ارتكست فطرته وأقدم على ما يضره، وها نحن نرى مآسي الخمر من حوادث سير وجرائم قتل وغير ذلك مما يصيب الناس إذا هم عصوا أوامر الله ورسوله ، ولا زال الكثير من شبابنا يحتسي هذا الشراب الخبيث فيدفعه إلى ارتكاب عظائم الأمور، حتى إذا ذهبت سكرته وعادت فكرته وجد نفسه في حال لا تسر صديقا ولا عدوا.
هذا هو أثر الخمر على عقل الإنسان وتفكيره، وهذا هو صنيعها بالإنسان، تنحط به إلى درك يأنف كل عاقل أن ينحدر إليه، وكيف لا يكون هذا أثرها وهي تطرد الإيمان من قلب المؤمن؟! يقول فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة: ((ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)) ، ويقول أمير المؤمنين عثمان بن عفان : (اجتنبوا الخمر؛ فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه).
فلنحذر ـ إخوة الإيمان ـ على أنفسنا وعلى أبنائنا وإخواننا من هذه الآفة الخطيرة التي إذا هجمت فتكت، فكم هدمت من بيوت، وكم خربت من ديار، وكم شردت من أناس.
أسأل الله أن يقيني وإياكم شر كل معصية وفتنة، وأن يجنبنا مواطن الزيغ والزلل، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/3757)
قتل النفس
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه, موضوعات عامة
الحدود, الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
25/3/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرمة الدماء المعصومة. 2- أسباب الوقوع في جريمة القتل. 3- القتل وآثاره السيئة على المجتمعات. 4- حرمة قتل الإنسان نفسه.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: إخوة الإيمان، فاتنا أن نتكلم فيما مضى من الخطب عن معصية هي من أفدح المعاصي بعد الشرك وأكبرها عند الله سبحانه وأشدها وعيدا وعذابا، ألا وهي معصية القتل، قتل النفس التي حرم الله بغير حق، فالنفس من أعظم الحرمات في ديننا الحنيف وشريعتنا المطهرة، فشريعتنا السمحاء من بين ما جاءت به وشددت عليه حفظ الضرورات الخمس التي لا قوام ولا قيمة لحياة الإنسان بدونها، وهذه الضرورات هي: الدين والنفس والمال والعرض والعقل، فالنفس أحد هذه الضرورات، لهذا حرم ديننا الحنيف الاعتداء على هذه النفس، وأعظم اعتداء على النفس قتلها بغير وجه حق.
يقول سبحانه في كتابه العزيز: قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151]، ويقول رسوله الكريم في حجة الوداع التي كانت إيذانا باكتمال الدين وتمام النعمة، يقول: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا هل بلغت؟)) قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب؛ فرب مبلغ أوعى من سامع)) أخرجه الشيخان عن أبي بكرة.
نتكلم ـ أيها المسلمون ـ عن معصية لا تعدلها معصية، معصية تغضب الرب سبحانه وتهز كيان كل إنسان سوي، معصية قتل النفس التي حرم الله سبحانه، معصية إنهاء حياة نفس خلقها الله سبحانه وتعالى، والتعدي على حق من حقوق الباري عز وجل، هذه الجريمة حذر منها شرعنا المطهر وعظم من شأنها، بل بين سبحانه أن من قتل نفسا واحدة بغير حق فكأنما قتل كل الناس، ومن أحياها فكأنما أحيا كل الناس، يقول سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَن أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، إلى هذا الحد تصل عظمة هذه الجريمة النكراء، إنها تضاهي قتل الناس جميعا، بل إن زوال السماء والأرض أهون عند الله من قتل مسلم كما يقول سيد البشر من لا ينطق عن الهوى ، أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن ابن عمر أن رسول الله قال: ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مسلم)).
إذا تصورنا هذا حق التصور علمنا ـ عباد الله ـ فداحة هذه الجريمة، وعلمنا خطورة التمادي في مقدماتها التي تفضي إليها، لهذا أمرنا رسول الله باجتناب هذه المعصية فيما نجتنبه من أمور ذميمة، يقول : ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قالوا: يا رسول الله، وما هن؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة.
واجتناب هذه المعصية العظيمة إنما يكون بالتقيد بأوامر الله سبحانه وأوامر رسوله والعمل بمرضاة الله عز وجل حتى يعصم الله المؤمن من الوقوع فيها، كما يكون اجتناب هذه المعصية بالابتعاد عن مقدماتها وعن الأسباب التي تفضي إليها.
ومن أهم هذه الأسباب انعدام خوف الله سبحانه في قلب القاتل واتباعه سبيل الشيطان، فمن القتلة من المجرمين والمنحرفين من يقتل فسادا في الأرض ويسفك الدماء ظلما وعدوانا، أولئك الذين قال الله فيهم: إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:33].
ومن الأسباب التي تؤدي إلى معصية قتل النفس الغضب؛ فالغاضب إذا لم يتمالك نفسه أوصله غضبه إلى عظائم الأمور، فعلى المسلم أن يحذر الغضب لأنه يجر إلى ما لا تحمد عقباه، لهذا أثنى الله سبحانه على عباده الذين يكظمون غيظهم ويتحكمون في أنفسهم في حالة الغضب، ولا يفسحون لغضبهم المجال لأن يوقعهم فيما لا يرضاه الله، يقول تعالى: سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:133، 134]، كما حذر رسول الله من الغضب، فعن أبي هريرة أن رجلا قال للنبي : أوصني، قال: ((لا تغضب)) فردد مرارا، قال: ((لا تغضب)) أخرجه البخاري.
ومما يفضي إلى معصية القتل الحسد، يقول سبحانه في قصة ولدي آدم: واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَنَّكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فطوَّعَت لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ المائدة:27-30] ، ذكر بعض المفسرين أن سبب قتل ابن آدم لأخيه هو الحسد.
ومما يفضي إلى معصية القتل الظلم، كظلم الورثة بعضهم لبعض، وظلم الأجراء وأكل حقوقهم، وقذف الناس والاعتداء على أعراضهم، كل هذا يجر إلى هذه المعصية العظيمة وهذه الجريمة النكراء.
ومن أسبابها أيضا تسرع بعض الناس وبعدهم عن هدي الإسلام وعدم تقديرهم للعواقب، فمن الناس من لا يفكر ويتصرف في الظروف الحرجة إلا بعضلاته وسلاحه، فهؤلاء كثيرا ما يقعون في هذه المعصية.
ومما يفضي إلى هذه المعصية تعطيل حد القتل، وهو قتل القاتل حتى يُحفظ المجتمع من شره، وحتى لا يسعى ذوو المقتول إلى الأخذ بثأرهم فتتفاقم الأمور، فمن حكمة الله سبحانه أنه شرع القتل لنفي القتل، يقول سبحانه: ولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوليْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، ويقول فيما أخرجه الشيخان من حديث ابن مسعود : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
كل هذه ـ عباد الله ـ مقدمات ومسببات للقتل، لا بد أن نعرفها وأن نكون منها على حذر، كما ينبغي للمسلم أن يعلم أنه من الأفضل له ومن الأسلم ومن الأنجى له عند الله سبحانه أن يلقى الله مظلوما على أن يلقاه قاتلا، فلا بد من تمالك النفس في الأزمات، ولا بد من البعد عن كل ما يعرضه أو يعرض غيره للقتل حتى تحسن عاقبة المسلم، يقول : ((لا يَزال المؤمنُ فِي فُسْحَةٍ من دِينِهِ ما لم يُصِبْ دَمًا حراما)) أخرجه البخاري عن ابن عمر. والمعنى: أن المسلم يبقى بخير ما لم يقع في هذه الجريمة البشعة، فإذا وقع فيها فقد عرض نفسه لعذاب شديد لا يعلم مداه إلا الله.
إن معصية القتل معصية لها آثارها السيئة على المجتمعات، مِن فقد الأمن وترميل النساء وتيتيم الأطفال وتلويع الأمهات واستشراء القسوة والعنف في المجتمع واستسهال التعدي على دماء الناس، كما أن دم المسلم ليس بالهين، لهذا بين أن أهل السماء والأرض لو اجتمعوا على قتل مؤمن لعذبهم الله جميعا، من أجل نفس مؤمنة واحدة يُفعل بهم هذا، فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى قيمة هذه الروح المؤمنة عند الله سبحانه، يقول فيما أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد: ((لو أن أهل السَّماء وأهل الأرض اشْتَرَكُوا في دم مُؤمن لأكَبَّهُم الله في النَّار)).
أما عقاب قاتل النفس فإنه عقاب عظيم يدخره الله له يقول سبحانه: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِب َاللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. لقد توعد الله سبحانه في هذه الآية قاتل النفس المؤمنة بخمس أمور دفعة واحدة، فوعده بنار جهنم، ووعده بالخلود فيها، ووعده بغضب الله ولعنته وعذابه والعياذ بالله، ويقول فيما أخرجه الترمذي عن ابن عباس: ((يأتي المقتول متعلقًا رأسه بإحدى يديه، متلببًا قاتله باليد الأخرى، تشخب أوداجه دمًا حتى يأتي به إلى العرش فيقول المقتول: يا رب، هذا قتلني، فيقول للقاتل: تعست ـ أي: هلكت ـ ويُذهب به إلى النار)) ، ويقول : ((من قتل مؤمنا فاغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفا ولا عدلا)).
إخوة الإيمان، ولو ذهبنا نستقصي ما ورد في هذه المعصية من نصوص لطال بنا المقام، ويكفي شرعنا المطهر سدا ودفعا لجريمة القتل بغير الحق أنه حرمها حتى مع غير المسلم، يقول فيما أخرجه النسائي عن عمرو الخزاعي: (( من أمن رجلا على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرا)).
هذه هي شريعة الإسلام السمحاء، وهذه هي حرمة النفس في الإسلام، وهذه هي بشاعة جريمة القتل، فلنع هذا إخوة الإسلام، ولنضعه نصب أعيننا؛ لنكون ممن يعصمهم الله من هذه الكبائر، ويكتب لهم السلامة في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معشر المسلمين، للنفس البشرية المؤمنة مكانة عظيمة، لهذا رتب الله على المساس بها وعيدا وعذابا وغضبا، وجعل لحرمتها مرتبة عظيمة ومنزلة رفيعة، أخرج الترمذي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما نظر يوما إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك)، كما جعل الله سبحانه للدماء المكانة الأولى في القضاء يوم القيامة، فلا يُقضى في شيء قبل القضاء في الدماء، عن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)) متفق عليه.
يجب أن نتربى ـ إخوة الإيمان ـ على هذه النصوص التي تعلمنا حرمة الاعتداء على الأنفس والدماء، ويجب أن نعلم أن شريعتنا حرمت على الإنسان الاعتداء على غيره بأي وجه من الوجوه وخاصة القتل، كما حرمت تحريما كاملا أن يقتل الإنسان نفسه، فتوعد الله فاعل ذلك وعيدا عظيما، يقول سبحانه: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30]، كما بين رسول الله عظمة هذا الأمر، فعن جندب بن عبد الله أن رسول الله قال: ((كان برجل جراح فقتل نفسه، فقال الله: بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة)) أخرجه الشيخان.
فانظروا إلى عظمة عذاب من اعتدى على النفس البشرية، ولو كانت هذه النفس نفسه التي بين جنبيه، بل إن قاتل نفسه يعذب يوم القيامة بنفس الشيء الذي قتل به نفسه، أخرج الشيخان وأحمد وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا)) ، كل هذا العذاب ـ إخوة الإيمان ـ لأن الإنسان أقدم على أمر عظيم حذر منه الله عز وجل ونهى عنه وتوعد عليه، لهذا كان عقاب قتل النفس عقابا عظيما، وثواب إحيائها ثوابا عظيما.
أسأل الله أن يعصمني وإياكم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/3758)
كبيرة السحر
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
2/4/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف السحر وحقيقة وجوده. 2- حكم الساحر. 3- علامات الساحر. 4- حكم التعامل مع السحرة والمشعوذين. 5- سبل الوقاية من السحر والسحرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: نتكلم اليوم ـ بإذن الله تعالى ـ عن كبيرة السحر، هذه المعصية التي عدها رسول الله من الموبقات السبع حيث قال فيما صح عنه: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، وذكر منها: ((السحر)) أخرجه الشيخان عن أبي هريرة. وحذر منها شرعنا المطهر أشد تحذير لما فيها من ضلال وإضلال وخراب للمجتمعات ودمار.
إخوة الإيمان، لقد جاءت الشريعة الإسلامية لإخراج الناس من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان، ومن تضليل الخرافات إلى وضوح المحجة، ومن تخرصات الكهان والسحرة والعرافين إلى الحجة البالغة وبرد اليقين المسطر في كتاب رب العالمين وسنة خير المرسلين.
ولقد خلق الله عز وجل عباده على الفطرة، يلجؤون إليه ويستعيذون به ويعتمدون عليه، ولكن الشياطين اجتالت هؤلاء العباد وتحولت بهم عن طريق الفطرة إلى طريق الضلال، وسولت لهم مخالفة سبيل الحق والنور، يقول فيما يرويه عن ربه أنه سبحانه قال: ((إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)) أخرجه مسلم عن عياض بن حمار. فالعباد كانوا على الفطرة السليمة التي خلقهم الله عليها، فزينت لهم الشياطين معصية الله سبحانه، فاتبعهم من عباد الله من اتبعهم فكان من الخاسرين، ومن الأمور التي زينتها لهم كبيرة السحر.
والسحر في اللغة يطلق على معان كثيرة، كالخداع والصراع والاستمالة والتمويه، وكل ما لطف ودقّ وخفي سببه فهو سحر، أما السحر اصطلاحا فهو كما يقول ابن قدامة المقدسي: "السحر عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان؛ فيُمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه".
ولقد بين الله سبحانه حقيقة السحر ووجوده وأن الشياطين هي مصدره تضل به الناس وتستدرجهم، يقول سبحانه: وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت [البقرة:102]، وبين سبحانه بعض تأثير السحر مثل التفريق بين الزوج وزوجه، يقول سبحانه: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِه ِوَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه [البقرة:102]، كما بين سبحانه في كتابه العزيز في أكثر من موضع خبر سحرة فرعون وصنيعهم يقول سبحانه: قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:115، 116].
هذا عن وجود السحر وتأثيره، أما عن حكم السحر في شريعتنا الغراء فإنه محرم تحريما كاملا؛ لأنه في حقيقته استعانة بالشياطين وكفر برب العالمين، ولأنه اعتداء على المسلمين بتسليط الشياطين عليهم وتنغيص حياتهم والإضرار بهم، وإذا كانت الشريعة قد حرمت على المسلم إيذاء الحيوان بغير وجه حق فكيف بمن يؤذي الإنسان؟! فكيف بمن يؤذي المسلمين ويفسد عليهم معيشتهم؟! لهذا اعتبرت الشريعة الإسلامية السحر من كبائر الذنوب والمعاصي، وحكمت على الساحر بالكفر، واعتبرته خارجا عن ملة الإسلام، يقول سبحانه: وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُر [البقرة:102].
فقد ذهب إلى كفر الساحر الكثير من العلماء منهم: أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، ورُوي ذلك عن عمر وحفصة وجندب بن عبد الله، لهذا فقد قال أهل العلم بقتل الساحر، ففي الحديث الموقوف على جندب بن عبد الله: (حد الساحر ضربة بالسيف) أخرجه الترمذي. وعن بجالة التميمي أن عمر بن الخطاب كتب قبل موته بسنة: (اقتلوا كل ساحر وساحرة)، قال: فقتلنا في يوم واحد ثلاثة سواحر. أخرجه أبو داود. ويقول الإمام مالك في الموطأ: "الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره هو مثل الذي قال الله تبارك وتعالى في كتابه: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة:102]، فأرى أن يُقتل إذا عمل ذلك".
وللساحر أمارات يُعرف بها، ومعرفة هذه الأمارات أمر مهم حتى لا يلتبس على الناس الأمر في التفريق بين السحرة والمشعوذين وبين المعالجين الشرعيين الذين يعالجون بالقرآن والرقية الشرعية، ومن أهم ما ينبغي أن يعرف به المنحرف سواء كان ساحرا أم غيره هو الدين والسمت، فالغالب في السحرة أنهم عديمو الدين، فهم لا يصلون، ومن يصلي منهم فإنما يصلي صلاة صورية ليضل الناس ويُلبِّس عليهم، كما أنهم لا يحضرون الجماعات، ويكونون مضطربين في تصرفاتهم وفي حياتهم وذلك لتأثير الجن والشياطين عليهم، وهذا حكم الله على كل من لجأ إلى الشياطين واستعان بهم واعتمد عليهم، يقول سبحانه: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6].
كما أن للساحر أمارات أخرى يُعرف بها، من هذه الأمارات أنه يسأل المريض عن اسمه واسم أمه، أو يأخذ أثرًا من آثار المريض أو من يُراد سحره مثل القميص أو المنديل أو غيره، وأحيانًا يطلب حيوانًا بصفات معينة ليذبحه، ولا يذكر اسم الله عليه.
ومنها أنه يكتب الطلاسم غير المفهومة ويتلوها، أو يعطي المريض حجابًا يحتوي على مربعات بداخلها حروف أو أرقام، أو يأمر المريض بأن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس، وأحيانًا يطلب منه أن لا يمس الماء لمدة معينة، أو يعطيه أشياء يدفنها في الأرض أو أوراقًا يحرقها ويتبخر بها، وأحيانًا يخبر الساحر المريض باسمه واسم بلده ومشكلته التي جاء من أجلها بدون أن يذكر له المريض ذلك، كل هذه أمارات تبين أن هذا الرجل ساحر يتعامل مع الجن، والعجيب أن الناس يسمون من يفعل هذا بالشيخ أو الفقيه، وما أبعده عن الفقه والدين.
والساحر ـ إخوة الإيمان ـ محكوم عليه بحياة الضنك والخسران في الدنيا والآخرة، وكثيرا ما يموت السحرة ميتات بشعة، وقد حكم الله سبحانه أن الساحر لا يفلح أبدا، يقول سبحانه: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]، قال القرطبي: "أي: لا يفوز ولا ينجو حيث أتى من الأرض". كما حكم سبحانه أن السحرة مفسدون، وأن عملهم فاسد، يقول سبحانه على لسان موسى مخاطبا سحرة فرعون: مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين [يونس:81].
هذا عن السحر والسحرة فماذا عن التعامل مع هؤلاء؟ وما موقف المسلم منهم؟ الناس ـ إخوة الإيمان ـ في هذا الأمر صنفان:
صنف مؤمن بالله لا يتزعزع إيمانه ولا عقيدته في خالقه، يلجأ إليه في كل أموره ولا تدفعه الظروف والمحن إلى أن يلجأ إلى غير الله من سحرة ومشعوذين وغيرهم، هذا الصنف هم الموحدون المؤمنون.
أما الصنف الآخر فأولئك الذين يذهبون إلى السحرة والعرافين ويصدقونهم ويطلبون منهم قضاء حوائجهم، هذا الصنف على خطر كبير في دينه وعقيدته، وعلى خطر كبير في آخرته.
لهذا نريد أن نحذر في هذه الخطبة إخواننا المسلمين من هذا الأمر الخطير، وأخص من نحذره في هذا أخواتنا وأمهاتنا النساء؛ لأنهن أكثر من يذهب إلى هؤلاء السحرة والمشعوذين، فإذا رأت المرأة من زوجها تغيرا أو سمعت ـ مثلا ـ أنه سيتزوج عليها عالجت هذا الأمر الذي أحله الله بأمر حرمه سبحانه وتوعد فاعله، ألا وهو السحر، وإذا تأخر زواج ابنتها ذهبت إلى الساحر، وإذا كرهت زوجة ابنها ذهبت إلى الساحر، وإذا أرادت ضررا بجارتها أو غيرها ذهبت إلى الساحر، وكأن الساحر بيده التصرف في هذه الأمور من دون الله!!
يجب أن نعلم جميعا أن هذا الفعل يُحبط الأعمال، ويستوجب عذاب الله في الآخرة، فكيف يرضى مسلم يصلي ويصوم ويحج بيت الله الحرام أن يحبط هذه الأعمال الصالحة بهذا الأمر الخبيث المذموم؟! فلنسمع ـ عباد الله ـ هذه الأحاديث النبوية التي تحذرنا من السحرة والكهنة والعرافين وغيرهم ممن يرجمون بالغيب ويفسدون في الأرض، ولنعلم أن الأمر جد خطير، فها هو يتبرأ من الساحر والكاهن وممن يذهب إليهم، فعن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله : ((ليس منا من تَطيَّر ولا من تُطُيِّر له، أو تكَهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحر أو سُحِر له)) أخرجه الطبراني، ويقول فيما أخرجه ابن حبان من حديث أبي موسى الأشعري: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم)) ، ويقول أيضا محذرا ومغلظا على من يذهب إلى المشعوذين والسحرة والعرافين ثم يصدقهم فيما يقولون، يقول : ((من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) أخرجه أحمد عن أبي هريرة.
فلا يمكن أن يجتمع الإيمان بما أنزل على محمد وتصديق الكهان والسحرة فيما يقولون في قلب مؤمن؛ لأن الله سبحانه اختص وحده بعلم الغيب فقال: قُل لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65]، فلا ينبغي لنا ـ إخوة الإيمان ـ أن نسير وراء هذه الترهات أو نصدقها إن كنا حقا نريد مرضاة الله ومغفرته.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وصلاة وسلاما على خيرتك من خلقك نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أمر السحر ـ معشر المسلمين ـ ليس بالأمر الهين؛ لأنه تنكب عن سبيل الرحمن واتباع لسبيل الشيطان، لهذا ينبغي أن نحذر هذا الأمر، وينبغي أن نحتاط لأنفسنا ولعقيدتنا وديننا من هذا الخطر الماحق، كما ينبغي أن نحذر أهلنا ونساءنا وبناتنا من هذه السبيل. والعجيب أن يلجأ مسلم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا إلى مشعوذ جاهل ليحل له مشكلة أو يشفي له مريضا، أو تلجأ مسلمة متعلمة إلى ساحر فاسق ليؤمِّن لها زوجا وكأنه يصنع الأزواج أو يستوردهم، والأعجب من ذلك أن تسمح مسلمة لهذا الدعي أن يختلي بها، فالله المستعان على هذه الدواهي والفتن.
ولنعلم ـ إخوة الإيمان ـ أن الله كما قدّر للسحر والساحر تأثيرا على من شاء الله، فإنه دلنا على سبل الوقاية من السحر والسحرة، ومن أهم سبل الوقاية العقيدة الصافية والإيمان بالله؛ لأن المؤمن الحق شديد الاتصال بالله شديد الثقة بالله، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا [يوسف:64].
كما ينبغي للمسلم أن يكون على طهارة في أغلب أوقاته، محافظا على صلواته مع الجماعة، محافظا على تلاوة القرآن وعلى الأذكار النبوية الواردة في هذا الشأن، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((اقْرَؤُوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة)) أخرجه مسلم. يقول معاوية بن سلام: بلغني أن البطلة هم السحرة. ويقول فيما أخرجه أبو داود من حديث ابن مسعود: ((من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه)) ، والمقصود بالآيتين: من قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة:285] إلى آخر السورة الكريمة.
وأخرج الترمذي عن عثمان بن عفان أن رسول الله قال: ((ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات إلا لم يضره شيء)) ، ويقول أيضا: ((من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضرَّه شيء حتى يرحل من منزله ذلك)) أخرجه الترمذي عن خولة بنت حكيم، إلى غير ذلك من قرآن وأذكار تحفظ من كيد الشياطين ومن كيد السحرة وغيرهم، مطلوب من المسلم أن يلتزمها وأن يحافظ عليها ليحفظه الله سبحانه من كل كيد.
فاللهم يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين، احفظنا من كل كيد، واجعلنا اللهم من عبادك الذاكرين الله كثيرا والذاكرات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
(1/3759)
معصية الزنا
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
9/4/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان خطر الزنا وأسبابه وعقوبته. 2- الزنا وآثاره السيئة على الأفراد والمجتمعات. 3- حد الزاني والزانية. 4- الوقاية من الزنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه في كتابه العزيز: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32].
هذه آية من آيات الكتاب العزيز تحذر وتنهى عن قربان معصية الزنا، ويخبر فيها سبحانه أن الزنا فاحشة عظيمة لا يرضاها الله لعباده، وأن سبيل الزنا سبيل سيئ، فمن اختار هذا السبيل فقد اختار الشقاء والذل والعذاب، والله سبحانه لم يخلق العباد عبثا ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لغاية سامية هي عبادته وطاعته، ووضح لهم ما به يفلحون وما به يخسرون، وأمرهم بالعدل والإحسان ونهاهم عن الفحشاء والمنكر: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، ومن الفحشاء والمنكر الذي نهى عنه وحذر منه سبحانه الزنا، هذا الداء الذي إذا استشرى في مجتمع نزعت منه البركة وحلت به النقم، يقول : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر.
وللزنا ـ عباد الله ـ أسباب توقع فيه، من أهم هذه الأسباب وأعظمها ضعف الإيمان، فكلما قوي إيمان العبد زادت مخافته من ربه وزجر نفسه وجاهدها ونهاها عن الوقوع في هذا الذنب، وكلما ضعف إيمانه قل خوفه واستسهل الذنوب وقارفها، كما أن الالتزام بالتكاليف الشرعية ـ كالصلاة مثلا ـ يبعد الإنسان عن مثل هذه المزالق ويجعله مرتبطا بالله سبحانه، يقول تعالى: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت:45]، فضعف الإيمان والبعد عن هذه الشعائر والمواعيد الإيمانية من أهم الأسباب التي تسهل الوقوع في الفواحش.
ومن الأسباب التي توقع في الزنا وتزينه إطلاق البصر وراء المناظر المحرمة والصور الفتانة، وهي في عصرنا هذا تحيط بالمرء من كل جانب؛ في الشارع والعمل وعبر المجلة وعلى الفضائيات التي دخلت كل بيت وأصبحت مهوى أفئدة المسلمين في كل مكان، والإنسان يطلق بصره وراء هذه المناظر الفتانة، وما تبثه هذه الوسائل من دعوة إلى الفجور والرذيلة، وما تراه العين ينتقش على القلب، ويظل يلح على الإنسان حتى يوقعه فيما يغضب الله عز وجل، يقول الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
ومن الأسباب التي قد تسبب في الزنا وتجرئ عليه الخلوة بالأجنبية التي يحل منه الزواج، وهذا الأمر قد يهمله المسلم لثقته الخاطئة بنفسه أو لأمور اجتماعية أو غيرها، ولكن رسول الله حذر من هذا الأمر أيما تحذير، فهو القائل فيما أخرجه أحمد من حديث جابر : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها؛ فإن ثالثهما الشيطان)) ، وهو القائل : ((إياكم والدخول على النساء)) ، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟! قال: ((الحمو الموت)) أخرجه الترمذي عن عقبة بن عامر. والحمو: هو قريب الزوج.
هذه بعض الأسباب التي توقع في الزنا، أما ما ينتظر الزناة في الدنيا والآخرة فإنه أمر عظيم يناسب هذا الجرم العظيم، فكل قوم يظهر فيهم هذا الداء فقد استحقوا عذاب الله، يقول فيما أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس : ((إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) ، كما أن للزناة عذابا خاصا ذكره في رؤيا رآها، حيث يقول كما عند البخاري من حديث سمرة بن جندب: ((فانطلقنا فأتينا على مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، فيه لغط وأصوات، قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك ضوضوا ـ أي: صرخوا ـ فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني)) ، كما يبين في حديث آخر عن رؤيا أخرى رآها أن أصحاب هذه المعصية الخبيثة الكريهة هم أخبث وأكره الناس رائحة يوم القيامة، يقول كما في حديث أبي أمامة: ((ثم انطلقا بي فإذا بقوم أشد شيء انتفاخا وأنتنه ريحا كأن ريحهم المراحيض، قلت: من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزانون والزواني)).
وهذه المعصية ـ أيها المسلمون ـ لها آثارها السيئة على الأفراد والمجتمعات، فبها يضيع الشباب ذكورا وإناثا ويعيشون حياة التشرد والضياع، وبها تختلط الأنساب وتنتهك الحرمات ويُعتدى على الأعراض، وبها تفشو وتنتشر الأمراض والأوبئة الفتاكة التي لا تنحصر في مرتكبي هذه الفاحشة، بل تنتقل إلى كل من يتعامل معهم من أهل وأزواج وأبناء، فإذا لم ينزجر الزناة بما وعدهم الله به من عقوبات أخروية لضعف إيمانهم أفلا ينزجرون بهذه الآثار السيئة التي يجلبونها على أنفسهم وذويهم وهم يرونها رأي العين؟!
من أجل كل ما سبق من آثار سيئة فقد حكم شرعنا المطهر بجلد الزانية والزاني إن كانا غير محصنين، وأمر برجمهما حتى الموت إن كانا محصنين، يقول سبحانه: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2].
وحد الزنا ـ إخوة الإيمان ـ من أشد الحدود والعقوبات المقررة في شريعتنا نظرا لفداحة هذا الجرم، فالرجم الثابت بصحيح السنة لا تدانيه عقوبة في شريعتنا الإسلامية، أما عقوبة الجلد الواردة في الآيات السابقة ففيها الأمر بالجلد والوصية بعدم الرحمة، والأمر بأن تكون العقوبة على الملأ، زيادة في الفضيحة لمن تجرأ على هتك هذه الحرمة وتحذيرا لمن يشاهد إقامة الحد من الوقوع في هذه الفاحشة.
إخوة الإيمان، وإذا كان الزنا بهذا القبح وهذه النكارة فإنه يكون أقبح وأنكر ويكون عذابه أشد وغضب الله عليه أعظم حين يأتي ممن لا يتوقع منه، يقول فيما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة : ((ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر)) ، فالزنا مستبعد من الشيخ، وليس هناك من الدواعي الطبيعية ما يدفعه إليه، لهذا كان النكير على الشيخ إذا زنى أعظم من النكير على غيره وعذابه أشد.
ولقد بين لنا شرعنا المطهر أمورا تقينا من شر الزنا، وتكون مساعدا لنا في البعد عن هذه المعصية، من أهم هذه الأمور استحضار هيبة الله وخشيته وتذكر وعيده وعذابه لمن خالف أمره وارتكب ما نهاه عنه، فإذا ملأت مخافته سبحانه قلب العبد كان مبتعدا عن نواهيه أشد البعد، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ [الأعراف:201، 202].
ومن هذه الأمور الواقية والتي تحسم الأمر وتبعد الإنسان عن الكثير من غمّ النفس وقسوة القلب غض البصر، يقول سبحانه: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ [النور:30، 31]، ويدخل في هذا الغض في عصرنا البعد عن المثيرات البصرية الموجودة على الفضائيات وما يعرف بشبكة الإنترنت، وما فيهما من أمور تحرك أحاسيس الناس وتثير شهواتهم.
ومن الأمور الواقية من شر هذه المعصية الزواج، فالزواج حصن حصين يتحصن به المسلم فيكون معينا له على الابتعاد عن هذه الفاحشة، يقول : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)) أخرجه الشيخان عن ابن مسعود.
ومن الأمور الواقية أيضا الصوم كما هو مذكور في الحديث السابق؛ لأنه نصح من لا يستطيع الزواج بالصوم كمساعد في التوقي من هذا المحذور، وهذا ما بينه الله سبحانه في كتابه حيث ذكر أن من حكمة الصوم تحقيق التقوى، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183]، إلى غير ذلك من أمور تقي وتبعد المسلم عن هذا الشر المحيط وهذا الخطر الماحق.
فاتقوا الله عباد الله، وأنصتوا إلى قول ربكم وهو يثني على عباده الذين يبتعدون عن مثل هذه المعاصي، ويتوعد من يرتكبها بعذاب مضاعف، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان:68-70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، لقد حثنا ديننا الحنيف على عدم التعدي في طلب حاجاتنا وشهواتنا، ولم يكلفنا الله ما لم نستطع، فلم يحرمنا شهواتنا، ولكنه اشترط علينا أن نحصلها مما أحل لنا، حتى لا نكون عادين معتدين، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7]، فالله سبحانه يبين في هذه الآيات أن تحصيل شهوة الفرج من غير ما أحل الله من زوجة أو ملك يمين هو عدوان ليس من عمل المؤمنين، كما رغب رسول الله في هذا ووعد عليه بالجزاء الحسن، فهو القائل فيما أخرجه البخاري من حديث سهل بن معاذ: ((من يضمن لي ما بين رجليه وما بين لحييه أضمن له الجنة)) ، فهذا وعد بالجنة لمن صبر على ما حرم الله، واختار مرضاة الله على عذابه، وحفظ فرجه ولسانه من الحرام، بل إن ديننا الحنيف لا يكتفي بتحذيرنا من قضاء شهوتنا بالحرام وتوجيهنا إلى ما أحل الله سبحانه من أزواجنا، لكنه يزيد على ذلك فيجعل الإنسان مأجورا وهو يقضي شهوته من الحلال، فهل هناك أسمح وأحفظ لكيان الأفراد والأمم من هذا الدين؟! يقول : ((وفي بضع أحدكم صدقة)) ، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال : ((أرأيتم لو وضعها في الحرام أليس كان يكون عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر)) أخرجه مسلم عن أبي ذر.
فالعجب كل العجب من عبد يهرب من مرضاة الله إلى عذابه، ومن راحة الآخرة إلى شقاء الدنيا والآخرة، بل يرفض أن يقضي شهوته من مكان طاهر أحله الله له لا يأتيه غيره، تكتب له الحسنات كلما أتاه، إلى مكان حرمه الله عليه، وقد يكون مكانا قذرا قد ولغ فيه الفساق والفجار والمرضى، أي عقل يدل على هذا؟! وأي فطرة ترضاه؟! والأعجب من ذلك أن يدفع مقابل هذا النجس وهذه القذارة الأموال الطائلة. فلنحذر ـ إخوة الإيمان ـ هذه المعصية ومقدماتها، حتى لا ينزل بنا عذاب الله وعقابه.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة...
(1/3760)
قول الزور
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
16/4/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم الكلمة وخطورتها. 2- الأدلة على تحريم قول الزور وشهادة الزور. 3- الوصية بحفظ اللسان من كل آفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلا زلنا ـ إخوة الإيمان ـ مع موضوع المعاصي وكبائر الآثام التي حذر منها الله عز وجل ورسوله ، ونتناول اليوم بإذن الله كبيرة قول الزور.
إن من أهم الأمور التي جاء الإسلام لمحاربتها وتبيين خطورتها وتحذير أتباعه منها الشهادات الباطلة والأقوال المزورة التي تقلب الحقائق وتأكل الحقوق بالباطل، وتضر بخلق الله لأن في هذا ظلما وأي ظلم، والله سبحانه قد حرم الظلم بين الناس، بل حرمه على نفسه، وهو رب العالمين وخالقهم الذي لا يُسأل عما يفعل، عن أبي ذر عن النبي فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا)) أخرجه مسلم.
والكلمة التي تنطلق من اللسان قد يظنها البعض يسيرة مأمونة العواقب، فإذا بها تضر من قيلت فيه في الدنيا فتسلبه حقا أو تعرضه إلى ظلم وغبن، وتضر قائلها في الآخرة فيجد عاقبة هذه الكلمة خسرانا وعذابا أليما عند من لا تضيع عنده الحقوق ولا يغفل عن الأحرف والكلمات، بل هي محفوظة عنده في كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، يقول سبحانه: مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18]، ويقول رسوله الكريم : ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)) أخرجه البخاري عن أبي هريرة.
لهذا شدد شرعنا المطهر على ذم قول الزور وشهادة الزور وقائلهما، وتوعده وعيدا عظيما، بل قرن سبحانه في كتابه العزيز بين قول الزور والشرك فقال: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِه [الحج:30، 31]، هذا أمر باجتناب الأوثان التي تعبد من دون الله أو تتخذ وسائط، وهو أعظم ذنب عُصي به الله سبحانه، وبعده مباشرة أمر سبحانه باجتناب قول الزور أو شهادة الزور، تلك الشهادة الكاذبة التي لا أساس لها، وهذا الترتيب والجمع بين الشرك وقول الزور يوضح لنا ـ عباد الله ـ خطورة قول الزور، وشدة تأثيره على دين المسلم وعاقبته، لهذا فإن رسول الله الحريص على الأمة والذي جاء ليدلنا على طريق الله ويحذرنا من سبل الشياطين التي يضلون الناس بها وضح لنا هذه الخطورة لهذا الذنب الجلل، وقرنه هو أيضا بالذنوب العظيمة ومن بينها الشرك، كل ذلك لنتبين جلية الأمر، ولنعلم خطورة هذا الذنب، يقول فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي بكرة: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ثلاثا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين)) وكان متكئا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت.
فانظروا ـ رحمكم الله ـ مع أي الذنوب ذُكر قول الزور لتعلموا خطره، لقد ذكر مع الشرك بالله وعقوق الوالدين، هاتين الكبيرتين اللتين رتب عليهما شرعنا المطهر عقوبات قاسية، وفي هذا الحديث ـ إخوة الإيمان ـ فوائد وأمور تبين لنا عظمة أمر قول الزور الذي يستهين المسلمون به ولا يعدونه ذنبا عظيما، بل هو عندهم من صغائر الذنوب التي يتجاوز الله عنها، وهذا فهم سقيم وحسبان باطل.
من هذه الأمور المستفادة من هذا الحديث والتي تبين خطورة هذا الذنب وعظمته أن رسول الله بادر أصحابه بالكلام قبل أن يسألوه فقال: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ، وحرصه على إنبائهم بهذا الأمر قبل أن يسألوه عنه يدل على أهمية هذا الأمر وخطورته وتأثيره على دنيا الإنسان وآخرته. ومن هذه الأمور أنه عندما أراد ذكر قول الزور جلس بعد أن كان متكئا، وهذا دليل آخر على عظمة هذا الأمر. ومنها أيضا تكراره لجملة: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) ، ثم تكراره لجملة: ((ألا وقول الزور)) ، حتى قال الصحابة رضوان الله عليهم: ليته سكت. هذا توضيح وتجلية للأمر لا مزيد عليها ولا إضافة، ومع هذا لا زلنا نسمع عن أقوال ملفقة ووشايات كاذبة يقوم بها من لا يخافون الله ولا يخشون عقابه، ليضروا بها الأبرياء ويروعوا الآمنين، ولا زلنا نسمع عن شهادات الزور التي تُغتصب بها الحقوق وتؤكل بها الأموال بالباطل ويُجرَّم بها البريء ويُبرَّأ المجرم، وهذا الأمر يكثر في الأمة إذا آذنت هذه الدنيا بالرحيل كما أخبر بذلك رسول الله ، فكثرته من علامات الساعة وأمارات القيامة التي ذكر رسول الله في أحاديثه عددا منها، يقول في أحد هذه الأحاديث: ((إن بين يدي الساعة: تسليم الخاصة ـ أي: لا يسلم الرجل إلا على من يعرفه ـ، وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم)) أي: كثرته. أخرجه أحمد عن ابن مسعود.
لقد ركن الناس إلى الدنيا، حتى أصبحت غاية الإنسان هو أن يصل إلى أهدافه التي رسمها لنفسه بأي وسيلة: كذب أو تلفيق أو شهادة زور أو اغتصاب حقوق أو غيرها، وكأنه لن يفارق هذه الدنيا إلى لقاء ربه ومولاه، وكأنه لن يوسد التراب وحده في ظلمة القبر ووحشته، ولكن لا بد أن يعلم قائلو الزور والبهتان ولا بد أن يعلم المفترون ولا بد أن يعلم من يشهد بالزور أو يُشهد له بالزور أن الحق يعلو ولا يُعلى عليه، وأن الله هو الحق ولا يقبل إلا الحق، فالحقائق قد تقلب في الدنيا ولكن عند الله وفي الآخرة فإن الأمور لا بد أن تكون كما يريد ويرضى رب العالمين وخالق الخلق أجمعين وقاهرهم، لهذا حذر رسول الله من أنه قد يأتيه متخاصمان فيحكم لأحدهما بأمر ليس من حق هذا الخصم بناء على أقواله، فعلى هذا الخصم أن لا يأخذ ما حكم به رسول الله له لأن العبرة عند الله بحقيقة الأمر لا بالحكم البشري المبني على ظواهر الأمور، أخرج أبو داود عن أم سلمة قالت: قال رسول الله : ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ـ أي: أبلغ في حجته وأفطن ـ فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار)) ، هكذا يُبرئ نفسه ويُبرئ كل قاض بين الناس بالعدل إذا بذل جهده، يبرئه من أي خطأ مبني على تدليس الأمور أو التلاعب بالألفاظ، ويضع المسؤولية الكاملة على الخصم الكاذب الذي يعلم تمام العلم هل الحق له أم عليه، بل إنه يبين أن هذا الحق الذي قد يحكم به لغير صاحبه هو قطعة من النار، عليه أن لا يأخذها حتى لا يعذب بها، فالحق لا يثبت بفصاحة المحامين وتدليس الوراقين وتزويرهم، وإن ثبت فإنه لا يدوم ولا ينفع صاحبه، وتكون حسرته وعاقبته الوخيمة يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، بل إن قول الزور والعمل به فوق الضرر الذي يلحقه بالإنسان في الدنيا والآخرة فإنه يحبط أعمال المسلم وعباداته، ويجعلها عديمة النفع في ميزان رب العالمين، أخرج الإمام أحمد رحمه الله عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه)) ، فما فائدة الصوم إذا لم يحفظ المسلم لسانه؟! وكيف يمتنع المسلم عن الطعام والشراب ولا يمتنع عن قول الزور وعن أكل لحوم الناس؟!
هكذا يعلمنا رب العالمين ويعلمنا رسوله الكريم أن هذه الأمور الأخلاقية وهذه الحقوق التي تتعلق بعباد الله مهمة بحيث أن من يهملها يُعرِّض عباداته وأعماله الصالحة للخطر، فمتى نعي هذه الأمور؟! ومتى نحرص على أن نكون عبادا قائمين بالحق وعلى الحق، ساعين إليه باذلين كل ما نستطيع في سبيل إحقاقه وفي سبيل أن لا نضر بمسلم؟! متى نلجم أفواهنا قبل أن تلجم بلجام من نار يوم القيامة؟! إن رسول الله قد بين لنا أن المسلم الحق هو الذي يكف أذاه عن الناس سواء كان هذا الأذى باليد أو باللسان أو غيره، أخرج مسلم عن جابر أن رسول الله قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) ، فإذا كان هذا هو المسلم بتعريف نبي الإسلام فكم من المسلمين حقق هذا التعريف وهذا الوصف ليستحق أن يكون مسلما حقا؟!
فلنتق الله عباد الله، ولنعلم خطورة ما تجر إليه الألسنة من ذنوب وآثام على رأسها كبيرة قول الزور، ولنستمع إلى قول ربنا وهو يثني على عباده المبتعدين عن هذا الذنب وغيره من الذنوب التي حذر منها عز وجل، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِم ْلَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْناَ لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا [الفرقان:72-76].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
إخوة الإيمان، لا بد لكي نرضي ربنا سبحانه ونفوز بجنته وننجو من ناره وعقابه أن نأتمر بأوامره وننتهي بنواهيه، وأن لا نحقر من الذنوب والمعاصي شيئا؛ لأننا لا ندري أي الأعمال الصالحة قد يقبل منا وينفعنا، وأي الأعمال السيئة قد يوبق آخرتنا ويضرنا، فعدم احتقار المعروف مهما صغر وعدم احتقار الذنب مهما صغر أمر مهم في حياة المسلم، وهو من أهم صفات المؤمن الصادق الطامع في رحمة ربه عز وجل.
ومن الذنوب التي يجب أن لا نحتقرها آفات اللسان؛ ما نتلفظ به ونلقيه من كلام، يقول سبحانه: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36]، قال أكثر من واحد من السلف: "إن المنهيّ عنه في هذه الآية هو قول الزور".
ارتكاب هذا الأمر ـ إخوة الإيمان ـ مطعن في إيمان الإنسان، فالمؤمن هو من يكون صادقا فيما يقول، أمينا في شهادته، متثبتا متريثا في أقواله، أما عديم الإيمان أو ناقصه فإنه يلقي الكلام كيفما اتفق، ويشهد حتى ولو لم يُستشهد، وهذا هو الفارق الجوهري الذي بينه رسول الله عندما تكلم عن خير الناس وهم القرون الأولى من صحابة وتابعين وتابعيهم الذين كانوا يخافون الله حق الخوف ويتقونه حق التقوى وعن القرون التي بعدها والتي اختلطت فيها الأمور وابتعد فيها الناس عن جادة الحق، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)) أخرجه الشيخان عن ابن مسعود.
هذه ـ إخوة الإيمان ـ من الفوارق المهمة بيننا وبين سلفنا الصالح الذين أمرنا الله سبحانه باتباعهم بإحسان حتى ننال رضوان الله عز وجل الذي وعدنا به في كتابه، يقول سبحانه: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
فلنتق الله عباد الله، ولنقيد ألسنتنا بشرع الله سبحانه وبذكر الله عز وجل، ففي ذلك السلامة كل السلامة، ولنعمل بوصية رسول الله للصحابي عقبة بن عامر عندما سأله عن النجاة فقال : ((املك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك)) أخرجه الترمذي. فليسعنا ما وسع هذا الصحابي، ولنعمل بهذه الوصية الكريمة.
أسأل الله أن يوفقنا إلى ما فيه فلاحنا في الدنيا والآخرة، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/3761)
آفات اللسان 1
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
23/4/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عِظم اللسان وخطره. 2- تحريم الغيبة والنميمة. 3- ذكر مجموعة من آفات اللسان. 4- الوصية بحفظ اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: يقول تعالى في كتابه العزيز: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:17، 18]، ويقول في الحديث الذي رواه معاذ بن جبل والحديث أخرجه أحمد والترمذي: ((ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد، ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ كف عليك هذا)) وأشار إلى لسانه، قال: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)).
أيها المسلمون، كنا قد تكلمنا في الخطبة السابقة عن معصية قول الزور، وهي من آفات اللسان، وآفات اللسان كثيرة، لهذا نواصل الحديث في هذه الخطبة وفي الخطبة القادمة ـ بإذن الله ـ عن بعض آفات اللسان، سائلين الله سبحانه أن يسدّد ألسنتنا وأن يحفظها من كل سوء.
فاللسان من أكثر أعضاء الإنسان خطورة وأشدها فتكا بالإنسان، وهو أيضا من أهم الأعضاء التي تدخل الناس النار كما يقول في الحديث السابق: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟!)). فاللسان إذا لم يضبطه الإنسان ويحسن استعماله فيما يرضي الله فإنه يُهلكه ويرديه، لهذا كان الصالحون من سلفنا الصالح يخافون ألسنتهم ويحذرونها ويراقبونها، فقد ورد أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يمسك بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني المهالك)، وورد عن ابن عباس أنه كان يأخذ بلسانه ويقول: (ويحك، قل خيرا تغنم، أو أسكت عن سوء تسلم، وإلا فإنك ستندم).
فاللسان عضو لا ينبغي للإنسان أن يهمله ويغفل عنه ظانا بأن أمر اللسان أمر يسير لا خوف منه، فهذا الظن خاطئ، بل إن أمر اللسان من أهم الأمور، ويكفي أن الأعضاء بكاملها تضع اللوم فيما يحدث منها على اللسان، ففي الحديث الحسن الذي رواه الترمذي وابن خزيمة عن أبي سعيد يقول : ((إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان، فتقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا)).
وإن من أهم آفات اللسان ـ وهي كثيرة ـ الآفتان اللتان تتناولهما اليوم وهما الغيبة والنميمة، فهما مرضان عظيمان انتشرا بين الناس انتشار النار في الهشيم، ولعل انتشار الغيبة أعظم وأكثر بكثير من انتشار النميمة، وإذا ركز الإنسان على أي جلسة يحضرها طالت أو قصرت فإنه يجد أنها لا تخلو من الغيبة بحال من الأحوال، لا تخلو من ذكر عيوب الناس وما يكرهون أن يسمعوه من أمور، وهذه هي الغيبة كما عرَّفها رسول الله عندما سُئل عن الغيبة فقال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) ، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟! قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة.
والناس ـ كل الناس أو أكثرهم ـ يدخلون في أمر الغيبة هذا الأمر الخطير من باب المزاح وتزجية الأوقات والثرثرة، فحتى يمر الوقت وندفع الملل نخوض في كل الأمور، وفي ذكر سيئات وعيوب الغائبين عنا من إخواننا ومن عباد الله أجمعين، لا يسلم منا أحد، ونحن لا نشعر أننا نأكل لحوم هؤلاء الذين نغتابهم، يقول تعالى: وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّاب رَّحِيمٌ [الحجرات: 12 ].
وتصور ـ يا عبد الله ـ لو وضعوا أمامك لحم آدمي هل تأكله؟ الجواب سيكون من الجميع: أعوذ بالله، أيعقل أن يؤكل لحم البشر؟! ولكننا جميعا نأكل لحوم بعضنا في المجالس والأحاديث التي نخوضها، كما أننا إلى جانب أكل لحم الشخص الذي نغتابه فإننا نأكل ونحرق حسناتنا والعياذ بالله، وهل حسناتك ـ أيها المسلم ـ كثيرة وثقيلة عليك حتى أضرمت فيها النيران لتحرقها؟! يذهب أحدنا إلى المسجد، فيبقى فيه ربع ساعة أو أكثر ليصلي ويسبح أو يتلو القرآن، فيرجع ببعض الحسنات والحمد لله، ولكنه يجلس بعدها في أحد المجالس ساعتين، فإذا به يحرق الحسنات التي اكتسبها في المسجد ويحرق معها غيرها من الحسنات، فهل هذا من الدين أو من العقل؟!
يا من تتّبِع عورات المسلمين وتغتابهم، أبشر بأنك ستفضح ولو في قعر بيتك، يقول كما في مسند أحمد والسنن الأربعة من حديث أبي برزة: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته)) ، والذي يجلس مع المغتاب أو يستمع إليه مشارك له، فاحذر أيها المسلم، فإما أن تنهى المغتاب عن غيبته أو أن تترك المجلس، ولو اضطررت أن تترك هذه المجالس إلى الأبد، فلا شك ولا مرية في أن حسنات الإنسان ومنزلته عند الله أعز عليه من أن يفرِّط فيها ويُفسد أعماله الصالحة بهذه السهولة، قال سفيان بن حصين: كنت جالسا عند إياس بن معاوية فمر رجل فنلت منه ـ أي: وقعت في غيبته ـ فقال لي: اسكت، ثم قال لي: يا سفيان، غزوت الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: سلم منك الروم والترك ولم يسلم منك أخوك المسلم! قال: فما عدت إلى ذلك بعد.
وإليكم هذا الحديث العظيم في نهاية كلامنا عن الغيبة، يقول : ((لما عرج بي ربي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) أخرجه أبو داود عن أنس. هذا هو عذاب الذين يغتابون الناس ويذكرون معايبهم يخبرنا عنه رسول الله.
أما النميمة ـ إخوة الإيمان ـ فهي أيضا ذنب عظيم لا يرضاه الله سبحانه وتعالى؛ لأن فيه الإفساد بين المسلمين وتفريق شملهم وإضعاف صفهم وزرع بذور الشقاق بينهم، لهذا قال فيما اتفق عليه الشيخان من حديث حذيفة: ((لا يدخل الجنة قتات)) أو: ((لا يدخل الجنة نمام)) ، وهما بنفس المعنى. فها هي أبواب الجنة قد أوصدت دونك أيها النمام، ها هي أبواب النعيم قد أغلقت في وجهك أيها القتات، يا من تفسد بين الناس، يا من تدخل بين الرفيقين وبين الصديقين وبين الجارين، فتزرع بذور الفتنة بينهما، وتوصل إلى كل طرف ما يسوؤه ويغضبه من الأمور نحو صاحبه، فتسوء العلاقة بينهما، فاعلم إن كنت لا تعلم أنك بهذا العمل من أعوان الشيطان ومن جنده المخلصين، لهذا مُنعت عنك الجنة كما مُنعت عنه، كما أن النمام يُعذَّب في قبره، فالنميمة من أهم أسباب عذاب القبر، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه مر على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، وإنه لكبير. أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)).
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى آثار هذه المعصية معصية النميمة، وانظروا إلى مآل صاحبها، واحذروا أن تكونوا ممن يقعون في هذه المعصية فيقع عليهم عذاب القبر.
ومن أفضل ما يُتخذ مع النمام عدم الاستماع إليه؛ لأنه لن يكف عن هذه العادة القبيحة إلا بهذا الإهمال، كما أنك إن استمعت إليه فإنه كما نم لك سينم عنك، وكما أوصل كلام غيرك عنك إليك فسيوصل كلامك عن غيرك إليه، لهذا لا بد من عدم إتاحة الفرصة للنمام، رُوي عن عمر بن عبد العزيز أنه دخل عليه رجل فذكر عنده وشاية في رجل آخر فقال عمر: إن شئت حققنا هذا الأمر الذي تقول فيه وننظر نسبته إليه، فإن كنت كاذبا فأنت من أهل هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:11]، وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدا. هذا هو الأسلوب الأمثل مع النمام حتى ينتهي عن هذه المعصية وعن هذه العادة السيئة.
وكلمة السوء ـ إخوة الإيمان ـ وبال على صاحبها، إذا خرجت منه لم تعد إليه أبدا، ولا يجني منها إلا الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار)).
فاتقوا الله عباد الله، وأشغلوا ألسنتكم بما فيه نفعكم في الدنيا والآخرة، واستعملوها فيما يرضي الله من ذكر وخير وإصلاح بين الناس، يقول تعالى: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء:53 ].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم، وغفر لنا إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقائد الغر المحجلين عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فاللسان ـ عباد الله ـ عضو حساس، يرتكب به الإنسان أكثر المعاصي، فمن معاصي اللسان الكذب وقول الزور والغيبة والنميمة والحلف الحانث والتنابز بالألقاب إلى غير ذلك من ذنوب ومعاص لعلنا نتعرض لها لاحقا، وهو أيضا سبب ومدخل لمعاصي أكبر، كالقتل والزنا وعقوق الوالدين وغيرها من المعاصي التي يكون أول مقدماتها اللسان بإطلاقه بالسوء والشر، وقد يكون الذنب بكف اللسان لا بإطلاقه، مثل ذنب كتمان الشهادة، فهو من معاصي اللسان العظيمة، فالشهادة أمر عظيم لا تقوم أمور المسلمين إلا به، وإذا كتمت الشهادة ضاعت الحقوق وشاع الظلم بين الناس، فلا ينبغي لمسلم أن يكتم الشهادة لمصالح دنيوية أو لكي يبقى الود بينه وبين بعض الناس، فيكون سببا في ضياع حقوق أناس آخرين أو وقوع الظلم عليهم، يقول تعالى: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [البقرة: 283 ]، قال الشافعي رحمه الله في كتاب الأم: "والذي أحفظ عن كل من سمعت منه من أهل العلم في هذه الآيات أنها في الشاهد قد لزمته الشهادة، وإن فرضًا عليه أن يقوم بها على والديه وولده والقريب والبعيد ولا يكتم عن أحد ولا يحابي بها ولا يمنعها أحدا" انتهى كلامه.
ويكفي كاتم الشهادة قول الله عز وجل عنه أنه آثِمٌ قَلْبُهُ ، فقد فسرها أهل العلم بأنه فاجرٌ قلبه والعياذ بالله.
فلا تكتموا الشهادة ـ عباد الله ـ حتى لا تُعوِّدوا قلوبكم على الإثم والفجور، واعلموا أنه كما يحتاج الناس لشهادتكم على ما رأيتم من أمور فإنكم قد تحتاجون في يوم من الأيام إلى شهادة الناس لكم، فهل ترضون أن يكتم مسلم شهادة تحتاجون إليها في إحقاق حق أو إبطال باطل؟ فإن كنتم لا ترضون هذا فلا ينبغي لكم أن تكتموا شهادة حقت عليكم.
هذا شيء من آفات اللسان ومخاطره، فاحذروا ألسنتكم، وأحكموا وثاقها حتى لا توقعكم فيما لا يحمد عقباه، يقول عبد الله بن مسعود : (ما على الأرض شيء أحق بطول سجن من لسان)، وقال عمرو بن العاص يوصي ابنه: (يا بني، عثرة الرِّجل عظم يُجبر، وعثرة اللسان لا تبقي ولا تذر).
اللهم قنا شر ألسنتنا، اللهم قنا شر ألسنتنا، اللهم قنا شر ألسنتنا، اللهم اجعل ألسنتنا ألسنة ذكر وتسبيح وتلاوة، ولا تجعلها ألسنة كذب وغيبة ولغو، اللهم إنا نسألك خير القول وخير العمل وخير الذكر وخير الدعاء برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لنا...
(1/3762)
آفات اللسان 2
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
30/4/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطر جناية اللسان على الإنسان. 2- آفة الكذب. 3- آفة التنابز بالألقاب. 4- آفة القذف. 5- آفة السبّ واللعن. 6- آفة الطعن في الأنساب والنياحة على الميت. 7- ظاهرة فحش القول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: لا زلنا مع آفات اللسان ومخاطره وأضراره التي يجلبها للإنسان أو يجنيها الإنسان عن طريقه، يقول فيما رواه الإمام أحمد وابن حبان من حديث أبي ثعلبة الخُشَني: ((خياركم أحاسنكم أخلاقا، وشراركم الثرثارون والمتفيهقون والمتشدقون)).
فاسمعوا ـ يا عباد الله ـ إلى هذا القول من رسول الله ، شرار المسلمين الثرثارون، وهذا أمر يقوم به اللسان، والمتفيهقون وهم الذين يتوسعون في الكلام ويتظاهرون بالفصاحة، وهذا الأمر أيضا يقوم به اللسان، والمتشدقون وهم الذين يتكلمون بأشداقهم ويتكلفون في الكلام، وهذا كذلك أمر يقوم به اللسان، فما أعظم جناية اللسان على الإنسان.
وقد تكلمنا في الخطبة الماضية عن بعض آفات اللسان، فذكرنا الغيبة والنميمة وكتمان الشهادة، ونتناول اليوم آفات أخرى من آفات اللسان مما يكثر انتشارها بيننا، حتى نبتعد عنها.
من هذه الآفات آفة عظيمة حذر منها الله تعالى ورسوله وعدها شرعنا من عظائم الأمور، وهي آفة الكذب، يقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّار [الزمر: 3 ]. فالكذب آفة ومرض خطير وعادة لا يحبها الله ولا رسوله ، وهي صفة مذمومة عند الناس، فكل الناس يمقتون الكذاب ولا يثقون به، والكذب من علامات النفاق، يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)).
وقد يتعود الإنسان على الكذب ليضحك الناس، فالمسكين يهلك نفسه من أجل إضحاك الآخرين، وهذا متوعد بحديث رسول الله الذي يقول فيه: ((ويل للذي يحدث فيكذب ليُضحك به القوم، ويل له، ثم ويل له)) أخرجه الترمذي وأحمد عن معاوية بن حيدة.
فالكذب نهى عنه ديننا الحنيف ولو كان الإنسان مازحا؛ لأن الإنسان إذا كذب مازحا استسهل بعد ذلك الكذب جادا، لهذا يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي أمامة: ((أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب ولو كان مازحا)) ، ومعنى ((أنا زعيم)) أي: أنا ضامن لهذا البيت، فبيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب في كل أحواله حتى في المزاح، وهذا البيت الضامن له رسول الله الذي لا ينطق عن الهوى، فما أعظمه من ضمان، وما أعظمه من ضامن، وما أعظمه من بيت.
ومن أسوأ تبعات الكذب أن الإنسان إذا تعود عليه وتحرَّاه كُتب عند الله كذابا، وكيف سيكون حال من يلقى الله وقد سبقته صفة الكذب عند ربه؟! ففي الحديث الذي أخرجه الشيخان عن ابن مسعود يقول : ((إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما زال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتب عند الله كذابا)).
ومن آفات اللسان الخطيرة والتي يقع فيها أكثرنا التنابز بالألقاب، وهذا أمر نهى عنه الله سبحانه وتعالى بقوله: وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]، فعندما تنادي غيرك ـ يا عبد الله ـ بلقب لُقّب به وهو في أكثر الأحيان غير راض بهذا اللقب أو راض به كُرها فإنك تؤذيه وتجرح شعوره، وهذا أمر لا يرضاه الله، بل نحن مأمورون بأن ننادي الناس بأسمائهم، هذا ما يرضاه الله سبحانه وتعالى ويرضاه ديننا الحنيف.
ومن آفات اللسان التي تقوّض البيوت وتفسد المجتمعات وتكون آثارها من أخطر الآثار إطلاق الألسنة في الكلام عن النساء الغافلات البريئات، واتهامهن بالفاحشة والفجور، وهذا من الذنوب التي شدد الشرع في التحذير منها وجعل أصحابها ملعونين في الدنيا والآخرة، بل وجعل لهم عقابا بالجلد كما يُجلد الزناة، يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور:23-25]، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:4، 5]، هذا هو وعيد الله وتحذيره للذين يطلقون ألسنتهم في حق المحصنات الغافلات ويرمونهن بالفاحشة. فليتق الله هؤلاء، وليعلموا أنهم يقترفون بهذا واحدة من السبع الموبقات المهلكات التي ذكرها رسول الله فيما رواه الشيخان وأبو داود من حديث أبي هريرة حيث يقول : ((اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات)) ، فقذف المحصنات ـ أيها المسلمون ـ موبقة مهلكة. فاتقوا الله ولا تجعلوا أعراض المسلمات فاكهة مجالسكم، ولا تلصقوا بهن ما هن منه براء.
ومن آفات اللسان السب واللعن، فالمسلم طيب لا يُخرج إلا طيبا، وقد حذر رسول الله من اللعن فقال: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) أخرجه أحمد عن ابن مسعود. فالمؤمن لا يكون لعانا، ولا يجتمع الإيمان وكثرة اللعن في إنسان، بل إن رسول الله يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث ثابت بن الضحاك: ((لعنُ المسلم كقتله)) ، هذا يبين لنا ـ إخوة الإيمان ـ أن إثم اللعن إثم عظيم؛ لأن اللعن إذا صدر فلا بد أن يلحق بأحد، ولا يمكن أن يذهب سدى أبدا، إن كان الملعون يستحقه فبها، وإلا عاد على صاحبه، يقول فيما أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء: ((إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتُغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لُعِن، فإن كان لذلك أهلا وإلا رجعت إلى قائلها)) ، فلماذا يكون المؤمن لعانا؟! وكم من لعنة أطلقها مسلم ثم عادت عليه والعياذ بالله.
ومن آفات اللسان أيضا الطعن في الأنساب والنياحة على الميت، يقول : ((اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة. والطعن في الأنساب هو الوقوع في أعراض الناس والقدح في نسب ثبت في ظاهر الشرع، وهذا الذنب شبيه بقذف المحصنات.
أما النياحة على الميت فهي رفع الصوت بالندب بتعديد شمائل الميت، وهذا من أجهل الجهل؛ لأن فيه اعتراضا على القدر وعدم التسليم بقضاء الله، وأكثر من يقوم بالنياحة النساء في المآتم، فإنهن يولولن ويصرخن بذكر محاسن الميت؛ كونه صغيرا وطيبا إلى غير ذلك من صفات، وكأنهن يعترضن على الله ولسان حالهن يقول: لماذا ـ يا رب ـ تقبض روح هذا الرجل الطيب أو صغير السن؟! إلى آخر هذه الاعتراضات على رب الأرض والسماوات.
وهذا الأمر خطير لأنه يمس جناب التوحيد والعقيدة، فالله الحكيم العادل في ملكه يعلم تمام العلم روح من يقبض وروح من يؤجل، ولتعلم أمهاتنا وأخواتنا أن أمر النياحة أمر عظيم ليس باليسير، وأن الله يعذب النائحة في الآخرة عذابا شديدا، فعن أبي مالك الأشعري أن رسول الله قال: ((النياحة من أمر الجاهلية، وإن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثيابا من قطران ودرعا من لهب النار)) أخرجه ابن ماجه.
فعلى كل مسلمة ابتليت بفقد عزيز عليها أن تتدرع بالصبر وأن تتترّس بالإيمان، حتى تكون من المهتدين الذين أثنى الله عليهم في كتابه بقوله: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157].
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا هذه الآفات التي توجب الغضب من رب الأرض والسماوات، والتي تكفي الواحدة منهن لتفسد أو تعكر آخرة المسلم، فكيف إذا كان متصفا بأكثر من آفة؟! فكيف إذا كان متصفا بهن جميعا؟!
واعلموا أن المسلم غير ملزم بالكلام في كل شيء وفي كل موضوع، بل عليه أن يقصر كلامه في أمور الخير والإصلاح، وإلا فالصمت أجدى من الكلام الذي يضر ولا ينفع، لهذا يقول الله سبحانه في كتابه: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114]، ويقول فيما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)).
نسأل الله سبحانه أن يستعمل ألسنتنا فيما فيه رضاه، وأن يجنبنا ما فيه سخطه، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله القائل في كتابه العزيز: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَن [الإسراء:53]، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الذي كان أطيب الناس لسانا وأكملهم بيانا.
وبعد: فنقف ـ إخوة الإيمان ـ مع آفة أخرى من آفات اللسان يفعلها بعض الناس مستهينين بآثارها، ألا وهي ظاهرة فحش القول، ظاهرةٌ تخدش الحياء وتُذهب الهيبة، وهذه الظاهرة ذكرها رسول الله من ضمن أشراط الساعة وعلامات القيامة، يقول في الحديث الذي أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس والحديث في صحيح الجامع: ((من أشراط الساعة الفحش والتفحش وقطيعة الرحم وتخوين الأمين وائتمان الخائن)).
والفحش ليس من صفات المؤمن بأي حال من الأحوال، يقول : ((إن الله يبغض الفاحش المتفحش)) أخرجه أحمد عن أسامة بن زيد، فما الذي يدعو الإنسان إلى فحش القول والكلام البذيء الذي يندى له جبين المسلم حين يسمعه؟!
وبعض الناس يكثر من فحش القول حتى يضطر الناس إلى تحاشيه والابتعاد عن المجلس الذي يكون فيه، وهذا من شر الناس منزلة يوم القيامة كما يقول ، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه)) متفق عليه، ((شر الناس يوم القيامة)) كلمة عظيمة، فما الذي يستفيده صاحب هذا اللسان الفاحش بعد ذلك؟! وما الذي يدعوه إلى هذا الفحش؟! هل يريد أن يبين للناس جُرأته على الله وخساسة نفسه؟! غريب أن يصير الفحش والتفحش سبيلا للتباهي والمفاخرة.
وفحش القول ـ إخوة الإيمان ـ أمر ممقوت، ولكنه أمقت وأبغض حين يصدر من كبير السن؛ لأن كبير السن قد تجاوز فترة الطيش ودواعي الفجور، وكثيرا ما أسمع من كبار السن عبارات فاحشة سفيهة وأتعجب ممن يقف على شفير القبر ومع هذا لا زال يصر على التلفظ بألفاظ توجب عليه غضب الله سبحانه. إن كبير السن أبعد الناس عن مثل هذه التفاهات، وواجب عليه أن يكرم هذا الشيب الذي شابه في الإسلام ولا ينغصه بظلمة المعاصي حتى يجده نورا يوم القيامة، عن كعب بن مرة أن رسول الله قال: ((من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة)) أخرجه النسائي. وإذا أصر كبير السن على مثل هذه المعصية فإن عذابه أشد مما لو قام بها غيره من صغار السن؛ لأن دواعي الفحش من طيش وفوران شهوة منتفية فيه.
فاتقوا الله عباد الله، واستعدوا ليوم تحاسبون فيه عن كل فعل أو قول أمام من لا يظلم مثقال ذرة.
اللهم ردنا إليك ردا جميلا، اللهم ردنا إليك ردا جميلا، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
(1/3763)
أكل الربا
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
7/5/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف الربا وبيان تحريمه وخبثه. 2- أسباب الوقوع في الربا. 3- عقوبة المتعامل بالربا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: نتكلم اليوم ـ بإذن الله ـ عن كبيرة من كبائر الذنوب والمعاصي، حرمها ديننا الحنيف تحريما قاطعا لما فيها من مخالفة لشرع الله وضرر وظلم للناس، وتوعد الله ورسوله مرتكب هذه الكبيرة بوعيد عظيم.
نتكلم عن معصية أكل الربا والتعامل به، فالله سبحانه أحل للمسلم أن يسعى في طلب المال من حله، وأن يتاجر بالحلال ليكسب الأموال، ولم يحل له أن يستغل حاجة المحتاجين ليضاعف أمواله أو أن يقترض بالربا، يقول سبحانه: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275 ].
والأصل في معنى الربا: الزّيادة، يقال: ربا الشّيء إذا زاد، ومن ذلك قول اللّه تبارك وتعالى: يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276]، أي: ينميها ويزيدها.
وهذا الربا ـ إخوة الإيمان ـ قبيح ومذموم ومحرم في كل الشرائع، قال بعض العلماء: "إنّ الرّبا لم يحلّ في شريعةٍ قطّ لقوله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ [النساء:161]، يعني: في الكتب السّابقة". ولكن أهل الكتاب حرفوا كتبهم وغيروا فيها، فصار اليهود يحلون التعامل بالربا مع غير اليهود ليمتصوا ثرواتهم ويستولوا على أملاكهم، ثم توسعوا فيه حتى صاروا لا يتعاملون إلا به، ثم أفلحوا في أن يعمموه على كل العالم، فصار العالم كله يتعامل بالربا لتصب فوائده في النهاية في جيب اليهود في أكثر الأحيان.
وقد عرف عرب الجاهلية الربا وكانوا يتعاملون به، وكان إذا استدان بعضهم من بعض وحان وقت السداد يقول الدائن للمدين: "تقضي أم تُربي"، أي: إن كان لديك مالا تقضي دينك وإلا أزيدك في المدة وتزيدني في المال، ولكن العرب مع تعاملهم بهذا الربا إلا أنهم كانوا يعرفون خبثه وأنه كسب حرام، فكانوا لا يضعون أموال الربا في الأمور المقدسة لديهم، يروى عن ابن وهب بن عمرو بن عائذ وهو خال عبد الله والد النبي وكان شريفا من رجالات العرب في الجاهلية، يروى عنه أنه قال مخاطبا قريش عند إعادة بناء الكعبة: "يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيبا، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس"، وهذا أكبر دليل على خبث الربا وخسته واتفاق الناس حتى في الجاهلية على ذمه.
ثم جاء شرعنا المطهر وشريعتنا الإسلامية السمحة فحذرت من هذا الذنب العظيم وهذه المعاملة الممقوتة التي تُستغل فيها حاجة المحتاج ليُسلب منه ماله أو متاعه ويؤول إلى جيب المرابي، جاء الإسلام والناس يتعاملون بالربا فحرمه عليهم، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:130]، هذا تحذير من أن يملأ المسلم بطنه بكسب الربا، تحذير من أن ينبت لحم المسلم من سحت الربا وفوائده؛ لأنه بذلك لا يُنعم جسمه بل يضره ويعرضه إلى عذاب الله وعقابه، نعم يعرضه إلى عذاب الله لأن رسول الله يقول: ((لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به)) أخرجه الترمذي عن كعب بن عجرة.
إذا نبت لحم الإنسان من سحت الحرام ومن سحت الربا ومن سحت السرقة وغيرها فإنه يهيئ هذا الجسم لعذاب النار، يهيئه ليصلى نارا حامية، فما أخبث هذا الدرهم الذي يتمتع به الإنسان في هذه الدنيا الفانية ثم يعقبه عذاب متواصل لا يطاق.
إننا ـ عباد الله ـ إذا أردنا أن نتخذ وقاية من النار وإذا أردنا أن نجعل سترا بيننا وبين النار فعلينا أن نبتعد عن الحرام وأن نتخذ من الحلال رزقا وكسبا، يقول في الحديث الذي أخرجه ابن حبان عن النعمان بن بشير: ((اجعلوا بينكم وبين الحرام سترا من الحلال)) ، أي: استعينوا بما أحل الله من رزق وكسب كي لا تقعوا فيما حرم الله.
والربا من أهم المحرمات في الكسب، بل إن الله أنذر القائمين على الربا والمتعاملين به بحرب من الله ورسوله، وهو ما لم ينذر به أي عاص بمعصية أخرى غير الربا، وهذا ينبيك بفداحة هذه المعصية، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]، قال قتادة كما في تفسير ابن كثير: "أوعدهم اللّه بالقتل كما يسمعون، وجعلهم بهرجًا ـ أي: دماؤهم مهدورة ـ أين ما أتوا، فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه، فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة" رواه ابن أبي حاتم. وقيل: إن معنى الآية: إن لم تنتهوا فأنتم حرب لله ولرسوله أي أعداء لله ورسوله، وروى ابن عباس أنه يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب.
هذا هو التحذير العظيم لآكل الربا، فما الذي يدعو المسلم لارتكاب هذا الذنب؟! وكيف تهون عليه نفسه فيعرضها إلى حرب من الله ورسوله، حرب من رب السموات والأرض، من خضعت له المخلوقات جميعا، من سبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، وحرب من رسوله الذي أرسله رحمة للعالمين؟! هل عاقل من يعرض نفسه إلى هذا الخطر؟! وهل حكيم من يدخل هذه الحرب المعلومة النتيجة؟!
ولعل من أهم الدوافع إلى الربا قلة إيمان الإنسان بموعود الله في الرزق، فلو كان الإنسان مؤمنا حقا وموقنا بأنه لن يُحرم رزقا كتبه الله له فلن يلجأ أبدا إلى دخول باب حرم الله دخوله، ولكن الثقة في الرزق مهزوزة، والاعتماد على الرزاق ضعيف، لهذا يلجأ الإنسان إلى كل الأبواب ولا يلجأ إلى باب العزيز الوهاب الذي كتب الأرزاق لعباده وحددها، يقول سبحانه: وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22، 23]، كما أن الإنسان إذا ابتعد عن دين الله وركن إلى الدنيا وشغف بمتاعها وزينتها فإنه لا يبالي من أي مكان جلب المال وكسبه، وهذا يجعله يقع في المحظور، يقول : ((ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء مما أخذ المال أمن حلال أم من حرام)) أخرجه البخاري عن أبي هريرة. ولكن المسلم الحق والمسلم الصادق لا يمكن أن يستسهل أمرا لعن الله فاعله وأنذره وبالغ في ذمه لأن اللعنة تعني الغضب وتعني العذاب، فالمتعامل بالربا كما يخبر رسول الله معرض للعنة الله رب العالمين سواء كان مقرضا أو مقترضا وهذا ليس بالأمر الهين، أخرج الإمام أحمد عن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((لعن الله آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه)). فاللعنة ليست على المقرض بالربا وحده، بل هي على الطرفين، بل إنها تشمل حتى من يكتبه ومن يشهد عليه، كل هؤلاء تلحقهم لعنة الربا والعياذ بالله.
وآكل الربا ـ إخوة الإيمان ـ يعذب على هذه المعصية عذابا شديدا، وصف رسول الله شيئا من هذا العذاب في حديث الرؤيا التي رآها، والذي أخرجه البخاري عن سمرة، يقول في هذا الحديث: ((رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقنا حتى أتينا على نهر من دم فيه رجل قائم وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فرده حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع كما كان، فقلت: ما هذا الذي رأيته في النهر؟ قال: آكل الربا)) ، كما بين الله سبحانه أن آكل الربا يقوم يوم القيامة من قبره كالمجنون جزاء ما أكل من أموال محرمة، يقول سبحانه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275 ]، قال ابن كثير: "أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان له؛ وذلك أنه يقوم قياما منكرا"، وقال ابن عباس: (آكل الربا يبعث مجنونا يخنق)، هذه هي فداحة، هذه المعصية العظيمة، وهذا ما تجنيه على صاحبها من عقوبات مادية ومعنوية.
قال السّرخسيّ: ذكر اللّه تعالى لآكل الرّبا خمسًا من العقوبات:
إحداها: التّخبّط، قال اللّه تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة: 275 ].
الثّانية: المحق، قال تعالى: يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا [البقرة:276]، والمراد: الهلاك والاستئصال، وقيل: ذهاب البركة والاستمتاع حتّى لا ينتفع به ولا ولده بعده.
الثّالثة: الحرب، قال اللّه تعالى: فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِه [البقرة:279].
الرّابعة: الكفر، قال اللّه تعالى: وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [البقرة:278]، وقال سبحانه بعد ذكر الرّبا: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، أي: كفّارٍ باستحلال الرّبا، أثيمٍ فاجرٍ بأكل الرّبا.
الخامسة: الخلود في النّار، قال تعالى: وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:275].
فلا ينبغي ـ إخوة الإيمان ـ لمسلم يؤمن بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ورسولا أن يلجأ إلى هذه المعاملة الممقوتة، فيبني بها بيتا أو يطعم منها أهلا وولدا، بل على المسلم أن يصبر، وأن يسعى للكسب من الحلال، وأن يدعو الله سبحانه أن يفتح عليه أبواب رزقه، فإن الله سبحانه لا يعجزه شيء.
أسأل الله أن يوفقنا إلى ما فيه رضاه وهداه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معشر المسلمين، لقد نظر الإسلام إلى الربا نظرة ملؤها المقت والكره، لهذا حذر أتباعه منه وذمه لهم، وقد بلغ من هذا التحذير أن رسول الله يقول كما في مسند أحمد من حديث عبد الله بن حنظلة وهو في صحيح الجامع: ((درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد عند الله من ستة وثلاثين زنية)) ، كما أنه ركز على أمر الربا فيما ركز عليه من أمور مهمة في خطبة حجة الوداع، تلك الخطبة التي أوصى فيها المسلمين بأهم الوصايا، يقول في تلك الخطبة العظيمة كما عند ابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) ، ثم يقول : ((وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، ألا يا أمتاه: هل بلغت؟)) ثلاث مرات، قالوا: نعم، قال: ((اللهم اشهد)) ثلاث مرات.
هذه وصية الوداع من رسول الله قبل أن يغادر هذه الدنيا، يوصي بها أمته ناصحا مشفقا، ويُشهد الله على ذلك، فهل تكون أمة تابعة لنبيها مطيعة له أمة تعصيه في آخر وأهم وصاياه؟! وماذا تنتظر الأمة إذا عصت هذا الأمر الإلهي وهذه الوصية النبوية؟! هل تنتظر رفعة وعزا؟! ماذا تنتظر أمة تعاملت بالربا المحرم؟! هل تنتظر رخاءً ونماءً؟! لا يمكن أن يكون رخاء ونماء فيما حرمه الله سبحانه، لهذا قد ينتعش اقتصاد يقوم على الربا ولكنه انتعاش يحمل في طياته الهلاك والخسران وإن طال الزمن، يقول فيما أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس: ((إذا ظهر الزنا والربا في قرية فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله)) ؛ لهذا ينبغي علينا أن نبتعد عن هذه المعصية، وأن لا نقترب منها إن كنا نريد الفلاح وإن كنا نريد النجاة، فلا سبيل إلى النجاة إلا في الابتعاد عما حرم الله، يقول سهل بن عبد الله كما في تفسير القرطبي: "النجاة في ثلاثة: أكل الحلال، وأداء الفرائض، والاقتداء بالنبي "، فالنجاة إذًا في طلب الحلال، أما الاعتماد في هذه الحياة ومطالبها على الحرام واللجوء إلى الربا وغيره مما حرم الله فإنه لا ينفع ولا يدوم ولا يفضي إلا إلى القلة والفقر مهما استكثر الإنسان منه، عن ابن مسعود أن رسول الله قال: ((ما أحد أكثر من الربا إلا كان عاقبة أمره إلى قلة)) أخرجه ابن ماجه.
فلنتق الله عباد الله، ولا يدفعنا طلب الرزق أو قلته إلى أن نطرق أبواب الحرام.
أسأل الله أن يهدينا إلى صالح الأقوال والأعمال، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/3764)
صور من الكسب الحرام
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
البيوع, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
14/5/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1ـ آفة السرقة. 2- آفة الغلول. 3- آفة الغش في البيع والشراء. 4- آفة بيع السلعة بالحلف الكاذب. 4- آفة التطفيف في الميزان. 5- آفة الرشوة. 6- آفة الاعتداء على الأراضي. 7- آثار الكسب الحرام.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [البقرة: 188 ]، ويقول في الحديث الشريف الذي أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث أبي أمامة: ((إن روح القدس نفث في روعي ـ أي: إن جبريل ألقى في قلبي ـ أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملن أحدكم استبطاء الرزق أن يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا يُنال ما عنده إلا بطاعته)).
إخوة الإيمان، تكلمنا في الخطبة الماضية عن الربا، وهو من الكسب الحرام، ونتكلم اليوم عن صور أخرى من الكسب الحرام نهى عنها شرعنا وحذر منها.
إن الإنسان في هذه الدنيا منذ أن يُدرك ويعي ما يدور حوله يحب المال ويشغف بجمعه، حتى إن الطفل الصغير إذا كان يبكي فأعطيته ورقة أو قطعة مالية فرح وسكت فورا، فالإنسان مشغوف بالمال وهذه جبلَّة فيه، فقد قال عنه الله سبحانه: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْث [آل عمران: 14 ]، وقال أيضا: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، ولكن هذا الحب أمرنا الله أن نضبطه بضوابط الشرع حتى لا يدعونا إلى طلب المال من كل اتجاه وإلى الكسب الحرام، فالكسب الحرام طريق هلاك للإنسان وتدمير للأوطان.
ويدخل في الكسب الحرام الكثير من الأمور التي نهى عنها الشرع المطهر، فمن أوجه الكسب الحرام السرقة، فالسرقة داء من الأدواء الخطيرة، حيث يتعدى الإنسان على ما ليس له فيأخذه، وهذا حرام شرعا وفيه ضرر بالآخرين.
والسرقة إذا ما قام بها الإنسان مرة أو اثنتين صارت مرضا متمكنا فيه، لهذا قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [النور:38]، فأمر سبحانه بإزالة هذا العضو الذي قام بفعل السرقة حتى يكون في ذلك عقاب وتحذير شديد للسارق ولغيره، وحماية للناس والمجتمعات من شر هذه الآفة.
والسرقة قد تكون من شخص وقد تكون من المال العام وهو ما يسمى شرعا بالغلول، وكلها سرقة، ولكن السرقة من المال العام أشد؛ لأن فيها إضرارا بعامة الناس، كما أن السارق من شخص مرهون بعفو هذا الشخص عنه ليبقى الذنب بينه وبين الله، أما السارق من المال العام فإنه يحتاج إلى عفو جميع أفراد المجتمع لا يتخلف منهم أحد.
وقد عد العلماء الغلول من الكبائر، والغلول ـ أي: الأخذ من مال المسلمين دون علمهم ـ حذر منه رسول الله أشد التحذير، يقول فيما أخرجه مسلم عن عدي بن عميرة: ((من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة)) ، والمخيط هو الإبرة، فمن أخذ إبرة من المال العام أتى بها يوم القيامة، فما بالك بما فوقها؟!
فاحذروا يا عباد الله، فإن الأمر جد خطير، روى الإمام مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال النبي : ((كلا، إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة)) ، والمعنى: أن هذا الرجل أخذ عباءة من الغنائم قبل أن يقسمها رسول الله ، والغنائم ملك لعامة المسلمين، فعُذِّب من أجلها رغم أنه يقاتل مع رسول الله.
فكسب المال ـ إخوة الإيمان ـ ليس غاية، والمسلم لا يشغله في هذه الحياة أن يكسب المال، بل يشغله كيف يكسب المال، لأنه يعلم أن هناك طرقا لكسب المال أباحها الله وطرقا حرمها الله، وإذا لم يهتم بكيفية كسب المال فإنه سيقع فيما حرم الله، وسيُفتن بهذا المال الذي يجمعه، يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ جْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال:27، 28].
ومن الكسب الحرام الغش في البيع والشراء والمعاملات لقوله : ((من غشنا فليس منا)) أخرجه ابن مسلم عن أبي هريرة، وكلمة: ((فليس منا)) كلمة عظيمة تنفي أن يكون غاش المسلمين منهم، ولكن الذي يغش الناس لا يتصور هذه الكلمة كما ينبغي.
ومن الكسب الحرام كذلك بيع السلعة بالحلف الكاذب لقوله : ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم))، وذكر منهم: ((المنفق سلعته بالحلف الكاذب)) أخرجه مسلم عن أبي ذر.
وكذلك التطفيف في الميزان، هذا الأمر الحساس الذي يتهاون فيه معظم الناس، فإذا كانوا بائعين أخسروا، وإذا كانوا مشترين استوفوا، والله سبحانه يقول في كتابه العزيز: وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1- 3]. ويكفي في خطورة هذا الأمر ـ أيها المسلم ـ أن يتوعدك أصدق الصادقين ورب العالمين بالويل، كل هذه الأمور ـ يا عباد الله ـ من وسائل الكسب الحرام.
ومن أهم وسائل الكسب الحرام وأخطرها الرشوة التي انتشرت في كثير من المجتمعات الإسلامية وأصبحت شرا يحيط بالجميع، فاعتادها المعطي والآخذ وكأنها أمر حلال، بل ويسمونها بغير اسمها، وهذا من باب تسمية الأشياء بغير أسمائها كما أخبر بذلك رسول الله كما في صحيح الجامع من حديث أبي مالك الأشعري: ((ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) ، فالخمر مثلا تسمى: مشروبات روحية، والمداهنة يسمونها: مجاملة، والربا: فائدة، إلى غير ذلك، فالرشوة يسمونها: عمولة، حتى تنطلي على كثير من الناس فيعطونها وهم راضون.
والرشوة أمر نهى عنه الشرع وحذر منه أيما تحذير، يقول كما عند ابن ماجه من حديث ابن عمر: ((لعنة الله على الراشي والمرتشي)) ، فهذه لعنة من الله يعلنها رسول الله على من يقوم بهذا العمل الخسيس، ألا وهو الرشوة؛ لأنه أكل للأموال بالباطل، فهذا المال الذي يأخذه الموظف خارج معاشه من أجل أن يتم معاملة لأحد الناس حرام، بل إن رسول الله حرم الهدية التي يحصل عليها الموظف في عمله وعدَّها ملكا للدولة، عن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي رجلا من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فخطب النبي فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((أما بعد: فإني أستعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرا له خوار، أو شاة تيعر))، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: ((اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت)) متفق عليه.
والمقصود من الحديث أن هذا الرجل قبل أن يتولى هذا العمل لم يُهد إليه شيء، وبعد أن يترك هذا العمل لن يسأل عنه أحد، فهذا دليل على أن الهدية ليست له ولكنها للمكان الذي هو فيه، إذًا فلا حق له فيها لهذا قال : ((هلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر هل يُهدى إليه أم لا؟!)). وأما في وقتنا هذا الذي ابتعدنا فيه عن ديننا فإن الذي يقبل الهدية فقط أصبح عندنا من الطيبين؛ لأن الرشوة في الأمة الإسلامية أصبحت تُشترط وتُحدد قيمتها وتقبض بدون حياء.
ومن الكسب الحرام الاعتداء في الأرض وادعاء ملكية أرض الغير، وهذه نجدها كثيرا في البادية وفي المناطق الزراعية، فنجدهم يتخاصمون ويتقاتلون من أجل أشبار من التراب، ويأخذ القوي أرض الضعيف بالكذب والاحتيال ظانا بذلك أنه نال مكسبا كبيرا، يقول : ((من أخذ من الأرض شيئا بغير حقه خُسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين)) أخرجه البخاري عن ابن عمر.
سيقف كل من الظالم والمظلوم أمام الله سبحانه وتعالى في يوم يحق فيه الحق ويبطل فيه الباطل، بل قد ينال الظالم في كثير من الأحيان جزاءه في الدنيا قبل الآخرة. وهذه امرأة حاولت أن تكذب في ادعاء ملكية أرض زورا وبهتانا، فنالت عاقبة وخيمة لأنها اختارت أحد المبشرين بالجنة خصما لها، ادعت هذه المرأة على الصحابي الجليل سعيد بن زيد أنه أخذ شيئا من أرضها، وشكته عند مروان بن الحكم، فقال سعيد : أنا آخذ شيئا من أرضها بعدما سمعت رسول الله يقول: ((من اقتطع شبرا من أرض طوِّقه يوم القيامة من سبع أرضين)) ، فقال مروان بن الحكم: لا أسألك بعد هذا بيِّنة، يكفيني منك هذا، فقال سعيد : اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واجعل قبرها في دارها، قال راوي الحديث عروة بن الزبير: فوالله، لقد عمي بصرها حتى رأيتها امرأة مسنة تلتمس الجدران بيديها، وكانت في هذه الأرض بئر وكانت تمشي في أحد الأيام فسقطت في البئر، وكان ذلك البئر قبرها.
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الله سبحانه أمركم بما أمر به الرسل فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: معشر المسلمين، قد لا يهتم الإنسان بأمر الكسب الحلال ولا يعطيه كثير اهتمام، والواقع أنه موضوع مهم، إذا أهمله المسلم ارتبكت كل مجريات حياته، وجاءت نتائج سعيه وآماله عكسية في كل الأمور، فالكسب الحرام مهلك للإنسان دنيا وأخرى، يقول فيما أخرجه الترمذي عن أبي برزة: ((لا تزول قدما عبد حتى يُسأل عن أربع)) ، وذكر منها: ((عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟)) ، هذه هي العبرة في المال، وليست العبرة في كثرته وصاحبه لا يدري أهو من حلال أو من حرام.
لهذا اختلف الأمر بيننا وبين سلفنا الصالح؛ فبينما تطلب المرأة في وقتنا الحاضر من زوجها أن يجلب لها كل ما تريد هي وأبناؤها ولا تهتم من أين سيأتيها بما تريد، فإن نساء السلف الصالح كانت الواحدة منهن توصي زوجها عند خروجه وتقول له: "اتق الله، ولا تطعمنا الحرام؛ فإننا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار".
ولعل كثيرا منا يتساءلون دائما: ما لنا ندعو الله سبحانه ولا يُستجاب لنا؟ ألا فلنعلم أن الكسب الحرام وأكل لقمة الحرام حائل بين العبد ومولاه، وقد بين رسول الله هذا في أحاديثه وذكر: ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟!)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة. كيف يستجيب الله لمن كانت هذه حالته؟!
فيا عبد الله، كيف تمد هذه اليد التي امتدت إلى الربا، إلى الرشوة، إلى الاختلاس؟! كيف تمدها وترفعها إلى السماء؟! ترفعها إلى الذي يعلم السر وأخفى، وتقول: يا رب، هل تظن أنك تستطيع أن تخدعه كما خدعت الناس؟! علينا جميعا ـ يا عباد الله ـ أن يكون مطعمنا طيبا حتى يكون باب السماء مفتوحا لدعواتنا، فبئس الكسب كسب الحرام، وبئس البضاعة يقدمها الإنسان عند وقوفه بين يدي الله سبحانه وتعالى.
يقول شقيق بن عبد الله كما في سير أعلام النبلاء: قال لي إبراهيم بن أدهم: يا شقيق، ما نبل من نبل عندنا بالجهاد ولا بالحج، بل كان يعلم ما يدخل بطنه. ويقول وهيب بن الورد كما في حلية الأولياء: "لو قمتَ قيام السارية ـ أي: بين يدي الله ـ ما نفعك حتى تعلم ما يدخل بطنك أحلال أم حرام".
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تجعل لنا نصيبا في الحرام، وحُل بيننا وبينه حتى نلقاك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
(1/3765)
أثر المعاصي ووجوب مفارقتها
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
21/5/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التخلية قبل التخلية. 2- المعاصي سبب لموت القلب. 3- المعاصي سبب لنزول العذاب. 4- المعاصي سبب لمنع القطر. 5- المعاصي سبب للذل والهوان. 6- المعاصي سبب لحرمان الرزق. 7- ضرورة المبادرة إلى الإقلاع عن المعاصي. 8- التفكر في عظمة الخالق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد تكلمنا فيما مضى من خطب عن مجموعة من الكبائر والمعاصي، وبينا خطرها على دنيا المسلم وآخرته، فلا بد أن نتكلم عن الطاعات كما تكلمنا عن المعاصي، وقد قدمنا الكلام عن المعاصي قبل الطاعات لأن التخلية ـ كما يقولون ـ تكون قبل التحلية، أي: أن التخلي عن الأمور السيئة يكون قبل التحلي بالأمور الطيبة، وارتداء الثياب النظيفة يكون بعد نزع الثياب المتسخة وغسل الجسم وتطهيره، لهذا تكلمنا عن المعاصي في البداية وبينا ضررها لكي نتخلى عنها ونطهر أنفسنا ونزكيها حتى تتحلى بالطاعات أفضل تحلي، سأل رجل ابن الجوزي: أيهما أفضل: أسبِّح أم أستغفر؟ قال: "الثوب الوسخ أحوج إلى الصابون منه إلى البخور".
لا بد لنا قبل أن ننطلق إلى ساحة الطاعات أن نفارق المعاصي وأن نقف في محطة الإنابة والاستغفار والندم على ما اقترفت أيدينا حتى يكون اتجاهنا إلى الطاعات نافعا، لا بد أن نقف في برزخ الندم والبكاء كي نتهيأ فعلا لتكاليف الطاعة، وكي نحمل هذا الدين حملا صادقا.
نتكلم اليوم عن أثر المعاصي وضرورة مفارقتها، ثم نتكلم في الخطبة القادمة بإذن الله عن الاستغفار وما يتبعه، ثم ننطلق إلى رحاب الإيمان وطاعة الرحمن وفضائل الأعمال.
المعاصي ـ إخوة الإيمان ـ ساحة للذل والهوان والشؤم والخسران، ولا يمكن لعبد يرغب في عز الدنيا ونعيم الآخرة أن يقر له في هذه الساحة قرار أو أن يرضى بهذا الجوار، فلا بد من هجران المعاصي والاستسلام لمن بيده القلوب والنواصي.
لا بد من مفارقة المعاصي لأن في الإقامة على المعاصي موت القلوب؛ فإن آثار المعاصي تتراكم على القلب حتى تطبع عليه وتميته، يقول سبحانه: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100]، يقول الحسن كما في الدر المنثور: "الذنب على الذنب ثم الذنب على الذنب حتى يغمر القلب فيموت"، ويقول إبراهيم بن أدهم:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
لا بد من مفارقة المعاصي لأنها سبب لنزول عذاب الله على مرتكبيها وعلى الراضين بها والساكتين عنها، وهذه سنة الله في خلقه إذا كثرت فيهم الذنوب والمعاصي، يقول سبحانه: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40]، وفي الحديث عن عائشة قالت: قال رسول الله : ((يكون في آخر الأمة خسف ومسخ وقذف)) ، قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم إذا ظهر الخبث)) ، فلله بأس ـ أيها الناس ـ لا يُرد عن القوم المجرمين فاحذروا.
لا بد من مفارقة المعاصي لأن في المعاصي منع القطر من السماء ومنع البركة عن أهل الأرض، يقول سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَات ٍمِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، ويقول : ((ما منع قوم زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا)) أخرجه الطبراني عن ابن عمر، وقال مجاهد في قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ [البقرة:159] قال: "دواب الأرض تلعنهم وتقول: يمنع عنا القطر بخطاياهم".
لا بد من مفارقة المعاصي لأن في المعاصي ذل يصاحب العاصي في الدنيا والآخرة، وكيف يكون العاصي عزيزا وهو قد قطع صلته بالعزيز المعز وخالف أمر رسول الله، يقول فيما أخرجه أحمد من حديث ابن عمر: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)) ، فالذل حتم محتوم على من عصى وأقام على الذنوب، قال سليمان التيمي: "إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته".
والكثير منا ـ عباد الله ـ قد لا يرى هذا الذل على وجوه العصاة لسببين، أولا: لأننا تلبسنا مثلهم بالمعاصي فتشابهنا معهم فلم نلحظ هذا الذل، وثانيا: لأننا نقيس الذل بمقياس دنيوي، فننظر إلى مكاسب الإنسان الدنيوية على أنها عز ورفعة حتى ولو كان من العاصين، أما الذين يرون بنور الله ويسيرون على نهج رسول الله فإن المظاهر لا تخدعهم والمتع لا تستدرجهم، بل لهم بوصلة ثابتة يسيرون بها في الحياة نحو اتجاه واحد هو مرضاة الله والجنة، وعلى ضوئها يحكمون على الأشياء، يقول الحسن البصري رحمه الله وهو يرى العصاة وذوي الجاه يتبخترون فوق البغال والبراذين يقول: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".
فالمعصية ذل في هذه الدنيا، وهي ذل في الآخرة أيضا عندما يرى العاصي نتاج عمله وقطوف زرعه، يقول سبحانه: وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ [الشورى:44، 45].
لا بد من مفارقة المعاصي لأن في المعاصي حرمان الرزق، فالرزق من الرزاق، وبقدر طاعة المسلم لمولاه بقدر ما يرزقه ويبارك له في رزقه ويقنعه به، وإلا فهو محروم من الرزق أو غير مبارك له فيه أو ليس قانعا بما رزقه الله، بل يعيش دائما ملهوفا منهوما، فالإيمان والطاعة أسباب تفتح باب الرزق، والمعاصي توصده، يقول سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، ويقول سبحانه عن أهل سبأ: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ [سبأ:15-17].
هذه هي نتيجة المعاصي والعتو والتمرد على أوامر الله سبحانه، إذا كان المسلم يؤمن بأن الله هو الرزاق فلا بد أن يرضيه حتى ينال من رزقه الطيب المبارك، ولا بد أن يعلم أنه قد يتأخر عنه الرزق أو يضيع بسبب الذنوب، أخرج الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه قال: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القبر ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق).
كل هذه ـ عباد الله ـ آثار للمعاصي وتبعات تبين لنا شؤم المعصية على صاحبها، وتحثنا وتحفزنا على الابتعاد عن المعاصي حتى لا تطالنا هذه العقوبات، كما أن إثبات صدق التوجه إلى الله سبحانه وصدق الرجوع والإنابة إليه يقتضي ترك المعصية، فلا يمكن للمقيم على المعصية أن يكون صادقا في التوجه إلى الله.
المبادرة والإسراع في الهرب من المعصية نجاة؛ لأن الإنسان لا يدري متى يأتيه داعي الله سبحانه ومتى يهجم عليه الموت ذلك الغائب المنتظر، فلا بد أن يبكر في ترك مضارب أهل المعاصي والرحيل إلى مضارب أهل الخير والصلاح، وإلا دهمه العدو وضيع نفسه، يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أبي موسى: ((مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قوما فقال: يا قوم، إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العريان، فالنجاء النجاء، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا، وكذبته طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق)).
فلنبادر ـ إخوة الإيمان ـ بترك ذل المعاصي وضنكها إلى عز الطاعات وراحتها، ولنشمر عن ساعد الجد لنيل مرضاة الله سبحانه، فلن يزيدنا الانغماس في المعاصي والإعراض عن طاعة الله وذكره إلا غما وضنكا، يقول سبحانه: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معشر المسلمين، أمر المعاصي أمر عظيم؛ لأنه يبعد الإنسان عن حياض النور وعن رحاب الرب الغفور، ولأنه يربك حياة الإنسان ويُضيِّع بركتها، فلا يستفيد الإنسان من حياته بشيء، حتى الفساد الذي يستشري في الأرض يكون سببه الأكبر وقسطه الأوفر من المعاصي التي يرتكبها الإنسان، يقول سبحانه: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
لهذا فإن الإنسان مطالب بأن يبتعد عن هذه المنغصات؛ ليصفو له العيش، وليتمكن من أداء أمانته في هذه الحياة. ولكي نتمكن من طاعة الله ومن البعد عن معصيته فلا بد أن نعرف جلال الذي نعصيه، لا بد أن نتفكر في هذا الخالق وفي نعمه علينا، لا بد أن ننظر إلى عظمته بدل أن ننظر إلى صغر المعصية، فإذا علمنا أننا نعصي الجبار المتكبر الواحد القهار أيقنا فعلا أننا أتينا أمرا عظيما وخطأ جسيما، قال بلال بن سعد: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت"، وقال بشر الحافي كما في حلية الأولياء: "لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوه".
إن الإنسان يستحي في هذه الدنيا أن يراه الناس على معصية أو أمر مشين، ثم هو يقابل الله سبحانه بهذه المعصية ويجعله أهون الناظرين إليه، والله أحق بهذ الاستحياء، يقول كما عند أحمد من حديث بهز بن حكيم: ((الله أحق أن يستحيا منه من الناس)).
إن أثر المعصية يمس كل ما يحيط بالإنسان: أمنه واستقراره ورزقه، بل حتى فهمه وعلمه يتأثر بالمعصية فيضعف أو تضيع بركته، يقول سبحانه: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ [البقرة:282]، فإذا اتقى الإنسان ربه وإذا ابتعد عن مساخط الله وعن معصيته يسر الله له سبل العلم والفهم والمعرفة، وإذا أدمن المعصية ذهبت عنه بركة العلم وفضله، ي روى أن الإمام الشافعي رحمه الله لما جلس بين يدي إمام دار الهجرة الإمام مالك رحمه الله ليطلب العلم، ورأى مالك مخايل وعلامات النجابة والذكاء بادية عليه، وأعجبه وفورُ عقله وكمال حفظه قال له ناصحا: "إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية".
فلنتق الله عباد الله، ولنجاهد أنفسنا وشهواتنا في ذات الله، ولنعلم أننا لن نضر بالعكوف على المعاصي إلا أنفسنا، ولن نضر الله شيئا.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم إلى طاعته ومرضاته، وأن يجنبنا معصيته وغضبه...
(1/3766)
الاستغفار باب التوبة
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
28/5/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الله وعظيم مغفرته. 2- استغفار الأنبياء. 3- ثمرات الاستغفار. 4- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه في كتابه العزيز: وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]، ويقول في معرض الثناء على عباده الصالحين: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18].
الاستغفار ـ أيها المسلمون ـ دأب الأبرار وسبيل الأخيار وطريق للوصول إلى رحمة العزيز الغفار، الاستغفار رحمات منشورة يوفق سبحانه إليها الصادقين الوجلين من عباده، والاستغفار كذلك ضرورة من ضرورات التوبة والرجوع إلى الله سبحانه؛ لأن الإنسان إذا لم يعترف فعلا أنه ارتكب ما يحتاج إلى الاستغفار منه وإذا لم يقدم الاعتذار على ما بدر منه فإن عودته إلى الله وتوجهه إليه لن يكون حارا صادقا، أما إذا اعترف بتقصيره نحو خالقه وتفريطه في جنب الله وإسرافه على نفسه فإنه سيندفع بكل جوارحه نحو ربه راجيا أن يتقبله سبحانه وأن يغفر ذنبه ويعفو عنه، لهذا فقد أثنى الله سبحانه على هذا الصنف من عباده الذين تقلقهم المعصية وتهز كيانهم وتقض مضجعهم، فيذكرون الله ويتوبون إليه ولا يصرون على ما هم عليه، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:135، 136]. انظروا كيف يثني الله سبحانه على المستغفرين من عباده الذين إذا أذنبوا استغفروا لذنوبهم ورجعوا إلى مولاهم نادمين، وانظروا كيف يجزل لهم المثوبة ويضاعف لهم الأجر.
ولقد عرض سبحانه المغفرة على عباده وفتح لهم أبواب التوبة والاستغفار في أكثر من آية من آيات كتابه، فهو القائل سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]، وهو القائل: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6]، وهو القائل عز وجل: قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]. فها هو الرحمن جل في علاه يتكفل بالمغفرة للذين صدقوا في استغفارهم ويفتح لهم باب المغفرة، وها هو يتكفل بالقبول لمن أراد الرجوع إليه سبحانه، فهل نتكفل نحن بالاستغفار كما تكفل سبحانه بالمغفرة؟! هل نحقق المقدمة لنفوز بالنتيجة؟! هل نتوب ونطهر هذه الأنفس ونزكيها لنؤهلها لدخول هذا الباب الذي يشرعه الرحمن لعباده؟!
إن القضية ـ إخوة الإيمان ـ ليست في أن نذنب أو لا نذنب، بل القضية هل نستغفر لذنوبنا أم لا؟ أما مجرد الذنوب فإنها من طبيعة البشر التي لا تنفك عنهم ولا ينفكون عنها، بل إن رسول الله يبين لنا أننا لو لم نذنب لجاء الله بأقوام يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم سبحانه، عن أبي هريرة أن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)) أخرجه مسلم. هكذا هو حب الرب سبحانه للاستغفار وللمستغفرين، وهكذا هي رحمته تنشر فيصيب منها المؤمنون المفلحون ما شاء لهم سبحانه أن يصيبوا، ويعرض عنها المخذولون العاجزون فيضرون أنفسهم ولا يضرون الله شيئا.
ولقد بين لنا المولى عز وجل أن الاستغفار كان خلقا وأمرا حميدا سار عليه رسله الكرام، فكانوا يلهجون بطلب المغفرة منه ويتوبون إليه سبحانه، وسرد لنا الكثير من الآيات التي تذكر لنا استغفار هؤلاء الأنبياء، يقول سبحانه عن استغفار أبينا آدم وزوجه: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23]، ويذكر لنا استغفار نبيه موسى: قاَلَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16]، ويقول عن داود: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، ويقول عن سليمان قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [ص:35]، ويقول على لسان نوح: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [نوح:28].
هؤلاء هم رسل الله عليهم صلوات الله وسلامه، أقرب الخلق إلى الله، وأعلمهم بالله، يعلموننا الاستغفار، ويطلبون المغفرة من رب العالمين سبحانه، ولقد كان نبينا محمد سيد المستغفرين مع أن الله سبحانه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، يقول سبحانه: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:1، 2]، فمع هذه العطية الإلهية وهذا التفضل الرباني عليه إلا أنه أبى إلا أن يلهج بذكر مولاه، أبى إلا أن يطلب منه المغفرة في تذلل بلسان المقال ولسان الحال، أبى إلا أن يكون عبدا شكورا، فقد ورد كما عند مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أنه كان يقوم في الليل بين يدي ربه حتى تتورم قدماه، قالوا: ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: ((أفلا أكون عبدا شكورا؟!)) ، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)) أخرجه مسلم عن الأغر المزني.
ولقد حث أمته على الاستغفار لحرصه على الأمة ونصحه لها، بل إنه بين أن من أهم ما يعمر به المسلم صحيفته الاستغفار، يقول كما عند البيهقي من حديث الزبير: ((من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار)) ، فلماذا بعد هدا كله نغفل عن الاستغفار؟! ولماذا نصم آذاننا عن هذه النداءات الإلهية وهذه الوصايا النبوية التي تدلنا على الاستغفار وتصف لنا هذه الوصفة الشافية لكثير من أدوائنا وأمراضنا؟!
والاستغفار ـ عباد الله ـ إذا رددناه نافعا فلا بد أن يكون صادقا، لا بد أن يكون الاستغفار مصدره قلوبنا لا ألسنتنا وحسب، لا بد أن نعيه ولا نقوم به ونحن ذاهلون عنه وعن معناه، لا بد أن يكون مبعثه ومحركه ندم على المعاصي والآثام ورغبة في إصلاح العلاقة مع الرب الكريم، هذا هو الاستغفار الذي يريده منا رب العالمين، وهذا هو الاستغفار الذي تكون ثمرته عفو ومغفرة وتوفيق من الله، أما استغفار اللسان والقلبُ لاه أو استغفار اللسان والإنسان مقيم على المعاصي والآثام فهذا ليس استغفارا، بل هذا الاستغفار قد يكون هو أيضا ذنبا يحتاج إلى استغفار.
أورد القرطبي في أحكام القرآن أن الحسن البصري قال: "استغفارنا يحتاج إلى استغفار"، ثم علق القرطبي قائلا: "هذا يقوله في زمانه، فكيف في زماننا هذا الذي يُرى فيه الإنسان مكبّا على الظلم حريصا عليه لا يقلع، والسبحة في يده زاعما أنه يستغفر الله من ذنبه؟! وذلك استهزاء منه واستخفاف، وفي التنزيل: وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [البقرة:231]".
هذا ما يقوله القرطبي عن الاستغفار في زمانه، فماذا نقول عن الاستغفار في زماننا الذي أصبح فيه الاستغفار يُتغنى ويرقص به؟! وكأن الاستغفار فرح وبطر لا ذل وندم واستكانة لرب العالمين، فمتى ـ عباد الله ـ نعي أننا بحاجة ماسة ملحة إلى الاستغفار؟! ومتى نعي أن استغفارنا لا بد أن يكون صادقا نابعا من قلوب تتفطر خوفا ومن نفوس تتحرق ندما حتى يكون لهذا الاستغفار معنى، وحتى تكون له ثمرته في الدنيا والآخرة؟!
فإن للاستغفار ثمرات أخروية، هي المغفرة والتكريم والخلود في النعيم المقيم، وله كذلك ثمرته في الدنيا من إصلاح الحال وتفريج الهموم وتنفيس الكروب وتيسير الأمور، ومن بركة في المال والأهل والولد والزرع وغيرها، يقول سبحانه: وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [هود:3]، ويقول على لسان نبيه هود مخاطبا قومه: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً [هود:51]، ويقول سبحانه: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
هذه ثمرات من ثمرات الاستغفار لعلنا جميعا في حاجة إليها في هذا الوقت الذي ارتبكت فيه حياتنا واختلطت أمورنا وتعطلت حاجاتنا بسبب ما اقترفنا من ذنوب وآثام، وبسبب غفلتنا ـ ونحن المقصرون ـ عن أمر لم يغفل عنه الصالحون الأوابون ولا الأنبياء المقربون ألا وهو الاستغفار والتهيّؤ لمفارقة هذه الدار إلى دار القرار. يذكر ابن الجوزي في صفة الصفوة أن الربيع بن خثيم قال لأصحابه: تدرون ما الداء وما الدواء وما الشفاء؟ قالوا لا، قال: الداء الذنوب، والدواء الاستغفار، والشفاء التوبة.
أسأل الله أن يلهمني وإياكم الاستغفار، وأن يوفقنا إلى التضرع بين يديه بالأسحار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وصلاة وسلاما على أفضل خلقك نبيك محمد الداعي إلى رضوانك.
أيها المسلمون، إن هذه الحياة الدنيا دار للاختبار والمحن، والإنسان فيها خطاء وتواب وشارد وأواب، والسعيد من غلبت توبته أخطاءه وغلبت أوبته شروده، ولا ينبغي للإنسان أن ييأس، بل لا بد أن يظل يقرع بأصابع الندم والرجاء باب الرحمة والعطاء، ولا بد أن يلج ـ بإذن الله ـ إن كان صادقا.
هذه الدنيا ساحة يسعى فيها الشيطان ـ عليه لعنة الله ـ إلى أن يوقعنا فيما يغضب الله، ويفتح فيها الرحمن باب الرجاء لكل مذنب أو مقصر، وهذان وعدان لازمان: من الشيطان بالإغواء والإضلال، ومن الرحمن بالعفو والغفران لمن استغفر وتاب، عن أبي سعيد أن رسول الله قال: ((إن الشيطان قال: وعزتك ـ يا رب ـ لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني)) أخرجه أحمد.
مَن إله غير الله يعد المذنبين بهذا الوعد الكريم؟! ومن إله غير الله يتفضل على عباده المقصرين هذا التفضل؟! إذًا فالاستغفار هو سلاحنا أمام هذا الكيد الشيطاني، وهو سبيلنا لنيل هذا العفو الرباني، فلماذا نبخل على أنفسنا بالاستغفار؟! ولماذا نحرم أنفسنا الرجوع والإنابة إلى ربنا ومولانا الذي يقول سبحانه: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، والذي ينادينا سبحانه ويعرض علينا أن نعود إليه وأن نلوذ به مهما كثرت خطايانا؟! عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)) أخرجه الترمذي. إنها رحمات واسعة لمن هيأ نفسه لها وعبَّدها لله وفطمها عن الحرام، فلا تغفلوا عن الاستغفار فتكونوا من المحرومين؛ لأن المحروم حقا هو من حرم هذا الفضل العظيم.
أسأل الله أن يوفقني وإياكم إلى الاستغفار، وأن يجنبنا التمادي في الباطل والاغترار بدار البوار...
(1/3767)
تعريف الإيمان وأركانه
الإيمان
حقيقة الإيمان, خصال الإيمان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
6/6/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أركان الإيمان. 2- ملازمة العمل للإيمان. 3- شرح أركان الإيمان. 4- واجب المسلم الحقيقي نحو أركان الإيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: إخوة الإيمان، نتكلم ـ بإذن الله وعونه ـ عن الطاعات كما وعدنا، وأساس الطاعات وأهمها الذي لا قيمة للطاعات الأخرى بدونه الإيمان.
نتحدث اليوم عن الإيمان معناه وأركانه، ونتكلم في الخطب القادمة ـ بإذن الله ـ عن بعض جوانبه، ثم نتكلم عن مجموعة من الطاعات والخصال الإيمانية، أسأل الله أن يعيننا في الكلام عن هذا الأمر العظيم، وأن يغفر لنا أي خطأ أو تقصير.
فأركان الإيمان هي أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هذا هو الإيمان كما بينه رسول الله ، وهذه هي أركانه.
أما معنى الإيمان كلفظ فهو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان ـ أي: القلب ـ والعمل بالأركان، يزيد هذا الإيمان بالطاعة، وينقص بالمعصية، فلا بد لكي يكون الإيمان فاعلا من اجتماع الإقرار باللسان ـ أي: أن تقرر حقائق الإيمان بلسانك ـ والتصديق بالقلب وإتباع ذلك بالعمل، وليس صحيحا ما يقوله كثير من الناس الذين يتركون ما فرض الله عليهم من أعمال ثم يقولون: الإيمان في القلب، فما قيمة إيمان لا يحرك صاحبه إلى الامتثال وإلى الطاعة والأعمال الصالحة.
إن الله تعالى قرن الإيمان في غالب الآيات التي ذكر فيها بالأعمال الصالحة كأمرين متلازمين، كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]، وقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر:1-3]، فلا بد أن نعي هذه الحقيقة حتى نكون مؤمنين حقا.
الركن الأول من أركان الإيمان: الإيمان بالله، والإيمان بالله معناه الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، وأنه الذي يستحق وحده أن يفرد بالعبادة من صلاة وصوم ودعاء ورجاء وخوف وذل وخضوع، وأنه المتصف بصفات الكمال كلها المنزه عن كل نقص، فالإيمان بالله سبحانه يتضمن توحيده في ثلاثة أمور: في ربوبيته وفي ألوهيته وفي أسمائه وصفاته، ومعنى توحيده في هذه الأمور اعتقاد تفرده سبحانه بالربوبية والخلق والتدبير وغيرها من أمور الربوبية، فهو القائل سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21، 22]. ومعنى توحيده أيضا اعتقاد تفرده بالألوهية والعبادة، يقول سبحانه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، ويقول سبحانه: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس:106]. ومن توحيده أيضا اعتقاد تفرده في صفات الكمال وأسماء الجلال، يقول سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ويقول سبحانه عن نفسه: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65].
هذه إخوة الإيمان ركائز الإيمان بالله جل وعلا، فلا يكون العبد مؤمنا بالله حتى يعتقد أن الله رب كل شيء ولا رب غيره، وإله كل شيء المعبود حقا ولا إله غيره، وأنه الكامل في صفاته وأسمائه ولا كامل غيره.
الركن الثاني من أركان الإيمان: الإيمان بالملائكة الكرام، والملائكة عالم غيبي مخلوقون عابدون لله تعالى، وليس لهم من خصائص الربوبية والألوهية شيء، خلقهم الله تعالى من نور، ومنحهم الانقياد التام لأمره والقوة على تنفيذه، قال تعالى: وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:19، 20]، وهم عدد كثير لا يحصيهم إلا الله تعالى، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة المعراج أن النبي رفع له البيت المعمور في السماء يصلي إليه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا إليه إلى آخر ما عليهم.
والملائكة مخلوقات عظيمة الخلق، فقد رأى النبي جبريل على صورته وله ستمائة جناح قد سد الأفق، وقد يتحول الملك بأمر الله تعالى إلى هيئة رجل كما حصل لجبريل حين أرسله تعالى إلى مريم فتمثل لها بشرا سويا، وحين جاء إلى النبي وهو جالس في أصحابه بصفة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه أحد من الصحابة، فجلس إلى النبي فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخديه، وسأل النبي عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأماراتها، فأجابه النبي ، فانطلق ثم قال النبي: ((هذا جبريل، أتاكم يعلمكم دينكم)) أخرجه مسلم.
ومن الملائكة جبريل الأمين على وحي الله تعالى، يرسله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل الموكل بالقطر أي: المطر والنبات، وإسرافيل الموكل بالنفخ في الصور عند قيام الساعة وبعث الخلق، وملك الموت الموكل بقبض الأرواح عند الموت، ومالك الموكل بالنار، هؤلاء ملائكة نعرفهم بأسمائهم، ومن الملائكة من نعرفهم بوظائفهم، مثل الملائكة السياحين في الأرض الذين يلتمسون حلق الذكر والعلم، والملائكة الموكلين بالجنة والنار، وقد ذكرنا منهم مالكا خازن النار، والملائكة الذين يكتبون أعمال الناس، والملائكة الذين يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، والملائكة الركع السجد في السماء، والملكين اللذين يسألان الإنسان في قبره عن ربه ودينه ونبيه، وفي بعض الأحاديث عند الترمذي وغيره أن اسمهما المنكر والنكير إلى غير ذلك من ملائكة كرام.
أما الركن الثالث من أركان الإيمان ـ أيها المسلمون ـ فالإيمان بالكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله رحمة للخلق وهداية لهم، ليصلوا بهذه الكتب إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة. فعلينا الإيمان بما علمنا اسمه من هذه الكتب باسمه، كالقرآن الذي نزل على رسول الله ، والتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام، والإنجيل الذي أنزل على عيسى عليه السلام، والزبور الذي أوتيه داود عليه السلام، وصحف إبراهيم وموسى عليهما السلام، وما لم نعلم اسمه من كتب الله فنؤمن به إجمالا.
أما الركن الرابع فهو الإيمان بالرسل عليهم صلوات الله وسلامه، حيث لم تخل أمة من رسول يبعثه الله بشريعة مستقلة إلى قومه أو نبي يوحى إليه بشريعة من قبله ليجددها، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وقال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].
فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلا سواهم لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله الذي أرسلهم، فعلينا الإيمان بهم جملة، يقول تعالى: وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164]، وعلينا الإيمان أيضا بأنهم بينوا ما أرسلهم الله به بيانا لا يسع أحدا ممن أرسلوا إليه جهله ولا يحل خلافه، قال تعالى: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل:35].
وأما أولو العزم من الرسل فعن ابن عباس أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم صلوات الله وسلامه، وهم المذكورون في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب:7].
وأفضل الرسل إمام المرسلين وخاتمهم صاحب الشفاعة العظمى نبينا محمد ، يقول كما في الترمذي من حديث أبي سعيد: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر)).
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر، اليوم الذي يُبعث الناس فيه للحساب والجزاء، وسمي باليوم الآخر لأنه لا يوم بعده حيث يستقر أهل الجنة في منازلهم وأهل النار في منازلهم، ذكر الله تعالى هذا اليوم في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فقال سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء:136]، وقال: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ [النساء:87]، وقد قال الكافرون مستبعدين للبعث: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء:49]، أي: كيف نبعث ونخلق مرة أخرى بعد أن نصبح عظاما ورفاتا؟! فرد عليهم الله سبحانه من نفس منطقهم أن بعثهم وخلقهم بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا أيسر من خلقهم أول مرة من العدم، يقول سبحانه: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:78، 79].
الركن الأخير من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله سبحانه والرضا به، والقدر تقدير الله تعالى للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته، وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، فكل شيء بقضاء وقدر، يقول تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، ويقول: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، فلا يكون إلا ما شاء سبحانه وتعالى وقدره بعلمه، فهو العليم الحكيم.
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا الإيمان في قلوبكم، واعلموا أن هذه الأركان وغيرها من أصول عقيدتكم مبثوثة في كتاب ربكم سبحانه وسنة نبيكم ، فاعتصموا بهما تفلحوا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإسلام، تكلمنا عن أركان الإيمان الأساسية في عقيدتنا الإسلامية، وما نريد أن نوجه الاهتمام إليه أن هذه الأركان ليست للعلم النظري والاستظهار اللفظي بحيث إذا سألك أحد عن أركان الإيمان سردتها له، بل هذه الأركان يجب أن يتيقنها الإنسان، ويجب أن يعيها، ويجب أن يغرسها في قرارة نفسه، ويضعها نصب عينيه، ويطبع حياته على أساسها، ويخضع نفسه للشرع، ولا يُخضع الشرع لهواه، ويمتثل كلام الله وكلام رسوله.
فمعرفتنا بأركان الإيمان تقتضي عملا وخوفا وصدقا في التوجه إلى الله، فما فائدة أن تعرف أن الله مولاك ومصورك ورازقك وأنه يراك ويسمعك وأنه أقرب إليك من حبل الوريد ثم أنت تعصيه بالليل والنهار وتجاهر بالمعصية؟! هل هذا مقتضى الإيمان بالله؟! وما فائدة أن تعرف أن لله ملائكة كراما وأن منهم من وكلهم الله بكتابة أعمال الناس وكسبهم يلازمونك طيلة حياتك ثم أنت لا تتورع عن إيذائهم بالخبائث وترتكب في السر والعلانية الموبقات التي تسجل عليك وتراها في كتابك يوم الحشر؟! وما معنى أن تؤمن باليوم الآخر وبأن الناس سيقفون بين يدي الله رب العالمين ليقتص للمظلوم من الظالم وليوفي كل نفس ما كسبت وليعطي كل ذي حق حقه ثم أنت تظلم الناس وتغشهم وتسرق أموالهم وتسبهم وتؤذي جيرانك إلى غير ذلك من معاص؟! وما فائدة أن تؤمن بالقضاء والقدر ثم أنت تجزع إذا أصابك مكروه وتعترض على حكم الله وقضائه؟!
فالمقصود ـ بارك الله فيكم ـ أن لا نأخذ هذه الحقائق السامية على أنها معلومات تحفظ وتردد فقط، ولكنها عقيدة، كل من ادعى الإسلام ملزم بأن يحيا على ضوئها ولا يحيد عنها قيد أنملة حتى يلقى الله سبحانه وهو راض عنه، فإذا تشرب القلب هذه العقيدة فلا بد أن تظهر آثارها في أخلاق المسلم وسلوكه مع ربه ومع الناس والعكس بالعكس؛ فإن المسلم إذا تخلق بالأخلاق الحسنة وجاهد نفسه في تحقيقها فإنه يحقق الإيمان أو يزيد فيه، يقول في الحديث الحسن الذي أخرجه أحمد والترمذي عن أبي هريرة: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلما، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)).
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها...
(1/3768)
الإيمان بالله
الإيمان, التوحيد
الربوبية, الله عز وجل
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
13/6/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الإيمان وأهميته. 2- الإيمان بالغيب. 3- فضل التدبر في مخلوقات الله تعالى. 4- أدلة وجود الله تعالى. 5- أهمية ترسيخ الإيمان في القلب.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: لا زلنا مع الإيمان الذي هو أساس عقيدتنا الإسلامية وأساس وجودنا، هذا الإيمان أهم مكسب من مكاسب الإنسان في هذه الدنيا، لهذا فنحن نحتاج دائما إلى تجديده، نحتاج دائما إلى تقوية يقيننا بالغيبيات العظمى التي وإن كنا لا نراها فإن الفطرة والعقل يدلان عليها، كما أن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ورسولنا أخبرانا بهذه الغيبيات، فوجب علينا الإيمان بها.
فالإيمان بالغيب هو الأساس الذي أفلح على ضوئه المفلحون وخسر الخاسرون، يقول تعالى في مدح عباده المؤمنين بالغيب: الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة َوَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:1-5]، فأول صفة مدحٍ من صفاتهم كانت: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، يقول عبد الله بن مسعود كما في تفسير ابن كثير: (والذي لا إله غيره، ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب)، ثم قرأ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إلى قوله: وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ومن أعظم الغيبيات التي يجب أن نجدد إيماننا بها ونستحضرها حتى لا تجرفنا الحياة بمغرياتها الإيمان بالله، فما تقرب الصالحون بالأعمال الصالحة وصلوا وصاموا وبذلوا الأموال والأنفس في سبيل الله إلا لإيمانهم بهذا الإله الذي يجزيهم على هذه الأعمال الصالحة، وما أساء المسيئون وعصى العاصون وبالغوا في الذنوب والآثام والكبائر إلا لضعف إيمانهم بالله.
ومن أهم ما يوصلنا إلى الإيمان بالله ـ يا عباد الله ـ التدبر في مخلوقات الله والتدبر في أنفسنا، لهذا فقد أمرنا الله سبحانه بالسير في الأرض للتدبر في مخلوقاته، فقال سبحانه وتعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَة َإِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت:20]، وقال سبحانه: قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ [يونس:101] ، وأمرنا بالنظر في خلقنا وفي أنفسنا فقال سبحانه: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]، فهذا النظر والتدبر كله يوصلنا إلى الإيمان بالله سبحانه.
والإيمان بالله يتضمن الإيمان بوجوده تعالى، فقد دلت الفطرة والعقل والشرع والحس على وجوده سبحانه، فكل مخلوق فطر على قبول الإيمان بخالقه دون أن يتلقى تعليما بهذا، ولا يحيد الإنسان عن هذه الفطرة إلا بعد أن يكبر ويتأثر عقله بأمور تفسد فطرته وتحيد به عن الإيمان، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟!)) متفق عليه.
فالفطرة التي تتوجه إلى خالقها تلقائيا دليل على وجود الله سبحانه، فالإنسان مجبول على التوجه إلى خالقه خاصة في أوقات الضعف، حتى الملحد في وقت الضيق والشدة يرفع بصره إلى السماء وهو في غاية الضعف، فهذا من أدل الأدلة على أن لهذا الكون إلها مدبرا حكيما، وهذا ما ورد في القرآن الكريم عن المشركين، فرغم إشراكهم إلا أنهم إذا كانوا في البحر وحدقت بهم الأخطار أخلصوا دينهم لله، يقول تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ [يونس:22]، فالفطرة المغروسة في الإنسان مربوطة بخالقه وخالق الكون أيا كان هذا الإنسان، سئل أحد الصالحين عن دليل وجود الله فقال: أرأيت لو كنت في صحراء فسقطتَ في بئر ولا تجد من ينجدك فماذا تقول؟! قال: أقول: يا الله، قال: هذا دليل وجوده.
فالله قريب من عبيده لو كانوا يعقلون، والقلوب المؤمنة ترى هذا بوضوح، فإذا غاب القطر وأجدبت الأرض وجف الضرع ونفقت الأنعام وصار النبات هشيما جأرت الدواب إلى خالقها وهرع العبيد إلى مولاهم ورفعوا إليه أكف الضراعة يستسقون ويستغيثون فإذا بالغيث يهل والروح تسري في الأرض وفي الدواب، وإذا استعرض الجنين في بطن أمه وعسرت الولادة وادلهمّ الخطب وقاربت الأم على الهلاك رفعت بصرها إلى السماء وقالت: يا الله فإذا الأمور تتغير بإذن القادر المقتدر، وإذا العسير يسير، وإذا الأمر كأن لم يكن، والمذنب إذا أذنب وأسرف على نفسه وضاقت عليه الأرض بما رحبت فعفر الوجه في التراب وذرف دموع الندم وأناب ونادى منكسرا: يا الله فإذا بالرحمات تنزل والسكينة تعم القلب، وإذا بالرحمن الرحيم يأخذ بيد عبده إلى طريق النور والتوفيق، فهذا اللجوء إلى الله وهذه الاستجابة الفورية منه سبحانه من دلائل الحس والفطرة على وجود الخالق عز وجل.
والعقل أيضا يدل على وجود الله سبحانه؛ لأن المخلوقات سابقها ولاحقها لا بد لها من موجد، وهذا الإتقان البديع في الكون والتناسب المتناهي والارتباط بين الكائنات لا يمكن أن يكون عبثا، فهذه الكائنات لم تخلق نفسها ولم يخلقها العدم، بل وراءها خالق عظيم مدبر لها وللكون، لهذا قال سبحانه في الرد على الكفار والمشركين: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، أي: أنهم لم يُخلقوا من العدم ولم يخلقوا أنفسهم، فتعين أن يكون لهم خالق هو الله تبارك وتعالى، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم رسول الله يقرأ سورة الطور في صلاة المغرب فبلغ هذه الآيات: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ [الطور:35-37]، وكان جبير يومئذ مشركا قال: (كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي) أخرجه البخاري. فلا بد أن يُعمِل الإنسان عقله في المخلوقات وفي الظواهر الكونية التي تحيط به، ويعلم أن وراءها مدبرا عظيما قاهرا.
يروى عن أبي حنيفة أن بعض الزنادقة الملحدين سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبِرت عنه، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة ـ أي: مملوءة ـ فيها أنواع من البضائع وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد، فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل! فقال: ويحكم، هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت من الأشياء المحكمة ليس لها صانع! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه.
فالتدبر في خلق الله ـ معشر المسلمين ـ من أهم وسائل تقوية الإيمان وتثبيته، فلا بد أن يفكر الإنسان: مَن وراء هذا الإتقان البديع في الكون من كواكب سيارة وأفلاك دوارة وشمس تجري لمستقر لها وقمر منير وبحار زاخرة وجبال راسية وأرض تنبت ثمارا مختلفا أكلها وحيوانات برية وبحرية وطيور تطير في جو السماء؟ لا بد أن يتساءل الإنسان: من وراء المرض؟ ومن وراء الشفاء؟ ومن وراء الإعزاز؟ ومن وراء الإذلال؟ ومن وراء الإماتة؟ ومن وراء الإحياء؟ من يدبّر كل هذه الأمور ويصرفها كيف يشاء؟
قل للطبيب تخطفته يد الردى: يا شافي الأمراض، من أرداكا؟
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب: من عافاك؟
قل للصحيح يموت لا من علة: مَن بالمنايا يا صحيح دهاكا؟
قل للبصير وكان يحذر حفرة فهوى بها: من ذا الذي أهواكا؟ بل سائل الأعمى خطا بين الزحام بلا اصطدام: من يقود خطاكا؟
قل للجنين يعيش معزولا بلا راع ومرعى: ما الذي يرعاكا؟
قل للوليد بكى وأجهش بالبكاء لدى الولادة: ما الذي أبكاكا؟
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله: من ذا بالسموم حشاكا؟
واسأله: كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا؟
بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث: ما الذي صفاكا؟
واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهدا وقل للشهد: من حلاكا؟
وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله: من يا نخل شق نواكا؟
قل للهواء تحسه الأيدي ويخفى عن عيون الناس: من أخفاكا؟
أليس هو الله؟! أليس هو الخالق المدبر لهذه الأكوان وراء كل هذا؟! الخالق الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أضحك وأبكى، والذي أمات وأحيا، والذي خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى، فتبارك الله أحسن الخالقين.
يقول سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190، 191]
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وخير خلق الله أجمعين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين.
إخوة الإيمان، لا بد للإنسان من أن يسعى إلى تحقيق الإيمان في قلبه، فلا يكون إسلامه إسلام تقليد ووراثة فحسب، بل يكون إسلام تصديق ويقين لا يتزعزع ولا يتحول، وهذا ضروري حتى يثبت الإنسان على دينه خاصة في أوقات الفتن، فإنه لا يصمد أمام فتن الدنيا إلا المؤمن، يقول : ((بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
فلا بد أن يكون الإيمان في مكان آمن مصون من قلب الإنسان، ولكي يكون كذلك فلا بد أن يتعهد الإنسان إيمانه بالأعمال الصالحة وبالذكر والتدبر حتى يثبت هذا الإيمان ثبات الجبال الرواسي، لهذا كان رسول الله يستحضر معاني الإيمان في ذكره ودعائه وعبادته، عن ابن عباس قال: كان النبي إذا قام من الليل يتهجد قال: ((اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت، ولا إله غيرك)) متفق عليه.
بهذه الكلمات الطيبات المباركات يبتهل رسول الله إلى خالق هذا الكون ومدبره، إلى مولاه الذي له ملك السماوات والأرض الغني الجبار، الذي لا يُعبد سواه، ولا يُتوكل إلا عليه، ولا يُستغاث إلا به، ولا يُنادى في الشدائد مخلوق غيره كائنا من كان، فهو النافع والضار، وهو على كل شيء قدير، لا مدبر للكون إلا هو، ولا شريك له في ذلك ولا ظهير، ولا إله في السماوات والأرض غيره، يقول سبحانه: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [الأنبياء:22]، لا يجوز التوجه بشيء من العبادة كالخوف والرجاء والدعاء والتوكل والاستعاذة والانقياد إلا إليه، ومن صرف شيئا من ذلك لغيره فقد تلبس بالشرك، يقول سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، وعن أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري قال: قال رسول الله : ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)) أخرجه ابن ماجه.
اللهم عمر قلوبنا بالإيمان، واشرح صدورنا للإسلام، واجعلنا من عبادك الصالحين...
(1/3769)
آثار الإيمان وثماره
الإيمان
فضائل الإيمان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
20/6/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإيمان صمام الأمان. 2- آثار الإيمان. 3- ثمرات الإيمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: معشر المسلمين، للإيمان إذا ما تمكن في القلب آثار على صاحبه، فليس الإيمان بالأمر الهين في حياة الإنسان، بل هو انقلاب في كيان الإنسان يجعله لا يسير في هذه الحياة إلا وفق ما يمليه عليه هذا الإيمان وما يقتضيه، فلا قيمة لحياة الإنسان بدون إيمان، الإنسان بلا إيمان بالغيبيات العظمى وبلا تمكن للإسلام في قلبه يصير كالوحش الأعجم لا تهمه إلا مصلحته، والمجتمع بلا إيمان غابة يأكل فيها القوي الضعيف وتضيع فيها الحقوق، فالإيمان هو صمام الأمان لأي مجتمع ورابطة قوية تجمع أفراده، الإيمان يجعل المؤمن يؤدي ما عليه لا خوفا من قانون أو عقاب دنيوي، بل لأنه يعلم أن الله يراه وأنه سيجازيه إن أحسن أو أساء، وآثار الإيمان عظيمة كثيرة نذكر بعضا منها.
من أهم آثار الإيمان ثقة المؤمن بما عنده ثقة كاملة ليس محتاجا معها إلى إعادة نظر أو تغيير مواقف، يقول سبحانه موجها الخطاب لنبيه : قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57]، هكذا بكل وضوح: إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي ، هذا هو الإيمان، أن يكون المؤمن على بينة من ربه، فإذا كان على بينة فإن إيمانه يكون كالجبل الراسي الضارب بجذوره في الأرض، لا يضطرب اليقين عنده ولا تختل الموازين، وهذا ما كان من سيد المرسلين في ثباته على الإيمان، حتى عندما أرادت قريش أن تغريه وأن تستميله وأن تحيد به عن إيمانه بعرض المغريات التي يسيل لها لعاب أي بشر أبى؛ لأنها البينة من الله، ولأنه الإيمان ملأ القلب ولم يترك فيه مساحة لمتاع الدنيا الزائل فرد، عليهم وعلى عرضهم بكلمات من كتاب الله تجبه باطلهم وتدمغه فإذا هو زاهق، تلا على عتبة بن ربيعة الذي أرسلته قريش ليعرض على رسول الله جميع المغريات من منصب ومال ونساء على أن يترك دعوته، تلا عليه بداية سورة فصلت: حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ حتى بلغ قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ [فصلت:1- 13]، فزلزلت هذه الآيات وهذا النذير كيان عتبة، فما كان منه إلا أن وضع يده على فم رسول الله ، وقال: ناشدتك الله والرحم أن تكف، ورجع إلى قومه بغير الوجه الذي جاء به. فالمؤمن ـ أيها المسلمون ـ لا خيار عنده في إيمانه بربه وبدينه وبنبيه، وليست هذه الأصول العظيمة محل نقاش عنده.
ومن آثار الإيمان أنه يغير النفوس التي يصعب تغييرها، فبينما الإنسان في غي وجهل وشرك إذا بنور اليقين وقوة الحجة وتوفيق رب العالمين تغمر العقل والنفس، وإذا ببشاشة الإيمان تخالط شغاف القلب، فيتغير القلب غير الذي كان، ويعود الإنسان سويا على الفطرة كما كان، وهذا ما سرده علينا القرآن من حال سحرة فرعون، فبينما هم سحرة ينصرون الباطل ويدورون في فلكه وينافحون من أجل إعلاء كلمته إذا هم مؤمنون صادقون يبذلون الأنفس دون عقيدتهم وإيمانهم، ويسجدون لرب العالمين لما رأوا الحجة البينة بعد أن كان سجودهم لفرعون، يقول سبحانه: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:70-73].
ومن آثار الإيمان البعد عن المعاصي وقياس الشهوات وعاقبتها بميزان الآخرة لا بميزان الدنيا، فالمتذبذب إذا قابلته إحدى الشهوات وتوفرت لها الأسباب غابت رقابة الله في قلبه وخارت قواه وأقبل على الشهوة وورد ماءها ونهل منها، وبعد اقتراف المعصية يصحو ويدرك ما فعل، أما المؤمن الحق فإنه يقابل الشهوة بقوله: مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [يوسف:23]، يقابلها بقوله: إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15]. المؤمن يتصور حسرة المعاصي وأثرها قبل أن يقع فيها فيبتعد عنها وينجو بجلده ليسلم له دينه وتصفو نفسه، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس:7-10].
هذا هو المؤمن الحق يسعى في الطاعة ويخاف المعصية ويراقب نفسه في كل صغيرة وكبيرة، وتؤرقه الذنوب إذا قارفها أو اقترب منها، يرى المعصية عظيمة مهما صغرت، وهذا من أهم ما يميز به المؤمن عن غيره، ومن أهم ما يساعده على بلوغ مرضاة الله، فالمؤمن يرى ذنبه كجبل فوقه يخشى أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده. يقول أنس بن مالك كما عند البخاري وأحمد: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد النبي من الموبقات.
ومن آثار الإيمان الثقة بموعود الله سبحانه والثقة بنصره وتأييده، حتى يرى المؤمن المحنة منحة والكربة قربة، فلا تزيده الشدائد إلا ثقة بالرب عز وجل، وأعظم من علم الناس هذا الدرس وهذه المفاهيم الإيمانية العظيمة سيد الرسل نبينا محمد ، يقول الله تعالى عن نبيه عندما كان في الغار مع رفيقه الصديق والمشركون على باب الغار، يقول سبحانه: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا [التوبة: 40 ]، فكيف يحزن من يعلم أن الله معه يكلؤه ويحميه ويحفظه؟! أخرج الترمذي عن أنس أن أبا بكر حدثه قال: قلت للنبي ونحن في الغار: لو أن أحدهم ينظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه، فقال: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)).
هذا ما يفعل الإيمان بأهله، وهكذا يكونون إذا اشتد الأمر وادلهم الخطب، بل إنه كان إذا تحسس الخطر لم يهرع إلا إلى الله، وقال واثقا: ((حسبنا الله ونعم الوكيل)) ، عن ابن عباس قال: (حسبنا اللَّه ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا اللَّه ونعم الوكيل) رواه البخاري.
ومن آثار الإيمان أن المؤمن لا يأمن على نفسه ولا يطمئن ما دام في هذه الدنيا مهما بلغ من صلاح وتقوى، ليس هذا وحسب بل إن المؤمن الحق يخاف على نفسه النفاق ويحذر من أن يكون عمله مناقضا لقوله، يقول إبراهيم التيمي كما عند البخاري: "ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا"، ويقول ابن أبي مليكة: "أدركت ثلاثين من أصحاب النبي كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل" أخرجه البخاري. فانظروا كيف هو خوف المؤمنين.
ومن آثار الإيمان أن يكون المؤمن ذا نفس شفافة شفيقة وقلب رقيق أسيف، يتأثر بذكر الله، فيخشع قلبه، وتسيل دمعته، ولا يكون قاسيا جلفا، يقول سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، هذا هو حال المؤمنين مع آيات الله، وهذا هو مسلكهم، وهذه الحال تنعكس حتى على علاقتهم بإخوانهم المسلمين؛ فتجد المؤمن يألم لمصاب إخوانه، ويحزن لحزنهم، ويمد لهم يد المساعدة، ويكون كريما معهم، يقول كما عند الطبراني من حديث ابن عباس: ((ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)).
ومن آثار الإيمان ثبات المؤمن في السراء والضراء، ثباته أمام فتن الخير والشر، فإذا أصابه شر صبر، وإذا أصابه خير شكر، أما من يعبد الله على حرف فسرعان ما تزلزله الفتن وتعصف به، يقول سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، هذا حال من يعبد الله على غير إيمان ثابت وعقيدة راسخة، أما المؤمن فهو في الحالين راض ساكن مطمئن لأمر الله، عالم أنه لن يعدم الأجر في الضراء والسراء، يقول : ((عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)) أخرجه مسلم عن صهيب.
هذه آثار من آثار الإيمان يتخلق بها المؤمنون الذين قال الله فيهم: وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخوة الإيمان، مثلما أن للإيمان آثارا تظهر على المؤمن أو يسعى المسلم لتحقيقها والتحلي بها فإن له ثمارا يحصل عليها المؤمن في الدنيا والآخرة.
من ثمرات الإيمان الحياة الطيبة في هذه الدنيا، يقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، كما وعد الله المؤمنين بالأمن والاستخلاف في الأرض، يقول سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
ومن ثمرات الإيمان عدم الخسران، فالمؤمن لا يخسر بإذن الله، وهذا أمر أقسم عليه رب العالمين فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر].
ومن ثمرات الإيمان أن الله سبحانه يطهر المؤمن من ذنوبه في هذه الدنيا بما يبتليه به من مرض ووصب، يقول في الحديث المتفق عليه: ((ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)) ، ويقول أيضا: ((ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة)) أخرجه الترمذي عن أبي هريرة.
ومن ثمرات الإيمان تثبيت الملائكة للمؤمنين عند موتهم وتبشيرهم بما أعده الله لهم من فضل وكرامة، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ [فصلت:30-32].
ومن ثمرات الإيمان الأمن يوم القيامة ودخول الجنة، فما من مسلم مؤمن صفا إيمانه من شوائب الشرك والجاهلية إلا أمنه الله يوم القيامة وأدخله جنة النعيم، يقول سبحانه: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، ويقول سبحانه: وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:124].
هذه ـ إخوة الإيمان ـ بعض الآثار والثمار الإيمانية، فاتقوا الله وكونوا مع المؤمنين حتى تنالوا كرامة الإيمان وجائزته، واعلموا أن الله يحب المؤمنين، بل ويغار عليهم سبحانه، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن الله تعالى يغار، وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه)) متفق عليه.
فاللهم يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين، احفظ لنا إيماننا وثبتنا عليه، وقونا على فعل الخير وترك الشر يا رب العالمين. اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك، فلا تتركنا لأنفسنا...
(1/3770)
حب الله ورسوله
الإيمان
حقيقة الإيمان, خصال الإيمان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
27/6/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محبة الله ورسوله أصل من أصول الإيمان. 2- صور من محبة السلف الصالح. 3- مقتضيات حب الله ورسوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن حب الله وحب رسول الله أمر مهم وطاعة عظيمة لا بد للمسلم أن يتعهد نفسه فيها، وأن يحاول أن يتخلق بها وأن يسعى جاهدا لتحقيقها، فالمؤمن الحق محب لربه سبحانه ومحب لرسوله ، بل إن المؤمن أشد حبا لله من حب الأتباع لمتبوعيهم من دون الله، يقول سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ [البقرة:165].
هذا أصل عظيم من أصول الدين، لا يمكن للإنسان أن يقوم بأمور دينه على الوجه الأكمل دون هذا الأصل، فلا يمكن أن تُتصور طاعة أو امتثال أو اتباع دون حب، ولا يمكن كذلك أن تتصور حلاوة إيمان دون وجود هذا الحب لله تعالى ولرسوله ، عن أنس بن مالك عن النبي قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من أحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، ومن كان الله عز وجل ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان أن يقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه)) أخرجه النسائي. بل إنه يقول مؤكدا قوله بالقسم بالله سبحانه كما عند البخاري من حديث أنس: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)) ، هذا قسم عظيم يا محب رسول الله ، وهذا أمر جلل يضعك أمامه رسول الله ليختبر حبك له، هل هو حب صادق أم لا؟ وهل سيدفعك هذا الحب إلى إيثاره على غيره أم لا؟ أيهما أحب إليك: الناس أم رسول الله ؟ أيهما أحب إليك: والدك أم رسول الله؟ بل أيهما أحب إليك: ابنك أم رسول الله ؟ لا بد أن تغلب حب نبيك لتكتب لك السعادة ولتكون ممتثلا حقا.
هذا هو مقتضى الإيمان أيها المسلمون، أن يكون الله ورسوله أحب وأقرب إلى نفوسكم من غيرهما، وأن يكون ما يريده الله ورسوله أولى إليكم حتى مما تريدونه أنتم، لهذا فقد أنذرنا الله سبحانه نذارة عظيمة وأوعدنا وعيدا غليظا إذا نحن قدمنا غيرهما عليهما، وعيدا يخلع القلوب، وذكرى لمن كان منا ذا فهم وفقه، لمن كان منا ذا قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، هذه النذارة لا زلنا نسمعها ونتلوها في كتاب الله، ولكننا لا نعي حقيقتها ولا نقوم بمقتضاها، يقول سبحانه: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة:24]. تربصوا ـ أيها الناس ـ وانتظروا ما يأتيكم به الله سبحانه إن كانت هذه الأشياء من أبناء وأموال ومساكن وغيرها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله.
ولقد علمنا سلفنا الصالح الحب لله والحب لرسوله ، فقد كانوا رضي الله عنهم صادقين في هذا الحب لا يدعونه ادعاء، بل يحققونه أتم التحقيق، وعندما طلب منهم أن يكون الله ورسوله أحب إليهم مما سواهما حققوا هذا وقاموا به دون تردد، وبرهنوا عليه بأقوالهم وأعمالهم، عن عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال النبي : ((لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك)) ، فقال له عمر: فإنه الآن ـ والله ـ لأنت أحب إلي من نفسي، فقال النبي : ((الآن يا عمر)).
فانظروا كيف كان عمر بن الخطاب صادقا في بداية الأمر، ولم يدَّع درجة في الحب ليست عنده، فقال: (لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي)، ثم انظروا كيف استجاب استجابة مباشرة عندما علم أن إيمانه لا يكون كما ينبغي إلا بتقديم حب رسول الله على حب نفسه فقال: (الآن ـ والله ـ لأنت أحب إلي من نفسي).
هكذا ينبغي أن نتعلم كيف نستجيب لله وللرسول، وكيف نضع حبهما وما يقتضيه هذا الحب فوق كل اعتبار، وهذا ـ كما قلنا ـ لم يقم به أحد حق القيام مثل صحابة رسول الله الذين كانوا يعدون للمدلهمات حب الله ورسوله، ويجعلونه بضاعتهم ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، عن أنس بن مالك قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، متى قيام الساعة؟ فقام النبي إلى الصلاة، فلما قضى صلاته قال: ((أين السائل عن قيام الساعة؟)) فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: ((ما أعددت لها؟)) قال: يا رسول الله، ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم إلا أني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله : ((المرء مع من أحب، وأنت مع من أحببت)) ، قال أنس: فما رأيت فرح المسلمون بعد الإسلام فرحهم بهذا. أخرجه الترمذي.
بل إن صحابة رسول الله لشدة حبهم لرسولهم كان بعضهم مشغولا بأمر فراق رسول الله، وكيف سيلقونه في الآخرة وهو أعلى منهم درجة، فانظروا إلى شدة هذا الحب، كان ثوبان مولى رسول الله شديد الحب له قليل الصبر عنه, فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه, فقال له: ((ما غير لونك؟)) فقال: يا رسول الله، ما بي من مرض ولا وجع، غير أني إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك, ثم إني ذكرت الآخرة أخاف أن لا أراك؛ لأنك ترفع إلى عليين مع النبيين, وإني إن دخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك, وإن لم أدخل الجنة لم أرك أبدا; فنزل قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69]. فما أعظمها من بشرى نالها هذا الصحابي الذي نزلت هذه الآيات في حقه، وما أعظمه من أجر يناله كل مطيع لله ولرسوله.
ولم يكتف سلفنا الصالح بهذه الدعاوى، ولم يتوقفوا عندها، ولم يركنوا إليها، بل برهنوا عليها عمليا بطاعتهم لربهم وتقديم مرضاته على كل ما سواه، وباتباعهم لنبيهم وتقديم أموالهم في سبيل الدعوة ودفاعهم عن النبي وعن الدين في معاركهم مع الكفار رجالا ونساء صغارا وكبارا، وكانوا لا يرضون أن يسوأه مخلوق كائنا من كان، أخرج الشيخان عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: إني واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانها، فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم، هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، فما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله ، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه، قال: فابتدراه بسيفهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله فأخبراه، فقال: ((أيكما قتله؟)) فقال كل واحد منهما: أنا قتله، فقال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) فقالا: لا، فنظر رسول الله إلى السيفين فقال: ((كلاكما قتله)). فانظروا إلى هذين الشبلين المسلمين، وانظروا إلى مقدار حبهما لنبيهما، ثم انظروا إلى أشبالنا وصغارنا هذه الأيام، وانظروا من يحبون ومن قدوتهم، ستجدون القدوة هم المغنون أو لاعبو الكرة النصارى والملاحدة.
لا بد ـ أيها المسلمون ـ أن نحب ربنا سبحانه، ولا بد أن نحب نبينا ، وكيف لا نحب ربا خلقنا ورزقنا وصورنا في أحسن صورة؟! ولا زال سبحانه يقبلنا رغم إقامتنا على المعاصي والآثام، يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر سبحانه من إله عظيم، وكيف لا نحب رسولا لا يحب عنتنا وهو بنا رؤوف رحيم؟! تحمل الأذى في سبيل أن يبلغنا دعوته، ولم يرض بأن يُنزل الله العذاب بنا لصدودنا عن دعوته، يدعو لأمته ويهمه أمرها، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي [إبراهيم:36]، وقول عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، فرفع يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي)) وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك. أخرجه مسلم. كيف لا نحب هذا النبي؟! فاللهم صل وسلم وبارك على حبيبنا وقرة أعيننا نبينا محمد، واجزه عنا أفضل ما جازيت به نبيا عن أمته.
أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، أمر حب الله ورسوله أمر مهم وحساس، فلا بد أن نعرف مقتضيات هذا الحب وعلاماته حتى نعلم هل نحن قائمون بشروط هذه المحبة فنسرّ ونشكر الله على ذلك أم أننا غير قائمين بذلك فنسعى إلى إصلاح هذا الخلل الخطير، لا بد من معرفة هذه العلامات حتى يتبيّن الصادق من الكاذب والمصيب من المخطئ، لأن أمر الحب هذا يدعيه الجميع حتى بلغ الأمر ببعض الطوائف المنحرفة أن بنت عبادتها وعلاقتها بالله على مجرد الحب فلا خوف ولا رجاء ولا اتباع ولا غيرها، وهذا حب تكذبه المقتضيات التي سنذكرها.
من أهم مقتضيات الحب لله ولرسوله اتباع رسول الله ، فلا بد لك ـ أيها المسلم ـ أن تبذل جهدك في أن تتبع رسولك في كل صغيرة وكبيرة من أمور دينك وكل شاردة وواردة، ولا يحقّ لك أن تحدث أمرا في الدين من عندك ثم تقول: لا بأس بهذا ولا بأس بهذا، فهذا ليس من الاتباع ولا يدل على المحبة، يقول سبحانه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:31، 32]
ومن علامات حب الله ورسوله التخلق بالأخلاق الحسنة التي حث عليها الله ورسوله ، ففي الحديث الحسن الذي أخرجه البيهقي عن عبد الرحمن بن أبي قراد أن النبي توضأ يوما فجعل أصحابه يتمسحون بوضوئه، فقال لهم النبي : ((ما يحملكم على هذا؟)) قالوا: حب الله ورسوله، فقال النبي : ((من سره أن يحب الله ورسوله أو يحبه الله ورسوله فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤد أمانته إذا اؤتمن، وليحسن جوار من جاوره)).
ومن علامات حب الله ورسوله أن يكون المسلم ذليلا على المؤمنين عزيزا على الكافرين، يجاهد في سبيل الله ولا يخاف في الله لومة لائم، يقول سبحانه في صفة من يحبهم سبحانه ويحبونه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
ومن علامات محبة الله ورسوله طاعتهما في كل ما يأمران به، ومحبة ما يحب الله ورسوله، وبغض ما يبغضه الله ورسوله، يقول ابن رجب كما في جامع العلوم والحكم: "فمن أحب الله ورسوله محبةً صادقةً من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله، ويكره ما يكرهه الله ورسوله، ويرضى ما يرضي الله ورسوله، ويسخط ما يسخط الله ورسوله، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحبّ والبغض، فإن عمل بجوارحه شيئًا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دلّ ذلك على نقص محبته الواجبة، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة" انتهى كلامه.
اللهم اجعلنا ممن يحبون الله ورسوله، ويقدمونهما على كل ما سواهما، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه...
(1/3771)
الخوف والرجاء
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, حقيقة الإيمان, خصال الإيمان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
5/7/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الخوف والرجاء وأهميتهما في حياة المسلم. 2- أنواع الخوف المحمود. 3- أنواع الرجاء. 4- ثمرات الخوف من الله. 5- ثمرات الرجاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه في كتابه العزيز: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57]، ويقول سبحانه: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
إخوة الإيمان، العبد في هذه الحياة الدنيا في عبادته لله سبحانه وهجرته إلى الله ورسوله لا ينفك عن حالتين ينبغي أن يعيشهما مع ربه عز وجل هما حالتي الرجاء والخوف، فهذان المقامان إلى جانب مقام الحب الذي تكلمنا عنه في الخطبة السابقة لا بد منهما ولا بد أن يتصف بهما العبد الضعيف مع مولاه القوي الغني، فإنه لا بد أن يرجوه وفي ذات الوقت لا بد أن يخافه، يرجوه فيرغبه فيسعى إلى مرضاته، ويخافه فيرهبه فيبتعد عن مساخطه، أما خلو الإنسان من حالتي الرجاء والخوف أمام مولاه عز وجل فإن فيه سوءَ أدب مع الله أو قصورا في فهم التعبد، فالله سبحانه ما حشد في كتابه صفات الرحمة ووجوه الجزاء الحسن إلا ليرجوه العبد ويرجو هذا الجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، وما حشد سبحانه صفات العظمة والقوة والانتقام ووجوه الجزاء والحساب الشديد إلا ليخافه المسلم ويخاف هذا الجزاء، ولم يسرد سبحانه كل ذلك عبثا.
والخوف والرجاء ـ عباد الله ـ معنيان لا يخفيان على أحد منا، فالخوف من الرهبة، خاف يخاف خوفا أي: رهب أو فزع، والرجاء من الرغبة، ورجا بمعنى أمّل، فالخوف مبعثه الفزع، والرجاء مبعثه الطمع، ومطلق الخوف لا يكون إلا من الله سبحانه، ومطلق الرجاء لا يكون إلا في الله سبحانه؛ لأن الخوف والرجاء عبادتان، فقد يخاف الإنسان مخلوقا أو يرجوه، ولكن لا ينبغي أن يصرف له كل الخوف أو كل الرجاء، بل يخاف المخلوقين ويرجوهم خوفا ورجاء يناسبهم كعبيد ضعفاء، ويخاف الله ويرجوه خوفا ورجاء يناسب عظمته وقدرته وقوته سبحانه.
لا بد إذًا من التخلّق بهذين الخلقين مع رب العالمين لنرقى في معارج القرب والقبول، يقول ابن القيم رحمه الله في كتاب مدارج السالكين: "ومن منازل (إياك نعبد وإياك نستعين) منزلة الخوف، وهي من أجل منازل الطريق وأنفعها للقلب وهي فرض على كل أحد"، ويقول أيضا: "القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر".
فهذه إذًا منزلة الخوف والرجاء وأهميتهما، أما أن نتصور عبادة أو علاقة بين خالق ومخلوق لا خوف فيها ولا رجاء فهذا أمر غير معقول ولا مقبول، لهذا أثنى الله على أفضل خلقه الأنبياء عليهم السلام بأنهم يعبدونه رجاء وخوفا، يقول سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
والخوف الذي يتحقق في قلب العبد المؤمن هو خوف من أكثر من ناحية، خوف أن لا يقبل الله عبادته، وخوف من عذابه وعقابه إلى غير ذلك، فقد وصف الله سبحانه عباده الصالحين أنهم يخافون من الله حق الخوف، يخافونه حتى وهم يؤدون عباداتهم خشية أن لا تقبل منهم، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، روى الإمام أحمد والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، قول الله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه)).
فانظروا ـ أيها المسلمون ـ كيف يخاف الصالحون الذين ذكرهم الله ورسوله، كيف يخافون مع أنهم يقومون بفعل الصالحات، وكيف نأمن نحن رغم أننا مقصرون وغافلون ومرتكبون للمعاصي والآثام، يقول الحسن رحمه الله عن هؤلاء القوم الخائفين وعن غيرهم من الآمنين الغافلين كما في أحكام القرآن للقرطبي، يقول: "عملوا ـ والله ـ بالطاعات، واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا".
والخوف يكون أيضا من عذاب الله سبحانه، يقول تعالى: وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:27، 28]، وهذا الخوف من الآخرة ومن عذاب الله يكون ضعيفا عند أغلب الناس؛ لأنه خوف من غيب لا نراه ولا نتصوره، ولا يُقوّي هذا الخوف إلا الإيمان المبني على العلم والإخلاص والأعمال الصالحة، لهذا اتصف بهذا الخوف خلّص عباد الله من الأنبياء والعلماء والصالحين الذين بلغوا من الإيمان درجة عالية، عن عائشة زوج النبي أنها قالت: ما رأيت رسول الله قط مستجمعا ضاحكا حتى أرى منه لهواته إنما كان يبتسم، وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف ذلك في وجهه، فقلت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب؟! قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا)) أخرجه أبو داود.
فالإنسان كلما زاد علما بالله زاد خشية له وخوفا منه، يقول سبحانه إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، أي: أن العلماء أكثر الناس خشية لله، ويقول سبحانه: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:9].
أما الرجاء فهو بعكس الخوف؛ لأنه يكون ـ كما قلنا ـ بالطمع في الله وتأميل الخير منه، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:218]، فالعبد لا بد أن يكون راجيا لله، طامعا في فضله، يمد كف السؤال في طمع وذلة، هذه الأمور التي هي مذمومة حين يفعلها الإنسان مع المخلوقين تكون محمودة حين يفعلها مع الخالق عز وجل.
هذا الرجاء وهذا الطمع وحسن الظن بالله يحبه الله سبحانه ويدعو عباده إليه، يقول كما عند الطبراني من حديث واثلة: ((قال الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)) ، فحسن الظن بالله من مقومات الرجاء.
والرجاء ـ كما يقول العلماء ـ ثلاثة أنواع: رجاء من يعمل بالطاعة وهذا رجاء الثواب، ورجاء من أذنب ثم تاب وهذا رجاء الرحمة، ورجاء المتمادي في الذنوب والمعاصي وهذا رجاؤه غرور وضلال؛ لأنه لم يقدم ما يرجو الله لأجله. يقول ابن قدامة المقدسي في مختصر منهاج القاصدين عن الرجاء المحمود والرجاء المذموم، يقول: "فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب من شوك الأخلاق الرديئة وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة كان انتظاره لذلك رجاءً محمودًا باعثًا على المواظبة على الطاعات والقيام بمقتضى الإيمان إلى الموت، وإن قطع بذر الإيمان عن تعهده بماء الطاعات أو ترك القلب مشحونًا برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة كان ذلك حمقًا وغرورًا". قال الله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا [الأعراف :169].
أما عن استعمال الإنسان للخوف والرجاء فمن العلماء من يرى أنه ينبغي أن يكونا متساويين حتى يصل الإنسان إلى بر الأمان، قال سهل بن عبد الله كما في أحكام القرآن: "الرجاء والخوف زمانان على الإنسان، فإذا استويا استقامت أحواله، وإن رجح أحدهما بطل الآخر". وقال أغلب أهل العلم: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء الخوف حتى يموت الإنسان وهو يحسن الظن بالله، يقول : ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)) أخرجه مسلم.
فغلبوا الخوف ـ رحمكم الله ـ في هذه الحياة، فمن خاف الله سبحانه حقا فإنه يشمر عن ساعد الجد ويسعى مسرعا في مرضاته؛ لأنه يعلم أن الأجل محدود، وأن اللقاء بالله كائن لا محالة، لهذا فهو يسرع في مرضاة الله وفي السير إلى ساحة الأمن وكأنه مطارد، وهذا ما بينه في الحديث الذي أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)) ، ويقول سبحانه: فَأَمَّا مَن طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37- 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على خيرته من خلقه محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخوة الإيمان، إن العبد إذا تعبد الله سبحانه مستحضرا الخوف والرجاء أحس برقابة المولى عز وجل وقربه، وأحس بلذة العبادة، لهذا حث الله العباد على أن يتعبدوه بالخوف والرجاء، كما أن الله سبحانه يوفق هذا العبد الخائف الراجي إلى كل خير، ويدخر له من الفضل والثواب في الآخرة ما لا يخطر له ببال ولا يتصوره خيال، أما عن ثواب الخوف فيقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:12]، ويقول سبحانه: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، ويقول في الحديث الذي رواه أنس وهو في صحيح الجامع: ((ثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلن، والعدل في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر. وثلاث مهلكات: هوى متبع، وشح مطاع، وإعجاب المرء بنفسه)) ، ويقول أيضا: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري مسلم أبدا)) أخرجه النسائي.
هذه هي ثمرات الخوف الصادق من الله، وهذه هي ثمرة من يستحضر هيبة هذا الرب العظيم، فيسعى جاهدا للاقتراب من مرضاته والبعد عن مساخطه، بل إن الله سبحانه يقسم بعزته وجلاله أن من خافه في الدنيا فجدّ واجتهد فلن يخاف في الآخرة، ومن أمنه في هذه الدنيا فسها وغفل فإنه سيخاف يوم القيامة، أخرج أبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس عن النبي قال: ((قال الله تعالى: وعزتي وجلالي، لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين؛ إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع عبادي)) ، فهذا ثوابك يا من تخاف الله رب العالمين، جاعلا من الخوف زادا لك إلى الآخرة وإلى الجنة.
أما عن ثواب الرجاء فقد بين أن الرجاء إذا اجتمع والخوف في قلب مؤمن فإن الله سبحانه يعطيه ما يرجو ويؤمنه مما يخاف، عن أنس أن النبي دخل على شاب وهو في الموت فقال: ((كيف تجدك؟)) قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله : (( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف)) أخرجه ابن ماجه.
ويكفينا في أمر الرجاء هذا الحديث، واسمعوه ـ رحمكم الله ـ بآذان قلوبكم لا بآذان أسماعكم، استمعوا إلى الرحمن وهو يتحبب إلينا ويتقرب إلينا رغم معاصينا ومخازينا، استمعوا إلى سيدكم ومولاكم وهو يبين لكم ثواب الراجين له ويبين لكم سعة فضله ومغفرته التي أعدها لهم، ففي الحديث الذي أخرجه الترمذي من حديث أنس يقول : ((قال الله تعالى: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين...
(1/3772)
الإخلاص
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أهمية التوحيد
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
12/7/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الإخلاص. 2- ثمرات الإخلاص. 3- عواقب فقد الإخلاص. 4- علاج الرياء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله سبحانه في كتابه العزيز: وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]، ويقول سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وعن جبير بن مطعم عن النبي أنه قال: ((نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ثلاث لا يغل ّ عليهن ـ أي: لا يدخله حقد ـ قلب امرئ مؤمن: إخلاص العمل لله، والمناصحة لأئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعاءهم يحيط من ورائهم)).
معشر المسلمين، الإخلاص من أهم أساسات الدين ومن أهم شروط العبادات والأعمال الصالحة، فإذا لم تبن العبادة على الإخلاص لله وحده ردت على صاحبها؛ لأن الإخلاص شرط لصلاح العمل، فأي عبادة يقوم بها المسلم تكون مردودة إذا لم يتحقق فيها شرطان هما الإخلاص والمتابعة، ومعنى المتابعة الموافقة للشرع ولما جاء به رسول الله ، فإذا تعبد المسلم بعمل مخلصا فيه ولكنه على غير ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله فهو مردود، وإذا تعبد بعمل على وفق ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله ولكنه غير مخلص فيه لله تعالى رُد عليه، وهذا ما أشار إليه ربنا عز وجل في كتابه العزيز في قوله سبحانه: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110 ]، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا أي: عملا موافقا لما أتى به رسول الله ، وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا أي: ليكن عمله خالصا لوجه الله.
فالإخلاص إذا شرط من شرطي قبول أي عمل صالح، فالله يأبى أن يقبل من العبد شيئا ليس خالصا له سبحانه، يأبى أن يقبل عملا فيه شرك أو رياء أو سمعة أو حب للظهور أو غير ذلك من مفسدات الأعمال، فهو القائل سبحانه كما في الحديث الذي أخرجه مسلم عن أبي هريرة: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) ، وفي رواية لأحمد والترمذي عن أبي سعيد بن فضالة يقول : ((إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك)).
فلا بد إذا أن نخلص العمل لله سبحانه، ولا بد أن نراقب أنفسنا ونحرص على أن تكون أعمالنا وعباداتنا خالصة لله، لا نريد من ورائها إلا رضا الله سبحانه لا شيء غيره، ولقد أمر الله سبحانه عباده بالإخلاص وبدأ بأمر رسوله بقوله: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ [الزمر:2، 3]. لقد ذكر سبحانه في هاتين الآيتين المتتاليتين كلمتين مشتقتين من الإخلاص للتأكيد على أهمية هذا الأمر فقال: فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وقال: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ.
فيجب عليك ـ أيها المسلم ـ أن تعبد الله مخلصا له الدين ولا تشرك معه غيره، ويجب عليك أيضا أن تعلم أن لله الدين الخالص، أي: ليس لله من الدين إلا ما خلص من أدران الشرك والرياء، وكرر سبحانه هذا الأمر وهو يوجه نبيه إلى تبني الإخلاص وإعلانه والدعوة إليه، يقول سبحانه: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ [الزمر:11-15]، ولننظر مرة أخرى إلى تكرار كلمة (مخلصا) في هذه الآيات المتقاربة، ولنعلم أن الكلام موجه إلى أخلص الناس رسول الله لندرك قيمة الإخلاص ومنزلته عند الله سبحانه.
هذه هي أهمية الإخلاص؛ لهذا لم يقتصر سبحانه على دعوة نبيه إلى هذا الأمر العظيم، بل ألحق به الأمة فدعا الأمة جميعا إلى الإخلاص في أكثر من آية من كتابه العزيز، يقول سبحانه وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]، ويقول: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [غافر:14].
وكذلك فعل رسول الله ، فحث الأمة على الإخلاص، وبين لهم أنه من أهم أسباب الفلاح، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله : ((بشّر هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب)) أخرجه أحمد، وقال كما عند أبي داود من حديث أبي هريرة: ((من تعلم علمًا مما يبتغي به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) يعني: ريحها.
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تدعو كل مسلم إلى أن يخلص أعماله لله سبحانه ويتفقدها حتى لا تحبط عليه، وأن لا يسمح للشرك والرياء والعجب وطلب الشهرة وثناء الناس وغير ذلك من أمور أن تتسرب إلى أعماله وعباداته فتفسدها عليه وتجعلها في ميزان الله سبحانه هباء منثورا؛ لأن العمل إذا كان خالصا اخترق الآفاق وعرج إلى السماوات، أما إذا خلا العمل من الإخلاص فإنه يبقى لدى صاحبه، يقول : ((ما قال عبد: لا إله إلا الله قط مخلصا إلا فتحت لها أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر)) أخرجه الترمذي.
فانظروا ـ عباد الله ـ كيف رفع الإخلاص هذه الكلمة العظيمة إلى العرش، انظروا كيف اخترقت هذه الكلمة المباركة التي لم تجد جوارا أحب إليها من جوار الله سبحانه، كيف اخترقت أقطار السموات وعرجت نحو عرش الرحمن، يرفعها إخلاص صاحبها لله سبحانه.
ثم لننظر بعد ذلك كيف يفسد غياب الإخلاص أعمالا عظيمة كالجهاد والصدقات وحفظ القرآن وتلاوته، فترد على أصحابها ويفتضح أمرهم أمام الخلق أجمعين، وتبلى سرائرهم أمام من لا تنطلي عليه المظاهر الزائفة ولا يقبل من الأعمال ما كان صاحبه كاذبا فيه مظهرا غير ما يبطن، يروي الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة أن رسول الله حدثه: ((إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن ورجل يقتل في سبيل الله ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟! قال: بلى يا رب، قال: فماذا عَمِلتَ فيما عَلِمتَ؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلانا قارئ، فقد قيل ذاك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟! قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد، فقد قيل ذاك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء، فقد قيل ذاك)) ، يقول أبو هريرة: ثم ضرب رسول الله على ركبتي فقال: ((يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة)).
انظروا ـ عباد الله ـ إلى هذا المصير الرهيب الذي اصطدم به هؤلاء القوم الذين أهملوا الإخلاص ولهثوا وراء شهواتهم، واستعملوا هذه الأعمال الشريفة لنيل مآرب دنيوية وضيعة. انظروا إلى هذه النهاية المؤسفة، وليحرص كل منا على أن يخلص الأعمال لله سبحانه، وليعلم أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يروي الترمذي وابن حبان وابن خزيمة ـ استكمالا لهذا الحديث ـ أن رجلا دخل على معاوية فأخبره بهذا الحديث عن أبي هريرة، فقال معاوية: قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟! ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال: صدق الله ورسوله: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
هذا هو الإخلاص عباد الله، وهذه هي منزلته عند الله سبحانه، فهو روح الأعمال والعبادات ولبها، ولا ينفع العمل صاحبه إلا بالإخلاص، فأخلصوا تتخلّصوا، أخلصوا تتخلصوا، يقول سبحانه: هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [غافر:65].
بارك الله لي ولكم في آيات كتابه، وجعلنا من حزبه وأحبابه. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
إخوة الإيمان، لا توجد خصلة يحبها الله سبحانه مثل خصلة الإخلاص، لهذا اتصف بهذه الصفة رسل الله وعباده الصالحون، وأثنى الله سبحانه عليهم لاتصافهم بهذه الصفة العظيمة، فقال عز من قائل في حق نبيه يوسف عليه السلام: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وقال في حق نبيه موسى عليه السلام: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا [مريم:51].
فلا يتصف بهذه الصفة على وجه الكمال إلا الخلص من عباد الله، ولكن ينبغي أن لا نقنط إذا كانت أعمالنا ليست خالصة لله على وجه الكمال، فهذه منزلة عظيمة نسأل الله أن يبلغنا إياها، يقول سفيان الثوري: "ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي؛ لأنها تتقلب عليّ"، ويقول سهل التستري: "ليس على النفس شيء أشق من الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب"، ويقول ابن عيينة: "كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت". فلا بد إذًا أن يتسرب بعض الرياء أو حظ النفس إلى أعمالنا بدون أن نشعر، وهذا تحت مغفرة الله سبحانه وعفوه، نسأل الله أن يتجاوز عنا.
المهلك حقا هو أن يغيب الإخلاص كليا عن العمل، أو أن يرائي المرء متعمدا، فهذا هو الهلاك والعياذ بالله، لهذا وجهنا رسول الله إلى ما يُذهب هذا الرياء والشرك، عن أبي بكر أن رسول الله قال: ((الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إن فعلته أذهب الله عنك صغار الشرك وكباره، تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)) ، ولم يكتف بهذه التوجيهات، بل كان يدور حول الإخلاص حتى في أذكاره ويكرر لفظه كما كرره الله له في توجيهاته، فانظر إلى دقة استجابته ، عن أبي الزبير قال: سمعت عبد الله بن الزبير على المنبر يقول: كان النبي إذا انصرف من الصلاة يقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أهل النعمة والفضل والثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)) أخرجه أبو داود.
لقد كان معنى الإخلاص ـ عباد الله ـ حاضرا في قلب رسول الله ، وكلمة الإخلاص حاضرة على لسانه، وحضور الكلمة على اللسان ضروري حتى تكون حاضرة في القلب، فاحرصوا على هذا الذكر النبوي حتى تستحضروا هذا المعنى العظيم وتحققوه في قلوبكم.
اللهم إنا نسألك الإخلاص في الأقوال والأفعال، اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك لما لا نعلم...
(1/3773)
اليقين بالله والتوكل عليه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
19/7/1425
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف التوكل وبيان أهميته. 2- ملازمة التوكل لليقين. 3- ثمار التوكل. 4- من أسباب التوكل.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، ويقول سبحانه: وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122]، ويقول عز وجل: وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12].
عباد الله، اليقين بالله والتوكل على الله والثقة بالله معان عظيمة وصفات جليلة، إذا وصل إليها العبد فإنه يصبح مَلِك الدنيا الغنيَّ بالخالق عن الخلق، الذي يفيض الإيمان من نفسه فينير له دربه ويذلّل له طريقه ويجعله مطمئنا في سيره إلى الآخرة، مسدَّدا في هجرته إلى الله ورسوله ، ولأن تحقيق اليقين بالله والتوكل عليه مفقود لم يشعر الناس بأنهم ملوك، ولم يشعر المسلم بأنه مستغن عن الناس فقير إلى الله.
والتوكل هو الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم منه التّكلان، يقال: اتكلت عليه في أمري، قال الإمام أحمد: " وجملة التوكل تفويض الأمر إلى الله جل ثناؤه والثقة به"، وقال ابن رجب الحنبلي: "التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها".
ولا يعني التوكل عدم الأخذ بالأسباب الدنيوية، ولكن يعني عدم تعلق القلب بهذه الأسباب، بل تعلقه في تحقيق أي أمر بالله سبحانه، فلا تنافي بين التوكل الذي هو عمل القلب وبين الأخذ بالأسباب الذي هو عمل الجوارح.
وكما أن ترك التوكل والتفريط فيه أمر مذموم وعيب قادح في الإيمان فإن المبالغة في التوكل والإفراط فيه الذي يفضي إلى ترك السعي وترك الأخذ بالأسباب أمر مذموم أيضا، وهو إما أن يكون جهلا، وإما أن يكون كذبا وادعاء، قال رجل للإمام أحمد رحمه الله: أريد أن أحج إلى مكة على التوكل بغير زاد، فقال الإمام أحمد مستنكرا وليقيم عليه الحجة: اخرج في غير قافلة، فقال الرجل: لا، إلا معهم، قال الإمام أحمد: فعلى جراب الناس توكلت. أي: إنك كاذب في هذا؛ لأنك ستعتمد على الناس في أكلك وشربك، ولست متوكلا على الله كما تدعي.
والإنسان ـ إخوة الإيمان ـ لا بد له أن يتوكل لأنه خلق ضعيفا، كما قال الله سبحانه: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، وقال سبحانه: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:19-21]، فما دام التوكل ضرورة وما دام المرء ولا بد متوكلا ولا مفر له من التوكل فقد دله الله سبحانه على صفات من يصح أن يتوكّل عليه ومن لا يخذله إذا توكّل عليه، فقال عز من قائل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58]، توكّل على الحي الذي لا يموت، هذه هي الصفة الأساسية لمن لا يصح التوكل إلا عليه، ولا يصح الفرار إلا إليه.
فإذا أردت ـ يا عبد الله ـ أن تتوكل فطبّق هذه القاعدة ثم توكّل، إذا قرّرت أن تتوكل على عقلك فتذكر: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ، وإذا قررت أن تتوكل على مالك فتذكر: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ، وإذا قررت أن تتوكل على البشر مهما بلغ جاههم ومالهم وسلطانهم فتذكر: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ ، عند ذلك ستترك كل هذه الأمور وكل هذه الوسائط، وتعلم أن التوكل لا يصح إلا على الله، ولا تصح الثقة إلا بالله، ولا يصح اليقين إلا بالله سبحانه وتعالى.
والتوكل على الله ـ إخوة الإيمان ـ ثمرة من ثمرات اليقين بالله، فإن الإنسان لا يتوكل إلا على من أيقن بوجوده وبقدرته وعظمته، لهذا كان اليقين من أعظم نعم الله على العبد، يقول في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي: ((سلوا الله العفو والعافية، فإن أحدا لم يعط بعد اليقين خيرا من العافية)).
فاليقين بالله من أعظم النعم، وقد جعله رسول الله في هذا الحديث قبل العافية في المرتبة، ويقول ابن مسعود كما عند البخاري: (اليقين الإيمان كله)، ويقول ابن قيم الجوزية: "واليقين من منازل (إياك نعبد وإياك نستعين)، من قال: إياك نعبد وإياك نستعين امتحنه الله باليقين".
فلنعلم ـ أيها الناس ـ أننا إن ضعف التوكل عندنا فإننا إنما أتينا من ضعف يقيننا، فإذا قوي يقيننا ورسخ في قلوبنا قوي توكلنا على الله في كل أمور حياتنا، إذا اكتمل الإيمان واليقين في قلوبنا توكلنا على الله وفوضنا الأمر إليه في محاربة الأعداء، وفي جلب النفع ودفع الضر، وفي قضاء الحوائج وفي طلب الرزق وغير ذلك من أمور يبتلي الله سبحانه بها الإنسان؛ لينظر مقدار توكله على الله سبحانه.
ومن أعظم الخلق توكلا على الله الأنبياء عليهم السلام، يقول سبحانه: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173، 174]، يروي البخاري في صحيحه عن ابن عباس في هذه الآية قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد حين قالوا له: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
ولنا ـ يا عباد الله ـ أفضل الأسوة وأفضل الدروس في التوكل واليقين بالله فيما ابتلى الله به خليله إبراهيم عليه السلام، فاليقين بالله سبحانه والثقة به وبأوامره جعلت إبراهيم عليه السلام يضع زوجته وولده الرضيع في مكان مقفر مجدب لا ماء فيه ولا شجر ولا إنس، ثم يذهب بأمر الله سبحانه ويتركهما في هذا المكان، ويقين المرأة الصالحة بالله وتوكلها عليه جعلها ترضى كل الرضا بهذا، ولا تعترض ولا تتذمر ولا تشكو من هذا العمل الذي قام به زوجها عليه السلام، بل تسلم تسليم المخبتين الطائعين، يروي البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما: (إن إبراهيم عليه السلام جاء بها وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا، قال: نعم، قالت: إذا لا يضيعنا).
انظر إلى هذا القول الشافي الواثق، وإلى هذا الظن الحسن والثقة المتناهية بالله عز وجل، هي كانت تنتظر من إبراهيم عليه السلام ردا واضحا، فما إن قال لها: نعم، أي: الله هو الذي أمرني بهذا وأنا أترككم له حتى قالت بكامل الثقة: إذا لا يضيعنا، ما دمت قد تركتنا في عهدة من يعلم غيب السماوات والأرض ومن كلُّ دابة في الأرض رزقها عليه ومن هو أرحم بخلقه من الوالدة بولدها، إذا لا يضيعنا.
هذه هي قمة اليقين، وهذه هي ذروة التوكل يا عباد الله، أما كيف لن يضيعنا؟ أو بأي شيء سينقذنا؟ أو ماذا سيرسل لنا؟ هذا كله لا يهم، المهم أنه طالما كان الأمر من الله فإنه لن يضيعنا، لو نصل ـ يا عباد الله ـ إلى بعض هذا اليقين أو بعض هذا التوكل إذا لانقلبت حياتنا كلها سكينة وطمأنينة، ولرأينا في أحلك الظروف وأصعب الأوقات نافذة ربانية يشع منها النور، ولكن ضاع اليقين بالله وبموعود الله وبنصرة الله، فغاب التوكل وأصبحت حياة الإنسان جحيما، يفكر في الرزق، ويخاف من الغد، ويضخم الأمور، وتركبه الوساوس لأتفه الأسباب، رغم أنه غير مأمور بهذا الغم وهذا الهم وهذا التفكير، بل هو مأمور بعبادة الله عز وجل والسعي في مصالحه قدر استطاعته مجتنبا ما حرم الله، ولكنه يترك كل هذا ويشقي نفسه رغم أن النبي يخاطبنا خطابا بليغا مبينا واضحا فيقول: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصا وتروح بطانا)) أي: تخرج جائعة خالية البطون، وتعود ملآنة البطون. أخرجه الترمذي.
إلى الرحمن ترتفع الأيادي وليس لغيره نفع العباد وباب الرزق بالإيمان يطرق إذا أيقنت فأبشر بازدياد
وثق بالرب رزاق البرايا كما وثقت به الطير الغوادي إذا خرجت من الأوكار جوعى تعود بطونها ملأى بزاد
وللتوكل ثمار وفوائد وبركات يجنيها العبد المتوكل، من ذلك أن يكفيه الله كلّ شيء ويكون حسبه سبحانه، يقول تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3 ]. ومن ذلك أن لا يكون للشيطان عليه سبيل أو سلطان، يقول سبحانه: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99]. ومن ذلك الحفظ والنصر على الأعداء، يقول سبحانه: وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران:173، 174]، إلى غير ذلك من آثار وثمار طيبة للتوكل.
فلا بد من اليقين بالله سبحانه والتوكل عليه حتى ييسر أمرك يا عبد الله، وحتى يفتح عليك أبواب فضله، يقول سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، من عمل بطاعته هداه، ومن توكل عليه كفاه، ومن أيقن به سدده وجعل الجنة مأواه، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
عباد الله، التوكل خصلة فيها مرضاة الله سبحانه، وفيها ذهاب لوساوس الشيطان اللعين، فبقدر ما يكون الإنسان متوكلا على الله واثقا بما عند الله بقدر ما يكون الشيطان أمامه ضعيفا خسيسا فاشلا في وسوسته، وبقدر ما يكون الإنسان متذبذبا خوارا متوجّسا بقدر ما يقوى الشيطان أمامه ويتعاظم ويعكّر عليه صفو حياته وآخرته.
والتوكل وصية الله للأنبياء عليهم السلام ووصية الأنبياء لأقوامهم، يقول سبحانه مبينا ما قاله موسى لقومه: يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ [يونس:84]، وما قاله نوح: يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ [يونس:71]، وما قاله هود: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ [هود:56]، ويقول سبحانه عن شعيب: وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقال سبحانه آمرا وموجها لرسوله محمد : فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]، وقال له أيضا: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:9].
فما أعظمها من عبادة، وما أعظمها من خصلة، ما من رسول إلا تخلّق بها وحثّ عليها قومه، وهذا يدلنا على عظم هذه العبادة القلبية الجليلة التي غابت عن قلوب المسلمين، فوثقوا في كل شيء ولم يثقوا فيما عند الله سبحانه.
فتوكلوا على الله أيها الناس، وأكثروا من لفظ التوكل على الله موقنين بهذه الكلمة تنالوا فضلها وبركتها، يقول : ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقال له: حسبك، قد هديتَ وكفيت ووقيت، فيتنحى له الشيطان، فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟!)) أخرجه النسائي عن أنس.
فما أحرانا ـ إخوة الإيمان ـ أن نتحلى بهذه الخصلة العظيمة التي إن تخلّق بها المسلم لانت له كل الصعاب واستسلم للعزيز الوهاب، قيل لحاتم الأصم ـ كما في سير أعلام النبلاء ـ: على ما بنيت أمرك في التوكل؟ قال على خصال أربعة: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنّت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه.
اللهم ردنا إليك ردا جميلا، اللهم ردنا إليك ردا جميلا، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك...
(1/3774)
محطات من حياة الإنسان: 4. البعث
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
5/3/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أشراط الساعة. 2- أهوال القيامة. 3- قيام الناس من قبورهم. 4- أحوال الناس في مبعثهم. 5- تفاوت أنوار الناس يوم القيامة
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: في الجمعة الماضية تركنا الإنسان في قبرِه، منعَّما إن كان مؤمنا صادقا، ومعذَّبا إن كان كافرا فاجرا، متمنِّيا قيام الساعة إن كان صالحا، يهتِف: رب أقِمِ الساعة ربّ أقم الساعة، أما إن كان طالحا فاسدا فإنه يتمنى أن لا تقوم الساعة قائلا: رب لا تقم الساعة؛ لأنه يعرف ماذا يعني أن تقوم الساعة، ويعرف ما ينتظره عند قيامها، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ [الجاثية:27].
وكلامنا اليوم عن حال الإنسان مع البعث وحالته عند قيام الساعة.
والساعة ـ عباد الله ـ قد بين لنا الله سبحانه أن لها أشراطا لا بد أن تأتي قبلها، يقول سبحانه: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ [محمد: 18 ]، فقوله سبحانه: فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا أي: علاماتها، ومن هذه العلامات بعثة النبي ، فهو القائل فيما أخرجه البخاري عن سهل بن سعد: ((بعثت أنا والساعة كهاتين)) وقرن بين السبابة والوسطى، ومن علاماتها انشقاق القمر إلى غير ذلك من علاماتٍ ظهرت وستظهر وتكون إيذانا بحلول الساعة.
ويسبق الساعة ويصاحبها أمور عظيمة تحدث في الكون، أخبر عنها الله سبحانه في كتابه في كثير من السور والآيات القرآنية التي صوّرت تلك الأحداث تصويرا رهيبا مرعِبا يقضّ المضاجع ويذهب بالأفئدة والألباب لمن تفكّر فيها وتدبّرها، يقول في الحديث الذي أخرجه أحمد والترمذي من حديث ابن عمر: ((من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ [سورة التكوير] وإِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ [سورة الانفطار] وإِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ [سورة الانشقاق] )).
إذا تصورنا وتدبرنا هذه السّور والآيات وغيرها علمنا أن انقلابا عظيما سيحدث في الكون بين يدي يوم القيامة، واختلالا سيكون بأمر الله في نواميس ومكونات هذا الكون، يقول سبحانه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: 14-1 ]، ويقول سبحانه: إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ [الانفطار: 5-1 ]، ويقول تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة: 5-1 ].
أحداث عظيمة لمخلوقات عظيمة، الباري جل في علاه الجبار المتكبر يتكلّم عن هذه المخلوقات العظيمة وكأنها لا شيء، وكأنها ذرات لا وزنَ لها، إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرتْ ، الشمس هذا الجِرم العظيم التي يتّسع لأكثر من مليون جِرم بحجم الأرض كما يقول علماء الفلك، والتي إن اقتربت منا فوق الحدّ المطلوب احترقنا، وإن ابتعدت عنا فوق الحد المطلوب تجمدنا، هذه الشمس العظيمة تُلفُّ ويذهب ضوؤها ونورها بقدرة الله عز وجل، وهذه الكواكب العظيمة المنتشرة في السماء تنتثر وتتطاير وتتساقط، والبحار التي تغطي أكبر جزء من الأرض تتفجّر على بعضها وتسعّر وتلتهب وتصبح كتلة من النار، إلى غير ذلك من الظواهر التي يشيب لهولها الولدان، فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا [المزمل: 17 ]، بل لك ـ يا عبد الله ـ أن تتصور عظمة يوم القيامة حين تعلم أن هذه الجبال الصماء العظيمة تصير في ذلك اليوم كالصوف المتناثر قِطَعا، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [القارعة: 5 ]، بل يصفها الله سبحانه بأنها على عظمتها تحمل وتدك، يقول سبحانه: وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً [الحاقة: 14 ]، بل إنها في نهاية الأمر تنسف وتسوَّى بالأرض، يقول سبحانه: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه: 107-105 ].
هذه أمور لا بد ـ عباد الله ـ أن نتدبّرها، ولا بد أن نعيَها، لا بد أن نتمثّلها؛ حتى يذهب غرورنا، وحتى تنتهي غفلتنا.
مثّل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كوّرت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تصير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجبال تقلعت بأصولها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا البحار تفجرت نيرانها فرأيتها مثل الجحيم تفور
وإذا العشار تعطلت وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك: أين نسير؟
وإذا الجليل طوى السما بيمينه طي السجل كتابَه المنشور
وإذا السماء تكشّطت عن أهلها ورأيت أفلاك السماء تمور
وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها ولها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتطيّبت لفتى على طول البلاء صبور
وإذا الجنين بأمّه متعلّق يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ظلم يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
هذا هو يوم البعث الذي يقوم فيه الناس من قبورهم مستجيبين سائرين إلى أرض المحشر، يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا [طه: 108 ]، وعند أهل التفسير أن الداعي هنا هو إسرافيل، وهو المقصود أيضا في قوله تعالى: وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ [ق: 41 ].
يتبع الناس الداعي إلى أرض المحشر؛ لينال المؤمن جزاءه وينال الفاسق جزاءه، ويبيّن لنا رسول الله حال كثير من الناس عند البعث، يقول فيما أخرجه مسلم عن جابر: ((يبعث كل عبد على ما مات عليه)) ، هذا اختصار لحال كثير من الناس عند البعث، خاتمته في الحياة يستقبل بها يوم بعثه، فإن مات على هيئة حسنة وهو يفعل أمرا طيبا بعث على ذلك، وإن مات وهو يمارس موبقة من الموبقات بعث على ذلك، يقول عن رجل مات وهو محرم: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تخمّروا وجهه ولا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا)) أخرجه ابن ماجه عن ابن عباس، ويقول عمن مات مجاهدا في سبيل الله فيما رواه أحمد عن أبي هريرة: ((والذي نفسي بيده، لا يُكلَم ـ أي: لا يُجرح ـ أحد في سبيل الله والله أعلم بمن يُكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة وجرحه يشخب دما، اللون لون الدم، والريح ريح المسك)).
هذا عن بعض أهل الطاعات، كما أن لبعض أهل المعاصي هيئات يبعثون عليها، يقول الله سبحانه: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275]، ورد عن معظم الصحابة أن هذا القيام هو قيامهم من قبورهم، يقول ابن كثير: "أي: لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطان به"، وورد عند القرطبي أن آكل الربا يبعث كالمجنون عقوبةً له وتمقيتا عند جميع أهل المحشر، كما أن السارق من المال الخاص أو العام يبعث بما سرق أو بما غلّ يحمله على عنقه يوم القيامة، يقول كما في صحيح الجامع من حديث عبد الله بن أنيس: ((من غل بعيرا أو شاة أتى يحمله يوم القيامة)).
هذه بعض أحوال يوم القيامة وبعض حالات الإنسان في ذلك اليوم، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الأمر جدّ ليس بالهزل، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وأجارني وإياكم من خزيه وعذابه الأليم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: ذكرنا ـ إخوة الإيمان ـ حال أهل الخير وأهل الشرّ عند البعث، وهذه أمور فصّلها الله سبحانه وفصّلها رسوله لكي نعلم أن الأمور ستسير عند الحساب على العدل والقسطاس وأن الله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فقد يحيف قاضي الدنيا، وقد يظلم، وقد تذهب الحقوق إلى غير أصحابها في الدنيا، أما في الآخرة فلن ترى إلا صورة عملك ممثلة أمامك، بل حتى أهل الخير يتفاوتون في أنوارهم عند البعث، ورد عن ابن مسعود كما في المستدرك أن منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه يوقد مرة ويطفأ مرة، ومنهم من تحيط به الظلمة من كل ناحية.
ومن أراد النور في ذلك اليوم فعليه بالنور في الدنيا، والنور في الدنيا كتاب الله وسنة رسوله ، فبقدر عمل الإنسان بكتاب الله وتقيّده بسنة رسول الله دون زيادة ولا نقصان بقدر ما تغمره الأنوار أو تنحسر عنه، يقول سبحانه: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم [التحريم:8]، ويقول سبحانه: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا [الحديد:13].
هذا هو البعث، وهذا يومه، ولقد أقسم الله أن الناس سيبعثون من قبورهم رادًّا على زعم الكافرين أنهم لن يبعثوا فقال سبحانه: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن: 7 ]، فاتقوا الله عباد الله، واغتنموا ساعات العمر فيما يرضي الله عز وجل.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/3775)
محطات من حياة الإنسان: 5. الحساب
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر, اليوم الآخر
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
12/3/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نجاح الإنسان في الدنيا. 2- هول الحساب. 3- دعاء الأنبياء يوم القيامة. 4- أصناف الناس في الآخرة. 5- توزيع الصحف. 6- الأسئلة الأربع. 7- الآمنون يوم القيامة. 8- المفلسون يوم القيامة. 9- شهود الحساب. 10- أسباب الأمن يوم الفزع الأكبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: حديثنا اليوم في محطات حياة الإنسان عن محطة الحساب، ومحطة معرفة نتيجة الأعمال، هل هي النجاح الذي لا يشبهه أي نجاح في حياة الإنسان أم هي الفشل والخسران الذي لا يساويه خسران؟ فالإنسان قد ينجح في هذه الدنيا في سعيه المالي والعلمي وغيره، لكنه يخفق في الآخرة، فتبقى هذه النجاحات في الدنيا لا تساوي شيئا، بل تكون غصّة إذا كانت سببا في تقصيره في طاعة الله سبحانه، وقد يشقى الإنسان في هذه الحياة الدنيا وترتبك أموره، ولكنها لا تلهيه عن طاعة الله سبحانه والعمل بأوامره، فتكون نتيجة سعيه في الآخرة الجنة، فتنسيه هذه النتيجة فشله في الدنيا، وتنسيه حياة العوَز والخوف والشقاء التي عاشها.
والحساب ـ عباد الله ـ أمر مهول، ويومه يوم عصيب طويل؛ حيث يجمع الناس في صعيد واحد حفاة عراة؛ ليأخذوا النتيجة والصحيفة، ورغم أنهم عراة إلا أن هذا لا يثير انتباههم، فكل منهم مشغول بنفسه عن غيره، ومذهول بما يرى، ومشفق على نفسه من عذاب الله، أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول: ((يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا)) ، قلت: يا رسول الله، النساء والرجال جميعا ينظر بعضهم إلى بعض! قال : ((يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض)).
لا يهتم الإنسان في هذا اليوم حتى بمن حوله وهم عراة، الناس كلهم في وجل وخوف واضطراب، الشمس فوق رؤوسهم قريبة، وهم غارقون في عرقهم، كلٌ حسب عمله وحسب إخلاصه وتوحيده في هذه الحياة الدنيا، يقول فيما أخرجه أحمد من حديث المقداد: ((إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قيد ميل أو اثنين، فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق كقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجاما)).
ولو أردنا أن نعرف هول هذا اليوم فيكفي ـ عباد الله ـ أن نعلم أن أنبياء الله وأقرب الخلق إلى الله ومن غفرت لهم ذنوبهم يكون قولهم الذي يردّدونه في ذلك اليوم كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة: ((اللهم سلم سلم)) ، ويكفي أن نعلم أن الشفاعة العظمى لرسول الله هي التي يشفع فيها للخلق جميعا لكي يُبدأ معهم الحساب، أي: أن الخلق يطلبون من يشفع لهم ليحاسبوا بعد طول انتظارهم، فإذا كانت بداية الحساب تحتاج إلى شفاعة فما بالك بالحساب؟! وما بالك بالنتيجة؟!
وإذا أردنا أن نستقصي في وصف هذا اليوم وهوله وشدته لما وسعتنا خطب عديدة في وصف وتجلية ذلك اليوم الطويل المليء بالأحداث الجسام، وليس هذا ما نريد أن نركز عليه، فقد نعود إليه في خطب أخرى، ولكن موضوعنا هو حال الإنسان في هذا اليوم، فحال الإنسان في الآخرة على نوعين كما كان حاله في الدنيا وعند الموت وفي القبر وعند البعث، فهو إما محسن وإما مسيء، وهذا ما قرره كتاب الله سبحانه في الكثير من الآيات، يقول سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:7-12]، ويقول سبحانه: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:6-11].
الناس فريقان في ذلك اليوم: فريق فائز وفريق خاسر، وكل إنسان سيكلمه الله يوم القيامة ويوقفه على أعماله، يقول فيما أخرجه الشيخان من حديث عدي بن حاتم: ((ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، ولو بكلمة طيبة)).
وبعد أن يُوقف العبد على أعماله يُعطى كتابه، فإن أعطي كتابه بيمينه طار فرحا إلى الناس صارخا مسرورا، يقول سبحانه: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]، يصرخ هذا المؤمن الذي أُعتق من النار ويقول للناس: انظروا إلى كتابي، يفرح أشدّ الفرح بهذا الكتاب؛ لأنه عامر بالخيرات، فيه الإيمان، وفيه التوحيد، وفيه اتباع سنة أفضل المرسلين ، فيه إقامة الصلوات في أوقاتها، فيه إيتاء الزكاة والحج والصوم، فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيه بر الوالدين والإحسان إلى الناس، فيه كل هذه الخيرات التي استحق صاحبها أن يأخذ كتابه بيمينه.
وأما عن الشقي فيقول الله سبحانه: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ [الحاقة:25-37]، يبكي هذا الشقيّ ويتمنى لو أنه لم يؤتَ هذا الكتاب، فهو كتاب مليء ـ والعياذ ـ بالله بالشرك والفسق والفجور وترك الصلوات وتأخيرها ومنع الزكاة والبدعة والغيبة والنميمة والتكبر والتجبر والاستهزاء بالناس وأكل الحرام وغير ذلك، يكون نتيجة هذا كله أن يعطى كتابه بشماله، هذا الكتاب الذي يحوي كلّ أمر فعلتَه ـ أيها الإنسان ـ في قديم الزمان وحديثه، في صغرك وكبرك، أمور تذكُر بعضَها ونسيتَ بعضًا، لكن الله أحصاها ولم ينسها، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6].
كل شيء مسجّل، وكل أمر سيحاسب عليه الإنسان، فهو لم يُخلق عبثا، ولن يُترك سدى، يقول فيما أخرجه الترمذي عن أبي برزة: ((لا تزول قدما عبد حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)). هذه أشياء وعطايا لا بد أن نسأل عنها، عُمِّرتَ ـ أيها الإنسان ـ سبعين سنة، بينما عُمِّر غيرك ثلاثين، فماذا فعلت في هذه السبعين؟ وماذا حصَّلت من إيمان وتوحيد؟ وماذا قدّمت من خير وبرّ؟ وعلمك الله بينما غيرك جاهل أمّي، يتمنى لو علم علمًا، ويتمنى لو يتمكّن من قراءة كتاب الله، فماذا فعلت بهذا العلم؟ وأعطاك الله مالا وحرَم منه غيرك، فهل اتخذت من هذا المال جسرا إلى الجنة بإنفاقه فيما يرضي الله أم استعملته في الفجور والظلم والفساد لتحجز به مكانا في النار؟ وهذا الجسم القويّ الفتي في ماذا أبليته؟ هل أبليته في طاعة الله؟ في الصلاة والقيام بين يدي الله؟ في الصوم والحج؟ في مساعدة الضعفاء أم استعملته في الظلم والفجور والفاحشة وآذيت به الناس؟
وفي شدة هذه الأمور وغمرة هذا العناء يكون بعض الناس مغمورين في رحمة الله، تحيط بهم عنايته، وتظلهم كرامته، لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]. من هؤلاء أصناف سبعة، سماهم لنا رسول الله حيث يقول في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)).
وفي الجانب الآخر فبعض الناس يأتون بحسنات لأعمال عمِلوها، ولكنهم ظلموا في هذه الدنيا، وآذوا أولياء الله، وعصوا رب العالمين، فتذهب هذه الحسنات التي اكتسبوها إلى الناس الذين ظلموهم أو أخذوا حقوقهم، وإذا لم تكف حسناتهم أخذوا من سيئات الناس، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وهؤلاء وصفهم رسول الله بالمفلسين؛ لأنهم فقدوا رأس مالهم في الآخرة وهو الحسنات، أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون ما المفلس؟ إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضَى ما عليه أخِذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)) ، ولأنه يوم عدل، ولأن الله قال: لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر:17]، فهو أعدل العادلين، فإنه يسمَح للإنسان فيه أن يعترض وأن يجادل عن نفسه، يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل:111]، بل إن الجبار المتكبّر المنتقم يسمح للعبد أن يرفض الشهود الذين شهدوا على معصيته، فالله شاهد والملائكة والحفظة الذين يكتبون كل شيء بدقة شهود، ومع ذلك يسمح للإنسان أن يرفض هؤلاء الشهداء، ويطلب شهادة غيرهم، فهل سيشهد له هذا الشاهد؟ استمعوا إلى هذا الحديث عباد الله، وانظروا إلى عدل الله ورفقه بالعباد، أخرج مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((يقول العبد يوم القيامة: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: إني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا، وبالكرام الكاتبين شهودا، فيختم على فيه ـ أي: يمنع من الكلام ـ ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلّى بينه وبين الكلام فيقول: بعدًا لكُنَّ وسحقا، فعنكن كنت أناضل)). طلب هذا المسكين شاهدا من نفسه، فأنطق الله أعضاءه، فشهدت عليه، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].
فاعلم ـ أيها العبد ـ أن هذه الأعضاء التي تنعّمها في هذه الدنيا بالحرام ستشهد عليك وتفضحك بين يدي الله.
فاتقو الله عباد الله، وأنيبوا إليه، واستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: أيها الإخوة الكرام، لقد اقترنت هذه الخطب بالخوف والتخويف، ولعل بعض الناس يضيق بهذا، ولكن يجب أن نعلم أن الخوف والوجل من طبيعة هذه المواضيع التي لا تنفك عنها، فهل يمكن أن نتحدث عن الموت وعن القبر وعن الحساب دون أن نكون خائفين وجلين، ثم إن العبرة ليست في وجود الخوف والتخويف من عدمه، بل العبرة إلى ماذا يدفعنا هذا الخوف والتخويف؟ فقد يؤمِّنك شخص ويدغدغ مشاعرك فتأمن فتهلك، وقد يخوفك فتشفق فتعمل فتنجو. جاء رجل إلى الحسن البصري فقال: إن قوما يخوّفوننا حتى تكاد قلوبنا تنخلع، فقال: "من خوّفك حتى تبلغ الأمن خير من الذي يؤمّنك حتى تبلغ الخوف".
وإن من أهم ما يؤمّن المسلم يوم القيامة تمسّكه بالعقيدة الإسلامية الصافية، بعيدا عن الشركيات والخرافات، فهي من أشدّ المهلكات؛ لأنها تصيب أصل الإيمان الذي هو رأس مال المسلم، كما أن من أهمّ الأمور المنجية في يوم الحساب التمسّك بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والتمسك بسنة رسول الله دون زيادة ولا نقصان، فمن بدل في دين الله وزاد فيه ما لم يكن على عهد رسول الله وصحابته الكرام فهو على خطر كبير، ونورد هذا الحديث الذي إذا تدبره المسلم فكّر ألف مرة قبل أن يحدث شيئا في دين الله، يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث سهل بن سعد: ((إني فرطكم على الحوض، من مرّ بي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، وليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدل بعدي)).
نسأل الله أن يحيينا على سنة رسول الله ، وأن يميتنا عليها، وأن يبعثنا عليها، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه...
(1/3776)
محطات من حياة الإنسان: 6. النار
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
19/3/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- محطة المثوى الأخير. 2- الخوف من النار. 3- وصف النار في القرآن الكريم. 4- وصف النار في سنة المصطفى. 5- حال أهل النار وأمانيهم. 6- أصناف من أهل النار. 7- أعمال تنجي من النار. 8- حفت الجنة بالمكاره والنار بالشهوات.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: نصل في محطات حياة الإنسان إلى محطة المثوى الأخير وإلى محطة المستقر، وهذه المحطة تنقسم إلى قسمين: قسم لأهل الخير وهو الجنة، وقسم لأهل الشر وهو النار، ولكل قسم أحوال في مستقره، كما أن لكل من النار والجنة أمور توصِل إليها، فالذي يوصل إلى النار الشهوات واتِّباعها، والذي يوصل إلى الجنة المتاعب والصبر عليها، يقول فيما أخرجه مسلم عن أنس: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)). نتكلم اليوم عن النار، ونتكلم في الجمعة القادمة بإذن الله عن الجنة.
فالنار ـ عباد الله ـ مخلوق مخيف من مخلوقات الله سبحانه، والخوف من النار ليس فيه جبن ولا خور، بل هو عين الحكمة لمن كان ذا عقل، أما من يريد أن يظهرَ نفسه شجاعا ولا يخاف من نار الله عز وجل فهو المجنون، ومع هذا فهو غير صادق في عدم خوفه، ولا يسمى شجاعا، بل يسمى أحمق وغبيّا؛ لأنه لا يقدر الأمور بقدرها، وإن كان حقّا شجاعا ومطيقا لعذاب جهنم فليضع يده في نار الدنيا التي هي جزء من سبعين جزء وفي رواية: ((جزء من مائة جزء من نار الآخرة)) ، يقول فيما أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود: ((يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) ، لهذا وصانا الله سبحانه بأن نتّقيها، وأن نكون على حذر من أن نعرض أنفسنا لها، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُم نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وها هو الحق سبحانه وتعالى يصف لنا النار وأهوالها في آيات تخلع لب المؤمن وتقض مضجعه وتزلزل كيانه، يقول سبحانه: كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى [المعارج:15-18]، ويقول سبحانه: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَا أَدْرَاك مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَر [المدثر:26-30]، إلى غير ذلك من صور في وصف النار وعذابها احتوتها آيات كتاب الله سبحانه.
ووصفها رسول الله أيضا، يقول فيما رواه الترمذي عن عتبة بن غَزوان: ((إن الصخرة العظيمة لتلقى من شفير جهنم، فتهوي بها سبعين عاما ما تفضي إلى قرارها)) ، ويقول أيضا: ((لو أن قطرة من الزقوم قَطِرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه؟!)) أخرجه النسائي عن ابن عباس. فكيف حال الإنسان مع النار؟! وكيف سيكون حاله مع حفرة هذه هي أوصافها؟!
من طبيعة الإنسان ـ إلاّ من رحم الله ـ أنّه لا يدرك حقيقةَ الأشياء وعواقب الأمور إلا عند حدوثها وعند الوقوف عليها، وأهل النار كذلك، فقد حذّرهم الله وحذّرهم الرسل وحذرهم المؤمنون الصالحون من عذاب الله ومن النار، ولكنهم كانوا يضحكون ويستهزئون، ولكن موقفهم هذا يتغير إذا تبيّن لهم جليًّا الأمر، ووقفوا على شفير جهنم وعاينوها، يقول سبحانه: وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام:27]، فهل ينفع هذا التمني؟! وهل يفيد هذا التحسر؟!
هذا حال أهل النار عندما يرونها فكيف سيكون حالهم عندما يدخلونها؟! يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّه كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:56]، ويقول سبحانه: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيم يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:19-22]، ويقول سبحانه: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَليِ الْحَمِيمِ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:43-48]، ويقول في وصف أحوال بعض أهل النار: ((إن منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حُجْزَته، ومنهم من تأخذه إلى عنقه)) أخرجه مسلم عن سمرة، ويقول فيما أخرجه مسلم عن النعمان بن بشير: ((إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدا أشد منه عذابا، وإنه لأهونهم عذابا)).
وأهل النار في النار ـ عباد الله ـ يكون لهم معاناة مع هذا العذاب الشديد، يطلبون الخروج منها ولا خروج، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:107، 108]، ويطلبون تخفيف العذاب فلا يستجاب لهم، وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِّنَ الْعَذَابِ قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلاَل [غافر:49، 50]، فيتمنون الموت ولكن لا موت، لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّن عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36]، ويحاولون الاستغاثة بمالك خازن النار ليشفع لهم عند الله حتى يموتوا ولكن لا جدوى، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف:77، 78]، كما أنهم يحاولون الخروج من النار ولكن هيهات، يقول سبحانه: كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق [الحج:22]، ويقول سبحانه: يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [المائدة:37]، عناء وشكوى ومحاولة هرب وبكاء، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي موسى: ((إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم جرت، وإنهم ليبكون الدم)) ، هذه صور ينبغي للعبد أن يقف عليها، وأن يقدرها ما دام في العمر فرصة، وما دام يقوى على عمل الخير ويقوى على اتباع كتاب الله وسنة رسوله قبل أن يحال بينه وبين ذلك.
وقد وصف لنا رسول الله أصنافا ممن يكون في النار من أهل الدنيا وبعض الأفعال التي تجعل الإنسان مستحقا للنار، نورد بعض هذه الأصناف:
من هؤلاء الكاسيات العاريات من النساء، ومن يعتدون على الناس بظلم، يصفهم لنا رغم أنهم لم يظهروا في حياته، بل ظهروا بعده بقرون عديدة، وهذا من دلائل نبوته، يقول فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
ومن هذه الأصناف القضاة وغيرهم ممن يجورون في الحكم بين الناس، يقول فيما رواه الطبراني عن ابن عمر: ((القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض قضى بالهوى فهو في النار، وقاض قضى بغير علم فهو في النار، وقاض قضى بالحق فهو في الجنة)).
ومن هؤلاء مدمنو الخمر، يقول : ((كل مسكر حرام، وإن على الله لعهدا لَمَن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال عرق أهل النار)).
ومن هؤلاء من ينصحون الناس كالعلماء والخطباء وغيرهم ويتظاهرون بالصلاح، ولكنهم يقولون ما لا يفعلون وينتهكون محارم الله في السر، يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أسامة بن زيد: ((يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه ـ أي: تخرج أمعاؤه ـ، فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه، فيطيف به أهل النار فيقولون: يا فلان ما أصابك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فيقول: بلى، قد كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه)).
هؤلاء بعض من حق عليهم العذاب بالنار، وحق عليهم سكنى النار، نسأل الله أن يعيذنا من ذلك.
كما بين بعض الأعمال التي تنجي من النار وعذابها، من ذلك الدفاع عن عرض أخيك المسلم في غيبته، يقول فيما أخرجه أحمد من حديث أسماء بنت زيد: ((من ذبّ عن عرض أخيه بالغيبة كان حقا على الله أن يعتقه من النار)) ، ومن ذلك حسن تربية البنات والإحسان لهن، يقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترا من النار)) ، ومن ذلك التطوع بالصيام، يقول فيما أخرجه النسائي عن أبي سعيد: ((من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه من جهنم سبعين عاما)) ، إلى غير ذلك من أعمال.
فاحرصوا ـ عباد الله ـ على مثل هذه الأعمال، واتقوا النار ولو بشق تمرة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
إخوة الإيمان، إن النجاة من النار والفوز بالجنة ليس بالأمر الهين، بل هو أمر في غاية الصعوبة لولا رحمة الله، لهذا جاء كتاب الله بلفظ يدلّ على هذه الصعوبة، وهو لفظ زحزِح، يقول سبحانه: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
هذه الصعوبة تكمن في أن الجنّة حفت بأمور شديدة على النفس عصيّة عليها، صعوبتها تصرف الناس عن الجنة، والنار حفّت بأمور وأشياء وملذّات ترغبها النفس، ورغبتُها في هذه الأشياء تجعلها تلج النار، هذا مكمن الصعوبة في الدخول إلى الجنة والنجاة من النار، وعندما رأى جبريل الجنة والنار وما يحيط بهما خاف أن لا يدخل الجنة أحد وأن لا يسلم من النار أحد، يقول فيما رواه أحمد وغيره من حديث أبي هريرة: ((لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها بالمكاره ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب ثم نظر إليها ثم جاء فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، فلما خلق الله النار قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها فقال: أي رب، وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها)).
وهذا لا يعني التيئيس والقنوط، فقد بيّنا في الخطبة الأولى أعمالا يسيرة تدخل الجنة كالصوم وحسن تربية البنات وغيرها، إنما يعني هذا أن نسعى بجدّ للنجاة من النار والفوز بالجنة، وأن لا نتكل على أننا أمة محمّد، وأننا مرحومون على كل الأحوال، فأقرب الناس من محمّد وأحبّهم إليه لا يغني عنه محمّد من الله شيئا، يقول لأحب الناس إليه ابنته فاطمة: ((يا فاطمة، أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئا)) أخرجه مسلم والنسائي عن أبي هريرة، هذا عن فاطمة فكيف بنا نحن؟! لهذا فالتواكل مرفوض، والكسل مرفوض، واتخاذ الدّين لهوا ولعبا لا ينجي من النار، فاتقوا الله عباد الله، واتقوا النار.
اللهم إنا نعوذ بك من النار، اللهم إنا نعوذ بك من النار، اللهم إنا نعوذ بك من النار...
(1/3777)
محطات من حياة الإنسان: 7. الجنة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, اليوم الآخر
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
26/3/1423
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عبادة الخوف ولرجاء. 2- معنى اسم الجنة. 3- بناء الجنة. 4- سعة الجنة. 5- أنهار الجنة. 6- حال أهل الجنة ونعيمهم. 7- الخلود في الدارين. 8- تنافس الصحابة على الجنة. 9- أعمال توصل إلى الجنة. 10- التحذير من الأماني الكاذبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: حديثنا اليوم عن حال الإنسان في الجنة دار الكرامة التي أعدها الله سبحانه لعباده الصالحين، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف:107، 108]، ويقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة: ((قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)).
الجنة مهوى أفئدة عباد الله الصالحين، الجنة مطمع كل صالح من عباد الله سبحانه، بداية من الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فإنهم يعبدون الله سبحانه خوفا من عذابه وطمعا في رحمته، وطاعة الله سبحانه من أجل الجنة ليست عيبا كما يعتقد بعض غلاة المتصوفة الذين يقولون: إننا نعبد الله حبا فيه لا طمعا في الجنة ولا خوفا من النار، فهذا تصور خاطئ وسوء أدب مع الله سبحانه، فرسل الله الذين هم أفضل خلق الله يعبدون الله خوفا وطمعا ورغبا ورهبا، يقول سبحانه: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، ورسول الله لا ينكر أنه يطلب الجنة ويخاف النار، فيقول كما في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن أبي هريرة: ((حولها ندندن)) أي: حول الجنة، إذا فالطمع في الجنة عز، والطمع في الجنة شرف، والطمع في الجنة رفعة؛ لأن الطمع فيها يعني طاعة الله ورضوانه.
والجنة ـ عباد الله ـ سميت بذلك لأنها خضراء، فيها من كل الثمرات، فالجنة في اللغة هي البستان، وهي مبنية بناء بديعا، وكيف لا تكون كذلك والباني هو الرحمن سبحانه؟! يقول سبحانه عنها: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُس خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا [الإنسان:13-22]، ويقول فيما أخرجه أحمد عن أبي هريرة: ((الجنة بناؤها لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران)).
والجنة واسعة اتساعا لا يعلم مداه إلا الله سبحانه، ويكفي في وصف اتساعها أن نستمع إلى وصف رسول الله لبابها، يقول فيما أخرجه أحمد وأبو يعلى عن أبي سعيد: ((إن ما بين مصراعين في الجنة لمسيرة أربعين سنة))، والمصراع هو شطر الباب، أي: ما بين فردتي باب من أبوابها مسيرة أربعين سنة.
وفي الجنة أنهار من كل ما يشتهيه الناس، مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّم يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى [محمد:15]. وفي الجنة أيضا الكوثر نهر أعطاه الله سبحانه لنبيه، يقول في وصفه كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر: ((الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب ريحا من المسك، وماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضا من الثلج)).
وإذا أردنا أن نستقصي في وصف الجنة لما وسعتنا هذه الخطبة، لهذا كله وجب على الإنسان أن لا يحرم نفسه هذا النعيم، وأن لا يتشبث بنعيم الدنيا الزائل المليء بالغصص والنكد، والذي سيُحاسب عليه حسابا دقيقا، ولهذا كله أيضا حثنا الله سبحانه على العمل والمسارعة إلى طاعة الله وإلى الجنة، يقول سبحانه: وسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين [آل عمران:133].
أما عن حال الإنسان في الجنة، فكيف سيكون حال من يرفل في النعيم بين الخضرة والأنهار، وتحيط به الجواري والولدان، ولا يتمنى شيئا إلا وجده بين يديه؟! كيف يكون حال من خيمته من لؤلؤ تغنيه الجواري الحسان بأعذب الأصوات؟! كيف يكون حال من لا يبأس ولا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه؟! كيف يكون حال من يحظى برؤية الرحمن عز وجل؟! وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة [القيامة:22، 23].
يقول فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: ((من يدخل الجنة ينعم فيها لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)) ، ويقول : ((طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)) أخرجه أحمد عن أبي سعيد، ويقول فيما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة: ((إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء)) ، ويقول فيما أخرجه مسلم من حديث أنس: ((إن في الجنة لسوقا، يأتونها كل جمعة، فيها كثبان المسك، فتهب ريح الشمال، فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنا وجمالا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنا وجمالا)) ، ويقول : ((إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى: تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟! فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئا أحب إليهم من النظر إلى ربهم)) أخرجه مسلم والترمذي عن صهيب.
ثم لنستمع إلى هذا الحديث العظيم الذي يبين لنا عظمة أجر الله لعباده الصالحين، أخرج مسلم وأحمد عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله قال: ((سأل موسى ربه فقال: يا رب ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال: ربّ فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر)).
فإذا أضفنا إلى كل هذا الخلود الدائم في هذه النعمة وهذه الغبطة علمنا كم يكون أصحاب الجنة مسرورين فرحين، وكم يكون أصحاب النار مغمومين محزونين، يقول فيما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر: ((إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار جيء بالموت ـ على صورة كبش ـ حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة خلود لا موت، يا أهل النار خلود لا موت، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزنهم)).
ولقد تنافس أصحاب رسول الله على الجنة ففازوا بها، وبشر رسول الله كثيرا منهم في حياتهم بأنهم من أهل الجنة، هؤلاء ـ عباد الله ـ أصحاب محمد الذين آمنوا به وأحبوه أشد الحب، فدعاهم هذا الحب إلى اتباعه في كل صغيرة وكبيرة دون زيادة ولا نقصان، فنالوا شرف رضوان الله والجنة، أخرج الشيخان من حديث أنس أن رسول الله قال لصحابته عندما تعجبوا من لين حُلّة من الحرير: ((أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِين هَذِهِ؟ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنّةِ، خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ)) ، ويقول فيما أخرجه الشيخان وابن ماجه من حديث أبي هريرة: ((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فإِذَا أَنَا بِامْرَأَةٍ تَتَوَضّأُ إِلَى جَنْبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالَتْ: لِعُمَرَ، فَذَكَرَتْ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا)) ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَبَكَى عُمَر، فَقَالَ: أَعَليكَ ـ بِأَبِي وَأُمِّي ـ يَا رَسُولَ اللَّه أَغَارُ؟! ويقول فيما أخرجه الطبراني عن ابن عباس: ((دخلت الجنة البارحة، فنظرت فيها فإذا جعفر يطير مع الملائكة، وإذا حمزة متكئ على سرير)) إلى غير ذلك مما ذُكر عن منزلة أصحاب رسول الله في الجنة.
ونحن ـ عباد الله ـ مدعوون إلى اتباع رسول الله واتباع صحابته رضوان الله عليهم؛ لننال شرف صحبتهم في الجنة.
ولقد بين لنا رسول الله بعض الأعمال التي توصلنا إلى الجنة، من هذه الأعمال طاعة رسول الله واتباع سنته، يقول : ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى)) ، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)) أخرجه البخاري عن أبي هريرة. ومن ذلك الصبر على ابتلاء الله، يقول فيما أخرجه أحمد عن أنس: ((قال الله تعالى: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه ـ يريد عينيه ـ ثم صبر عوضته منهما الجنة)). ومن ذلك طاعة الأم والإحسان إليها، أخرج ابن ماجه عن معاوية بن جاهمة أنه جاء إلى رسول الله يريد الجهاد معه طلبا للجنة، فقال له : ((ويحك، أحيّة أمك؟)) قال: نعم، فقال: ((الزم رجلها فثمّ الجنة)). ويقول فيما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة: ((كان على الطريق غصن شجرة يؤذي الناس، فأماطها رجل فأدخل الجنة)) إلى غير ذلك من أعمال، نسأل الله أن يوفقنا إليها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها الإخوة، إن الجنة تحتاج إلى سعي وعمل، وبدون السعي والعمل يصبح طلب الجنة جنون وعبث، يقول سبحانه: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [الإسراء:19].
فلا جنة إلا بسعي لها، يقول يحيى بن معاذ كما في صفة الصفوة: "عمل كالسراب وقلب من التقوى خراب وذنوب بعدد الرمل والتراب ثم تطمع في الكواعب الأتراب! هيهات أنت سكران بغير شراب".
لذا وجب علينا أن نعمل للجنة، وأن نعلم أن ملذات الحياة الدنيا ينبغي أن لا تلهينا عن الملذات الباقية في الآخرة، وليعلم كل مُنعَّم ومترف ولاهٍ وعابث أن عذاب الآخرة إذا تعرض له سوف ينسيه كل هذا الترف والنعيم، وليعلم كل فقير أو معوز أو بائس أن نعيم الجنة إن كان من أهلها سوف ينسيه كل هذا البؤس، يقول في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أنس: ((يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في جهنم صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط؟ هل مر بك شدّة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بى بؤس قط، ولا رأيت شدة قط)) ، فهل يستحق نعيم هذه قيمته أن نعصي الله من أجله؟! هل تستحق حياة تنسى بغمسة في جهنم أن نضحي بديننا من أجلها؟!
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/3778)
الاستقامة الحقة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصوم, الفتن, خصال الإيمان
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
9/1/1426
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سعادة المرء. 2- أركان الاستقامة الحقة. 3- الاستقامة على توحيد الله تعالى. 4- خطر الفتن على الاستقامة. 5- ضرورة الاستغفار والتوبة. 6- ذمّ المنحرفين المدعين للاستقامة. 7- من وسائل الثبات. 8- فضل صيام المحرم وعاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، صفاءُ المرء وهناؤه وتوازنه واستقرارُه إنما يكمن في صِدق انتمائه لدينِه وتمسّكه بشِرعةِ ربّه وعَضِّه عليها بالنواجِذ، بعيدًا كلَّ البعد عن مزالقِ الانحراف ومكامِن الرِّيَب ونزَعات الميل إفراطًا وتفريطًا.
يحرص المرءُ المسلم بمثل هذا التوازُن أن يحيا حياةً طيبة، مِلؤها حسنُ الاستقامة على الدّين والثبات عليه أمام العواصِف والزّوابع التي تتتابَع حثيثةً بين الفينة والأخرى ليميزَ الله بها الخبيثَ من الطيب، ويجعلَ الخبيثَ بعضَه على بعض، فيركمَه جميعًا، فيجعله في جهنّم.
وحادِي المؤمنِ الصادق وَسطَ هذا الركام من المتغيّرات هو قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وقولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13].
روى الإمام مسلم في صحيحه عن سفيانَ بن عبد الله رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرَك، قال: ((قل: آمنت بالله، ثمّ استقِم)) [1].
فانظروا ـ يا رعاكم الله ـ إلى هذه الوصيّة الجامعةِ حينما تُوضِّح هويّةَ المسلم التي ينبغي أن يحيا ويموتَ عليها، وهي الاستقامة الحقّةُ دونَ عِوَج أو انحرافٍ، الاستقامة الحقّةُ دونَ تخاذُلٍ أو تراجع، الاستقامة الحقّةُ الجامِعة لأركانها وركائِزها الثلاث، وهي استقامة اللسان أخذًا من قوله : ((قل: آمنت بالله)) ، وكذا استقامةُ القلبِ والجوارح أخذًا من قولِه : ((ثم استقِم)) ؛ ذلك أنّ مجرّدَ الادعاءِ باللسان لا يُعَدّ استقامةً أصلاً، كما أنّ الاستقامة بالجوارح والقلبُ خالٍ منها لا يُعدُّ استقامَة أيضًا، ولا هي من بَابتِها، ولذا عابَ الله قومًا قد ادَّعوا الاستقامة الحقّةَ على الإيمان وأنهم بلَغوا مقامًا أعلى ممّا هم عليه حقيقةً، فقال سبحانه: قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14].
ثمّ اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ أعظمَ أنواع الاستقامة هو استقامةُ المرء على التوحيدِ الخالِص، وذلك في معرفةِ الله وعبادتِه وخشيته وإجلالِه ورجائه وخوفِه ودعائه والتوكّل عليه وعدَم الإشراك به أو الالتِفات إلى غيرِه سبحانه، وقد فسَّر أبو بكر الصديقُ رضي الله عنه قولَ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30] بأنهم الذين لم يلتفِتوا إلى غير الله [2].
أيّها الناس، إنّ الاستقامة على دين الله لَذاتُ شأنٍ عظيم، في حين إنها محفوفةٌ بالمخاطِر من كلِّ جانب، ومِن حولها الفتنُ المتلاطمة التي تؤُزّ صاحبَها أزًّا، فيُدَعَّى إلى مواقَعَتها دعًّا، كلُّ ذلك يجعَل الثباتَ على الاستقامة والعضَّ عليها كالقبضِ على الجمر في راحةِ اليد، ولذا كانَ رسول الله يكثِر التعوُّذَ بالله من ذلك، كما في الموطّأ أنه كان من دعاءِ النبي : ((اللّهمّ إذا أردتَ بالناس فتنةً فاقبِضني إليك غيرَ مفتون)) [3].
إنَّ مما لا شكَّ فيه ـ عبادَ الله ـ أنّ تواليَ الفتن على المرء وكثرةَ ملامَسَتها له ولمجتَمَعه وسوقِه لتوقِع في نفسِه شيئًا من الخَلَل أو التقصيرِ الذي لا يخلو منه مسلِم ولا يكاد، ومن لم يصِبه لظَى الفتن فلا أقلَّ من أن يصيبَه دخَنُها، غيرَ أنّ الشارع الحكيم لم يدَع المسلم سَبَهللاً تتهاوَى به الفتن دونَ دِلالةٍ إلى ما يعصِمه من ذلكم أو يجبُر الخَلَلَ ويمحوه إن وُجِد، فأرشدَ الشارع الحكيم إلى الاستغفارِ المقتضي للتّوبةِ النصوح والرجوعِ إلى الاستقامةِ؛ ليكونَ ذلك سُلوانًا أمامَ المَوجِ الكاسر والريحِ العاصِف، فقال سبحانه: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ [فصلت:6].
ومن هذا المنطلَقِ قال النبيّ لمعاذِ بن جبل رضي الله عنه: ((اتَّق الله حيثُما كنتَ، وأتبِع السيّئةَ الحسنة تمحُها، وخالقِ الناسَ بخلُقٍ حسن)) رواه الترمذي [4] ، وقد قال الباري جلّ شأنه في ذلك: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِين [هود:114].
عبادَ الله، إنّنا حينما نحرِص على الاستقامة والثّبات على الدين لنعلمُ صعوبةَ ذلك وجهادَ النفس فيه وأنَّ بلوغَها حقَّ البلوغ دونَه من الصِّعاب والعقباتِ الشّيءُ الكثير، بيدَ أنّ هذا كلَّه غيرُ معفٍ كلَّ مسلمٍ وكلَّ مجتمع من السعيِ في تحصيلِها وبذل الوُسع والمستطاع في إقامَتِها في واقعِ الحياة، مع استحضار السّداد والمقارَبَة لقولِ النبي : ((استقيموا ولن تحصُوا، واعلَموا أنّ خيرَ أعمالكم الصّلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلاّ مؤمِن)) رواه أحمد وابن ماجه [5] ، وفي روايةٍ لأحمد: ((سدِّدوا وقارِبوا)) [6].
عبادَ الله، إن كان ثمّةَ أمرٌ يجب التفطُّن له من خِلال هذا الطرحِ فهو أنّ الدعوة إلى الاستقامةِ أو ادِّعاءها والواقعُ عريٌّ عنها لهو خلَل فادحٌ وشرخ غيرُ يسير، وإنّ إقناع النفس وتخديرَها بكمالٍ زائف لا يحتاج المرءُ والمجتمع معه إلى تصحيحٍ وإصلاح لهو أمرٌ خِداج، خِداج غيرُ تمام؛ لأنّ الكمالَ والاعتدال إنما يكون في حالِ موافقة العمل للقولِ والباطن للظّاهر، وقد ذمَّ الله قومًا لم يحقِّقوا جانبَ التوازُن في حياتهم، فغلَب الادّعاء باللسان والقولِ جانبَ العمل والتطبيق، فقال سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ويلٌ لمن لم يعلَم ولم يعمَل مرّةً واحدة، وويل لمن علِم ولم يعمَل سبعين مرّة) [7] ، وقال الحسن البصريّ رحمه الله: "اعتبروا الناسَ بأعمالهم، ودَعوا أقوالهم، فإنّ الله لم يدع قولاً إلاّ جعل عليه دليلاً من عملٍ يصدّقه أو يكذّبه، فإذا سمعتَ قولاً حسنًا فرُويدًا بصاحبه، فإن وافق قولُه فعلَه فنَعَم ونِعمَةُ عَين" [8] ، وقد ذكر الإمام مالك رحمه الله أنّه بلغه عن القاسمِ بنِ محمد رحمه الله أنه قال: "أدركتُ الناسَ وما يعجِبهم القول، إنما يعجِبهم العمل" [9].
فاتّقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنّ العيبَ كلَّ العيب والشّينَ كلَّ الشَّينِ أن يكذِّب فعلُ المرء قولَه، أو أن تكونَ حاله واقعًا تخالِف مقالَه ظاهرًا، فإنّ مدَّعي الاستقامةِ على طاعةِ الله يجب أن لا يكونَ في واقعه غاشًّا ولا مضلِّلاً ولا كذّابًا ولا مرائِيًا ولا سارِقًا ولا زانِيًا ولا ظالمًا ولا معتَدِيًا ولا هاتِكًا لحُرمةٍ أو ناقِضًا لعهدٍ ولا منكِّصًا لشرعِ ربِّه أو مهمِّشًا له، وإنَّ مثلَ ذلكم الإخلالِ لهو كفيلٌ بكثرةِ الاضطرابات وضَعف الأمانةِ وتفشِّي القتل والتّخريب والاغتيالاتِ وإهدار الحقوق والاعتداءِ على الدّين والنّفس والمال والعِرض والعقل، ولا زوالَ لهذه الفواجعِ إلاّ بالرجوع إلى الله والتمسُّك بشَرعِه والنظرِ في مواضعِ الخلل، ومِن ثَمَّ ترميمها وتصحيحها؛ لنحيَا حياةً آمنة رضيَّة بعيدة كلَّ البعد عن الصّخَب والعَطَب.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات:15]، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن اللهِ، وإن خطأً فمن نفسي والشّيطان، وأستغفر الله إنّه كانَ غفّارًا.
[1] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (38).
[2] رواه ابن جرير في تفسيره (24/115)، وأبو نعيم في الحلية (1/30)، وصححه الحاكم في المستدرك (3648).
[3] موطأ مالك: كتاب القرآن (508) بلاغا، قال ابن عبد البر في التمهيد (24/321): "لا أعرفه بهذه الألفاظ في شيء من الأحاديث إلا في حديث عبد الرحمن بن عائش الحضرمي صاحب رسول الله ، وهو حديث حسن، رواه الثقات. وقد روي أيضا من حديث ابن عباس وحديث معاذ بن جبل وحديث ثوبان وحديث أبي أمامة الباهلي، وروي لأخي أبي أمامة أيضا"، وانظر: الإرواء (684).
[4] أخرجه الترمذي في البر (1987)، والدارمي في الرقاق (2791) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح"، ثم أخرجه عن محمود بن غيلان عن وكيع عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب عن معاذ به، وقال: "قال محمود: والصحيح حديث أبي ذر". وهذا الاختلاف من سفيان الثوري، فقد أخرجه أحمد في المسند (5/153) عن وكيع عن سفيان، وقال في آخره: "قال وكيع: وقال سفيان مرة: عن معاذ، فوجدت في كتابي: عن أبي ذر، وهو السماع الأول". وروي من وجه آخر مرسلاً، ورجحه الدارقطني كما في جامع العلوم والحكم (1/395). ثم قال ابن رجب: "وقد حسن الترمذي هذا الحديث، وما وقع في بعض النسخ من تصحيحه فبعيد، ولكن الحاكم خرجه وقال: صحيح على شرط الشيخين، وهو وهم من وجهين". ثم ذكرهما رحمه الله. فالحديث حسن، وقد حسنه الألباني في صحيح الترغيب (2650، 3160)
[5] مسند أحمد (5/276-277، 282)، سنن ابن ماجه: كتاب الطهارة (277) عن ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الدارمي في الطهارة (655)، والطبراني في الأوسط (7019)، والبيهقي في الكبرى (1/82، 457)، والخطيب في تاريخه (1/293)، وصححه ابن حبان (1037)، والحاكم (448، 449)، والمنذري في الترغيب (1/97)، وابن حجر في الفتح (4/108)، وهو مخرج في إرواء الغليل (412). وفي الباب عن غيره من الصحابة.
[6] مسند أحمد (5/282).
[7] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/235) نحوه، وانظر: صفة الصفرة (1/628)، وسير أعلام النبلاء (2/374).
[8] رواه ابن المبارك في الزهد (77).
[9] انظر: جامع بيان العلم (1235).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فيا أيّها الناس، إنّ مما يعين العبدَ المسلم على الاستقامةِ والثبّات على دين الله تعالى الإكثارَ من الطاعات والقرُبات، وإنّ من أفضل تلكم الطاعات صيامَ التطوّع حيث يقول النبيّ : ((ما مِن عبدٍ يصوم يومًا في سبيل الله إلاّ باعد الله بذلك اليوم عن وجهَه النار سبعين خريفًا)) رواه البخاري ومسلم [1].
ثمّ إن من الصيامِ المندوبِ إليه صيامَ شهر الله المحرّم الذي يُعدُّ أفضلَ الصيام بعد شهرِ رمضان لما روى مسلم في صحيحه أن النبيَّ قال: ((أفضل الصيامِ بعد شهرِ رمضان شهرُ الله الذي تدعونه المحرّم)) [2].
ثم إنَّ أفضلَ الصيام في شهر الله المحرّم ـ عبادَ الله ـ هو صيامُ يوم عاشوراء الذي قال عنه النبيّ : ((أحتسِب على الله أن يكفِّرَ السنّة التي قبلَه)) رواه مسلم [3] ، وفي الصحيحينِ مِن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت رسولَ الله صام يومًا يتحرَّى فضلَه على الأيام إلاّ هذا اليوم يعني عاشوراء، وهذا الشهر يعني رمضان [4]. وقد جاء عند مسلمِ في صحيحه أنّ النبيَّ قال: ((لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التاسع)) [5] ، ولكن الأجَل وافاه قبلَ ذلك والتَحَق بالرّفيق الأعلى بأبي هو وأمّي صلوات الله وسلامُه عليه.
والمرءُ المسلم ـ عبادَ الله ـ مخيَّرٌ بين أن يصومَ العاشرَ وحدَه، أو يصوم معه التاسِعَ وهذا هو الأفضَل، أو يصوم التاسِعَ والعاشِرَ والحادِي عشر على قولٍ لبعض أهلِ العلم لحديثٍ مختَلَف في ألفاظِه، وهو مِن باب الاحتياطِ له في دخولِ الشهر، وقد قال بذلك ابنُ سيرين وجماعةٌ مِن أهل العلم.
وأمّا طريقةُ معرفةِ اليوم العاشِر فهو على القاعدةِ الشرعيّة المتفَّق عليها؛ أنّه إن رئِي هلالُ دخولِ الشهر فإنه علامَةُ الابتداء، وإن لم يُرَ فإنه تُكمَلُ عدّة الشهر ثلاثين يومًا، دونَ حاجةٍ إلى شكوكٍ أو كَثرةِ جِدال أو اختلافٍ في الفتاوى والتّساؤلات، فالمسألةُ واضحةٌ محسومَة والحمد لله.
وفّق الله الجميعَ لما يحبّه ويرضاه من الأقوالِ والأعمال، إنّه سميع مجيب.
هذَا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خَيرِ البرية وأزكَى البشريّة محمّد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحِب الحوض والشفاعة، فقد أمَركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكتِه المسبِّحة بقدسه، وأيّه بكُم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال كما عند مسلم في صحيحه: ((من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيمَ في العالمين إنّك حميد مجيد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2840)، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1153) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[2] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1163) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الصوم (2006) ، صحيح مسلم: كتاب الصيام (1132).
[5] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1134) ن ابن عباس رضي الله عنهما.
(1/3779)
صحبة الأخيار
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار. 2- ثمار صحبة الصالحين. 3- آثار صحبة الأشرار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
واعلموا أن الله تعالى لنافذ قدرته وبالغ حكمته خلق الخلق بتدبيره، وفطرهم بتقديره، فكان من لطيف ما دبَّر وبديع ما قدر أن خلق الإنسان مطبوعًا على الافتقار إلى جنسه، راغبًا في مصاحبة من هم على شاكلته، ميالاً إلى مخالطة أفراد نوعه ومجالسة بني جلدته. وقد جاءت شريعة أحكم الحاكمين ملبية لهذه الحاجة الفطرية التي يصلح بها معاش الناس ومعادهم، ولكنها بينت أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان، فحثت على صحبة المتقين الأبرار، ونهت وحذرت عن صحبة أهل المعاصي والأشرار، وذلك لما للأصحاب من أثر على الدين والعقل والخلق، قال النبي : ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل)) [1].
وقد أدرك العلماء والعقلاء أثر الصاحب على صاحبه، فحثوا على صحبة الأخيار، وحذروا من صحبة الأشرار، قال مالك بن دينار رحمه الله: "إنك أن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الحلوى مع الأشرار"، وقال أبو الدرداء : (لصاحب صالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء)، ومن كلام علي رضي الله عنه:
ولا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى حليمًا حين يلقاه
يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ماشاه
أيها المؤمنون، الزموا صحبة الأخيار ومودة المتقين الأبرار الذين تزيدكم صحبتهم استقامة وصلاحًا، فإن صحبة هؤلاء تورث الخير في الدنيا والآخرة، ولها ثمرات طيبة وآثار مباركة، ولذا أمر الله سبحانه نبيه بها، فقال جل ذكره: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [الكهف:28].
فمن ثمار صحبة الأخيار ما أخبر به النبي حيث قال: ((مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكِير، فحامل المسك إما أن يُحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة)) [2] ، فأنت لا تعدم من جليس صالح خيرًا.
ومن ثمار صحبة الأخيار أن حضور مجالس الخير معهم سبب لمغفرة الذنوب، ففي الصحيحين عن أبي هريرة في الحديث الطويل: قال رسول الله : ((إِنَّ لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ، تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، قَال:َ فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ، قَالَ فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، قَالَ: يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالَ: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا، قَالَ: يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالَ: يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً، قَالَ: فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ، قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)) [3]. فللَّه ما أعظم صحبة الأخيار، وأطيب عاقبتها.
أيها المؤمنون، إن من ثمار صحبة الأخيار محبتهم، ومحبتهم سبب لمشاركتهم في خير الدنيا ونعيم الآخرة، ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: قيل للنبي : الرجل يحب القوم ولمّا يلحق بهم؟ قال: : ((المرء مع من أحب)) [4].
ومن ثمار صحبة الأبرار التأثر بهم والاقتداء بسلوكهم وأخلاقهم واستقامتهم، كما قال النبي : ((المرء على دين خليله)) [5]. وقد صدق القائل:
إذا كنت في قوم فصاحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
ومن ثمار صحبة الطيبين أنها تذكره بالله تعالى، فيفيده ذلك في عقله ودينه، قال النبي : ((أولياء الله الذين إذا رُؤوا ذكر الله)) [6] ، فرؤية الأبرار تذكر بالله، فكيف بمصاحبتهم ومجالستهم؟!
قال بعض السلف: "إن كنت لألقى الرجل من إخواني، فأكون بلقياه عاقلاً أيامًا"، وقال آخر: "كنت أنظر إلى أخ من إخواني، فأعمل على رؤيته شهرًا".
ومن ثمار صحبة هؤلاء ما قاله علي بن أبي طالب : (عليكم بالإخوان؛ فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألا تسمع إلى قول أهل النار: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100، 101]؟!).
ومن فوائد صحبة المؤمنين الأخيار ما حدث به النبي عن المؤمنين بعد اجتيازهم للصراط: ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحدٍ بأشدَ مُناشَدَةً لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويُصلون ويحُجون! فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتُحَرَّم صورهم على النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه)) [7].
فالله أكبر ما أعظم الصحبة الطيبة وأحسن عاقبتها، وما أكثر فوائدها وأطيب ثمارها، ولو لم يكن فيها إلا أنها سبب للخروج من النار لكان ذلك كافيًا في الحرص عليها والاستكثار منها.
[1] رواه أحمد في مسنده (8065), وأبو داود في الأدب (4193), والترمذي في الزهد (2300), وسنده لا بأس به.
[2] أخرجه البخاري في الذبائح والصيد (5108), ومسلم في البر والصلة (4762).
[3] أخرجه البخاري في الدعوات (5929).
[4] أخرجه البخاري في الأدب (5704).
[5] رواه أحمد في مسنده (8065), وأبو داود في الأدب (4193), والترمذي في الزهد (2300), وسنده لا بأس به.
[6] رواه البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما كما في مجمع الزوائد (10/78)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2587).
[7] رواه مسلم في الإيمان (302).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واحذروا مصاحبة الفساق وأهل المعاصي والأشرار الذين يُزَينون لكم معصية الله تعالى، ويعينونكم على تضييع حقوق الله تعالى بارتكاب المعاصي وترك الواجبات.
احذروا هؤلاء أشد الحذر، فإنهم قطاع طريق الهداية، يصدون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا، فعن المسيب : أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي وعنده أبو جهل، فقال: ((أي عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله)) ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، ترغب عن ملة عبد المطلب؟! فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب [1]. نعوذ بالله من الخذلان ومن جلساء السوء. فانظر ـ بارك الله فيك ـ كيف أثر جليسا السوء على هذا، حتى حالا بينه وبين الجنة، وأسلماه إلى النار والعياذ بالله.
فاحذروا ـ أيها المؤمنون ـ جلساء السوء، فإنهم لا يقر لهم قرار، ولا تسكن لهم ساكنة، حتى يوقعوكم في معصية الله تعالى، ويورطوكم في ترك ما فرض الله عليكم.
فصحبة الفساق والأشرار قطعة من النار تعقب الضغائن، وتورث الحسرات، وتجرئ على المعاصي والسيئات، قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
فليحذر كل واحد منا ـ صغيرًا أو كبيرًا ـ مصاحبة أهل السوء والريب، فإن الصاحب ساحب، والطبع سراق.
ولا يغرنك من أصحاب السوء وأهل المعاصي طيب معشرهم أو حلاوة ألسنتهم، فالماء قد يصفو منظره وطعمه خبيث، قال الأول:
ألم تر أن الماء يخبث طعمه وإن كان لون الماء أبيض صافيا
قال الشيخ عبد الرحمن السعديُ رحمه الله: "بالجملة فمصاحبة الأشرار مضرة من جميع الوجوه على من صاحبهم، وشر على من خالطهم، فكم هلك بسببهم أقوام، وكم قادوا أصحابهم إلى المهالك من حيث يشعرون، ومن حيث لا يشعرون"ا هـ كلامه رحمه الله.
فاحذروا ـ أيها المؤمنون ـ مصاحبة هؤلاء في أنفسكم، وجنبوا أولادكم وأهليكم مصاحبة أهل الشر البطالين، فإنهم أكبر أسباب ضياعهم وفسادهم.
اللهم إنا نسألك أن تجنبنا الشر وأهله، وأن تحفظنا من المعاصي وأهلها.
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1272).
(1/3780)
صفات القرآن
العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل القرآن العظيم. 2- أوصاف القرآن الكريم. 3- وفقة محاسبة. 4- حال المسلمون اليوم مع القرآن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فصدق رسول الله لما كان يردد في خطبه: ((إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)). كيف لا يكون كذلك؟! والمتأمل المتبصر في كلام الفصحاء وأحاديث وأقاويل البلغاء يشهد بأن أصدق الحديث كتاب الله.
عباد الله، اتقوا الله الذي أمركم بتقواه، واصطفاكم وخصكم وأكرمكم بالقرآن العظيم، الذي تحدى به الإنس والجان، وأفحم به أهل الزيغ والطغيان، جعله ربيع قلوب أهل البصائر والعرفان.
قال في وصفه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (هو كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: إنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الجن:1، 2]. من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم).
أمة القرآن، إن كتابًا هذه صفته حري بأن يتعرف عليه الألبّاء، ويتأمله ويتدبره الحكماء والعلماء، وأن يستمسك به كل راغب في النجاة، وخير ما يعين على ذلك ما ذكره الله سبحانه له من الأوصاف والأسماء التي تعرف بمهمته ودوره ورسالته، فإليك ـ بارك الله فيك ـ بعض هذه الأوصاف والأسماء.
فمن تلك الأوصاف أن هذا الكتاب ـ مما ذكره الله تعالى في وصف كتابه ـ روح، قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ [الشورى:52]، فهو روح يحيي به الله من يشاء من عباده الأفراد والأمم والجماعات، فكم ميت لا روح فيه ولا حياة أحياه الله تعالى بروح الكتاب، قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122].
أيها المؤمنون، إن الحياة بروح هذا الكتاب هي أسعد وأكمل وألذ أصناف الحياة، قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97]، فالحياة بغير هذه الروح مهما توفرت فيها أسباب المتع والراحة الأرضية المادية إن لم تدب فيها روح القرآن وحياة الفرقان فهي أتعس وأنكد وأضيق حياة، قال الله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
أيها المؤمنون، إن من صفات هذا الكتاب العظيم ـ مما وصف الله به تعالى كتابه المجيد ـ أنه نور، كما قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن:8]، وقال: قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
فالقرآن نور تشرق به قلوب المؤمنين، ويضيء السبيل للسالكين المتقين، فبالقرآن يخرج الله الذين آمنوا من الظلمات والتعاسات إلى النور والسعادات.
عباد الله، إن هذا الكتاب فرقان يميز الله به الخبيث من الطيب، قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]، فالقرآن فرقان يفرق بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وبين الغي والرشاد، وبين العمى والإبصار، وهو فرقان فرق الله فيه وبه بين المؤمنين الأبرار، وبين الكافرين الفجار، ميَّز به وفيه بين المصلحين والمفسدين، والمفلحين عن الخاسرين، وبين فيه وبه المهتدين من الضالين، وهو فرقان فرق فيه بين صفات أهل الجنات وسبيلهم وبين صفات أهل النيران وسبلهم.
ومن أوصافه أنه برهان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا [النساء:174]، فهو برهان، أي: حجة من الله لعباده المؤمنين وحزبه المفلحين، وهو حجة على الضالين والزائغين.
فالقرآن هو البرهان القاطع والدليل الواضح الساطع على الحق والهدى، ولذلك كان وقعه على أعدائه أشد من وقع السيف والسنان.
أمة القرآن، إن من أوصاف هذا الكتاب المبين أنه موعظة وشفاء وهدى ورحمة للمؤمنين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، فالقرآن أبلغ موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو أنجع الأدوية لما في الصدور والقلوب من الآفات والأمراض والأدناس، ففيه الشفاء من أمراض الشبهات والشهوات، وفيه علاج أمراض الأفراد والأمم والمجتمعات، وهو هدى ورحمة للمؤمنين، يبين لهم الصراط المستقيم، ويدلهم على النهج القويم، ويوضح لهم معالم طريق الفائزين بجنات أرحم الراحمين.
ومن أوصافه أنه النبأ، أي: الخبر العظيم، قال تعالى: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص:67، 68]، فهو عظيم في وعده ووعيده، وترغيبه وترهيبه، وأحكامه وأخباره، وهو عظيم في أمثاله وأقاصيصه.
أيها المؤمنون، هذه بعض الأوصاف التي وصف الله تعالى بها كتابه الحكيم وهو العليم الخبير. والمتأمل في هذه الصفات وحقيقة انطباقها على الموصوف يدرك إدراكًا لا مرية فيه ولاشك أنه أعظم آيات النبي ، بل أعظم آيات الأنبياء، كيف لا يكون كذلك؟! وهو الذي أعجز نظامه الفصحاء، وأعيت معانيه البلغاء والحكماء، فلم يأتوا بسورة من مثله. وكيف لا يكون كذلك؟! وهو الذي أحدث الانقلاب العظيم والتغيير الكبير في عقائد العرب وتصوراتهم وعباداتهم وأفكارهم وأخلاقهم وسياساتهم وجميع شؤونهم، فبينا كان العربي يعبد الأحجار والأشجار ويعاقر الخمر ويعاشر النساء ويقطع الأرحام ولا يعرف لوجوده غاية ولا يحمل بين جنبيه رسالة، أنزل الله على نبيه محمد الفرقان، فانبثقت من بين دفتيه خير أمة أخرجت للناس، كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
إن هذه الأمة التي ذكرها الله تعالى خرجت من بين هدى القرآن، فتساقطت بين يديها أمم الكفر والظلام، فأصبح ذلك العربي المغمور يحمل مشاعل الأنوار ليخرج الناس من عبودية الطواغيت والأوثان إلى عبودية الملك الديان.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن الأوصاف التي ذكرها الله تعالى لكتابه الكريم لم يذكرها عبثًا، ولا لمجرد التمدح والإطراء فحسب، بل ذكرها وكررها ونوعها ليبين لنا السبيل المستقيم والطريق القويم في التعامل مع القرآن الحكيم.
أيها الإخوة المؤمنون، إن من أبرز أسباب تدهور الأمة وتخلفها وتأخرها في مجالات الحياة كلها هو ضعف أخذها بهذا الكتاب، وسوء تعاملها معه، فعلى سبيل المثال لذلك أقول: كم هم الذين يعدون القرآن الكريم هو مصدر التلقي والتوجيه، وهو مصدر صياغة وبناء العقائد والعبادات والأخلاق والأفكار ليعرفوا عدوهم من صديقهم؟! كم هم الذين يرجعون إلى القرآن ليميزوا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان؟! كم هم الذين يجعلون القرآن إمامًا لهم في جميع شؤون حياتهم، صغيرها وكبيرها خاصها وعامها؟!
إنهم وللأسف نزر قليل وعدد يسير. فالأكثرون قد قنعوا من العمل بالقرآن والأخذ به بمجرد الدعوى، وقد صدق القائل:
الدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
فأكثر الأمة اختزلوا مهمة القرآن العظيم من موجه للأمة وقائد لها إلى كتاب يرتله المرتلون، ويترنم به المترنمون، ويتلونه آناء الليل وأطراف النهار، يهذونه هذّ الشعر، وينثرونه نثر الدقل، همّ أحدهم آخر السورة. ومنهم الذين جعلوه تمائم وتعاويذ، يضعونها في جيوبهم أو صدورهم أو مراكبهم أو فرشهم، يتبرّكون به، ولا يلتفتون إليه في غير ذلك من الشؤون. ومنهم الذين لا يعرفون كتاب الله إلا في المناسبات في الأفراح أو الأتراح، أما عقائدهم وعباداتهم وأخلاقهم وتصوراتهم وسياساتهم وشرائعهم واقتصادياتهم فإن القرآن منها بريء، ومصادرهم فيها الشرق أو الغرب، أو قول القائل: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون.
أمة القرآن، إن الواجب علينا أن نأخذ هذا الكتاب بقوة وحزم؛ فنصوغ به قلوبنا وسلوكياتنا وحياتنا، وأن نستمسك به فنعالج مسائل اليوم، وننير به طريق الغد، بهذا تخرج الأمة فرادى وجماعات إلى حياة الناس كما وصفها الله في كتابه فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
(1/3781)
صلاح القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صلاح القلب وأهميته في استقامة الأعمال. 2- أسباب صلاح القلوب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله حق تقاته، واعلموا أن تقوى الله جل وعلا لن تستقيم لكم إلا بإصلاح قلوبكم وتطهيرها من الأمراض والآفات بالبر والطاعات، ولهذا فإن الله جل ذكره بعث الرسل وأنزل الكتب لإصلاح القلوب وتطهيرها وتزكيتها وتطييبها.
وبالقلب يعرف العبد ربه، فيتعرف على أسمائه وصفاته، وبالقلب يعلم العبد أمر الله ونهيه، وبالقلب يحب العبد ربه ويخافه ويرجوه، وبالقلب يفلح العبد وينجو يوم القيامة، قال الله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، أي: أتى الله بقلب سليم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره ونبأه.
وبالقلب ـ يا عباد الله ـ يقطع سفر الآخرة، فإن السير إلى الله تعالى سيرُ القلوب لا سيرُ الأبدان.
قطع المسافة بالقلوب إليه لا بالسير فوق مقاعد الركبان
قال ابن رجب رحمه الله: "فأفضل الناس من سلك طريق النبي وخواص أصحابه في الاجتهاد في الأحوال القلبية، فإن سفر الآخرة يقطع بسير القلوب لا بسير الأبدان".
والقلب ـ يا عباد الله ـ هو موضع نظر الله سبحانه وتعالى من عبده، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) [1].
فيا لله العجب من أقوام صرفوا جلّ اهتمامهم في تحسين ظواهرهم، وغفلوا عن قلوبهم وأفئدتهم، وما أصدق ما قاله ابن القيم رحمه الله:
فالفضل عند الله ليس بصورة الأعمال بل بحقائق الإيمان
وبصلاح القلب ـ يا عباد الله ـ تصلح الأجساد، ففي الصحيحين من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلَحت صلَح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) [2].
أيها المؤمنون بالله ورسوله، يا من ترجون الله والدار الآخرة، عليكم بحفظ قلوبكم وإصلاحها، وحسن النظر فيها، وبذل المجهود في استقامتها، واعلموا أنه لن يتم لكم ما ترجونه من صلاح قلوبكم حتى تسلم قلوبكم من أربعة أمور:
الأمر الأول: أن تسلم من الشرك صغيره وكبيره، فإنه من أعظم مفسدات القلوب، قال ابن القيم رحمه الله: "ولا صلاح له ـ أي: للقلب ـ إلا بتوجيه محبته وعبادته وخوفه ورجائه".
الأمر الثاني: أن تسلم من البدعة ومخالفة السنة، فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. فإذا امتلأ القلب بالبدع أظلم، وإذا أظلم مرض ولم يصح.
الأمر الثالث: أن تسلم من الشبهات التي تزيغها وتحملها على اتباع الهوى والتكذيب بالحق.
الأمر الرابع: أن تسلم من الشهوات التي تمرضها وتفسدها.
أيها المؤمنون، إن السلامة من هذه الآفات الكبرى لا تتأتى إلا بأسباب لا بد من الأخذ بها، ومقدمات لا بد من تحصيلها.
فمن أسباب صلاح القلوب واستقامتها الأخذ بالقرآن العظيم، تلاوة وحفظًا وتدبرًا وتعلمًا، فإن الله سبحانه وتعالى أنزله شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57].
فالقرآن أبلغ موعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وهو أنفع الأدوية لما في الصدور من أمراض الشبهات والشهوات. قال ابن القيم رحمه الله: "جماع أمراض القلوب هي أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين".
فأقبلوا على كتاب الله يا عباد الله، فإنه لا صلاح لكم ولا سعادة إلا بالتمسك به، فاعتصموا به، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
ومن أسباب صلاح القلوب واستقامتها إعمارها بمحبة الله تعالى، فلا فلاح ولا صلاح ولا استقامة ولا لذة ولا طيب إلا بمحبة الله تعالى، قال النبي : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبَ إليه مما سواهما)) الحديث متفق عليه [3]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالمحبة أعظم واجبات الدين، وأكثر أصوله، وأجلّ قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين".
فاجتهدوا ـ يا عباد الله ـ في تحصيل محبة الله تعالى، واعلموا أن طريقها الأكبر أداء الفرائض والواجبات، والاجتهاد في النوافل والمستحبات، قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه)) [4].
ومن أسباب صلاح القلوب وتطييبها ذكر الله تعالى، قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، وقال النبي : ((مثَلُ الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثلُ الحي والميت)) [5].
فذكر الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ جلاء القلوب، فإن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة، وجلاؤه ذكر الله تعالى. فأكثروا ـ أيها المؤمنون ـ من ذكر الله تعالى في جميع الأوقات، لا سيما في أدبار الصلوات، وفي الصباح والمساء، وغير ذلك من المناسبات، فإنها من أعظم ما يصلح القلوب.
عباد الله، إن من أسباب صلاح القلوب تطهيرها من الآفات والأمراض التي تفسدها وتعطبها؛ كالحسد والغل والعجب والرياء والشح، فإن هذه الأمراض تفسد القلب، وتصرفه عن صحته واستقامته. فاحرصوا ـ بارك الله فيكم ـ على تطهير قلوبكم من هذه الآفات، فإنه لا نجاة للقلب إلا بالنجاة منها.
أيها المؤمنون، إن من أهم أسباب صلاح القلوب دعاء الله سبحانه وتعالى وسؤاله إصلاح القلب وتطييبه، فإن سؤال ذلك من أنفع الدعاء، ومن دعاء النبي : ((اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)) [6] ، ومن دعائه أيضًا: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)) [7] ، فأكثروا من سؤال الله التثبيت وإصلاح القلوب.
[1] أخرجه مسلم في البر والصلة (4650).
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (50), ومسلم في المساقاة (2996).
[3] أخرجه البخاري في الإيمان (15), ومسلم في الإيمان (60).
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6021).
[5] أخرجه البخاري في الدعوات (5928).
[6] أخرجه مسلم في القدر (4798).
[7] أخرجه الترمذي في القدر (2066).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، توبوا إلى الله توبة نصوحًا، فإن الذنوب فساد القلوب وخرابها، ففي الصحيح قال النبي : ((تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ؛ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا، كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)) [1].
فبين هذا الحديث أثر الذنوب على القلب، وأنها تطمسه وتختم عليه، كما قال ابن المبارك رحمه الله:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
وفي الحديث أيضًا أثر التوبة في تصفية القلب وتطهيره وتنقيته.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "القلب إذا تاب من الذنوب كان ذلك استفراغًا من تخليطاته، حيث خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، فإذا تاب من الذنوب تخلصت قوة القلب وإرادته للأعمال الصالحة، واستراح القلب من تلك الحوادث الفاسدة التي كانت فيه".
وقال ابن القيم رحمه الله: "فإذا عزمت التوبة وصحت ونشأت من صميم القلب أحرقت ما مرت عليه من السيئات، حتى كأنها لم تكن، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له".
فأكثروا ـ أيها المؤمنون ـ من التوبة والاستغفار، فإن التوبة تجلو القلب، وتزيل عنه أوضار المعاصي والسيئات، ففي الصحيح من حديث الأغر المزني أن رسول الله قال: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة)) [2].
أيها الحريصون على إصلاح قلوبهم، إن من أسباب استقامة القلب وصلاحه تعظيم الله تعالى الذي ينشأ عنه تعظيم أمره ونهيه، قال الله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وشعائر الله هي أوامره ونواهيه، فعظموا الله سبحانه وتعالى يصلح لكم قلوبكم، ويغفر لكم ذنوبكم.
ومن أسباب صلاح القلوب وتطييبها الحرص على البعد عن أسباب فسادها وخرابها، قال تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "وكلما بعد الإنسان عن الأسباب الداعية إلى الشر فإنه أسلم له وأطهر لقلبه" [3].
فكل شيء يفسد قلبك ـ أيها العبد ـ فاحرص على تجنبه والبعد عنه، فإن قلبك أعظم ما تملكه، وإذا فسد عليك فسدت عليك حياتك وآخرتك.
اللهم أصلح قلوبنا، وآت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (207).
[2] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (4870).
[3] التفسير (4/166).
(1/3782)
الأسئلة الخمسة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, اغتنام الأوقات
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
2/1/1426
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار عمل. 2- الحكمة من الخلق. 3- السؤال عن العمر وعن مرحلة الشباب. 4- السؤال عن مصدر المال وعن نفقته. 5- السؤال عن العلم والعمل. 6- فائدة المحاسبة الجادة. 7- من صور المحاسبة. 8- فضل شهر المحرم. 9- فضل صوم عاشوراء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
في الترمذيّ عنه قال: ((لا تزال قدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأَل عن عمره: فيم أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن عمره: ما عمل فيه؟)) [1].
أيّها المسلم، الدّنيا دارُ عمَل، يغتَنِمها الموفَّق، ويتزوّد منها عملاً صالحًا لمعاده ، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، دارُ عمَل، والآخرةُ دارُ الجزاء، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31].
أيّها المسلم، إنَّ اللهَ جلّ وعلا لم يخلُقنا عَبثًا، خلَقَنا لأمرٍ عظيم عبادتِه وطاعتِه، وأخبَرَنا أنّه سيجمعنا في يومٍ لا ريبَ فيه، يجمع الله فيه الأوَّلين والآخِرين: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9].
في ذلك اليومِ يومِ الجزاءِ والحسابِ يقِف الخلائقُ على أعمالِهم كلِّها، دقيقِها وجليلِها، على الأقوال والأعمالِ، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:13، 14]، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]. في ذلك اليومِ يَقِف كلٌّ منّا على عمَلِه، إن خيرًا وإن شرًّا، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا [آل عمران:30].
أيّها المسلم، ولا تزالُ قدمَا عبدٍ منّا في ذلك اليومِ العظيم حتى يُسألَ عن خمسٍ، يسأَلَ عن عمرِه: فيم أفناه؟ هذا العمُر الذي مضى، قلَّت سنونه أو كثُرت، ستُسأَل: فيمَ أفنيتَ هذا العمر؟ هل أفنيتَ هذا العمر في طاعة الله؟ هل أفنيتَه في القيام بما أوجَبَ الله عليك؟ هل مضى ذلك العمُر في عملٍ صالح تتقرَّب به إلى الله، أم عمر مضَى في البطالةِ والجهالاتِ، عمر مضى في السّفَه واللّعِب، عمر مضى في الغفلةِ والإعراض؟ وسيندم العبدُ على ذلك، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:27، 28].
إنّ هذا العمرَ ستُسأَل عنه أيّها العَبد، تُسأَل عن هذا العمرِ: فيم أفنيتَه؟ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ [فاطر:37]، تسأَل عَن شبابك: فيمَ أبليتَه؟ هذا الشبابُ موضِع القوّةِ والنشاطِ تسأَل: [في] ماذا أبليته؟ هل أبليتَه بالخيرِ أم مضى شبابٌ في الطّيشِ والجهل والإعراض؟ إنّه سؤال حقٌّ واقع، فعلى كلٍّ منّا أن يحاسِبَ نفسَه، ويعِدَّ لهذا السؤالِ جَوابًا.
سنُسأَل عن هذا المالِ الذي بأيدِينا سؤالان: مِن أين هذا المال أتى؟ وفيمَ أنفِقَ هذا المال؟ هذا المالُ الذي بيدِك وهو زينةٌ من زينةِ الدنيا ستُسأَل يومَ القيامة عنه: عن طرقِ اكتسابِه وعن وسائِل إنفاقِه، من أين اكتسبتَ هذا المال؟ أمِن حلٍّ أم حرام؟ هذا المالُ الذي بيدِك من أين أتاك؟ ما هي طرق اكتسابه؟ هل كان الاكتساب طريقًا مشروعًا؟ هل كان طريقًا مأذونًا به شرعًا أم كان هذا الاكتسابُ حرامًا سرِقةً أو غصبًا، غشًّا وخداعًا، ربًا ومَيسرًا وقِمارًا وأمورا باطلة؟ ستسأَل عنها يوم القيامة، عن هذا المال [من] أين أتاك؟ من أيِّ الطريق كان؟ فاستعدَّ لهذا الحساب، وحاسِب نفسَك، وطهِّر مالك من كلِّ مكسبٍ خبيث.
وتسأَل أيضًا يوم القيامة: فيم أنفقتَ هذا المال؟ هل كان الإنفاق في وجوهِ الخير أم كان الإنفاقُ في الباطل؟ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال:36]، وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ [الأنفال:47].
وتُسأل عن عِلمِك: ماذا عَمِلتَ في هذا العِلم؟ علِمتَ حقًّا ماذا عمِلتَ فيه؟ هل كان هذا العلمُ سببًا للعمَل وسببًا للاستقامةِ أم كان هذا العلمُ سببًا للطّغيان والأشَر والإعجاب بالنّفس وسببًا للإعراضِ والصّدود عن سبيل الله؟ فكم مِن علم ينفَع عالمَه ويقوده إلى كلِّ خير، وكم من علمٍ هو وَبالٌ على صاحبِه وحجّة على صاحبِه، في الحديث: ((والقرآنُ حجّة لك أو حجة عليك)) [2].
أيّها المسلم، فإذا علِمنا أنّنا مسؤولون عن أعمالِنا وعن الجزءِ المهمِّ منه وهو الشّباب، سنُسأَل: فيمَ أمضينَا هذا العمر؟ وفيم أبلَينا هذا الشباب؟ ونحاسِب أنفسَنا يمرّ بنا العام تلوَ العام فماذا قدمنا؟ هل كان يومُنًا خيرًا من أمسِنا أو كان أمسُنا خيرًا من يومنا؟ وهل نيّةٌ صادقة للاستقامةِ على الطاعة وتبديلِ السيِّئات بالحسنات وصحائفِ الأعمال السيّئة بصحائف أعمال خيِّرة، فيها الخيرُ والتقى والصّلاح.
أيّها المسلم، إنَّ من تدبَّر حالَه وعلِم أنّه مسؤول عمّا قال وعمِل أحدث له ذلك تحوُّلاً في حالِه واستقامةً على الخير وطلبًا للعمل الصالح وسؤالَ الله الثباتَ على الحقّ، لا بدَّ أن نسأَل عن أعمالِنا وأقوالنا، يقول الله جلّ وعلا: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12]، والله يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الحاقة:19-22]، وغيره ممّن أوتي كتابَه بشماله يقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ [الحاقة:25-28].
أيّها المسلم، فلا ينفَعُك يومَ القيامة مالٌ جمعتَه، ولا كثرةُ ولدٍ، ولا طول عمر، إنما ينفعك عملٌ صالح عمِلته، مالٌ طيّب أنفِق في وجوهِ خير، وعمُر مديدٌ استغِلَّ في العمل الصالح، وتربيةٌ لأبناء أو بناتٍ يكونون لك عقِبًا صالحًا تسعَد بهم في آخرتِك.
أيّها المسلم، إنَّ محاسبةَ الإنسانِ نفسَه محاسبةً دقيقة يخلُص منها بالنّتائج، فإمّا تقصير وإهمالٌ فيتدارك نقصَه وتقصيرَه بالتوبة إلى الله والإنابةِ إليه، وإمّا استقامة فيسألُ الله الثباتَ على الحقّ والاسقامة عليه وأن لا يزيغَ قلبَه بعد إذ هداه.
إنّ المؤمن وهو يمرّ به العام وينقضِي ثمّ يستهلّ عامًا جديدًا ليفكِّر في نفسه: بأيِّ شيءٍ أمضينا العام الماضي؟ ماذا مضى عليه العام الماضي؟ أمضى في خيرٍ وصلاح واستقامةٍ أم مضى في سوءٍ وفساد ومظالمَ للعباد؟ فيستقبِل عامَه الجديد بتوبةٍ نصوح وتفكّر في حاله ومحاسبة لنفسِه وتوبة إلى اللهِ من تقصيرِه وإساءَته.
أيّها المسلم، فحاسِب نفسَك فيما بينك وبينَ الله، هل أنت محافِظ على فرائض الإسلام حقًّا؟ هل أنت مؤدٍّ لفرائضِ الإسلام حقًّا أم أنت مهمِل أو مقصِّر؟ هل أنت مؤدٍّ للواجبات الشرعيّةِ أم هناك تقصيرٌ فتدارَكِ النقص والتقصيرَ؟
أيّها المسلم، حاسب نفسَك، وهل ربَّيتَ الأولاد من بنينَ وبنات تربيةً صالحة؟ وهل سعيتَ في توجيههم وإعدادِهم الإعدادَ الصالح وبذلتَ السببَ الممكن في توجيهِهم وإصلاحهم وهدايَتهم للطريق المستقيم؟ تحاسب نفسَك مع زوجتك: هل أنت قائمٌ بحقِّها خيرَ قيام؟ هل أنت مقصِّر في أمرها؟ هل معاشَرتُك لها بالمعروف؟ وهل سيرتك معها سيرةٌ طيّبة؟ فالحمد لله وإلاّ فتداركِ النقص والتقصير.
أيّها المسلم، تحاسِبُ نفسَك مع الأبوين الأمّ والأب: هل أنت قائمٌ ببرِّهما؟ هل أنت محسِنٌ إليهما؟ هل أنت قائمٌ بحقِّهما أم أنت مقصِّر ومخلٌّ وعاقّ بهما؟ فاستبِحهما في الحياة، وتدارَك ما بقِي من أعمارِهما بالقيام بحقِّهما؛ عسى أن تلقَى الله وأنت بهما بارّ. وهل علاقتُك برحمِك علاقةُ الخير والصّلَة أم هناك شحناء وعداوة وبعدُ بعضٍ عن بعض؟ فتدارك هذا الأمرَ، وأصلح ما بينك وبين رحمك، يبارِكِ الله لك في عمرك وولَدِك.
أيّها المسلم، تحاسب نفسَك إن كنتَ من أهل البيعِ والشّراء: هل أنت مِن أهل الصِّدق في تصرُّفاتك المالية، أم أنت مخادِع وكاذب وغاشّ؟ وهل في ذمَّتك حقوق للآخرين غفَلوا عنها ولم يعلَموا بها؟ فهل عقدتَ العزمَ أن تنبِّههم وتردَّ إليهم حقوقَهم وتعطيهم حقوقهم بطيبِ نفس قبل أن تلقَى الله فيمكِّنهم الله من حسناتك؟
أيّها المتعامِل مع الغير، فاتَّق الله فيما ائتُمِنتَ عليه من أموال، واتّقِ الله فيما ائتُمنت عليه من وصايَا وأوقاف، واتّق الله في حقوقِ الآخرين، فحاسِب نفسَك، وسجِّل ما عجزتَ عن تسديده، وأعلم بذلك حتّى لا يفجَأَك الموت وأنت في غفلةٍ وإعراض.
أيّها المسلم، ويا من أنيطَت به مسؤوليّة من مسائِل الأمّة، حاسب نفسَك: هل أنت أدَّيتَ الحقَّ الوظيفيّ على الوجهِ المطلوب أم أنت مقصِّر ومهمِل ومضيِّع فيما عُهِد إليك؟ فحاسِب نفسَك، فإنّ هذا أمرٌ مطلوب منك، لتؤدِّيَ الأمرَ على الوجه المطلوب، فلا تقبِض مرتَّبًا مع إخلالٍ بعمل وعدَم قيام بالواجب.
إنّنا لو حاسبنا أنفسَنا عن أموالنا: ما هي هذه الطرقُ التي نِلنا بها هذا المال؟ أفي أموالِنا غلول وأكلُ مال بالباطل؟ فلنتخلَّص منه، أفي أموالنا أكلٌ للحقوقِ العامّة؟ فنردَّها إلى أهلها، أفي أموالنا حقوقٌ مشتبِهة؟ فتخلّص من هذه المشتبهات، أفي أموالنا مالٌ ما أدَّينا زكاته؟ فلنؤدِّ زكاتَه لنتخلَّصَ من حقِّ الله قبل أن نلقاه. إنّنا لو حاسبنَا أنفسَنا هذا الحساب وعُدنا على أنفسنا فيما بَيننا وبين الله لكان ذلك خيرًا منّا، بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة:14].
أيّها المسلم، لا أحد أحرَص منك على نجاةِ نفسك وفكاكها من عذابِ الله، فحاسِبها الحسابَ الدقيق قبلَ أن تحاسَبَ أمام الله، قال عمر رضي الله عنه: (حاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنوها قبل أن توزَنوا، وتهيّؤوا للعَرض الأكبر على الله) [3] ، إنّ الكيّسَ من دان نفسَه وعمِل لما بعد الموت، وإنَّ العاجِزَ من اتبع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأماني، أعذَرَ الله لعبدٍ بلَّغَه الستّين، ما جَعَل له بعدَ بلوغِها من عذرٍ إن هو أرادَ الانتباهَ وتصحيحَ أوضاعه، فقد مضَى ستّون سنَة، فاتَّقِ الله فيما بقِيَ من عمرِك، واسأل الله الخاتمةَ الحميدة، وتخلَّص من مظالم العباد، واستقبِل عامَك الجديد بنيّةٍ صادِقة وتوبةٍ نصوح والتجاء إلى الله وقيامٍ بما أوجب الله.
أسأل الله أن يجعلَ عامَنا عامَ خيرٍ وبركة، وأن يهِلَّه علينا بالأمنِ والإيمان والسلامةِ والإسلام، وأن يعيذَنا فيه من مضلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلَ [خيرَ] أعمالنا خواتمها و[خيرَ] أعمارِنا أواخِرَها وخيرَ أيّامنا يومَ نلقى الله فيه، إنّه على كلِّ شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة، باب: ما جاء في شأن الحساب والقصاص (2417) عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الدارمي في المقدمة، باب: من كره الشهرة والمعرفة (537)، وأبو يعلى (7434)، والطبراني في الأوسط (2191)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وله شواهد كثيرة، وقد صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (946). تنبيه: وقع في فتح الباري (11/414) عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم، فلعله سهو من الحافظ رحمه الله، فإن الحديث لم يخرجه مسلم، ولم يعزه المزي في تحفة الأشراف إلا إلى الترمذي والله أعلم.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة، باب: فضل الوضوء (223) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[3] روي هذا الأثر عن عمر رضي الله عنه من طرق لا تثبت: فأخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس (ص29–30)، وأحمد في الزهد (ص120)، وأبو نعيم في الحلية (1/52) من طريق جعفر بن برقان، عن ثابت بن الحجاج، عنه رضي الله عنه، وثابت لم يدرك عمر. وعند ابن أبي شيبة في المصنف (13/270): عن جعفر بن برقان، عن رجل لم يسم، عن عمر. وأخرجه ابن المبارك في الزهد (ص103) عن مالك بن مغول بلاغا عن عمر. وأخرجه مالك في الموطأ (2/111 ـ رواية أبي مصعب ـ) بسند منقطع بين يحيى بن سعيد وعمر. وعلقه الترمذي في صفة القيامة (2459) بصيغة التمريض. وقد ضعف الأثر الألباني في السلسلة الضعيفة (1201).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، شهرُ الله المحرّم أحد الأشهرِ الحُرُم التي قال الله فيها: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ، وهي ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ورجب الذي بين جمادى وشعبان، هذه الأشهر الحرم قال الله فيها: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، ونبيّنا لما سئِل عن أفضلِ الصيام بعد رمضان قال: ((شهرُ الله المحرم)) ، وعن أفضلِ القيام بعد الفريضة قال: ((جوفُ الليل الآخر)) [1].
أيّها المسلم، فشهرُ الله المحرّم هو مبدَأ التاريخِ الهجريّ من هجرة محمّد ، فإنَّ المسلمين في عهد عمَر رضي الله عنه أرادوا تارِيخًا يضبِطون به الأشياء ولا سيّما دواوين الخَراج والأوامِر التي ترِد من أميرِ المؤمنين لوُلاته، فاختَلَفوا وطرَحوا آراء، فمِنهم من أراد أن يكون مبدَأ التاريخ بعام الفيل وهو مولِد محمّدٍ ، ومنهم من أراده بمبعَثه ، ومنهم ومنهم.. فأشار عثمانُ بن عفان رضي الله عنه على أميرِ المؤمنين أن يجعَلَ مَبدأ التاريخ الهجريّ بشهرِ الله المحرَّم وقال: (إنّه الشهر الذي يلِي شهرَ ذي الحجة وهو آخرُ الأشهر الثلاثة)، فارتَضَى الصحابة أنَّ شهر محرّم هو مبدأ التاريخ الهجري، أي: هِجرة محمّد [2]. فمِن هنا ابتدأ التاريخ الهجريّ، وهو اليومَ السادِس والعشرون بعد الأربَعة مائة وألف من مهاجر محمد.
هذا الشهر خصائصُه ما بيّنه النبيّ من كونِه استحبَّ لنا أن نصومَ اليومَ العاشر من هذا الشهر، أي العاشر من شهر محرّم، وكان هذا اليومُ يومًا معظَّمًا في الجاهلية، كان أهلُ الجاهليّة يصومونه، وهو مما تلقَّوه من أهل الكتاب، وصامه النبيّ معهم بمكّة، فلمّا هاجر إلى المدينة أوجَبَ على الصحابةِ صِيامه وقال: ((من أصبَحَ وقد أكل فليتِمَّ صومَه، ومن لم يكن أكَلَ فليمسِك بقيّةَ يومه)) [3] ، ثمّ لما افترَض الله على المسلمين صِيامَ شهر رمضان جعَل النبيّ صيامَه سُنّةً، من أحبَّ أن يصومَ فليصم، ومن لا فلا شيءَ عليه؛ لأنَّ المسلمين مجمِعوه على أنّ الشهرَ الذي يجب صومُه بِابتداءِ الشّرع هو شهر رمضان خاصّة، وما سِوى ذلك فإنما هو من السّنَن والمستحبّات.
أيّها المسلمون، النبيّ لما قدِم المدينة ووجد اليهودَ يصومون ذلك اليوم فسألهم عن سبَب الصيام، فقالوا: إنّه اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومَه، واليوم الذي أغرق فيه فرعونَ وقومه، فصمناه شكرًا لله، فقال لهم محمّد : ((نحن أولى وأحقُّ بموسى مِنكم)) [4]. أجل، إنَّ محمدًا وأمّتَه أولى بموسى وأولى بجميعِ الأنبياء؛ لأنَّ محمّدًا وأمّته آمنوا برسالاتِ جميع الأنبياء الذين ابتَعثَهم الله وصدّقوهم وإن كان الاتِّباع والتّأسِي إنما هو بمحمّد ، آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة:285]، والله يقول: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:68]. فمحمّد وأمّتُه أولى النّاس بالأنبياءِ؛ لأنهم صدَّقوهم وآمنوا بصحَّة ما جاؤوا به، وأنهم رسلُ الله حقًّا، أدَّوا الواجبَ الذي عليهم، وبلَّغوا رسالاتِ الله أُمَمَهم.
فمِن هنا صام النبيّ هذا اليوم، وصِيامنا لهذا اليومِ إنما هو اقتداءٌ بنبيِّنا وتأسٍّ بنبيِّنا ، صام النبيّ اليومَ العاشِر مدّةَ بقائه بالمدينةِ، وقال بعد ذلك في آخر العام العاشر: ((لئن عِشتُ إلى قابلٍ لأصومَنّ التاسعَ)) [5] يعني: مع العاشِرِ، وقال لنا: ((صوموا يومًا قبله أو يَومًا بعدَه؛ خالِفوا اليهودَ)) [6]. فأمَرنا أن نسبِقَ اليومَ العاشر إمّا باليوم التاسع، أو نصومَ اليوم الحادي عشر، فلا بدّ من صيام اليوم العاشر، لكن يستحَبّ لنا إمّا أن نسبِقَه بيوم أو نأتيَ بيومٍ بعده، فإما أن نصومَ مع العاشر التاسعَ، وإما أن نصومَ مع العاشر الحاديَ عشر. ونبيُّنا يعظِّم صومَ ذلك اليوم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما علِمتُ رسول الله صام يومًا يستحبّ فضلَه على الأيّام إلا هذا اليوم يعني: يوم عاشوراء [7] ، وقال أبو قتادةَ عن رسولِ الله قال: ((صيامُ يومِ عاشوراء أحتَسِب على الله أن يكفِّر به السّنةَ [التي قبله])) [8].
أيّها المسلم، فصم هذا اليومَ احتسابًا ورجاءً للثواب. وهذا اليومُ أعني اليومَ العاشر احتِمال أن يكونَ الجُمعة الآتي يومَ العاشر، أو يكون اليوم التاسع، فمن صام الجمعةَ الآتية والسّبتَ فإنّه بتوفيقٍ من الله صام اليومَ العاشِر أكيدًا، فصام يوم الجمعة وصام اليوم الحادي عشر وهو يومُ السبت، ومن صام الخميسَ والجمعة فقد صام اليومَ العاشر وسبَقَه باليوم التاسِع، المهمّ أن نصومَ هذا اليومَ احتسابًا ورَجاءً للثواب واقتداءً بسنّة محمد ، وموالاةً لأنبياءِ الله، فموسى عليه السلام صامه شكرًا لله، ونحن نصومه أيضًا شكرًا لله على إنجاء موسى وقومِه وإغراقِ فرعون وقومِه، لكننا تأسَّينا بنبيّنا في صيامِه حيث شرع لنا الصيامَ، فصمناه اقتداءً به وتأسّيًا به.
أسأل الله أن يباركَ لنا ولكم في الأعمار والأعمال، وأن يجعل أعمالَنا وأعمارنا في خيرٍ وسلامة وعافية، وأن يوفِّقَنا لعملٍ صالح، إنه على كل شيء قدير.
في الحديثِ يقول : ((إذا أرادَ الله بعبدٍ خيرًا استعمله)) ، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: ((يوفِّقه لعملٍ صالح قبل الوفاة)) [9] ، فيعينه على الخير، ويفتح له أسبابَ الخير، فاسألِ الله الثباتَ على الحقّ والاستقامةَ على الهدى، واعلم أنَّ ما مضى مِن العمر فلن يعودَ إلى أن توافِيَ الله به يومَ القيامة، كلّ يومٍ كلّ شهرٍ كلّ عامٍ مضى فلن يعودَ، صحائفُ أعمالنا سنَقِف عليها يوم لقاءِ الله، وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:46].
واعلَموا ـ رحمَكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهَديِ هدي محمَّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ.
وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ علَى نبيّكم محمّد امتثالا لأمَر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محَمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: فضل صوم المحرم (1163) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] قصة تأريخ عمر أخرجها الحاكم (3/15) من طريق سعيد بن المسيب قال: جمع عمر الناس، قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي، لكن في سماع سعيد من عمر خلاف، وأخرج الطبري سبب تأريخ عمر في تاريخه (2/3) من طريق الشعبي قال: كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر... وهو مرسل، وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف.
[3] أخرجه البخاري في الصوم (2007)، ومسلم في الصيام (1135) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه نحوه.
[4] أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، ومسلم في الصيام، باب: فضل صوم يوم عاشوراء (1130) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[5] أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء؟ (1134) عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[6] أخرجه أحمد (1/241)، والبزار (1052 ـ كشف الأستار ـ)، والحميدي (485)، والبيهقي (4/287)، وصححه ابن خزيمة (2095)، لكن في سنده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيئ الحفظ، قال الهيثمي في المجمع (3/188-189): "فيه كلام"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3508)، وصح موقوفًا عند عبد الرزاق (7839)، والطحاوي (2/78)، والبيهقي (4/287).
[7] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (2006)، ومسلم في كتاب الصيام (1132) نحوه.
[8] أخرجه مسلم في كتاب الصيام (1162).
[9] أخرجه أحمد (3/106، 120، 230)، والترمذي في القدر (2142)، وعبد بن حميد (1393)، وابن أبي عاصم في السنة (393)، وأبو يعلى (3756، 3821، 3840)، والطبراني في الأوسط (1941)، والبيهقي في الاعتقاد (ص157-158) عن أنس رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (341)، والحاكم (1257)، والضياء في المختارة (1936، 1937، 1938)، وهو في السلسلة الصحيحة (1334).
(1/3783)
حقوق الجوار
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النصوص الواردة في الوصية بالجار والإحسان إليه. 2- من حقوق الجار. 3- أنواع الجيران. 4- من مظاهر أذية الجار.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله عز وجل: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36].
النصوص الشرعية جاءت تحض على احترام الجوار ورعاية حق الجار بالتكرمة والاحترام وكفّ الأذى ودفع الضرر والبِشْر في الوجه والإهداء. فالجار ذو القربى هو الذي بينك وبينه قرابةٌ، والجار الجنب هو الذي لا قرابة بينك وبينه.
أما السنة فمنها قوله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) ، وقوله : ((خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره)) ، وقوله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)) ، وقوله : ((كم من جار متعلّق بجاره يوم القيامة، يقول: يا رب، هذا أغلق بابه دوني فمنع معروفه)) ، وقيل للنبي : إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار وتفعل وتصدق وتؤذي جيرانها بلسانها، فقال رسول الله : ((لا خير فيها، هي من أهل النار)) ، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة وتصوم رمضان ولا تؤذي أحدًا، فقال رسول الله : ((هي من أهل الجنة)) ، وقال : ((يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة)) أي: ولو رِجل شاة، لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا، ولو أن تهدي لها ما لا يُنتفع به في الغالب؛ لتوادِد الجارة جارتها بهدية ولو حقرت، فيتساوى في ذلك الغني والفقير، وخص النهي بالنساء لأنهن موارد المودة والبغضاء، ولأنهن أسرع انفعالاً في كل منهما.
وشكا رجل إلى النبي جاره فقال: ((احمل متاعك فضعه على الطريق، فمن مر به يلعنه)) ، فجعل كل من يمر به يلعنه، فجاء إلى النبي فقال: ما لقيتُ من لعنة الناس؟! فقال: ((إن لعنة الله فوق لعنتهم)) ، وقال للذي شكا: ((كُفِيت)) أو نحوه. وقال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)) ، وقال : ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب، فمن أعطاه الإيمان فقد أحبه. والذي نفس محمد بيده، لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه)) ، وقال : ((لا يشبع الرجل دون جاره)).
قال رجل من الأنصار: خرجت من أهلي أريد النبي ، فإذا به قائم ورجل معه مقبل عليه، فظننت أن لهما حاجة، فلما انصرف قلت: يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرجل حتى جعلت أرثي لك من طول القيام، قال: ((أوقد رأيته؟)) قلت: نعم، قال: ((أتدري من هو؟)) قلت: لا، قال: ((ذاك جبريل، ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه)) ، حتى ظننت أنه يشارك في المال بفرض سهم يعطاه مع الأقارب، وأن ينزل منزلة من يرث بالبر والصلة، والميراث المعنوي ميراث العلم، فإن حق الجار على الجار أن يعلمه ما يحتاج إليه.
وقال ابن عمر لغلامه: يا غلام، إذا سلخت الشاة فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مرارًا، فقال له: كم تقول هذا؟! فقال: إن رسول الله لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه. وأمر عبد الله بن عمرو لما ذبحت له شاة أن يهدي منها لجاره اليهودي.
وكان من دعاء رسول الله : ((اللهم إني أعوذ بك من جار سوء في دار المقامة، فإن جار البادية يتحول)).
وجاء رجل إلى ابن مسعود فقال له: إن لي جارًا يؤذيني ويشتمني ويضيق عليّ، فقال له ابن مسعود: (إن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه).
فحقّ الجار غير الصالح إرادة الخير له وموعظته بالحسنى والدعاء له بالهداية وترك الإضرار له إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفّه عن الذي يرتكبه بالحسنى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضًا، ويستر عليه وينهاه برفق، فإن أفاد فبه، وإلا فيهجره قاصدًا تأديبه على ذلك، مع إعلامه بالسبب ليكفّ، وفي هذا المعنى قال ابن الوردي في لاميته:
دارِ جارَ الدار إن جار وإن لم تجد صبرًا فما أحلى النقل
قال ثوبان صاحب رسول الله : (ما من جار يظلم جاره ويقهره حتى يحمله ذلك على أن يخرج من منزله إلا هلك). وهذا المعنى يظهر واضحًا جليًّا في قوله لأصحابه: ((ما تقولون في الزنا؟)) قالوا: حرّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال رسول الله : ((لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره)) ، وقال: ((ما تقولون في السرقة؟)) قالوا: حرمها الله ورسوله، فهي حرام، قال: ((لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره)).
وقال صلوات الله وسلامه عليه: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)) أي: شرّه والداهية والشيء المهلك والأمر الشديد الذي يوافى بغتة، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:32-34]، أو يوبقهن: يهلكهن، وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِي الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا [الكهف:52] موبقًا أي: مهلكًا.
((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)). فمن ينزل الهلاك والشرّ والشدة والمباغتة والمخاتلة في جاره فقد حكم عليه من لا ينطق عن الهوى بالنقص في إيمانه، ففي هذا الحديث تأكيد حق الجار؛ لقَسَمِه على ذلك, وتكريره اليمين ثلاث مرات, وفيه نفي الإيمان عمن يؤذي جاره بالقول أو بالفعل, ومراده الإيمان الكامل، ولا شك أن العاصي غير كامل الإيمان.
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره)) ، وقوله : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) ، واسم (الجار) جاء في هذا المقام يشمل المسلم وغير المسلم, والعابد والفاسق, والغريب والبلدي, والنافع والضار, والقريب والأجنبي, والأقرب دارًا والأبعد, وله مراتب بعضها أعلى من بعض؛ فجارٌ له حق, وهو الذمّي الأجنبي له حق الجوار.
إذا ما عملتِ الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
كريمًا قصيًّا أو قريبًا فإنني أخاف مذمّات الأحاديث من بعدي
وكيف يشبع المرء زادًا وجاره خفيف المعي بادي الخصاصة والجهد
وللموت خير من زيارة باخل يلاحظ أطراف الأكيل على عمد
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا وما فيّ إلا تلك من شيمة العبد
ومن الجيران من له حقّان، وهو المسلم الأجنبي، له حق الجوار وحق الإسلام. وجارٌ له ثلاثة حقوق، وهو المسلم القريب، له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة.
وأولى الجوار بالرعاية من كان أقربهم بابًا، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربهما منك بابًا)). والحكمة في ذلك أن الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هدية وغيرها فيتشوّف لها، بخلاف الأبعد، وأن الأقرب أسرع إجابة لما يقع لجاره.
متى نشأت ريحٌ لقدرك فابعثي لجارتك الدنيا قليلاً ولا تملي
فإن يسير الطعم يقضي مذمة ولا سيما للطفل أو ربّة الحمل
وليس من حقوق الجوار كف الأذى فقط, بل احتمال الأذى, بل لا بد من الرفق وإسداء الخير والمعروف، وأن يبدأ جاره بالسلام, ويعوده في المرض, ويعزّيه عند المصيبة, ويهنئه عند الفرح, ويشاركه السرور بالنعمة, ويتجاوز عن زلاته, ويغض بصره عن محارمه, ويحفظ عليه داره إن غاب, ويتلطّف بولده, ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه.
وإذا صعدت على سطح منزلك ورأيت عورة لجارك فحق الإسلام غض البصر، وحق الجوار عدم خيانة جارك، وهذا الحكم يدخل فيه الصعود إلى السطح أو النظر من النوافذ أو الشرفات أو النظر مما يسمّى بالمنور، ففيه النوافذ المطلة على أخيك المجاور، فمن الأدب والإسلام أن تستأذن قبل صعودك، كي لا تؤذي مسلمًا في بيته.
إذا شئت أن ترقى جدارك مرة لأمر فآذِن جار بيتك من قبل
ولا تفجأنْه بالطلوع فربما أصاب الفتى من هتك جارته خبل
جاء رجل فقام على النبي يستأذن مستقبل الباب، فقال له النبي : ((هكذا عنك)) يعني نحّاه، وأمره بالتباعد قليلاً عن مواجهة فتحة الباب، ثم قال له: ((فإنما الاستئذان من أجل النظر)). وقال رسول الله : ((لا يحل لامرئ أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل)) ، أي: فإن نظر قبل أن يستأذن صار في حكم الداخل بلا استئذان، وهو محرّم عليه. وقال رسول الله : ((إذا دخل البصر فلا إذن له)).
قال عمر بن الخطاب : (من ملأ عينه من قاعة بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق). واطلع رجل من ثقب أو خرق في حجرة النبي ، ومع النبي مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله قال: ((لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)).
من المظاهر غير اللائقة دينيًا وخلقيًا وذوقيًا واجتماعيًا أن تربي حيوانات وطيورًا بأنواعها المختلفة ضمن المسكن المشترك بينك وبين غيرك، حيث تتسلط على جيرانك الروائح الكريهة والحشرات والإزعاج.
ويدخل في الإزعاج ارتفاع صوت المذياع أو المرئية أو الموسيقى الصاخبة أو تشغيل الآلات الكهربائية المزعجة وقت الراحة والهدوء، كتشغيل المكنسة الكهربائية أو الغسالة أو استخدام المطرقة أو المثقاب (الترابنو)، والأسوأ من ذلك أذية الجار بالكلام البذيء والسباب والشتم.
لقد رحل الحي المقيم وودعوا فتى لم يكن بإزائه من ينازله
ولم يك يخشى الجار منه إذا دنا أذاه ولا يخشى الحريمة سائله
فتى كان للمعروف يبسط كفه إذا قبضت كف البخيل ونائله
ليس من حسن الجوار ولا من اللائق أن يكون بين البيوت طاحونة أو ورشة حدادة أو ورشة طلاء سيارات أو محل موسيقى أو قهوة يجتمع فيها الرجال ويواجهون أبواب وشرفات ونوافذ البيوت.
من المظاهر السيئة عدم إصلاحك خزان مياهك فوق العمارة، مما يسبب أذى الجيران بالمياه، أو برمي الأوساخ من النوافذ وعلى شرف الجيران، وهذه الأخلاق مرفوضة من حيث الدين، ومن حيث الخلق، قال رسول الله : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
من المظاهر السيئة غلق الطريق المشاع بين جميع السكان والجيران بالسيارة وغيرها، أو توسيخ طريقه بماء الغسل أو المجاري.
ومن حسن الجوار أن يستشير ويعرض على جاره محله قبل بيعه، فجار الدار أحق بالدار، والجار أحق بصقبه.
فكم فيهم من سيد وابن سيد وفيّ بعقد الجار حين يفارقه
يكاد الغمام الغرّ يرعد أن يرى وجوه بني لأم وينهلّ بارقه
من حق الزوجة والأسرة أن يوفر وليهم لهم بيتًا بين جيران صالحين, تأمن فيه الزوجة على نفسها.
ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جارًا لي أجاوره أن لا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي برزت حتى يغيّب جارتي الخدر
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3784)
أدب المسلم في أداء حق أخيه الميت والمريض
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فوائد زيارة المريض. 2- من آداب زيارة المريض: عدم الإطالة عليه، النظافة والتطيب، عدم الحديث عما يغمه، سؤاله عن مرضه بغير استقصاء، الحذر من وصف الدواء من غير طبيب، اللباقة في إخباره عن المكروه. 3- أهمية التعزية وآثارها. 4- من آداب التعزية: الصلاة على الميت، تشييع الجنازة، ما يُندب قوله في التعزية.
_________
الخطبة الأولى
_________
من حق أخيك المسلم إذا مرض أن تعوده، ففي ذلك تعهد وسقي لشجرة الأخوة والرابطة الإسلامية، وفي ذلك أيضًا أجر جزيل لك، لا يفرط فيه الحريص على زيادة حسناته، قال سيدنا رسول الله : ((من عاد مريضًا لم يزل يخوض في الرحمة حتى يجلس، فإذا جلس اغتمس فيها)).
وعندما تزور المريض لا تنس أن لزيارته آدابًا تطلب من زائره، حتى تكون الزيارة منعشة له، رافعة من معنوياته، معينة على تخفيف آلامه، زائدة في صبره وراحته وأجره.
فينبغي لعائد المريض أن لا يطيل الجلوس عنده؛ لأن له من الحالات المرضية الخاصة ما لا يسمح بإطالة الجلوس عنده، فعيادة المريض كجلسة الخطيب يوم الجمعة بين الخطبتين في قصرها وخفتها، وقد قيل في هذا أيضًا:
أدب العيادة أن تكون مُسَلّمًا وتقوم في إثر السلام مودّعا
حُسن العيادة يوم بين يومين واقعد قليلاً كمثل اللّحظ بالعين
لا تُبرمِنّ عليلاً في مساءلة يكفيك من ذاك تسأله بحرفين
يعني تقول: شفاك الله.
قال الحافظ الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى في آخر كتابه الكافي في فقه السادة المالكية: "ومن زار صحيحًا أو عاد مريضًا فليجلس حيث يأمره، فالمرء أعلم بعورة منزله. وعيادة المريض سنة مؤكدة، وأفضل العيادة أخفها، ولا يطيل العائد الجلوس عند العليل، إلا أن يكون صديقًا يأنس به ويسره ذلك منه".
وينبغي لعائد المريض أن يكون نقي الثوب طيب الرائحة نظيفًا؛ لتنشرح نفسه، وتنتعش صحته، ولا يحسن أن يدخل إليه بملابس الزينة والأفراح، كما لا يحسن أن يكون متطيبًا بطيب شديد الرائحة، فقد يزعج المريض ويؤذيه؛ لضعف تحمله ووهن قوته.
وينبغي للعائد أن لا يخبر المريض أو يتحدث عنده بما يغمه، من خبر تجارة خسرت له فيها سبب أو صلة، أو ذكر ميت، أو خبر رديء لمريض، أو نحو ذلك مما يكدر المريض أو يحزنه أو يؤثر على صحته أو شعوره.
ولا ينبغي للعائد أن يستخبر عن مرض المريض استخبار متقصّ، فإن ذلك التقصي من العائد لا ينفع المريض، إلا أن يكون طبيبًا له اختصاص بمرضه.
ولا ينبغي للعائد أن يشير على المريض بدواء ولا بغذاء قد كان نفعه هو، أو سمع بأنه نافع، فإن ذلك ربما حمل المريض ـ بجهله أو لشدة ما به ـ أن يستعمله، فيضر به، ويفسد على الطبيب عمله، وربما كان ذلك سببًا لهلاك المريض.
ولا ينبغي للعائد أن يعارض الطبيب بحضرة المريض إذا لم يكن من أهل العلم والاختصاص، فيوقع للمريض الشك فيما وصفه الطبيب.
ومن الأدب أنك إذا اضطررت إلى الإخبار عن أمر مكروه أو وقوع حادث مفجع أو وفاة قريب أو عزيز على صاحبك أو قريبك أو ما شابه ذلك فيحسن بك أن تلطف وقع الخبر على من تخبره به، وتمهد له تمهيدًا يخفف نزول المصاب عليه، فتقول فيمن تخبر عن وفاته مثلا: بلغني أن فلانًا كان مريضًا مرضًا شديدًا، وزادت حاله شدة، وسمعت أنه توفي رحمه الله تعالى.
ولا تخبر عن وفاة ميت بنحو ما يقوله بعضهم: أتدري من توفي اليوم؟! أو بقولك: توفي اليوم فلان، بل ينبغي أن تبدأ باسم الذي تخبر عن وفاته قبل ذكر وفاته؛ لأن من تخبره بذلك حين تسأله: أتدري من توفي اليوم؟ أو تقول له: توفي اليوم، يتبادر فورًا إلى ذهنه المروعات الشداد، فيقدر أن الوفاة وقعت بأقرب الناس إليه من مريض أو كبير أو شاب، فيتروع بهذه الصيغة منك في السؤال أو الإخبار أشد الترويع، ولو قلت له: فلان توفي اليوم فبدأت باسم من تخبر عن وفاته لخفَّ الوقع عليه، وانتفى الترويع، وبقي أصل الخبر المحزن أو المكروه.
وكذلك ينبغي أن تراعي صيغة الإخبار عن الحريق أو الغريق أو الحادث، فمهّد له بالتمهيد الذي يخفّف شدة وقعه على النفس، واذكر اسم المصاب به متلطفًا، ولا تصكّ سمع صاحبك أو قريبك أو مجالسك بالخبر المفجع صكًّا، فإن بعض القلوب يكون تحملها ضعيفًا، فربما تأذَّى بالخبر المفجع أشد الأذى، وربما يصعق بعض الأفراد بذلك، أو يغمى عليه، أو يصاب في سمعه أو بصره، فتلطف في الإخبار عن المفجعات إذا اضطررت إلى ذلك.
وتحيّن الوقت الملائم لإخباره إذا كان هناك داع للإخبار، فلا تخبره بذلك وهو على طعام أو قبل النوم أو في حالة مرض أو استفزاز أو نحو ذلك من الأحوال، والحكمة والكياسة في هذا المقام من أفضل ما تتحلى به، والله يتولاّك ويرعاك.
وإذا أصيب قريب لك أو عزيز عليك بموت أحد من أسرته أو من يلوذ به أو يعز عليه فلا تنس تعزيته بمصابه، ولا تبطئ بها، وأظهر له المشاركة في أساه وحزنه، فإن ذلك من حق القرابة والصداقة والإسلام، وإن أمكنك تشييع الميت إلى قبره فافعل، فإن لك بذلك أجرًا كبيرًا، وموعظة بالغة صامتة، ودرسًا يعرفك ويذكرك بالمصير المحتوم لكل مخلوق.
وكانت في حياتك لي عظات فأنت اليوم أوعظ منك حيًّا
قال سيدنا رسول الله : ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز...)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((عودوا المرضى واتبعوا الجنائز تذكركم الآخرة)) رواه الإمام أحمد.
وعند تعزيتك ومواساتك أخاك أو قريبك أو أحد معارفك بمصابه يستحب أن تدعو لأخيك الميت بمثل ما دعا سيدنا رسول الله لأبي سلمة رضي الله عنه حين توفي وعزَّى به أهله: ((اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين ـ أي: كن له خليفة في ذريته الباقين من أسرته ـ، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونوّر له فيه)) رواه مسلم.
ويحسن أن يكون حديثك مع المعزَّى فيما يتّصل بتخفيف وقع المصيبة، بذكر أجرها وأجر الصبر عليها، وأن الحياة الدنيا فانية منقضية، وأن الآخرة هي دار القرار. ويحسن ذكر بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المذكرة بذلك، وذكر بعض الكلمات البليغة لبعض السلف، فتذكر مثل قول الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، ومثل قوله سبحانه: كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185]، ومثل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26، 27].
وتذكر مثل قول النبي : ((اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها)) ، وقوله : ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى)) ، وقوله في توديعه لابنه إبراهيم عليه السلام حين توفي: ((إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)).
ومن المناسب أن تذكر من أقوال السلف في شأن التعزية وتهوين وقع المصاب، من ذلك قول سيدنا عمر رضي الله عنه: (كل يوم يقال: مات فلان وفلان، ولا بد من يوم يقال فيه: مات عمر)، وتذكر قول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "إن رجلاً ليس بينه وبين أبيه آدم أب حي لعريق في الموت"، وقول التابعي الجليل الحسن البصري رحمه الله تعالى: "يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك"، وقوله أيضًا: "إن الموت لم يجعل للمؤمنين راحة دون الجنة"، وقول مالك بن دينار تلميذ الحسن البصري رحمهما الله تعالى: "عرس المتقين يوم القيامة".
قال الشاعر:
وإنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يُدني من الأجل
ومن لطيف الشعر الذي قيل في حال التعزية قول القائل:
إنا نعزيك لا أنا على ثقة من الحياة ولكن سنة الدين
فما المعزَّى بباق بعد ميته ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حين
ومن لطيف ما يناسب المقام قول القائل:
نموت ونحيا كل يوم وليلة ولا بد من يوم نموت ولا نحيا
وقول آخر وقد صوّر الحياة والغفلة عن نهايتها صورة صادقة:
وإنا لفي الدنيا كركبِ سفينة نظن وقوفا والزمان بنا يجري
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3785)
من أدب الإسلام في الاستئذان وحرمة البيوت
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الرفق في طرق الباب. 2- الطرق ثلاث مرات بينها فاصل. 3- عدم الوقوف أمام الباب. 4- التعريف باسمك الصريح عند سؤالهم عنك. 5- التماس الأعذار لمن لم يستقبلك. 6- أب غض البصر عند الاستئذان.
_________
الخطبة الأولى
_________
إذا طرقت باب أخيك أو صديقك أو بعض معارفك أو أحد تقصده فدقّ الباب دقًّا رفيقًا يُعرّفه وجود طارقٍ بالباب، ولا تدقّه بعنف وشدة فتروّعه وتخلّ بالأدب. جاءت امرأة إلى الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لتسأله عن شيء من أمور الدين، ودقت الباب دقًّا فيه بعض العنف، فخرج وهو يقول: "هذا الشُّرَط"، جمع شُرطي. وقد كان الصحابة يقرعون باب رسول الله بالأظافر، أدبًا منهم مع رسول الله.
وهذا الدق اللطيف الرفيق مطلوب فيمن كان جلوسه قريبًا من بابه، وأما من بعد عن الباب فيقرع عليه قرعًا يسمعه في مكانه من غير عنف، فإن الرّفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه، وقال عليه الصلاة والسلام : ((من يحرم الرفق يحرم الخير كله)).
وينبغي أن تجعل بين الدقتين زمنًا غير قليل؛ ليفرغ المتوضّئ من وضوئه في مهل، ولينتهي المصلي من صلاته في مهل، وليفرغ الآكل من لقمته في مهل. وقدّر بعض العلماء الانتظار بين الدقتين بمقدار صلاة أربع ركعات، إذ قد يكون في بدء طرقك الباب قد بدأ بصلاتها.
وإذا طرقت ثلاث مرات متباعدة ووقع في نفسك أنه لو كان غير مشغول عنك لخرج إليك فانصرِف، فقد قال رسول الله : ((إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فلينصرف)).
ولا تقف عند استئذانك أمام فتحة الباب، ولكن خذ يَمْنة أو يَسْرة، فقد كان رسول الله إذا أتى باب قوم لم يستقبله من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر.
وإذا طرقت بابًا فقيل لك: من هذا؟ فقل: فلان، باسمك الصريح الذي تُعرف به، ولا تقل: واحد، أو أنا، أو شخص، فإن هذه الألفاظ لا تفيد السائل من خلف الباب معرفةً بالشخص الطارق. ولا يصح لك أن تعتمد على أن صوتك معروف عند من تطرق عليه؛ فإن الأصوات تلتبس وتشتبه، وإن النغمة تشبه النغمة، وليس كل من في الدار التي تطرق بابها يعرف صوتك وحسك أو يميزه، والسمع في تمييزه الأصوات يخطئ ويصيب.
وقد كره النبي قول الطارق: أنا؛ لأنها لا تفيد شيئًا، قال جابر بن عبد الله : أتيت النبي فدققت الباب، فقال لي: ((من هذا؟)) فقلت: أنا، فقال النبي : ((أنا، أنا)) ، كأنه كرهها.
ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يسمون أنفسهم إذا قيل لهم: من هذا؟ قال أبو ذر : خرجت ليلة من الليالي، فإذا رسول الله يمشي وحده، فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني، فقال: ((من هذا؟)) فقلت: أبو ذر. وقالت أم هانئ أخت سيدنا علي وابنة عم النبي رضي الله عنها: أتيت النبي وهو يغتسل وفاطمة تستره، فقال: ((من هذه؟)) فقلت: أنا أم هانئ.
و إذا زرت بدون موعد أو على موعد سابق فاعتَذَر لك المزور عن قبول زيارتك له فاعذره؛ فإنه أدرى بحال بيته وملابسات شأنه، فقد يكون جدّ لديه مانع من الموانع الخاصة، أو حصل عنده من الحرج ما لا يسمح له باستقبالك وقتئذ. قال التابعي الجليل قتادة بن دعامة السدوسي: "ولا تقفن على باب قوم ردوك عن بابهم، فإن لك حاجات ولهم أشغالاً، وإنهم أولى بالعذر". وكان الإمام مالك يقول: "ليس كل الناس يقدر أن يتكلم بعذره". ولذا كان من أدب السلف عند زيارتهم أن يقول الزائر للمزور: لعله بدا لك مانع، تمهيدًا لبسط العذر من المزور فيما لو اعتذر.
ولأهمية هذا الأدب واقتلاع ما قد يعلق ببعض النفوس من جرّاء الاعتذار نص الله تعالى عليه في كتابه الكريم، فقال في معرض الزيارة والاستئذان والدخول: وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [النور:28]. وفي هذا الأدب القرآني العظيم مندوحة عما يقع فيه بعضهم حين يحرج بزيارة من لا يرغب بلقائه، فيضطر إلى الإخبار بعدم وجوده في البيت ويكون هو فيه، فيقع منه الكذب، ويتعلم صغاره منه ذلك الخلق المكروه أيضًا، وقد ينجم عن سلوكه هذا العداوة والإحن في الصدور. والهدي القرآني الكريم جنبنا الوقوع في ذلك كله، إذ جعل بوسع المزور أن يتلطف بالاعتذار لأخيه، وطلب من أخيه أن يقبل عذره: وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [النور:28].
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه الأذكار في أواخر باب في مسائل تتفرع على السلام: "يستحب للمسلم استحبابًا متأكدًا زيارة الصالحين والإخوان والجيران والأصدقاء والأقارب، وإكرامهم وبرهم وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم، وينبغي أن تكون زيارته لهم على وجه لا يكرهونه، وفي وقت يرتضونه، والأحاديث والآثار في هذا كثيرة مشهورة".
وعندما تستأذن على بيت غيرك لتدخل إليه حافظ على بصرك من أن يقع على داخل الدار أو عورة فيها، فإن ذلك عيب وإساءة، فقد جاء رجل فقام على النبي يستأذن مستقبل الباب، فقال له النبي : ((هكذا عنك)) ، يعني نحّاه وأمره بالتباعد قليلاً عن مواجهة فتحة الباب، ثم قال له: ((فإنما الاستئذان من أجل النظر)). وقال رسول الله : ((لا يحلّ لامرئ أن ينظر إلى جوف بيت حتى يستأذن، فإن فعل فقد دخل)) أي: إن نظر قبل أن يستأذن صار في حكم الداخل بلا استئذان، وهو محرم عليه. قال رسول الله : ((إذا دخل البصر فلا إذن له)). قال عمر بن الخطاب : (من ملأ عينه من قاعة بيت قبل أن يؤذن له فقد فسق). واطلع رجل من ثقب أو خرق في حجرة النبي ، ومع النبي مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله قال: ((لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)).
وهذا الخلق يتأكد ويزداد طلبًا ممن يسكن في الأماكن المرتفعة كالعمارات، أو من يعمل أو يكون في الأسطح أو الشرفات، أو يعمل في مكتب، أو يكون في سيارة أو شاحنة أو حافلة مرتفعة وفي جواره سيارة منخفضة فيها نساء مؤمنات هن بمثابة أخته أو زوجته، أو يقف في شارع ومقابله نافذة أو شرفة أو باب مفتوح، فلا يحل لك إلا غض البصر وعدم التجسس وعدم أذية المؤمن في بنته أو أخته أو زوجته، وكذلك يتوجب على رواد الأسطح أن لا ينظروا مما يُسمّى (بالمنور)، ومنه تطل نوافذ دورات المياه وغرف النوم، ففي ذلك هتك لعورات المسلمين، والكفار يتنزهون عن هذه القاذورات، فمن الأولى بالمسلمين أن يتقوا الله في إخوانهم المسلمين، وكما تدين تدان، فكما أنك تكره أن تتأذى في عرضك فكذلك إخوانك، وأحب لأخيك ما تحب لنفسك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3786)
خطر الإشراك بالله
التوحيد
أهمية التوحيد, الشرك ووسائله
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بين يدي الحديث. 2- فضل التوحيد وخطر الشرك. 3- تعريف الشرك وبعض تجلياته في واقعنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا أُنَبِّئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبائرِ؟)) ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول اللّه، قال: ((الإِشْرَاكُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الوالِدَيْنِ)) ، وكان متكئًا فجلسَ فقال: ((ألا وَقَوْلُ الزُّور وَشَهادَةُ الزُّورِ))، فما زال يُكرّرها حتى قلنا: ليته سكت. متفق عليه.
هذا الحديث ـ إخواني الكرام ـ من أحاديثه العظيمة النفيسة الغالية التي ينبهنا فيها على أمور خطيرة وعظيمة سماها أكبر الكبائر، يعني الذنوب الكبيرة, بل أكبر هذه الذنوب الكبيرة؛ لأنه نظرا لرحمته بنا ونظرا لحبه الخير لنا لم يكن يبين لنا الكبائر فقط والمعاصي فحسب, وإنما كان عليه الصلاة السلام ينبهنا ويبين لنا الذنوب الكبيرة؛ وذلك لأن الذنوب درجات، وأكثر من ذلك لا يبين لنا الكبائر فقط، وإنما يبين لنا الأخطر منها: أكبر الكبائر، فلذلك قال لصحابته: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)).
ومن حقنا أن نتساءل من البداية: لماذا يدلنا على الكبائر ويبين لنا أكبرها؟ هل ديننا لم يرد فيه إلا التخويف والخطر؟ لا، إنّ هناك أمورا عظيمة صالحة طيبة بيّنها ربنا سبحانه، ولكن ـ إخواني الكرام ـ قبل ذلك وبعده كان من منهج ربنا سبحانه في كتابه ومن منهج نبيه في سنته أن يبين لنا الكبائر لنعرفها، لم؟ حتى نتمكن من اجتنابها.
مرارا أذكر قول حذيفة بن اليمان, يبين لنا في حديثه العظيم دافعه إلى هذا النوع من الاهتمام فيقول: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني. فلماذا كان يسأله عن الشر؟ لماذا حذيفة كان حريصا على معرفة الشر؟ حتى يتمكن من اجتنابه.
((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) كلام في الحقيقة يقشعر منه الجلد، الصحابة كلّهم قالوا بلسان واحد: بلى يا رسول الله، يعني: هذا الذي نحرص عليه, هذا الذي جئنا من أجله. وهنا ـ إخواني ـ أفتح قوسا لأقول: إن الجهة الوحيدة الكفيلة بتعليمنا هذا الأمر هو رسول الله ، لا توجد أية جهة في أية دولة أو هيأة أو مؤسسة أو منظمة أو أي شخصية مهما علا كعبها يمكن أن تخبرنا بهذا؛ لأن هذا لا يصدر إلا عن مشكاة النبوة.
فيبدأ عليه الصلاة والسلام بذكر أول كبيرة ((الإشراك بالله)). هذه أكبر كبيرة وأخطر كبيرة وأعظم كبيرة، هي المصيبة التي لا تجبر, هي الكارثة التي لا دواء لها، يقول رب العزة: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:47].
لو تحدثنا عن الإشراك بالله ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ سنة أو سنتين لم نوفه حقه, ولن نكون مبالغين، ولن يكون كلامنا مملا. لماذا؟ لأن ربنا سبحانه وتعالى في كتابه العزيز يبين أنه إذا أصيب به فرد أو أسرة أو مجتمع فمصيره الهاوية.
تعرفون ـ إخواني الكرام ـ أن سيدنا معاذ بن جبل كان مع رسول الله في سفر, وكان حريصا على الاقتراب من مشكاة النبوة, فكان دائما يزاحم بناقته لكي يمشي بالمحاذاة معه كي يسمع كل كلمة تخرج من فمه الطاهر الشريف. وكان يعرف هذا الحرص، وكان يراعي هذا الميول فيزكيه ويقويه؛ فلذلك جعل من أمته أمة المتخصصين.
إذا أخذنا المتخصصين في القراءة المتفننين فيها نجد زيد بن ثابت وابن مسعود وأبا موسى الأشعري، هؤلاء كان النبي يعتني بهم عناية خاصة في القراءة. ينادي ابن مسعود ـ مثلا ـ فيقول له: ((اقْرَأْ عَلَيّ)) فَقال ابن مسعود: يَا رَسُولَ الله أقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟ قالَ: ((إِنّي أُحِبّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)) ، قال: فَقَرَأْتُ سُورَةَ النّسَاءِ حَتّى إذا بَلَغْتُ: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا [النساء:41] قالَ: ((حسبك)) ، قال: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْ النّبيّ تَهْمُلاَنِ. متفق عليه.
فها هو ذا ينادي معاذ رضي الله عنه قائلا: ((يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد، وحق العباد على الله تعالى؟)) سؤال يلخص الدين كله، فإنه أوتي جوامع الكلم. هل تدري ـ يا معاذ ـ ما العلاقة بين العباد وربهم؟ قال معاذ: الله ورسوله أعلم، فقال : ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا)) ، طيب: يعبدوه أي: يعرفوه ويطيعوه.
((وحق العباد على الله تعالى)) إذا قاموا بهذا, ما حقهم على ربهم؟ وهنا حق تفضّل وتمنّن؛ لأن الله تعالى غير مَدين لأحد منا بشيء؛ لو حاسبنا الله بأقلّ نعمة أنعم بها علينا في الحياة لاستغرقت حياتنا كلها. ((وحق العباد على الله أن يدخل كلّ من مات لا يشرك بالله شيئا الجنة)).
الموضوع ـ إخواني ـ ملخص في هذا، فمن ثَمَّ الذي عبد ربه ولم يشرك به لا خوف عليه، فالأمور الأخرى كلها معروضة على رحمة الله وعلى الأمل في الله والرجاء فيه، ففي الحديث القدسي المتفق عليه عن أبي هريرة: ((أَنَا عِنْدَ ظَنّ عَبْدِي فِيّ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي)). فمن لقي الله تعالى موحدا غير مشرك كان من أهل السعادة، عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه : ((لَقِّنُوا مَوْتاكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللّه)) أخرجه مسلم والترمذي. أتدرون ما معنى هذا الكلام: لقنوهم؟! لماذا؟ كي تحرص أن تكون آخر كلمة تخرج من فم أخيك المسلم مهما عظمت ذنوبه قبل أن يلقى ربه كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله".
وعن معاذ بن جبل رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه : ((مَنْ كَان آخِرَ كَلامِه لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ)) رواه أبو داود والحاكم وصححه. إذا ضمن المرء هذا فذلك شيء عظيم , فالناس يظنون أن هذا أمر سهل، والحقيقة أنه غير مضمون يا أخي. فكم من شخص يموت على غير لا إله إلا الله عقابا له يأتيه الموت بغتة، ربما فاجأه وهو في سهرة ماجنة أو سكران.
لماذا الحرص أن يكون آخر الكلام لا إله إلا الله؟ لأنها عنوان التوحيد وضد الشرك، فإذا قالها المسلم من أعماق أعماقه تطايرت عنه ذنوبه وتساقطت عنه. فكلمة التوحيد تجب الخطايا جبا وتمحوها محوًا. إن كلمة التوحيد ليست بالأمر السهل، فالذين دخلوا الإسلام بها لم يعد لتاريخهم المليء بالفجور والقتل والجرائم أي اعتبار؛ فلذلك كانت كلمة التوحيد أعظم كلمة, وكان الإشراك بالله أخطر ذنب.
ولمزيد بيان هذه الخطورة أسوق للإخوة آية وحديثا:
أما الآية فقوله سبحانه : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:62، 63]. ما أعظم هذه الآية، وما أوضح دلالتها على هذا الموضوع.
فالخطاب موجه للنبي ، والخطاب إذا وجه في القرآن إلى النبي دل ذلك على ثِقل الأمر وعظمه، يعني رغم كونك قائد الأمة ورسولها ونبيها فاحذر، كقوله تعالى: يَا أيُّهَا النَّبِيءُ اتَّقِ الله [الأحزاب:1]، وقوله: فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52].
وهو خطاب لمن سبق: وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ ، يعني أن هذه القضية الموجهة إليك ـ يا محمد ـ هي قضية ثابتة في تاريخ الرسالات كلها، فهي تمثل جوهر الدين؛ لأن الدين منذ آدم إلى محمد عليه الصلاة والسلام واحد، واحد في أصوله ومبادئه، شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى:13].
كما أن المراد مؤكّد بما عهد من أدوات التأكيد: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ ، مؤكد باللام والنون المشددة الثقيلة, أي: ليضيعنّ وليفسدنّ وليبطلنّ عملك؛ صلاتك وصومك وزكاتك وحجك وعمرتك وصدقتك وتربيتك لأبنائك وعملك من أجل الرزق عملك الصالح كله إذا أشركت بالله بطل كله، وما هو مصيرك؟ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، الخسارة الكبيرة الخسارة يوم لقاء الله، قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين [الزمر:14]، عافاني الله وإياكم.
أما الحديث فعن ابن مسعود رضي الله قال: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: ((أنْ تجعلَ لله ندًا وهو خَلَقَك)) رواه البخاري ومسلم. بمعنى أن تجعل لله الشريك والمثيل والشبيه، فالند في اللغة هو المثيل والقرين. أتهجوه ولست له بند فشرّكما لخيرِكما الفداء
لما كان الأمر ـ إخواني ـ بهذا كان حريا بنا أن نتساءل: ما هو الشرك؟ وما هي بعض مظاهره في واقعنا؟
إذا أردنا أن نقدم للشرك تعريفا جامعا مختصرا ومبسطا يمكن أن نقول: إذا أدخلنا مع الله شريكا في الأمور التي يختص بها فقد أشركنا، وإذا نسبنا أمورا تخصّه سبحانه وتعالى إلى غيره فهذا شرك به تعالى.
ومن أخطر الشرك الآن البارز الواضح في مجتمعاتنا هو تلك المعتقدات التي لدى الكثير من الناس في الأحجار والأشجار أنها تعطِي وتمنع, وأنها تنفع وتضر, وأنّ فيها البركة..إلخ.
هذا من أخطر الشرك وأخبثه؛ لأن الشخص إذا توجه إلى ضريح أو شجرة وتضرع إليها وقد يزعم أنه لا يأتيها إلا ليدعو الله، ولكن بالنسبة إليه تلك الأماكن لها مكانة كبيرة في عقله وقلبه, ويتوسل إليها ويتمسح بها، وقد ينام فيها ويطوف بها، فهذا قد أصبح من أكبر المشركين بالله وأخطرهم.
والأخبث من ذلك أن يستغيث بهؤلاء ويدعوهم ويستنجد بهم ويتضرّع إليهم ليعطوه! فماذا ترك لله؟!
إن المسلم ـ إخواني ـ لا يعرف سوى مؤسّسة واحدة للعبادة والدعاء والتقرّب إلى الله هي مؤسسة المسجد، على الإخوة أن يفتحوا أعينهم, فأعظم الأولياء وأول الأولياء وسيد الأولياء هو محمد بن عبد الله ، هل قبره ضريح يعبَد؟! ففي سنن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((لا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا، وَصَلُّوا عليَّ؛ فإنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)) ، بل الأخطر أن النبي أخبر أن الذين يتخذون من الأضرحة معابد ويقدسونها هم شرار الخلق، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ أُمّ حَبِيبَةَ وَأُمّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَتَاهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِير، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((إنّ أُولَئِكَ إذَا كَانَ فِيهِمُ الرّجُلُ الصّالِحُ فَمَات بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدا وَصَوّرُوا فيه تِلكِ الصّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) رواه البخاري ومسلم.
ومن أخطر الشرك ـ إخواني الكرام ـ التقرب إلى هذه الأضرحة بالهدايا والذبائح، فالله سبحانه يقول: قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين [الأنعام:164، 165]. النسك يعني الذبائح والقرابين. وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل قال: سئل علي: أخصّكم رسول الله بشيء؟ فقال: ما خصنا رسول الله بشيء لم يعمّ به الناس كافة إلا ما كان في قراب سيفي هذا، قال: فأخرج صحيفة مكتوبا فيها: ((لعن الله من ذبح لغير الله)).
كما أن من أخطر وأخبث الشرك السحر والشعوذة، فالناس يتوجهون إلى الساحر لأنهم يعتقدون أنه يطلع على ما لا يطلع عليه غيره, وأنه يستطيع أن يعطيهم ما يعجز عنه غيره. أخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله قال: ((من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)).
هنا أفتح قوسا لأقول: إن السحر والشعوذة في وقتنا وفي بلدنا لم يعودا مسألة شعبية عادية، بل إن عددا من الصحف وبعضها يسمى صحفا وطنية تقدمية مليئة بالدعوة إليهما،والترويج لهما. إن الناظر يلمس أن هناك تيارا في هذا البلد وفي غيره هدفه نشر الخرافة والأساطير والتديّن المنحرف؛ لأن ذلك أخطر على الدين الحق وأشد تضييقا عليه حسب زعمهم، فالشجرة لا تسقطها إلا ثمارها, والأسرة لا يخربها إلا أبناؤها.
نسأل الله أن يصلح أحوالنا وأن يتولى أمرنا، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الشرك ـ إخواني ـ المنتشر الكبير الذي أصبح ظاهرة في عصرنا هو تحكيم غير كتاب الله وغير سنة رسول الله ، وهو الشرك الذي تحدث عنه رب العزة في آيات كثيرة، مثل قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّه [الشورى:19] أي: وضعوا لهم مناهج وتوجهات وبرامج وفلسفات تخالف ما أنزل الله تعالى. يأمر عباده بالستر وهم وضعوا لهم مناهج الفضح باسم التقدم والحرية. الله تعالى وضع لنا التوحيد وهم يروجون للشركيات وللخرافات وللشعوذات. الله تبارك وتعالى حرم على الناس الخمر وهم يضعون القوانين ليسنوا الخمر والفساد بدعوى الحرية والديمقراطية وما إلى ذلك.
وقال تعالى: اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]. دخل عدي بن حاتم الطائي على النبي وكان نصرانيا، فوجده يقرأ هذه الآية، فلم يفهم المراد، فقال للنبي : ما عبدوهم! لأنه فهم من العبادة الركوع والسجود فقط، فقال له النبي : ((أمَا إِنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلّوهُ، وَإِذَا حَرّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرّمُوه)) رواه الترمذي. قالوا لهم: الفساد ضروري، والربا ضروري، والحرية ضرورية.. فكيف نعيش في عالم معاصر دون هذه الأشياء, أتريدون أن تعيشوا في عصر الناقة والجمل؟!
فاتقوا الله عباد الله، ووحدوه سبحانه، وأطيعوا الله سبحانه دون شريك، واتبعوا رسوله فيما أمر به أو نهى عنه.
(1/3787)
نسمات الفجر
فقه
الصلاة
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لماذا الحديث عن المحافظة على صلاة الفجر؟ 2- فوائدها في الدنيا. 3- فوائدها في الآخرة. 4- نصائح مساعدة على القيام لصلاة الفجر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة المؤمنون، لا يخفى عليكم ما للمحافظة على الصلوات كلّها من الفضل العظيم، فربنا سبحانه يقول: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]. إلا أن الحديث عن المحافظة على صلاة الفجر له قيمة خاصة لاعتبارين: أولهما لما لهذه الصلاة من فضل على غيرها، ثانيهما ما نعيشه من التفريط بخصوصها. وذلك بسبب ضعف الإيمان وغلبة الهوى والشيطان وطغيان الدنيا على القلوب، فتجد الواحد من الناس يسهر في اللغو والمسلسلات ثم ينام ولا يستيقظ إلا متهاونا فيما أوجبه الله عليه.
فتعالوا بنا ـ معشر المؤمنين ـ نتعرف على جملة ممّا خصّ الله به صلاة الفجر من الفوائد مذكرين بذلك الغافل عنها وغير الغافل.
فلهذه الصلاة فوائد عظيمة في الدنيا، نعم إن فوائدها في الدنيا كثيرة نذكر منها:
أولا: أنها مشهد الملائكة، قال تعالى: أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]. لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ أي: من وقت زوالها إلى إقبال الظلمة وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم خص سبحانه الفجر بالذكر وبحدث لبيان فضله ومنزلته فقال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا. إنه وقت اجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار، الأولى قبل عروجها، والثانية على إثر نزولها. عن أَبي هُريرةَ رضي اللَّه عنهُ قالَ: قال رسولُ اللهِ : (( يَتَعَاقَبُونَ فِيكم مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وملائِكَةٌ بِالنَّهَار، وَيجْتَمِعُونَ في صَلاةِ الصُّبْحِ وصلاةِ العصْرِ، ثُمَّ يعْرُجُ الَّذِينَ باتُوا فِيكم، فيسْأَلُهُمُ اللَّه وهُو أَعْلمُ بهِمْ: كَيفَ تَرَكتمْ عِبادِي؟ فَيقُولُونَ: تَركنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتيناهُمْ وهُمْ يُصلُّون )) متفقٌ عليه.
فهل تقبل ـ أخي الكريم ـ أن تكون في عداد أولئك الذين تشهد عليهم الملائكة بالتخلّف عن الركوع والسجود لله رب العالمين؟!
ثانيا: صلاة الفجر نشاط وخفة، فالقيام لها والانسلاخ من الفراش انتصار على الشيطان وانفلات من عقده، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول الله قال: ((يَعْقِدُ الشَّيْطانُ على قافِيةِ رأسِ أحَدِكُم إذا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ على كُلّ عُقْدَةٍ مَكانَها: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فارْقُدْ، فإنِ اسْتَيْقَظَ وَذَكَرَ اللّه تعالى انْحَلَّت عُقْدَةٌ، فإن تَوْضأ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّها، فأصْبَحَ نَشِيطًا طيب النَّفْسِ، وإلاَّ أَصْبحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ )). هذا الخبث ناشئ عن الإعراض عن طاعة الله وانفراد الشيطان به وإذلاله. وعن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال ذكر عند النبي رجل نام ليلة حتى أصبح قال: ((ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ في أُذُنَيْه ـ أو قال: ـ أذنه)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
ثالثا: صلاة الفجر من أسباب حفظ الله. إذا لم يقع عندك المشهد السالف بمكان وكنت من أولئك الذين يطمعون في الفائدة الحسية القريبة فهاك فائدة أخرى من صميم ما يُتحدّث عنه في زماننا، ففي صحيح مسلم عن جُندَبِ بن سُفْيانَ رضي اللَّه عنهُ قال: قال رسولُ الله : ((منْ صَلَّى الصُّبْحَ فهُوَ في ذِمَّةِ اللَّهِ، فَانْظُرْ ـ يَا ابنَ آدم ـ لاَ يَطْلُبنَّك اللَّه مِنْ ذِمَّتِهِ بِشيءٍ)) أي: في عهده وحمايته وأمانه في الدنيا والآخرة.
رابعا: صلاة الفجر بركة لعمرك وحياتك. من الفوائد الفريدة لصلاة الفجر أنها بركة لك، فتبدأ يومك مبكرا، وتتدرب على حسن تنظيم وقتك، ولا تترك للعبث والارتخاء من سبيل إلى حياتك، وتستفيد من هواء الفجر النظيف النافع، وصدق رسول الله القائل: (( اللهُمّ بَارِكْ لأمّتِي في بُكُورِهَا )) رواه الترمذي وحسنه عن صخر الغامدي.
أما في الآخرة ففوائدها جلت عن الحصر وجلت عن التقدير، وإليك ـ أخي الحبيب ـ بعضا منها:
أولا: صلاة الفجر نور يوم القيامة، ها هو ذا نبيك الكريم يبشرك بأن صلاة الفجر نور لك يوم القيامة، يوم يتخبط الناس في ظلمات أعمالهم الشنيعة ومظالمهم الفظيعة، ففي جامع الترمذي عن بُرَيْدَةَ الأسْلَمِيّ عن النّبِيّ قَالَ: (( بَشّرِ الْمَشّائِينَ فِي الظّلَم إلَى الْمَسَاجِدِ بِالنّورِ التّامّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )). وأخرج الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي قال: ((بشر المدلجين إلى المساجد في الظلم بمنابر من نور يوم القيامة، يفزع الناس ولا يفزعون)).
ثانيا: صلاة الفجر من مفاتيح الجنة، فمن أعظم فوائد صلاة الفجر أنها وقاية لصاحبها من النار، عن زهيْرٍ بن عِمارَة بن رُويْبةَ رضيَ الله عنْهُ قالَ: سمِعْتُ رسول الله يقولُ: ((لَنْ يلجَ النَّار أَحدٌ صلَّى قبْلَ طُلوعِ الشَّمْس وَقَبْل غُرُوبَها)) رواه مسلم. يعْني الفجْرَ والعصْرَ. وهي مفتاح من مفاتيح الجنة، فعن أَبي موسى رضي اللَّه عنهُ أَنَّ رسول اللهِ قال: (( من صَلَّى البَرْدَيْن دَخَلَ الجنَّة )) متفقٌ عليه. والبَرْدانِ الصُّبْحُ والعَصرُ.
ثالثا: صلاة الفجر من موجبات رؤية الله عز وجل. الأشرف من كل ما ذكر أن صلاة الفجر مما يؤهّل العبد لرؤية ربه غدا يوم القيامة، وما أسعدها من لحظة، وما أعظمها من نعمة. عن جَريرِ بنِ عبدِ اللهِ البجليِّ رضيَ الله عنهُ قال: كنا عِندَ النبيِّ فَنَظَرَ إِلى القَمرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، فقال: ((إنكم سَتَرَوْنَ ربكمْ كما تَروْنَ هذا القَمر، لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلبُوا عَلى صلاةٍ قَبْل طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْل غُرُوبها فافْعلُوا)) متفق عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
وإليك ـ أخي ـ نصائح مساعدة على القيام لصلاة الفجر:
أولا: صدق النية والعزيمة عند النوم على القيام لصلاة الفجر، أما الذي ينام عازما على عدم القيام للفجر ويرجو أن لا يأتي أحد لإيقاظه فإنه لن يستطيع بهذه النية الفاسدة أن يصلي الفجر، ولن يفلح في الاستيقاظ لصلاة الفجر وهو على هذه الحال من فساد القلب وسوء الطوية، قال تعالى: إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70].
ثانيا: التخفف من الذنوب بالتّوبة والاستغفار، فالذنوب تقسّي القلب وتحرم الإنسان من الخير وتفوّت عليه النشاط للعبادة.
ثالثا: التبكير في النوم، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي بَرزةَ رضي الله عنه أن رسول اللّه كان يكرهُ النومَ قبل العِشاء والحديثَ بعدَها.
رابعا: الحرص على الطهارة وقراءة الأذكار قبل النوم، فإنها تعين على القيام لصلاة الفجر.
خامسا: ذكر الله تعالى عند الاستيقاظ مباشرة، فإن بعض الناس قد يستيقظ في أول الأمر، ثم يعود إلى النوم مرة أخرى.
سادسا: لا بد من الاستعانة على القيام للصلاة بالأهل والصالحين، والتواصي في ذلك، وكما يكون التواصي والتعاون على صلاة الفجر بين الأهل كذلك يجب أن يكون بين الإخوان في الله، فيعين بعضهم بعضًا، مثل طلبة الجامعات الذين يعيشون في سكن متقارب ومثل الجيران في الأحياء، يطرق الجار باب جاره ليوقظه للصلاة، ويعينه على طاعة الله.
سابعا: استخدام وسائل التنبيه، ومنها الساعة المنبهة، ووضعها في موضع مناسب، فبعض الناس يضعها قريبًا من رأسه فإذا دقت أسكتها فورًا وواصل النوم، فمثل هذا يجب عليه أن يضعها في مكان بعيد عنه قليلاً، لكي يشعر بها فيستيقظ.
ثامنا: عدم إكثار الأكل قبل النوم، فإنّ الأكل الكثير من أسباب النوم الثقيل، ومن أكل كثيرًا تعب كثيرًا، ونام كثيرًا، فخسر كثيرًا.
تاسعا: أن يدعو العبد ربه أن يوفقه للاستيقاظ لأداء صلاة الفجر مع الجماعة، فإن الدعاء من أكبر وأعظم أسباب النجاح والتوفيق في كل شيء.
أخيرا أخي المسلم، أختي المسلمة، يا من يؤثر دفء النوم على لذة المناجاة، يا من لا يسمع "حي على الصلاة حي على الفلاح الصلاة خير من النوم" ويصغي بإمعان لنداء الشيطان القائل: النوم أفضل من كل شيء، يا من اتخذ الشيطان أذنه مستنقعا لقضاء حاجته، إليك نهدي هذه الكلمات لعلها تجد أذنا صاغية وقلبا واعيا.
اسمع إلى نبيك وهو يرغبك في الصلوات عموما والفجر خصوصا بكلمة جامعة للخير وبتعبير جامع لعوامل التحفيز، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((لَوْ يَعْلَمُ النّاسُ مَا فِي النّدَاءِ وَالصّفّ الأَوّلِ ثُمّ لَمْ يَجِدُوا إلاّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا، وَلَوْ يَعْلَمُ النّاسُ مَا فِي التّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إلَيْهِ، وَلَوْ عَلِمُوا مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوا)).
(1/3788)
ذكر الموت وما بعده
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السبيل لتذكر الموت. 2- من عجائب الدنيا. 3- حال الناس مع الموت. 4- وجوب الاستعداد للموت والحذر من الغفلة عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أحسن مثال للتفكر في الموت أن تذكر أحد أقاربك أو أصدقائك من الذين مضوا، وتذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، تذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم، وتأمل كيف محا التراب الآن حسن صورهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم، وكيف أرملوا نساءهم، وأيتموا أولادهم، وخلت منهم مساجدهم ومجالسهم، وانقطعت آثارهم.
فيا سبحان الله! إذا تذكرت فلانًا من الناس ونشاطه وتردّده وتأمّله للعيش والبقاء ونسيانه للموت وانخداعه بمواتاة الأسباب وركونه إلى القوة والشباب وميله إلى الضحك واللهو وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع والهلاك السريع، فسبحان الله! كم كان يتردد بقدميه، والآن تهدمت رجلاه ومفاصله، وكم كان ينطق وقد أكل الدود لسانه، وكم كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه، وكم كان يدبر لنفسه ما لا يحتاج إليه إلى عشر سنين وفي وقت لم يكن بينه وبين الموت إلا شهر وهو غافل عما يراد به، حتى جاءه الموت في وقت لم يحتسبه، فانكشف له صورة ملك الموت، وقرع سمعه النداء، إما بالجنة أو النار، ما حدث لغيرنا من مصيبة الموت ـ عباد الله ـ سيمرّ عليه جميعنا، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]، نسأل الله الحليم الكريم أن تكون على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله مع حسن الختام.
إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، فإنك ـ يا عبد الله ـ لا تدري ما اسمك غدًا، مثل ابن آدم وإلى جنبه تسع وتسعون منية، إن أخطأته المنايا وقع في الهرم، يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنتان: الحرص والأمل، الحرص على المال والحرص على العمر، نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل، والأمل المذموم تمني عدم الموت مع التقصير في الطاعات، دنيا تمنع خير الآخرة، وحياة تمنع خير الممات، وأمل يمنع خير العمل.
من عجائب الدنيا مؤمِّل الدنيا والموت يطلبه، وغافل عن الله واقع في الحرام وليس يغفل عنه، الدنيا حلم، والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، سائق الموت عليه السلام لا تمنعه ثروة مالك ولا كثرة احتشادك، إذا نزل الموت فلست إلى دنياك بعائد، ولا في حسناتك بزائد.
يا نفس، إذا نزل بك الموت حوّلك من دار مهلتك إلى دار إقامتك وجزاء أعمالك، فتصير في قرار باطن الأرض بعد ظاهرها، فيأتيك منكر ونكير فيقعدانك وينتهرانك، فإن يكن الله معك فلا يأس ولا وحشة ولا فاقة، وإن يكن غير ذلك فأعاذني الله وإياكم من سوء المصرع وضيق المضجع، ثم تبلغك صيحة الحشر ونفخ الصور وقيام الجبار لفصل قضاء الخلائق وخلاء الأرض من أهلها والسماوات من سكانها، فباحت الأسرار، وسعرت النار، ووضعت الموازين، وجيء بالنبيين والشهداء، وقضي بينهم بالحق، وقيل: الحمد لله رب العالمين، فكم من مفتضح ومستور، وكم من هالك وناج، وكم من معذب ومرحوم.
في كل يوم تشيعون غاديا ورائحًا إلى الله عز وجل، قد قضى نحبه، وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب، من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله من أجل التوبة وتمادى في هتك ستره ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [الأنعام:134]، مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ [العنكبوت:5]، وإن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم.
إني أخاطب نفسي والحاضرين: إنما هي أرزاق مقسومة لآجل محتومة، وما ندم عليه أهل القبور أهل الدنيا عليه يقتتلون، وفيه يتنافسون، وعليه عند القضاة يختصمون.
المخرج من غفلتنا عَمَّا يراد بنا أن نغتنم لحظات العمر في طاعة الله، ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)) ، وقال : ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)).
التؤدة والتأني في كل شيء خير إلا في أعمال الخير للآخرة، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]. سعادتك في أنفاسك، لو حبست عنك انقطعت أعمالك الصالحة، نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84]، إنما يعد الله لنا الأنفاس، آخر نفس خروج النفس، آخر العدد فراق الأهل، آخر العدد آخر النفَس فالانتقال إلى تلك الدار.
من أيقن أن أنفاسه معدودة فجدير به أن يحرص على اغتنامها في الطاعات وأن لا تمر في الخطيئات، ومن تاب تاب الله عليه، فإن الشيطان يزين المعصية ليرتكبها الإنسان، حتى تهجم عليه منيته وهو غافل عن الله، أعاذني الله وإياكم من شر إبليس وجنوده.
أذكّر نفسي الغافلة وأنصح لكم أن نذكر الموت وأن نستعد له، أكثروا من ذكر هادم اللذات، فإن أعقل المسلمين وأكيسهم أكثرهم للموت ذكرًا وأحسنهم لما بعده، استعداد الكيس العاقل من ذات نفسه، من حاسب نفسه على تقصيرها وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني. ذكر الموت ينغص اللذة الحاضرة، ويمنع تمنيها في المستقبل، ويزهد فيها، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ [الملك:2]، ليبلوكم أيكم أكثر للموت ذكرًا، وله أحسن استعدادًا، ومنه خوفًا وحذرًا، فإنه من مات قامت قيامته.
اذكر الموت هادم اللذات، وتجهز لمصرع سوف يأتي، مصيبة الموت ليس لها سن معلوم، ولا زمن معلوم، ولا مرض معلوم، وهذه الحكمة الإلهية في إخفائه؛ ليكون المؤمن مستعدًا له في كل لحظة، وهذا سبيل لإصلاح العمل.
حري بمن الموت طالبه والقبر بيته والتراب فراشه والدود أنيسه والفزع الأكبر منتظره أن يقلع عن عصيان مولاه.
نصيبك مما يجمع الدهر كله رداءان تلوى فيهما وحنوط
هي القناعة لا تبغي بها بدلاً فيها النعيم وفيها راحة البدن
انظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن
إن قومًا ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة، يقول أحدهم: إني أحسن الظن بربي، وكذب، لو أحسن الظن لأحسن العمل، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ [فصلت:23]، فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33]. الغرة بالله أن يتمادى الرجل بالمعصية ويتمنى على الله المغفرة، والعجب ممن يصبح يؤمل الدنيا بطول العمل، ويتمنى على الله الأماني بسوء الفعل.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3789)
النصح لكل مسلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم الأمانة وشمولها. 2- الأمانة من أخلاق الأنبياء وصفاتهم. 3- عموم النصيحة لكل أفراد الأمة. 4- أهمية النصيحة للأهل والأبناء. 5- كيفية النصح لله ولرسوله.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن الله حمّل هذه الأمّة أمانة عظيمة، أمانة النصح وإرشاد العباد لدينهم، وجعل النبي هذه الأمانة في أعناقنا جميعًا بغير استثناء، فقال : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، وقوله : ((كلكم)) يفيد العموم والشمول، فتنصح وتأمر وتنهى لله، كنت من كنت بلا استثناء، متعلّمًا أو جاهلاً، كبيرًا أو صغيرًا، رجلاً أو امرأة، ولو كانت النصيحة كلمة واحدة قد علمتها ينبغي عليك إبلاغها لأهلها، قال : ((بلّغوا عني ولو آية)) ، وقال سيدنا جرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعت رسول الله على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
والدليل على وجوب النصيحة لكل الناس ـ القريب منهم والبعيد، الصديق والعدو ـ قوله : ((الدين النصيحة)) ، قال الصحابة: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) ، أي: عامة الناس، فأنت مطالب بنصحهم.
ولقد جعل الله في قصص الأنبياء العبرة والأسوة الحسنة لمن أراد أن يأتسي بأخلاقهم ودينهم، ومن أخلاقهم وأهم أعمالهم تبليغ دين الله والنصح لعامة الناس، فقد قال الله مخبرًا عن نوح وهو يجادل قومه: وَأَنصَحُ لَكُمْ [الأعراف:62]، وقال نبي الله هود : وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ [الأعراف:68]، ولقد بايع الصحابة رضي الله عنهم رسول الله على أن يقولوا الحق أينما كانوا، لا يخافون في الله لومة لائم. وقال النبي لابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم)).
إن من النصيحة أن تعين ذا الحاجة على حاجته، وأن تتصدق على المحتاجين، وأن تساعد الغير ولو بالكلمة أو بالجاه، أو بدعائك للمنكوبين في ظهر الغيب، وتركك الشرّ صدقة تصدقت بها على نفسك.
إن من واجب أولياء الأمور أن ينصحوا لذويهم، ويأمروا أولادهم وبالكلمة الطيبة، وأن يهتمّوا بأمر نصحهم وتربيتهم اهتمامهم بإطعامهم وشرابهم وكسوتهم، ولقد نادى الإسلام أولياء الأمور أن يرعوا النبتة التي زرعوها بأيديهم، حتى لا تأخذها أيد عابثة.
لقد كانت دعوة القرآن في ذلك صريحة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، وأمر زوجتك وأولادك بالصلاة فإنك مسؤول عليهم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6]، فأمر الله بالوقاية من النار لنا ولأهلينا، وذلك بنصحهم وترشيدهم، والكلمة الطيبة صدقة، ولم نقل: أمرنا بهدايتهم، إنما عليك البلاغ، وإذا كانت النصيحة والكلمة الطيبة صادقة من قلبك فستخرج من القلب إلى القلب، وقلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الله، وكل حسنة يفعلها التائب لك مثل أجرها ثوابًا، ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها.
قال : ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرّقوا بينهم في المضاجع)). وروت كتب السنة صورًا من تربية النبي للأطفال وصغار النشء، فقال لغلام كان يأكل معه: ((يا غلام، سمِّ الله تعالى، وكل بيمينك، وكل مما يليك)). وفي حديث آخر علّم عبد الله بن عباس بقوله: ((يا غلام، إني معلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم بأن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفّت الصحف)).
واجبنا كمسلمين أن ننصح لرب العالمين بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة؛ لنكسب القلوب، ونرغب الناس في دين الله، ولقد ادّعى فرعون أنه الرب الأعلى، وعذّب بني إسرائيل، وأفسد وخرّب، ومع ذلك قال الله لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44].
أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن تنصحوا لله، وأن نحاسب أنفسنا: ما قدّمنا لهذا الدين؟ وما عملنا كي نفوز برضا رب العالمين؟ إن الله وصف الجنة ونعيمها ثم قال: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، فأين الرجال الذين يتبرعون بأوقاتهم وأموالهم وكل ما يملكون لرب العالمين؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10، 11]، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3790)
الإنابة إلى الله تعالى
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, التوبة
عبد المحسن بن محمد القاسم
المدينة المنورة
9/1/1426
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سرور القلب. 2- الإنابة إلى الله من هدي المرسلين. 3- فضل الإنابة والمنيبين إلى الله. 4- حقيقة الإنابة. 5- ضرورة المحاسبة والمراقبة. 6- فضل صيام المحرم وعاشوراء. 7- عظم الجرم في الأشهر الحرم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ حقَّ التقوى؛ فمن اتَّقى ربَّه أكرمه بين الأنام، وأسعده مولاه على الدّوام.
أيّها المسلمون، أفضل الخلقِ وأهداهم أتمُّهم عبوديّةً لله، وسرورُ القلبِ وشَرحُ صدرِه في إنابةِ العَبد إلى الله والإقبالِ عليه والاستعانةِ به، والرجوعُ إلى الله والإنابةُ إليه عبادةٌ عظيمة من سنَنِ الأنبياء والمرسَلين، قال جلّ وعلا عن داودَ عليه السلام: وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، وقال عَن سليمانَ عَليه السلام: وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ [ص:34]، وقال شُعيب عليه السلام: وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وقال نبيُّنا محمّد : ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10]، وأثنى الله على خليلِه إبراهيم لاتِّصافِه بالإنابةِ إليه والرّجوعِ إليه في كلِّ أمر، قال جلّ وعلا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75]، ومِن دعاء الخليلِ عليه السلام: رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4].
والمنيبون إلى اللهِ هم خيرُ مَن يَصحبُهم المرءُ في حياته، يقول سبحانه: وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ [لقمان:15].
والإنابةُ إلى اللهِ هي مفتاحُ السّعادة والهدايةِ، قال سبحانه: قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ [الرعد:27]. والبِشارة لأهل الإنابة: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى [الزمر:17]. ولا يعتبِر بالآيات ولا يتَّعظ بالعِبَر إلاّ المنيب إلى ربِّه، قال عز وجل: تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [ق:8]، وهو المتذكِّر بنزولِ النّعم، وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ [غافر:13].
والإنابةُ إلى الله مانعةٌ من عذابِ الله، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54]. والجنّةُ أعِدَّت نُزُلا للقلبِ الخاشع المنيب، قال جل جلاله: وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق:31-33].
وأمَر الله جميعَ الخَلق بالإنابة إليه والرجوع إليه، قال سبحانه: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [الروم:31].
وحقيقتُها الرجوعُ إلى الله، وهي منزلةٌ أعلى من التوبة، فالتوبةُ إقلاعٌ عنِ الذنب وندَم على ما فات وعَزمٌ على عدَم العودة إليه، والإنابةُ تدلّ على ذلك وتدلّ على الإقبالِ على الله بالعِبادات، إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114].
ومَن أكثرَ الرجوع إلى الله كان الله مفزَعَه عند النوازِلِ والبلايا والفواجِع، ومَع مَطلَع هذا العامِ حقيقٌ بالمرءِ أن ينيبَ إلى ربِّه وأن يحاسِبَ نفسَه على ما سَلَف وعلى ما اقتَرَف من عِصيان، يقول الحسن البصري رحمه الله: "إنَّ العبدَ لا يزال بخيرٍ ما كان له واعظٌ من نفسِه، وكانَتِ المحاسبَةُ هِمَّتَه، والمؤمِن في الدنيا كالغريبِ؛ لا يجزَع من ذلِّها، ولا ينافِس في عِزِّها، له شأنٌ وللنّاسِ شَأن" [1] ، واعمَل بوصيَّةِ المصطفى : ((كُن في الدنيا كأنّك غريبٌ أو عابرُ سبيل)) رواه البخاري [2] ، ومن كانتِ الآخرة همَّه كانت هِمَّته في تحصيلِ الزاد الصالح، وإذا استيقَظَت القلوب استعدَّت للآخرة، قال بعض السلف: "ما نِمتُ نومًا قطّ فحدّثتُ نفسِي أني أستيقِظُ منه" [3] ، ومَن اجتَهَد في محاسبةِ نفسِه ولَجَمها علَى العصيان نجا في الآخرةِ منَ النّدامة والخُسران.
أيّها المسلمون، حقٌّ على الحازِمِ أن لا يغفلَ عَن زلاّت نفسِه وخَطَراتها وخَطَواتها، بل يقودُها إلى ما يقرِّبها إلى ربِّها، فالمحافظَةُ على الصلواتِ جماعةً في بيوتِ الله من شعائرِ الإيمان، والدعوة إلى الله تنير البصيرةَ، وبِذِكر الله تلينُ القلوب، قال سبحانه: أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، ومجالسةُ العلماء والصالحين وملازَمَة دروسهم من أسبابِ خشيةِ الله ومراقبَتِه، إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وبِرُّ الوالدين مفتاحُ السّعادة، وصِلَة الرّحِم بركة في الوقتِ والرّزق، والمال الحلال سبَبٌ في صلاح الأبناءِ وإجابةِ الدعاء، وقِصَر الأمَل دافع للعَمَل، وتَذَكُّر الموت خيرُ واعِظ، وزِيارةُ المقابر والتأمُّل في أحوال الموتى تذكيرٌ بالآخرة، والتطلّع إلى سِيَر السّلَف يهذِّب النّفسَ ويحدو للعمل، قال ابن القيِّم رحمه الله: "ومن تأمَّل أحوالَ الصحابةِ وجَدَهم في غايةِ العمل مع غايةِ الخوف، ـ قال: ـ ونحن جمَعنا بين التّقصِيرِ بل بين التفريطِ والأمن، وكان الصِّدِّيق يقول: (وَدِدتُ أني شعرةٌ في جنبِ عبدٍ مؤمن) [4] ، وكان إذا قامَ إلى الصلاة كأنّه عودٌ مِن خشية الله [5] " [6].
والرّشيدُ مَن خاف على نفسِه الوقوعَ في الزّلَل أو الإقرارَ على الخَلَل، فالصحبةُ السيّئة تورِد المهالك، وإطلاقُ عَنانِ البَصَر في المحرَّمات مما يشاهَد في الفضائيّات والطُّرُقات يضعِف زَكاءَ النّفس، وإهمالُ الأبِ إصلاحَ أهلِ بيتِه تفريطٌ في الأمانة، واتّباعُ الهوى والشهواتِ يورد الندامة، وإطلاقُ اللّسان بالكذب وفي أعراضِ المسلمين يظلِم القلبَ، وإشغالُ النفس بما لا يعنيها حِرمانٌ لها ممّا يرفَع درجاتها، يقول إبراهيم بن أدهَم رحمه الله: "من علامةِ إعراضِ الله عن العبد أن يشغِلَه بما لا يعنيه" [7] ، والتّقصيرُ في إنكارِ المنكَر بالحسنى ضَعفٌ في النّصح، ودَواء السيِّئات كثرة الاستغفار، وتَرك الخطيئةِ أيسَر من طلبِ التّوبة، واغتَنِم الأعمالَ الصالحة قبل أن يحولَ بينك وبينها حائل، يقول المصطفى : ((اغتَنِم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هرَمِك، وصِحَّتَك قبل سَقمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغك قبل شغلِك، وحياتك قبل موتِك)) رواه الحاكم [8].
والموفَّق هو المنيب إلى الله بالرجوع إليه من العصيان، المكثِرُ من أنواعِ الطاعاتِ والقُرُبات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:30].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني الله وإيّاكم بما فيهِ من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تَسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفورُ الرّحيم.
[1] جزؤه الأول أخرجه أبو نعيم في الحلية (2/146)، وجزؤه الأخير أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/189).
[2] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6416) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[3] انظر: جامع العلوم والحكم (ص383).
[4] رواه أحمد في الزهد (ص108)، وانظر: صفة الصفوة (1/251).
[5] رواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/125)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (144)، والبيهقي في الكبرى (2/280)، وصححه ابن حجر في الفتح (2/226).
[6] الجواب الكافي (ص25).
[7] روي هذا من كلام الحسن ومن كلام الجنيد، انظر: التمهيد (9/200)، وجامع العلوم والحكم (ص116)، وصفة الصفوة (2/418).
[8] المستدرك (4/341)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (3355)، لكن ذكر له البيهقي في الشعب (7/263) علّة، وهي أن الصحيح أنه من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلاً، كذا أخرجه ابن المبارك في الزهد (ص2)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/77)، والبغوي في شرح السنة (4022)، وصححه الحافظ في الفتح (11/235).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله عَلَى إحسانِه، والشّكر له على توفيقِهِ وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، شهرُ الله المحرم من أعظمِ الشهور عند الله، نَصَر الله فيه موسَى وقومَه على فرعونَ وملَئِه، وصيامُ أيّامه فاضِلة، يقول عليه الصلاةُ والسلام: ((أفضلُ الصيام بعد رمضانَ شهرُ الله المحرّم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل)) رواه مسلم [1].
ومِن شكرِ الله على نِعَمه استفتاحُ العام بعمَلٍ مِن أفضل الأعمال الصالحة بِصيام أفضلِ أيّام غُرّة العام يومِ عاشوراء، يقول ابن عبّاس رضي الله عنه: قدِم النبي المدينةَ فوجَد اليهود صيامًا يومَ عاشوراء، فقال لهم: ((ما هذا اليوم الذي تصومونه؟)) قالوا: هذا يومٌ عظيم أنجى الله فيه موسَى وقومَه، وأغرق فرعونَ وقومَه، فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال النبيّ : ((نحن أحقُّ بموسى منكم)) ، فصامه وأمر بصيامه. متفق عليه [2].
وصِيامه كفّارة لخطايا عامٍ قبله، قال : ((أحتسِب على الله أن يكفِّرَ السنّةَ التي قبله)) رواه مسلم [3].
فيُستحَبّ للمسلمين أن يصوموا اليومَ العاشر، وأن يصوموا يومًا قبله أو يومًا بعده، عملاً بهَديِه عليه الصلاة والسلام.
عبادَ الله، إنَّ قتلَ النفوسِ البريئةِ التي عصَم الله دماءَها من أعظمِ الجرائم، وإنَّ أزهاقَ تلك الأرواح بالاغتيالاتِ جرمٌ شنيع ومِنَ السّبع الموبقات، قال جل وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وقال سبحانه: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32].
وإنَّ ما يحدُث في هذه الأزمانِ من التفجير الذي يَهلِك فيه الحرثُ والنسل ويعمُّ به الخرابُ وتزهق معه النفوس من أعظمِ الإفساد في الأرض، وإنَّ مثلَ هذه الجرائم والاغتيالات لتشتدُّ عظَمَتُها وتعظُم بشاعتها إذا وقعَت في شهرِ الله المحرَّم وقُتِل بها عظيمٌ في قومِه سَعَى لِلَمِّ شَعثِ بلادِه وإِرساء الأمنِ في موطِنِه، قال قتادة رحمه الله: "الظّلمُ في الأشهرِ الحرُم أعظم خطيئةً ووزرًا من الظلمِ فيما سواه، وإن كان الظّلمُ على كلِّ حالٍ عظيمًا، ولكنّ الله يعظِّم من أمرِه ما يشاء" [4] ، فعظِّموا حُرُمات الله وأشهرَه الحُرُم.
ثم اعلَموا أنّ الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] صحيح مسلم: باب: فضل صوم المحرم (1163) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء (2004)، صحيح مسلم: كتاب الصيام، باب: فضل صوم يوم عاشوراء (1130).
[3] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1162) عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[4] رواه الطبري في تفسيره (10/127).
(1/3791)
هل من توبة قبل الموت؟!
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
التوبة, المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
9/1/1426
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استفتاح العام الجديد بالتوبة. 2- الحث على التوبة في ضوء النصوص. 3- حقيقة التوبة وأركانها. 4- حال السلف مع التوبة. 5- تساؤلات ملحّة قبل الإقدام على العمل. 6- تتابع مسلسل الغدر الإسرائيلي. 7- مؤتمر شرم الشيخ الأخير هل حقق للفلسطينيين شيئًا؟ 8- كلمة للشعب المناضل.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أخرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36] وقول عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فرفع يديه وقال: ((اللهم أمتي أمتي)) ، وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل، اذهب إلى محمد ـ وربك أعلم ـ فسله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام فسأله، فأخبره رسول الله بما قال وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك.
أما بعد: عباد الله، هذا العام جديد، وشهر محرم حميد، فاستفتحوا هذا العام بالتوبة والإنابة إلى الملك العلام، واقطعوا بالطاعة ما يمرّ بكم من الليالي والأيام، فإنها لأعمالكم خزائن، وأنتم بما كسبتم رهائن، وقد خلقكم الله لتعبدوه، وبعث فيكم الرسول لتطيعوه، وأنزل عليكم الكتاب لتتبعوه، ووهب لكم السمع والبصر والأفئدة لتشكروه. ولقد علمتم أن الفوز لا يناله إلا من تاب، وأن الجنة أعدت لمن اتقى وأناب، وأن متاع الدنيا قليل، وأن الحساب والجزاء واقعان في اليوم الطويل، فيُسأل عن الصلاة من ضيّعها، وعن الزكاة من منعها، وعن الأرحام من قطعها، وعن الأموال من جمعها. يا له من يوم عظيم خطبه، شديد كربه، تقشعر منه الأبدان، ويشيب فيه الولدان، ولا يسأل حميم حميمًا، ولا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
عباد الله، التوبة مطلوبة من كل مسلم لقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. سيدنا محمد رسول الله مع حسن صلته بالله تعالى ومع أنه كان لا يغفل عن ربه طرفة عين وكانت تنام عيناه وقلبه لا ينام ومع هذا كان يقول: ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة)).
عباد الله، حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت حتى لا يكون لك قرار، وتضيق عليك نفسك، قال الله تعالى في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية رضي الله عنهم حين تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم رسول الله والمسلمون خمسين يومًا، ثم جاءت توبتهم بقوله تعالى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:118]. فالتائب دائم التأسّف كثير التلهّف.
والتوبة لها ثلاثة أركان: الندم على ما فات، والعزم على ترك المعاودة، والسعي في تلافي ما يمكن تلافيه من حقوق الله تعالى المفروضة وحقوق الناس.
وأول التوبة يقظة من الله تعالى تقع في القلب، فيتذكر العبد تفريطه وإساءته وكثرة جناياته مع دوام نعم الله تعالى عليه، فيعلم أن الذنوب سموم قاتله، يخاف منها حصول المكروه وفوات المحبوب في الدنيا والآخرة، فإذا حصل له هذا العلم أثمر حالاً وهو الندم على تضييع عمل الله، ثم يثمر الندم عملاً وهو المبادرة إلى الخيرات وقضاء الواجبات والعزم على إصلاح ما هو آت، فهذه الأمور الثلاثة إذا انتظمت فهي التوبة.
عباد الله، إذا صدقت التوبة قُبلت، ويفرح الله بها فرحًا عظيمًا، فقد ورد في الحديث الصحيح: ((لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاه)) ، وفي رواية مسلم: ((لله أشد فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)). والحديث ـ يا عباد الله ـ فيه دليل على أن الإنسان إذا أخطأ في قول من الأقوال ولو كان كفرًا سبق لسانه إليه فإنه لا يؤاخذ به، ومعفو عنه إن شاء الله.
انظروا ـ يا عباد الله ـ كيف يفرح الله بتوبة عبده. فيا أيها المسلم، إذا كنت اغتصبت أرضًا أو سرقت مالاً أو ارتشيت أو غششت في تجارة أو أكلت وديعة أو أمانه عندك فعليك أن تردها إلى أصحابها، ردّها إلى أهلها، وتُقبل توبتك إن شاء الله، فمن تاب توبة نصوحًا عليه أن يردّ الحقوق إلى أهلها، فإن كانوا قد ماتوا، يردّها إلى الورثة، فلا بد من الرد حتى تقبل التوبة. فحقوق الله ـ يا عباد الله ـ مبنية على المسامحة، وحقوق العباد مبنية على المشاحّة، كل يقول: حقي حقي، نفسي نفسي.
ويجب على المسلم أن يبتعد عن الحرام، ويجنّب نفسه حقوق الناس ما استطاع. ابتعد ـ أيها المسلم ـ عن أكل أموال الناس بالباطل، ابتعد عن الشبهات والمحرمات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه.
فبالله عليكم ـ أيها المسلمون ـ كيف يقبل الله توبة عبد وهو يبيع الخمر للناس؟! كيف يقبل الله توبة رجل يتعامل بالربا والزنا؟! كيف يقبل الله حج من زوّر أوراق الأرض؟! كيف يقبل الله توبتك وأنت تشهد شهادة زور؟! كيف يقبل الله توبتك وأنت تتعامل مع أعداء الله، وأنت تتجسس على الناس، وتسعى في الأرض فسادًا؟! كيف يقبل الله توبتك وأنت تنظر إلى المحرمات، وأنت مُصرّ على القنوات الفضائية الإباحية التي تنشر الفساد في المجتمعات؟!
عباد الله، التائب الصادق الذي يظهر عليه أثر التوبة، اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ لهذا الشاب التائب كيف كان يناجي ربه: إلهي، وعزّتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بِنَكَالِك جاهل، ولكن خطيئة عرضت لي، أعانني عليها شقائي، وغرني سترك المرضي علي، وقد عصيتك بجهدي، وخالفتك بجهلي، ولك الحجة علي، فالآن من عذابك من يستنفذني؟! وبحبل مَن أتصل إذا قطعت حبلك مني؟! واشباباه، واشباباه. ثم سمع قارئًا يتلو قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، عندما سمع هذا الشاب هذه الآية المباركة تفطّرت مرارته فوقع ميتًا.
هكذا كانوا يتعاملون مع كلام الله تعالى، كان الواحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم إذا قرأ قوله تعالى: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:106، 107] [ تأثّر به أشدّ التأثّر].
عباد الله، مالك بن دينار كان يشرب الخمر ويقع في المعاصي، وذات يوم سمع قول الله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، عندما سمع هذه الآية بكى بكاءً شديدًا، وفارق المسكر، وكسر الآنية، وتاب إلى الله تعالى، وندم على ما فرط في جنب الله.
عباد الله، ربما كان هناك بعض التائبين أفضل ممن نشؤوا على الطاعة؛ لأنهم كلما تذكروا ذنوبهم بكوا على أنفسهم بكاءً مُرًّا، فعاشوا بين الخوف والرجاء، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه.
اسأل نفسك ـ أيها المسلم ـ إذا أقبلت على عمل ما: لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان يسرّك أن تعمله؟ اسأل نفسك إذا أردت أن تعمل عملاً ما: لو دخلت قبرك وأُجلِست للمسألة مع الملكين أكان يسرّك أن تعمله؟ اسأل نفسك: أيسرك أن تعمل هذا العمل وأنت تريد أن تمر على الصراط يوم القيامة؟ اسأل نفسك: أكان يسرك هذا العمل إذا وقفت بين يدي الله تعالى؟ ماذا ستقول في ذلك الموقف بين يدي الله تعالى؟!
عباد الله، يقول رسولنا : ((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، المتتبع للقضية الفلسطينية وقضية الصراع العربي الإسرائيلي على مدار نصف قرن من الزمن يجد أن إسرائيل قد انتهجت سياسة المناورة والمراوغة والخداع وعدم الانصياع لأية قرارات دولية، وواصلت سياسة انتهاكات الهدنة، سواء بالنسبة للفلسطينيين أو لدول عربية مجاورة، واستمرت بارتكاب المجازر بحق الفلسطينيين والشعوب العربية، وقتلت المئات، وشرّدت الآلاف، وواصلت سياسة مصادرة الأراضي وإقامة المستوطنات.
ولحل المشكلة عقدت عدة اتفاقيات، كان أهمها اتفاقية كامب ديفيد، والتي جزأت القضية الفلسطينية، ولم تعد قضية إسلامية أو قضية عربية، وكان من المفروض أن يتم بموجب هذه الاتفاقيات انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة عام 1967م، فما الذي حدث؟ ماطلت ورفضت القرارات الدولية مجددًا، واستمر العدوان على شعبنا، وكانت الانتفاضة الأولى عام 1987م، أعقبها مجزرة المسجد الأقصى، ثم مجزرة الحرم الإبراهيمي، وغيرهما، ثم انتفاضة الأقصى في سنة ألفين.
مسلسل من الأحداث الدامية واجهها شعبنا المرابط الصابر، الذي يعلم علم اليقين أن الأيام القادمة ستكون للإسلام والمسلمين، شعبنا لم ييأس، ولم يتراجع، ولم يخضع، ولم يركع إلا لمن رفع السماوات بغير عمد، فهو يدرك إدراكًا تامًّا أن النصر آت لا محالة، مهما طال الليل فلا بد من طلوع الفجر، حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].
عباد الله، اتفاقية شرم الشيخ الأخيرة لوقف إطلاق النار، وإذا كان هذا الاتفاق ظالمًا وقاسيًا بحق شعبنا، إذ ساوى بين الضحية والجاني، والمعتدي والمعتدى عليه، وهو بواقع الأمر تكريس للاحتلال لأرضنا المباركة، وكأن الصراع انحصر بوقف إطلاق النار، فهل ينجح هذا الاتفاق؟ والذي سارعت إليه الدول العربية المشاركة فيه بإظهار حسن النوايا وإعادة السفراء، هل ينجح بإنهاء الاحتلال أم سيكون مصيره مصير الاجتماعات السابقة؟
وقبل أن يجف مِداد الاتفاقية تم اغتيال فلسطيني في رفح ومداهمة واعتقال عشرات الفلسطينيين في طولكرم وجنين واغتيال جديد في الخليل. وعندما سقطت قذائف على التجمعات السكانية الإسرائيلية قامت الدنيا ولم تقعد، وحمل العالمُ الفلسطينيين مسؤولية تدهور الأوضاع، وسارعت أمريكا إلى مطالبة السلطة بإلقاء القبض على الفاعلين والقضاء على الإرهاب.
عباد الله، إن شعبنا المسلم الذي يتطلّع إلى العزّة والكرامة يجد نفسه بين مطرقة الاحتلال وسندان التآمر الدولي والتخاذل العربي، فالقضية ـ أيها المسلمون ـ ليست قضية وقف إطلاق نار أو قضية حدود أو إقامة دولة هزيلة لا تقوى على حماية نفسها، إنها قضية إسلامية مركزية أساسية في الصراع العقدي بين الإيمان والكفر، بين الإسلام وأعداء الإسلام، ولكن، هيهات هيهات لأمة اتصفت في الوقت الحاضر بالضعف وحكامها بالتبعية لأعدائها أن تنفض عن أهلها الذل والمهانة.
عباد الله، إسرائيل تواصل سياسة حرق الأعصاب لفرض إرادتها وتطلعاتها وسياستها التوسعية على حساب شعبنا وأرضنا المقدسة.
أيها المسلمون، إياكم ثم إياكم والتفريط بالحقوق المشروعة لأمتنا مهما اشتدت المحن، فالفرج قريب إن شاء الله، والمسلم الصبور مصابر يرضى بقضاء الله، ويتوقع أن يفرج الله عنه الشدائد، ويعلم أن مع اليوم غدًا، وأن غدًا لناظره قريب، وأن دوام الحال من المحال، وأن مع العسر يسرًا، وأن بعد الظلام فجرًا.
(1/3792)
صلة الرحم
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الأرحام
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الرحم في الإسلام. 2- فوائد صلة الرحم. 3- عواقب قطع الأرحام. 4- ضابط الصلة المشروعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، صِلوا ما أمر الله به أن يُوصل من حقوقه وحقوق عباده، فصلوا أرحامكم الذين أمركم الله بوصلهم، وهم أقاربكم من جهة آبائكم وأمهاتكم، فإن للأقارب حقوقًا لازمة على عباده المتقين، موجبة لرضا الله رب العالمين.
لقد رتب الله تعالى على صلة الأرحام أجورًا عظيمة ومكاسب كبيرة في الدنيا والآخرة، فالقيام بحقوق الأقارب من أعظم ما يقربكم إلى الله تعالى ويوصلكم إلى رحمته وفضله وواسع منه وكرمه، قال الله جل وعلا: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ [الإسراء:26]، وقال جل وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها, وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)) [1] , وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)) [2].
أيها المؤمنون، إن من مِنّة الله تعالى علينا أن جعل صلة الرحم سببًا لطول العمر وكثرة الرزق، ففي الصحيحين قال : ((من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه)) [3].
فصلة الرحم ـ يا عباد الله ـ سبب لسعة الرزق وطول العمر والمباركة فيه. فبادروا إلى صلة أرحامكم، وصلوهم بكل خير وبِرّ.
إن الواصل لرحمه ـ أيها المؤمنون ـ هو الذي يسعى في إيصال كل خير إلى أقاربه، ودفع كل شر عنهم بحسب الطاقة والوسع.
فصلوا ـ أيها المؤمنون ـ أرحامكم وأقاربكم بكل خير، بالزيارة والهدية والنفقة والمساعدة، صلوهم بالعطف والحنان ولين الجانب وبشاشة الوجه والإكرام والاحترام، صلوهم ببذل ما لهم في الأموال من الحقوق، واحتسبوا الأجر عند الله تعالى في ذلك، فإن الله لا يضيع عمل العاملين.
واعلموا أنه كلما قربت الصلة تأكد الحق وثبت الواجب وزادت الحقوق والواجبات، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك فأدناك)) [4]. فكلما قربت الصلة تأكد الحق وعظم.
أيها المؤمنون، إن صلة الرحم حق ثابت للأقارب، ولو بدرت منهم الإساءة وبدت منهم القطيعة، فالواجب على العبد أن يصل رحمه ولو قطعوه، وأن يحسن إليهم ولو آذوه وأساؤوا إليه، ففي الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله : ((ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل مَن إذا قطعت رحمه وصلها)) [5].
فليس الذي يبني كمَن شأنه الهدم، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيؤون إليّ، وأحلم عنهم ويجهلون عليّ، فقال له النبي : ((لئن كان كما تقول فكأنما تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ـ أي: كأنما تطعمهم الرماد الحار ـ ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ـ أي: معين لك عليهم ـ ما دمت على ذلك)) [6].
فأبشر بحسن العاقبة وجميل الخاتمة يا من وصلت من قطعك وأحسنت إلى من أساء إليك ، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34].
وما أجمل ما فعل الشاعر لما هجره أقاربه وأساؤوا إليه:
رأيت انثلامًا بيننا فرقعته برفقي وإحيائي وقد يرقع الثلم
فداويته حتى ارفأنَّ نفارُه فعدنا كأنا لم يكن بيننا جرم
وأطفأ نار الحرب بيني وبينه فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم
[1] صحيح البخاري في الأدب (6138).
[2] صحيح البخاري في الأدب (5958)، ومسلم في البر والصلة (2555) واللفظ لمسلم.
[3] صحيح البخاري في الأدب (5985)، ومسلم في البر والصلة (2557) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
[4] أخرجه مسلم في البر والصلة (2548).
[5] أخرجه البخاري في الأدب (5991).
[6] أخرجه مسلم في البر والصلة (2558).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: احذروا ـ أيها المؤمنون ـ من قطيعة الرحم؛ فإنها سبب للعنة الله وسخطه وعقابه، قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]، ويقول جل وعلا: وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد:25].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ من القطيعة. قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لكِ)) [1] ، وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) متفق عليه [2].
وهذا كله يبين أن قطيعة الرحم من كبائر الذنوب وعظائم السيئات.
فاتقوا الله عباد الله، وصلوا أرحامكم، وانظروا في أقاربكم هل قمتم بما أوجب الله عليكم من صلتهم والإحسان إليهم، فإن الله جل وعلا قد قرن قطيعة الرحم بالإفساد في الأرض، قال ابن كثير: "قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب في المقال والفعال وبذل الأموال".
[1] أخرجه البخاري في الأدب (5987)، ومسلم في البر والصلة (2554).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5984)، ومسلم في البر والصلة (2556) واللفظ لمسلم.
(1/3793)
ظلال المحبة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, خصال الإيمان, فضائل الإيمان
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل محبة الله تعالى. 2- أسباب محبة الله تعالى. 3- صفات يحبها الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
إن أعظم ما يحصله العبد في دنياه وآخرته هو محبة الله تعالى له، فهي الغاية التي يتنافس فيها المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علمها شمر الصادقون، فهي جنة الدنيا، ولذة القلب وقوته وحياته، فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن إلا بمعرفة الله تعالى ومحبته، فمحبة العبد لربه ومحبة الله لعبده هي النور والشفاء والسعادة واللذة، وهي التي تحمل العباد إلى بلاد لم يكونوا بالغيها إلا بشق الأنفس، وهي التي ترفعهم إلى درجات ومنازل لم يكونوا بدونها واصليها، تالله لقد ذهب أهل المحبة بشرف الدنيا والآخرة.
أيها الناس، إنه ليس عند العقول السليمة والأرواح الطيبة والعقول الزاكية أحلى ولا ألذ ولا أطيب ولا أسر ولا أنعم من محبة الله تعالى والإقبال عليه والأنس به والشوق إليه، فالحلاوة التي يحصلها العبد في قلبه بمحبة الله تعالى فوق كل حلاوة، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)) ، وذكر على رأسهن: ((أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار)) [1].
فمحبة الله تعالى ـ أيها المؤمنون ـ شأنها عظيم وأمرها كبير، فإن الله تعالى إنما خلق الخلق لعبادته، وعبادته لا تكون إلا بمحبته والخضوع له والانقياد لأمره.
قال ابن القيم رحمه الله: "فأصل العبادة محبة الله تعالى، بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله، فلا يحب معه سواه، وإنما يحب لأجله وفيه، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته، فمحبته لهم من تمام محبته، وليست محبة معه"ا هـ.
والمحبة هي الباعثة على العبودية، لذا فإن الله تعالى قد فطر القلوب على أنه ليس في محبوباته ومراداته ما تطمئن إليه وتنتهي إليه إلا الله وحده، فمن أحبّ من دونه شيئًا كما يحبه سبحانه فقد اتخذ من دون الله أندادًا في الحب والتعظيم، قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]. فقد جعل الله تعالى صرف المحبة لغيره شركًا ينقض أصل الإيمان، وما ذاك إلا أن محبة الله تعالى أعظم واجبات الإيمان وأكثر وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
أيها المؤمنون، إن من أسباب بعث محبة العبد لربه سبحانه مطالعتك ـ يا عبد الله ـ منة الله تعالى وإحسانه إليك في جميع أحوالك وأطوارك، فإن نعمته عليك لا تحصى، كما قال سبحانه: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل:18]. فبقدر مطالعتك ـ أيها العبد ـ لمنة الله تعالى ونعمه الظاهرة والباطنة عليك بقدر ما يكون في قلبك من محبة، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وليس للعبد إحسان قط إلا من الله تعالى، فلا أحد أعظم إحسانًا منه سبحانه، فإن إحسانه على عبده في كل نفس ولحظة، فالعبد يتقلب في إحسان ربه في جميع أحواله، فلله الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى.
أيها المؤمنون، إن مما يرسخ في قلب العبد محبته لربه سبحانه ويثبته عليها نظره في أسماء الله تعالى وصفاته، فإن أسماءه وصفاته توجب تعلق قلوب العباد به، ولذا جاءت رسله جميعًا به مُعرفين وإليه داعين.
قال ابن القيم رحمه الله: "فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفًا مفصلاً، حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه، وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه، يكلم ملائكته، ويدبر أمر مملكته، ويسمع أصوات خلقه، ويرى أفعالهم وحركاتهم، ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم، يأمر وينهى، ويرضى ويغضب، ويضحك من قنوطهم وقرب غيثه، ويجيب دعوة مضطرهم، ويغيث ملهوفهم، ويعين محتاجهم، ويجبر كسيرهم، ويغني فقيرهم، ويميت ويحيي، ويمنع ويعطي، يؤتي الحكمة من يشاء، بيده الخير، ويرحم مسكينًا، ويغيث ملهوفًا، ويسوق الأقدار إلى مواقيتها، ويجريها على نظامها".
فإذا عرف العبد عن ربه هذا وغيره من الأسماء الحسنى والصفات العلا أورثه ذلك حبًا لا تنفصم عراه ولا يُحد مداه، فالحمد لله الذي فتح لعباده طريقًا يتعرفون بها عليه.
أيها المؤمنون، ومن أسباب حصول محبة العبد ربَّه تعالى قراءة القرآن العظيم وتدبره وتأمله، فلا شيء أنفع من قراءة القرآن الكريم بتدبر وتفكر، فتلاوة القرآن ومحبته سبب لمحبة الله تعالى لعبده، فإن رجلاً من أصحاب النبي استجلب محبة الله بتلاوة سورة واحدة وتدبرها ومحبتها، فقال النبي : ((أخبروه أن الله يحبه)) رواه الشيخان [2].
ومن الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى إدامة ذكره سبحانه، فذكر الله تعالى شعار المحبين ودثار أولياء الله المتقين، فإن النبي قال: ((قال الله تعالى: أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه)) رواه البخاري [3].
فصاحب الأذكار مذكور عند الله بالثناء والمحمدة والمحبة، كما قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]. فنصيبك ـ يا عبد الله ـ من محبة الله على قدر ذكرك لله تعالى.
ومن الأسباب التي يحصل بها العبد محبة الله تعالى التقرب إليه بالنوافل بعد الفرائض، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) [4].
ومن الأسباب الجالبة لمحبة الله تعالى لعبده متابعة النبي في أعماله وأقواله وأحواله، قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]. فمحبة الله تعالى لعبده لا تحصل إلا إذا اتبع العبد رسول ربه وحبيبه، ظاهرًا وباطنًا، وصدّقه خبرًا، وأطاعه أمرًا، وأجابه دعوة، فما لم تحصل المتابعة لنبي الله فليس العبد محبًا لله تعالى، ولا الله تعالى محبًا له، فالجزاء من جنس العمل.
فللَّه كم فضحت هذه الآية من كاذب، والأمر كما قال الأول:
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا محال في القياس شنيع
لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
فكلّ عاص لله مخالفٍ لأمره مرتكب لنهيه كاذبٌ في دعواه المحبة، فإن الله قد نصب طاعته والخضوع له على صدق المحبة دليلاً.
والدعاوى إن لم تقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (15).
[2] أخرجه البخاري في التوحيد (6827), ومسلم في صلاة المسافرين (1347).
[3] علقه البخاري في كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى : لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ عن أبي هريرة رضي الله عنه بصيغة الجزم.
[4] أخرجه البخاري في الرقاق (6021).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، تدبروا كتاب ربكم وسنة نبيكم ، فإن القرآن والسنة مملوءان بذكر من يحبه الله تعالى، وما يحبه سبحانه من الأعمال والأقوال والأحوال، فمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين [البقرة:195]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، وقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ [آل عمران:159]، وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [المائدة:54].
أيها المؤمنون، ذكر الله تعالى في الآيات التي سمعتموها أصنافًا ممن يحبهم من عباده المحسنين والتوابين والمتطهرين والصابرين والمتوكلين، وفي آخر ما ذكرته من الآيات ذكر الله سبحانه لمن يحبهم أربع صفات: أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم، فإن من لوازم حب الله تعالى الولاء لله ولرسوله ولأوليائه والبراءة من أعدائه. وبهذا يتبين لنا كذب الذين ادعوا محبة الله، ثم والوا أعداء الله وحابوهم.
وأما الجهاد بالسيف والسنان والعلم والبيان فإن محبة الله تعالى توجبه قطعًا، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "فإن من أحب الله وأحبه الله أحب ما يحبه الله، وأبغض ما يبغضه الله، ووالى من يواليه، وعادى من يعاديه" [1].
وأما السنة فمن النصوص التي وردت في ذكر من يحبه الله وما يحبه قول النبي عن الذي يختم قراءته في الصلاة بسورة الإخلاص لكونها صفة الرحمن وهو يحبها، قال عليه الصلاة والسلام: ((أخبروه أن الله يحبه)). وكذلك أخبر أن قوي الإيمان محبوب لله تعالى، ففي صحيح مسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف)) [2]. وغير ذلك من الصفات الواردة في السنة الشريفة.
فاحرصوا ـ أيها المؤمنون ـ على الاتصاف بصفات المؤمنين، عسى أن تكونوا من الذين يحبهم الله تعالى، فإن النتائج بمقدماتها، والأشياء مربوطة بأسبابها، فاجتهدوا في الاتصاف بهذه الصفات، فإن محبة الله تعالى مِنّة وموهبة، وهي لا تحصل بالدعة والكسل.
فتلك مواهب الرحمن ليست تحصل باجتهاد أو بكسب
ولكن لا غنى عن بذل جهد بإخلاص وجدّ لا بلعب
فاعملوا ـ عباد الله ـ بطاعة الله، وانتهوا عما نهاكم عنه، واعلموا أن هذه الفضائل وتلك المنازل يسيرة على من يسرها الله عليه، وهي حاصلة لكل من جد في طلبها، وسعى في تحصيلها، فإن الأمر كما قال الأول:
فليس على الجود والمكرمات إذا جئتها حاجب يحجبك
[1] جامع الرسائل (2/275).
[2] أخرجه مسلم في القدر (4816).
(1/3794)
غزوة أحد
سيرة وتاريخ
غزوات
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جهاد النبي. 2- عزوة أحد: تاريخها وأسبابها وأحداثها. 3- الدروس والعبر المستفادة من الغزوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أبرز خصائص وسمات هذه الأمة المباركة أنها أمة جهاد ومجاهدة، فقد بعث الله فيها خاتم أنبيائه وآخر رسله وأمره بدعوة الناس كافة وقتال من خالف أمره، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)) رواه أحمد وأبو داود بسند جيد [1].
وقد قام نبينا بالجهاد حق القيام، فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان، فكانت حياته موقوفة على الجهاد في سبيل الله، ولهذا كان أرفع العالمين ذكرًا وأعظمهم عند الله قدرًا، وقد خاض بنفسه كثيرًا من المعارك فأصيب وأصيب أصحابه في بعضها، ثم كانت العاقبة لهم.
هم العصبة المثلى ولولا جراحهم لظل بهيم الليل كالموج عاتيا
أولئك أتباع النبي وحزبه ولولا هم ما كان في الأرض مسلم
ولولا هم كانت ظلامًا بأهلها ولكن هم فيها بدور وأنجم
فصلوات الله عليه وعلى أصحابه الذين قاموا بالدين خير قيام.
أيها المؤمنون، إن من المعارك التي خاضها النبي بنفسه غزوة أحد التي كانت محلاً لأحداث كبار ودروس وعبر عظام. فهي فياضة بالعظات الغوالي والمواعظ القيمة، أنزل الله فيها آيات طوالاً، وإليكم ـ أيها الإخوة ـ عرضًا موجزًا سريعًا لأحداث هذه الواقعة.
فقد كانت هذه الغزوة في شوال من السنة الثالثة من الهجرة، أي: بعد تلك الهزيمة النكراء التي لحقت بالمشركين يوم بدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.
فلم يقر لقريش قرار بعد تلك النازلة، فلما استدارت السنة خرجت قريش وحلفاؤها وانضم إليهم كل ناقم على الإسلام وأهله، فخرج الثائرون في عدد يربو على ثلاثة آلاف مقاتل، فوصلوا مشارف المدينة قريبًا من جبل أحد، استشار النبي أصحابه يوم الجمعة في الخروج، فخرج إليهم بنحو ألف مقاتل، فما لبث رأس النفاق عبد الله بن أبي أن انخذل بثلث العسكر ورجع إلى المدينة، فتعبأ رسول الله للقتال، وعبأ من كان معه من الصحابة ورتب الجيش، فجعل عبد الله بن جبير على الرماة وكانوا خمسين رجلاً وقال لهم: ((احموا ظهورنا)) ، وأمرهم أن يثبتوا مكانهم.
فكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزم أعداء الله ورسوله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمة المشركين ونصر المؤمنين ولاحت الغنائم ثار في نفوس بعضهم حب الدنيا، فغادروا مواقعهم يبغون الغنائم والأسلاب، وتركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله بحفظها، وقالوا: يا قوم الغنيمة، فذكرهم أميرهم عهد رسول الله فلم يسمعوا وظنوا أن ليس للمشركين رجعة، فأخلوا الثغر، فكرَّ فرسان قريش لما رأوا الثغر خاليًا فأحاطوا بالمسلمين، وأتوهم من حيث لم يحتسبوا، فارتبكت صفوف المسلمين، وانقلبت الكفة لصالح المشركين، وتلك الأيام نداولها بين الناس، قد جعل الله لكل شيء قدرًا، فقتل سبعون من الصحابة رضي الله عنهم، منهم حمزة عم رسول الله وأسد الله ورسوله، فحزن المسلمون لذلك أشد الحزن، حتى قال كعب بن مالك:
بكت عيني وحقّ لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
على أسد الإله غداة قالوا: أحمزة ذاكم الرجل القتيل؟
أصيب المسلمون به جميعًا هناك وقد أصيب به الرسول
واشتد الخطب على المسلمين في تلك المعركة، وخلص المشركون إلى رسول الله يريدون قتله، فجرحوا وجهه، وشجوا رأسه، وكسروا رباعيته، ورموه بالحجارة، وحصروه حتى وقع على شقه، وسقط في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عمر الفاسق، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه ، فانتزعهما أبو عبيدة حتى سقطت ثنيتاه، وحاول المشركون قتل رسول الله ، فحال دونه نفر قليل من المسلمين قتلوا جميعًا، ثم جالدهم طلحة رضي الله عنه حتى ردهم عن رسول الله ، وحمى أبو دجانة رسول الله بظهره، فكان النبل يقع على ظهر أبي دجانة وهو لا يتحرك.
وصرخ الشيطان عدو الله ورسوله بأعلى صوته: إن محمدًا قد قتل، فاغتم المسلمون لذلك غمًا شديدًا، حتى ألقى بعض المسلمين السلاح، فمر أنس بن النضر رضي الله عنه على بعض هؤلاء فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات، ثم إنه استقبل المشركين رضي الله عنه ولقي في طريقه سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال: واهًا لريح الجنة يا سعد، إني لأجد ريحها من دون أحد، فقاتل حتى قتل رضي الله عنه، ووجد به سبعون ضربة.
فأقبل رسول الله نحو المسلمين فصاح سعد بن معاذ رضي الله عنه بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول الله ، فأشار إليه النبي أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب، فأراد رسول الله أن يعلو صخرة هناك فلم يستطع لما به، فجلس طلحة تحته حتى صعد رسول الله على ظهره، فقال رسول الله : ((أوجب طلحة)). وحانت الصلاة وهم على هذه الحال، فصلى رسول الله بأصحابه جالسًا، وقد أصاب الإعياء الفريقين، فانحاز كل فريق إلى معسكره.
وركبت قريش الإبل وجنبت الخيل مؤذنة بالرحيل، فلما دنا الرحيل أشرف أبو سفيان وصرخ بأعلى صوته: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه، فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم؟ فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك، فقال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة ـ أي: تمثيل ـ لم آمر بها ولم تسؤني، ثم قال: اعلُ هبل، فقال رسول الله : (( ألا تجيبونه؟)) فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: ((الله أعلى وأجلّ)) ، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال : ((ألا تجيبونه؟)) قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: ((الله مولانا ولا مولى لكم)) ، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فأجابه عمر فقال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
أيها الإخوة المؤمنون، هذه لمحة موجزة سريعة استعرضنا فيها طرفًا من أحداث تلك الوقعة التي كان فيها من البلاء والمحنة والفرح والألم ما وقفتم على شيء منه، وقد حفظته كتب السير، وذكره الله تعالى في كتابه في سورة آل عمران، فقال الله تعالى مخاطبًا رسوله الكريم والصحابة الذين كانوا معه: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139] إلى آخر تلك الآيات التي قص الله فيها ما نزل بالمسلمين من النصب والوصب، فجزاهم الله عنا خير ما جزى قومًا عن أمتهم.
سلام من الرحمن في كل ساعة وروح وريحان وفضل وأنعم
لكل امرئ منهم سلام يخصه يبلغه الأوفى إليه وينعم
[1] أخرجه أحمد (5093)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/212).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إن هذه الوقعة مع ما وقع فيها من الكوارث والنكبات، وما حوته من النوازل والأزمات، إلا أنه يصدق فيها قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11].
فإن هذه الوقعة فيها من الدروس والعبر والمواعظ والحكم شيء كثير، ذكره الله تعالى في كتابه عند ذكر هذه الغزوة في سورة آل عمران، وإليكم بعض هذه الدروس.
فمن تلك العبر والدروس في غزوة أحد ذلك الدرس الذي تجده ظاهرًا في جميع فصول هذه الغزوة وأحداثها، ألا وهو الابتلاء، فإن ابتلاء الله تعالى للمؤمنين سنة ماضية وراسخة، فيه من الفوائد والحكم ما لا يحصل بالعافية والأمن، فعلى رغم أن البلاء في هذه الغزوة كان مريرًا قاسيًا، إلا أن الله عاتب بعض من استنكر ذلك فقال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، فمن ظن أن الجنة تحصل له بأبخس الأثمان وأضعف الأعمال فقد أخطأ الحساب؛ إذ لا بد للجنة من مهر يقدمه العبد في هذه الدنيا، به يتميز الأولياء من الأدعياء، فالبلاء يميز الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، والبلاء يكشف عن معادن الرجال، كما قال الأول:
جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي
فإن الله لما ابتلى المسلمين بهذه النازلة أبدى المنافقون رؤوسهم، وتكلموا بما كانوا يكتمون، وظهرت مخبأتهم، وعاد تلويحهم تصريحًا، وانقسم الناس في هذه الغزوة إلى كافر ومؤمن ومنافق، وعرف المؤمنون أن لهم عدوًا في أنفسهم، فماز الله بذلك الخبيث من الطيب، قال الله تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [آل عمران:179].
فعرف المؤمنون في هذه الغزوة ضعفهم، وبها عرفوا أعداءهم، وهذبهم بها، ومحص قلوبهم، وجعلها سببًا لبلوغ منازل ودرجات قضى في سابق حكمه أنها لهم، قصرت عنها أعمالهم فاتخذ منهم شهداء كتب لهم أعلى المنازل ورفعهم أعلى الدرجات.
كما أن الله سبحانه وتعالى هيأ بما حدث في هذه الغزوة من البغي والعدوان على أولياء الله تعالى وأحبابه وأصفيائه، هيأ بذلك أسباب محق أعدائه؛ فإن الله إذا أراد أن يهلك أعداءه قيض لهم الأسباب التي يستحقون بها الهلاك والمحق، ومن أعظم هذه الأسباب بعد الكفر بالله بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه، وتفننهم في محاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((من آذى لي وليًا فقد آذنته بالحرب)) [1]. فإذا عتا أعداء الله على أوليائه وحزبه فإن ذلك من أمارات وعلامات قرب محق الله لهم، قال الله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:140، 141].
وما تشهده الأمة اليوم من تسلط الكفار وأشياعهم على حزب الله وأوليائه ما هو إلا إحدى علامات قرب محق الله لهؤلاء المعتدين. فالحمد لله الحكيم العليم الخبير.
وعلى ورثة الأنبياء من أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة أن يتقوا الله ويصبروا؛ فإن أجل الله قريب، وعليهم أن لا يضجروا إذا أصابهم أذى أو نزل بهم مكروه؛ فإن الله قد قال: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21] وقد صدق القائل:
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
والابتلاء مهما طالت مدته وامتد وقته واشتدت كربته وتوالت أحداثه وكثرت ضحاياه فإن عاقبته أن يرتفع وينكشف فإنه
مهما دجا الليل فالتاريخ أخبرنا أن النهار بأحشاء الدجى يثب
وينبغي لأولياء الله أن لا يهنوا ولا يذلوا لما نزل بهم من كرب أو حل بهم من ضيم؛ فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، لا يرفعها انكسار عسكري ولا يزيلها ضعفه، بل الأمر كما قال الله تعالى لأوليائه بعد انقضاء هذه المعركة: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فإن ما أصابهم إنما هو في ذات الله تعالى، فعليهم أن يتجلدوا لأعدائهم والشامتين بهم، كما قيل:
وتجلُّدي للشامتين أُريهمُ أني لريب الدهر لا أتضعضع
وعلى أولياء الله أن يعلموا أنه إذا كان البلاء يصيب الرسل ومن معهم مع صحة إيمانهم وصدق بذلهم وعظيم جاههم عند الله تعالى فإصابته لمن دونهم أولى وأحرى.
ومن الدروس الكبرى في هذه الواقعة كشف سوء عاقبة المعاصي وشؤمها على من قارفها، بل ويتعدى ذلك إلى المجتمع، ولا شك أن شؤم المعصية سيئ قبيح، وقانا الله وإياكم شر أنفسنا والهوى والشيطان. ويتضح هذا من خلال ما وقع من الرماة في هذه الغزوة، فإنهم لما خالفوا أمر رسول الله عاقبهم الله بما سمعتم في الخطبة الأولى.
[1] أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3795)
غزوة الأحزاب
سيرة وتاريخ
غزوات
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تاريخ الغزوة وسببها وبعض المعجزات النبوية فيها. 3- وصف الغزوة. 4- بعض الدروس والعبر المستفادة من الغزوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إن الله بعث محمدًا بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، فجاهد في الله حق جهاده، بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان، فكانت حياته كلها موقوفةً على الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله، فكان بذلك أرفع الناس ذكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا، فقاتل وقوتل، وأصاب وأصيب منه هو وأصحابه رضي الله عنهم، فكان جهادهم وكانت دماؤهم مشاعل نور وهداية، أخرج الله بها كثيرًا من الناس من الظلمات إلى النور.
هم العصبة المثلى ولولا جراحهم لظل بهيم الليل كالموج عاتيا
ولولاهم كانت ظلامًا لأهلها ولكن هم فيها بدور وأنجم
أيها المؤمنون، إن من المعارك التي خاضها رسول الله بنفسه غزوة الأحزاب التي قصّ الله تعالى نبأها في كتابه، في سورة سميت باسم تلك الغزوة وهي سورة الأحزاب، أظهر الله سبحانه وتعالى فيها من عظيم قدرته وبديع صنعه ولطيف فعله ونصره لأوليائه وخذلانه لأعدائه ما تطيب به قلوب المؤمنين المتقين.
ففي السنة الخامسة من الهجرة في شهر شوال جاءت قريش ومن معها من الأحزاب على الصفة التي ذكرها الله تعالى في كتابه حيث قال: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُم [الأحزاب:10]، وذلك أن اليهود عليهم لعنة الله لما رأوا انتصار المشركين على أهل الإيمان يوم أحد طمعوا في القضاء على الإسلام بالكلية، فانتشروا في أحياء العرب يحرّضونهم على غزو رسول الله ، ويؤلبونهم عليه، ويعدونهم بالمؤازرة والنصر، فاستجابت قريش لهم وغطفان وغيرها من قبائل العرب، فكان من وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف مقاتل، يريدون أن يطفئوا نور الله بأسيافهم، والله يتم نوره ولو كره الكافرون، فلما سمع رسول الله بمسيرهم إليه استشار أصحابه، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق ليحول بين العدو وبين المدينة، فأمر النبي بحفر الخندق شمالي المدينة، فبادر المسلمون إلى ذلك، وشاركهم النبي بنفسه في الحفر، فكان ينقل التراب يوم الخندق حتى اغبر بطنه وهو يقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا
وقد كان ـ أيّها المؤمنون ـ في حفر النبي هذا الخندق من آيات نبوته وعلامات رسالته ما ازداد بها المؤمنون إيمانًا، فمن ذلك أن هذه الغزوة كان فيها من النصب والجوع ما لم يكن في غيرها، فاستمع إلى ما ذكره جابر من نبأ تلك الغزوة، قال : إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كُدْيَة شديدة، فجاؤوا النبي فقالوا: هذه كُدية عرضت في الخندق، فقال: ((أنا نازل)) ، ثم قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَواقًا، فأخذ النبي المِعول فضرب، فعاد كثيبًا أَهْيل ـ أو أهيم ـ فقلت: يا رسول الله، ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنبي شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعَنَاق، فذبحت العَناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البُرْمة، ثم جئت النبي والعجين قد انكسر، والبُرْمة بين الأثافي قد كادت أن تنضج، فقلت: طُعَيِّم لي، فقم أنت ـ يا رسول الله ـ ورجل أو رجلان، قال: ((كم هو؟)) فذكرت له، قال: ((كثير طيب)) ، قال: ((قل لها: لا تنزع البرمة ولا الخبز من التنور حتى آتي)) ، فقال: ((قوموا)) ، فقام المهاجرون والأنصار، فلما دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النبي بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، فقال: ((ادخلوا ولا تضاغطوا)) ، فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويُخَمِّر البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويقرب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يكسر الخبز ويغرف حتى شبعوا، وبقي بقية، قال: ((كلي هذا وأهدي، فإن الناس أصابتهم مجاعة)) [1].
ومن الآيات ـ أيها المؤمنون ـ التي ظهرت في حفر هذا الخندق: عن البراء بن عازب قال: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنَ الخَنْدَقِ، لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: ((بِسْمِ اللَّهِ)) ، فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا)) ، ثُمَّ قَالَ: ((بِسْمِ اللَّهِ)) ، وَضَرَبَ أُخْرَى، فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا)) ، ثُمَّ قَالَ: ((بِسْمِ اللَّهِ)) ، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ، فَقَالَ: ((اللَّهُ أَكْبَرُ، أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا)) [2]. فاستبشر بذلك المؤمنون الصادقون، وتبلبل الواهنون المرتابون، فقال الذين في قلوبهم مرض: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا.
فلما اجتمعت جحافل الكفر حول المدينة، وضيقوا عليها الخناق، اشتدت الحال بالمسلمين، وعظم عليهم الكرب، وزاد الأمر أن اليهود يهود بني قريظة نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي ، فضاق الأمر بالمسلمين كما قال الله تعالى: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ يعني: الأحزاب، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني: يهود بني قريظة، وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب:10، 11]، ومع شدة الكرب وعظم البلاء ما زاد المؤمنون على أن قالوا: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22]، أما المنافقون فقد قالوا: مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب:12].
أيها المؤمنون، أقام المشركون محاصرين رسول شهرًا، ولم يكن بينهما قتال يذكر، لأجل ما حال الله به من الخندق بينهم وبين المسلمين، فأراد النبي لما طال على المسلمين الخطب أن يصالح الكفار، إلا أن الصحابة أبوا ذلك لما شاورهم النبي.
وكان من عظيم ما هيأه أيضًا لأمة الإسلام أن أرسل على المشركين جندًا من الريح، فقوضت خيامهم، وخربت بنيانهم، فلم تدع لهم قِدرًا إلا كفأته، ولا طنبًا إلا قلعته، وأرسل عليهم الملائكة فألقوا في قلوبهم الرعب والخوف. فلما بلغ الأمر مبلغه بقريش صاح فيهم أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم ـ والله ـ ما أصبحتم بدار مقام، فَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزًا.[الأحزاب:25].
[1] أخرجه البخاري في المغازي (3792), ومسلم في البر والصلة (4684).
[2] أخرجه أحمد من حديث البراء بن عازب (17946).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فقد سمعتم ـ أيها المؤمنون ـ نبأ هذه الوقعة، وخبر هذه الغزوة التي حوت آيات بينة ودروسًا قيمة، فدروس هذه الوقعة وعبرها كثيرة، وسأشير إلى أهمها وأبرزها.
فمن أهم دروس هذه الغزوة أن الله سبحانه وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، كما قال جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، فالله سبحانه نعم المولى ونعم النصير، يبتلي أولياءه ليميز الخبيث من الطيب، فإذا تبين أهل محبته وأهل دينه وتميزت الصفوف جاءهم وعده ووقع خبره، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ [غافر:51].
ومن دروس هذه الغزوة حسن بلاء النبي وأصحابه، حيث إنهم صبروا على ما قدره الله تعالى عليهم بقلوب ثابتة وعزائم راسخة، فلم تستفزهم الكروب ولم تقعدهم الخطوب، بل كانوا كلما اشتدت الكروب وادلهمت الخطوب زادهم ذلك إيمانًا وتسليمًا، وتصديق ذلك في هذه الغزوة قوله تعالى: وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب:22].
ومن دروس هذه الغزوة أن المؤمنين إذا اجتهدوا في الدفاع عن دينهم وجهاد أعداء الله وأعداء رسوله وفعلوا قصارى طاقتهم في نصر الله ورسالته فإن الله سبحانه وتعالى يكرمهم بعون منه وتأييد، فيصنع لهم ويهيئ لهم من أسباب الغلبة والنصر ويبعث لهم من جنود العِزّ والتمكين ما لم يكن لهم على حساب، ويؤيدهم بجند من عنده، وما يعلم جنود ربك إلا هو، فإذا صدقنا إيماننا، وتمسكنا بديننا، والتزمنا بنهج نبينا في كل أمورنا، فلا يضرنا كيد الكائدين ولا مكر الماكرين.
ومن دروس هذه الغزوة شدة عداوة اليهود للإسلام وأهله، وأما نقضهم للعهود ونكثهم للمواثيق فهذه من أخص خصائصهم على مر العصور وكر الدهور، قال الله تعالى: أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:100].
(1/3796)
كلمة التقوى
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, قضايا في الاعتقاد
أهمية التوحيد, البدع والمحدثات, فضائل الأزمنة والأمكنة
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل كلمة التوحيد. 2- معنى كلمة التوحيد. 3- حرمة الأشهر الحرم. 4- بدع رجب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فإن الله تعالى خلقكم لأمر عظيم جليل، بينه لكم فقال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُون [الذريات:56]، وقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]. فالله قد خلقكم، إنسكم وجنكم، ذكركم وأنثاكم؛ لعبادته تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].
أيها المؤمنون، إن مفتاح العبودية الأعظم هو شهادة أن لا إله إلا الله، فلا إله إلا الله قامت بها السماوات والأرض، ولا إله إلا الله فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا إله إلا الله أول دعوة الرسل لأقوامهم، ولا إله إلا الله كلمة التقوى والإسلام ومفتاح الجنة دار السلام.
أيها المؤمنون، إن فضائل لا إله إلا الله عظيمة كثيرة، فمن ذلك أنها أول ما يطالب بها العبد ليدخل في الدين الذي لا يقبل الله تعالى سواه، ففي قصة بعث معاذ إلى اليمن: ((فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله تعالى)).
ومن فضائلها أن بها يعصم دم العبد وماله، قال النبي : ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حَرُم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل)) رواه مسلم [1].
ومن فضائل لا إله إلا الله أنها تحرم على النار من قالها صادقًا مخلصًا، ففي الصحيحين من حديث عتبان بن مالك قال: قال رسول الله : ((فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)) [2].
ومن فضائلها أن بها يدخل العبد الجنة دار السلام، قال النبي : ((أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبدٌ غير شاك فيحجب عن الجنة)) [3].
ومن فضائلها أنه من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة، فعن معاذ قال: قال رسول الله : ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)) رواه أبو داود بسند صحيح [4].
ومن فضائل هذه الكلمة المباركة أنها أفضل ما نطق به العبد، ففي الترمذي بسند صحيح قال رسول الله : ((وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له)) [5].
ومن فضائل هذه الكلمة الطيبة أن من قالها بإخلاص حصلت له شفاعة النبي ، ففي الصحيح أن النبي قال: ((أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه)) [6].
ومن فضائل لا إله إلا الله أنه لا يعدلها شيء في الميزان، فعن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((إن نبي الله نوحًا لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاصّ عليك الوصية، آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين؛ آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كِِفة، ووضعت لا إله إلا الله في كفة، رجحت بهن لا إله إلا الله، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مُبْهَمة قَصَمتْهن لا إله إلا الله)) رواه أحمد بسند جيد [7].
ومن فضائل لا إله إلا الله أنها إذا رسخت في قلب العبد بددت ضباب الذنوب وغيومها، فعن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: ((يصاح برجل من أمتي يوم القيامة على رؤوس الخلائق، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول الله عز وجل: هل تنكر من هذا شيئًا؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أظلمتك كتبتي الحافظون؟ ثم يقول: ألك عن ذلك حسنة؟ فيهاب الرجل فيقول: لا، فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنات، وإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قال: فيقول: يا رب، ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقول: إنك لا تظلم، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثَقُلت البطاقة)) رواه أحمد والترمذي وغيرهما بإسناد صالح [8].
أيها المؤمنون، إن من فضائل لا إله إلا الله الكبار أنها تثمر العمل الصالح، فجميع الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة إنما هي ثمرة هذه الكلمة المباركة، قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [إبراهيم:24-25]، فشبه سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، فمن رسخت هذه الكلمة الطيبة في قلبه إيمانًا وتصديقًا، انقادت جوارحه لأمر الله تعالى عملاً وتطبيقًا.
فلا إله إلا الله ما أعظم هذه الكلمة وأكثر فضائلها.
أيها الإخوة المؤمنون، لنا مع هذه الفضائل وقفتان:
الأولى: في معنى هذه الكلمة الطيبة، فإن كثيرًا من الناس لا يعرفون معناها، وقد لا يدركون حقيقة مضمونها، ولا شك أن هذا سبب كبير في تخلف هذه الفضائل عن قائلها.
أيها المؤمنون، إن معنى قولكم: "لا إله إلا الله" أنكم تقرون بأنه لا معبود بحق إلا الله تعالى، فلا يستحق أحد أن يصرف له شيء من العبادات القلبية كالمحبة والخوف والرجاء والتوكل غير الله تعالى، ولا يستحق أحد أن يصرف له شيء من العبادات من صلاة وذبح ونذر ودعاء غيره سبحانه، بل الواجب أن يفرد جل وعلا بجميع العبادات الظاهرة والباطنة.
فإن أخل العبد بشيء من ذلك، فصرف العبادة لغير الله، فإن لا إله إلا الله لا تنفعه بشيء، بل هو مشرك كافر متوعَّد بقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار [المائدة:72]. فاحذروا الشرك ـ يا عباد الله ـ فإن خطره عظيم.
اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك ونحن نعلم، ونستغفرك مما لا نعلم.
الوقفة الثانية: أنه لا يكفي في حصول تلك الفضائل والخيرات المترتبة على قول: "لا إله إلا الله" مجرد قولها فقط. قال ابن القيم رحمه الله: "فإن هذا خلاف المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام"، ثم قال رحمه الله: "فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها، في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان".
أيها المؤمنون، إن قول القلب الذي لا بد من توفّره لتحصيل تلك الفضائل وإدراك تلك المناقب هو أن تكون أعمالك ـ يا عبد الله ـ كلها لله، وأقوالك لله، عطاؤك لله ومنعك له، حبك لله وبغضك له، فمعاملاتك لوجه الله وحده، لا تريد بذلك من الناس جزاءً ولا شكورًا. فمن صاغ قلبه وقوله وعمله على ذلك فإنه من أهل لا إله إلا الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
أيها المؤمنون، اقدروا لهذه الكلمة العظيمة قدرها، فإنها مفتاح النجاة وباب السعادة في الدنيا والآخرة.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (34).
[2] أخرجه البخاري في الصلاة (407), ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (1052).
[3] أخرجه مسلم في الإيمان (39).
[4] أخرجه أبو داود في الجنائز (2709)، وسنده صحيح.
[5] أخرجه الترمذي في الدعوات (3509).
[6] أخرجه البخاري في العلم (97).
[7] أخرجه أحمد من حديث ابن عمر (6295)، وسنده جيد.
[8] أخرجه أحمد من حديث عبدالله بن عمر (6699), والترمذي في الإيمان (2563), وإسناده صالح.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى بعض الأوقات والأزمنة، وخصها بفضائل ومواهب، ميزها بها عن غيرها من الأزمان، ففضل الله سبحانه الأشهر الحرم على غيرها من الأشهر ببعض الفضائل والأحكام، قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِين [التوبة:36]، وهذه الأشهر قد بينها النبي فقال: ((إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان)) متفق عليه [1].
فشهرنا هذا شهر رجب هو أحد الأشهر الحرم التي نهانا الله سبحانه فيها عن ظلم أنفسنا، ويكون ذلك بالكف عن الفحشاء والمنكر، كما قال الأول:
وخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
قال ابن حجر رحمه الله: "لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيام شيء منه معين ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه حديث صحيح يصلح للحجة" [2].
فاحذروا ـ أيها المؤمنون ـ البدع والمحدثات.
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف
أيها المؤمنون، إن مما أحدثه الناس في هذا الشهر تخصيصهم شهر رجب بأنواع من البدع والمحدثات، فمن ذلك تخصيصهم أول جمعة من هذا الشهر بصلاة، يسمونها صلاة الرغائب، ومن ذلك أيضًا تخصيصهم شهر رجب بصيام أيام معينة منه، ومما أحدثوه أيضًا تخصيصهم شهر رجب بالعمرة التي يسمونها الرجبية، وكل هذا من البدع والمحدثات التي لم يفعلها النبي ولا السلف الصالح، وهي لا تزيد العبد من الله إلا بعدًا، ففي الصحيح من حديث عائشة مرفوعًا: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) [3].
قال ابن القيم رحمه الله: "وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعدًا، فإن الله تعالى إنما يعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء" [4].
فاتقوا الله عباد الله، والزموا الكتاب والسنة، فإنه لا نجاة للعبد إلا بهما، واعلموا أنه لم يثبت من هذه المحدثات شيء.
اللهم اجعلنا من العاملين بالكتاب والسنة المتمسكين بهما.
[1] أخرجه البخاري في بدء الخلق (2958) ومسلم في القسامة والمحاربين (3179).
[2] تبيين العجب (ص21).
[3] أخرجه مسلم في الأقضية (3243).
[4] مدارج السالكين (1/96).
(1/3797)
المؤمنون إخوة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمة الإسلامية أمة واحدة. 2- حق المسلم على المسلم. 3- ضوابط وفوائد من حديث الهَجْر. 4- حرص الإسلام على نشر المودة والمحبة بين المسلمين. 5- هدي النبي في العفو والصفح. 6- آثار الغضب وعلاجه.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال : ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى)).
المسلمون أمة واحدة وإن تباعدت ديارهم وتباينت ألوانهم واختلفت ألسنتهم، يجمعهم القرآن، ويوحّد أهدافهم الإسلام، ربهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، هدفهم إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه، شعارهم الأخوة الصادقة والمودة الخالصة، أخوّة الإيمان ورابطة الإسلام.
على هذا كان المسلمون الأوّلون، يُسرّون إذا أصاب إخوانَهم في أي مكان من الدنيا خيرٌ، ويحزنون إذا أصابهم شرٌّ، وسرورهم وحزنهم لم يكن كلامًا ولا بكاءً، وإنما كان عملاً وإغاثةً وتلبيةً للنداء، فإذا سمع المسلم أن إخوانه المؤمنين في دولة مسلمة تسومهم دولة ظالمة سوء العذاب تقتل رجالهم وتستبيح أعراضهم سارع إلى نجدتهم، وعمل على نصرهم وإهلاك عدوّهم، وهذه هي أخوة الإسلام، ومن لم يهتمّ بأمر المسلمين فليس منهم.
إن من حقّ المسلم على أخيه المسلم أن يفرّج كربته، ويغيث لهفته، ويقضي حاجته، ويلبّي دعوته، يحبّ له من الخير ما يحبّه لنفسه، ويقدّم له الخير بيمينه، ويدفع عنه الشرّ والأذى بشماله. من حق المسلم على أخيه المسلم أن يحفظ سرّه، ويستر عيبه، ويعوده إذا مرض، ويشيّع جنازته إذا مات، ويحفظ عرضه إذا سافر، وينصره إذا ظُلِم، وينصحه إذا اعْوَجّ، ((ومن كان في حاجة أخيه المؤمن، كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عنه بها كربة من كُرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) ، وقال : ((و لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ، وقال: ((لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)).
إن علاقة المسلم بأخيه المسلم يجب أن تكون علاقة مودة وحبّ ووئام؛ ليعيش الكلّ في مجتمع لا عداوة فيه ولا خصام، والإسلام حريص كل الحرص على ترابط القلوب وائتلاف الأرواح، ولذا حرّم أن يخاصم المسلمُ أخاه ويهجره فوق ثلاث ليال، بحيث إذا تلاقيا في مجلس أو طريق أعرض كل واحد منهما عن صاحبه فلم يكلمه أو يسلم عليه؛ لأن هذا ينافي الأخوّة التي سُداها ولُحْمتها المحبّة والمودّة.
وأشار هذا الحديث إلى إباحة الهجر لمدة ثلاث ليال فقط، مراعاة لطبيعة الإنسان ورحمة به، فالإنسان وقت الخصام يهيج الغضب في نفسه، ويصعب عليه أن يعود إلى من خاصمه، فإذا مرّت هذه المدة سكن غضبه، وهدأت نفسه، وبدأ ينسى إساءة أخيه له، وقد يجد عذرًا لأخيه في إساءته له، فيسهل عليه أن يعود إلى صاحبه، وينسى ما كان منه، ويصفح عنه، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40].
وقد بين النبي أن أفضل المتخاصمين وأحسنهما خلقًا وأكرمهما نفسًا من يرجع عن الخصام، ويسامح أخاه إذا قابله في مجلس أو طريق، ويبدؤه بالتحية والمصافحة والسلام، وينسى خصامه وإساءته؛ لأن هذا يدل على صفاء النفس وطهارة القلب، يقول النبي : ((لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) ، والسرّ في نهي النبي عن استمرار الخصام أنه قد يدفع كلاًّ من المتخاصمين إلى التفكير في تدبير الشرّ لصاحبه وإيذائه، وربما اتّسع النزاع، وامتد إلى أسرة كل منهما، وبذلك تنقطع الروابط بين المسلمين، وتنفصم عُرى الأُلفة بين المؤمنين.
إن الإسلام حريصٌ على أن تكون الرابطة بين أتباعه رابطة مودة وسلام، حتى يتعاونوا في سبيل الخير، ولا ينصرفوا إلى الشر، أو يدبّر بعضهم الشر لبعض، فإن ذلك يدعو إلى الفُرْقة والضعف، وقد نهانا الله عن الفُرْقة والتنازع، فقال عز من قائل: وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].
وهذا ترغيب للمسلمين في التسامح والإسراع إلى إنهاء النزاع والخصام بين المسلمين أفرادًا وجماعات، الذي يؤدي إلى إضعافهم وتفريقهم واضطراب حياتهم، وأن المجتمع السعيد هو المجتمع الذي يسوده الودّ والصفاء، ويطهّر من أسباب الفرقة والخصام، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
وفتح رسول الله مكة، ودخلها نهارًا بعد أن أُخرِج منها ليلاً، وحطّم الأصنام بيده، ووقف أهل مكة أمامه يرقبون العقاب الذي سينزله بهم رسول الله جزاءَ ما قدّموه له من إيذاء لا يتحمّله إلا أهل العَزَمَات القويّة، إلا أنه قال لهم: ((ما تظنون أني فاعل بكم؟)) قالوا: خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال لهم: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
وسيرة رسول الله تفيض إشراقًا بمواقف العفو والحلم، تُعدّ نماذج لمن ينشد معالي الأمور، ومعالم لمن يطلب حياة الشرف والمروءة. قال أعرابي لرسول الله وهو يقسم الغنائم: اعدل، فإن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فلم يزد في جوابه أن بيّن له ما جَهِله، ووعظ نفسه وذكّرها بما قال له، ثم قال له: ((ويحك، فمن يعدل إن لم أعدل؟! خِبْتُ وخسرتُ إن لم أعدل)) ، ونهى أصحابه أن يقتلوه حين همّ بعضهم بذلك.
إن الرسول الكريم لم تأخذه الدّهشة من قول الأعرابي؛ لأنه يعرف أن في طبيعة الناس صنفًا منهم مَرَدَ على الجفوة في التعبير والإسراع بالشرّ.
ليس الإنسان القويّ هو الذي أوتي حظًّا من قوة في يديه أو في سلامة جسده، بل القوى حقًّا هو الذي ينظر إلى هفوات الناس على أنها فورة عارضة، فيتغاضى عنها، فقد سأل نبيُنا أصحابَه بقوله: ((ما تعدّون الصُّرَعَة فيكم؟)) قالوا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: ((لا، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب)).
جاء رجل لرسول الله وقال له: أوصني ولا تكثر علي لعلّي لا أنسى، قال: ((لا تغضب)). وطلب الرجل من النبي الوصية فقال: اعهد إليّ، قال: ((لا تسبّنّ أحدًا)) ، قال: فما سببتُ بعده حرًّا ولا عبدًا ولا بعيرًا ولا شاة، قال : ((لا تحقرنّ شيئًا من المعروف)) ، ثم قال: ((وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما لم يعلم منك فلا تعيّره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه)).
لقد بيّن ذلك كلَّه ربُنا تعالى في قوله: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134].
يقول الأحنف بن قيس: (ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفت له فضله، وإن كان مثلي تفضّلت عليه، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه).
وَما قَتَلَ الأَحرارَ كَالعَفوِ عَنهُمُ وَمَن لَكَ بِالحُرِّ الَّذي يَحفَظُ اليَدا
إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا
وَوَضعُ النَدى في مَوضِعِ السَيفِ بِالعُلا مُضِرٌّ كَوَضعِ السَيفِ في مَوضِعِ النَدى
وفعل الخير لا يضيع عند الناس الذين يعرفون الفضل لذويه، وتأسرهم الكلمة الطيبة والعفو، والإنسان منا في حياته يلاقي كثيرًا مما يؤلمه، ويسمع كثيرًا مما يؤذيه، ولو ترك كل واحد نفسه وشأنها لتردّ الإساءة بمثلها لعشنا في صراع دائم مع الناس، وما استقام نظام المجتمع إلا إذا صلحت العلاقات الاجتماعية التي تربط بين المواطنين.
فالإنسان في بيته ومع أسرته قد يرى ما يغضبه، ومطلوب منه شرعًا وإنسانية أن يكون واسع الصدر، يسارع إلى الحلم قبل أن يسارع إلى الانتقام، وبذلك تظلّ أسرته متحابّة متماسكة، ومن أخطأ اليوم فقد يصلح خطأه في الغد، ويندم على ما قدّم من إساءة، والإنسان في عمله في الموقع الذي هيّئ له سواء أكان موظفًا في وظيفته أم صانعًا في مصنعه أم تاجرًا في متجره يخالط غيره من الناس، ويتعامل مع كثير من أبناء وطنه، وقد يُستغضب ويرى ما يسوؤه، فعليه أن يضع بدل الإساءة إحسانًا، ومكان الغضب عفوًا وحلمًا، وصدق الله العظيم إذ يقول: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
إن الإسلام يريدنا مجتمع حبّ وودّ ومودّة وخير وفضل وإحسان، مجتمعًا متماسك البنيان متوحّد الصفوف والأهداف. إن الإسلام دين الفضل والمسامحة والإغضاء عن أخطاء الآخرين، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3798)
سوء الظن
الرقاق والأخلاق والآداب
أمراض القلوب
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة سوء الظن. 2- من أسباب الظن. 3- آثار سوء الظن.
_________
الخطبة الأولى
_________
سوء الظن مرض خطير من أمراض العصر، نتائجه خطيرة، ومفاسده عظيمة، وهو دليل على سوء طوية صاحبه، ومن أصيب بهذا الداء فواجب عليه أن يتعالج منه، والجاهل إذا اتهم أو أنقص من قدر الناس أساء ظنه بهم.
جاء في السنة أن رجلاً أساء الظن برسول الله لما وزّع الغنائم، واتهم النبي بعدم العدل والإخلاص، فقال: اعدل يا محمد، فما عدلت، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. فدفعه سوء ظنه وفعله القبيح وسطحية تفكيره وفهمه وقلة فقهه لمقاصد الشريعة ومصالح الدين، دفعه ذلك على أن استعجل في الحكم، وحكم بجهل على أكمل إنسان وأعدل بني عدنان، والمرء إذا لم يعلم فعليه أن يسأل ويستفسر، ولا يجري وراء الظنون.
وإنه لمن أكبر الأسى والأسف أن نرى بعض الذين مطيتهم سوء الظن بالخاصة قبل العامة، وإن رأوا من يداري أو رأوا شيئًا لا يمشي مع هواهم أذاعوا به، والبعض يقيس ويزن الأمور بفهمه، فيكفي عنده في جرح أخيه أن يخالفه فيما قرأ أو سمع، أو أنه لا يرضى عقله وهواه، ولو نظر المسيء الظن أن من أساء فيه الظن خالفه في أمر تختلف فيه الأفهام والأنظار لما أدخل على نفسه هذا البلاء.
ومن أسباب سوء الظن تزكية المرء نفسه واحتقاره غيره، فيرى نفسه على الصواب، وجميع الأمة على الباطل.
إن أصحاب العقول الكبيرة والتدين الصحيح يؤلفون القلوب، ويجمعون أبناء الأمة على الألفة والمحبة والأخوة وترك سوء الظن بالآخرين.
إن اجتماع كلمة المسلمين وترك الفرقة جعلت النبي يترك بعض المستحبات كي لا تضيع في فعلها واجبات، من ذلك أنه لم يعطِ الفقراء وأعطى الأغنياء تأليفًا لقلوبهم؛ لأنه نظر أن ذلك أنفع للدين، ومنها أنه ترك تغيير بناء البيت إبقاء لتأليف القلوب. وكان ابن مسعود ينكر على عثمان إتمام الصلاة في السفر، ثم صلى خلفه متممًا وقال: (الخلاف شر).
من مظاهر سوء الظن أن من يتكلم عن الرقاق والأدب وعن كرامات الصالحين يُرمى بتهمة الخرافة والتصوف، ونسي هؤلاء أن الرقاق وحكايات الصالحين ترقق القلوب، ولقد ألف عبد الله بن المبارك كتاب الزهد وكذلك الإمام أحمد، وكان السلف يحرصون على ما يرقق قلوبهم ويقولون: "حديث يرق له قلبي أحب إلى من مائة قضية من قضايا شريح".
من مظاهر سوء الظن تجريح الناس أحياء وأمواتًا، ورميهم بشتى أنواع الضلال، قال : ((إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلكهم)) رواه مسلم. قال الخطابي: "لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول: فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي: أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم".
إن الظن السيئ يدفع صاحبه لتتبع العورات والبحث عن الزلات والتنقيب عن السقطات، وهو بذلك يعرض نفسه لغضب الله وعقابه، وقد وعد النبي هؤلاء المرضى بالفضيحة بقوله: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)).
وسوء الظن يزرع الشقاق بين المسلمين، ويقطع حبال الأخوة، ويمزق وشائج الألفة والمحبة، ويزرع البغضاء والشقاء، والله يحذرنا من ذلك بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وقال : ((إذا ظننت فلا تحقق)).
إنما المؤمنون إخوة، فلا تتبعوا العورات، ولا تصيدوا السقطات، ولا تبحثوا عن الزلات، وكن كالنحلة تسقط على الورد والزهور، ولا تكن كالذباب حيث يسقط على القاذورات والخبائث، لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيرًا وأنت تجد لها في الخير محملاً.
تأمّل كيف أمرك الإسلام بستر أهل المعصية في الدنيا لتستر في القيامة، هذا مع من تحقق وقوعه في المعصية، فالأجدر والأولى بك فيمن لم تثبت عليه المعصية أن ترحمه من لسانك، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وعار على من يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عينه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3799)
خصال النفاق وعلاجها
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, مساوئ الأخلاق
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- خطورة النفاق على الفرد والمجتمع. 2- خيانة الأمانة من خصال النفاق التي حذر الشارع منها. 3- الكذب وما جاء في ذمّه من النصوص. 4- التحذير من الغدر والتعدّي عند الخصومة. 5- الدين المعاملة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال : ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)).
النفاق مرض خطير يمرض القلب ويقتله، ويفسد الدين ويهلكه، ولخطر النفاق والمنافقين على البلاد والعباد أنزلت سورة كاملة اسمها المنافقون، تبيّن عوارهم، وتهتك أستارهم. واهتمّ رسولنا بتفسير القرآن وتبيانه، فكان بين الفينة والأخرى يرسم للمجتمع النهج المستقيم، ويحذرهم من الاعوجاج في الدنيا والدين، وفي هذا الحديث بيّن رسولنا علامات وأعراض مرض النفاق.
((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا)) ، أربع من اجتمعت فيه كان كمن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، ويجهر بالخير وهو يضمر الشر، ((إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر)) ، وإذا عاهد نقض عهوده ولم يوف بها، ((وإذا خاصم فجر)) ، وإذا خاصم غيره تجاوز الحد، فيؤذي خصمه بغير حق.
إن خيانة الأمانة خصلة من هذه الخصال، وهي تشمل كل مال مؤتمن عليه الإنسان فلم يؤده لأصحابه، ومن الأمانة أن تؤدّي عملك كاملاً، وإذا استودعك صديقك سرًا فليس من الأمانة أن تذيعه بين الناس، وليس من الأمانة إن كنت طبيبًا أن لا تخلص في علاج مريضك، فالموظّف والمنتج والبائع والمزارع والطبيب والمهندس وجميع الناس عليهم أداء حقّ العباد كاملاً بعيدًا عن الرشوة والتعذيب، حيث تعطل مصالح الناس بدون سبب، ورسولنا يقول: ((إن الله يعذب الذين يعذبون الناس)).
فيا أيها المسؤول والموظف، ويا أيها الضابط والأمين، إن الله استرعاكم مصالح الناس، فلا تعطلوا مصالحهم ليلجؤوا إلى الرشاوى والتزوير، فتكونوا أنتم السبب، ويحل عليكم غضب الله وعذابه، إن الله يعذب الذين يعذبون الناس، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
يا أيها الذين آمنوا، لا تخونوا الله، لا تخونوا الله بتعطيل فرائضه وتعدّي حدوده وانتهاك محارمه. يا أيها الذين آمنوا، لا تخونوا الله والرسول، لا تخونوا الرسول بترك سنته والذهاب لغيرها من هوى وشهوة، وتخونوا أماناتكم، وتخونوا أولياء أموركم، ويخون بعضكم بعضًا في المعاملات المالية والاجتماعية والأدبية.
إن الرسول أوتي جوامع الكلم، ويتكلم باللفظ الذي يذهل العقول ويحيّر البلغاء والخطباء، فقوله : ((إذا اؤتمن خان)) شمول وتوسيع كبير جدًا، ليشمل جميع أنواع الأمانة، كانت هذه الأمانة معنوية أو مادية.
إن عدم الأمانة هو الخيانة، والخيانة تدل على النفاق، فمن أراد أن يفتش عن طهارة قلبه من النفاق فلينظر إلى أمانته وعدمها، وصدق رسولنا الكريم إذ يقول: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)).
إن العلاقات بين الأفراد والجماعات المبنية على الخيانة لعلاقات هشة زائلة، وكان يتعوذ من الخيانة فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)) ، وبيّن أنه في آخر الزمان ترفع الأمانة، فحدث عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه)).
المنافق إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، فمجانبة الكذب مجانبة للنفاق، والكذب من أمراض اللسان، وهو نقل الأخبار على غير حقيقتها، من إشاعات وأحاديث ملفقة تفتك بالمجتمع وأفراده.
ومن أخطر أنواع الكذب ما استحل به دم امرئ مسلم أو عرضه أو ماله، والأشد من ذلك كله الكذب على الله ورسوله، ويكفي في عظم هذه الكبيرة أن سمى الله مرتكبها بالفسق: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6]، ولقد حذر رسولنا من الكذب ورغّب في الصدق فقال: ((عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا)).
إن الكذاب عرّض نفسه للاحتقار والمهانة، وفقد جانبًا عظيمًا من مقومات إنسانيته، فلو كان شجاعًا لما أخفى الحقيقة، ولو كان أمينًا لما زوّر الأخبار، ولو كان عفيفًا لترفع عن الاختلاق والادعاء الباطل، فأي معاملة تصلح؟! بل أي حياة وصداقة وشركة وإخاء تصلح مع إنسان يبرئ المفسدين والمجرمين، ويتهم الأبرياء والصالحين، ويجعل من الظالم مظلومًا، ومن الحقيقة خيالاً، ومن الصدق بهتانًا؟! إن هذا الخطر العظيم هو الذي جعل الكذاب ينظم في صفوف المنافقين، ((وإذا حدث كذب)).
حسبُ الكذوبِ من البلية بعضُ ما يُحكى عليهِ
مهما سمعت بِكِذْبة من غيره نُسبت إليهِ
المنافق إذا عاهد غدر، إذا أعطى عهدًا نقضه وغدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث بينه وبين خصمه خلاف يتجاوز حده في الانتصار لنفسه من خصمه، ولا يتورع عن استغلال الفرص لإيذاء خصمه، ويتمادى في الإيذاء، وينكر حقوق خصمه، ويستحل لنفسه ماله، ويستبيح عرضه، وهذا التمادي في الخصومة علامة ظاهرة من علامات النفاق.
إن سلوك المؤمن الحق جهة خصمه العدل أو الإحسان، وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40]، ولقد ربى الإسلام أتباعه على التسامح والعفو، وأن لا يتمادوا في الخصومة، فقال جل جلاله: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وقال: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، وقال: سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص:55].
إن الإسلام يحث على السمو بالنفس الإنسانية، فالمسلم الحق هو الذي يسمو بنفسه عن مواطن المهانة والذلة. إن الإسلام عمل وعبادة وحسن معاملة، معاملة خالية من الكذب والخيانة والغدر والفجور.
إن التدين الحقيقي هو أن تلتزم بالصدق في قولك وعملك ومواعيدك، وأن تكون أمينًا في عملك، صادقًا مخلصًا في نيتك، فإن لم تكن فيك هذه الخصال فلست متدينًا ولو تظاهرت بمظهر الإسلام في ألفاظك ولباسك.
إن الإسلام لم يكن فقط حركات يباشرها المصلي في محرابه أو همهمة تلوكها ألسن العاشقين والذاكرين، إنه مسرح للحياة، يظهر فيه المسلم حقيقة إسلامه وإيمانه في معاملته مع الآخرين؛ لتنطبع الصورة الصحيحة للإسلام بعيدًا عن الغلو والتنطع، وبعيدًا عن الإباحية والتهتك.
إن فشلك في معاملة الآخرين دليل منك عليك في عجزك عن إدراك حقيقة الإسلام، فالدين المعاملة، والإسلام يريد منك هداية تائه ضلّ به طريقه، أو معونة يائس انقطع به أمله، الإسلام يريد منك استجابة؛ لأنّة ثاكل منكوب، يشكو الفقر والحاجة، ويريد المساعدة والإعانة ومواساة البائس وتفريج كربة المكروبين.
وما انكمش الإسلام وتقلص إلا بعد أن ترك أبناؤه أوامره وتعاليمه، لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3800)
المال الحرام
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من قتل دون ماله فهو شهيد. 2- التحذير من الرشوة في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة. 3- الأمر بتحرّي الرزق الحلال.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، وقال : ((إنّ دِماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ)).
لا ترغبنْ في كثيرِ المالِ تكنزهُ من الحرامِ فلا ينمى وإِن كَثُرا
واطلبْ حلالاً وإِن قلَّتْ فواضلهُ إِن الحلالَ زكيٌ حيثما ذُكِرا
جاء رجلٌ إلى رسول اللّه فقال: يا رسول اللّه، إنْ جاء رجلٌ يريد أخْذ مالي؟ قال: ((فلا تعْطه مالك)) , قال: أرأيْت إنْ قاتلني؟ قال: ((قاتلْه)) , قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: ((فأنْت شهيد)) , قال: أرأيت إن قتلْته؟ قال: ((فهو في النّار)). وقال : ((لعنْ اللّه الرّاشي والْمرْتشي)) ، إذا أخذ الموظف هديّةً فوق مرتّبه ولا يُتِمّ لك عملاً إلا بمقابل فوق مرتّبه فقد أكل السّحْت.
رأيتُ حَلالَ المالِ خيرَ مغَبةٍ وأجدرَ أن يبقى على الحدَثَانِ
وإِياكَ والمالَ الحرامَ فإِنه وبالٌ إِذا ما قدّم الكفانِ
قدم معاذٌ من اليمن برقيقٍ في زمن أبي بكرٍ, فقال له عمر: ارفعهم إلى أبي بكرٍ، قال: ولِمَ أرفع إليه رقيقي؟ قال: فانصرف إلى منزله ولم يرفعهم, فبات ليلته ثمّ أصبح من الغد فرفعهم إلى أبي بكرٍ، فقال له عمر: ما بدا لك؟ قال: رأيتني فيما يرى النّائم كأنّي إلى نارٍ أُهدى إليها, فأخذت بحجزتي فمنعتني من دخولها, فظننت أنّهم هؤلاء الرّقيق، فقال أبو بكرٍ: هم لك. فلمّا انصرف إلى منزله قام يصلّي فرآهم يصلّون خلفه فقال: لمن تصلّون؟ فقالوا: للّه، فقال: اذهبوا أنتم لله.
واستعمل النّبيّ ابن اللّتبيّة على صدقات بني سليمٍ, فلمّا جاء قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي، فقام النبيّ فخطب النّاس فحمد اللّه وأثنى عليه ثمّ قال: ((ما بال رجالٍ نولّيهم أمورًا ممّا ولاّنا اللّه، فيجيء أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا أُهدي إليّ؟! أفلا يجلس في بيت أبيه أو بيت أمّه حتّى تأتيه هديّةٌ إن كان صادقًا؟!)).
ويقول رسول الله : ((من استعملناه منكم على عملٍ فكتمنا مخيطًا فما فوقه كان غلولاً يأتي به يوم القيامة)) , فقام إليه رجلٌ من الأنصار كأنّي أنظر إليه فقال: يا رسول اللّه, اقبل عنّي عملك، قال: ((وما ذاك؟)) قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال: ((فأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عملٍ فليأتنا بقليله وكثيره, فما أوتي منه أخذ, وما نهي عنه انتهى)).
قال موظف في حكومة علي أبي طالب رضي الله عنه: إنّي أهدي إليّ في عملي أشياء وقد أتيتك بها, فإن كانت حلالاً أكلتها, وإلا فقد أتيتك بها، فقبضها عليٌّ وقال: لو حبستها ـ أي: لو أخذتها ـ كان غلولاً.
قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، وقال : ((الرّاشي والمرتشي في النّار)) ، وقال: ((ما من قومٍ يظهر فيهم الرّبا إلا أُخِذوا بالسّنة، وما من قومٍ يظهر فيهم الرّشا إلا أُخِذوا بالرّعب)) ، وقال: ((من شفع لرجلٍ شفاعةً فأهدى له عليها هديّةً فقد أتى بابًا كبيرًا من أبواب الرّبا)) ، وقال ابن مسعودٍ: (السّحت أن تطلب لأخيك الحاجة فتُقضَى، فيهدي إليك هديّةً فتقبلها منه).
وجاء نصرانيٌّ إلى الإمام الأوزاعيّ وكان يسكن بيروت فقال: إنّ والي بعلبكّ ظلمني، وأريد أن تكتب فيّ إليه، وأتاه بقلّة عسلٍ فقال له: إن شئت رددت عليك قلّتك وأكتب إليه، وإن شئت أخذتها ولا أكتب، فقال النّصرانيّ: بل اكتب لي وارددها، فكتب له: أن ضع عنه من خراجه، فشفّعه الوالي فيه وحطّ عنه من جزيته ثلاثين درهمًا.
قال الشّافعيّ رضي الله عنه: "وإذا أخذ القاضي رشوةً على قضائه فقضاؤه مردودٌ وإن كان بحقٍّ، والرّشوة مردودةٌ, وإذا أعطي القاضي على القضاء رشوةً فولايته باطلةٌ وقضاؤه مردودٌ".
لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حقه، وذلك لما حرم الله مال المسلم على المسلم، وقال الله في ذم اليهود: وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:62، 63]، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة:42]، أخذوا الرشوة وقضوا بالكذب، سمّاعون للكذب أكّالون للسحت، وهذه الآية في معرض وصف اليهود في أخس أوصافهم. وللأسف، أخلاق اليهود التي ذمّهم الله بها يتلبّس بها بعض أبناء هذا الدين طمعًا في الدنيا وزهدًا فيما عند الله.
من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمته أو يرد عليه حقًّا فأهدى له هدية فقبلها فذلك السحت، وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، والسحت هو الرشوة، والسحت أن يستعينك رجل على مظلمة فيهدي لك فتقبله، فذلك السحت. ولما بعث النبي عبد الله بن رواحة إلى أهل خيبر أهدوا له فروة، فقال: سحت، لعن رسول الله الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما.
يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ [المائدة:106]، لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا أي: لا نأخذ به رشوة، وإن كان صاحبها بعيدًا.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:168، 169]، وقال: ((أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) ، وقال: ((وإن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه فما يتقبّل منه أربعين يومًا، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به)) ، وقال: ((لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت، النار أولى به)) ، وقال: ((الناس غاديان: فغاد في فكاك نفسه فمعتقها، وغاد موبقها)) ، وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ [المائدة:62، 63].
المالُ ينفدُ حِلّهُ وحرامهُ يوما ويبقى بعد ذاكَ آثامُهُ
ليسَ التقيُّ بمتّقٍ لإِلههِ حتى يطيبَ شرابُهُ وطعامُهُ
ويطيب ما يجني ويكسبُ أهلهُ ويَطيب من لفظِ الحديثِ كلامُهُ
وقال : ((من يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفّه الله)) ، وقال: ((ومن ترك شيئًا لله عوّضه الله خيرًا منه)) ، والله أكرم من أن تترك له شيئًا وينساك، ما هكذا حسن الظن بالله، وإن الفقر ليس عيبًا، وإن ضيق اليد لا يبيح لك الكسب الحرام، ولا تقل: إن أغلب المعاملات المالية لا تحقق إلا بالرشوة، إن الله لا يقبل منك أن تأكل إلا الطيب الحلال وأن تبتعد عن الحرام، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة:172]، والعبرة في الرزق البركة والنفع، وليست العبرة في كثرة المال تجمعه من كل أصنافه، ولا تؤدي حق الله فيه، فهذا شقاء في الدنيا، جري وراء المال ليل نهار، وفي الآخرة سؤال وتمحيص.
إِذا كان ما جمعتَ ليس بنافعٍ فأنتَ وأقصى الناسِ فيه سواءُ
على أن هذا خارجٌ من آثامِه وأنت الذي تُجْزَى به وتساءُ
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3801)
تحريم الظلم والأمر برد المظالم 1
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعدد أصناف الظلم وتنوعها. 2- الشرك أعظم أنواع الظلم وأخطرها. 3- اقتراف المعاصي والسيئات من ظلم الإنسان نفسه. 4- خطورة ظلم العباد. 5- ظلم الدنيا ظلمات في الآخرة وعذاب. 6- دعوة لردّ المظالم إلى أصحابها والتحلل منهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فكلمة الظلم لها معانٍ كثيرة، وكلها سيئة، فمن الظلم ـ وهو أشنع أنواعه وهو موجب للخلود في جهنم والعياذ بالله، ولن يخرج أحد منها ملتبّسًا بهذا الظلم وقد مات عليه ـ الشرك، بأن يجعل مع الله إلهًا آخر، قال الحق سبحانه: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18] أي: على المشركين، وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان:31] أي: والمشركين أعد لهم عذابًا أليما، فهذا الظلم لا يغفره الله أبدًا، إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء [النساء:48].
والنوع الثاني من الظلم هو أن يظلم العبد نفسه بارتكاب الذنوب، فمن وقع في الحدود وعصى الرب المعبود فقد وقع في الظلم، قال الحق سبحانه: وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [الطلاق:1]، وقال سبحانه: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [فاطر:32]، فمنهم ظالم لنفسه بارتكاب الكبائر من غير شرك بالله واقتحامه الخطيئة، كقوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ [البقرة:35]، فتكونا من الظالمين لأنفسكما بخطيئتكما، وكقول يونس عليه السلام: لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] أي: من الخاطئين، وقول موسى عليه السلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي [القصص:16]، غير أن الأنبياء لا تصدر منهم الكبائر لأنهم معصومون.
وظلم الناس من أخطر الذنوب عند الله بعد الشرك به؛ لأن الله لا يغفرها حتى يتسامح الناس يوم العرض الأكبر، حتى يُقاد للشاة الجَلْحَاء من الشاة القَرْنَاء، قال الحق سبحانه: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:42]، وبيّن الحق سبحانه أن ظلم الناس واغتصاب حقوقهم موجب لمقته، وموجب لكره الله له، ومن نفى الله عنه صفة الحب فهو من الهالكين، قال رب العالمين في ذم الظالمين للناس: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى:40-42]. ففي هذه الآيات توبيخ عظيم ووعيد أكيد للذين يأكلون حقوق الناس من المرتشين واللصوص والخونة، والذين يعذبون الناس بأنه لا يحبهم وبأن لهم عذابًا أليمًا.
جاء في صحيح مسلم عن أبي إدريس الخولاني ـ وكان إذا حدّث بهذا الحديث سقط على ركبتيه، وقال أحمد بن حنبل: "ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث" ـ عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي قال فيما روى عن اللّه تبارك وتعالى أنّه قال: ((يا عبادي، إنّي حرّمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّمًا فلا تظالموا. يا عبادي، كلّكم ضالٌّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلّكم جائعٌ إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلّكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنّكم تخطئون باللّيل والنّهار وأنا أغفر الذّنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنّكم لن تبلغوا ضرّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيت كلّ إنسانٍ مسألته ما نقص ذلك ممّا عندي إلا كما ينقص المِخْيَط إذا أُدخل البحر. يا عبادي، إنّما هي أعمالكم أحصيها لكم ثمّ أوفّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمد اللّه، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)).
إن المفاضلة يوم القيامة تكون على حسب نورك، وعلى قدره تكون النجاة، والظلام يوم القيامة من الظلم، ومن أتى يوم القيامة بلا نور لا يجد للجنة سبيلاً، يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ [الحديد:12، 13]. فبيّن الحق سبحانه وتعالى أن المنافقين يوم الدين في ظلام نفاقهم يعمهون، وبيّن الصادق المصدوق أن الظالم البائس يوم القيامة في ظلام دامس، فقال صاحب الشفاعة والراية: ((اتّقوا الظّلْم، فإنّ الظّلْم ظلماتٌ يوْم الْقيامة)).
وبين في حديث آخر أن المجرمين والمغتصبين لحقوق الناس والذين يؤذون المؤمنين بأيديهم وألسنتهم وراءهم يوم عظيم، لن يتجاوزوه إلى أمّهم الهاوية حتى يردّوا الحق الذي اغتصبوه، يومئذ يُقضى لكل مظلوم ولو كان من البهائم السّوم، قال محذّرًا من الظلم والاعتداء: ((لتُؤدُّنّ الحُقُوق إلى أهلها يوم القيامة حتّى يُقاد للشّاة الجَلْحَاء من الشّاة القَرْنَاء)) ، والشاة الجَلْحَاء التي لا قرون لها. قال الله تعالى: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِين مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:17-19].
من أكبر الكبائر أن يحتال الظالم على المظلوم، فيغتصب منه مزرعته أو بيته أو دكّانه، ومن فعل هذا ولم يتحلّل منه فقد طوّق نفسه بعذاب الله وغضبه، فقد جاء في الصحيحين: ((من ظلم قيد شبرٍ من الأرض طُوِّقه من سبع أرضين)) ، أي: جُعِل طوقًا في عنقه يوم القيامة. فيكون ممن باع جنة عرضها السماوات والأرض بسجن ضيّق، وبدّل مساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بدار ضيّقة، آخرها الخراب والبوار، قال : ((من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عرضه أو شيءٍ فليتحلّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخِذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسناتٌ أخذ من سيّئات صاحبه فحمل عليه)).
ما دمنا في هذه الحياة فلنتحلّل من الظلم، فإن يوم القيامة لا تعوّض فيه الأموال، ولا شيء يُرضي الخصوم سوى العمل الصالح، وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين [آل عمران:133]، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3802)
تحريم الظلم والأمر برد المظالم 2
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحاديث في التحذير من الظلم. 2- الظلم رديف للخيانة. 3- شمول لفظ الظلم. 4- الذنوب من ظلم الإنسان نفسه. 5- فضيلة العدل والحث عليه.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم مرتعُه يفضي إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
وبعد: إن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإن مما ورد في التحذير من الظلم أن المسلم الصادق هو الذي يسلم الناس من ظلمه فلا يظلم أحدًا بلسانه أو بيده، فقد قال : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)).
وبيّن النبي أن الظلم كله حرام، سواء أكان في العرض أو في المال أو الدم، ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرامٌ)) ، وفي الحديث الآخر: ((من اقتطع ـ أي: أخذ ـ حق امرئٍ مسلمٍ بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)) ، فقال له رجلٌ: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟! قال: ((وإن قضيبًا من أراكٍ)) أي: عود سواك.
ففي هذا الحديث يبين النبي أن من الظلم خيانة الأمانة، بأن تخون من أمنك ولو في عود سواك، بل جاء في الحديث الآخر ـ وهو في صحيح مسلم ـ أن الخيانة من الظلم ولو كانت في إبرة، فقد بيّن المصطفى أن كل إنسان نُصّب مسؤولاً عن أمانة صغيرة كانت أو كبيرة، فهو مسؤول عنها أمام الحق العدل سبحانه وتعالى، ففي صحيح مسلم عن ابن عميرة قال: سمعت رسول الله يقول: ((من استعملناه منكم على عملٍ فكتمنا مخيطًا ـ أي: فسرق إبرة ـ فما فوقه كان غلولاً ـ أي: كان سرقة ـ يأتي به يوم القيامة)) ، قال: فقام إليه رجلٌ أسود من الأنصار كأني أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، اقبل عني عملك، قال: ((وما لك؟)) قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال: ((وأنا أقوله الآن: من استعملناه منكم على عملٍ فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى)).
وتفسير الخيانة بالظلم في الحديث السابق واضح كوضوح الشمس، فإن المسؤول في جهةٍ ما عندما يأخذ الحق العام ويغتصبه لنفسه فقد حرم الناس من حقوقهم وظلمهم، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟!
وقد غزا رجل مع رسول الله في غزوة خيبر، وأخذ عباءة قبل أن تصيبها الغنائم، فهي من الحق العام، وليس له أن يأخذها حتى يعطيها له ولي الأمر، فقُتِل، فقال أصحاب النبي : فلان شهيد، فقال النبي : ((كلا، إني رأيته في النار في بردةٍ غلّها أو عباءةٍ)).
أهلكت نفسك يا ظلوم بما ادخرت من المظالم
أظننت أن المال لا يفنى وأن الملك دائم
هيهات أنت وما جمعت كلاكما أحلام نائم
تفنى ويفنى والذي يبقى الخطايا والمآثم
الذنوب صغيرها وكبيرها من ظلم الإنسان لنفسه، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ [فاطر:32]، والذنب إذا كان بين العبد وربه فهو إلى الرحمة والمغفرة أقرب، وإذا كان الذنب بين العبد وربه وفيه حقوق للعباد فمن شروط التوبة منه أن يتحلل من حقوق الناس، وإن لم يفعل ذلك فوراءه يوم عظيم، وخاصة إذا كان الذنب من قبيل الشتم أو القذف أي: أن يتهم المسلم بالزنا أو أكل مال الناس بالباطل عن طريق الرشوة والسرقة والنصب والاحتيال أو كان بضرب الناس أو قتلهم، فقد جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار)).
إن الله يحب منا أن نتخلق بأخلاقه، ومن أسمائه سبحانه المقسط، فهو سبحانه وتعالى قائم بالقسط، ينتصف للمظلوم ممن ظلمه، وينصر المستضعفين على من استضعفهم.
من الحق والعدل دفع الظلم بأن تعطى أصحاب الحقوق حقوقهم من والدين وأقارب وجيران وعامة المسلمين، قال : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، ـ ويشير إلى صدره ثلاث مراتٍ ـ بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرامٌ؛ دمه وماله وعرضه)) ، وقال : ((إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم)) ، وأشار بأصابعه إلى صدره.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3803)
إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على تحرّي الرزق الحلال. 2- أثر الرزق الحلال على عمل الإنسان. 3- التغذّي بالحرام من أسباب فساد الأسر. 4- أفضل الصدقة ما كان من أطيب المال. 5- من شروط التوبة ردّ المظالم إلى أهلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها النّاس، قال : ((إنّ اللّه طيّبٌ لا يقبل إلا طيّبًا، وإنّ اللّه أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيم [المؤمنون:51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172] )) ثمّ ذكر [النبي ]: ((الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغذي بالحرام، فأنّى يستجاب لذلك؟!)).
إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبًا طاهرًا من المفسدات كلها كالرياء والعُجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيبًا حلالاً، قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ [المائدة:100]، وقد قسم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث، فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء [إبراهيم:24]، وقال في الكلام الخبيث: وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم:24]، وقال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، ووصف الله رسوله بأنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث، ووصف الله تعالى المؤمنين بأنهم الطيبون، فقال تعالى: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ [النحل:32]، وإن الملائكة تقول عند الموت: اخرجي أيتها النفس الطيبة. وقد ورد في الحديث الشريف: ((من عاد مريضا أو زار أخا له في الله ناداه مناد: أن طبت وطاب ممشاك، وتبوأت من الجنة منزلا)).
المؤمن لسانه طيب رطب من ذكر الله ومن الكلام الحسن، وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء:53]، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان. ومن أعظم ما يحصل به طيبة الأعمال للمؤمن من طيب مطعمه وأن يكون من حلال، فبذلك يزكو عمله، وفي هذا الحديث إشارة إلى أنه لا يقبل العمل ولا يزكو إلا بأكل الحلال، وأن أكل الحرام يفسد العمل ويمنع قبوله، ومن أبشع أكل الحرام الرشوة والربا والسرقة والخيانة، وغيرها من المعاملات المحرمة.
قال ابن عباس: (لا يقبل الله صلاة امرئ في جوفه حرام)، وقال وهب بن الورد: "لو قمت لله مقام هذه السارية ـ أي: مقام العمود ـ لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل في بطنك".
وقد قيل: إنه إذا خرج العبد حاجًا بنفقة طيبة ووضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وراحلتك حلال. وإذا نادى المحرم وماله حرام: لبيك اللهم لبيك، ناداه مناد من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفتقك حرام، وحجك غير مبرور. وقال : (( لا تُقْبَلُ صَلاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ)) ، والغلول هو السرقة من الغنيمة قبل تقسيمها، أي: لا يقبل الله الصدقة من المال الحرام، فلا ينتظر الرحمة مَنْ يظلم ويسرق ويزوّر ويحتال ويكذب.
إن من أسباب فساد الأسر تغذيتهم بالمال الحرام وبأكل مال الأيتام، وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ [البقرة:188].
قال الصحابة لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لماذا تستجاب دعوتك؟! فقال: (ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها، ومن أين خرجت ). وقال العارف بالله سهل بن عبد الله: "من أكل الحلال أربعين يومًا أجيبت دعوته".
إن الله طيب ولا يقبل إلا طيبًا، إن الله منزه عن النقائص، ومقدّس عن الآفات والعيوب، ولا يقبل إلا طيبًا، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا [الكهف:110]، قال سفيان الثوري رضي الله عنه: "من أنفق من الحرام في طاعة الله كان كمن طهّر ثوبه بالبول".
وإذا أنعم الله عليك بالابتعاد عن الحرام وأكله وأردت الصدقة من مالك فأنفق من أفضل أنواعه، قال تعالى: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يتصدق بالسكّر ويقول: (إني أحبه)، وأعتق رضي الله عنه جاريته رميثة وقال: (إني سمعت الله عز وجل يقول في كتابه: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] ، وإني والله إن كنتُ لأحبكِ في الدنيا، اذهبي فأنت حرة لوجه الله عز وجل).
إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، لا يقبل أيديًا تنجّست بالربا والرشاوي وبالظلم والتزوير وأكل أموال الناس، ولا يقبل أجسامًا غرقت في الحرام، ومن تاب تاب الله عليه، ولن تقبل توبتك حتى ترد الحقّ لأهله، فإن المؤمن طيب، والجنة طيبة، والطيبات للطيبين، والطيبون للطيبات، قال تعالى: وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا [النساء:2]، قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100]، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97]، لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [الأنفال:97]، وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3804)
فضل الجهاد في سبيل الله 1
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار فريضة الجهاد إلى يوم القيامة. 2- ما جاء من الأحاديث في فضل الجهاد. 3- من مواقف الصحابة في الجهاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
بعد: فإن الحق سبحانه كما أمرنا بأداء الواجبات من صلاة وصيام وزكاة وحج أوجب علينا مقاتلة الكفار، وجعل النبي حكم المقاتلة هذا قائما إلى قيام الساعة، فقد جاء في الصحيح: ((لا تزال طائفةٌ من أمّتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة)).
ومما جاء في صحيح السنة في الترغيب في قتال الكفار ما رواه أبو سعيد الخدري قال: أتى رجل رَسُول اللَّهِ فقال: أي الناس أفضل؟ قال: ((مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه)) ، قال: ثم من؟ قال: ((مؤمن في شعب من الشعاب يعبد اللَّه ويدع الناس من شره)). وعن سهل بن سعد أن رَسُول الله قال: ((رباط يوم في سبيل اللَّه خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل اللَّه تعالى أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها)). وعن سلمان قال: سمعت رَسُول اللهِ يقول: ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات فيه أجري عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان)) أي: أمن سؤال القبر. وعن فضالة بن عبيد أن رَسُول اللهِ قال: ((كل ميت يختم على عمله إلا المرابط في سبيل اللَّه، فإنه ينمى له عمله إلى يوم القيامة ـ أي: يضاعف عمله الصالح ولا يتوقف رصيده من الخير إلى يوم القيامة ـ ، ويؤمن فتنة القبر)). وعن عثمان قال: سمعت رَسُول اللهِ يقول: ((رباط يوم في سبيل اللَّه خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل) ). وعن أبي هريرة قال: قال رَسُول اللَّهِ : ((تضمن اللَّه لمن خرج في سبيله لا يخرج إلا جهادًا في سبيلي وإيمانًا بي وتصديقًا برسلي فهو ضامن عليّ أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى منزله الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة. والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم ـ أي: جرح يجرح ـ في سبيل اللَّه إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم؛ لونه لون دم وريحه ريح مسك. والذي نفس محمد بيده، لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل اللَّه أبدًا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني. والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل اللَّه فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)).
ووعد النبي ـ وهو الصادق المصدوق ـ وعد بالجنة من قاتل في سبيل الله ولو مقدار لحظة فقط، فقد جاء عن معاذ عن النبي قال: ((من قاتل في سبيل اللَّه من رجل مسلم فواق ناقة ـ أي: قدر ما بين الحلبتين ـ وجبت له الجنة، ومن جرح جرحًا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر ما كانت؛ لونها الزعفران وريحها كالمسك)).
ونبّه أمّته إلى أن فضل الجهاد لا يساويه الانقطاع للعبادة مدة سبعين سنة، فعن أبي هريرة قال: مرّ رجل من أصحاب رَسُول اللَّهِ بشعب فيه عُيينة من ماء عذبة فأعجبته، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رَسُول اللَّهِ ، فذكر ذلك لرَسُول اللَّهِ فقال: ((لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل اللَّه أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا، ألا تحبون أن يغفر اللَّه لكم ويدخلكم الجنة؟! اُغْزُوا في سبيل اللَّه، من قاتل في سبيل اللَّه فواق ناقة ـ أي: قدر ما بين الحلبتين ـ وجبت له الجنة)).
وسئل رسول الله : ما يعدل الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال: ((لا تستطيعونه)) ، فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: ((لا تستطيعونه)) ، ثم قال: ((مثل المجاهد في سبيل اللَّه كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل اللَّه)).
وبيّن أن أفضل الناس في آخر الزمان ـ كما جاء ذلك صريحًا في بعض الروايات ـ من يقاتل في سبيل الله، ومن فرّ بدينه من الفتن، قال : ((من خير معاش الناس لهم رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو فزعة طار على متنه؛ يبتغي القتل أو الموت مظانه، أو رجل في غنيمة أو شعفة من هذه الشعف أو بطن واد من هذه الأودية يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير)). وقال : ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل اللَّه، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)). وعن أبي سعيد الخدري أن رَسُول اللهِ قال: ((من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولاً وجبت له الجنة)) ، فعجب لها أبو سعيد، فقال: أعدْها عليّ يا رَسُول اللهِ، فأعادها عليه، ثم قال: ((وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض)) ، قال: وما هي يا رَسُول اللهِ؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله)). وقال : ((ما اغبرّت قدما عبد في سبيل الله فتمسّه النار)) ، وقال: ((لا يلج النار رجل بكى من خشية حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع على عبد غبار في سبيل الله ودخان جهنم))، وقال: ((عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)) ، ولقد بشّر النبي من يعجز عن الجهاد بأنه إن جهز غازيًا فله أجر من غزا، قال : ((من جهّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا)).
ما ذكرته لكم من فضل مقاتلة الكفار وفضل الجهاد في سبيل الله غيض من فيض، ومن يقرأ كتاب الله يجد الآيات بل السور بأكملها ترغّب في القتال، ولقد حفظ التاريخ لصحابة رسول الله مواقفهم الشجاعة في الدفاع عن حرمة الدين وأهله.
فمن هذه المواقف ما جاء عن أنس قال: انطلق رَسُول اللهِ وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رَسُول اللهِ : ((لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه)) ، فدنا المشركون، فقال رَسُول اللهِ : ((قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)) ، قال: يقول عُمَير بن الحمام الأنصاري : يا رَسُول اللهِ، جنة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم)) ، قال: بخ بخ! فقال رَسُول اللهِ : ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رَسُول اللهِ، إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: ((فإنك من أهلها)) ، فأخرج تمرات من قرنه ـ جُعبة النشاب ـ فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتلهم حتى قُتل.
وعن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري قال: سمعت أبي وهو بحضرة العدو يقول: وقال رَسُول اللهِ : ((إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)) ، فقام رجل رثّ الهيئة فقال: يا أبا موسى، أأنت سمعت رَسُول اللهِ يقول هذا؟ قال: نعم، فرجع إلى أصحابه فقال: أقرأ عليكم السلام، ثم كسر جفن سيفه ـ أي: غمد سيفه ـ فألقاه، ثم مشى بسيفه إلى العدو فضرب به حتى قُتل.
وقال أنس بن مالك: غاب عمّي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رَسُول اللهِ، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن اللَّه أشهدني قتال المشركين ليرينّ الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون، فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء يعني أصحابه، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة وربّ النضر، إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت ـ يا رَسُول اللَّهِ ـ ما صنع، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل ومثّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. قال أنس: كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:23، 24].
وعن أنس أن أم الربيع بنت البراء ـ وهي أم حارثة بن سراقة ـ أتت النبي فقالت: يا رَسُول اللهِ، ألا تحدثني عن حارثة؟ ـ وكان قتل يوم بدر ـ فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء، فقال: ((يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)).
قال ابن عمر: عُرضت على رسول الله يوم بدر فاستصغرني فلم يقبلني، فما أتت عليّ ليلة قط مثلها من السهر والحزن والبكاء إذ لم يقبلني رسول الله ، فلما كان من العام المقبل عُرضت عليه فقبلني، فحمدت الله على ذلك.
قال رجل: يا أبا عبد الرحمن، توليتم يوم التقى الجمعان؟! قال: نعم، فعفا الله عنا جميعًا، فله الحمد كثيرًا.
قال عمر لجلسائه: أي الناس أعظم أجرًا؟ فجعلوا يذكرون له الصوم والصلاة ويقولون: فلان وفلان بعد أمير المؤمنين، فقال: ألا أخبركم بأعظم الناس أجرًا ممن ذكرتم ومن أمير المؤمنين؟! قالوا: بلى، قال: رويجل بالشام آخذ بلجام فرسه يكلأ من وراء بيضة المسلمين، لا يدري أسبع يفترسه أم هامة تلدغه أو عدو يغشاه، فذلك أعظم أجرًا ممن ذكرتم ومن أمير المؤمنين.
ولما حضر خالدَ بن الوليد الوفاةُ قال: لقد طلبت القتل فلم يقدّر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بتّها وأنا متترّس والسماء تمطر إلى الصبح حتى نغير على الكفار. ثم قال: إذا أنا متّ فانظروا سلاحي وفرسي فاجعلوه عدة في سبيل الله.
عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة، فأتى على هذه الآية: انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41]، فقال: ألا أرى ربي يستفزني شابًّا وشيخًا؟! جهّزوني. فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله حتى قُبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزو عنك، فقال: جهزوني. فجهزوه وركب البحر فمات، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام، فلم يتغير.
قال أبو إسحاق: قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا، لأن الله عز وجل بعث محمدًا فقال: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً [النساء:84] إنما هو في النفقة.
قال أسلم أبو عمران: كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر عقبة بن عامر، وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد، فخرج صفٌّ عظيم من الروم، فصففنا لهم، فحمل رجل من المسلمين على صفّ الروم حتى دخل فيهم، فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! يلقي بيديه إلى التهلكة، فقام أبو أيوب صاحب رسول الله فقال: يا أيها الناس، إنكم تتأوّلون هذه الآية هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعزّ الله دينه وكثر ناصروه قال بعضنا لبعض سِرًّا دون رسول الله : إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعزّ الإسلام وكثر ناصروه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع فيها، فأنزل الله على نبيه يردّ علينا ما قلنا: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، فكانت التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو.
قيل للبراء بن عازب: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195] هو الرجل يلقى العدو فيقاتل حتى يقتل؟ قال: لا، ولكن هو الرجل يُذنب فيلقي بيديه، فيقول: لا يغفر الله لي أبدًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3805)
فضل الجهاد في سبيل الله 2
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد
فرج بن حسن البوسيفي
بنغازي
الأرقم بن أبي الأرقم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وجوب الجهاد في حال غزو الكفار بلاد المسلمين. 2- ما جاء من الأدلة في فضل الجهاد في سبيل الله. 3- التحذير من موالاة الكفار. 4- مسؤولية الدولة في الدفاع عن المسلمين. 5- كلٌّ يجاهد حسب استطاعته. 6- أبدية عداوة اليهود والنصارى للمسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن مقاتلة الأعداء إذا غزوا بلاد المسلمين فرض عين على كل مسلم مستطيع، إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111]، وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].
وقال : ((لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)) ، وقال: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)) ، وقال: ((أفضل الناس مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله)) ، وقال: ((رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها)) ، وقال: ((والذي نفس محمد بيده، لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل)) ، وقال: ((من قاتل في سبيل الله وجبت له الجنة)) ، وقال: ((مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاة ولا صيام حتى يرجع المجاهد في سبيل الله)) ، وقال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض)) ، وقال: ((ما اغبرّت قدما عبد في سبيل الله فتمسّه النار)) ، وقال: ((من جهّز غازيًا في سبيل الله فقد غزا)) ، وقال: ((إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف)).
قال خالد بن الوليد : (ما من عمل أرجى بعد لا إله إلا الله من ليلة بتها وأنا متترس، والسماء تمطر إلى الصبح، حتى نغير على الكفار). وقال أبو أيوب صاحب رسول الله عن قوله سبحانه وتعالى: وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، قال: (التهلكة الإقامة في الأموال وإصلاحها وترك الغزو في سبيل الله).
يا أتباع رسول الله، يا أحباب حبيب الله، الجهاد فرض عين علينا كفرض الصلاة والصيام، وهذا واجب الوقت إذا داهم العدو بلاد المسلمين، وها هم الكفار من النصارى يستبيحون العرض والأرض والرجال والأطفال والصغار والكبار في بلاد الإسلام.
إن مما يقطع الفؤاد ويحز في النفس أن بعض المسلمين يحتجون في مقاتلة الغزاة بقوة العدو وضعفهم، والعقيدة والدين لا يصلح فيهما المبررات السياسية، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:51، 52]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة:51]، لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ [آل عمران:28]، لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22]، وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [المجادلة:14]، بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا [النساء:138، 139]، وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء [المائدة:81]، هذه الآية تنفي الإيمان عمن والى أعداء الدين.
مسؤولية الدولة الدفاع عن المسلمين ونصرتهم بالجهاد المسلح ضد الغزاة بالسلاح والمال والدعاء وبكل ما تستطيع، وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال:60]، وقال : ((من أُذِلّ عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره أذلّه الله على رؤوس الأشهاد يوم القيامة)) ، وقال: ((ما من امرئ يخذل امرئا مسلمًا في موطن يُنتقص فيه من عرضه ويُنتهك فيه من حرمته إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته)) ، ولقد قال رسول الله : ((مَن أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة بُعِث يوم القيامة مكتوب على جبهته: آيسٌ من رحمة الله)) ، مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]، ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) ، وقال في الكعبة: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك. والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، مالُه ودمه)).
إن كل صادق في إيمانه يحب أن يضحي في سبيل هذا الدين بماله ونفسه وكل ما يملك لرضاء الله، إن عدم استطاعة الجهاد بالنفس لا يمنع الجهاد بالمال والدعاء للمظلومين، وأن تبذل كل وسعك لنصرة الله ورسوله، قال : ((من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق)) ، وقال: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)).
إن الله أثبت لنا أن النزاع بين اليهود والنصارى مع المسلمين قائم لا يزول، ومن أصدق من الله؟! أنكذّب الله ونصدّق مجلس الأمن والنصارى واليهود ومن جرى وراءهم من اللاهثين؟! إن استمرارية العداوة بين اليهود والنصارى وقتالهم للمسلمين عقيدة نصرانية يهودية: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير [البقرة:120]، وهذه الآية تثبت أن اتباع اليهود والنصارى في أهوائهم يرفع ولاية ونصرة الله، ومن يخذله الله فمن ينصره؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3806)
مبطلات الأعمال
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, نواقض الإسلام
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شؤم الذنوب والمعاصي. 2- أمور توجب الردة: الشرك، اعتقاد عدم كفر الكفار أو الشك في كفرهم أو تصحيح مذهبهم أو اعتقاد جواز التدين بغير دين الإسلام، بغض شيء مما جاء به الرسول ، جحد شيء مما جاء به الرسول. 3- أسباب توجب بطلان العمل: الرياء، انتهاك حرمات الله تعالى في الخلوات، المَنّ والأذى بالطاعات، ترك الصلاة المفروضة، التعامل بالربا.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فإنها خير ما يقدم به العبد على ربه تعالى، قال الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ [البقرة:197].
عباد الله، احذروا الذنوب والآثام صغيرها وكبيرها؛ فإنها ـ والله ـ بئس زاد المرء يقدم به على ربه، فهي سبب كل شر وداء في الدنيا والآخرة.
ومن شؤمها وسوء عاقبتها أن منها ما يحبط العمل ويبطل السعي ويبدد الجهد، ولذا فإن الله تعالى أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله، ونهاهم عن إبطال أعمالهم بمعصية الله ورسوله، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محمد:33]. قال أبو جعفر الطبري رحمه الله عند هذه الآية: "ولا تبطلوا بمعصيتكم إياهما ـ أي: الله ورسوله ـ وكفركم بربكم ثواب أعمالكم، فإن الكفر بالله يحبط السالف من العمل الصالح".
أيها المؤمنون، ذروا ظاهر الإثم وباطنه، فإن الله تعالى قد توعد على بعض الذنوب بإحباط العمل وإبطال السعي.
فمن ذلك الارتداد عن دين الله والكفر بعد الإيمان، فإنه أعظم ما يبطل الأعمال ويحبطها بالكلية، قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، وقال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، وقال تعالى عن أعمال الكفار والمكذبين: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]. والآيات في هذا المعنى كثيرة في كتاب الله تعالى، دالة على أن كل من كفر أو ارتد عن دينه ومات على ذلك فقد حبط عمله، وبطل سعيه، ومآله إلى جهنم وبئس المصير.
أيها الإخوة الكرام، إن الارتداد عن دين الله تعالى والكفر بالله جل وعلا يكون بأمور عديدة:
منها الشرك بالله تعالى في عبادته سبحانه أو في ربوبيته تعالى ذكره أو في أسمائه وصفاته عز وجل، قال الله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التوبة:17].
فالشرك ـ يا عباد الله ـ يحبط العمل بالكلية، فلا تنفع معه حسنة، كما قال الله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [إبراهيم:18].
ولتقرير هذه الحقيقة وهي أن الشرك يحبط العمل خاطب الله سبحانه نبيه ورسوله الذي عصمه من الوقوع في الكبائر فضلاً عن التلطخ بأرض الشرك، فقال تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا : وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
أيها الناس، إن الشرك بالله تعالى في ألوهيته أو ربوبيته أو أسمائه أو صفاته أمر خطير عظيم، خافه أولو العزم من الرسل، وخافه النبي على أصحابه رضي الله عنهم.
فاحذروا الشرك عباد الله، ولا يظنن أحدكم أنه بمنأى عن الشرك أو في أمان من الوقوع فيه، فإن هذا خطأ وضلال، قال تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99].
أيها المؤمنون، إن الشرك الذي يحبط العمل بالكلية هو أن تجعل لله ندًا وهو خلقك، وذلك بأن تصرف العبادة أو نوعًا منها لغير الله تعالى، كأن تحب غير الله، أو تحب معه غيره، أو تعظم غير الله، أو تتوكل على غيره، أو تدعو غيره، أو تذبح لغيره، أو تنذر لغيره، أو تطيع غيره في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله تعالى.
ومن الشرك المحبط للعمل اعتقاد العبد النفع والضر بغير الله تعالى، وأن غيره سبحانه قادر على جلب المنافع ودفع المضار استقلالاً. ومن الشرك أيضًا جحد شيء من أسمائه وصفاته نعوذ بالله من ذلك.
عباد الله، إن مما تحصل به الردة المبطلة للأعمال عدم اعتقاد كفر الكفار أو الشك في كفرهم أو تصحيح مذهبهم أو اعتقاد جواز التدين بغير دين الإسلام، قال الله تعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]، وقال : ((من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله عز وجل)) رواه مسلم [1].
فكل من لم يكفر الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم أو شك في كفرهم أو اعتقد صحة ما هم عليه فقد كفر بما أنزل على محمد نعوذ بالله من ذلك.
ومما تحصل به الردة المحبطة للأعمال بغض شيء مما جاء به الرسول ، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:8، 9]. فمن كره تحريم الربا أو وجوب الصلاة مثلاً فقد حبط عمله وكفر بالله تعالى.
ومما يحصل به الارتداد عن دين الله الاستهزاء بشيء من دين الله تعالى أو ثوابه أو عقابه أو ما يتعلق بذلك، قال الله تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65، 66].
ومنها جحد شيء مما جاء به الرسول.
ومنها سب الله تعالى أو سب الرسول ، فإن هذه الأمور مما تحصل به الردة والكفر بالله تعالى، نعوذ بالله من ذلك.
أيها المؤمنون، إن مما يحبط أعمال العاملين ويخيب سعيهم الرياء في العمل، وهو أن يطلب العبد بعمله ثناء الناس ومدحهم وذكرهم، قال الله تعالى في حق المرائين بنفاقهم: كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [البقرة:264]، وفي حديث أبي أمامة قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال: ((لا شيء له)) ، فأعاده عليه ثلاثًا، كل ذلك يقول: ((لا شيء له)) ، ثم قال: ((إن الله لا يقبل من العمل إلا ماكان خالصًا وابتغي به وجهه)) رواه أبو داود والنسائي [2].
وهذا يفيد أن العمل الذي لا يبتغى به وجه الله تعالى حابط باطل لا ينفع صاحبه، فكل من عمل عملاً طلب فيه غير وجه الله تعالى فإن عمله مردود عليه، وليس له عند الله فيه من خلاق.
أيها المؤمنون، إن مما يحبط العمل ويجعله هباء منثورًا انتهاك حرمات الله تعالى في الخلوات، فعن ثوبان مرفوعًا: ((لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، يجعلها الله عز وجل هباءً منثورًا)) ، قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا، جلِّهم لنا أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: ((أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل ما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)) رواه ابن ماجه بسند صحيح [3]
[1] صحيح مسلم في الإيمان ( 23) من حديث أبي مالك عن أبيه.
[2] سنن النسائي في الجهاد (3140).
[3] سنن ابن ماجه في الزهد (4245).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن مما يبطل العمل ـ أيها المؤمنون ـ المَنّ والأذى بالطاعات، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]. فمَنْ مَنَّ بصدقته وطاعته فقد حبط عمله وخاب سعيه وأوجب ذلك عقوبته، فعن أبي ذر مرفوعًا: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم)) كررها ثلاثًا، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟ قال: ((المسبل إزاره، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)) رواه مسلم [1].
فاتقوا الله عباد الله، واشهدوا مِنَّةَ الله عليكم أن هداكم للإيمان، فلولا فضل الله عليكم ما زكا منكم من أحد أبدًا، ولكن الله يزكي من يشاء، والله سميع عليم.
عباد الله، إن مما يحبط العمل ترك الصلاة المفروضة، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة)) رواه مسلم [2] ، وفي المسند قال : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) [3].
وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على كفر تارك الصلاة، فعن عبد الله بن شقيق رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. رواه الترمذي بسند صالح، وقد جاء في الصحيحين أن النبي قال: ((من ترك صلاة العصر حبط عمله)) [4].
فهذه النصوص ـ أيها المؤمنون ـ تفيد أن ترك الصلاة من محبطات الأعمال.
قال ابن القيم رحمه الله عند كلامه على الحديث الأخير: "والذي يظهر في الحديث ـ والله أعلم بمراد رسوله ـ أن الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبدًا، فهذا يحبط العمل جميعه، وترك معين في يوم معين فهذا يحبط عمل ذلك اليوم. فالحبوط العام في مقابلة الترك العام، والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين".
فعلى هذا ـ أيها المؤمنون ـ من ترك صلاة من الصلوات في يوم من الأيام تهاونًا كأن يترك صلاة الفجر من يوم أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء فإن عمله ذلك اليوم حابط باطل، ولو كان أمثال الجبال، أما من ترك الصلاة بالكلية فهذا كافر مرتد، كل عمله باطل حابط، نعوذ بالله من الخذلان.
أيها المؤمنون، إن مما يحبط العمل ويفسد السعي التألى على الله تعالى المصاحب للعجب، فعن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن رجلاً قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك)) [5].
أيها المؤمنون، ذكر أهل العلم رحمهم الله أن التعامل بالربا مما يحبط العمل، واستدلوا لذلك بما جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لما أُخبرت بأن زيد بن أرقم باع عبدًا بثمانمائة نسيئة واشتراه بستمائة نقدًا، قالت للتي أخبرتها: أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تأكلوا الربا أضاعفًا مضاعفة، واعلموا أن من السيئات ما يذهب الحسنات، فذروا ظاهر الإثم وباطنه كما أمركم الله تعالى بذلك.
[1] صحيح مسلم في الإيمان (106).
[2] صحيح مسلم في الإيمان (82).
[3] مسند أحمد (22498) من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه.
[4] صحيح البخاري في مواقيت الصلاة (594) من حديث بريدة رضي الله عنه.
[5] أخرجه مسلم في البر والصلة (2621).
(1/3807)
من مظاهر ضعف التوكل
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية, نواقض الإسلام
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التوكل على الله في حياة المسلم. 2- مظاهر ضعف التوكل عند كثير من الناس اليوم. 3- فضل التوكل على الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، عباد الله، اتقوا الله واعبدوه وحده لا شريك له، وأفردوه سبحانه وتعالى بالرغبة والرهبة والخوف والرجاء والسؤال والتوكل، فإن التوكل جماع الإيمان، فإنه لا إيمان لمن لا توكل معه، قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، وقال عز جنابه: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران:122].
فاتقوا الله عباد الله، وحققوا إيمانكم بصدق الاعتماد عليه جل شأنه في جلب كل خير.
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أنه لا يستقيم لكم إيمان إلا بالتوكل على الله، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2]، أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون حوائجهم إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذوه وكيلاً.
أيها المؤمنون، إن من أكبر الآفات وأعظم الآثام التي بلي بها كثير من الناس ضعف التوكل على الله، والتعلقُ بغيره، والاعتماد على سواه.
أيها المؤمنون، إن علامات ضعف التوكل على الله تعالى كثيرة في حياة الناس اليوم:
فمن تلك المظاهر أن كثيرًا من الناس إذا نزلت بهم الأمراض أو أصابتهم الأسقام تعلقت قلوبهم بالأسباب الحسّيّة، وغفلوا عن قوله عز وجل: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80].
فتجد فريقًا ممن أصيبوا بالأمراض علقوا قلوبهم بالأطباء أو الأدوية، ورجوا منهم الشفاء وزوال الداء. ومنهم فريق جاب الفيافي والقفار، وقطع الصحاري والبحار، وشرَّق وغرَّب في الأمصار، يلاحق السحرة والمشعوذين يرجو منهم رفع البلاء وكشف الضراء، فخربوا قلوبهم لإصلاح أبدانهم، ففسدت قلوبهم، ووهنت أبدانهم، وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].
فاتقوا الله عباد الله، فإن من أتى عرافًا أو ساحرًا أو كاهنًا فسأله فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد ، فكيف ـ يا عبد الله ـ تطلب الشفاء من السحرة والكفرة الذين لا حول لهم ولا قوة، وتغفل عن الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء؟! كيف تيأس من روحه ورحمته وقد وسعت رحمته كل شيء؟! أما سمعت نبي الله أيوب عليه السلام: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:83]؟! ألم تر كيف أجابه الكريم المنان: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [الأنبياء:84]؟!
فاتقوا الله عباد الله، وإياكم إياكم إياكم أن تأتوا هؤلاء الكهنة والمشعوذين تحت أي ظرف، فلأن تموت ـ يا عبد الله ـ مريضًا موحِّدًا مؤمنًا خير لك من أن تموت صحيحًا معافًى مشركًا، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [المائدة:72].
أيها المؤمنون، إن من مظاهر ضعف التوكل أنهم إذا نزلت بهم المصائب وأصابتهم النوائب فزعوا إلى غير مفزع، وفروا إلى غير مهرب، فتجد الواحد من هؤلاء إذا نالته نائلة توجه إلى مخلوق مثله يطلب شفاعته وغوثه وتحقيق طلبه، ولو أن هؤلاء صدقوا الله لكان خيرًا لهم، طرقوا كلَّ باب وسلكوا كل سبيل إلا أنهم غفلوا عن الله الذي إذا أراد شيئًا قال له: كن فيكون، فإنه سبحانه قد قال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]، أي: كافي من يثق به في نوائبه ومهماته، يكفيه ما أهمه وأقلقه.
فاتقوا الله عباد الله، وأنزلوا حاجاتكم بالذي ينادي كل ليلة فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟
جاء رجل إلى الربيع بن عبد الرحمن يسأله أن يكلم الأمير في حاجة له، فبكى الربيع رحمه الله ثم قال: أي أخي، اقصد إلى الله عز وجل في أمرك تجده سريعًا قريبًا؛ فإني ما طلبت المعونة من أحد في أمرٍ أريده إلا الله فأجده كريمًا قريبًا لمن قصده وتوكل عليه.
عباد الله، إن من مظاهر ضعف التوكل عند بعض الناس التشاؤم والتطير ببعض الأسماء أو الأشخاص أو الأرقام أو الألوان أو الأيام أو الشهور وغير ذلك؛ فإن ذلك من الشرك المحرم، قال : ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)) [1].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله جل وعلا، ولا يدفع السيئات إلا الله سبحانه، فعلقوا قلوبكم بالله يا عباد الله، واعتقدوا قوله جل وعلا: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس:107].
[1] أخرجه أحمد (7005) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها المؤمنون، أنتم أحق من يتوكل على الله؛ فإن أهل السماوات وأهل الأرض إنسهم وجنهم محتاجون إلى التوكل على الله تعالى في تحصيل مراداتهم وتحقيق مبتغياتهم على اختلافها وتنوعها.
فتوكلوا ـ أيها المؤمنون ـ على من بيده الأمر وله الحكم، فإن التوكل على الله جل وعلا من أعظم أسباب حصول المطلوب والأمن من المرهوب، قال النبي : ((لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا ـ أي: تذهب في الصباح جائعة ـ وتروح بطانًا ـ أي: ترجع في المساء شبعى)) [1].
أيها المؤمنون، إن من فضائل التوكل أن أهله هم أقوى الخلق إيمانًا وأصلبهم ثباتًا وأرسخهم يقينًا، وهم أحباء الله وأهل نصرته وتأييده، إن الله يحب المتوكلين، ومن يكن الله تعالى حسبه وكافيه ومراعيه فقد فاز الفوز الكبير، فإن المحبوب لا يُعذب ولا يبعد ولا يُحجب.
[1] أخرجه أحمد (205) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(1/3808)
من أعداؤنا؟
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال الأمة الإسلامية اليوم. 2- للأمة أعداء في الداخل وأعداء في الخارج. 3- جرائم الوثينين في بلاد المسلمين. 4- جرائم اليهود في فلسطين. 5- جرائم الصلبيين في بلاد البلقان. 6- واجبنا تجاه قضايا المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، لا يشكّ متأمِّل عارف ولا مراقب منصف لتاريخ الأمة الإسلامية العريق أن الأمة اليوم تعاني أشد أحوالها، وتمر بأصعب أيامها، فإنه وإن كان قد نزلت بالأمة نكبات كبار، وحلت بها كوارث جسام، وأحدقت بها أزمات عظام، إلا أنها على مر تلك الدهور وعبر تلك العصور لم تتزعزع ثقتها بدينها، ولم تفقد الثقة بربها.
فهي لم تزل رغم شدة الكرب والبلاء وتوالي وتنوّع الأعداء معتزة بدينها، فخورةً بإسلامها، راضية بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا، لذا فإنها سرعان ما وثبت من رقادها، وأفاقت من سكرتها، فانشقت كروبها، وتبددت همومها؛ بمراجعة دينها والتوبة لربها.
أما اليوم فإن الأمة مغزوّة من داخلها ومحاربة من خارجها.
أما غزوها من داخلها فبجحافل المنافقين المتربصين من العلمانيين وأشياعهم الذين أضعفوا إيمان الأمة بربها وتمسكها بدينها؛ بإثارة الشبهات وبثها، وبالترويج للشهوات وتزيينها وإشاعتها، فأصيب قطاع كبير من أبناء الأمة في دينهم وإيمانهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد أجاد من قال:
وكل كسر فإن الله يجبره وما لكسر قناة الدين جبران
أما حربها من خارجها فهذا التداعي العالمي لأمم الكفر والإلحاد، من اليهود والنصارى والوثنيين والملحدين على أمة الإسلام، كما أخبر النبي في حديث ثوبان: ((تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على قصعتها)) ، قالوا: أومن قلة يا رسول الله؟ قال: ((لا بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله مهابتكم من صدور أعدائكم، وليلقين في قلوبكم الوهن)) ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)) رواه أبو داود بسند جيد [1]. وصدق رسول الله وهو الصادق المصدوق، فأعداد المسلمين اليوم كثيرة، ولكنها لا تفرح صديقًا، ولا تخيف عدوًا، فهم غثاء كغثاء السيل.
وأما أعداء الأمة فقد تنادوا عليها وتداعوا كما أخبر النبي.
فالوثنيون والملحدون ممثلين بالعالم الشرقي يسومون المسلمين سوء العذاب، ويسحقون من قدروا عليه منهم بالحديد والنار، يتربصون بكم الدوائر، ويكيدون لكم المكايد، ولا يجدون فرصة ينفسون بها عن أحقادهم وضغائنهم إلا بادروا إليها، وما تخفي صدورهم أكبر، وخير شاهد على صدق ما نقول ما يعانيه إخوانكم المسلمون من إبادة وتنكيل على أيدي هؤلاء المجرمين في كشمير والهند وبورما والشيشان، ويشهد لهذا أيضًا الدعم الروسي الصليببي الشيوعي للصرب الظالمين المعتدين. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أما اليهود ممثلين بدولة إسرائيل فحدّث عن عدائهم ولا حرج، فهم سماسرة الكيد والمكر، وأرباب الحقد والخبث والكفر، زرعوا دولتهم في قلب العالم الإسلامي، وضربوا أفظع الصور في تشريد المسلمين وإذلالهم، والتسلط عليهم والتلاعب بهم، وانتهاك حرماتهم ومقدساتهم والهيمنة عليهم، وشاهد هذا ما يجري على المسلمين في أرض فلسطين وغيرها على أيدي هؤلاء الأنجاس الأرجاس. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أما النصارى الصليبيون ممثلين بالعالم الغربي والأوربي الكافر فهم ورثة الأحقاد وحملة الضغائن على أمة الإسلام، فهم ضائقون بالإسلام منذ ظهوره، وقد خاضوا ضدّ أمة الإسلام حروبًا مضنية طويلة، سالت من جرائها أنهار الدماء.
إلا أن تاريخ حروبنا معهم لم يشهد ضراوة في العداء ولا خبثًا في الأداء ولا إصرارًا وتصميمًا على تدمير الأمة وإفنائها كما يجري منهم اليوم. فها هم خبراؤهم وكبراؤهم وساستهم ورؤساؤهم يتنادون لحرب الإسلام وإبادة أهله والتنكيل بهم، تارة باسم: محاربة الإرهاب والتطرف، وتارة باسم: حماية حقوق الإنسان، وأخرى باسم: الحفاظ على المصالح الحيوية أو الأمن القومي، تعددت الأعذار والقصد واحد. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون، هؤلاء أعداء دينكم، عملوا على إبادتكم ومحو دينكم بكل ما أوتوا من طاقة وجهد، وصلوا لذلك الليل بالنهار، طرقوا كل باب وسلكوا كل سبيل ورفعوا كل شعار لإطفاء نور الله تعالى، فباؤوا بالفشل وجنوا الخسار، فالله متم نوره ولو كره الكافرون، قال الله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
فرغم ضراوة هذا العداء وكثرة أهله وتنوع راياته واختلاف وتوالي خطوبه وشدة بأسه إلا أن دين الأمة محفوظ، ولا يزال فيها طائفة بأمر الله قائمة كما وعد الله تعالى حيث قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وقد قال النبي : ((لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)) رواه الشيخان [2].
فالأمة الإسلامية محفوظة بحفظ رسالتها ودينها وكتابها، فهي باقية ما بقي الليل والنهار، ولا نشك في ذلك ولا ينتابنا فيه أدنى ريب، ولو اجتمع على الأمة أهل الأرض جميعًا، وما ذاك بحولنا وقوتنا، بل والله ثم والله ثم والله لولا الله حافظ دينه لتهدمت منه قوى الأركان.
فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء بعد، والحمد لله أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا على نعمه الكثيرة وآلائه العديدة التي من أجلها وأعظمها حفظ الملة والدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
[1] أخرجه أبو داود في الملاحم ( 4297).
[2] أخرجه البخاري في المناقب (3641)، ومسلم في الإمارة (1920) من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إن أمتكم الإسلامية قد بليت على مدار تاريخها بمحن وأوابد وحروب وكروب ونكبات ونكسات، أحدثها وأجدها هذه الكارثة المؤلمة والمأساة الفظيعة الموجعة التي يمر بها إخوانكم في الملة والدين في بلاد البلقان والبوسنة والهرسك.
كارثة حديثها يطوي الأحاديث، وخبرها يأكل الأخبار، وتاريخها ينسي التواريخ، مأساة دامية ونكبة فاجعة حلت بأمة مسلمة، كارثة نزلت بقوم عُزّل حُرموا كل شيء حتى حق الدفاع عن أنفسهم، مأساة رفع بها الاضطهاد والظلم أعلامه، وراجت فيها سوق الإبادة الجماعية والتمثيل بالقتلى، نازلة جرت فيها شلالات الدماء.
نكبة هتكت فيها أعراض المسلمات الحرائر، وبقرت فيها بطون الحوامل، ودمرت فيها البنية الأساسية لشعب مسلم آمن، فاجعة هجر فيها المسلمون عن بلادهم، وهدمت فيها المساجد ودمرت المنابر.
نكسة رفعت فيها الكنائس صلبانها، ودقت فيها المعابد أجراسها، أزمة كشر فيها الصليب الأوربي والغربي الكافر عن أنيابه، كارثة أشاحت اللثام عن وجه الأمم الغربية الكافرة القبيح، التي تتشدق برعاية حقوق الإنسان وحفظ كرامته، فاجعة تهاوت فيها كل الدعاوى الكاذبة والشعارات الفارغة كالنظام العالمي الجديد أو الشرعية الدولية التي طالما غروا بها عددًا غير قليل من أبناء أمة الإسلام.
كارثة بدا فيها عُوار أمتنا وضعف قوتنا، وتفرق كلمتنا وتمزق صفنا، واستخفاف أعدائنا بنا وهواننا على الناس، نازلة ليس فيها لأمة الإسلام لا ناقة ولا جمل، كما قال الأول:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
كارثة لمنا فيها أعداءنا على ما يفعلونه بنا، كارثة عقد فيها فئام من الأمة الآمال على جلاديهم وأعدائهم، يرجون منهم الفرج ويؤملون منهم النصر. فاجعة تساقطت فيها مدن المسلمين في أيدي الصرب مدينة تلو مدينة تحت سمع ونظر أمة الإسلام، ولم نسمع إلا الشجب والاستنكار.
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المؤمنون، إننا رغم قساوة هذه الفواجع وفداحة تلك المآسي والنوازل نعلنها صريحة مدوية واضحة بينة لا غش فيها ولا لبس أن ما أصابنا إنما هو بسبب ذنوبنا وأعمالنا، وليس هذا تهميشًا للقضية ولا تهوينًا للكارثة ولا مهربًا نفسيًا نلجأ إليه، بل هو ـ والله ـ منهج قرآني نبوي، فقد قال الله تعالى مخاطبًا خير القرون وأفضل الأجيال بعد أن هزموا في غزوة أحد: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165]، فما أصابنا من تسلط أعدائنا علينا إنما هو بسبب ذنوبنا وإعراضنا عن دين ربنا، وما يعفو عنه الله تعالى أعظم وأكبر كما قال جل ذكره: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
أيها المؤمنون، إن ما يجري في بلاد البلقان ليس قضية لأهل البوسنة فحسب، بل هو ـ والله ـ قضية كل من رضي بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا، فإن الصرب ومن ورائهم دول الغرب ـ عليهم غضب الله ولعنته وعاجل عقوبته وسخطه ـ ما نقموا من أهل البوسنة إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد.
فقوموا ـ بارك الله فيكم ـ بما تستطيعون من نصرة إخوانكم في الملة والدين؛ وذلك بتقديم الدعم المادي والمعنوي، كل حسب طاقته وقدرته وإمكانياته، ولا تبخلوا من ذلك شيء.
فإن عدمتم ما تقدمونه لإخوانكم فلن تعدموا دعاءً صادقًا وتضرعًا لله منكسرًا أن يرفع عن أمتنا الذل والصغار، وأن يعجل لأهل البوسنة خاصة بالفرج فإنهم في محنة وبلاء.
أيها المؤمنون، حثوا أنفسكم وشيوخكم وأطفالكم وفقراءكم ومساكينكم على الدعاء؛ فإن دعاء هؤلاء من الله بمكان، لذا قال النبي : ((ابغوني ضعفاءكم؛ فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) رواه أبو داود بسند جيد [1] ، وفي رواية: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم)) [2].
[1] أخرجه أبو داود في الجهاد (2594) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
[2] أخرجه النسائي في الجهاد (3178) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(1/3809)
منهج النبي في التربية والتعليم
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ
التربية والتزكية, السيرة النبوية, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حال العرب قبل الإسلام. 2- نعمة إرسال الرسول. 3- تربية النبي لأصحابه الكرام رضي الله عنهم. 4- دعوة لدراسة منهج النبي في التربية والتعليم. 5- معالم من سمات منهجه في التربية والتعليم. 6- التربية والتعليم مسؤولية الجميع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من أهم ركائز بناء الأمم والمجتمعات التربيةَ والتعليمَ، إذ بهما تصاغ الأمم والأجيالُ، وعليهما تقام الحضارات وتبنى المجتمعات، وتقوّم الأخلاق وتُزكى النفوس، وتوضح الأهداف وتجنى الغايات، وقد كانت الأمةُ قبلَ مبعث النبي تعيش في دياجير الجهالة والظلمات، وتسودها الخرافةُ والشقاواتُ، ليس لها غاية ولا هدف.
أمةٌ ضائعةٌ غائبةٌ في جاهلية جهلاء، تطحنها العصبيات، وتمزقها النعرات والحميات، وتعشعش فيها الخزعبلات والوثنيات، وتسحقها الطبقيات والعنصريات، ليس لها في واقع الأمم تأثير ولا أثر، ممقوتة من الله خالق البشر، ففي صحيح مسلم عن النبي : ((إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب)) [1].
فبعث الله برحمته وفضله النعمة المسداة محمدًا ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164].
فجاء مزكيًا مربيًا ومعلمًا مصلحًا، فجاهد لتحقيق هذه الغاية أعظم الجهاد، وبذل النفس والنفيس حتى تحقق له ما يريد، فربى أصحابه رضي الله عنهم أكمل التربية، وعلّمهم أحسن التعليم، فكانوا جيلاً فريدًا لا نظير له ولا مثيل، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:110].
وغدوا سادة الأمم وأئمةَ العالم وصنّاعَ القرار فيه، فدانت لهم الممالك الكبار وأذعنت، في فترة وجيزة من التاريخ، فانهدّ ملك كسرى، وانثلم ملك قيصر، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. فسبحان الله العظيم، والحمد لله رب العالمين.
أيها المؤمنون، إن هذا التحول الكبير والنجاح العظيم الذي حققه في صناعة الأمم والأجيال حتى ارتفعت الأمة من السفوح إلى قمم الجبال كان نتيجة منهج تربوي تعليمي دعوي رصين، له معالمهُ وسماتهُ، وهو بلسم ودواء أصيل لما نزل بالأمة من انحدار وانكسار وذلةٍ وهوانٍ.
فعلى الدعاةِ وأهل التربية والتعليم أن يتأملوا منهج النبي وطريقته في تربيته وتعليمه ودعوته، ويدرسوا هذا المنهجَ دراسة متأنية متفحصة لتحديد معالمِه، واستنباط سماتهِ وخصائصه؛ فلن يصلحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وإليكم ـ أيها الإخوةُ ـ هذه المعالم والسماتِ:
فمن سمات هذا المنهج الرباني تعبيدُ الناس لله تعالى، وتحريرُهم من كل ما يخدش عبوديتهم لله سبحانه، وهذه سمةٌ مشتركة بين الرسل جميعًا، قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، فلُبّ دعوة الرسل جميعًا تعبيدُ الخلق لله تعالى، وهذه السمة تحقق الغاية من الخلق وتلبي نداء الفطرة، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذريات:56]، وقال : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) متفق عليه [2].
الفطرة هي توحيد الله تعالى بالعبادة، وغياب هذه السمة من المناهج التعليمية والتربوية يؤدي إلى اختلالِ الموازين واضطرابِ المفاهيم وتحطيمِ الطاقات البشرية ومصادمةِ الفطر الإنسانية وذهابِ الفضائل والمثل والقيم.
ومن سمات هذا المنهج النبوي تربيةُ الناس على تصحيح وتصفية المقاصد، خاصة إذا كان العلم علمًا شرعيًا دينيًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من تعلم علمًا يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) أي: ريحها. أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما بسند جيد [3].
أما العلوم الدنيوية فإن استحضار النية الصالحة والقصد الحسن من سدّ حوائج الأمة أو غير ذلك سببٌ يحصل به الأجرُ من الله تعالى والعونُ والتوفيق؛ إذ النية الصالحة من الإحسان والتقوى، وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
ولا يستوي هذا مع من جعل التربية والتعليم سلّمًا يرتقى به إلى المناصب الوظيفية أو المراكز الاجتماعية، أو جعلها طريقًا لبناء الأمجاد الشخصية والمكاسب الذاتية. فلا شك أن هذه النيات الرخيصة تؤثر على العمل التربوي والتعليمي تأثيرًا بالغ السوء، فليس الخليّ كالشجيّ.
ومن سمات المنهج الرباني ربط العلم بالعمل، فالعلمُ شجرة والعملُ ثمرة، وقد كان النبي يعلم أصحابه العلم والعمل، فالعلم بلا عمل حجة على صاحبه.
إذا لم يزد علمُ الفتى قلبَه هدًى وسيرتَه عدلاً وأخلاقه حسنا
فبشره أن الله أولاه نعمة يساء بها مثل الذي عبد الوَثْنا
أيها المؤمنون، إن مما يجذّر انفصام َالعلم عن العمل ويؤصلُه هذا التناقضَ الذي يعيشه كثير من المتعلمين؛ حيث إن ما يتلقونه يخالف ويضاد كثيرًا مما يلمسونه ويرونه، بل ويعايشونه ويمارسونه في الحياة الاجتماعية، ومن أمثله ذلك أن دور العلم وصروحَه تُعلم بأن الكذبَ رذيلةٌ وإثمٌ، ثم إننا نسمع من بعض وسائل الإعلام أن الكذبَ ألوان وأشكال يختلف حكمه باختلاف لونِه وشكلهِ، ونتعلم أيضًا أن لا سبيل للاتصال بين الذكور والإناث إلا من خلال النكاح الشرعي، ثم نسمع ونشاهد هنا وهناك أن من العلاقة بين الجنسين ما يسمى صداقةً أو زمالةً، ومنها ما يسمى حبًا بريئًا شريفًا نزيهًا، وغيرَ ذلك من المسميات التي تذكرنا بقوله : ((يشرب أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها)) رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما بإسناد لا بأس به [4].
ولا غرو أن هذا التناقض بين وسائل التوجيه في المجتمع له آثارٌ سيئةٌ على الأمم والمجتمعات، ليس أهونُها ترسيخَ الفصل بين العلم والعمل والانشطارِ الفكري وتعميق الاضطراب النفسي؛ إذ إن من المعلوم أن اليدَ العليا في نهاية المطاف لما تفرضه المجتمعات، لا للمثل والنظريات التي تدرس في الكتب والمقررات.
ومن سمات هذا المنهج الرباني مراعاةُ القدرات والمستويات؛ فيعطى كلٌّ ما يناسبه ويلبي حاجاته. ومن هذا نعلم خطأ ما تمارسه بعضُ دور التعليم من المساواةِ التامة بين الذكور والإناث في المناهج والمقررات والمراحل والمستويات، بل ويبلغ الخطأ منتهاه عند خلط الذكور بالإناث في المدارس والكليات، ولا شك أن هذا خطأ كبير ما زالت الأمة تجني ويلاته وتحصد حسراتِه في كثيرٍ من بلاد المسلمين، كيف لا وقد قال العليم الخبير سبحانه وتعالى: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]. فمن رام تسوية الذكور بالإناث فقد ضاد الله تعالى في خلقه وشرعه، فالواجب الفصلُ بين الجنسين في جميع مراحل التعليم، وإعطاء كلٍ ما يناسبه ويلائمه ويحتاجه من العلوم والمعارف.
[1] أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها (2865) من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الجنائز (1385)، ومسلم في القدر (2658) من حد يث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه أحمد في المسند (8252)، وأبو داود في العلم (3664)، وابن ماجه في المقدمة (252).
[4] أخرجه النسائي في الأشربة (5658) عن رجل من أصحاب النبي ، وابن ماجه في الفتن (4020) عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، وانظر: الترغيب ( 3/263).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فمن سمات المنهج النبوي في التعليم والتربية استمرارية العملية التعليمية وعدم حدّها بمرحلة تنتهي عندها، فالنبي حثّ الأمة على تعاهد القرآن الذي هو أصل العلوم ومنبع المعارف الدينية الشرعية، قال : ((تعاهدوا هذا القرآن؛ فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من الإبل في عقلها)) متفق عليه [1].
وقال أحد العلماء: "لا تزال عالمًا متعلمًا فإذا استغنيت كنت جاهلاً"، فالعلم عندنا من المحبرة إلى المقبرة. لكن لما غاب هذا الفهم عن كثير من متعَلِّمينا رأينا من حملة الشهادات من كان آخرُ عهده بالقراءة والاطلاع والبحث تسلم أوراق تخرجه، ولا مرية أن هذا مما يضعف العلم ويذهبهُ، فالعلم بالعلم يكثر وينمو ويثبت كما قال الأول:
فاليومَ شيء وغدًا مثله من نخب العلم التي تلتقط
يحصل المرءُ بها حكمة وإنما السيل اجتماع النقط
ومن سمات هذا المنهج النبوي إحياءُ العلم بنشره وبذله وتوسيع دائرة المنتفعين به، قال النبي : ((نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها ثم بلّغها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بسند صحيح [2] ، وقال أيضًا: ((إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير)) رواه الترمذي بسند حسن [3].
فبذل العلم ونشره باب من أبواب البر التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فعلى حملة العلم بشتى فروعه وصنوفه أن ينشروا علومهم ويبثوها بين الناس، وليكن الواحد منا:
كالبحر يهدي للقريب جواهرًا جودًا ويبعث للبعيد سحائبا
ومن سمات المنهج النبوي في التربية والتعليم توظيفُ جميع الطاقات وبث روح المشاركة والعطاء والبناء في أبناء الأمة وتربيتُهم على تحمل الأعباء والقيام بالمسؤوليات.
فلمحة سريعة في سيرة النبي تجلّي هذه السمة المهمة، فمن الذي قتل أبا جهل فرعون هذه الأمة، أليسا ابني عفراء الغلامين الحدَثين؟! ألم يعقد النبي لأسامة بن زيد الراية لقتال الروم ولم يكن قد بلغ العشرين سنة؟! ألم تكن الصحابيات رضي الله عنهن يخرجن مع النبي في غزواته يداوين المرضى ويسقين الجرحى؟! بلى، كل هذا قد كان.
فعلى التربويين والمعلمين وأولياء الأمور أن يوظفوا جميع طاقات الأمة في خدمة الإسلام ونصر قضاياه، حتى الضعفاء والمساكين بهم تنصر الأمة، قال النبي : ((ابغوني ضعفاءكم، فهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟!)) رواه أبو داود بسند جيد [4] ، وفي رواية ((بصلاتهم ودعائهم)) [5].
أيها المؤمنون، هذه بعض سمات المنهج الرباني النبوي في إصلاح الأمم وبناء الأجيال، وقد آتت هذه المعالم ثمارها، فأخرج الله بها خير أمة أخرجت للناس، فكانت ملءَ سمعِ العالمِ وبصره وفؤاده فترة طويلة من الزمن، فلما انحرفت الأمة عن هذه المعالم وتخلّت عن هذه الخصائص خلّف هذا صدعًا كبيرًا في الأمة، ومزجًا في التربية والتعليم، وسبَّب كثيرًا من النكسات والنكبات، ولا سبيل للخروج من هذه النازلة والتخلص من هذه المعضلة إلا لزومُ المنهج النبوي في الدعوة والتعليم والتربية والتوجيه.
وعلينا جميعًا مسؤولية إصلاح هذه الانحرافات كل حسب طاقته وقدرته؛ فالأب عليه أن يصلح تربية أولاده ويكملَ النقص الذي في الجهات التربوية الأخرى، ودُور التعليم ومؤسساته عليها مراجعةُ مناهجها وطرائقِ التدريس فيها، وعلى المجتمع أن يسخّر كلَ قدراته ووسائلِ التأثير فيه لتحقيق الهدف المنشود من صناعة الأجيال وبناء الرجال، فإن الثروة الحقيقية التي تمتلكها الأمم هي أبناؤها ورجالها، ولا يظن غالط أن التربية والتعليم َمسؤوليةُ جهة معينة فقط، بل كلنا مسؤول، وقد قال النبي : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) [6].
[1] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5033)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (791) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه (16312)، وأبو داود في العلم (3660)، والترمذي في العلم (2656) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. وانظر: جامع العلم والحكم (1/197).
[3] أخرجه الترمذي في العلم (2685) من حديث أبي امامة الباهلي رضي الله عنه.
[4] أخرجه أبو داود في الجهاد (2594) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
[5] أخرجه النسائي في الجهاد (3178) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الوصايا (2751)، ومسلم في الإمارة (1829) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(1/3810)
مهلاً يا دعاة التحرر!!
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شرائع الإسلام جميعها عدل وخير. 2- نماذج من تكريم الإسلام للمرأة. 3- مساواة المرأة للرجل في أغلب الأحكام الشرعية. 4- أهداف دعاة تحرير المرأة وحقيقة أمرهم. 5- المرأة في بلاد الغرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِساءً وَاتَّقوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
أيها المؤمنون، إن قضية المرأة من القضايا الكبرى التي شغلت الأفكار، واستفزت كثيرًا من الأقلام، وافترق فيها الناس طرائق عدة ومذاهب شتى، تراوحت بين الغلو والتقصير، وبين الإفراط والتفريط، وهذا الاضطراب وذاك التخبط لا نستغربه ممن لم يهتدِ بنور الإسلام، ولم يعرف السنة والقرآن، ولا ما كان عليه سلف الأمة الكرام، لكننا نستغربه غاية الاستغراب من أقوام نشؤوا في بلاد الإسلام، وعرفوا شيئًا من السنة والقرآن، وعندهم من يعلمهم ما جهلوه من أهل العلم والبيان، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ٍ [النحل:43].
فلماذا هذا التخبط في شأن المرأة؟! ولماذا هذا الاضطراب؟! أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:50].
أيها المؤمنون، إن هذا الدين العظيم يستمد أحكامه وتصدر شرائعُه من لدن عزيز حكيم، عالمٍ بالخلق وما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، أَلا يَعْلمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
أيها المؤمنون، إن دين الإسلام دين عدل ورحمة، لا ظلم فيه بوجه من الوجوه، فالله جل وعلا لا يظلم الناس شيئًا، وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46]، فدين الإسلام أعطى كل ذي حق حقه، لا وكس ولا شطط، لا هضم ولا ظلم.
فجميع شرائع الإسلام الحاكمة على المرأة أو على الرجل شرائعُ عدل وخير، تكفل لكل من أخذ بها الأمن والاهتداء، ومن داخله في ذلك شك أو ريب فظن الخير والعدل في غير شرائع الإسلام فقد خلع عنه ربقة الإيمان، والله ورسوله منه بريئان، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أيها المؤمنون، إن الله تعالى قد كرّم بني آدم ذكورًا وإناثًا، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، وإن نظرة عجلى في بعض آيات الكتاب الحكيم وأحاديث السنة المطهرة تكسب الناظر المنصف يقينًا ثابتًا وإيمانًا راسخًا بأن الإسلام كرم المرأة وحرّرها من كل سيئة وسوء.
فالمرأة في دين الإسلام حرة كريمة مصونة، ذات حقوق مرعية، لا ظلم عليها ولا جور، وقد أكدّ النبي تكريم المرأة وصيانة حقوقها في أعظم مجمع شهده في خطبة يوم عرفة في حجة الوداع، فقال: ((فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله)) رواه مسلم [1].
أيها المؤمنون، المرأة في الإسلام شريكة الرجل، لا تعاني من خصام معه ولا نزاع، بل هي مكملة له وهو مكمل لها، هي جزء من الرجل وهو جزء منها، قال الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال في آية أخرى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [آل عمران:195]، فعلاقة الرجل بالمرأة في المجتمع المسلم علاقة موالاة ومناصرة ومؤاخاة وانتماء، فالرجل والمرأة جناحان لا تقوم الحياة البشرية السوية إلا بهما.
أيها المؤمنون، المرأة في دين الإسلام هي الأم التي جعلها أحق الناس بحسن الصحبة، والمرأة في دين الإسلام هي البنت التي من أحسن تربيتها ورعايتها كانت له سترًا من النار، والمرأة في دين الإسلام هي الزوجة التي قال فيها النبي : ((خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)) [2].
أيها المؤمنون، إن المرأة في دين الإسلام هي كالرجل تمامًا في الغاية من الخلق، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ [الذريات:56]. فالمرأة والرجل خلقا جميعًا لعبادة الله وحده لا شريك له، وبقدر تحقيق واحد منهما لهذه الغاية ينال من الكرامة والهداية، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
أيها المؤمنون، إن الأصل في أحكام الشريعة المطهرة استواءُ الرجال والنساء في الأحكام، إلا ما اقتضت حكمة الحكيم الخبير أن يكون خاصًا بأحدهما، فهما مستويان في جميع ما يجب اعتقاده من أصول الإيمان وأركانهِ، وفيما عليهما من أركان الإسلام وواجباته، وكذلك هما مستويان في جزاء الآخرة، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر:40].
هذا ـ أيها المؤمنون ـ غيض من فيض وقليل من كثير من الدلائل على أن المرأة في دين الإسلام تعيش حياة عزيزة كريمة، موفورة الاحترام، مصونة الجانب، محفوظة الحقوق، ليس كمثلها امرأة من نساء العالمين في جلال حياتها وسناء منزلتها وعلو مكانتها.
معاشر المسلمين، إن دين الإسلام ليس في مقام تهمة نحاول دفعها عنه، وليس فيه نقص نجهد في إخفائه أو ستره، بل هو شمس مشرقة لا نقص فيه ولا مطعن، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِينًا [المائدة:3]. فرضينا بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا. وإنما هو البيان وإقامة الحجة ليحيا من حيي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
[1] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
[2] أخرجه الترمذي في المناقب (3895 ) من حديث عائشة، وأخرجه ابن ماجه في النكاح (1977) من حديث ابن عباس.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، فتن تطيّر الألباب وتقلب القلوب والأبصار. نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون، إن العجب لا ينقضي من أقوام زعموا كذبًا ومينًا أنهم دعاة لتحرير المرأة، والخروج بها مما هي فيه من الظلم والقهر، فيا لله العجب ممَّ يحررونها؟!! أمِن دين الإسلام الذي لا سعادة للبشرية إلا به، أم من الاقتداء بالسلف الصالح في الحشمة والحياء والعفة والصيانة؟! أحقًا يريد أدعياء التقدم ودعاة التحرر تكريم المرأة وتحريرها، أم يريدون تجريدها من العفة والحياء وتقييدها بأوضار السيئة الرذيلة؟!
أيها المؤمنون، بالله مَنْ هم أدعياء تحرير المرأة؟ وما تاريخهم؟ ما الذي قدمه هؤلاء للأمة حتى يوثق بهم وبما يقولون ويدعون؟!
إن جانبًا من نتاج هؤلاء كاف في إسقاط عدالتهم والثقة بهم، فالمتتبع لكتابات هؤلاء يجد فيها الهمز والتشكيك بأحكام الشريعة وآداب الإسلام تحت مسمى: "نبذ التقاليد البالية".
يجد فيها التلميح والتصريح بالدعوة إلى تقليد الأمم الغربية، وأنه لا تقدم ولا رقيّ إلا بمسايرة أمم الكفر، يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [النساء:108]، بعبارات برّاقة فضفاضة يدسون فيها السم، يُوحي بَعْضهُمْ إِلى بَعضٍ زُخرُفَ الْقوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
أيها المؤمنون، إن دعاة تحرير المرأة يقولون: المرأة المسلمة في البلاد السعودية المباركة امرأة مهيضة الجناح مسلوبة الحقوق، مصادرة الإرادة مهمشة الدور، لا وزن لها في المجتمع ولا أثر. هذه دعواهم بهتانًا وزورًا، تضليلاً وتلبيسًا، يلبسون الحق بالباطل ويكتمون الحق وهم يعلمون.
فما حل هذه المشكلة ـ أيها المؤمنون ـ في نظر هؤلاء؟
إن الحل عند دعاة التحرر أن تَهُبَّ المرأة من سباتها، وتنزع حجابها الذي عطلها وألغى دورها.
إن الحل ـ عند أولئك ـ أن تنخلع المرأة من حيائها فتخالط الرجال الأجانب، فعدم الاختلاط شذوذ وانحراف.
إن الحل ـ عند هؤلاء ـ أن تقوم الخصومة والمنازعة المريرة بين رجال المجتمع ونسائه.
هذه حلولهم وأطروحاتهم، مهما حاولوا إخفاء وجهها القبيح. خابوا وخسروا، فالله جل في علاه لا يصلح عمل المفسدين.
أيها المؤمنون، أما نتيجة هذا السعي المشؤوم، فلسنا ـ والله ـ سعداء بأن نراه في بلادنا الحبيبة الغالية، كيف وقد شرق به أهله ومن سار في ركابهم، فالسعيد من وعظ بغيره، فحديث الإحصاءات والدارسات عما تعانيه المجتمعات الغربية من دمار ووبال من كثرة الزنا ورواج البغاء وتفكك الأسرة وانخفاض نسبة الزواج وارتفاع معدلات الطلاق وكثرة الخيانة وأولاد الزنا واللقطاء وشيوع الأمراض بأنواعها النفسية والعصبية والبدنية كاف عن خوض غمار هذا المستنقع الآسن، ولو أنك سألت أحد هؤلاء الأدعياء هداهم الله وكفى المسلمين شرهم: ما النموذج الأمثل الذي تقدمه للمرأة السعودية؟ لم تجد عنده إلا نموذج المرأة الغربية المطحونة الغارقة في حمأة الرذيلة التي تتلمس من ينقذها وينتشلها، لا من يتأسى بها.
أيها المؤمنون، إن قضية المرأة قضية كبرى، تحتاج إلى عناية فائقة ورعاية تامة ومعالجة منبثقة من هدي كتاب الله تعالى وسنة نبيه وسيرة السلف الصالح، وإن أي معالجة لقضية المرأة من غير هذا السبيل إنما هي وهم وضلال.
فاتقوا الله عباد الله، استمسكوا بالعروة الوثقى، واحذروا هؤلاء المرجفين المشككين.
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإسراء:9، 10].
(1/3811)
نبأ الهجرة
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضائل الرسول. 2- خبر الهجرة، سببها وأحداثها. 3- الدروس والعبر المستفادة من حادثة الهجرة. 4- بدع ومخالفات تقع في شهر ربيع الأول.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون، إن الله بعث محمّدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدًا، وقد خصه الله تعالى بفضائل كثيرة ومناقب عديدة بزّ بها الأولين والآخرين.
ومن أعظم ما يظهر هذه الفضائل ويبدي تلك المناقب والخصائص سيرته الطيبة , فسيرته من أكبر دلائل فضله وعلامات صدقه، فهي آية من آيات صدق رسالته ونبوته.
قال ابن حزم رحمه الله: "فهذه السيرة العظيمة لمحمد لمن تدبرها تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله حقّا، فلو لم تكن له معجزة غير سيرته لكفى".
كيف لا؟! وسيرته وسنته وأيامه هي التطبيق العملي لدين الإسلام، فهي من أعظم ما يعين على فهم الشريعة، وسيرته من أسباب زيادة محبته والإيمان به ، فذكره وذكر سيرته يحيي القلوب ويداويها من أسقامها وعللها، وقد أجاد من قال:
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحيانًا فننتكس
وسيرته عند العلماء والأولياء ليست قصة تتلى ولا قصائد تنشد ولا مدائح تنسج، بل هي سنة يستن بها أولو الألباب والنهى، وبها توزن الأقوال والأعمال والرجال، وهذا بعض ما جعل السلف رحمهم الله يحتفون بسيرة النبي المختار ويخصونها بالكتب والمؤلفات.
أيها المؤمنون، إن السيرة النبوية المطهرة حافلة بالعبر والدروس، مليئة بالأحداث الكبار والأخبار العظام.
ومن تلك المنارات البيضاء والأحداث الكبار التي غيرت مجرى التاريخ البشري وحولت وجهه وأشرقت الأرض بنورها ضياء وابتهاجًا حدث هجرته من مكة البلد الحرام إلى طيبة مدينة الأنصار.
وإليكم طرفًا من نبأ تلك الحادثة المعظم وذلك التاريخ المجيد.
قال أصحاب السير: لما بلغ ضيق قريش بالنبي ودعوته منتهاه استقر رأي قريش بعد المشاورة والمداولة على قتله كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، أتاه جبريل وأخبره الخبر وقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك؛ فإن الله يأمرك بالهجرة, فخرج رسول الله وقد اختار لصحبته صديق هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها أبا بكر الصديق رضي الله عنه, فلحق رسول الله وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكمنا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثقف, فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فيها لا يسمع شيئًا مما يكيده الكفار لرسول الله إلا وعاد ليخبره بذلك، يفعل ذلك كل ليلة في تلك الليالي الثلاث. فطفق المشركون يرصدون الطرق ويفتشون كل مهرب، ينقبون في جبال مكة وكهوفها، حتى وصلوا إلى قريب من الغار، فأخذ الروع من أبي بكر كل مأخذ، ورسول الله يقول: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)) [1] ، وذلك ما قصه الله تعالى في كتابه: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فأعمى الله أعين الكفار عن نبيه وصاحبه.
فلما مضت الليالي الثلاث وخمد حماس المشركين في الطلب جاء عبد الله بن أبي أريقط فارتحل معه النبي وصاحبه قاصدًا المدينة النبوية، غير أن قريشًا ساءها أن تخفق في استرجاع محمد وصاحبه، فجعلت دية كل واحد منهما جائزة لمن يجيء بهما حيين أو ميتين، وقد أغرى هذا العطاء السخي عددًا غير قليل من شباب العرب، فجدوا في طلب النبي وصاحبه، وركبوا المخاطر وتحملوا المشاق، وكان من أولئك الشبان سراقة بن مالك بن جعشم فخرج في طلب الرسول.
واسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ إلى نبأ ما جرى لسراقة نفسه، قال رضي الله عنه: بينما أنا جالس في مجالس قومي بني مدلج, إذ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس، فقال: يا سراقة، إني رأيت أسودة بالساحل أراها محمدًا وأصحابه, قال سراقة: فعرفت أنهم هم، فقلت لهم: إنهم ليسوا بهم، ولكنك رأيت فلانًا وفلانًا، ثم لبثت في المجلس ساعة، ثم قمت فدخلت فأمرت جاريتي أن تخرج بفرسي وهي من وراء أكمة فتحبسها علي، وأخذت رمحي فخرجت به من ظهر البيت، فركبت فرسي وانطلقت، حتى قربت من رسول الله فعثرت بي فرسي، فخررت عنها، ثم قمت فامتطيت فرسي ثانية وزجرتها فانطلقت فدنوت منهم، حتى سمعت قراءة رسول الله وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات، فلما قربت منهم ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلما زجرتها واستوت قائمة خرج لأثر يديها دخان ساطع في السماء، فناديتهم بالأمان، فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في قلبي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر الرسول ، فأخبرت رسول الله خبر الناس وعرضت عليه الزاد والمتاع، فقال: ((لا حاجة لنا، ولكن أخفِ عنا الطلب)) ، فجعلت لا ألقى أحدًا في الطلب إلا رددته، وقلت لهم: كفيتكم هذا الوجه. فسبحان مقلّب القلوب؛ خرج أول النهار جاهدًا عليهما، وأمسى آخره حارسًا لهما، وقد أعرب سراقة في أبيات قالها عن سر هذا الانقلاب مخاطبًا أبا جهل لما عاتبه على ما فعل:
أبا حكم والله لو كنت شاهدًا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه
علمت ولم تشكك بأن محمدًا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه
عليك بكف القوم عنه فإنني أرى أمره يومًا ستبدو معالمه
أيها المؤمنون، لقد شاع خبر خروج النبي من مكة في جوانب الصحراء، فعلم به البدو والحضر، وكانت ممن ترامت إليهم الأخبار وطرقتهم الأنباء أهل المدينة النبوية، فكانوا يخرجون يرتقبون وصول رسول الله ، ويتشوقون إلى مقدمه الكريم ومطلعه البهي كل صباح يمدون أبصارهم وقلوبهم إلى حيث تنقطع الأنظار؛ يرقبون مجيء رسول الله ، فإذا اشتد الحر عادوا إلى بيوتهم يتواعدون الغد.
وفي اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام ثلاثة عشر من البعثة النبوية خرج المهاجرون والأنصار على عادتهم ينتظرون الرسول ، فلما حميت الشمس رجعوا إلى بيوتهم، فما لبثوا أن سمعوا هاتف السعادة يصيح ويصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرون، فارتجت المدينة تكبيرًا، ولبست طيبة حلة البهجة والسرور، وخرج أهلها يستقبلون رسولهم الكريم رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، فخرجوا للقائه فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مطيفين حوله والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4].
فبنى مسجد قباء أولاً في بني عامر وبني عوف، وهذا أول مسجد أسس بعد النبوة، ثم نزل بعد ذلك في بني النجار أخواله بتوفيق من الله، ثم بنى مسجده حيث بركت الناقة، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وغدت طيبة بمقدم رسول الله عاصمة الإسلام ودار الهجرة الغرة لأهل الإيمان. فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى.
[1] أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فيا أيها المؤمنون، هذا نبأ هجرة نبيكم ، وقد سمعتم طرفًا منه، وهو نبأ عظيم بدا فيه كثير من العبر والعظات التي من أبرزها وأظهرها:
بديع صنع الله تعالى لدينه وأوليائه وحزبه؛ رغم شدة كيد الأعداء ومكرهم وخصومتهم، فإن أعداء الله ورسوله مكروا مكرًا كبارًا، فكادوا رسول الله ، وهموا بقتله لإطفاء نور رسالته وإزهاق دعوته، كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
فأفسد الله كيدهم وخيب مكرهم وقلب عليهم أمرهم، فكانت الهجرة المباركة التي جعلها فتحًا ونصرًا للإسلام وأهله، كما قال تعالى: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:40]، فأخرج الله رسوله من دار الأذى والمحنة إلى دار العز والمنعة. فلله الحمد أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
أيها المؤمنون، إن أعداء الله تعالى مهما بلغوا من القوة في المكر والشدة في الكيد والرصانة في التخطيط لإطفاء نور الله تعالى وتعذيب وإبادة أوليائه وأحبابه فإنهم لن يغيروا سنن الله الثابتة، ولا وعوده الجازمة بنصر أوليائه وأحبابه، فالله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والله تعالى من ورائهم محيط، ومكرهم عند الله جل ذكره، كما قال سبحانه: وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [إبراهيم:46، 47]، ووعده الذي لا يخلفه هو ما ذكره في قوله: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
فعلى أولياء الله تعالى في كل عصر ومصر أن يصبروا، لا سيما في هذا الوقت العصيب الذي اشتد فيه أذى أعداء الملة من اليهود والنصارى والمشركين والمبتدعين والمنافقين من العلمانيين وغيرهم للإسلام وأهله، وعليهم أن ينتظروا الفرج من الله تعالى، فإن المكر مهما أحكمت أساليبه وتوالت خطوبه واشتدت قوته فإنه لا يقوم لمكر الله تعالى وكيده، كما قال جل ذكره عن أعدائه: وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13]، وكما قال: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50].
أيها المؤمنون، إن هذا الشهر ربيعًا الأول كان محلاً لأحداث كبار غيرت وجه التاريخ، ففيه ولد الرسول على قول كثير من أهل العلم، وفيه وصل المدينة مهاجرًا، وفيه توفي وانقطع الوحي من السماء، وقد مضى السلف الصالحون الذين هم بالكتاب والسنة مستمسكون على عدم تخصيص هذا الشهر بشيء من الأعياد أو المناسبات أو الأفراح بمولد رسول الله أو هجرته، ولا بشيء من المآتم أو الأحزان لموته وانقطاع الوحي من السماء، بل مضوا رحمهم الله على عدّ هذا الشهر كغيره من الشهور، فلما ضعف إيمان الأمة بالله ورسوله ووهن استمساكها بهديه وسنته أحدث فئام من الجهال في المائة الرابعة من الهجرة أعيادًا ومناسبات؛ فاتخذوا مولد النبي عيدًا يحتفلون به، ويصنعون فيه الولائم ويتلقون التهاني، وينشدون القصائد والمدائح الطافحة بالشرك والإطراء الذي نهى الله عنه ورسوله، فخالفوا بهذه البدعة هدي الصحابة والتابعين الذين هم أعمق إيمانًا وأرسخ علمًا وأعظم حبًا لرسول الله وتعظيمًا منا.
فاحذروا ـ عباد الله ـ البدع والمحدثات؛ فإنها لا تزيدكم من الله إلا بعدًا، وقد كان النبي في خطبه يقول: ((فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد)) [1]. فاهجروا ـ بارك الله فيكم ـ البدع واستمسكوا بالسنن:
فخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
[1] أحمد في المسند (13924)، والنسائي في سننه (1578) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(1/3812)
وجوب الخوف من الذنوب
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آثار الذنوب والمعاصي. 2- صور من إهلاك الله الأمم الماضية. 3- أسباب نزول البلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون, اتقوا الله, وذروا ظاهر الإثم وباطنه, فإن الذنوب والآثام أصل كل بلاء, ومصدر كل فتنة, وسبب كل فساد في البر والبحر, كما قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]. فكل بلاء وحادثة وكل فتنة وكارثة وكل تغير في أحوال الناس فبسبب ذنوبهم وما كسبت أيديهم, قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأقلعوا عن الذنوب والمعاصي, واحذروا مكر الله تعالى, فإن مكر الله بأعدائه شديد, قال الله تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أو يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [النحل:45-47]، وقال الله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
أيها المؤمنون, إنَّ مما يؤكد عليه وجوب الخوف من الذنوب والمعاصي, والحذر من عاقبتها وشؤم مآلها؛ إن الله تعالى قد أهلك أممًا وأقوامًا وقرى وقرونًا كانوا أشدَّ قوة وأطول أعمارًا وأرغد عيشًا وأكثر أموالاً, فاستأصلهم وأبادهم: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان:25-29]، وقال: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل:118].
وما ذاك ـ والله ـ إلا بسبب الذنوب والآثام والخطايا والأوزار, قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق:8-9]، وقال تعالى بعد أن ذكر جمعًا من الأمم التي عصت وعتت وأذنبت وكذبت الله ورسله: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
لهذا المعنى قال ابن القيم رحمه الله كلامًا طويلاً, منه قوله رحمه الله: "وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي, وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى بلغ الماء فوق رؤوس الجبال؟! وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم, وماتوا عن آخرهم؟! وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميرًا؟! وما الذي رفع قرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نبيح كلابهم, ثم قلبها عليهم, فجعل عاليها سافلها, فأهلكهم جميعًا, ثم أتبعهم حجارة من السماء أمطرها عليهم؟! فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمة غيرهم، ولإخوانهم أمثالها, وما هي من الظالمين ببعيد".
أيها المؤمنون, لم يجر ما جرى لهؤلاء إلا بسبب الذنوب والآثام, وهذه سنة الله في كل من عصاه وخالف أمره وتنكب عن صراطه وهجر هداه, وهي لا تتغير ولا تتبدل. فسنن الله الدينية الشرعية مطردة منضبطة لا تتغير, فما وقع من العذاب للأمم السابقة, يقع لكل أمة شابهتها في كل عصر ومصر, كما قال تعالى: فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: أيها المؤمنون, قد أخبر النبي أن من الذنوب والآثام ما هو سبب لحلول العقاب والعذاب العام, فمن ذلك ما أخرجه ابن ماجه والحاكم بسند لا بأس به من حديث ابن عمر رضي الله عنهما وفيه قال: قال رسول الله : ((يا معشر المهاجرين، خمس إذا ابتليتم بهن, وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسِّنين وشدة المؤونة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القَطْر من السماء, ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم, فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم )) [1].
أيها المؤمنون, إن من أسباب نزول البلاء وحلول الهلاك ظهور الربا الذي قال فيه النبي : ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه, وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم)) [2].
وقد تهدد الله تعالى أهل الربا وتوعدهم, فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]، فقد آذن الله تعالى المرابين المُصِرِّين بالحرب, فيا لها من عقوبة عظيمة لا تقوم لها الجبال الرواسي.
وقد جعل الله تعالى أكل الربا سببًا لتحريم الطيبات, فقال تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء: 160، 161].
أيها المؤمنون, ومن أسباب نزول العقوبات الشح الذي بليت به كثير من النفوس, فحملتهم على أخذ الأشياء من غير حلها, ومنع ما أوجب الله عليها من الحقوق. وحقيقة الشح: تشوق النفس إلى ما حرم الله ومنع، فلا يقنع المرء بما أحل الله له من مال أو نكاح أو نصيب, فيتعدى إلى ما حرم الله تعالى, وقد حذر الله من الشح فقال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التغابن:16]، وفي صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((واتقوا الشح, فإن الشح أهلك من كان قبلكم, حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم)) [3]. نعوذ بالله من معصيته وغضبه وسوء عاقبته.
[1] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4009).
[2] صحيح الجامع الصغير (3539).
[3] أخرجه مسلم في البر والصلة (4675).
(1/3813)