عيد الأضحى 1423هـ
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الأرحام, الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
10/12/1423
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم يوم العيد ومنزلته. 2- اشتمال العيد على معان إسلامية جليلة. 3- ارتباط الأمة الإسلامية في العيد بتاريخها من لدن إبراهيم عليه السلام. 4- الحث على فعل الطاعات واجتناب المحرمات. 5- الحث على تحري الرزق الحلال والتحذير من الربا والظلم. 6- العيد فرصة لصلة الأرحام ووأد القطيعة والخصام. 7- الحث على الأضحية وبيان جملة من أحكامها.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإن تقواه سبحانه وصيته للأوائل والأواخر، بها تسمو الضمائر وترق المشاعر وتقبل الشعائر، وبها النجاة يوم تبلى السرائر، يقول عز وجل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ [النساء:131].
عباد الله، اشكروا الله جل وعلا أن بلّغكم هذا اليوم العظيم وهذا الموسم الكريم، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن يومكم هذا يوم مبارك، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وسماه يوم الحج الأكبر، وجعله عيدًا للمسلمين حجاجًا ومقيمين، فيه ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى بعد أن وقفوا بعرفة وباتوا بمزدلفة، في هذا اليوم المبارك يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم اتباعًا لسنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد أمر الله خليله بذبح ابنه وفلذة كبده فامتثل وسلّم، ولكن الله سبحانه بفضله ورحمته افتداه بذبح عظيم، فكانت ملة إبراهيمية جارية وسنة محمدية سارية، عملها المصطفى ورغّب فيها، في الصحيحين أنه ضحّى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمّى وكبر.
أيها المسلمون، إن العيد من شعائر الإسلام العظيمة الظاهرة، والعيد يتضمن معاني سامية جليلة ومقاصد عظيمة فضيلة وحِكمًا بديعة.
أول معاني العيد في الإسلام توحيد الله تعالى بإفراد الله عز وجل بالعبادة في الدعاء والخوف والرجاء والاستعاذة والاستعانة والتوكل والرغبة والرهبة والذبح والنذر لله تبارك وتعالى، وغير ذلك من أنواع العبادة، وهذا التوحيد هو أصل الدين الذي ينبني عليه كل فرع من الشريعة، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله المدلولِ عليه بقوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، الذي نقرؤه في صلاة العيد وغيرها من الصلوات، والتوحيد هو الأمر العظيم الذي بتحقيقه يدخل الإنسان جنات النعيم، وإذا ضيَّعه الإنسان لا ينفعه عمل، وخُلِّد في النار أبدًا. والمتأمل في تاريخ البشرية يجد أن الانحراف والضلال والبدع وقع في التوحيد أولاً ثم في فروع الدين. فتمسك ـ أيها المسلم ـ بهذا الأصل العظيم، فهو حق الله عليك وعهد الله الذي أخذه على بني آدم في عالم الأرواح.
وقد أكد الله في القرآن العظيم توحيد الله بالعبادة وعظم شأنه، فما من سورة في كتاب الله إلا وهي تأمر بالتوحيد نصًا أو تضمنًا أو التزامًا، أو تذكر ثواب الموحدين أو عقوبات المشركين، فمن وفى بحق الله تعالى وفى الله له بوعده تفضُّلاً منه سبحانه، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا)) رواه البخاري. فالتوحيد أول الأمر وآخره.
وثاني معاني العيد تحقيق معنى شهادة أن محمدًا رسول الله التي ننطق بها في التشهد في صلاة العيد وغيْرها من الصلوات، إن معنى شهادة أن محمدًا رسول الله طاعة أمره واجتناب نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بما شرع مع محبته وتوقيره، قال الله تعالى: قُلْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى ?لرَّسُولِ إِلاَّ ?لْبَلَـ?غُ ?لْمُبِينُ [النور:54].
ومن حكم العيد ومنافعه العظيمة شهود جمع المسلمين لصلاة العيد، ومشاركتهم في بركة الدعاء والخير المتنزل على جمعهم المبارك، والانضواء تحت ظلال الرحمة التي تغشى المصلين، والبروز لرب العالمين، إظهارًا لفقر العباد لربهم وحاجتهم لمولاهم عز وجل، وتعرضًا لنفحات الله وهباته التي لا تُحد ولا تُعد.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، وإن من حكم العيد ومنافعه العظمى التواصل بين المسلمين والتزاور وتقارب القلوب وارتفاع الوحشة وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد. فاقتدار الإسلام على جمع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد آية على اقتداره على أن يجمعهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم على التقوى، فلا شيء يؤلف بين المسلمين سوى الحق لأنه واحد، ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم، كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) ، والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات الإسلام، فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى.
أيها المسلمون، عيد الأضحى ترتبط فيه أمة الإسلام بتاريخها المجيد في ماضيها المشرق السحيق، الأمة المسلمة عميقة جذور الحق في تاريخ الكون، متصلةُ الأسباب والوشائج عبر الزمان القديم، منذ وطئت قدم أبينا آدم عليه الصلاة والسلام الأرض، وتنزل كلام الله على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عبر العصور الخالية، قال الله تعالى: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وختم الله الرسل عليهم الصلاة والسلام بسيد البشر محمد الذي أمره الله باتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ?تَّبِعْ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [النحل:123]، فكانت شريعة محمد عليه الصلاة والسلام ناسخة لجميع الشرائع، فلا يقبل الله إلا الإسلام دينًا، ولا يقبل غيره، قال الله تعالى: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ?لإسْلَـ?مِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى ?لآخِرَةِ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [آل عمران:85]، وفي الحديث: ((والذي نفسي بيده، لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)) رواه مسلم.
فأنتم ـ معشر المسلمين ـ على الإرث الحق والدين القيم ملة الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ودين الخليل محمد ، وعيد الأضحى يربطكم بهذين الخليلين النبيين العظيمين عليهما الصلاة والسلام، لما شرع الله لكم في هذا اليوم من القربات والطاعات، عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال أصحاب رسول الله : ما هذه الأضاحي يا رسول الله؟ قال: ((سنة أبيكم إبراهيم)) ، قالوا: فما لنا فيها يا رسول الله؟ قال: ((بكل شعرة حسنة)) رواه ابن ماجه.
وذلك أن الله أمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذبح ولده إسماعيل عليه السلام قربانًا إلى الله، فبادر إلى ذبحه مسارعًا، واستسلم إسماعيل صابرًا، فلما تمَّ مرادُ الله تعالى بابتلاء خليله إبراهيم عليه السلام وتأكد عزمه وشرع في ذبح ابنه فلم يبق إلا اللحم والدم فداه الله بذبح عظيم، فعَلِم الله عِلم وجود أن خلة إبراهيم ومحبته لربه لا يزاحمها محبة شيء، والأضحية والقرابين في منى تذكير بهذا العمل الجليل الذي كان من إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، أدوا الصلاة المفروضة فإنها عمود الإسلام والفارق بين الكفر والإيمان، احذروا الوقوع في المعاصي، أدوا زكاة أموالكم، صوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم.
كما أوصيكم بالحفاظ على مهمتكم العظمى ووظيفتكم الكبرى، وظيفةِ الدعوة إلى الله عز وجل، مهمةِ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهمة الجهاد في سبيل الله، المهمةِ التي لها أخرجتم، والتي هي مصدر خيريتكم واستمرار عزكم وأمركم قائمًا منصورًا بإذن الله، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِ?لْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ [آل عمران:110].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إن مما يؤسف له اليوم ـ يا عباد الله ـ أن نرى كثيرين من المتسمين بالإسلام لا يعيشونه واقعًا عمليًا، يفرِّطون في أركان الإسلام، ويهملون شرائعَ الدين، يقعون في كثير من المحظورات، فيأكلون أموال الناس بالباطل، ويميلون في حياتهم إلى اللهو وارتكاب المآثم، ويستجيبون لداعي النفس الأمارة بالسوء، إلا من رحم الله.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا الوقوع فيما يبعدكم عن حقيقة دينكم ويوردكم حمأة المآثم والمعاصي، احذروا الزنا فإن فيه ست خصال، ثلاثًا في الدنيا، وثلاثًا في الآخرة، فأما التي في الدنيا فذهاب بهاء الوجه وقصر العمر ودوام الفقر، وأما التي في الآخرة فسخط الله تبارك وتعالى وسوء الحساب والعذاب بالنار.
عباد الله، إن في طيب المكسب وصلاح المال سلامة الدين وصون العرض، فلا تأكل إلا حلالاً، ولا تنفق مالك إلا في حلال، قال بعض السلف: "لو قمت في العبادة قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل إلى جوفك". أكل الحرام يعمي البصيرة وينزع البركة ويجلب الفرقة والشحناء ويحجب الدعاء، ولتكن النفوس بالحلال سخية، فاحذروا الربا، واسمعوا ما جاء في الحديث: ((الربا ثلاثة وسبعون بابًا، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)) رواه الحاكم وله شواهد. فهل يرضى أحد منكم أن يزني بأمه؟! إنه لا أحد يرضى بذلك، نعوذ بالله من ذلك. وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله أنه لم يرد في شيء من المعاصي مثل ما ورد في الوعيد على الربا ما عدا الشرك بالله عز وجل.
أدوا الناس حقوقهم يا عباد الله، فكل إنسان عليه حق لأحد يجب عليه أن يؤدي حقه، فكثير من الناس اليوم يكون عليهم مطالب للناس، إما قروض أو ثمن مبيعات أو أجرة مستأجرات أو غير ذلك، ومع هذا يماطلون بحقوقهم مع أنهم قادرون على الوفاء، والنبي يقول: ((مطل الغني ظلم))، أي: أن الإنسان إذا مطل غيره بأن منعه حقه مع قدرته على الوفاء فإن ذلك ظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، وكل ساعة تمضى عليك وأنت في مماطلتك بالحق الذي يجب عليك دفعه فإنك لا تزداد إلا إثمًا، ولا من الله إلا بعدًا.
اجتنبوا الرشوة والزور والغش والخديعة، وإياكم وأكل مال الناس بالباطل، كاغتصاب أو سرقة أو غيره، أقول: السرقة لأنها انتشرت هذه الأيام من سطو على المحلات التجارية والمنازل والمزارع تحت جنح الظلام، نسأل الله أن يفضحهم وأن يكفي المسلمين شرهم.
احذروا الغيبة والنميمة والبهتان والحقد والشحناء والحسد والبغضاء، تحلوا بالصدق والصبر والأمانة والوفاء وحسن التعامل فيما بينكم. احذروا المخدرات والمسكرات والملهيات، واحفظوا جوارحكم في هذا اليوم وغيره، احفظوا أسماعكم وأبصاركم وألسنتكم وبطونكم وفروجكم وأيديكم وأرجلكم أن تمتد إلى الحرام وتلتبس به وتتلطخ بسوئه، وقوموا بما أوجب الله عليكم نحو أهليكم وأولادكم ونسائكم، فمروهم بالمعروف وانهوهم عن المنكر، واحفظوهم عن المحرمات، وأبعدوهم عن المنكرات ووسائلها، وربوهم تربية إسلامية، ووجهوهم وجهة صالحة.
واتقوا الله في الشباب والشابات يا معشر أولياء الأمور، ويا عقلاء الحي، ويا دعاة الإصلاح، فإن الراغب في النكاح اليوم ليتحمل آصارًا وأثقالاً بسبب إعراض المسلمين عن سنة سيد المرسلين في تخفيف صدقات النساء وتكاليف الزواج.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، رحم الإنسان هم أولى الناس بالرعاية وأحقهم بالعناية وأجدرهم بالإكرام والحماية، صِلتُهم مثراة في المال ومنسأة في الأثر وبركة في الأرزاق وتوفيق في الحياة وعمارة للديار، يقول النبي : ((من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)) رواه البخاري.
أيها المسلمون، وفي الصحيحين عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجل قال: يا رسول الله، أخبرني بما يدخلني الجنة ويباعدني من النار، فقال النبي : ((لقد وفق)) أو قال: ((لقد هُدي، كيف قلت؟)) فأعادها الرجل، فقال النبي : ((تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل ذا رحمك))، فلما أدبر قال النبي : ((إن تمسك بما أمرته به دخل الجنة)).
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم، هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟ هل ألنتم لهم الجانب؟ هل أطلقتم الوجه لهم؟ هل شرحتم الصدور عند لقائهم؟ هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟ هل زرتموهم في صحتهم توددًا؟ هل عُدتُموهم في مرضهم احتفاء وسؤالا؟ هل بذلتم لهم ما يجب من بذل من نفقة وسداد حاجة؟
أيها المسلمون، هذه الاستفهامات وغيرها من الاستفهامات التي تقتضيها صلة الرحم يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه عليها، فلينظر هل قام بما يجب عليه في هذا الأمر أم هو مفرط فيه، فالصلة أمارة على كرم النفس وسعة الأفق وطيب المنبت وحسن الوفاء، ومعاداة الأقارب شر وبلاء، الرابح فيها خاسر، والمنتصر مهزوم، وكل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها تشهد له بصلة إن كان وصلها، وتشهد عليه بقطيعة إن كان قطعها.
واجعل عيد هذا اليوم منطلقًا لوأد القطيعة وطي صحيفة الشقاق والنزاع، لوأدها مجالات واسعة يسيرة، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة، إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه، زيارات وصلات، تفقد واستفسار، مهاتفة ومراسلة، والرأي الذي يجمع القلوب على المودة، كف مبذول، وبر جميل، وإذا أحسنت القول فأحسن الفعل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
شباب الإسلام، أنتم أمل الغد وجيل المستقبل، عودوا إلى دينكم، وارفعوا راية لا إله إلا الله، وادعوا إليها، واحذروا الرذائل، وتحلّوا بالفضائل، وانتبهوا إلى ما يكيده أعداؤكم.
أيتها النساء الفاضلات، اتقين الله، اتقين الله في صلاتكن وزكاتكن، لا تؤخرنها عن وقت وجوبها، وإياك ـ يا أمة الله ـ أن تسكتي عن الزوج والأولاد الذين لا يصلون. وكنَّ خير خلف لخير سلف من نساء المؤمنين، واحذرن من التبرج والسفور والاختلاط بالرجال الأجانب والتقصير في أداء أمانة الرعاية في البيت على الأولاد والزوج؛ فإن مسؤوليتكن عظيمة، وتأثيركن في البيت أعظم، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
يا نساء المسلمين، أمانة كبيرة تلك التي حمِّلتِ إياها في تربيتكِ لابنتك في دينها وأخلاقها وحشمتها وسترها وتعقلها وحسن تعاملها مع زوجها.
توبوا إلى الله ـ يا عباد الله ـ من جميع ذنوبكم، وابدؤوا صفحة جديدة ملؤها الأعمال الصالحة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
اللهم اجعل عيدنا سعيدًا، اللهم أعده علينا أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، اللهم أعده على الأمة الإسلامية جمعاء وقد تحقق لها ما تصبو إليه من عز وكرامة وغلبة على الأعداء.
أقول قولي هذا، وأسأل الله أن يبارك لي ولكم في القرآن، وينفعنا بما فيه من الآيات والهدى والبيان، وأن يرزقنا السير على سنة المصطفى من ولد عدنان.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر خلق الخلق وأبدع الكائنات، الله أكبر شرع الدين وأحكم التشريعات، الله أكبر كلما ارتفعت بطلب رحمته الأصوات، الله أكبر كلما سكب الحجيج العبرات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله، يمنّ على من يشاء من عباده بالقبول والتوفيق، أحمده تبارك وتعالى وأشكره على أن منّ علينا بحلول عيد الأضحى وقرب أيام التشريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدانا لأكمل شريعة وأقوم طريق، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله ذو المحْتِد الشريف والنسب العريق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والتصديق، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما توافد الحجيج من كل فج عميق، آمِّين البيت العتيق، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، زينوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى : ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)) ، وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته، ولا تنفقوا أموالكم أيام العيد فيما حرم الله، يقول علي رضي الله عنه: (كل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، إن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر، ومن أعظم ما يتقرب به إلى الله في هذه الأيام الأضاحي، يقول عز وجل: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، التي ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة، وبكل صوفة حسنة، وهي سنة أبينا إبراهيم المؤكدة، ويكره تركها لمن قدر عليها، كما أن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها، وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة. ثم اعلموا أن للأضحية شروطًا ثلاثة:
أولها: أن تبلغ السن المعتبر شرعًا، وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة كاملة في المعز، وستة أشهر في الضأن.
والشرط الثاني: أن تكون سالمة من العيوب التي نهى عنها الشارع، وهي أربعة عيوب: العرجاء التي لا تعانق الصحيحة في الممشى، والمريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها، والعجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، وكلما كانت أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
والشرط الثالث: أن تقع الأضحية في الوقت المحدد، وهو الفراغ من صلاة العيد، وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيام أربعة.
ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبحها بنفسه، ومن لا يحسنه فليوكل غيره ممن يحسنه، وليرفق الجميع بالبهيمة، وليرح أحدكم ذبيحته، وليحد شفرته، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، حتى في ذبح البهيمة، ثم ليسمّ أحدكم عند ذبحها ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عن فلان أو فلانة، ويسمي صاحبها. والسنة نحر الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، والبقر والغنم على جنبها الأيسر متوجهة إلى القبلة، ويقول عند الذبح: "بسم الله" وجوبًا، "والله أكبر" استحبابًا، "اللهم هذا منك ولك"، ويستحب أن يأكل ثلثًا، ويهدي ثلثًا، ويتصدق بثلث لقوله تعالى: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ [الحج:36]، ولا يعطي الجزار أجرته منها. فكلوا من الأضاحي، واهدوا وتصدقوا وانبذوا عن أنفسكم الشح والبخل، وإذا عجزت عن الأضحية فاعلم أن رسول الهدى قد ضحى بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن نفسه وأهل بيته، والآخر عن أمته.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن التكبير المقيد لغير الحاج يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر عصر أيام التشريق، وأما الحاج فيبدأ من ظهر يوم النحر، وأما التكبير المطلق فيكون في عشر ذي الحجة.
هذا واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن من أفضل أعمالكم وأرفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم كثرة صلاتكم وسلامكم على سيد الأولين والآخرين النبي المصطفى والنبي المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وسيدنا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وعلي أبي السبطين وعن السبطين العلمين وعن أصحاب بدر والعقبة وعن آل بيته الطيبين الطاهرين وعن الطاهرات أمهات المؤمنين وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الملة والدين، ودمر الطغاة والملحدين والصهاينة المعتدين، اللهم عليك باليهود ومن شايعهم وكل من أراد الإسلام والمسلمين بسوء يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين والمضطهدين في دينهم في كل مكان...
(1/3592)
عيد الأضحى 1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
10/12/1424
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بشرف عيد الأضحى ومنزلته من الدين. 2- السعادة الحقيقية في العيد ومن تكون له. 3- تآمر ملل الكفر على الأمة الإسلامية. 4- سبب هوان الأمة الإسلامية وذلها. 5- من فشل في جهاد نفسه فشل في جهاد عدوه. 6- الحث على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة. 7- توجيه وإرشاد للشباب والمؤمنات. 8- لنجعل من العيد موسمًا للإحسان. 9- التذكير بفضل الأضحية والإشارة إلى طرف من أحكامها وحكمها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها النّاس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله، فالتّقوى خير ذخرٍ يُدّخر، واتقوا الفواحشَ ما بطن منها وما ظهَر، ولا تغرّنّكم الحياة الدنيا، ولا يغرّنّكم بالله الغرور.
عباد الله، اشكروا الله جل وعلا أن بلّغكم هذا اليوم العظيم وهذا الموسم الكريم، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن يومكم هذا يوم مبارك، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وسماه يوم الحج الأكبر، وجعله عيدًا للمسلمين حجاجًا ومقيمين، فيه ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى بعد أن وقفوا بعرفة وباتوا بمزدلفة، في هذا اليوم المبارك يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم اتباعًا لسنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام. فهنيئًا للمسلمين في هذا اليوم المبارك، هنيئًا لهم بحلول هذا العيد السعيد.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن السعادة في العيد لا تكمن في المظاهر والشكليات، وإنما تتجسد في المعنويات وعمل الصالحات، واذكروا نعمة الله عليكم مما تنعمون به من حلول العيد المبارك في أمن وأمان، وصحة وخير وسلام وإيمان.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، يقعُ هذا العيدُ شكرًا لله تعالى على العبادات الواقعة في شهر ذي الحجة، وأعظمُها إقامة وظيفةِ الحجّ، فكانت مشروعيةُ العيد تكملةً لما اتّصل، وشكرًا لله تعالى على نعمِه التي أنعمَ الله بها على عباده، وتكريمٌ من الله لجميع المسلمين بأن جعلَ لهم عقبَ الأعمال الصالحة وعقبَ يومِ عرفَة عيدَ الأضحى. إظهارُ الفرح والسرور في العيدين مندوبٌ، ومن شعائر هذا الدين الحنيف.
أيها المؤمنون الموحدون، لمن تظنون هذا العيد؟ أهو لمن لبس الحلل القشيبة وهو عارٍ من لباس التقوى ولباس التقوى ذلك خير؟! أهو لمن إذا نظر الله إلى قلبه وجده مليئًا بالحقد والحسد والغيبة والنميمة والظلم والفسق والخيانة والتطاول على الناس وإيذائهم، مليئًا بالمشاحنات وقطيعة الأرحام وعقوق الآباء والأمهات؟! أهو لمن ضيع حظه من الصلوات المكتوبات وعصى رب الأرض والسماوات؟! كلا وألف كلا، ليس العيد السعيد لهذا، العيد السعيد لمن خاف يومًا تقشعر فيه الأبدان، العيد لمن استعد للعرض على الرب سبحانه وتعالى، العيد لمن اتقى الله في السر والعلن، العيد لمن وصل ما بينه وبين الله وما بينه وبين العباد، العيد لمن عمر بيته بالقرآن وأخرج آلات اللهو ومزامير الشيطان، العيد لمن زُحزح عن النار والحر الشديد والقعر البعيد التي طعام أهلها الزقوم وشرابهم الصديد ولباسهم القطران والحديد، وفاز بجنة لا يفنى نعيمها ولا يبيد. ذلكم ـ يا عباد الله ـ هو السعيد في عيده.
فاتقوا الله، وطهروا قلوبكم من الرذائل والأدران، وأعمالكم من كل ما يتنافى مع السنة والقرآن، تحظوا بفرحة العيد الحقة والفوز النافع الذي ذكره الله بقوله: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، وقوله تعالى: وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، اعلموا أنكم مستهدفون من أعداء الإسلام من المشرق والمغرب، ومن جميع طوائف الأرض ومللها، من يهود ونصارى ووثنيين وملاحدة، وإنهم ليتكالبون على المسلمين ـ كما وصفهم نبينا ـ كما يتداعى الأكلة إلى قصعتها، وهل رأيتم ـ عباد الله ـ قصعة تكالب عليها الأعداء أكبر من قصعة الإسلام؟! والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. إن هذا الدين عزيز، وإن الله ناصره ومظهره، والعاقبة لأهله. فينبغي على أمة الإسلام أن تتنبه للخطر العظيم القادم.
فيا أمة الإسلام، هذا دينكم وشرع ربكم وسنة نبيكم بين أيديكم، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ. فوالله، وبالله، وتالله، لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وإياكم والمحدثات من المناهج والأفكار والأهواء والطرق والآراء، فإن خير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، والعياذ بالله.
إنَّ الأمَّة حين تخلَّت عن أمرِ الله صارت مهينةً مستكينَة، يطؤها الخفُّ والحافر، وينالُها الكافِر الماكر، وثِقت بمَن لا يفي بالعهود، وأسلمَت نفسَها للعدوّ اللدود، وتلَّت جبينَها لذابِحها، ومنحت رباطَها لخانقِها، على حسابِ دينها وأمنِها وحاضرِها ومستقبلِها، في عالَم الكذبِ والخِداع والمكرِ والأطماع، حتّى باءت بالسُّخطتَين وذاقت الأمَرَّين، ولا ينفَع اليومَ بكاءٌ ولا عَويل، وليس الآنَ ثمَّةَ مخرجٌ لهذا الهوان إلا صدقُ اللجَأ إلى الله، فهو العظيم الذي لا أعظمَ منه، والعليّ الذي لا أعلى منه، والكبير الذي لا أكبر منه، والقادرُ الذي لا أقدرَ منه، والقويّ الذي لا أقوى منه، العظيمُ أبدًا حقًّا وصدقًا، لا يُعصَى كُرهًا، ولا يُخالَف أمرُه قهرًا.
أيّها المسلمون، ما أصابنا اليومَ إنّما هو بسبَب ذنوبِنا وإسرافِنا في أمرنا وما فعله السّفهاء منا.
يا أمّة محمّد ، آن للمنكرَات أن تُنكَر، آنَ لقنَوات الخزيِ أن تُمنَع وتُكسَر، آنَ للرّبا أن يُهجَر، آنَ للأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر أن يَظهَر، آنَ لبلادِ الإسلام أن تتطهَّر، آن لدين الله أن يُنصَر، آنَ للأمّة أن تتذكَّر قولَ سيِّد البشر محمّد : ((من التمَسَ رضا الله بسخطِ النّاس رضي الله عنه وأرضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَط الله سخِط الله عنه وأسخطَ عليهِ الناس)) ، وفي لفظٍ: ((من أرضى اللهَ بسخط النّاس كفاه الله، ومن أسخطَ الله برضا النّاس وكله الله إلى النّاس)) ، وعلى الأمّة أن تحذَر في هذا الوقتِ كلَّ ناعق ومنافقٍ ممَّن لا تؤمَن غوائلهم، ولا تَقِف مكائِدهم، الذين أزكَموا الأنوفَ بنَتَن هذيانِهم وعفَن أباطيلهم وخطراتهم، التي ضرَّت وجرَّت على الأمّة من الويلات والنّكبات ما جرّت، سيماهم التّرامُز وديدنُهم التغامُز، ينادون بالانفِتاح، ويسعَون إلى تغريب الأمّة، وجوهٌ كالحَة، ونواصِي كاذِبة، وأفكارٌ خاطِئة، تُثير البلبلَة، وتخلُق الخَلخَلة، وتزرَع بُذور الفُرقة في وقتٍ نحتاج فيه إلى اجتماعِ الكلمَة ووَحدة الصّفِّ والتّعاضُد والتّساند.
أيّها المسلمون، إنَّ ممَّا يُذيب القلبَ كمدًا ويعتصِر له الفؤادُ ألمًا أن ترى بعضَ المسلمين ـ ونحن في هذه الأحداثِ المؤلِمة ـ وهم في غفلةٍ معرِضون، لاهيةً قلوبُهم يلعبون، نرى صوَرًا مريضَة شائِهة ونفوسًا تائهة تلهو في أحلكِ الظّروف، وتمرَح في أخطرِ المواقف، وتهزَل في مواطِن الصّرامة، وتلعَب في زمَن البلاءِ والبأساء والضّرّاء، غفلةٌ عن النّذر، وإعراضٌ عن التّذكِرة. ها هي البيوتُ قد مُلئت بالمنكرات فما دفعناها، ها هي المعاصي كثُرت في المجتمعات فما منعناها، ترخُّصٌ بَغيض، وتساهلٌ مقيت، واستهتار مُميت، فأينَ تعظيمُ شعائر الله يا من تعصون؟! أين الوقوفُ عند حدود الله يا من تعتَدون؟! أين الذين هم لربِّهم يَرهبون؟! أين الذين هم من خشيةِ ربِّهم مشفِقون؟! أين الخوفُ والوجل؟! أين الخشيةُ من سوءِ العمَل؟! لقد قُوِّض بنيانُ العفاف، وطُوِّحت جُدران الفضائِل، جِيلٌ في ريَعان الشّباب وغضاضة الإهاب قد ارتَضع لبانَ سوء، وسقط في مستنقَعٍ موبوء، فمن الذي أوردَه معاطبَ الهلاك؟! من الذي أسقطه في تِلك الأشواك ؟! ما أشدَّ المفارقةَ وأبعدَ المشابهة بين الأمسِ واليوم، هُوّة عميقةٌ وبَون واسعٌ وفرق شاسع.
أيّها المسلمون، إنَّ أجيالنا اليومَ تتعرَّض لسُعار الفسادِ وطغيان التّغريب وداءِ التّمييع والإهمال، وسيسألنا الله عن تضييع هذه الأجيال، فهل أعدَدنا جوابًا؟! وهل سيكون الجواب صوابًا؟! يقول رسول الهدى : ((كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيّته، فالأمير راع، والرّجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلّكم راعٍ، وكلّكم مسؤول عن رعيّته)) أخرجه البخاري.
أيّها المسلمون، إذا فشِلنا في هذا الجِهاد جهادِنا مع أنفسنا وإصلاحِ مجتمعاتنا وأجيالِنا فسنفشل في كلّ ميادين القتال وساحات النزال، إنَّ كلَّ الضّرباتِ الموجِعة والهزائم المتتابعة والنّكسات المُفظِعة التي نتلقّاها يومًا بعد يوم إنّما هي بسببِ إضاعتِنا للعهد الذي استخلفَنا الله لتحقيقه، ومكَّننا في هذه الأرض لتطبيقِه.
إنّ على الأمّة أن تطرحَ عنها الأمنَ الكاذب والغفلةَ المردِية، وأن تتَّعِظ بتجاربِ البشر، وأن لا تغترَّ برغد العيش ورخاءِ الحياة، فإنّ سنّةَ الله لا تتخلّف ولا تتوقّف، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ ?لأرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أي: أوَلم يتبيَّن لهم: أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَـ?هُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى? قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأعراف:100]. فمَن ينصرُنا من بأس الله إن جاءنا؟! فتأهَّبوا بالتّوبة، واستحصِنوا بالأوبَة، وكونوا لدِين الله أنصارًا، ووالُوا ضراعةً إلى الله وجؤارًا، واستغفِروا ربَّكم إنّه كان غفارا.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وحافظوا على دينكم وقوموا بواجباته وأركانه، فهو دين الشمول والكمال، لا خير إلا جاء به، ولا شر إلا حذر منه، جاء بجلب المصالح ودرء المفاسد والحفاظ على الدين والنفس والمال والعقل والعرض، قام على أسس عظيمة وأركان متينة، من لم يأت بها فقد خسر دينه، وأهم أركانه بعد الشهادتين الصلاة المفروضة، فهي الفرقان بين الكفر والإيمان، يقول : ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)) خرجه الإمام أحمد وأهل السنن عن بريدة رضي الله عنه، وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه أن الرسول قال: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة))، ولا بد من إقامة الصلاة بأركانها وواجباتها في الجماعة في بيوت الله عز وجل.
أدوا زكاة أموالكم ـ يا عباد الله ـ طيبة بها نفوسكم، تمتعوا بما جاء به الدين الإسلامي الحنيف من النظام الأخلاقي والاجتماعي المتميز، وذلك برعاية الأخلاق الحميدة والبعد عن الخصال الذميمة والأخلاق الرذيلة ونشر المحبة والوئام والمحبة والسلام بينكم، والبعد عن الغيبة والنميمة والبهتان، اتبعوا ما جاء به الدين الحنيف من النظام الاقتصادي العادل الذي لا وكس فيه ولا شطط، وذلك برعاية الأموال والحرص على سلامة مدخلها ومخرجها ورعاية المكاسب المباحة والبعد عن الحيل الممنوعة والمكاسب المحرمة، كالربا والسرقة والاختلاس والرشوة ونحوها. احفظوا جوارحكم من الآثام، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تبغوا الفساد في الأرض، قوموا على من تحت أيديكم من الأهل والأولاد بالتربية الإسلامية الصحيحة التي لا غلو ولا تقصير فيها، احرصوا على اجتماع القلوب وصفاء النفوس، صلوا الأرحام وبروا الآباء والأمهات، وأعينوا الفقراء والمحتاجين، وتوبوا إلى ربكم من ذنوبكم، فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
شباب الإسلام، أنتم أمل الأمة ورجال المستقبل، ولن تبنوا أمجادكم وتؤمّنوا مستقبلكم وتقوموا بحمل الأمانة تجاه دينكم وأمتكم وبلادكم إلا بالاستقامة على دين الله والتحلي بالصبر والمثابرة والأخلاق الكريمة والبعد عن الرذائل والفساد والانحراف، صونوا أنفسكم ـ يا عباد الله ـ عن الملهيات والمغريات، لا تغتروا ـ أيها الشباب ـ بشبابكم وصحتكم، فالموت لا يفرق بين صغير وكبير ولا غني وفقير، تفطنوا لمخططات أعدائكم تجاهكم، وكونوا منها على حذرٍ وحيطة.
أيها الأخوات المسلمات والنساء الفاضلات، إن مكانتكن في الإسلام عظيمة، أنتن الأمهات المشفقات والأخوات الكريمات والمربيات الرحيمات والبنات الفاضلات، لقد فتح الإسلام لكُنَّ أبواب الفضائل، صانكن ورعاكن وحماكن، فالمرأة في هذا الدين درة مصونة وجوهرة مكنونة، حافظ عليها بالستر والحياء والحجاب، ونهى عن كل ما يكون سببًا في التعدي عليها وإيقاع الفتنة بها، من التبرج والسفور والاختلاط والخروج إلى الأسواق، فكن ـ أيتها الأخوات المسلمات ـ عزيزات بدينكن، واحذرن من أعدائكن الذين يلبسون أبهى الحلل، وينادون بألسنة الحلاوة والعسل، بدعوى تحرير المرأة وإنصافها، وهم يريدون القضاء عليها وإهدار عزتها وكرامتها.
ومما ينبغي التحذير منه أن بعض النساء ـ هداهن الله ـ يفهمن الحجاب على غير ما شرع الله، فبعضهن يسترن الرأس فقط، وبعضهن يبدين الأعين بشكل مريب وفاتن، وهذا مخالف للحجاب الشرعي الكامل للمرأة في وجهها وكفيها وجميع بدنها، ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
نسأل الله تعالى أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشدًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله ولي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغامًا لمن جحد به وكفر، وأشهد أن نبينا محمدًا الشافع المشفّع في المحشر، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان ما غاب كوكب وظهر.
أيها المسلمون، وليكن هذا العيدُ موسمًا للإحسان في كلّ دروب الإحسان، فاتقوا الله تبارك وتعالى، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون، واستقيموا على شرعه، واشكروه على عموم نعمه وترادف مننه، ألا وإن من نعمة الله عليكم هذه الأنعام التي خلقها لكم وسخرها وذللها لكم، فمنها ركوبكم، ومنها تأكلون، لعلكم تشكرون، وعظموا شعائر ربكم، فإنها من تقوى القلوب.
ألا وإن من الشعائر الظاهرة ما شرعه الله لعباده في هذا اليوم العظيم من التقرب إليه بذبح الأضاحي، فهي سنة أبينا إبراهيم عليه السلام ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وقصة الخليل عليه السلام مع ابنه الذبيح لا تكاد تخفى على كل مسلم بحمد الله.
أما سنة نبينا في الأضاحي فقد خرج البخاري ومسلم في صحيحيهما أنه ضحى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده، وسمى وكبر، وقال: ((اللهم هذا عن محمد وآل محمد، وهذا عمّن لم يضح من أمة محمد)). وقد يسّر الله على عباده في هذه الشعيرة حيث تجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، كما ثبت في الصحيح عن عبد الله بن هشام رضي الله عنه، فينبغي للعباد أن يتقربوا إلى الله في هذا اليوم بالقيام بهذا العمل العظيم، فما عمِل يوم النحر عملٌ أفضل من إراقة دم، وإنها لتقع من الله بمكان قبل أن تقع على الأرض، وإن للمضحي بكل شعرةٍ وصوفة وقطرة دم أجرا عظيما وثوابا جزيلا، فعلى المضحي أن يطيب نفسًا بأضحيته، وأن يختار ما كان ثمينًا سمينًا صحيحًا سليمًا، سليمًا من العيوب التي تمنع الإجزاء، وهي ما ورد في الحديث الصحيح: ((أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والعرجاء البين ضلعها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي)).
وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل وأعظم أجرًا، وليس المقصود ـ يا عباد الله ـ مجرد اللحم الذي يؤكل فقط، ولكن ما تتضمنه هذه الشعيرة من تعظيم لله جل جلاله وإظهار للشكر له والامتثالٍ لأمره، يقول سبحانه: وَ?لْبُدْنَ جَعَلْنَـ?هَا لَكُمْ مّن شَعَـ?ئِرِ ?للَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَ?ذْكُرُواْ ?سْمَ ?للَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:36، 37].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وانبذوا عن أنفسكم الشح والبخل، فقد أعطاكم الله كثيرًا، وطلب منكم قليلاً، فزكوا في هذه الأيام المباركة عن أنفسكم وأهليكم وأولادكم ووالديكم، ففضل الله واسع، وله الفضل والشكر والحمد والمنة.
وتفطنوا للسنن المعتبرة في الأضاحي، فلا يجزئ في الإبل إلا ما له خمس سنوات، ومن البقر إلا ما تم له سنتان، ومن المعز إلا ما تم له سنة، ومن الضأن إلا ما تم له ستة أشهر. وينبغي الإحسان في الذبح وإراحة الذبيحة، ونحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم بإضجاعها على جنبها الأيسر.
ويوم العيد وأيام التشريق الثلاثة بعدها كلها وقت للذبح بحمد الله، والأفضل في الأضاحي أن توزّع أثلاثًا: يأكل ثلثًا، ويهدي ثلثًا، ويتصدق بثلث، فلا تحرموا أنفسكم ثواب الله في هذه الأيام المباركة، وكلوا مما أحل الله لكم، وتقربوا إليه بالعج والثج، يقول : ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل)).
ألا فاتقوا الله، واعملوا على إحياءَ سنن رسول الله تحظَوا برضوان ربّكم، وتكونوا عنده من المفلحين الفائزين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله, إن اليوم الحادي عشر من ذي الحجة هو أول أيام التشريق المباركة التي قال الله عز وجل فيها: وَاذْكُرُواْ اللَّهَ في أَيَّامٍ مَّعْدُوداتٍ [البقرة:203]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (هي أيام التشريق)، وقال فيها النبي : ((أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل)) أخرجه مسلم وغيره. فأكثروا ـ رحمكم الله ـ من ذكر الله وتكبيره في هذه الأيام المباركة، امتثالاً لأمر ربكم تبارك وتعالى، واستنانًا بسنة نبيكم ، واقتداء بسلفكم الصالح، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكبرون في هذه الأيام الفاضلة.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بدينكم تفلحوا وتسعدوا في الدنيا والآخرة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
هذا واعلموا رحمكم الله، أن من أفضل أعمالكم وأرفعها في درجاتكم وأزكاها عند مليككم كثرة صلاتكم وسلامكم على سيد الأولين والآخرين، النبي المصطفى والنبي المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل سبحانه: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيب قلوبنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وعلي بن أبي طالب، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكّس رايات الكفرة والملحدين، اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، أحصهم اللهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا، أرنا فيهم عجائب قدرتك، وعظيم سطوتك، اللهم اجعل الخلف في صفوفهم، واقذف الرعب في قلوبهم، وخالف كلمتهم، واجعل بأسهم بينهم، ورد كيدهم في نحرهم، وأشغلهم بأنفسهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، يا قوي يا عزيز يا متين...
(1/3593)
أرباب السحر والكهانة
التوحيد
الشرك ووسائله, نواقض الإسلام
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التلازم بين الدين الصحيح والعقل الصريح. 2- غفلة كثير من الناس في هذا العصر عن المنهج الصحيح فيما يتعلق بأمور الغيب. 3- آثار الحياة المادية السيئة على كثير من المجتمعات المعاصرة. 4- السحر بجميع صوره من أنواع الإضلال الشيطاني للبشر. 5- بيان جملة من أصناف السحر. 6- من قصص السحرة والدجالين عبر التاريخ. 7- كفر الساحر وحدّه في الشريعة الإسلامية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، إن وضع كثير من الناس في هذا العصر وضع عجيب، وضع اختلط فيه العلم بالجهل والحقيقة بالخرافة، وهذا الوضع العجيب في هذا العالم الفسيح بدا ظاهره جميلاً خلابًا، يخدع السذج والرعاع، ويفتن قلوب الدهماء من الناس، وفي المقابل بدا باطنه سيئًا نتنًا، يتجافى عنه أولو الألباب، وينفر منه ذوو الفطر السليمة والقلوب المستنيرة.
إن الله جل وعلا قد أكرم أمة الإسلام بنعمتين عظيمتين، لا يمكن أن تستقل إحداهما دون الأخرى، ألا وهما نعمتا الدين والعقل، نعمة الدين الصحيح ونعمة العقل الصريح، فلا دين بلا عقل؛ إذ لا تكليف حينئذ، ولا عقل بلا دين؛ إذ إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
والدين الصحيح قد أكمله الله بخاتم النبيين وسيد المرسلين صلوات ربي وسلامه عليه، فلا نسخ بعد وفاته ولا تبديل، ويبقى الدين على ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
بيد أن العقل لدى كثير من الناس في هذا العصر قد كبا كبوة مثيرة وزل زلة خطيرة، فجمهور من الناس قد أصابتهم لوثات وعلل أزرت بقدراتهم العقلية، مذ أسلموا عقولهم لأيادي الهدم التي لبست قفاز العلم، واستطاعت من وراء هذا القفاز أن تصافح كثيرًا من العقول، وأن تتسلل إلى كثير من البيئات والأوساط، دون أن يداخل الناس شك في أمرها، والتي أدت إلى تلوث الحياة الاجتماعية لدى كثير من المسلمين بسبب تخلفهم وإبان غفلة من علمائهم وفقهائهم.
وإن مما يؤخذ على كثير من الناس في عصرهم الحاضر عدم الالتزام بالمنهج الصحيح فيما يتعلق بأمور الغيب، حيث آمن بعضهم بالخرافة، ورضي آخرون بالكهانة، فباتوا سادرين على باطلهم لاهين بالسجع والتخمين، يقذفون بالغيب في كل حين، ناسين أن الغيبيات لا مصدر لها إلا الكتاب والسنة، أما أخبار الناس فليست مصدر علم غيبي، بل إنها محور أساطير وأوهام وخليط كلام، يأتي به مسترقو السمع من السماء. والإسلام دين يزيل الخرافة من الفكر والرذيلة من القلب والشرود من المسيرة. فالإيمان بالغيب ليس إيمانًا بالوهم ولا إيذانًا بالفوضى.
عباد الله، لقد توصل بعض الباحثين في تاريخ البشرية والنفس الإنسانية إلى أن كثيرًا من الناس لهم ولع شديد بمعرفة الغيب، والتطلع إلى هذا طبيعة بعض البشر، ولذلك تجد كثيرًا من الناس يتشوّفون إلى الوقوف على ذلك في المنام، ومن هذا المنطلق لم يقنع البعض من البشر بما أخبرتهم به رسلهم من غيوب ماضية وغيوب آتية، فذهبوا يتكشفون الغيب الماضي والحاضر، وزعموا بذلك أن لبعض البشر قدرة وملكة على معرفة الغيب، فقام في كل عصر وفي كل مصر أقوام يزعمون أن لديهم القدرة على معرفة الأحداث الآتية والكائنات الغائبة.
لقد جَرّت الحياة المادية الجافة بلاءً عظيمًا للبشرية، فقست القلوب، وجفت ينابيع الخير في أرواح كثير من الناس في هذا العصر؛ فبرزت العقد والمشكلات النفسية التي أصبحت سمة بارزة في هذا العصر، فأخذ كثير من الذين فقدوا راحة القلب وطمأنينة النفس وطعم الإيمان في قلوبهم، أخذوا يلجؤون إلى السحرة والمشعوذين، يبحثون عندهم عن حل لمشكلات عجزوا هم عن حلها، فكانوا كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولسان حالهم يقول: وداوني بالتي كانت هي الداء، وشر البَلِيَّةِ ضلال بعد الهدى وعمى بعد البصيرة.
فلقد خلق الله الخلق يميلون بفطرهم إلى التوحيد دين الفطرة، فانحاز الشياطين بفريق منهم، فحولوهم عن طريق الهدى، وانحرفوا بهم عن مسلك الرشاد، قال رسول الله فيما يرويه عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)) ، وقال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدْ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنْ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنْ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ [الأنعام:128].
فهؤلاء الجن أضلوا كثيرًا من الإنس بتزيينهم الباطل والضلال لهم، وإن من الباطل الذي زينه الشياطين واستدرجوا الإنس إليه تعاطي السحر بمختلف صوره وأشكاله، وتصديق الكهنة، والاعتماد على كذب المنجمين والرمالين والدجاجلة والمشعوذين الذين يزعمون الاطلاع على الغيب والكشف عن المخبأ. ولا ينبغي أن يغيب عن بالنا جميعًا أن السحر يقوم في بعض صوره على الاتصال بالجن من شرار الخلق، وينبغي أن يكون ذلك مُسلّمًا عند كل مسلم قرأ ما جاء في قصة هاروت وماروت، وما جاء من الاستعاذة بالله من السحرة وشر شرار خلقه من الجن والإنس في المعوذتين.
أيها الناس، إن السحر حقيقة موجودة ولها تأثير في واقع الناس، ولو لم يكن موجودًا وله حقيقة لما وردت النواهي عنه في الشرع، والوعيد على فاعله، والعقوبات الشرعية على متعاطيه، فكم فرّق السحرة بين زوج وزوجته، وبين صديق وصديقه، وتاجر وتجارته، وموظف ووظيفته، وكل هذا حقيقة لا مكابرة فيها.
أيها المسلمون، لقد عُرف من خلال تتبع أحوال السحرة والمسحورين أن للسحر أنواعًا كثيرة من حيث تأثيرها على المسحور، فمنه سحر التفريق الذي قال الله فيه: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]، ومنه سحر المحبة الذي سماه رسول الله بالتِّوَلَة، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: ((إن الرقى والتمائم والتولة شرك)) رواه أحمد وأبو داود، والتولة هو ما يصنعونه ويزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، وهو ضرب من السحر، وإنما جعله رسوله الله من الشرك لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى.
ومن السحر أيضًا سحر التخييل، كأن يرى الشيء الثابت متحركًا والمتحرك ثابتًا، كما قال تعالى عن موسى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]، ومنه سحر الخمول، بحيث يحبب إلى المسحور حبّ الوحدة والصمت الدائم والشرود الذهني، وما شابه ذلك من ألوان السحر وضروبه.
ومن الأمور المغرضة المبنية على السحر والشعوذة والتدجيل ما يروجه أدعياء الروحية الحديثة، تلكم الدعوة الهدامة التي يزعم أربابها أنهم يحضرون أرواح الموتى بأساليب علمية، ويستفتونهم في مشكلات الغيب ومعضلاته، ويستعينون بهم في علاج المرضى والإرشاد على المجرمين والكشف عن الغيب، ويدعون أن الأرواح التي تخاطبهم تعيش في هناء وسعادة رغم أنها كافرة؛ ليهدموا بذلك عقيدة التوحيد والبعث والجزاء والإيمان والكفر والجنة والنار، وكل ذلك يكون تحت شعارات براقة، كالإنسانية والإخاء والحرية والمساواة؛ للتمويه على السذج والبسطاء، وعملهم كله منصب على زعزعة الدين من النفوس، وكلامهم صريح في أن الروحية الحديثة دين جديد، ويدعو إلى العالمية ونبذ كل الأديان؛ ليستلّوا بذلك الإيمان من صدور الناس، ويسلموهم إلى خليط مضطرب من الظنون والأوهام.
وأعمال أولئك الروحيين تدخل في واحد من أقسام ثلاثة: أولها: الغش والخداع، وثانيها: التأثير المغناطيسي على الحاضرين، وثالثها: الاتصال بشرار خلق الله من الجن.
وأول من سار في ركاب هذه الفكرة هي الأمة الكافرة التي اكتنفتها كل صور الإباحية والإلحاد، ولئن استنكرنا على أمم الكفر ما يسمى مجالس تحضير الأرواح فإننا لنستغرب من بعض المسلمين عدم مبالاتهم بالأمر ونتائجه، فربما سمح أحدهم لنفسه طمعًا في استكشاف غيب أو إبراء مريض كما يزعمون أن يحضر تلك المجالس، وربما وضع الجن له طعمًا في كلمة تصدق أو حاجة تقضى، فيلقي لها زمامه كله، فإذا هو بعد حين ناكب عن الصراط المستقيم.
والجن لهم قدرة أبعد مدى من قدرة البشر، ولكنهم لا يعلمون الغيب، وما يكون غيبًا أحيانًا بالنسبة لنا قد يكون عيانًا بالنسبة لهم؛ لما وهبهم الله من قوة، كما قال تعالى عن عفريت سلميان: قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ [النمل:39، 40]، يعني بذلك عرش ملكة سبأ. فأنت ترى ـ أيها المسلم ـ أن الحِدأة ترى من الجوّ ما لا نراه نحن تحت أقدامنا، ومع ذلك لا يمكن أن يقال: إنها تعلم الغيب، وبالتالي فإن ما يدور في مجالس تحضير الأرواح لا يدل على شيء ذي بال، ولا يسوغ أبدًا أن يكون ذريعة لترك ما نعلم من شرائع الإسلام.
عباد الله، أما الكهانة والتنجيم فحدّث عن المحزن المبكي ولا حرج، المحزن حينما ترى الترهات وتسمع الرجمَ بالغيب من أخلاء الشياطين، والمبكي يوم أن ترى الرعاع من المسلمين لا همّ لهم إلا أن ينصتوا إلى دجل الدجالين ومدعي قراءة الكف والفنجان، وإلى السيل المتضارب من تنبؤاتهم عما سيحدث في العالم خلال يوم جديد أو أسبوع سيطل أو شهر أوشك حلوله أو عام مرتقب، ويمضي الكثيرون في دجلهم ويحددون بذلك مستقبل الأبراج، فسعيدون هم أصحاب برج الجدي، وأغنياء هم أصحاب برج العقرب، أما أصحاب برج الجوزاء فيا لتعاسة الحظ وخيبة الأمل، إلى غير ذلك من سيل الأوهام الجارف.
إن لنا ـ يا عباد الله ـ في أحقاب الزمن من ذلك أشكالاً وألوانًا يمثله أدعياء الكهانة والتنجيم والتخمين والتدجيل، فهذا ابن صياد الكاهن الذي ادعى النبوة، لقيه رسول الله في الطريق فقال له: ((قد خبأت لك خِبئًا)) ، قال ابن صياد: هو الدُّخ، فقال رسول الله : ((اخسأ، فلن تعدوَ قدرك)) رواه البخاري. فابن صياد أراد أن يقول: هو الدّخان، فلم يستطع، فقال: هو الدُّخ. وفي رواية عند أحمد أن رسول الله قال: ((وخبأت له: يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ )) فابن صياد اندهش، فلم يقع عليه من إلقاء الشيطان إلا بعض لفظ الدخان وهو الدُّخ.
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما أراد المسير لقتال الخوارج عرض له منجم، فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تسافر؛ فإن القمر في العقرب، فإنك إن سافرتَ والقمر في العقرب هُزِمَ أصحابك، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (بل نسافر، ثقةً بالله وتوكّلاً على الله وتكذيبًا لك)، فسافر فبورك له في ذلك السفر حتى قتل عامّة الخوارج، وكان ذلك من أعظم ما سُرّ به رضي الله عنه.
ومن تلك المفتريات التي دونها التاريخ وأصبحت وصمةَ عار على جبين الكهان والمنجمين كذِبُهم حينما ادّعوا أن الخليفة المعتصم لا يمكنه فتح مدينة عموريه قبل أن ينضج التين والعنب، وانتشر الخبر بين الناس، فأكذب الله المنجمين وأعز المسلمين، وكان الفتح استجابة لصرخة امرأة مسلمة أذلها الروم فصاحت: وامعتصماه، فبرز أحد الشعراء بقصيدة عصماء عرض فيها لدجل المنجمين وكذبهم، فمما قال:
السيف أصدق أنباءً من الكتب في حدِّه الحدّ بين الجدّ واللعب
أين الرواية بل أين النجوم وما صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
تسعون ألفًا كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
وعندما ظهر كذب ادعاء الغيب لم يكفّ الناس عن تصديق مثل هذه الخُزَعْبَلات، فلا يزال يظهر بين الفينة والأخرى مسيلِمة آخر ودجالون كذابون والله المستعان.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن التوحيد ينبغي أن يغمر قلوب الناس ليصبح توحيدًا خالصًا، فلا يعتصم الناس إلا بالله، ولا يلجؤون إلا إلى الله، فالله وحده هو الذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [سورة الفلق].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، واعلموا أن السحر والشعوذة والكهانة انحراف قديم أضل به الشيطان جيلاً كثيرًا من بني الإنسان، وأفسد بذلك فطرتهم، وعبّدهم لغير الله، فأوبقهم وأهلكهم، والإسلام لا يرضى لأتباعه أن يلجؤوا إلى السحر والسحرة، لا في كشف المخبأ، ولا في حل السحر عن المسحور، فالساحر ضالّ كافر خارج عن ملة الإسلام، قال تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]، فقد نفى الله الفلاح بجميع أنواعه عن الساحر، وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا يُنفى بالكلية نفيًا عامًّا إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، وقد عُرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة لاَ يُفْلِحُ يُراد بها الكافر، ومن تتبع آيات القرآن وجد ذلك.
وقال تعالى: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102]، ووجه ذلك الكفر هو أن الشياطين خبيثة نفوسهم، فإذا تقرب صاحب العزائم والأقسام إليهم بما يحبونه من الكفر والشرك صار ذلك كالرشوة لهم، فيقضون بعض أغراضه، ولهذا فإن كثيرًا من السحرة يتقرب إلى الشياطين بالسجود لهم أو يذبح لهم أو يستغيث بهم أو يطأ على المصحف أو يبول عليه أو يوقع النجاسة عليه أو ما شابه ذلك من أنواع الكفر والضلال.
وحد الساحر ضربه بالسيف، كما صح ذلك عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم، وثبت في البخاري عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (اقتلوا كل ساحر وساحرة)، وقتل ثلاث سواحر على عهد عمر رضي الله عنه. وروى البيهقي أنه كان عند الوليد بن عقبة رجل يلعب فذبح إنسانًا فأبان رأسه ثم أعاده، فقال الناس: سبحان الله! يحيي الموتى، فجاء جُنْدَب الأزدي فقتله، وقال: إن كان صادقًا فليحيِ نفسه.
أما الكهانة والعرافة فداء خطير وشر مستطير، حسم الشرع أمره، فقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي أنه قال: ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم يقبل له صلاة أربعين ليلة)). الله أكبر! لم تقبل له صلاة أربعين ليلة لمجرد سؤال سأله، إذًا فكيف تكون حال من يسأل الكاهن فيصدقه بما يقول؟! هذا ما ذكره رسول الله في الحديث الآخر بقوله: ((من أتى عرافًا أو كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه أحمد وغيره بسند صحيح. فإذا كانت هذه حال السائل فكيف بحال المسؤول؟!
أيها المسلمون، إنه الكفر البواح والضلال المبين، وربما يغتر بعض السذج من الناس فيقولون: إن هؤلاء العرافين والكهان يحدثوننا بأشياء تصدق أحيانًا، فكيف نصفهم بالكفر والضلال، فنقول لهم: قد ثبت عن النبي أنه سئل عن الكهان فقال: ((ليسوا بشيء)) ، فقالوا: يا رسول الله، إنهم يحدثون أحيانًا بالشيء يكون حقًّا، فقال رسول الله : ((تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة)) رواه البخاري. هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء:221-223].
ثم اعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن في عالم الخفاء من الجن شريرين ومفسدين وكفارًا ضالين: وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ [الجن:14] أي: الظالمون الجائرون، فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:14، 15]. وقال تعالى عن أولئك الجن الذين لا يعلمون الغيب: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:1]. فمن استغاث بهم وعاذ بهم فقد أرهق نفسه وعرضها للشر والتهلكة: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6].
فالواجب على ولاة أمور المسلمين في كل مكان أن يقيموا شرع الله، ويحاربوا كل أنواع الدجل، ويوقعوا بأصحابها العقوبة الشرعية، إذ لا نجاة من السحرة والأشرار إلا بسيف شهير صارم بتار، بحدّ مرهف يستأصل رقبة كل ساحر وساحرة وكاهن وكاهنة.
هذا، وصلوا ـ رحمكم الله ـ على خير البرية وأفضل البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/3594)
انتصاف رمضان والحث على الصدقة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
اغتنام الأوقات, الزكاة والصدقة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بمنزلة شهر رمضان المبارك. 2- انتصاف شهر رمضان المبارك. 3- رمضان أعظم موسم للتنافس في عمل الخيرات. 4- الحث على الصدقة وبيان شرفها وفوائدها في الدارين. 5- التنفير من الشح والبخل وبيان عاقبته في الدنيا والآخرة. 6- الحث على مساعدة إخواننا المسلمين في فلسطين وغيرها. 6- شمولية مفهوم الصدقة في الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، إذ بها تشرف النفس، ويثقل الميزان، ويعلو القدر، ويعظم الجاه، ويحصل القرب من الباري جلّ شأنه، فما خاب من اكتنفها، ولا أفلح من جفاها، ولا جَرَم ـ عباد الله ـ فإن العاقبة للتقوى، فَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ي?أُوْلِى ?لأَلْبَـ?بِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:100].
أيها المسلمون، إنكم في شهر لا يشبهُه شهر، عظيم الأمر، جليل القدر، هو من أشرف أوقات الدهر، فضائله لا تحصى، ومحامده لا تُستقصى، موسمٌ وافرُ الأرباح لمن اتَّجر، مهلكٌ لأرواح من طغى فيه وفجر.
شهرٌ يفوق على الشهور بليلةٍ من ألف شهر فُضّلت تفضيلا
طوبى لعبدٍ صح فيه صيامه ودعا المهيمن بكرة وأصيلا
وبليله قد قام يختم ورده متبتلاً لإلهه تبتيلا
أيها المسلمون، لقد مضى من رمضان صدره، وانقضى منه شطره، واكتمل منه بدره، فاغتنموا فرصة تمرُّ مرَّ السحاب، ولِجوا قبل أن يُغلق الباب، وبادروا أوقاته مهما أمكنكم، واشكروا الله على أن أخّركم إليه ومكّنكم، واجتهدوا في الطاعة قبل انقضائه، وأسرعوا بالمثاب قبل انتهائه، فساعاته تذهب، وأوقاته تُنهب، وزمانه يُطلب، ويوشك الضيف أن يرتحل، وشهر الصوم أن ينتقل، فأحسنوا فيما بقي، يغفر لكم ما مضى، فإن أسأتم فيما بقي أُخذتم بما مضى وبما بقي.
أيها المسلمون، تنصَّف الشهر وانهدم، وفاز مَن بحبل الله اعتصم، وخاف من زلّة القدم، واغتنم شهر رمضان خير مغتنم، وشقي الغافل العاصي بين الذل والسقم والأمن والندم، ويا ويله يوم تحل على أهل المخالفة الآفات، يوم تنقطع أفئدة أهل التفريط بالزفرات، يوم يُحشر أهل المعاصي والدموع على الوجنات، يقول الرب العلي في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) أخرجه مسلم.
عباد الله، اشكروا الله على ما أنعم به عليكم من نعمة الدين والدنيا، فلقد أرسل الله إليكم رسولاً يتلو عليكم آيات ربكم ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة، فبقي دينه متلوًا في كتاب الله، غير مُبَدل ولا مُغيّر، ومأثورا فيما صح من سنة رسول الله ، وأفاض عليكم المال لتستعينوا به على طاعته، وتتمتعوا به في حدود ما أباحه لكم، فهو قيام دينكم ودنياكم، فاعرفوا حقه، وابذلوه في مستحقه، وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20].
أيها المسلمون، اعلموا أنّ رمضان هو الشهر الذي يتنافس فيه المتنافسون, ويتسابق الخيرون للتقرب إلى ربهم جل جلاله بأنواع الطاعات والقربات، ما بين صيامٍ وقرآن وقيامٍ ودعاء وتضرعٍ ونفقةٍ وصدقةٍ وتفطيرٍ للصائمين، وغير ذلك من أنواع البر وأصنافه، وإن من أعظم أنواع البر في هذا الشهر المبارك التقرب إلى الله عز وجل بإخراج المال طيبةً به نفوسنا، كريمةً به أيدينا، نرجو ثوابه عند الله عز وجل, وقد علمنا يقينًا أن هذه النفقة سببٌ لدخول الجنة، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:15-19], وهذه النفقة كذلك سببٌ في دخولك ـ يا عبد الله ـ في زمرة المتقين، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة:2، 3], كما أنّ هذه النفقة سببٌ لمضاعفة الحسنات، مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:245].
هذه النفقة ـ أيها المسلمون ـ هي سبيل الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين، الذين كانوا يجودون بما آتاهم الله من فضله، يبتغون ما عند الله من ثوابٍ وأجر، قال أنس بن مالكٍ رضيَ الله عنه: ما سُئل رسول الله على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، وقد جاءه رجلٌ فسأله فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع الرجل إلى قومه يقول لهم: أسلموا؛ جئتكم من عند خير الناس، إنَّ محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبدًا. كان لا يُسأل عن شيءٍ قطّ فيقول: لا, ربما خلع قميصه الذي يلبسه فوهبه لمن سأله إياه, ولربما وهب قميصه لمن طلبه ليكفِّن فيه أباه، ما كان يُسأل شيئًا قط فيقول: لا.
وقد اقتدى به أصحابه رضوان الله عليهم, يقول عمر بن الخطاب رضيَ الله عنه: دعانا رسول الله إلى الصدقة، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكرٍ إن سبقته يومًا قطّ، فجئت بنصف مالي إلى رسول الله ، فقال ليَ: ((وما تركت لأهلك يا عمر؟)) قلت: تركت لهم مثله، فجاء أبو بكرٍ رضيَ الله عنه بماله كله، فقال له : ((وما تركت لأهلك؟)) قال: تركت لهم اللهَ ورسوله.
أبو طلحة الأنصاري رضيَ الله عنه كان عنده بيرحاء: بستانٌ من أطيب بساتين المدينة وأكثرها ثمرًا، لما نزل قول الله عز وجل: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] جاء رضيَ الله عنه فقال: يا رسول الله، قد أنزل الله ما قد علمتَ، وليس لي مالٌ أطيبَ من هذا البستان, هو لك يا رسول الله، ضعه حيث شئت مما أراك الله أدخره عند الله، فقال : ( (بخٍ بخٍ، ذاك مالٌ رابح، اجعله في أهلك وقرابتك)) ، فجعله أبو طلحة رضيَ الله عنه في أرحامه وبني عمومته، قسم عليهم ذلك البستان، يرجو ما عند الله من فضلٍ وإحسان.
أيها المسلمون، الصدقة تطفئُ غضب الربِّ كما يطفئُ الماءُ النار، والصدقةُ أجرها مُضاعف وثوابها عظيم، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، في الصدقة تزكيةٌ للمال، وتطهيرٌ للبدن، ووقايةٌ لمصارع السوء، في الصدقة دفعٌ للبلايا والمصائب والأمراض، كما قال رسول الله : ((داووا مرضاكم بالصدقة, حصنوا أموالكم بالزكاة)) ، كما أن الصدقة ـ أيها المسلمون عباد الله ـ تنفع العبد يوم القيامة، يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم, الصدقة ترفع العبد عند الله درجاتٍ، وتخفف عليه الحساب، وتثقل الميزان، وتكون سبب جوازه على الصراط، كما أنّ الصدقة سببٌ لظل العبد في ذلك اليوم العبوس القمطرير في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظلَّ إلا ظله، ذاك الذي تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:271].
أيها المسلمون، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268]، قد يقول قائل: أنا لا أملك إلا ما أقتات أنا وأهلي وعيالي، قال رسول الله : ((سبق درهم مائة ألف درهم)) ، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله؟ قال: ((رجلٌ عنده درهمان فتصدق بأحدهما، فقد تصدق بنصف ماله، ورجلٌ عنده مالٌ كثير فأخذ من عرضه مائة ألفٍ فأنفقها في سبيل الله)).
رُبَّ عملٍ قليلٍ تُكثِّره النية، قد تتصدق بتمرة فيقيك الله بها حر النار، ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدّم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقِّ تمرة)) , تمرة تتقرب بها إلى الله عز وجل، ترجو ثوابه وتخاف عقابه، تنفقها في سبيل الله، تطعم بها جائعًا، تهديها إلى مسكين، تدخل بها السرور على مسلمٍ، هيَ عند الله عزّ وجلّ بميزانٍ عظيم.
يا أيها الغني، اعلم بأن الصدقة سبب لبركة المال ونمائه, سبب لحصول النعمة وتجددها من الله عز وجل، فما استُجلبتْ نعم الله عز وجل ولا استُدفِعت نقمه بمثل الإحسان إلى عباده.
واعلم ـ أيها الغني ـ أنَّ الصدقة لا تنقص المال، قال رسول الله : ((ثلاثةٌ أقسم عليهنّ, وأحدثكم بحديثٍ فاحفظوه: ما نقصَ مالٌ من صدقة, وما ظُلِم عبدٌ مظلمةً فعفا إلا زاده الله بها عزًا, وما فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)). أنفق ـ أيها الغني ـ ولا تخش من ذي العرش إقلالاً، واعلم بأنّ الله عز وجل خزائنه ملأى، لا يغيضها عطاء، ويده سحّاء الليل والنهار، وهو أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
ويا أيها الفقير، يا من قدِر عليك رزقك، اعلم أنّ رسول الله قال: ((من أنفق عدل تمرةٍ من كسبٍ طيبٍ ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ فإن الله يقبلها بيمينه ويربيها لصاحبه، كما يربي أحدكم فَلْوه ـ أي: كما يربي أحدكم حملاً أو فرسًا أو دابةً في بيته ـ حتى تكون مثل الجبال)) ، هذه التمرة التي تصدقت بها ترجو بها وجه الله عز وجل، حالك كحال الصالحين الذين قالوا: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:1-9]، هذه التمرة تجدها يوم القيامة حسناتٍ كأمثال الجبال.
فالبدار البدار أيها المسلمون, أدخلوا السرور على أرحامكم وعلى إخوانكم، وأنفقوا من أموالكم، واعلموا أن الله عز وجل يخلف عليكم بخيرٍ مما أنفقتم، وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39].
أيها المسلمون، اعلموا أنّ إمساك المال والشح به لا يزيده، بل يمحقه ويُذهب بركته، وينزل غضب الربّ على صاحبه، فإنّ الله عز وجل نعى على أقوامٍ فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77], وقد ذمَّ الله عز وجل في القرآن من يبخلون بهذا المال، وأثنى على من يوقَ شحَّ نفسه، ووصفه بالفلاح، وبين ربّنا جل جلاله أنّ هذا المال عذابٌ على صاحبه إن لم ينفقه في سبيل الله، ويتقرب به إلى ربه ومولاه: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة:34، 35].
يا مسلم، يا عبدَ الله، قد تُطعم أخاك على جوعٍ فيجزيك الله من جنس عملك، يطعمك يوم القيامة من ثمار الجنة، قد تكسو مسلمًا على عُريٍ فيكسوك الله عز وجل من حُلل الجنة، تقدم مالك تبتغي به وجه الله عز وجل يقيك الله به حرَّ النار يوم القيامة، أفضل الصدقة أن تتصدق وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل الغِنى، ولا تنتظر حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: هكذا وهكذا ولفلانٍ كذا ولفلانٍ كذا. إن بعض الناس لا تجود نفسه بمال ولا يقبل أن ينفق، بل ربما يعدّ المنفقين والمتصدقين ممن خفت عقولهم وذهبت أحلامهم، حتى إذا أصاب ذلك المسكين داءٌ عضال ومرضٌ فتّاك وعاين الموت بدأ ينفق ماله يمنةً ويسرة، بعدما ذهبت نضرة الشباب وبهجة الدنيا، شتان شتان بين هذا وذاك، شتان شتان بين من أنفق حال شبابه وقوته، حال حضور ذهنه واكتمال رغبته في هذه الدنيا, وبين هذا الذي تصدق بعدما عاين الموت، بعدما أيقن أنّ الدنيا قد ولت مدبرة وأن الآخرة قد جاءت مقبلة بدأ يتصدق، شتان شتان بينهما.
أيها المسلمون، خير من توجهون إليه صدقاتكم أرحامكم، قراباتكم، فإنَّ رسول الله قال: ((الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقةٌ وصلة)) ، ثم ثانيًا: من كان عفيفًا متعففًا ذا عيال لا يسأل الناس ولا يتَفَطّن له فيُتصدق عليه، اقرؤوا إن شئتم: يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا [البقرة:273].
واعلموا ـ أيها الإخوة في الله ـ أنّ الصدقة أمانٌ للفرد والمجتمع، أن الصدقة يحصل بها الرضا والسرور، أن في الصدقة تفريجًا للكروب وتنفيسًا للهموم وإعانةً للمحتاجين، إدخالاً للسرور على المسلمين، فأدخلوا السرور على إخوانكم يدخل الله السرور عليكم.
واعلموا ـ أيها الإخوة في الله ـ أن هموم المسلمين ليست محصورةً في بلدنا هذا، فهناك إخواننا في فلسطين حاجاتهم متجددة، تحت حصارٍ ظالمٍ من قوةٍ باغية من اليهود الذين غضب الله عليهم ولعنهم، الذين هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا, يحاصرون إخواننا، يحرقون زروعهم، يمنعون تجارتهم، يحولون بينهم وبين ما يشتهون من الضربِ في هذه الأرض والتماس بركة الله عز وجل, فلنتصدق على إخواننا المسلمين في كل مكان، ولنتقرب إلى الله عزّ وجل بمحاولة تفريج همومهم، ولنجاهد بأموالنا إذ قد عجزنا عن الجهاد بأنفسنا: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ [التوبة:111], قدموا أموالكم لإخوانكم، وتبرعوا لأهل دينكم وملتكم.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا لما يحب ويرضى, وأن يجعلنا ممن يخرجون أموالهم طيبة بها نفوسهم, وممن يبتغون بذلك وجه ربهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرحيم، أحمدُه سبحانه وأشكره أن هدانا للصّراط المستقيم، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له العظيم الحليم، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، الصّدقة لها معنًى واسع، فهِي تشمَل عملَ كلّ خير، إرشادُ الضالّ، إماطةُ الأذى، العدلُ بين اثنين، التبسّم في وجه أخيك المسلم، غرسُ شجرة، تعليمُ علمٍ نافع، إصلاح ذات البَين، الكلمَة الطيّبة صدقة، قال رسول الله : ((على كلّ مسلمٍ صدقة)) ، فقالوا: يا نبيَّ الله، فمن لم يجد؟ قال: ((يعمل بيده فينفَع نفسَه ويتصدّق)) ، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((يعين ذا الحاجةِ الملهوف)) ، قالوا: فإن لم يجد؟ قال: ((فليعمَل بالمعروف، وليمسك عن الشرّ، فإنّها له صدقة)) أخرجه البخاري.
فيا عباد الله، فإن رمضان شهر البر والصلة والصدقة، والأنفس الأبية هي التي تعطف على الفقراء، وتبذل لهم شيئًا من المعروف، فإن من معاني الصيام تذكر حالة البائسين والمعوزين والعطف عليهم ومواساتهم بالمال والإحسان. إن القلوب التي لا يُشعِرها رمضان بحال إخوانها الفقراء قلوب يصدق فيها وصف المنفلوطي حين قال في كتابه النظرات: "فتشت عن الفضيلة في قصور الأغنياء فرأيت الغني إما شحيحًا أو متلافًا، أما الأول ـ يعني الشحيح ـ فلو كان جارًا لبيت فاطمة رضي الله عنها وسمع في جوف الليل أنينها وأنين ولديها من الجوع ما مد أصبعيه إلى أذنيه؛ ثقة منه أن قلبه المتحجّر لا تنفذه أشعة الرحمة، ولا تمر بين طياته نسمات الإحسان". يقول رحمه الله: "لو أعطى الغني الفقير ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكا واحد منهما سُقمًا ولا ألمًا، لقد كان جديرًا به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته، ويطفئ غلته، ولكنه كان محبًا لنفسه مغاليًا بها، فضم إلى مائدته ما اختلسه من صحفة الفقير، فعاقبه الله على قسوته بالبطنة"، إلى أن قال رحمه الله تعالى: "لا أستطيع أن أتصوّر أن الإنسان إنسان حتى أراه محسنًا؛ لأني لا أعتمد فصلاً صحيحًا بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة: رجل يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلاً إلى الإحسان إلى نفسه، وهذا هو المستبد الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان، ورجل يُحسن إلى نفسه ولا يُحسن إلى غيره، وهو الشره المتكالب الذي لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذبح في سبيله الناس جميعًا".
إن المحسن منكم ـ أيها المسلمون ـ من يسعى في رمضان وغير رمضان لرحمة يتيم يترقرق الدمع في عينيه أن لا يجد من يواسيه لفقد أبيه، أو لرحمة أسرة فقدت معيلها وضاعت خيراتها، أو رحمة كسير ومريض أقعده المرض وأجبره على نزف دموع الفقر والحاجة، أو رحمة أخ غريب بينكم نأت به الديار عن أهله وذويه، ولئن بت آمنًا في بيتك معافى في بدنك بين أهلك وأسرتك، فإنما يعيش هو وحيدًا بلا أنيس، وفقيرًا بلا معين، يتابع الإعلام فيرى صورة يهودي يهدّم بيته ومأوى أسرته، أو يسمع صوت قنبلة أطاحت ببعض أهله أشلاء مفرقة، فإن لم نكن هؤلاء، فما أجدر وصف المنفلوطي بنا.
وأخيرًا: رحل النصف الأول، ولئن كنا فرطنا فلا ينفع ذواتنا بكاء ولا عويل، وما بقي أكثر مما فات، فلنُرِ الله من أنفسنا خيرًا، فالله الله أن يتكرر شريط التهاون، وأن تستمر دواعي الكسل، فلقيا الشهر غير مؤكدة، ورحيل الإنسان مُنتظر، والخسارة مهما كانت بسيطة ضعيفة فهي في ميزان الرجال قبيحة كبيرة.
رحل النصف الأول وبين صفوفكم الصائم العابد الباذل المنفق الجواد نقي السريرة طيب المعشر، فهنيئًا له رحلة العشر بخيرات كهذه. ورحل النصف الأول وبين صفوفكم صائم عن الطعام والشراب، يبيت ليله يتسلى على أعراض المسلمين، وتقامر عينه شهوة محرمة يرصدها في ليل رمضان، يده امتدت إلى عامل فأكلت ماله، أو حفنة ربا فاجتالتها دون نظر إلى عاقبة أو تأمل في آخرة، رحلت وبين صفوفكم من فاتته صلوات وجماعات، وقد آثر النوم والراحة على كسب الطاعة والعبادة. رحل النصف الأول وبين صفوفكم بخيل شحيح، أسود السريرة، سيئ المعشر، دخيل النية، فأحسن الله عزاء هؤلاء جميعًا في عشرهم الأول، وجبرهم في مصيبتهم، وأحسن الله لهم استقبال البقية، وجعلهم فيما يستقبلون خيرًا مما ودعوا، والله المسؤول.
ألا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه في قول الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِي ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، وانصر عبادك الموحدين...
(1/3595)
تحريم القتل والاعتداء على الأنفس
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحدود, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التقوى جماع الخير كله. 2- اتفاق الأديان والقوانين على ضرورة حفظ النفس. 3- نصوص الكتاب والسنة الدالة على التغليظ في جريمة القتل. 4- بعض العوامل المؤدية إلى انتشار جريمة القتل في العصر الحديث. 5- جريمة قتل النفس كقتل الغير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، كثيرًا ما تلهج الألسنة ويردد الدعاة والخطباء والوعاظ الأمر بتقوى الله عز وجل، وما ذلك إلا لأن التقوى جماع فضائل الدين الحنيف وأساسه ومبدؤه ومنتهى عبادة الله، فبتقوى الله تعمر القلوب وتطمئن النفوس وتحلق الأرواح، ولعظم تقوى الله قرنت بالدعوة إلى عبادته وحده: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ [نوح:3]. وفي حديث رسول الله كثيرًا ما تجيء كلمة التقوى ضمن أمر أو نهي: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في سركم وجهركم، في ليلكم ونهاركم، في حركاتكم وسكناتكم، فيما تقولون وفيما تفعلون، وجماع التقوى في حياة المسلم أن يحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وأن يتذكر الله في ساعة البلى.
عباد الله، سنتحدث اليوم عن أمر هام، بل عظيم وأي عظم، عن جريمة شنعاء توجب اللعنة وتطرد من الرحمة، جريمة بالرغم من عظمها إلا أنها تتوالى عبر العصور، وتتكرر بتكرر الأجيال، والشيطان أشدُ ما يكون حرصًا عليها؛ لأنه يضمن بها اللعنة للقاتل وسخط الله وغضبه. جريمة وأي جريمة، هي وهج الفتن، ووقود الدمار، ومعول الهدم. نعم، إنها جريمة القتل، جريمة إزهاق النفس التي حرم الله، جريمة توجب سخط الله والنار والعذاب الأليم.
أيها المسلمون، إن حفظ الدين والأنفس وحماية الأعراض والحفاظ على العقل والنسل من مقاصد هذا الدين القويم، ومن الجوانب الرئيسية التي رعاها أيما رعاية، واعتنى بها غاية العناية، صيانة للأمة وحفاظًا على الأفراد والمجتمعات من أخطار الجرائم المدمرة، وعنوان صلاح أي أمة ودليل سعادتها واستقرارها إنما هو برعاية أبنائها لهذا الجانب العظيم، وهو حفظ الأنفس وحمايتها، فمقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقولهم وأنسابهم وأموالهم.
فحفظ الأنفس وحمايتها ضرورة دينية ومصلحة شرعية وفطرة سوية وطبيعة بشرية وغريزة إنسانية. ودماء المسلمين عند الله مكرمة محترمة مصونة محرمة، لا يحل سفكها، ولا يجوز انتهاكها إلا بحق شرعي. وقتل النفس المعصومة عدوان آثم وجرم غاشم، وأي ذنب هو عند الله أعظم بعد الشرك بالله من قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؟! لما في ذلك من إيلام المقتول وإثكال أهله وترميل نسائه وتيتيم أطفاله وإضاعة حقوقه وقطع أعماله بقطع حياته، مع ما فيه من عدوان صارخ على الحرمات وتطاول فاضح على أمن الأفراد والمجتمعات.
وإنه لمن المؤسف حقًا ومن المحزن حقًا، أن يسمع المسلم بين وقت وآخر ما تهتز له النفوس حزنًا، وما ترجف له القلوب أسفًا، وما يتأثر به المسلم عندما يسمع عن قتل نفس مسلمة على أيدي آثمة وأنفس شريرة مجرمة تسفك دم مسلم، إنها لجريمة شنيعة ترتعد منها الفرائص وتنخلع لها القلوب، إنها لجريمة فاحشة ولجزاء مخيف، قال الله عز وجل: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. أربع عقوبات عظيمة يستحقها من الله صاحب الجريمة: جهنم خالدًا فيها، وغضب الله عليه، ولعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا.
ويقول سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. الله أكبر، ويقول سبحانه وتعالى وتقدس: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان:68-70].
أيها المسلمون، جريمة القتل جريمة شنعاء وفعلة نكراء، عدها الرسول في الحديث الصحيح في السبع الموبقات فقال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، وذكر منها: ((قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)). وروى البخاري في صحيحه أن رسول الله قال: ((لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا، يضرب بعضكم رقاب بعض)) ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء)).
وعن سالم بن أبي الجَعْدِ قال: كنا عند ابن عباس بعدما كفّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال: جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا، قال: أفرأيت إن تاب وآمن عمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟! والذي نفسي بيده، لقد سمعت نبيكم يقول: ((ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدًا، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه، يقول: يا رب، سل هذا: فيم قتلني؟)) ، وايم الذي نفس عبد الله بيده، لقد أُنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قُبض نبيكم ، وما نزل بعدها من برهان.
وعن عبد الله بن مسعود عن النبي قال: ((يجيءُ المقتولُ متعلقًا بقاتله يوم القيامة آخذًا رأسه بيده فيقول: يا رب، سل هذا: فيم قتلني؟ ـ قال: ـ فيقول قتلته لتكون العزة لفلان، ـ قال: ـ فإنها ليست له، بُؤ بإثمه، ـ قال: ـ فيهوي في النار سبعين خريفًا)). وروى النسائي والبيهقي وغيرهما أنه قال: ((لقتلُ مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا)) ، وفي رواية: ((لزوالُ الدنيا أهونُ عند الله من قتل امرئ مسلم)). وفي رواية للترمذي بسند حسن عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)).
ولصيانة النفوس حرّم الإسلام الإعانة على القتل، فقد روى الإمام أحمد وغيره أن رسول الله قال: ((من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة لقي الله مكتوبٌ بين عينيه: آيس من رحمة الله)). بل إن الأمر يتعدى ذلك حتى ولو بالإشارة إلى المسلم بسلاح، فقد حرم الإسلام ذلك، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يُشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزعُ في يده فيقع في حفرة من النار)).
وما ذاك ـ أيها الإخوة ـ إلا سدًا لذريعة الفساد وصيانة لدماء المسلمين أن تُنتهك، بل إن الإسلام نهى عن مجرد ترويع المسلمين وتخويف الآمنين، يقول : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأمه وأبيه)) ، وفي الحديث الآخر: ((من أخاف مؤمنًا كان حقًا على الله أن لا يُؤمنه من أفزاع يوم القيامة)).
وإنه لمن المؤسف أننا نشهد وفي أعقاب الزمان بين الحين والآخر تساهل الكثير من الناس في أمور الدماء، وعدم مبالاتهم بالمحافظة على أمن الناس وممتلكاتهم.
أيها المسلمون، إن العوامل المؤدية إلى القتل في أيامنا هذه كثيرة، ومثيرات الفتن متعددة، وأسلحة إبليس في إذكاء نار الفتنة والزيادة في وهجها لا تحصى، ولكنني سأعرض لكم بعضًا منها، مما تلمست خطره في هذا المجتمع من خلال ما أسمع وأرى من قضايا القتل.
فمن الأسباب التي توقع في سخط الرب سبحانه وتعالى وتهون قتل النفس تربية الأبناء على الخصومات، واعتبارها من البطولات، وأن عليه أن يأخذ حقه بيده قبل أن يأخذه له غيره، فتنتشر المضاربات، وتتحفز العداوات، وتتوطن من القلب الأحقاد، حتى تصل إلى القتل وإزهاق النفس المؤمنة على شيء أتفه من التافه.
ولعل مما يذكي نار الفتنة أن البعض يحمل معه في جيبه سكينًا صغيرة، ويسميها سكينة الأزمات بل الويلات، وربما رأيت في سيارته المشعاب أو العصا، وربما المسدس بل ربما رشاش، لا لشيء سوى أنه يبرزه عند المضاربات والمخاصمات؛ لينتصر على الخصم، والشيطان أحرص ما يكون في أن تشتعل نار الفتنة ويشتد وهج العداوة، حتى تضغط الأنملة على زناد الخسران والندامة، زناد سخط الله واللعنة، زناد الهوان والذل في الدنيا والآخرة، لتنطلق قذيفة تتعدى حدود الله لتردي مسلمًا قتيلاً على الأرض، فتزهق روحه، ويزهق معها حرمة القاتل، وتحل مكانها الندامة والخسران في الدنيا والآخرة. أي بطولة هذه تزهَق النفس فيها من أجل كلمات غير مسؤولة، من شخص لا يبالي بالعواقب؟! أي بطولة هذه تُزهق نفس من أجل ريالات معدودة، بل ولو مئات الألوف بل الملايين، أو شيء من وسخ الدنيا؟! أي بطولة هذه يستحق صاحبها بعدها اللعن والطرد من رحمة الله والعذاب الأليم؟! بل أيُ بطولة هذه يكون بها تعدٍّ لحدود الله فيستحق صاحبها البطل قول الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]؟!
إنك ـ يا عبد الله ـ أن تُضرب بل وتُكَّسر خير لك من أن يكون بجيبك سكين أو في سيارتك عصا أو سلاح يغويك الشيطان في استخدامها لإزهاق نفس ضارِبك، إنه لخير لك أن تعود إلى أهلك مضروبًا، فهو أولى من أن تتلطّخ يدك بدم مسلم تستحقّ به قصاصًا في الدنيا وهوانًا في الآخرة، ولا تزال في فسحه من دينك ما لم تصب دمًا حرامًا.
نعم، أن تدافع عن عرضك ونفسك فلا بأس في كل ذلك، لكن أن ينساق المسلم مع عدوه الأول إبليس حتى يقع في مستنقع المعصية واللعن ذاك هو الخطر. وإنها لبطولة حقًا أن يملك الإنسان نفسه عند الغضب، فلا يعطي الشيطان عليه سبيلاً.
ولعلكم تتفقون معي ـ يا عباد الله ـ في أن للأسرة وتربيتها سببا رئيسا في كل ذلك، فإنك تعلم علم اليقين عندما تشهد شابًا يظن البطولات في المضاربات والمخاصمات فيما بينه وبين أقرانه، وكل ذلك تحت تشجيع الأسرة ورضاها، أقول: تعلم يقينًا أن الأسرة قد ضلت طريقها في إرشاد ذلك الشاب، ولسوف يندم الأب وتندم الأم والأسرة بأسرها عندما يقاد ابنهم إلى ساحة القصاص ذليلاً كسيرًا، يدفع إلى الموت دفعًا في ذل وهوان وصغار. لِم؟! من أجل بطولات زائفة وعداوات باطلة وسقطٍ من متاع الدنيا الزائل؟!
أيها المسلمون، لنزرع في قلوبنا وقلوب أبنائنا وجوب الانقياد لأمر الله وتعظيم ما عظم الله والوقوف عند حدود الله، فنعظم النفس التي حرم الله، والتي هي أشد حرمة من حرمة بيت الله الحرام، ونقف عند أمر الله ونهيه، فلا نزهق نفسًا حرمها الله، ولا نتعدى حدًا حده الله. يجب أن نعلم أنفسنا وأبناءنا أن البطولات ليست في المضاربات والخصومات وتوجيه السلاح إلى المؤمن، ولكن البطولات تكمن في الالتزام بأمر الله والوقوف عند حدوده ومقاتلة أعدائه. فقد يملكك العجب حين تسمع عن اعتداء مسلم على دم مسلم، فأين الإسلام من هؤلاء؟! أين العقل والمروءة؟! أين الرحمة الإنسانية؟! أي قلب هذا الذي يستهين بأرواح المسلمين ودمائهم؟! وأي نفس تلذّ بسفك الدماء؟! أين الإيمان من قلوب هؤلاء؟!
إن الاعتداء على دماء وأعراض المسلمين ليس من خلق المؤمن الصالح؛ لأن الإيمان حاجزٌ قويٌ دون الشر والفساد، يأمر بالعدل وينهى عن الظلم في الدماء والأموال والأعراض والحقوق كلها، فالمؤمن حقًا لا يغدر ولا يفجرُ ولا يغش ولا يخدع ولا يطغى ولا يتجبر.
ألا فليعلم هؤلاء، وليعلم غيرهم أن الخلق كلهم عباد الله عز وجل، وأنه سبحانه يحب من الناس أن يكونوا إخوة يحب كل فرد منهم لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يتعاملوا بالتسامح والعدل والتعاطف والود، لا بالظلم والتناحر، وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض، قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [البقرة:84].
فعلاقة المسلم بأخيه المسلم علاقة أخوية غالية عزيزة، فليس في رغبات الدنيا ما يوهن ارتباطها، ولا ما يقطع حبل الصلة فيها، ولا ما يعكر صفوها؛ ولهذا أمر بأسباب الألفة ونهى عن أسباب الفرقة فقال : ((لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يحقره، ولا يخذله، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه)).
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا عباد الله إخوانًا، واتقوا الله فيما أمر، وابتعدوا عما نهى عنه وزجر، وخاصة كبائر الذنوب؛ لنفوز من الله تعالى بالرحمة والرضوان والتجاوز والغفران، كما قال عز وجل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النساء:31].
نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يدفع عنا من البلاء ما يؤلمنا ويؤذينا، وأن يلهمنا من العلم الصالح ما ينجينا، وأن يجنبنا من العلم السيئ ما يُردينا، وأن يرزقنا من اليقين ما يهون علينا من مصائب الدنيا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، حرم على الإنسان قتل نفسه كما حرم عليه قتل غيره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واهب الحياة والمتصرف فيها وحده، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله القائل: ((من قتل نفسه بشيء عُذب به يوم القيامة)) ، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه الذين هم للمسلمين بعد نبيهم أئمة وقادة.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه، واحذروا أسباب سخط الله تعالى، فإن أجسامكم على النار لا تقوى.
عباد الله، إن جريمة القتل هي أول جريمة ارتكبت في الأرض ظلمًا وعدوانًا في عهد آدم عليه السلام، قتل الإنسان لأخيه الإنسان ظلمًا وعدوانًا.
والقتل مذموم عند جميع الناس وفي كل الشرائع والأديان والقوانين. ومن هنا فقد جاء الإسلام وجعل للقتل بغير الحق أكبر العقوبات ردعًا وحزمًا ألا وهي عقوبة القصاص، كما قال سبحانه: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].
نعم، لقد شرع الله سبحانه القصاص وإعدام القاتل المتعمد انتقامًا منه وزجرًا لغيره، وتطهيرًا للمجتمع من الجرائم التي يختل معها الأمن، وهذا من تمام حكمة الباري وعظيم لطفه وعنايته بخلقه.
ولك أن تتصور ـ يا عبد الله العاقل ـ كيف هي ذلة القاتل وهو يقاد إلى ساحة العدل والقصاص، كيف هو هوانه وخزيه وهو يجرّ إلى الموت جرًا، يجرّ لقطع رقبته وإزهاق روحة؛ لما تعدى من حدود الله وأزهق روح مؤمن بغير حق شرعي، لك أن تتصور كيف هي مشاعره، وكيف هي حاله، وأظن أن لسان حاله تردّد بالخزي والذلة لما هو فيه من حال وخسران، وليت هذا في الدنيا فقط، وإنما هي ضربة بالسيف لتستقبله أهوال القيامة وخسران المآل. وقد عدّ النبي قتل المسلم للمسلم بابًا من الكفر وعملاً من أعمال الجاهلية فقال عليه الصلاة والسلام: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) متفق عليه. والمراد بالكفر هنا كفر الإحسان والنعمة والأخوة الإسلامية، لا كفر الجحود الذي يخرج من الملة.
واعلموا أن ما ورد من التحريم في جريمة القتل العمد يشمل قتل الإنسان لنفسه كما يشمل قتله لغيره، فمن قتل نفسه بأي وسيلة من الوسائل فقد قتل نفسًا حرم الله قتلها بغير حق، والله عز وجل واهب الحياة وحده، وليس لأحد غيره تعالى أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها.
والحقّ الذي يبيح قتل النفس محدّدٌ لا غموض فيه، وإن من حكمة الله عز وجل وعدله جعل دماء المسلمين متكافئة ومتساوية، لا فرق بين الصغير والكبير، ولا بين الذكر والأنثى، ولا بين العربي والعجمي، ولا بين شريف ووضيع، ولا بين متعلم وأمي، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأنثى بالأنثى الآية [البقرة:178]، وقال رسول الله : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) متفق عليه.
ألا فاتقوا الله، واحذروا من غضبه وسخطه، ولا ينزغنكم الشيطان واعصوا أمره، وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ.
هذا وصلوا وسلموا على رسول الله امتثالاً لأمر الله، حيث أمركم بذلك فقال جل من قائل عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على نبينا محمّد صاحب الحوض والشفاعة، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن خلفائه أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعنا معهم بعفوك وجودك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر إخواننا المضطهدين في فلسطين، وكن لهم ناصرًا ومعينًا، وانصرهم على أعدائهم الظالمين اليهود المعتدين...
(1/3596)
لب الصراع مع العدو
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم
محمد الشعراني
غير محددة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأهداف الباطنة للحرب على العراق. 2- المواجهات والمعارك التاريخية بين الصليبيين والمسلمين. 3- آثار الحروب الصليبية الأولى. 4- تصريحات غريبة تؤكد عداء الغرب للإسلام. 5- دعم الغرب لليهود في قيام دولتهم الكبرى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون المؤمنون، إن أهم ما ينبغي التأكيد عليه هذه الأيام في خضم هذه الأحداث الرهيبة التي تحيط بأمتنا هو مسألة أسلَمة الصراع، والنظَر من زاوية واحدة لمجرَيات الأحداث، وهو أن هذه الحرب السافرة هي حرب صليبيّة جديدة لها وجهان لعملة واحدة: وجه الصهيونية اليهودية، ووجه النصرانية الإنجيلية البروتستانتية، التي تمسك بمقودها الولايات المتحدة الأمريكية، وتدير الدفة فيها، فالحرب ولو اتخذت ظاهريًا أهدافًا أخرى، لكنها باطنيا حرب صليبية دينية، كحملات الصليبيين الأوائل، نعم ألم تقرؤوا قول العليم الخبير: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ حَتَّى? يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [البقرة:217]، إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِ?لسُّوء وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]، وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَـ?نِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109]، وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120]؟!
وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـ?تِلُونَكُمْ يبين النص بأنها مقاتلة مستمرة وأنها حرب شاملة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((تقوم الساعة والروم أكثر الناس)) رواه أحمد ومسلم عن المستورد رضي الله عنه، وعن جبير بن نفير أنه سأل ذا مخبر رضي الله عنه عن الهدنة، فقال: سمعت رسول الله يقول: ((ستصالحون الروم صلحًا آمنًا، فتغزون أنتم وهم عدوًا من ورائكم، فتنصرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ـ المرج: الموضع ترعى فيه الدواب ـ ذي تُلُول، فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم وتجمع للملحمة)) رواه أبو داود.
لقد كانت أول مواجهة قتالية مع الصليبية في مؤتة في زمن النبي ، ثم عزم رسول على مواجهتهم في تبوك، ولم يُقدِّر الله تعالى قتالاً، ثم جاءت بعد ذلك الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الأمويين والعباسيين، فكانت معارك كبرى، منها اليرموك التي أزالت النفوذ البيزنطي من الشام كلها، وودع هرقل دمشق وداعًا لا لقاء بعده. ودخل المسلمون بيت المقدس سنة 15 هـ، وسُلّم الفاروق مفاتيحَها، وفرض الجزية، وحفظ لهم حقوقهم، والراجح عند الطبري أنها فُتحت صُلحًا [تاريخ الطبري: 2/449]. واستمرت الفتوحات الإسلامية حتى فتحت الأندلس، وأزال المسلمون حكم القوط النصارى عنها، وبلغوا وسط فرنسا وحاصروا روما.
بداية الحروب الصليبية سنة 489 هـ على يد متطوعين لتخليص القدس، وكان رأسها بطرس الناسك، وكانت بدعوى من البابا "إيربان الثاني"، وفشلت هذه، ولكن تلتها الحملة الثانية المنظمة بعد أعوام، وهذه هي التي سقطت فيها القدس سنة 493 هـ، وقد كانت تحت الحكم الفاطمي، وقادها الأمراء والإقطاعيون، و"جودفري" هو الذي حكم القدس، وقُتل فيها سبعون ألفًا، وبلغ الدم داخل المسجد حتى قوائم الخيول.
ثم جاءت حملة ثالثة تصدى لها نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي، القسيم ابن القسيم، انتهت هذه المرحلة بمعركة حطين 583 هـ، في عهد صلاح الدين الأيوبي.
واستمرت الحملات من سنة 1189 حتى 1270م حيث هزمهم خليل بن قلاوون المملوكي، وهزمهم من العالم الإسلامي بسقوط عكا، وفي بعض الحملات أُسِر لويس التاسع عشر ملك فرنسا على يد الظاهر بيبرس المملوكي.
وفي هذه الفترة واجه العالم الإسلامي خطر التتار، وسقوط الخلافة العباسية، باتفاق مع البابا "أنيوست".
عرفت هذه الحملات عند المؤرخين الإسلاميين كابن الجوزي وابن كثير وابن الأثير بـ(خروج الفرنجة) وعرفت عند النصارى بـ(الحج إلى الديار المقدسة) و(الحرب في خدمة المسيح) و(أعمال المسيحيين وراء البحر). بلغ عدد المشتركين النصارى في هذه الحملة التي عرفت باسم الحملة الصليبية الأولى أكثر من مليون، غير أن عدد المقاتلين لم يزد على ثلاثمائة ألف، والباقي إنما هم من المرافقين من الرجال والنساء، وبالرغم من الضعف السائد يومئذ لَكُم أن تعجبوا أن هذه الحملة دخلت إلى القدس بأربعين ألف مقاتل فقط، والباقي قتلهم أسود الإسلام في معارك متواصلة. ومن آثار الحروب الصليبية الأولى:
أ- المذابح العظيمة التي لحقت بالمسلمين، ففي الحملة الأولى أباد النصارى أهل أنطاكية، وذبحوا أكثر من سبعين ألفًا، وبعد أن فتحها صلاح الدين عليه رحمة الله جاء "ريتشارد" قلب الأسد ملك إنجلترا "وفيليب" ملك فرنسا و"فردريك" ملك ألمانيا لاستنقاذها، وفيها قتل قلب الأسد 2700 أسيرًا في عكا.
ب- تخريب بلاد المسلمين كحمص وحماة وعسقلان وطبرية.
ج- تشريد كثير من المسلمين من بيوتهم.
د- مهدت الحروب الصليبية الأولى لحركات الاستعباد التي سموها الاستعمار فيما بعد.
غيَّر الصليبيون استراتيجياتهم لغزو العالم الإسلامي، وهذه بدأت مع حركة الاكتشاف، والتي كانت ذات أبعاد عقدية، حيث مهّدت لما عرف بالاستعمار الأوربي، ومن أشهر هذه الرحلات رحلة "فاسكودى جاما" حيث قالوا: "الآن طوقنا رقبة العالم الإسلامي؛ فلم يبق إلا جذب الحبل فيختنق".
وحملت هذه الحملات الروح الصليبية، وتمثلت في كل من "هنري" الملاح والبابا "نيقولا" الخامس الذي أصدر مرسومًا بذلك.
وهذه المرحلة يمكن تسميتها بالهجمة الصليبية الاستعمارية الاستيطانية، وهذه هي التي قال فيها اللورد اللنبي رئيس العساكر البريطانيين أول هذا القرن العشرين: "الآن انتهت الحروب الصليبية"، والتي قال فيها غورو: "وها قد عدنا ثانية يا صلاح الدين"، وقديمًا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: "إنّ كل حروب الفرنجة مخالفة للمسيح عليه السلام الذي أمر بالتسامح، ولم تكن في ديانته قتال وجهاد, علم بهذا ضلال كل من قاتل باسم المسيح عليه السلام". وقد ذكر ابن القيم رحمه الله كلامًا مثله: "بأنّ شريعة موسى كانت شريعة جلال قائمة على المصادمة, وشريعة عيسى كانت شريعة جمال ليس فيها قتال، وشريعة محمد شريعة كمال، جمعت بين الجلال والجمال، كلٌ في موطنه".
والآن هل التاريخ يعيد نفسه؟! الخطاب ألقاه الزعيم الصهيونى إسرائيل "زانغويل" في 2 ديسمبر 1917، أي: بعد صدور وعد بلفور بشهر واحد، وصف فيه المحاولات البريطانية والأمريكية الرامية إلى إعادة اليهود إلى أرض فلسطين بقوله: "سبع حملات صليبية إلى الأرض المقدسة، عادت على اليهود بالمذابح، فهل ستؤدي الصليبية الثامنة إلى استرجاع اليهود لفلسطين؟ وإذا كانت صليبية حقة فإن تلك الحقيقة بالذات تأتي بمثابة البرهان على النظام الجديد لعالم تسوده المحبة والعدالة".
ألم يقل "إيجيت روستو" مستشار الرئيس الأمريكي جونسون عام 1967م: "الشيوعيون إخواننا، والأوربيون حلفاؤنا، واليهود أحبابنا، ونحن عدونا الإسلام"؟! هذا ما قاله زعيم صهيونى قبل تسعة عقود، وها هو "نكسون" يقول: "إننا لا نخشى الضربة النووية، ولكننا نخشى الإسلام والحرب العقائدية". ومن بداية حرب البوسنة صرّح وزير الإعلام الصربي: "نحن طلائع الحروب الصليبية الجديدة".
وفي افتتاحية الصاندي تايمز: "آن للغرب والاتحاد السوفيتي أن يستعد لمواجهة إسفين إسلامي أصولي هائل".
وفي 9/1/1994م صرّح المستشار الألماني "هيلموت كول: "لا يسعني إلا أن أنصح الصربيين والأوروبيين بأن يستيقظوا من سباتهم، هناك خطر حدوث مواجهة مع 800 مليون مسلم في العالم".
تصريح وزير الدفاع الفرنسي عام 1994م: "إنّ الأُصولية الإسلامية تغرز خنجرها عميقا في صدر أوربا وأفريقيا".
صرح في فبراير 1995م الأمين العام للحلف في مؤتمرٍ أمنيٍّ بألمانيا: "منذ انهيار الشيوعية في أوربا الشرقية قبل خمس سنوات برز الدعاة المسلمون المتطرفون، وربما كأخطر تهديد يواجه التحالف والأمن الغربي". نُشرت في جريدة (الواشنطن بوست).
جاء في لقاء مع "صمويل هنتجتون" صاحب نظرية صراع الحضارات يوم 13/4/1997م: "ما دام الإسلام إسلامًا والغرب غربًا سيظل الصراع كما كان قائما لأربعة عشر قرنًا". فلا غرابة إذًا أن يردد زعيم الروم في هذا الزمان، وهو يصف الحرب التي ينوي خوضها ضدّ أفغانستان وكثير من الدول الإسلامية بدعوى محاربة الإرهاب بأنها حرب صليبية، حيث كرر هذه المقولة كثير من أقطاب حكومته، ووصفوا هذه الحرب بأوصاف مختلفة، فمرة بأنها حرب بين قوى الخير وقوى الشر، ومرة بأنها صراع الحضارات، إلى غيرها من الأوصاف التي مرت هي وغيرها من التلميحات والتصريحات للمسؤولين ووسائل الإعلام في أمريكا وغيرها ـ وللأسف مرور ـ الكرام، ولم يتناولها محللونا بالدراسة والتحليل، بل اكتفوا بإقناع أنفسهم والرأي العام المسلم بأنها مجرد زلة لسان، بدون أدنى محاولة لمعرفة الأبعاد الحقيقية لهذا الكلام. فما يصدر عن رئيس أكبر دولة في العالم لا يمكن أن يكون زلة لسان، بل إنه يعني ما يقول حرفيًا، وبالذات في ظل التوجهات الأمريكية منذ عقدين من الزمان، والتي اتخذت الإسلام كعدو بديل فى استراتيجيتها الكونية، وسعت جاهدة لخلق وتضخيم الخطر الإسلامي لإقناع العالم بتوجهاتها العدائية تجاه الإسلام.
حتى وزير الدفاع "رامسفيلد" كان سبب اختياره لهذا المنصب هو أطروحة قدمها لوزارة الدفاع الأمريكية، رسم فيها سيناريو الحرب بين قوى الخير والشر، والتي ستؤدي إلى معركة هرمجدون.
اللهم افضح النصارى الصليبيين وأعوانهم، اللهم أفسد مخططاتهم، اللهم انصر دينك وأولياءك.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
في سِفر المزامير الذي لم يكفَّ ولا يكفُّ رؤساء أميركا عن الاستشهاد به صلاةٌ تقول: "كيف نرنم ترنيمة للربّ في أرض غربية؟ إن نسيتك يا أورشليم تنسى يميني، ليلتصق لساني بحنكي، أن لم أذكرك، أن لم أفضل أورشليم على أعظم فرحي. اذكر يا رب لأعدائنا يوم أورشليم القائلين هدوا هدوا حتى أساسها. يا بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويهشم على الصخرة رؤوسهم".
إن خريطة إسرائيل على العملة الإسرائيلية "الآجورا" من الفرات للنيل، وتدخل المدينة المنوّرة في ضمنها، تطبيقًا للنص التوراتي: "قطع الرب مع إبراهيم ميثاقًا أو مع إبرام ميثاقًا قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير"، وعندما اجتمع عرفات في كامب ديفيد الثانية قال رئيس وزراء إسرائيل "باراك" له: نريد المسجد الأقصى، لأن لنا هيكل سليمان، قال له: هذا مسجد المسلمين، ما أقدر أتنازل لك عنه، قال له: لا، هذا هيكل سليمان، فتدخل كلينتون، وقال له: نحن أيضًا المسيحيون نؤمن بأن هذا هو الهيكل.
قال باحث إسرائيلي في لبِّ الصراع العربي الإسرائيلي: "إن على العرب أن يستأصلوا الحركات الأصولية وبالضبط حماس والجهاد وغيرها وكلّ من يدعو إلى الجهاد؛ لأنها الوحيدة التي شلّت حركة الدولة الإسرائيلية بحقّ وعطلت دوران المجتمع، فما عاد أحد يأمن على الذهاب إلى عمله، أو التنقل في الشوارع، أو حتى الذهاب إلى التسوق، لقد كانت الحرب الأولى التي تصل إلى الإسرائيليين، لهذا السبب هب العالم لمؤازرة إسرائيل، واجتمع زعماؤه كل الزعماء لنصرة إسرائيل، المقاومة الجهادية داخل فلسطين هي وحدها التي عطلت نصف المشروع الصهيوني الذي يحوم حول إغراء كل يهود العالم للهجرة إلى إسرائيل باعتبارها ملاذهم الآمن ووطنهم الرغيد، بل إنها أيضًا فاقمت من معدلات الهجرة الإسرائيلية العكسية".
الحرب بين الإسلام والصليبية على اختلاف أقنعتها وأنظمتها وأسمائها ستستمر إلى نزول عيسى عليه السلام، لأنها حرب عقدية. وهذا لا يعني التكاسل والتباطؤ؛ فلا ينبغي أن ننخدع بحوار الأديان ودعاوى السلام ونشر ثقافة المحبة؛ إذ الغرض من كل ذلك تخدير المسلمين.
واجب المسلمين المدافعة ومقاومة الكفر والبغي؛ لأن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وهذا يُلزمنا بإعداد كلِّ قوة؛ لقوله تعالى: وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا ?سْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ [الأنفال:60].
أنتركهم يغصبون العروبة مجد الأبوة والسؤددا؟!
وليسوا بغير صليل السيوف يجيبون صوتًا لنا أو صدى
فجرّد حُسامك من غمده فليس له بعدُ أن يغمدا
فلسطين يحمي حماك الشباب فجل الفدائي والمفتدي
فلسطين تحميك منا الصدور فإما الحياة وإما الردى
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين. اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الشرك والشر والفساد، وانشر رحمتك على العباد يا رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
(1/3597)
أحكام العيدين
فقه
الصلاة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحكام صلاة العيد. 2- سنن صلاة العيد. 3- صفة صلاة العيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها المسلمون، هذا يوم عرفة، يوم عظيم جليل، مبارك فضيل، وإخوانكم اليوم في عرفة يعجُّون بالتلبية، يهلّلون ويوحِّدون ربهم ويمجّدونه، وغدًا فيوم الحج الأكبر يوم عيد النحر، وأنتم فاستعدّوا لما يلزمكم فيه من منسك الأضحية وصلاة العيد.
أما منسك الأضحية فقد شرحته لكم فيما تقدم.
وأمَّا المنسك الآخر فصلاة العيد وخطبته، وهي شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، أمر رسول الله بالخروج إليها، وأخرج حتَّى النساء والصبيان، بل أخرج لها حتَّى الحيَّض، وأمرهنَّ باعتزال الصلاة، وحثَّهن على شهود الخير ودعوة المسلمين.
ولم يزل يواظب على فعلها وعلى إخراج النساء لها حتَّى مات، فدلَّ هذا كلُّه على وجوب هذه الشعيرة، وأنَّها فرض عين لا فرض كفاية، فروى البخاري عن امرأة سألت النبيَّ فقالت: يا رسول الله، أعَلى إحدانا بأسٌ إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ قال: ((لتلبسها صاحبتها من جلبابها، ولتشهد الخيرَ ودعوة المسلمين)) ، وروى البخاري ومسلم عن أمِّ عطيَّة قالت: أمرنا رسول الله أن نخرج الحيَّض يوم العيدين وذوات الخدور فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتَهم، ويعتزل الحيَّض مصلاهنَّ.
ويرخَّص للمسافر والمريض في عدم شهودها لما صحَّ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنَّه قال: (لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلاَّ في مصر جامع أو مدينة عظيمة) رواه ابن أبي شيبة وغيره بسند صحيح موقوفًا عليه.
ويستحبّ الغسل للعيد كغسل الجمعة والجنابة لما رواه مالك في الموطأ عن نافع أنَّ ابن عمر كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو إلى المصلَّى، وقال سعيد بن المسيب: "سنة الفطر في ثلاث: المشي إلى المصلى، والأكل قبل الخروج، والاغتسال" رواه الفريابي في صلاة العيد بسند حسن. والعلماء على قبول مراسيل ابن المسيب، فكيف وهو معتضَد بالأحاديث المروية في معناه؟!
والغسل محلّه بعد صلاة الفجر، وإن اغتسل قبلها فلا بأس بذلك.
ويستحبُّ أن يلبس أحدكم من أحسن ثيابه ويتجمَّل بأفضل ما يجد لما روى الحارث في مسند بسند حسن عن نافع وقد سئل: كيف كان ابن عمر يصنع يوم العيد؟ فقال: كان يشهد صلاة الفجر مع الإمام، ثم يرجع إلى بيته، فيغتسل غسله من الجنابة، ويلبس أحسن ثيابه، ويتطيَّب بأطيب ما عنده، ثمَّ يخرج حتَّى يأتي المصلَّى، فيجلس فيه حتَّى يأتي الإمام، فإذا جاء الإمام صلَّى معه.
وأفضل الثياب البياض لقول النبيِّ فيما صحَّ عنه: ((عليكم بالبياض من الثياب، ليلبسها أحياؤكم، وكفّنوا فيها موتاكم، فإنَّها من خير ثيابكم)) ، وقال : ((البسوا البياض، فإنَّها أطهر وأطيب)).
والسنَّة في عيد الأضحى أن لاَ يفطر حتَّى يرجع من المصلَّى لما رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد والدارمي بسند صحيح عن بريدة قال كان رسول الله ل ا يخرج يوم الفطر حتَّى يطعم، ويوم النحر لا يأكل حتَّى يرجع، فيأكل من نسيكته. أي: من أضحيته.
أخا الإيمان، فإذا اغتسلت وتجمَّلت وتطيَّبتَ وتهيَّأت للخروج إلى المصلَّى فخذ في التكبير في الطريق، واجهر به حتَّى تصل إلى المصلَّى أو المسجد، فإذا خرج الإمام فاقطع التكبير لثبوت ذلك عن النبيِّ ، وثبت أيضًا من فعل عبد الله بن عمر.
ويبدأ التكبير من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق لثبوته عن جمع من الصحابة، وهو قول جمهور العلماء، أي: من فجر يوم تاسع ذي الحجة إلى عصر يوم ثالث عشر من ذي الحجة.
ولم يثبت في صفة التكبير حديث مرفوع، وإنَّما ثبت عن عبد الله بن عباس يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر وأجل، الله أكبر على ما هدانا. رواه البيهقي بسند صحيح.
وليس من السنَّة أن يصلِّي أحدكم قبل صلاة العيد ولا بعدها شيئًا، فقد روى البخاري أنَّ النبيّ صلَّى الفطر ركعتين، لم يصلِّ قبلها ولا بعدها.
والسنَّة أن تكون صلاة العيد في المصلَّى، كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرها، إلاَّ أن يمنع من ذلك مانع أو عذر كالمطر ونحوه، فيجوز أداؤها في المسجد.
_________
الخطبة الثانية
_________
وليس لصلاة العيد أذان ولا إقامة لما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى.
فإذا حضر الإمام قطع الناس التكبيرَ، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عباس قال: شهدت العيد مع رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلُّهم كانوا يصلُّون قبل الخطبة.
وجملة القول في صفة صلاة العيد أنَّها ركعتان كركعتي الجمعة، يجهر فيهما الإمام بالقراءة، إلاَّ أنَّه يكبِّر في الركعة الأولى سبع تكبيرات، بعد تكبيرة الإحرام، وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات بعد تكبيرة الانتقال. صحَّ بذلك الحديث عن رسول الله من رواية عائشة وعبد الله بن عمرو في المسند وسنن أبي داود وابن ماجة.
وكان يسكت بين التكبيرتين، ولم يثبت عنه ذكرٌ معيَّن بينهما. وهو قول مالك رحمه الله.
وليس من السنَّة رفع اليدين مع تكبيرات العيد.
ثمَّ يقرأ في الركعة الأولى بعد فاتحة الكتاب بسورة ق أو بسورة سبِّح، ويقرأ في الثانية بعد الفاتحة بسورة القمر أو بسورة الغاشية. ثبت ذلك في صحيح مسلم.
وإذا فاتت أحدٌ ركعة من صلاة العيد قام فأتمَّها، وإن فاتته الصلاة كلُّها صلاَّها ركعتين منفردا. هذا الراجح من مذاهب العلماء، وهو مذهب مالك والشافعي والبخاري وغيرهم.
فإذا قضيت الصلاة قام الإمام مستقبلا الناس فخطبهم ووعظهم، روى ذلك أبو سعيد الخدري قال : كان النبيّ يخرج يوم العيد والأضحى إلى المصلَّى، فأوَّل شيء يبدأ به الصلاة، ثمَّ ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوسٌ على صفوفهم، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم. أخرجه البخاري ومسلم.
يكبِّر الإمام في الركعة الأولى سبع تكبيرات وفي الركعة الثانية خمسًا، وليس بين التكبيرتين ذكر، والأولى تركه لأنَّه لم يثبت عن النبيِّ ولا عن أحد من أصحابه. وهذا مذهب مالك والأوزاعي، خلافًا للجمهور.
وللعيد خطبتان كخطبتي الجمعة يجلس بينهما، وهذا محلّ اتفاق بين العلماء، ولا أعلم بعد طول البحث والتنقيب على قول لفقيه في سائر الأعصار المتقدّمة من قال بأن للعيد خطبةً واحدة، وهذا ابن حزم وهو من أعلم الناس بالمقالات قد حكى عدم الخلاف في أنها خطبتان، وعلى ذلك درجت كتب الفقهاء من جميع المذاهب، والخير كله في اتِّباع من سلف.
ويلزم من حضر الصلاة أن ينصت للخطبة ولا يتكلَّم، ولا ينصرف حتَّى ينتهي الإمام من الخطبة، وأمَّا الحديث الذي رواه النسائي وغيره عن السائب بن يزيد أنَّ النبيَّ كان يخيِّر الناس بين الإنصات والانصراف فلا يصح إسناده، بل الصواب قول من أرسله، كما رجحه ابن معين والنسائي وأبو داود وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي، واستغربه أيضًا ابن خزيمة جدًا، خلافًا لمن رجَّح الوصل من المتأخِّرين كابن التركماني ومن قلَّده. وقد صح عن عطاء أنَّه كره الكلام في خطبة العيد، فقال: "كل عيد فلا تتكلم فيه"، يعني في أثناء الخطبة. رواه عبد الرزاق بسند صحيح.
عن البراء بن عازب قال: كنَّا جلوسًا ننتظر رسول الله في المصلَّى يوم الأضحى، فجاء فسلَّم على الناس وقال: ((إنَّ أوَّل منسَك يومكم هذا الصلاة)) ، فتقدَّم فصلَّى بالناس ركعتين ثمَّ سلَّم، فاستقبل القوم بوجهه، ثمَّ أعطيَ قوسًا أو عصا فاتَّكأ عليها، فحمد الله عزَّ وجل وأثنى عليه، وأمرهم ونهاهم. رواه أحمد والطبراني بسند حسن وأصله في الصحيحين.
فهذا جملة ما يتعلَّق بهذا المنسَك من أحكام وسنن وآداب، والحمد لله رب العالمين.
(1/3598)
نهاية العام وبداية عام جديد
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, الولاء والبراء
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بداية التأريخ الهجري. 2- فضل التاريخ الهجري على التاريخ الميلادي. 3- تعلق المواقيت والأحكام الشرعية بالتاريخ الهجري. 4- الحث على التوبة النصوح.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها المسلمون، اتَّقوا الله ربَّكم الشكور، مصرفَ الأوقات والدهور، ومجدّد الأيام والأعوام والشهور، فإنَّكم بين خاتمة عام وبداية عام جديد. فعمَّا قريب؛ بعد يوم أو يومين تنصرم هذه السنة ونستقبل أخرى. تذهب الأولى وأنت قد سَجَّلت فيها آثار أعمالك، فأمَّا إذا عملت صالحًا وأحسنت كان عامُك شاهدًا لك بالخير وبركة عليك، فتدخلَ عامك الجديد بنفس جديد، فيه من العمل الصالح المزيد ومن العلم النافع المفيد. وأمَّا إذا كنت في عامك هذا قصَّرت وأسأت فإنَّ عامك مطويّ عمَّا قريب ولن يعود، فبادره قبل الانصرام بتوبة نصوح، تستدرك بها ما فاتك فيه من خير، وتفتتح بها عامك الجديد على خير.
هذا وقد ذكر أهل الأخبار أنَّ المسلمين لم يكونوا يعملون بالتاريخ السنوي في أوَّل الأمر حتَّى كانت خلافة عمر بن الخطاب، فإنَّه جمع الناس فاستشارهم، فقال بعضهم: أرِّخوا كما تؤرِّخ الفرس بملوكها، كلَّما هلك ملك أرَّخوا بولاية من بعده، فكره الصحابة هذا الرأي، وقال آخرون: أرِّخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، فقال بعضهم: أرِّخوا من مولد النبيِّ ، وقال آخرون: بل من مبعثه، وقال آخرون: بل من مهاجره، فقال عمر بن الخطاب وكان ملهمًا: الهجرة فرَّقت بين الحقِّ والباطل، فأرِّخوا بها.
واليومَ ـ نرى معظم الأمَّة الإسلاميَّة ـ قد عدلت عن التوريخ بالتاريخ الإسلامي الهجري القمري إلى التوريخ بتاريخ النصارى الميلادي الشمسي الجريجوري، نسبةً إلى البابا جريجوري، وهو توريخ كما لا يخفى لا يَمتُّ إلى ديننا بصلة.
وإذا كان لبعض الناس شبهةٌ من العذر حين استعمر النصارى بلادَهم وأرغموهم على أن يتناسَوا تاريخهم الإسلامي الهجري، فليس لهم الآن أيُّ عذر في البقاء على تاريخ النصارى الميلادي، وقد علمتم أنَّ الصحابة كرهوا التوريخ بتاريخ الفرس والروم، والهدى في اتِّباعهم، والضلالة في مخالفة سبيلهم.
قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36].
فقوله: ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: هذا هو الشرع المستقيم، فالعجب من أمَّة الإسلام تترك هذا الشرع القويم في باب التوريخ، وهذه أمَّة اليهود لا تزال تورِّخ بتاريخها منذ أزيدَ من خمسة آلاف سنة، وهذه النصارى لا تورِّخ إلا بتاريخها منذ ألفي عام، مع ما في توريخهم من اختلال علمي وديني، كما سنبيِّنه.
فمن المؤسف حقًّا ومن المحزن المخزي ما صارت إليه هذه الأمَّة في مجموعها إلاَّ قليلا منهم، من التوقيت بتاريخ النصارى الميلادي بدلاً من تاريخهم الإسلامي الهجري الذي اتفقت عليه كلمة السلف، الذي شهوره هلالية كما شرع الله وكما كتب في كتابه الأوَّل، وهي الشهور التي جعلها الله تعالى مواقيت للناس كما قال عزَّ وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189].
فهي مواقيت للناس كلِّهم، عربهم وعجمهم، ذلك لأنَّها علامات محسوسة وآيات مشهودة؛ ظاهرةٌ لكلِّ مبصر، يعرف بها دخول الشهر وانقضاؤه، فمتى رئي الهلال من أوَّل الليل دخل الشهر الجديد وانصرم السابق، قال الله تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء:12].
فجعل سبحانه الليل آية أي: علامة يعرف بها، وهي الظلام وظهور القمر فيه، وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس فيه، وهذا كما في الآية الأخرى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ [يونس:5].
فأخبر سبحانه أنَّه علَّق معرفة السنين والحساب على تقدير القمر منازل، وعلى آية النهار، وهي الشمس، فبالشمس يعرف الأسبوع والليل والنهار والأيَّام، وبالقمر تعرف الشهور والأعوام، وبهما يتمُّ الحساب.
وإنَّما جعل الله تعالى الاعتبار بدور القمر، لأنَّ ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو أمرٌ ظاهرٌ يشاهد بالأبصار، بخلاف سير الشمس، فإنَّ معرفته تحتاج إلى حسابات دقيقة، فلم يحوجنا إلى ذلك، كما قال النبيُّ : ((نحن أمَّة أمِّيَّة، لا نعرف الكتاب ولا الحساب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا)).
أمَّا الشمس فإنَّما علَّق الله تعالى عليها أحكام الليل والنهار؛ من الصلاة والصيام.
فالصلاة تتعلَّق بطلوع الفجر وطلوع الشمس وزوالها ودلوكها وغروبها وغياب الشفق، والصيام موقَّت بمدَّة النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فبالشمس يتمُّ حساب مواقيت اليوم المتعلِّقة بالصلاة والصيام.
وأمَّا حلول شهر الصيام والفطر والأشهر الحرم والحجِّ وعِدَد النساء ومُدد الإيلاء وحلول آجال الزكاة والديون وغير ذلك من الأحكام والشرائع فهي موقَّتة بالأهلَّة. فبالشمس يتمُّ حساب الليالي والأيام، وبالقمر يتمُّ حساب الشهور والأعوام.
هذا هو الدين القيم الذي شرعه الله للناس أجمعين، ليس كالشهور الإفرنجيَّة، فإنَّها شهورٌ وهميَّة، فلا هي ممَّا شرع الله في كتاب صريح، ولا هي ممَّا بني على حساب علميِّ صحيح، بل هي شهورٌ اصطلاحيَّة مختلفة، بعضها واحدٌ وثلاثون يومًا، وبعضها ثمانية وعشرون يومًا وبعضها بين ذلك، ولا يُعلم لهذا الاختلاف من سبب حقيقي محسوس أو معقول، ولا مشروع على لسان رسول.
ولهذا طرحت مشروعات في الآونة الأخيرة لتغيير هذه الأشهر على وجه ينضبط، لكنَّها عورضت من قبل الكنيسة ورفضها القسِّيسون رفضًا شديدًا، تعصُّبًا منهم لباطلهم وتقليدًا لجهالهم.
فانظروا ـ معاشر المسلمين ـ كيف يعارض رجال الدين من النصارى في تغيير أشهر وهمية مختلفة إلى اصطلاح علمي يكون أحسن وأضبط، وأهل الإسلام فعامَّتهم سالكون لسبيلهم المعوجَّة، منحرفون عن سبيل سلفهم الصالح الواضحة المحجَّة.
وقد سئل الإمام أحمد بن حنبل فقيل له: إنَّ للفرس أيَّامًا وشهورًا يسمُّونها بأسماء لا تعرف، فكره ذلك أشدَّ الكراهة.
هذه ذكرى ولعلَّكم تذكَّرون، أقول ما تسمعون، والله يغفر لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيُّها المسلمون، نستقبل بعد يوم أو يومين عامًا جديدًا، وليس من السنَّة أن نتخذ أوَّل أيامه عيدا، ولا أن نحدث فيه ما يحدثه الضلال كتبادل التهاني وغيرها من البدع.
فليست الغبطة بكثرة السنين، وإنَّما الغبطة بما أمضاه العبد منها في طاعة الله تعالى.
إنَّ علينا أن نستقبل أيَّامنا وشهورنا وأعوامنا بطاعة ربِّنا، ومحاسبة أنفسنا وإصلاح ما فسد من أعمالنا.
وإنَّ من بديع حكمة الله تعالى أن جعل طرفي العام شهرين محرَّمين، وهما شهر ذي الحجة في خاتمة العام وشهر المحرَّم في فاتحة العام، فكأنَّ في ذلك إشعارًا للمؤمن بأن يختم عمله بالخير ويفتتحه بالخير، فقد هيَّأ الله له في فاتحة كلِّ عام وفي خاتمته شهرًا محرَّمًا تعظَّم فيه الأجور على الطاعات، كما تعظَّم فيه الحرمات.
قال الله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36].
وشاهد ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم)) الحديث.
والمقصود أنَّ الله تعالى قد جعل خاتمة كلِّ عام وفاتحته موطنًا يغتنمه العبد للتوبة وإصلاح الحال والزيادة في الخير. فإنَّه إذا افتتح السنة بالطاعة وختمها بالطاعة يرجى أن يكتب له عامه ذاك كلُّه طاعة. فإنَّ من كان أوُّل عمله طاعة وآخره طاعة فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.
قال قتادة: "إنَّ الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا من الظلم فيما سواه، وإن كان الظلم على كلِّ حال عظيما، ولكن الله يعظمُّ من أمره ما يشاء".
وقال ابن عباس: ( فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي: لا تظلموا أنفسكم في كلِّهنَّ، ثمَّ اختصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهنَّ حرما، وعظَّم حرماتهنَّ، وجعل الذنب فيهنَّ أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم).
فاغتنم ـ يا أخا الإيمان ـ هذا الشهر المحرَّم للتوبة النصوح تمحُ ما سلف من الذنوب والخطيئات السالفة في الأيام الخالية.
قطعتَ شهور العام لهوًا وغفلةً **** ولم تحترم فيما أتيت المحرَّما
فلا رجبًا وافيت فيه بحقِّه **** ولا صمت شهرَ الصوم صومًا متمِّما
فهل لك أن تمحو الذنوب بعبرة **** وتبكي عليها حسرة وتندُّما
وتستقبل العام الجديد بتوبة **** لعلَّك أن تمحو بها ما تقدَّما
واعلم ـ أخا الإيمان ـ أنَّ ناصحك كما قيل:
ما كلُّ من وصف الدواء يستعمله **** ولا كلُّ من وصف التقى ذو تقى
وصفت التقى حتَّى كأنِّي ذو تقى **** وريح الخطايا من ثيابي تعبق
ولكن كما قال الآخر:
لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب **** فمن يعظ العاصين بعد محمَّد
فهذا ما سمعتم، وقوموا إلى صلاتكم يغفر الله لي ولكم.
(1/3599)
فضائل الجمعة وأحكامها (1)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سيد الأيام وأفضلها. 2- يوم الجمعة يوم عيد. 3- يوم الجمعة في الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها المسلمون، إنَّ يومكم هذا يومَ الجمعة يوم عظيم جليل، قد خُصَّ بمزيد من التشريف والتفضيل. فوا عجبًا، ما لكم لا تعظّمُونه بما يستحقُّه من تعظيم وتشريف، ولا تخصُّونه بما خُصَّ به من عبادة وتكليف؟!
فإن كنت ـ يا هذا ـ جاهلا فها أنا ذا أخبرك بحقيقة الأمر، وآتيك من ذلك بالمبتدأ والخبر، وإن كنت غافلاً ساهيا فهلمَّ إليَّ بسمعك لعلَّك تذَّكَّر. فأقول، وبالله أتأيَّد في هذا اليوم الأنور الأزهر المحجَّل الأغر:
اعلموا ـ إخوة الإسلام ـ أنَّ يوم الجمعة ليس كسائر الأيَّام، بل هو سيِّد الأيَّام، قال ذلك جبريل عليه السلام، وقاله نبيُّنا عليه الصلاة والسلام. والمعنى أنَّه سيِّد أيَّام الأسبوع، كما أنَّ يوم الأضحى أفضل أيَّام العام.
وبهذا نخرج من اختلاف العلماء: أيُّ اليومين أعظم؟ يوم الجمعة أم يوم عرفة ويومُ الأضحى؟ وهما وجهان لأصحاب الشافعي، والتحقيق ما ذكرت: أنَّ يوم الجمعة هو بالنسبة إلى أيَّام الأسبوع أفضل الأيَّام، ويوم عرفة ويوم الأضحى هما أفضل الأيَّام بالنسبة إلى أيَّام العام، فإذا اتفق يوم عرفة ويوم الجمعة في يوم واحد ازداد ذلك اليوم شرفًا على شرف، وعظمة على عظمة.
وأمَّا الحديث الذي رواه ابن ماجة عن النبيِّ وفيه: ((وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر)) فليس بصحيح، بل هو حديث ضعيف.
وقد شرحت لكم المرَّة بعد المرَّة أنَّ عظمة الأيَّام تعني تعظيم الأجور على الطاعات فيها، وتعظيم أوزار السيئات، فهي عظيمة البركة بما يعظَّم فيها للعمل الواحد من الأجر، وعظيمة الحرمة بما يعظَّم فيها إثم الذنب والوزر. فلذلك يكون يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة أعظم وأبرك ممَّا سواه، فيكون أجر الحاجِّ مضاعفًا أضعافًا لا يعلمها إلاَّ الله، من عشرة حجات في غير يوم الجمعة، إلى سبعين حجَّة، إلى مائة حجَّة، إلى ما شاء الله، وهو البر الكريم الجواد اللطيف.
ولذلك ورد في الحديث الذي رواه ابن جماعة في مشيخته أن أجر الحجَّة إذا وافق يوم عرفة يومَ الجمعة تعدل سبعين حجَّة، وهو حديث لا يثبت، لكنَّ معناه حسن كما شرحناه، فلعلَّ أصلَه أثر موقوف أو مقطوع. والله أعلم.
والمقصود الآن الكلام على عظمة يوم الجمعة، فقد اختاره الله لكم، وعظَّمه على سائر الأيام بمزيد من التفضيل والتشريف، وشرَّفه للعابدين بأنواع من القربات والوظائف، خصَّه بمناسك وعبادات وتكاليف.
فهو يوم مخصوص بمزايا وفضائل توجب تعظيمه وتشريفه، وتمييزه بما خصَّه الله به من المزايا والخصائص، وأنا أسرد لكم ما تيسَّر لي جمعه من هذه الخصائص:
1- فمن مزايا هذا اليوم أنَّه يومٌ من أجلِّ أيَّامكم وأفضلها، فقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه عن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما بلفظ آخر قال: ((ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة)).
فيوم الجمعة هو خيَرة الله من الأيَّام، والله يخلق ما يشاء ويختار، وله الحكمة البالغة فيما يختار من خلقه. وقد كنت في خطبة مضت من مدَّة سنين لمن شهدها شرحت لكم فيها صفة الاختيار لله عزَّ وجل، وما فيها من حكم وآثارها في الأمر والخلق، في الشرائع الدينيَّة وفي البدائع الكونيَّة.
قال كعب الأحبار: "إنَّ الله عزَّ وجل اختار الشهور واختار شهر رمضان، واختار الأيَّام واختار يوم الجمعة، واختار الليالي واختار ليلة القدر، واختار الساعات واختار ساعة الصلاة".
ولله الحمد كلُّه، أولا وآخرا، باطنًا وظاهرا.
_________
الخطبة الثانية
_________
2- ومن مزايا هذا اليوم أنَّه عيدٌ هو ثالث أعيادكم، فقد روى البزار وابن أبي شيبة والطبراني في الأوسط وابن أبي الدنيا من طرق وإسناد الطبراني جيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عرضت الجمعة على رسول الله ، جاءه بها جبريل عليه السلام فقال: ((ما هذا يا جبريل؟)) قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولقومك من بعدك.. الحديث، وسيأتي بتمامه إن شاء الله.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين، فمن جاء الجمعة فليغتسل، وإن كان عنده طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك)) رواه ابن ماجه بإسناد حسن لغيره.
ولما كان منسك العيد يشتمل إمَّا على صلاة وزكاة الفطر، أو على صلاة وقربان يذبحه، كان يوم الجمعة كالعيد يشتمل على صلاة وقربان وصدقة جميعًا. وقربان الجمعة هو تبكير العبد وتهجيره في الساعات الأولى قبل خروج الإمام. كما سننبِّه عليه في وقته.
3- ومن المزايا التي شرِّف بها هذا اليوم أنَّه اليوم المحجَّل الأغر الأزهر الأنور، في الدنيا وفي يوم المحشر، ولذا ترى أهل الجمعة في الدنيا أشبه ما يكونون في الآخرة، في بياض ثيابهم ونور وجوههم وطيب روائحهم. ولهذا استُحِبَّ في يوم الجمعة الطيب والسواك والبياض في أحسن ما يجده أحدكم من الثياب، فإنَّهم على هذه الهيئة يحشرون يوم القيامة.
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تحشر الأيام على هيئتها، وتحشر الجمعة زهراء منيرة، أهلها يحفون بها كالعروس، تهدى إلى خدرها، تضيء لهم يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضا، وريحهم كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان، لا يُطرقون تعجبا حتى يدخلوا الجنة، لا يخالطهم أحد إلا المؤذِّنون المحتسبون)) رواه الطبراني وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وإسناده حسن.
وعن أنس بن مالك: عرضت الجمعة على رسول الله ، جاءه بها جبريل عليه السلام في كفِّه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، فقال: ((ما هذا يا جبريل؟)) قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك... الحديث. رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد.
وسيأتي بتمامه في بعض الخطب اللاحقة إن شاء الله، وهذا حسبكم لهذا اليوم.
والله أسأله المغفرة لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم.
(1/3600)
فضائل الجمعة وأحكامها (4)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, الكبائر والمعاصي
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل حضور الجمعة. 2- وعيد من ترك الجمعة تهاونا بها. 3- حكم السفر يوم الجمعة قبل الصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إذا كان لهذا اليوم من العظمة والشرف والفضل ما نوَّهت به وأبنت، فلا جرم أن الله تعالى قد خصَّه بوظائف وعبادات يُتقرّب بها إلى الله تعالى، كما يتقرَّب العباد في عيد الأضحى بالذبح والصلاة، وكما يتقرَّبون في عيد الفطر بالصدقة والصلاة، وكما يتقرب الحجاج بالمناسك.
فالعجب ممَّن ضلَّ عن هذا اليوم كما ضلَّت عنه اليهود والنصارى، فلم يخصَّه بشيء من التشريف التعظيم والتقرب إلى الله بما شرعه في هذا اليوم من قرب، وعلى رأسها صلاة الجمعة وما ينبغي لحضورها من الاغتسال والتطيُّب وغير ذلك من الوظائف ممَّا سأسرده عليكم.
1- فمن العبادات والقرب التي خصَّ بها هذا اليوم: صلاة الجمعة، وقد أجمع المسلمون على أنَّ صلاة الجمعة فرض عين.
وصلاة الجمعة هي كما قال ابن القيم: "من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، وهي أعظم من كلِّ مجمع يجتمعون فيه وأفرضُه سوى مجمع عرفة، ومن تركها تهاونًا بها طبع الله على قلبه"، قال ابن مسعود رضي الله عنه قال النبي لقوم يتخلفون عن الجمعة: ((لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم)) رواه مسلم والحاكم بإسناد على شرطهما، وعن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم أنهما سمعا رسول الله يقول على أعواد منبره: ((لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) رواه مسلم وابن ماجه وغيرهما، وعن أبي الجعد الضمري رضي الله عنه عن النبي قال: ((من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه)) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم"، وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان: ((من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق)).
وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير ضرورة طبع الله على قلبه)) رواه أحمد بإسناد حسن والحاكم وقال صحيح الإسناد، وعن كعب بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة ثم لا يأتونها أو ليطبعن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين)) رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ألا هل عسى أحدكم أن يتخذ الصبة من الغنم على رأس ميل أو ميلين فيتعذر عليه الكلأ فيرتفع ثم تجيء الجمعة فلا يجيء ولا يشهدها، وتجيء الجمعة فلا يشهدها، حتى يطبع على قلبه)) رواه ابن ماجه بإسناد حسن وابن خزيمة في صحيحه.
وعن محمد بن عبد الرحمن بن زرارة رضي الله عنه قال: سمعت عمِّي ولم أر رجلا منا به شبيها قال: قال رسول الله : ((من سمع النداء يوم الجمعة فلم يأتها ثم سمعه فلم يأتها ثم سمعه ولم يأتها طبع الله على قلبه وجعل قلبه قلب منافق)) رواه البيهقي.
هذا ما سمعتم، والله يغفر لي ولكم.
_________
الخطبة الثانية
_________
قد سمعتم قبل قليل من الوعيد على تعمُّد ترك صلاة الجمعة ما تتَّقون الله تعالى به.
أفلا يرتدع رجال وشبابٌ نراهم في الطرقات أو في بيوتهم بعد الزوال في يوم الجمعة، في اللغو والفراغ والسفه، بل وربَّما في الملاعب.
إن كانوا غافلين فوالله لا حجَّة لهم في الغفلة، لأنَّهم يرون الساعين إلى الجمعة يروحون أمام أعينهم. وإن تعلَّلوا بتعمُّد الترك والاستكبار فأجمع المسلمون أنَّهم بذلك كفَّار، مع ملاحظة الشروط التي يذكرها العلماء في باب التكفير.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (من ترك الجمعة ثلاث جمع متواليات فقد نبذ الإسلام وراء ظهره) رواه أبو يعلى موقوفا بإسناد صحيح.
فبلِّغوا هذا الوعيد إلى كلِّ من تعرفونه يتخلَّف عن يوم الجمعة، حتَّى لا يكون له عذر يتعلَّل به، وحتَّى تعمَّهم هذه النعمة وهذه الأجور العظيمة معكم، فلا تبخلوا بها عليهم، وكلُّكم معني بهذا.
وقد ثبت عن مجاهد أنَّه قال: "إنَّ قومًا سافروا يوم الجمعة حين زالت الشمس، فاضطرم عليهم خبؤهم، من غير أن يروا نارًا" رواه ابن أبي شيبة والبيهقي في فضائل الأوقات وفي شعب الإيمان.
وقال الإمام أبو عمرو الأوزاعي: "كان عندنا رجلٌ صيَّاد يسافر يوم الجمعة يصطاد ولا ينتظر الجمعة، فخرج يومًا فخسف ببغلته، فلم يبق منها إلاَّ أذنها" رواه أبو بكر الدينوري في المجالسة والبيهقي في الشعب بسند صحيح. قال الإمام البيهقي بعد روايته هذين الخبرين في كتابه النفيس فضائل الأوقات: "هذا لأنَّ حضور الجمعة يتعيَّن بعد زوال الشمس، فإذا تركها من غير عذر استحقَّ الوعيد إلاَّ أن يعفو الله، فأمَّا إذا كان مسافرًا فلا بأس له بترك الجمعة".
والتحقيق في هذا أنَّ السفر يوم الجمعة يجوز قبل الزوال مع الكراهة، ويحرم بعد الزوال إلاَّ لحاجة أو ضرورة، ومن خشي فوت مركبه من باخرة أو قاطرة أو طائرة فيجوز له أن يسافر يوم الجمعة بعد الزوال.
هذا ما سمعتم، والله يغفر لي ولكم.
(1/3601)
فضائل الجمعة وأحكامها (5)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الغسل يوم الجمعة. 2- فضل السواك والتطيب يوم الجمعة. 3- فضل الصلاة على النبي يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
قد سمعتم فيما مضى من الخطب من فضل يوم الجمعة وشرفه وعظيم أجوره ما يرغِّبكم على الإتيان إليها رغبةً في الفوز بفضائلها وعظيم أجورها. وعلمتم أنَّ جميعَ ما سمعتم من فضائل يوم الجمعة وما فيها من الأجر والثواب والكرامة فإنَّما يَنالُ ذلك من كان مِن أهل الجمعة فقط، وهو كلُّ من واظب في كلِّ جمعة على أداء وظائفها المتعلِّقة بها، ولم يتخلَّف عنها إلاَّ لعذر أو لضرورة، وقد ذكرت من هذه الوظائف صلاة الجمعة. ثمَّ أقول:
2- ومن وظائف هذا اليوم: وجوب الاغتسال فيه غسلاً زائدًا على غسل الجنابة أو التنظيف أو التبرُّد، وفي هذا أحاديث صحيحة، منها ما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا كان يوم الجمعة فاغتسل الرجل وغسل رأسه، ثم تطيب من أطيب طيبه، ولبس من صالح ثيابه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يفرق بين اثنين، ثم استمع الإمام، غفر له من الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام)) ، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وسواك ويمسّ من الطيب ما قدر عليه)) رواه مسلم وغيره، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين، فمن جاء الجمعة فليغتسل، وإن كان عنده طيب فليمس منه، وعليكم بالسواك)) رواه ابن ماجه بإسناد حسن.
والاغتسال يوم الجمعة فيه ثواب وفضل، فقد روى الطبراني في الأوسط وابن خزيمة في صحيحه والحاكم وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن أبي قتادة رضي الله عنه قال: دخل عليّ أبي وأنا أغتسل يوم الجمعة فقال: غسلك هذا من جنابة أو للجمعة؟ قلت: من جنابة، قال: أعد غسلا آخر إني سمعت رسول الله يقول: ((من اغتسل يوم الجمعة كان في طهارة إلى الجمعة الأخرى)).
والغسل إنَّما يشرع لمن يحضر الجمعة من النساء والرجال، وأمَّا من لا يحضرها من النساء أو من ذوي الأعذار من الرجال فلا يلزمهم هذا الغسل.
3- ومن وظائف هذا اليوم: استحباب السواك فيه، والسواك حسنٌ في الأحوال كلِّها، لكنَّه بين يدي الصلوات عمومًا وصلاة الجمعة خصوصًا أشدُّ استحبابًا وآكد على سائر الأحوال والأوقات.
وقد ورد الأمر به في خصوص الجمعة في حديث أبي سعيد الخدري عن النبيِّ قال: ((غسل يوم الجمعة واجب على كلِّ محتلم وسواكٌ ويمسُّ من الطيب ما قدر عليه)) رواه مسلم، وعن ابن عباس عن رسول الله قال: ((من جاء الجمعة فليغتسل، وإن كان طيب فليمسَّ منه، وعليكم بالسواك)) رواه ابن ماجة وهو حسن لغيره.
4- ومن وظائف هذا اليوم أيضًا: التطيُّب بأحسن ما يجده العبد ويقدر عليه من أنواع الطيب والمسك للأحاديث التي مرَّ ذكرها قريبًا، ولحديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من اغتسل يوم الجمعة ومسَّ من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له، ولم يؤذ أحدا، ثم أنصت حتى يصلي، كان كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى)) رواه أحمد والطبراني ابن خزيمة في صحيحه.
5- ومن الوظائف التي خصَّ بها هذا اليوم: الادِّهان، ويقوم مقامَه اليوم أنواع الغسول للشعر، وذلك لحديث سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) رواه البخاري والنسائي.
هذا وللحديث بقيَّة تأتي بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
6- ومن الوظائف التي خصَّ بها هذا اليوم: لبس الجديد، وأحسن ما يجد، وهو الثوب الأبيض، فقد كان أحبُّ الثياب إلى رسول الله القميص الأبيض، ولذلك يحشر أهل الجمعة يوم القيامة ألوانهم كالثلج بياضًا، وريحهم كالمسك، كما في حديث أبي موسى الأشعري عن النبيِّ ، وعن عبد الله بن سلام أنَّه سمع النبيَّ يقول على المنبر في يوم الجمعة: ((ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته)) رواه أبو داود وابن ماجة بسند صحيح.
7- ومن الوظائف التي خصَّ بها هذا اليوم أيضًا: استحباب الإكثار من الصلاة على النبيِّ ، فإنَّ أوسَ بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فيه؛ خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا من الصلاة عليّ فيه، فإن صلاتكم يوم الجمعة معروضة عليّ)) ، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟! أي: بليت وصرت رميمًا، فقال: ((إن الله عز وجل حرَّم على الأرض أن تأكل أجسامنا)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له.
قال ابن القيِّم: "ورسول الله سيِّد الأنام، ويوم الجمعة سيِّد الأيَّام، فللصلاة عليه في هذا اليوم مزيَّة ليست لغيره مع حكمة أخرى، وهي أنَّ كلَّ خير نالته أمَّته في الدنيا والآخرة فإنَّما نالته على يده، فجمع الله لأمَّته بين خيري الدنيا والآخرة، فأعظم كرامة تحصل لهم فإنَّما تحصل يوم الجمعة، فإنَّ فيه بعثهم إلى منازلهم وقصورهم في الجنَّة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخلوا الجنَّة، وهو يوم عيد لهم في الدنيا، ويوم يُسعفهم الله تعالى بطلباتهم وحوائجهم، ولا يردُّ سائلهم، وهذا كلُّه إنَّما عرفوه وحصل لهم بسببه وعلى يده، فمن شكره وحمده وأداء القليل من حقِّه أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم وليلته".
فلله الحمد والشكر كلُّه، أوَّلاً وآخرًا، باطنًا وظاهرًا.
(1/3602)
فضائل الجمعة وأحكامها (6)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الصلاة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التبكير إلى صلاة الجمعة. 2- السعي إلى الجمعة ماشيا. 3- أدب حضور الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما زلت أحدثكم ـ معاشر المسلمين ـ عن وظائف الجمعة، فذكرت لكم فيما مضى سبعة، فأقول:
8- ثامنًا: ومن الوظائف التي خصَّ بها هذا اليوم التبكير والتهجير إلى المسجد في أوَّل ساعات النهار، وفي ذلك أحاديث، فروى أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من غسَّل يوم الجمعة واغتسل وبكّر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)) رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وفي رواية البخاري ومسلم وابن ماجه: ((إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول، ومثل المهجّر كمثل الذي يهدي بدنة، ثم كالذي يهدي بقرة، ثم كبشا، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم يستمعون الذكر)).
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تقعد الملائكة يوم الجمعة على أبواب المساجد معهم الصحف، يكتبون الناس، فإذا خرج الإمام طويت الصحف)) قلت: يا أبا أمامة، ليس لمن جاء بعد خروج الإمام جمعة؟! قال: بلى، ولكن ليس ممن يكتب في الصحف. رواه أحمد والطبراني في الكبير
قال ابن القيِّم: "لمَّا كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملاً على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يومَ صلاة، جعل الله سبحانه التعجيل فيه إلى المسجد بدلاً من القربان وقائمًا مقامه، فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان".
وهذا كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبيِّ قال: ((من راح في الساعة الأولى فكأنَّما قرَّب بدَنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنَّما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنَّما قرَّب كبشًا أقرن)).
_________
الخطبة الثانية
_________
- ومن الوظائف التي خصَّ بها هذا اليوم: استحباب السعي للجمعة ماشيًا، لما في ذلك من عظيم الأجر.
فعن يزيد بن أبي مريم رضي الله عنه قال: لحقني عباية بن رفاعة بن رافع رضي الله عنه وأنا أمشي إلى الجمعة فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله : ((من اغبرت قدماه في سبيل الله فهما حرام على النار)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه البخاري وعنده: قال عباية: أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال: سمعت رسول الله يقول: ((من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)).
وعن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن" والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وصححه.
10- وإذا دخل المسجد فلا يتخطَّى الرقاب، ولا يفرِّق بين اثنين، ولا يؤذي أحدا، فإنَّ فضيلة هذا اليوم وثوابه إنَّما تنال باجتناب ذلك، للأحاديث التي مرَّت، ولما رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي يخطب فقال النبي : ((اجلس فقد آذيت وآنيت)) أي: أخّرت المجيء وآذيت بتخطيك رقاب الناس.
(1/3603)
فضائل الجمعة وأحكامها (7)
فقه
الصلاة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الدنو من الخطيب يوم الجمعة. 2- وجوب الإنصات لخطبة الجمعة. 3- التحذير من اللغو يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
إخوة الإسلام، ادنوا من الإمام واقتربوا، فلو أنَّكم تعلمون ما في الدنوِّ من الإمام من الأجر والثواب ومن الكرامة والفضيلة في الجنَّة لما ألجأتموني إلى أمري لكم بالدنوّ في كلِّ مرَّة، فاسمعوا ماذا قال نبيُّكم في شأن الدنوِّ والاقتراب من الإمام.
عن أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث: "حسن" والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وصححه.
الله أكبر، فلك بالدنوِّ وما ذكر معه أجر صيام سنة كلِّها وأجر قيام لياليها بالصلاة.
بل وأعظم من ذلك ما ذكر سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((احضروا الجمعة وادنوا من الإمام؛ فإن الرجل ليكون من أهل الجنة فيتأخر عن الجمعة فيؤخّر عن الجنة، وإنه لمن أهلها)) رواه الطبراني.
ويُذكر في الأثر عن علقمة قال: خرجت مع عبد الله بن مسعود يوم الجمعة، فوجد ثلاثة قد سبقوه فقال: (رابع أربعة، وما رابع أربعة من الله ببعيد، إنَّ الناس يجلسون يوم القيامة من الله عز وجل على قدر رواحهم إلى الجمعات، الأوَّل ثمَّ الثاني ثمَّ الثالث ثمَّ الرابع، وما رابع أربعة من الله ببعيد).
أما بعد: فما زلت ـ إخوة الإسلام ـ أحدِّثكم عن وظائف يوم الجمعة، وقد ذكرت لكم منها فيما مضى عشر وظائف.
فالوظيفة الحادية عشر: الدنوُّ من الإمام، وهي الوظيفة التي صدَّرت بها هذه الخطبة.
ومن أهمِّ ما يتعلَّق بحضور خطبة الجمعة بعد الدنوِّ والاقتراب من الإمام: الإنصات والاستماع إليه بقلب حاضر وأذن صاغية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصا فقد لغا)) رواه مسلم وغيره.
وفي حديث سلمان المتقدِّم عن النبيِّ ، وقال فيه: ((ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) رواه البخاري والنسائي، وفي رواية للنسائي: ((وينصت حتى يقضي صلاته إلا كان كفارة لما قبله من الجمعة)).
وتقدَّم أيضًا حديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه عن رسول الله وفيه: ((ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها)) رواه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وصححه.
وإذا نعس أحدكم في أثناء الخطبة فلتحوَّل من مجلسه ذاك إلى مجلس آخر لما رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن خزيمة والحاكم وغيرهم عن ابن عمر قال: قال رسول الله : ((إذا نعَس أحدكم في المسجد يوم الجمعة فليتحوَّل من مجلسه ذلك إلى غيره)).
والله أسأل لي ولكم السداد والمغفرة والمعافاة في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
13- ويتعلَّق بالإنصات أيضًا قطع الكلام وترك اللغو، فإنَّ الكلام في أثناء الخطبة وعدمَ الإنصات يبطل الجمعة، لا يبطل الصلاة، ولكن يُذهب أجر الجمعة كلَّه، فتصير في حقِّه ظهرًا، ويُحرم من الأجور العظيمة التي يفوز بها أهل الجمعة ممَّا طوَّلت في شرحه وبيانه. وقد تقدَّم من الأحاديث ما يدلُّ على ذلك.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((من اغتسل يوم الجمعة ومسّ من طيب امرأته إن كان لها ولبس من صالح ثيابه ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كان كفارة لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا)) رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه.
وقد ذكرت لكم من قبل حديث النبيِّ : ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر فرجل حضرها يلغو، فذلك حظه منها...)) الحديث.
وروى ابن خزيمة في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: دخلت المسجد يوم الجمعة والنبي يخطب فجلست قريبا من أبي بن كعب، فقرأ النبي سورة براءة فقلت لأبيّ: متى نزلت هذه السورة؟ قال: فتجهمني ـ أي: نظر إلي نظر المغضب المنكر ـ ولم يكلّمني، ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني، ثم مكثت ساعة ثم سألته فتجهمني ولم يكلمني، فلما صلى النبي قلت لأبي: سألتك فتجهمتني ولم تكلمني! قال أبيُّ: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فذهبت إلى النبي فقلت: يا نبي الله، كنت بجنب أبي وأنت تقرأ براءة فقلت له: متى نزلت هذه السورة؟ فتجهمني ولم يكلمني، ثم قال: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، قال النبي : ((صدق أبي)).
وعن جابر أيضا رضي الله عنه قال: دخل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المسجد والنبي يخطب، وجلس إلى جنب أبي بن كعب، فسأله عن شيء أو كلمه بشيء فلم يردّ عليه أبيّ، فظن ابن مسعود أنها موجدة، فلما انفتل النبي من صلاته قال ابن مسعود: يا أبي، ما منعك أن ترد علي؟! قال: إنك لم تصلّ الجمعة، قال: لم؟ قال: تكلمت والنبي يخطب، فقام ابن مسعود فدخل على النبي فذكر ذلك له، فقال رسول الله : ((صدق أبي، صدق أبي، أطع أبيّا)) رواه أبو يعلى بإسناد جيد وابن حبان في صحيحه.
وقد انتفع ابن مسعود بهذه الطاعة، فكان من فقهه بعد ذلك أن قال رضي الله عنه: (كفى لغوا أن تقول لصاحبك: أنصت إذا خرج الإمام في الجمعة) رواه الطبراني في الكبير موقوفا بإسناد صحيح.
وهذا الذي قاله ابن مسعود تفقُّهًا ببركة الطاعة للصحابة قد صحَّ مرفوعًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت والإمام يخطب فقد لغوت)) رواه البخاري ومسلم، ورواه ابن خزيمة في صحيحه بلفظ: ((إذا تكلمت يوم الجمعة فقد لغوت وألغيت)) يعني والإمام يخطب. وقوله: ((لغوت)) معناه خبت من الأجر وبطلت فضيلة جمعتك وصارت جمعتك في حقِّك ظهرًا.
هذا ما تسمعون، والله يغفر لي ولكم، ويرحمني وإياكم.
(1/3604)
فضائل الجمعة وأحكامها (8)
فقه
الصلاة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- صلاة النافلة قبل الجمعة وبعدها. 2- فضل الصدقة وقراءة سورة الكهف يوم الجمعة. 3- اغتنام ساعة الإجابة يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
معاشر المسلمين، إليكم تمام الكلام على وظائف وخصائص يوم الجمعة.
14- ومن خصوصيَّات ومزايا يوم الجمعة مشروعيَّة صلاة النافلة قبل الزوال في المسجد إلى حين خروج الإمام زيادة على الركعتين المعروفتين بصلاة تحيَّة المسجد، فيصلِّي أحدكم إذا دخل المسجد بعد ركعتي التحيَّة ما بدا له، وما شاء الله له من الركعات، لما رواه أحمد والطبراني وابن خزيمة في صحيحه من حديث أبي أيوب الأنصاري عن النبيِّ ، وفيه: ((ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع ما بدا له)) ، ولما رواه البخاري عن النبيِّ ، وفيه: ((ثمَّ يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ويصلِّي ما كتب له)).
ومن المؤسف أن يجلس الواحد منكم في المسجد ينتظر الإمام ويستبطئ مجيئه، ولا يشتغل بشيء من هذه الوظائف من صلاة وذكر وتسبيح وتلاوة للقرآن والصلاة على النبيِّ ، فهو جالس في المسجد بجسمه، وعقله وفكرُه يجول في غير ذكر الله تعالى، وربَّما اشتغل باللغو من الكلام، فلا جرم أنَّ للشيطان منه نصيبًا.
15- وليس لصلاة الجمعة صلاة راتبة قبلها، بل يصلِّي ما شاء، وأمَّا بعدها فكان النبيُّ يصلِّي بعد الجمعة ركعتين في بيته، وقال: ((إذا صلَّى أحدكم الجمعة فليصلِّ بعدها أربع ركعات)) رواه مسلم. قال ابن تيمية: "إن صلاَّها في المسجد صلَّى أربعا، وإن صلَّى في بيته صلَّى ركعتين".
16- ومن الوظائف التي خصَّ بها هذا اليوم: الصدقة.
قال ابن القيِّم: "إنَّ للصَّدقة في يوم الجمعة مزيَّةً عليها في سائر الأيَّام. والصدقة في يوم الجمعة بالنسبة إلى سائر الأيَّام كالصدقة في رمضان بالنسبة إلى سائر الشهور".
17- ومن الوظائف التي خصَّ بها هذا اليوم: قراءة سورة الكهف، وفي ذلك فضيلة، فقد روى النسائي والبيهقي والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبيَّ قال: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين)).
18- ومن أعجب الخصائص والوظائف المتعلِّقة بيوم الجمعة أنَّ فيه ساعةً مرتجاة، وذلك ما سأفصِّل لكم فيه البيان بعد الجلسة.
والله المستعان وعليه التكلان.
_________
الخطبة الثانية
_________
18- وبعد فمن الوظائف التي خصَّ بها هذا اليوم: اغتنام الساعة المرتجاة في يوم الجمعة.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عرضت الجمعة على رسول الله ، جاءه بها جبريل عليه السلام في كفّه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، فقال: ((ما هذا يا جبريل؟)) قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك.. الحديث، ثمَّ قال: وفيها ساعة لا يدعو أحد ربه فيها بخير هو له قسم إلا أعطاه، أو يتعوّذ من شر إلا دفع عنه ما هو أعظم منه. رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال: ((فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئا إلا أعطاه)) وأشار بيده يقللها. رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة.
وأما تعيين الساعة فقد اختلف العلماء فيها اختلافا كثيرا، وأرجحها قولان:
أحدهما: أنَّها من حين جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة. وحجَّة هذا القول ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري أنَّ عبد الله بن عمر قال له: أسمعت أباك يحدِّث عن رسول الله في شأن ساعة الجمعة شيئًا؟ قال: نعم سمعته يقول: سمعت رسول الله يقول: ((هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة)).
وهذا القول ضعيف لأنَّ حجَّته ضعيفة، فالحديث وإن رواه مسلم فهو من الأحاديث القليلة التي انتقدها الحفاظ عليه كالدارقطني وغيره، وصوَّبوا أنَّه موقوف.
والقول الثاني: أنَّها آخر ساعة بعد العصر قبل المغرب. وهذا هو الصواب في تعيينها، لأنَّ به وردت الأحاديث الصحيحة.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد صلاة العصر إلى غيبوبة الشمس)) رواه الترمذي والطبراني وزاد في آخره: ((وهي قدر هذا)) يعني قبضة. ويشهد له ما يلي.
فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قلت ورسول الله جالس: إنا لنجد في كتاب الله تعالى يعني التوراة: في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله بها شيئا إلا قضى الله له حاجته، قال عبد الله: فأشار إليه رسول الله : ((أو بعض ساعة)) ، فقلت: صدقت أو بعض ساعة، قلت: أي ساعة هي؟ قال : ((آخر ساعات النهار)) ، قلت: إنها ليست ساعة صلاة، قال: ((بلى إن العبد إذا صلى ثم جلس لم يجلسه إلا الصلاة فهو في صلاة)) رواه ابن ماجه وإسناده على شرط الصحيح.
وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، لا يوجد عبد مسلم يسأل الله عز وجل شيئا إلا آتاه إياه فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر)) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له والحاكم وقال: "صحيح على شرط مسلم".
وأنت إذا تدبَّرت في فضائل هذا اليوم وجدت من المناسبة بين فضائله في الآخرة ووظائفه في الدنيا تشابهًا عجيبا، قد نبَّهت على بعضه فيما يتعلَّق بالدنوّ من الإمام؛ لأنَّ على قدر ذلك يدنو من ربّ العزة في الجنة، وعلى الصلاة على النبي لأنَّ به تحصل النجاة في الدنيا والآخرة، وعن التهجير كتهجير أهل الجنة للموعد الذي يضربه الله لهم في الجنَّة يوم الجمعة، ومن ذلك أيضًا هذه الساعة في آخر يوم الجمعة قبل المغرب، هي ساعة دعوات مستجابة من خير الدنيا والآخرة، وكذلك في يوم الجمعة يسأل أهل الجنَّة ربَّهم ما يرغبون فيعطيهم فوق ما كانوا يرغبون وما لا يخطر في بالهم من النعيم.
ما لي أذهب بعيدًا، وأسرد لكم من فضائل هذا اليوم سردًا عديدا، ولو تتبَّعنا هذا لطال الأمر جدًّا، فحسبكم هذا الذي سمعتم، فهو كاف لحمل ذوي الألباب منكم على تعظيم هذا اليوم وتخصيصه بما خصّ به من العبادات والقرب، وفّقني الله وإيَّاكم، وغفر لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم.
(1/3605)
التباشير بأن المستقبل للإسلام
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية, محاسن الشريعة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالتمكين في الأرض. 2- بعض الأحاديث المبشرة بانتشار الإسلام. 3- شهادات رجال الغرب بتميّز شريعة الإسلام. 4- بعض تباشير الواقع التي تؤكد أن النصر للإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله عزَّ وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
أيُّها المسلمون، إنَّه برغم ما يُكاد به دينُ الإسلام فإنَّنا نعتقد جازمين أنَّ المستقبل للإسلام، وأنَّ جميع ما يناقض الإسلام فمصيره إلى الزوال، وأنَّ كلَّ طرح يعارضه فنهايته إلى الاندثار والاضمحلال، لأنَّ سنَّة الله تعالى قضت بأنَّ البقاء للأصلح، والإسلام هو المرشَّح الأصلح لقيادة العالم في المستقبل.
وليس الاعتقاد بأنَّ المستقبل للإسلام مجرَّدَ أمنيَّة نابعة من العاطفة الدينيَّة لدى المسلمين، بل إنَّ ذلك حقيقة ثابتة، بشَّرت بها نصوص من الكتاب والسنَّة، وظهرت بعض تباشيرها في الأفق، وإلى بيان ذلكم أقول: إنَّ الله تبارك وتعالى قد بشَّر أهل الإسلام ووعدهم بأنَّه سيمكِّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وأنَّه سيظهره على سائر الأديان، فقال الله عزَّ وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، ففي الآية بشرى عظيمة لأهل الإسلام، بأنَّ الله تعالى سيظهر دينه على سائر الأديان، فتكون الغلبة والنصر والتمكين لأهله.
وهذا الظهور لا شكَّ قد تحقَّق منه جزء بعد وفاة النبيِّ ، في زمن الخلفاء الراشدين، ثمَّ اتَّسعت دائرة الظهور بعدهم، ولكنَّ ذلك لم يتحقَّق بعدُ تامًّا كما وعدت به الآية، لأنَّ عائشة رضي الله عنها أخبرت عن رسول الله أنَّه قال: ((إنَّه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثمَّ يبعث الله ريحًا طيِّبةً فيَتوفَّى كلّ من كان في قلبه مثقالُ حبَّة خردل من إيمان، فيبقى من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم)) رواه مسلم وغيره.
فدلَّ هذا الحديث على أنَّ ما وعد الله به في الآية من النصر والتمكين كائن منه ما شاء الله إلى قبيل قيام الساعة، ويستفاد من هذا أنَّ الذي تحقَّق منه في عصر الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين من بعدهم على فترات متقطِّعة وفي أماكن متفرِّقة من العالم الإسلامي ليس إلاَّ جزءًا من هذا الوعد الإلهي الصادق.
وإنَّ ممَّا يؤيِّد هذا ويزيده أكثر وضوحًا ودلالةً على استمرارية المدِّ الإسلامي واتِّساعه في المستقبل حديث ثوبان مولى النبيِّ أنَّ النبيِّ قال: ((إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنَّ أمَّتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)) رواه مسلم وغيره.
وقد ورد ما هو أوضحُ من هذا الحديث وأبينُ منه وأشمل، وذلك ما حدَّث به تميم الداري رضي الله عنه عن النبيِّ قال: ((ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلاَّ أدخله الله هذا الدين، بعزِّ عزيز، أو بذلِّ ذليل، عزًّا يعزُّ به الإسلام، وذلاً يذلُّ به الكفر)) رواه أحمد وغيره بسند صحيح على شرط مسلم.
فهذا يدلُّ على أنَّ الأمَّة الإسلامية سوف تسترجع عزَّتها وقوَّتها وخلافتها حتَّى يظهرها الله على سائر الأمم والملل، وتكونَ هي المسيطرةَ على جميع أهل الأرض، لأنَّ الليل والنهار يحيطان بكرة الأرض كلِّها، ويبلغان مشارقها ومغاربها بأسرها.
وهذا يقتضي أن يكونَ المسلمون قد تخطَّوا مرحلة التخلُّف والهوان والذلِّ، وأتمُّوا بناءهم الحضاري، فيكونون أقوياء في دينهم وأقوياء في مدنيَّتهم، حتَّى يمكِّنهم الله من عدوِّهم، ويظفرهم به، وينصرهم عليه، وهذا ما يبشِّر به حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه أحمد وصحَّحه الحاكم والذهبي، قال: سئل رسول الله : أيُّ المدينتين تفتح أوَّلاً أقسطنطينيَّة ـ أي: إسطنبول ـ أم رومية ـ أي: روما ـ؟ فقال: ((مدينة هرقل تفتح أولا)) ، يعني إسطنبول، وقد تمَّ ذلك على يد محمَّد الفاتح العثماني منذ سبعة قرون، وسوف يتحقَّق ـ ولا شكَّ ـ الجزء الثاني من الحديث كما تحقَّق أوَّله بعد ثمانية قرون من الإخبار عنه، وذلك من معجزاته الدَّالة على صدق نبوَّته.
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المسلمين إنَّما يفتحون مدينة روما باستنفار الخليفة، وهذا يبشِّر بعودة الخلافة التي هي رمز الوحدة الإسلامية.
نعم قد بشَّر بذلك صراحةً حديث حذيفة بن اليمان عن النبيِّ قال: ((تكون النبوَّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثمَّ يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثمَّ تكون خلافة على منهاج النبوَّة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثمَّ يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثمَّ تكون ملكًا عاضًّا، فيكون ما شاء الله أن تكون، ثمَّ يرفعها الله إذا شاء الله أن يرفعها، ثمَّ تكون ملكًا جبريًّا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثمَّ يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثمَّ تكون خلافة على منهاج النبوَّة)) ، ثمَّ سكت. رواه أحمد وغيره بسند جيد.
ففي الحديث تصريح بعودة الخلافة على منهاج النبوَّة في آخر الأمر كما كانت في أوَّله، وأنَّ ذلك يكون في مستقبل التاريخ ونهايته، لأنَّه لمَّا يتحقَّق.
فيا أيُّها المسلمون، بشراكم بشراكم، فهذه النصوص تكشف لكم بجلاء أنَّ المستقبل لدينكم، وقد وعد الله بذلك فقال عزَّ وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ [النور:55].
وإنَّ هذا الوعد الإلهي بتمكين الإسلام واستخلاف أهله لا شكَّ في صحَّته وصدقه، ومن أصدق من الله قيلا؟! ولكنَّه مشروط هنا وفي نصوص أخرى بإصلاح الناس ما بأنفسهم، فهل أصلحنا ـ يا عباد الله ـ ما بأنفسنا؟! هل نحن مؤهَّلون لهذا الوعد الإلهي الكريم؟! فلينظر العاقل إلى نفسه، هل حقَّق شرط الله عزَّ وجل من عقائد الإيمان والأعمال الصالحات؟!
إذًا فردُّ الإسلام إلى منصَّة الحكم وتمكين الدين لأهله لا يتحقَّق بمجرَّد السعي السياسي، بل السعي السياسي الرشيد يقتضي أن يكون البدء بإصلاح ما بنا وتدارك الخلل في عقائدنا وأعمالنا، وإذا نحن لم نفعل فسيذهب الله بنا ويأتي بقوم آخرين، فيصلحون ما بأنفسهم ويوفِّي لهم بوعده.
_________
الخطبة الثانية
_________
إذا ثبت من جهة النصوص أنَّ المستقبل للإسلام فإنَّ الواقع يشهد أيضًا بهذه الحقيقة، فنهاية التاريخ للإسلام ولا ريب، وكلُّ التنبُّؤات المخالفة لهذا لا تقوم على أساس علمي، سواء في ذلك الشيوعيون أصحاب نظرية المادِّية الجدليَّة الماركسية أو العلمانيون اللائكيون وأنصار الفكر الغربي والحضارة الغربيَّة.
وقد تنبَّه كثير من مفكِّري الغرب وزعمائه السياسيين بأنَّ الحضارة الغربية تسير نحو الزوال، وأنَّ الألفيَّة الثالثة هي ألفيَّة صراع الأديان، وأنَّ الإسلام هو أحظى الأديان المرشَّحة للظهور والهيمنة في المستقبل. ولا أطيل بنقل شهاداتهم بذلك، وقد شهد بهذا أيضًا مفكِّرو المسلمين.
ويؤكِّد هذه الحقيقة صدور الاعترافات الرسميَّة العالميَّة بصلاحيَّة شريعة الإسلام للعصر الحديث، وتميُّزها عن سائر الشرائع الوضعيَّة بما يبوِّئها المكانة العليا على جميع الشرائع البشريَّة التي عرفها العالم الحديث، وأنَّها في طليعة المصادر الصالحة لسدِّ حاجات التشريع الحديث.
ولا أريد أن أطيل هنا بنقل شهادات الفقيه القانوني الألماني كوهلر ( Kohler ) والأستاذ الإيطالي ديلفيشيو ( (Delvechio والعميد الأمريكي ويكمور ( Wigmore ) والأستاذ الفرنسي لامبير ( Lambert ) والأستاذ الكبير الفرنسي دونيديو دو فابر ( Donnidieu de vabres )، ولكن لا أغفل المقام من ذكر ما يلي:
يقول العلامة القانوني سانتيلانا: "إنَّ في الفقه الإسلامي ما يكفي المسلمين في تشريعهم المدني، إن لم نقل إنَّ فيه ما يكفي الإنسانيَّة كلَّها".
وفي شهر جمادى الآخرة من سنة 1356هـ الموافق لسنة 1937 م انعقد مؤتمر القانون المقارن بمدينة لاهاي، فسجَّل المؤتمرون قرارًا بالإجماع على أنَّ الشريعة الإسلاميَّة حيَّةٌ وقابلة للتطوُّر، وأنَّها مستقلَّة قائمة بذاتها غير مأخوذة من تشريع آخر. وقد كان ذلك قرارًا تاريخيًّا بالنسبة لرجال التشريع الأوربي.
ثمَّ نحن لا نزال نسمع بعض المنافقين في بلادنا وغيرها من بلاد الإسلام ينادون بفصل الشريعة عن الحياة وفصل الدين عن الدولة، لتكون لائكيَّة علمانيَّة لا حظَّ فيها لشريعة الإسلام من قرار واشتراع.
ومن التباشير التي لا تزال تلوح في الأفق وتبرهن بوضوح على استمراريَّة المدِّ الإسلامي وسيره سيرًا طبيعيًّا نحو الاستحواذ والهيمنة على جميع الكرة الأرضية ما يُرى من الدخول المتزايد في الدين الإسلامي، باستمرار دون انقطاع، وفي مغارب الأرض ومشارقها، في شتَّى مواقع العالم، سواء في ذلك النخبة العلميَّة والطبقات المثقَّفة أو الطبقات العاملة.
وإلى جانب هذا المدِّ الإسلامي خارج ديار المسلمين يلاحظ أيضًا العودة الجماعيَّة إلى الدين في ديار المسلمين، والصحوة المباركة التي يشهدها العالم الإسلامي في مطلع القرن الخامس عشر، والتي ألجأت كثيرًا من الأنظمة إلى إعادة النظر في كثير من توجُّهاتها وخياراتها، ومهما كان ذلك ساذجًا أو بطيئًا إلاَّ أنَّه بلا شكّ يسير في الاتجاه الحسن. وهذه إن شئنا قلنا: هي إرهاصات تنبئ بعهد جديد ينتظره العالم، وسيفاجأ به يومًا ما.
وإذا كانت هذه حقيقةً ثابتة فإنَّ ذلك لا يعني التواكل حتَّى يكون الله هو الذي يغيِّر، فإنَّ الله قد جرت سنَّته أنَّه لا يغيِّر ما بقوم حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم، فما ترشد إليه النصوص المتقدِّمة إنَّما الغرض منه تحفيز النفوس وتحريك الضمائر وشحذ الهمم للعمل على جعل المستقبل للإسلام، والنهوض بأعباء ذلك، والاضطلاع بشؤون الدعوة إلى الله، وذلك ما نبيّنه في خطبة لاحقة إن شاء الله.
(1/3606)
همّ الآخرة
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الموت والحشر
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الهمّ الحقيقي للمؤمن. 2- ثمرات همّ الآخرة. 3- عواقب همّ الدينا. 4- المعيار الصحيح في الزهد. 5- بعض صفات من يحمل همّ الآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد، فاتقوا الله تعالى أيها الناس، وأعدوا لما بعد الموت، ولا تغتروا بسعة حلم الله عليكم في حياتكم؛ فإن الدنيا دار عمل واجتهاد، والآخرة دار جزاء وحساب.
عباد الله، إن المتأمل في حال الناس يجدهم عند شروعهم في أي عمل لا بد وأن يخططوا له، ويعدوا دراسة جادة لجدوى ذلك العمل، وبعد هذه الدراسة وذلك التخطيط يحرص رب العمل على أن يكون عمله ناجحًا بنسبة عالية، فيكون هذا الأمر هو همه الأول والأخير، ولكن هل خطط أحدنا وقام بدراسة جادة مجدية للآخرة، فيكون همه هو نجاحه في الوصول إليها سليمًا من البلايا، وقد جعل مطيته الدنيا غير مغترٍّ يزخرفها وبهرجها؟! إن هذا الهمّ هو الذي ينبغي أن يكون في قلوبنا جميعًا، فهل فكر أحدٌ ـ مجرد تفكير فقط ـ في هذا الأمر؟! لا، إلا من رحم الله.
فمن منا ـ أحبَّتي ـ يُمضي يومه يتذكّر فيه مصيره؟! من مِنا إذا رأى شيئًا في الدنيا ربطه بآخرته؟! من منا إذا تحدث بحديث جعل للآخرة نصيبًا منه؟! من منا إذا فرح فرح للآخرة، وإذا حزن حزن للآخرة، وإذا رضي فللآخرة، وإذا غضب فللآخرة، وجعل كل حركاته وسعيه للآخرة؟! أسئلة تحتاج إلى تأمل عند إجابتنا عليها. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا.
أخي في الله، تعال معي نستمع وإياك إلى قول حبيبنا وهو يذكر هاذين الصنفين من الناس، في الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه الألباني عن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((من كان همه الآخرة جمع الله له شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا راغمة. ومن كان همه الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له)) ، وفي رواية أخرى عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
عباد الله، إن صاحب الهمّ الأخروي الذي جرّد نفسه لله ولم يجعل في قلبه أحدًا سواه أنعم الله عليه بثلاث نِعَمَ، ونِعَمُ الله لا تحصى، لو يعلم بها أهل الدنيا لجالدوه عليها بالسيوف حتى يأخذوها منه، وإليك ـ أخي الكريم ـ أولى هذه النعم.
جمعُ الشمل والأمر: وهو الاجتماع، وكل ما يحيط بالإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى يعطيه السكينة والطمأنينة، ويجمع عليه أفكاره ويقلل نسيانه، ويجمع عليه أهله ويزيد من المودة بينهما، ويجمع عليه أبناءه وييسرهم له، ويجمع عليه أقربائه ويبعد عنه الشقاق، ويجمع عليه ماله فلا يتشتت بتجارة خاسرة أو تصرف أحمق، ويجمع القلوب عليه بعد أن يكتب له القبول في الأرض، فلا يراه أحد إلا أحبه، ويجمع عليه كل ما يحيط به من أمور الخير جميعها.
أما النعمة الثانية والتي يمنها سبحانه وتعالى على صاحب الهم الأخروي، وهي من أجلّ النعم، ألا وهي نعمة غنى القلب، إذ يقول الرسول في الحديث الصحيح: ((ليس الغِنَى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)). قال الإمام المناوي صاحب فيض القدير عند شرح هذا الحديث: "يعني: ليس الغنى المحمود ما حصل عن كثرة العرض والمتاع؛ لأن كثيرًا ممن وسع الله عليه لا ينتفع بما أوتي، بل هو متجرد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، فالحريص فقير دائمًا، ولكن الغنى المحمود المعتبر عند أهل الكمال غنى القلب، وفي رواية: ((النفس)) ، وهو استغناؤها بما قُسم لها، وقناعتها ورضاها به بغير إلحاح في طلب ولا إلحاف في سؤال، ومن كفَّت نفسه عن المطامع قرت وعظمت، وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من كان فقير النفس، فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسيس الأفعال؛ لدناءة همته، فيصغر في العيون ويحتقر في النفوس، ويصير أذل من كل ذليل". أما الغني بالمال الفقير القلب فإنه يلهث كما يلهث الوحش في جمع المال وهو يملك الملايين، ولكنه غير قانع بما رزقه الله فهو فقير، فقد اتخذ المال إلهًا من دون الله، فالفقير هو الذي يشعر بانعدام المال عنده والحاجة الدائمة إليه. اللهم اجعل غنانا في قلوبنا.
وآخر نعمه يمنها الله على صاحب الهم الأخروي هي مجيء الدنيا، فصاحب همّ الآخرة يهرب من الدنيا وزينتها يخشى فتنتها وزخرفها، وهذا لا يعني أن ينقطع عنها ويهرب هروب الغلاة والضالين، كلا، بل يأخذ منها قدر ما يبلِّغُه إلى الآخرة، ومع إعراضه عنها فهو متبع هدي نبيه إذ قال: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) ، وقوله: ((إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم تركها وارتحل)). إلا أنها تأتي إليه ذليلة صاغرة دون جهد وعناء وهو ليس بحاجة إليها؛ لأنه جعل همه الآخرة، فكفاه الله هم الدنيا، وأتت إليه راغمة.
وأما الذي كانت الدنيا همه لا يفكر إلا فيها، ولا يعمل إلا لها، ولا يهتم إلا من أجلها، ولا يفرح إلا لها، ولا يوالي أو يعادي إلا فيها، فهذا يعاقبه الله بثلاث عقوبات:
أولها: تشتت الشمل والأمر؛ فيفرق الله عليه شمله وأمره، فما من شيء كان يحيط به إلا مزقه الله عليه، فتراه متشتت البال والفكر ومضطرب النفس، كثير القلق على كل أمر مهما كان تافهًا، يفرق عليه ماله فلا يوفق في تجارة أو عمل، ويفرق عليه أبناؤه وزوجه فيرى عقوقًا دائمًا يزيد همه وغمه، ويجد من زوجه تأففًا وتمردًا وشكوى لا تنقطع تجعله يتمنى الخلاص من الدنيا من شدة ما يجد، ويفرق الله الناس عنه فلا يحبه أحد، بعد أن كتب الله له البغضاء في الأرض. نسأل الله العافية والسلامة.
العقوبة الثانية التي تصيب صاحب الهم الدنيوي: الفقر اللازم وإن كان غنيًا، فيجعله لا يشعر بالقناعة أبدًا مهما ملك من المال، يشعر دائمًا بالفقر والحاجة، يجعله يجري ويلهث وراء المال كلما ازداد شعوره بالفقر، وهذا مما يزيد في تعبه وهمه وقلقه. اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا.
أما العقوبة الثالثة والأخيرة فإنها هروب الدنيا، فتجده دوما يطلبها وهي دومًا هاربة منه، ويطلبها وهي تبتعد عنه، يجري وراءها كما يجري من يحسب السراب ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، فهو يسعى للمنصب والجاه والشهرة والثناء وغيرها، فهو يهلك نفسه من أجل ذلك، ولا يأتيه من الدنيا غير ما كتب له، ولكن ذلك عقوبة من الله له، وهذا ما جعل عثمان بن عفان ذا النورين رضي الله عنه يقول فيما روي عنه: (همّ الدنيا ظلمة في القلب، وهمّ الآخرة نور في القلب).
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله اللطيف المنان الرحيم الرحمن، الحمد لله الذي جعل همّ المؤمنين في الآخرة منحة منه وفضلاً، وجعل همّ العابثين اللاهين في الدنيا حكمة منه وعدلاً، سبحانه وهو الرؤوف الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل في الحديث الحسن الذي ورد عنه: ((من جعل الهموم هما واحدًا هم المعاد كفاه الله هم الدنيا، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك)) ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وأجملوا في الطلب، ولا تقعدوا عن الأخذ بالأسباب في أمور حياتكم بحجة الزهد في الدنيا والتعبد لله، فإن خير الناس محمد ، كان أزهد الناس في الدنيا وأكثرهم تعبدًا لله تعالى وأشدهم خوفًا له، ومع ذلك لم يترك الدنيا كلها، بل تزوج النساء وصلى ونام وأكل اللحم وصام وأفطر، فلكم فيه أسوة حسنة، ولكن المقصود بهذا الحديث الذين غرقوا في الدنيا ونسوا الآخرة، الذين يعملون للمال والمنصب والجاه والسلطان والزوجة والأولاد، الذين يعقلون عن الله والدار الآخرة تارة ويرجعون تارة، فالحديث إليهم.
أما الذي يحمل الهم الأخروي دومًا قلبًا وقالبًا إليك بعض صفاتهم: علموا ما هو دورهم بوضوح: إصلاح النفس، وإصلاح غيرهم، واستخدام وسائل الدنيا للوصول للآخرة بسلام. هذه مهمتهم في الدنيا: العبادة لله وحده لا شريك له، هم يعلمون أن الله يرحم ويغفر ويعفو، إلا أنهم لم يتكلوا على ذلك، بل يندمون على كل تفريط وتقصير وذنب يقترفونه في جنب الله مهما صغر؛ لأنهم علموا أن الذي يُعصى هو الله العظيم الجليل جل في علاه، وتراهم يحزنون لمصاب المسلمين وما يقع عليهم من ظلم وجور وما يصيبهم من بلاء، إنها نفوس ملئت رحمة ورأفة بسبب همّ الآخرة الذي غلب على قلوبهم. ولا يفهم من حزنهم هذا أن يكونوا عابسي الوجوه مقطّبي الحواجب، كلا، فالنبي كان يتألم لمصاب المسلمين وكان يبكي عليهم، ومع ذلك يضحك ويداعب ويحادث الناس، ولكن لكل مقام مقال.
وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج همّ الدنيا من قلبك، وبقدر ما تحزن للدنيا بقدر ما يخرج همّ الآخرة من قلبك، ويصاحب هذا الحزن خوف من الله على المحاسبة يوم القيامة.
ومن صفات صاحب الهمّ الأخروي: المحاسبة الدائمة، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر). فترى صاحب الهم الأخروي دائمًا محاسبًا لنفسه على كل قول أو فعل، وقال الحسن البصري في تفسير قوله تعالى: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:2]: "هي والله نفس المؤمن، ما يُرى المؤمن إلا يلوم نفسه: ما أردت بكلامي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ والفاجر لا يحاسب نفسه".
وهذا الحزن وتلك المراقبة لم تكن قيدًا يكبلهم في زوايا المساجد أو البيوت يبكون على أنفسهم ويتركون أهل الباطل والضلال دون إصلاح وإنكار لأنفسهم ولمن حولهم، كلا، بل الحزن الذي في قلوبهم هو المحرك لهذا العمل، فيصلحون أنفسهم، ويصلحون غيرهم، ويصبرون على البلاء والأذى الذي يلاقونه.
والمقصود بالعمل الصالح كل عمل يحبه الله تعالى من قول أو فعل ظاهر أو باطن.
والصفة البارزة في حياتهم تأثرهم بما حولهم، فهم بسبب حياة قلوبهم يربطون كل أمر في الدنيا بالآخرة، فالموت يذكّرهم بدنو الأجل مما يجعلهم يدأبون في العمل للآخرة، حتى يقدموا لأنفسهم عملاً صالحًا يرفعهم إلى أعلى الدرجات في الجنان.
هذه بعض أبرز صفات أصحاب هم الآخرة، جعلني الله وإياكم منهم.
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:18-20].
(1/3607)
وقفات مع أعمال الحج
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, فضائل الأزمنة والأمكنة
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصية باغتنام الأعمار. 2- عظم الأشهر الحُرم. 3- فضل يوم عرفة. 4- من أحوال السلف في يوم عرفة. 4- وقفات مع يوم العيد الأكبر. 5- من أحكام الأضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: ألا فاتقوا الله ـ عباد الله ـ في أنفسكم، واغتنموا ساعات العمر ولحظاته، وتعرضوا لنفحات الله الجواد الكريم، فإن لله مواسم خيرات يغفر فيها الخطيئات ويقيل العثرات ويتجاوز عن السيئات، ويعظم فيها الأجر ويضاعف الحسنات. فالله الله ـ إخوتي ـ أن تفوتكم هذه المواسم الخيّرات، فالأعمار محدودة والأنفاس معدودة، جعلني الله وإياكم من المسارعين للخيرات ولها سابقين.
عباد الله، في مثل هذه المواسم المباركة التي تتعدّد فيها الفضائل والخيرات يجد المرء نفسه أمام أعمال عديدة مباركة لا بد من التنبيه عليها، فجعلت حديثي معكم عبارة عن وقفات أذكّر بها نفسي وإخواني في الله:
فالوقفة الأولى: مع الأشهر الحرم، قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: "وإنما كانت الأشهر الحرم أربعةً ثلاثٌ سَرد وواحدة فرد؛ لأجل أداء مناسك الحج والعمرة، فحرّم قبل أشهر الحج شهرًا وهو ذو القعدة لأنهم يقعدون عن القتال، وحرّم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون بأداء المناسك، وحرّم بعده شهرًا آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرّم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمنًا". ثم قال عند قوله تعالى: فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ : "أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تعظم، فكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام. وقال ابن عباس رضي الله عنه فيها أيضًا: فلا تظلموا فيهن أنفسكم في كلّهن، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حرامًا وعظم حرمتهن، وجعل الذنب فيها أعظم والعمل الصالح والآجر أعظم، وقال: إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكنّ الله يعظّم من أمره ما يشاء".
الله أكبر يا عباد الله، ما أعظم الله وأرحمه بعباده، إذ حرّم الظلم وشدّد في تحريمه في الأشهر الحرم، وتذكّر ـ أخي الحبيب ـ بهذه الوقفة إخوةً لك في الإسلام في أصقاع من الأرض كثيرة يظلَمون، كلّ جرمهم أنهم بربهم يؤمنون، وبدينهم متمسكون، فنهبت أموالهم، وهدمت ديارهم، وانتهكت أعراضهم، ويتِّم أطفالهم، فلم يجدوا ما يسدّون به جوعتهم أو يسترون به عورتهم أو يحمون به أعراضهم، أو دارًا تقيهم حرّ الصيف أو برد الشتاء. فهلاّ جعلتَ لهم ـ أخي ـ من دعائك حظًا ونصيبًا، ومن مالك ما تحتسبه عند الله فيخلفه عليك ربك في الدنيا والآخرة؟!
وأنت أخي الكريم، الله الله في تعظيم حرمات الله، إياك ـ أخي ـ ثم إياك والظلم، إياك وظلم نفسك بارتكاب المعاصي والمنكرات وترك الصلاة ومحاربة الله سرًا وجهرًا، فإنه يمهل ولا يهمل، ولله سطوات يهلك بها الظالمين فاحذرها، إياك ـ أخي ـ وظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل، أو إيذاءهم بالقول أو الفعل، فإن حرمة المؤمن عند الله عظيمة جدًا، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وقد وعد الله بأن يستجيب لها ولو بعد حين، فاحذر أخي الحبيب.
الوقفة الثانية: مع يوم عرفة وفضله، إن يومَ عرفة ـ إخوتي ـ يوم فخرٍ للمسلمين؛ إذ لا يمكن للمسلمين في أيّ مكان أن يحتشِدوا بهذا العدد في وقت واحد إلا في هذا المكان. إن في هذا الاجتماع ـ أحبتي ـ آية عظيمة على قدرة الله سبحانه وتعالى؛ إذ يسمع دعاءَ كلّ هؤلاء في وقت واحد على اختلاف ألوانهم وألسنتهم وأجناسهم، ويعطي كلّ واحد سؤله دون أن تختلط عليه المسائل والحاجات أو تخفى عليه الأصوات والكلمات، سبحانه هو السميع البصير العلي الخبير الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
يوم عرفة هو الشّفع الذي أقسم الله به في قوله: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:3]، وهو الشاهد الذي أقسم الله به في قوله: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3] كما ثبت ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفًا ومرفوعًا في مسند الإمام أحمد: (الشاهد يوم عرفة).
يوم عرفة ـ إخوتي ـ يوم العتق من النار والمباهاة بأهله من الله للملائكة الكرام، فقد قال النبي : ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ فيغفر الله فيه لكل من وقف ومن لم يقف فيه ممن قبِل توبتهم واستغفارهم)).
ويوم عرفة ـ عباد الله ـ يوم خوف وخشوع وخشية من الله، يوم يذلّ فيه المؤمنون لربهم مخبِتين، يوم البكاء والانكسار بين يدي الغفور الرحيم، يلحون بخيرِ الدعاء وبخيرِ ما قال النبي والنبيّون من قبله: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير"، ليعلنوا بذلك صدق ولائهم لله وتوحيدهم إياه، فلا يدعون غيره ولا يرجون سواه.
وفي يوم عرفة ـ عباد الله ـ يغفر الله لمن صامه من غير الحجيج السنة التي قبلها والسنة التي بعدها. فلا إله إلا الله إخوتي، ما أحلم الله على عباده، وما أكرمه وهو الجواد الكريم.
ولقد كان لسلفنا الصالح في موقف عرفة مآثر لا تنسى ومواقف خالدة، فقد وقف مطرف بن عبد الله وبكر المزني بعرفة، فقال أحدهما: "اللهم لا تردَّ أهل الموقف من أجلي"، وقال الآخر: "ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم". ووقف أحد الصالحين بعرفة فمنعه الحياء من ربه أن يدعوه، فقيل له: لم لا تدعو؟! فقال: أجد وحشة، فقيل له: هذا يوم العفو عن الذنوب، فبسط يديه ووقع ميتًا. وروي عن الفضيل بن عياض أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشيّة عرفة فقال: أرأيتم لو أنّ هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقًا ـ يعني: سدس درهم ـ أكان يردّهم؟ قالوا: لا، قال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق. وقال ابن مبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تذرفان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر له.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام المتقين وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ فيما استرعاكم الله تعالى من الأبناء، وأحسنوا تربيتهم فإنّ الله سائلكم عنهم يوم القيامة، أصلح الله لنا ولكم ذرياتنا، إنه سميع مجيب.
عباد الله، أما الوقفة الثالثة فمع العيد، وهو يوم النحر، يوم الثجّ والعجّ، يوم الفرح بطاعة الله تعالى.
فاحرص ـ أخي ـ على شهود صلاة العيد مع المسلمين، والتكبير من فجر يوم التاسع إلى آخر أيام التشريق، ولتأتِ من طريق وترجع من آخر، وتتجمّل بأبهى زينة وأفضل حله، واحذر من اتخاذ زينة محرمة كإسبال الثياب وحلق اللحى؛ فإن الله ورسوله أمر بإعفائها وعدم أخذ شيء منها.
ومن السنة عدم الأكل قبل الصلاة حتى ترجع بعد صلاة العيد والخطبة، فتذبح الأضحية وتأكل منها.
وتجنب في اختيار الأضحية العوراء والعرجاء والمريضة والهزيلة والعضباء والهتماء، وأفضلها أكرمها وأسمنها وأغلاها ثمنًا، وقم بذبحها بنفسك، وإذا وكّلت أحدًا غيرك فلا بأس بذلك، وارفق بالأضحية عند ذبحها فلا تحدّ السكين أمامها، ومكّنها من الأكل والشرب قبل ذلك، وحدّ شفرتك قبل ذبحها، ولا تذبح واحدة بحضرة الأخرى، ويجب عند ذبحها قطع المريء والحلقوم وأحد العرقين اللذين في العنق أو كلاهما.
والسنة في تقسيمها ثلاثًا، ثلث يؤكل، وآخر يهدى، وآخر يتصدّق به على الفقراء. ووقت الذبح بعد صلاة العيد إلى آخر يوم الثالث عشر من ذي الحجة.
وتوبوا إلى الله ـ عباد الله ـ توبة نصوحًا عسى ربكم أن يغفر لكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار.
قال ابن القيم رحمه الله يصف حال الحجيج في بيت الله الحرام:
فللَّه كم من عبرة مهراقة وأخرى على آثارها لا تقدم
وقد شرقت عين المحب بدمعها فينظر من بين الدموع ويسحمُ
وراحوا إلى التعريف يرجون رحمته ومغفرة ممن يجود ويكرم
فللَّه ذاك الموقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظم
ويدنو به الجبار جل جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرم
يقول: عبادي قد أتوني محبةً وإني بهم برّ أجود وأكرم
فأشهدكم أني غفرت ذنوبهم وأعطيهم ما أمّلوه وأنعم
فبشراكم يا أهل ذا الموقف الذي به يغفر الله الذنوب ويرحم
فكم من عتيق فيه كمّل عتقه وآخر يستسعي وربك أكرم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
(1/3608)
صفات الفرقة الناجية
أديان وفرق ومذاهب
الفرقة الناجية
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
12/11/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كمال الدين وتمام النعمة. 2- فضل الصحابة وتبليغهم لدين الله تعالى. 3- الأمر بلزوم ما كان عليه السلف الصالح. 4- افتراق الأمة. 5- صفات الفرقة الناجية. 6- أصناف أهل البدع. 7- التحذير من الفتن والفرقة والاختلاف. 8- التحذير من القنوات الضالة المضلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلِحون.
عباد الله، إنَّ ربكم جلَّت عظمته وتقدَّست أسماؤه بعث صفيَّه محمّدًا على فَترةٍ من الرّسُل، وأنزل عليه الكتابَ والحِكمة، ودعَا إلى ربِّه على بصيرةٍ، فعلِم الناس من القرآن، وعلِموا من السنّة، وفقهوا في دين الله تعالى، وما لحِق رسولُ الله بالرّفيق الأعلى حتى ترَك أمّتَه على المنهاجِ الواضح والصّراط المستقيم، قال تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، وقال : ((تركتُكم على المحجَّة البيضاء، ليلُها كنهارِها، لا يزيغ عنها إلا هالك)) [1].
فبيَّن الله تعالى أصولَ الإيمان وصفاتِ المؤمنين، فقال جلّ ذكره: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]. وبيَّن الرسولُ مراتبَ الدينِ في الحديث لمّا سأله جبريلُ عليه الصّلاة والسلام وهي الإسلام والإيمان والإحسان [2] ، وسنَّ عليه الصلاة والسلام السّنَن، وشرَع الأحكام، وفصَل الحلال والحرام، وبيَّن مسائل العقيدةِ أكمَلَ بيان، وحقَّق عليه الصلاة والسلام مقامَاتِ العبودية لربِّه، وكفى نبيَّنا محمّدًا شرفًا وقَدرًا ثناءُ الله تعالى عليه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
والصّحابة رضي الله عنهم تربيةُ رسول الله ونقَلَةُ الشريعةِ والمجاهدون في سبيلِ الله، اختارَهم الله لصُحبة نبيِّه عليه الصلاة والسلام، ووصَفهم الربُّ تبارك وتعالى بالإيمان الكامِل والسَّبق إلى الخيراتِ وفِعل الصّالحات فقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفال:74]، وقال تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ [التوبة:100]، وأثنى عليهم في قوله: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) [3].
فالسّلف الصّالح حقَّقوا الحياةَ العمليّة للإسلام، وعمِلوا بالدين في حياتهم الخاصَةِ والعامّة، وطبَّقوه التطبيقَ الكامل، وهم القدوةُ في العمل بتعاليمِ الإسلام لمن أتى بعدَهم، فكانت سيرتهم منارًا للأجيالِ بعدَهم في العِلم والعمَل، فمن اتَّبع طريقَهم اهتدى وفاز بجنّاتِ النعيم، ومن خالفهم ضلَّ وغوَى وكان من الخاسرين.
ولما كان السلف رضي الله عنهم أكملَ الناس عِلمًا وعملاً وأشدَّ الناس اقتداءً بالنبيِّ رغَّب عليه الصلاة والسلام في لزومِ ما كان عليه هو وصحابتُه، وأمر بالتمسّك بما كانوا عليه من الهدَى، وأخبر أنّ الفِرقة الناجية عند اختلافِ الأمة هي ما كان عليه الرسول وأصحابه، فقال : ((افترقَتِ اليهود على إحدَى وسبعين فرقة، وافترقتِ النصارى على اثنتَين وسبعين فرقة، وستفترِق هذه الأمّة على ثلاثٍ وسبعين فرقة، كلُّها في النارِ إلا واحدة)) ، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ((من كان على مثلِ ما أنا عليه وأصحابي)) [4]. وقوله : ((كلُّها في النار)) هذا من الوعيدِ المعلوم تفسيرُه عند السلف، وهذه الزيادةُ وهي قوله : ((مَن كان على مِثل ما أنا عليه وأصحابي)) رواها الآجري من طُرق [5] ، ومعناها لا شكَّ في صحَّته.
وقد وقع ما أخبرَ به النبيّ من الاختلاف والفُرقة، ولكنّنا كُلِّفنا بالاعتصامِ بالكتاب والسنّة ونَبذِ الخلاف والفُرقة، وأُمِرنا أن نكونَ من الفرقة الناجية التي علِمت الحقَّ وعمِلت به، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة:119].
وكلُّ فِرقة منَ الفرَق الإسلاميّة تزعم أنها على الحقِّ وغيرها على الباطل، ولكن ليس للدّعاوى وزنٌ عند الله ما لم يكن لها بيِّناتٌ من العِلم النافِع والعمَل الصّالح، وقد بيَّن الله تعالى في كتابِه صفاتِ هذه الفرقةِ النّاجية، وجلَّى أمرَها رسولُ الله ؛ ليكونَ المسلم على بصيرةٍ من دينهِ وعلى نورٍ من ربِّه، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
فمِن صفاتِ هذه الفِرقة الناجية الاتباعُ بإحسانٍ لسلف الأمّة السابقين رضي الله عنهم، قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
والاتباعُ هو الاقتداء بهم في توحيدِ العبادة لله تعالى بإفرادِ الدعاء لله وحدَه وإفرادِ الاستعانة والاستغاثة بالله وحدَه والاستعاذة، فلا يُدعَى مع الله غيره، ولا يُستعان بغيرِ الله، ولا يُشرَك مع الله عزّ وجلّ في أيِّ نوع من أنواع العبادة، وإثباتِ صفات الله عزّ وجلّ التي وصف بها نفسَه ووصفه بها رسوله إثباتَ معنى، لا إثباتَ كيفيّة، وتنزيهِ الربّ تبارك وتعالى عن كلِّ ما لا يليق به، فإنَّ السلف رضي الله عنهم كانت معاني صفاتِ الله تعالى أظهرَ عندهم من معاني الأحكامِ العمليّة، ولذلك لم يسألوا عن معانيها كما سألوا في الأحكامِ، والوقوفِ حيث انتهَوا إليه في أمورِ العبادة وأحكامِ الدّين.
ومِن صفاتِ فرقةِ الحقّ الناجية الاعتصامُ بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله وردُّ التنازع والاختلافِ إلى ذلك، قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقال عز وجل: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، وتأويلُ القرآن وتفسيره بالقرآنِ وبالسنة وبأقوال الصحابةِ والتابعين، فإنَّ الله تعالى ذمَّ من اتَّبع المتشابِهَ وأوَّل بالرّأي، ومدح الرّاسخين في العلم المتّبعين غيرَ المبتدعين.
ومِن صفات فرقةِ الحقِّ الناجية التمسُّكُ بما أجمع عليه السلفُ وما أجمَع عليه علماء الأمّة وعدَمُ المشاقَّة لله ولرسوله، قال الله تعالى: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:115].
ومِن صفات هذه الفِرقة الناجيةِ تعظيمُ قولِ رسول الله وسنّته والعنايةُ بآثارِه بحفظِها والذبِّ عنها والرضَا بتحكيمِها، قال الله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]، وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وروى الآجري بسنده عن عمران بن حصين رضي الله عنه أنّه قال لرجلٍ يقول: لا أعمَل إلا بما في كتابِ الله تعالى: (إنّك أحمَق، أَتَجِد في كتاب الله عزّ وجلّ الظهرَ أربعًا لا يُجهَر فيها بالقراءة؟!) ثم عدَّد عليه الصلاةَ والزكاة ونحوهما، ثم قال: (أتّجِد هذا في كتاب الله عز وجلّ مفسَّرًا؟! إنَّ كتاب الله جلّ وعلا أحكَمَ ذلك، وإنّ السنة تفسِّر ذلك) [6] ، وروَى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال في الواشمة والمستوشمة والمتنمّصة: (ما لي لا ألعنُ من لعن رسول الله وهو في كتاب الله: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟!) [7].
ومِن صفات فِرقة الحقّ الناجية بذلُ الجهد في معرفةِ الحقّ ودلائله وعدمُ الرضا بأقوالِ الرجل في دين الله ممّا لا يؤيِّده كتابٌ ولا سنّة ولا أصلٌ أصَّلَه علماء المسلمين، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18]، وقال تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3].
ومِن صفات هذه الفرقة الناجية محبّةُ المؤمنين ورَحمة المسلمين ونُصحهم وكفُّ الأذى والشرِّ عنهم، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].
ومِن صفات هذه الفرقةِ الناجية سلامةُ قلوبهم وألسنتِهم لسلفِ الأمّة رضي الله عنهم ومحبّتُهم، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]. وهذا بخلافِ ما عليه طوائفُ من الفِرَق الإسلامية من سبِّهم ولعنهم للصّحابة وسبِّهم لخِيار الأمة وساداتِ الأولياء رضي الله عنهم.
ومّن صفات هذه الفرقةِ الناجية القيامُ بالدين عمَلاً به ودعوةً إليه وإقامةً للحجة على المخالفين وجهادًا في سبيله، قال الله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54]، وروى مسلم في صحيحه أنَّ النبيَّ قال: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحقِّ ظاهرين، لا يضرّهم من خالفهم ولا من خذَلهم حتى يأتيَ أمر الله وهم على ذلك)) [8].
ومِن صفات هذه الفرقةِ الناجية النصيحةُ لله ولكتابه ولرسولِه ولأئمة المسلمِين وعامّتهم، وطاعةُ ولاة الأمر وأمرُهم بالمعروف ونهيُهم عن المنكر بالحكمة والصّواب، وطاعتُهم في المعروف وعدمُ الخروج عليهم ما لم يكن كفرٌ بواح فيه من الله برهان، بخلاف بدعةِ الخوارج الذين يستحلّون دماءَ المسلمين وأموالهم، ويرَونَ الخروجَ على الأئمّة ويستحلّون قتلَ النفوس المعصومَةِ.
ثم إنَّ أهلَ البدعِ قسمان: أئمّةٌ وأتباع، والأئمّة من أهلِ البدع منهم من انتحَلَ مذهبَه بسوءِ قصدٍ وكيد للإسلام، ومنهم من انتحَلَه بحسن نيَّةٍ، وكلٌّ هالك إلاّ أن يتوبوا ويكونوا مع المؤمِنين، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7].
أيّها المسلم، تمسّك بما كان عليه سلفُ الأمّة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، ووعدَهم الجنّة، وشهد لهم بالإيمانِ الكامل، وعُضَّ على ذلك بالنواجِذ، ولا تغترَّ بكثرةِ الهالكين، ولا تستوحِش من قلّةِ السالكين.
ومِن صفاتِ هذه الفرقةِ الناجية الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر والدّعوة إلى دين الله بالحِكمة والموعظة الحسنة وتبليغُ الحقِّ للناس، قال الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، ويقول : ((مَن رأى مِنكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبِلسانه، فإن لم يستطِع فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان)) رواه مسلم [9] ، والتّغييرُ باليدِ للسّلطان ونُوَّابه. ويقول تبارك وتعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
هذه صفاتُ الفرقة الناجية من الفِرق الإسلامية التي تسير على نهجِ سلف الأمة من الصحابة والتابعين ومَن تبعهم بإحسان، فكونوا على نهجهِم وسبيلِهم تفوزوا بخيرَي الدنيا والآخرة.
يا معشر المسلمين، وقد حذّر رسولُ الله من مخالفةِ هديِه وهدي أصحابه الأخيار، فقال عليه الصلاة والسلام: ((وإياكم ومحدثاتِ الأمور؛ فإنّ كلَّ بدعةٍ ضلالة)) [10] ، قال الله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:12].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفَعَني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعَنا بِهديِ سيّد المرسلين وبقولهِ القويم، أقول قولِي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (4/126)، وابن ماجه في مقدمة السنن (43)، وابن أبي عاصم في السنة (48)، والطبراني في الكبير (18/257) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه الحاكم (331)، وحسن إسناده المنذري في الترغيب (1/47)، وهو في السلسلة الصحيحة (937).
[2] حديث سؤال جبريل عليه السلام للنبي عن الإسلام والإيمان والإحسان أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9، 10) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه مسلم أيضا في الإيمان (8) من حديث عمر رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الشهادات (2651)، ومسلم في فضائل الصحابة (2535) عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في الإيمان، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة (2641) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما نحوه، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2129). وفي الباب عن عدد من الصحابة.
[5] الشريعة (23، 24، 25).
[6] الشريعة (104).
[7] مسند أحمد (1/433).
[8] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1920) عن ثوبان رضي الله عنه.
[9] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (49) عن أبي سعيد رضي الله عنه.
[10] جزء من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه المشهور، أخرجه أحمد (4/126-127)، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (46)، والدارمي في مقدمة سننه (95) وغيرهم، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (1/179)، والحاكم (1/95-96)، ووافقه الذهبي، ونقل ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/109) عن أبي نعيم أنه قال: "هو حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (37).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله علاّم الغيوب غفّار الذنوب، يفرِّج الكروب ويهدي القلوب، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأثني عليه الخيرَ كلَّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، خيرتُه من خلقِه، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله وأطيعوه، فمن تمسَّك بتقواه فاز بالأجرِ العظيم ونُجِّيَ من عذابٍ أليم.
أيها المسلمون، لقد حذَّر الله تعالى من الفِتَن، ونهى عن الفُرقة والخلاف، وأمر بالاجتماعِ والتعاون على الخيرِ والائتلاف، فقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
وتحذيرُ القرآن والسنّةِ من الفتنِ ومِنَ الفُرقة لأنّها تذهَب بالدين أو تُضعفه أو تُنتَهَك فيها الحرُمات والأعراض أو تَذهب بالأموال وتفسِد الحياةَ الدنيا، وفي الحديث: ((إيّاكم والفتنَ)) [1].
ومِن الفِتن في هذا الزمان القنواتُ التي تهدِم الدينَ والأخلاق وتدعو إلى الانحراف، وكذلك المواقِعُ الضارّة في شبكةِ المعلوماتِ وما أكثرَها، فإنها تدعو إلى كلِّ شرٍّ وتصدُّ عن كلِّ خَير، وتحسِّن محاكاةَ الأمَمِ غيرِ الإسلامية في كلّ شيء، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((لتتبعُنَّ سَنن من كان قبلَكم حذوَ القُذّة بالقذّةِ حتى لو دخَلوا جحرَ ضبٍّ لدخلتموه)) رواه البخاري ومسلم [2] ، وإخبارُه بذلك لتحذيرِ أمّته من التشبّه بالكفار.
وإنَّ من القنواتِ المفسِدة التي يجِب علَى المسلمِ الحذرُ مِنها ومُقاطعتُه لها هي وأمثالها قناةُ الإصلاح وفَقيهُها التي تبثّ السمومَ بين المسلِمين وتدعو بين وقتٍ وآخر إلى المظاهراتِ والتّخريب، كما نحذّر كلّ مسلِمٍ ممّن ينتهج هذا النّهج الذي يدعُو إلى الفوضَى والإفسادِ في الأرض، فإنّ هذه المظاهراتِ عملٌ غوغائيّ فوضويّ ممقوت، لا تجوز المشاركةُ فيها شرعًا، ولا الذهابُ إلى مكانها للمشاهَدةِ والتّسلية؛ لأنّه تكثير لسوادِ أهلها، ولأنّ فيه نوعًا من تأييدِها، ولأنها تعرّض المسلمين للخطر في الأنفسِ والأموال، قال الله تعالى: وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف:142]. وإنها لا مكانَ لها في بلادنا ولله الحمد، ويجب أن لا يكونَ لها مكانٌ في بلاد المسلمين، وكلّ من ينتهج نهجَ التخريب والإفساد والعُدوان والظلم لا يمتُّ عملُه هذا إلى الإسلام بأيِّ صِلةٍ وإن سمَّى عملَه جِهادًا وإصلاحًا، فالعِبرة بالمعاني والمسَمَّيات، وليستِ العبرةُ بالأسماء.
عبادَ الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قَالَ : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدَة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسَلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرا...
[1] رواه ابن ماجه في الفتن (3968)، وابن عدي في الكامل (6/177) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وإسناده مسلسل بالضعفاء، ولذا قال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (860): "ضعيف جدا".
[2] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام (7320)، صحيح مسلم: كتاب العلم (2669) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه نحوه.
(1/3609)
بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحج والعمرة, المسلمون في العالم, فضائل الأزمنة والأمكنة
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
12/11/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الكعبة قبلة المسلمين جميعًا ومهوى أفئدتهم. 2- المعاني الخالدة في أداء مناسك الحج. 3- فضيلة مكة المكرمة. 4- فضل الوقوف بعرفة. 5- تلاشي الفروق الطبقية في الحج. 6- عِظَم أجر الحاج. 7- العلاقة بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى. 8- واجب الحجاج تجاه قضية القدس. 9- منزلة القدس عند المسلمين. 10- موقف الأمة الإسلامية والعربية والعالم أجمع من القضية الفلسطينية.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق [الحج:26-29].
أيها المسلمون، في هذه الأيام الميمونة المباركة تحنّ قلوب المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها وتهفو إلى الكعبة المشرفة ليؤدوا فريضة الحج، وليطوفوا بالبيت العتيق، وليشهدوا منافع لهم، كما تهفو القلوب والأرواح إلى زيارة مسجد سيدي رسول الله ؛ ليتمتعوا بجوار الحبيب في الروضة المطهرة، وليقتفوا آثار نبي الهدى والرحمة في رحلة روحية مباركة وضيافة إلهية رحمانية ميمونة، آملين القبول والمغفرة من رب العالمين.
أيها المسلمون، إن هذا البيت الحرام هو قبلة المسلمين جميعًا، وملتقى جموعهم من أقاصي الدنيا، يفدون إليه من كل فج عميق ليجدّدوا العهد بالله وفي بلد الله، وليعاهدوا الله على الإخلاص لدينهم، والتحرّر من عبودية المخلوق أيًّا كان وضعه، وعلى التعلّق به سبحانه دون سواه.
أيها المؤمنون، هذا البيت المشرف هو الرمز الخالد للحنيفيه وشعائر الدين، وهو الأثر العظيم البارز لإمام الحنفاء. وفي القيام بتأدية الشعائر الإسلامية في رحاب هذا البيت تجديد لذكرى هذه النعمة التي شرف الله بها خليله، وتخليد لمبدأ الوحدة للواحد الأحد الفرد الصمد.
ففي الطواف بالبيت واستلام أركانه معنًى من معاني التوحيد والاستسلام لربّ هذا البيت والإذعان لطاعته، وفي التجرّد من الثياب المعتادة ولباس ثياب الإحرام والكشف عن الرؤوس والتفرغ لله في موقف عرفات وفي نحر الهدي أو ذبح الأضاحي ورمي الجمار والإقامة بمنى، في كل هذه الأعمال والمناسك مظهر العبودية التامة لله الواحد القهار، وتحقيق للغرض الأسمى الذي خلق الله الخلق من أجله، قال الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات:56-58].
أيها المسلمون، إن مكة المكرمة هي خير أرض الله، وأحبها إلى رسوله الكريم، وقد حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة، ولا تزال هذه الأمة بخير ما عظّموا هذه الحرمة حق تعظيمها، فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا.
نعم أيها المؤمنون، لقد أكرم الله المسلمين بالحج، فجعل الوقوف بعرفة تكفيرًا للذنوب لكثرة نزول الرحمة في هذا اليوم العظيم. فإذا ما وقف ضيوف الرحمن بعرفات، وضجّت الأصوات بالحاجات والدعاء، باهى الله بهم ملائكته من فوق سبع سماوات قائلا: ملائكتي وسكان سماواتي، أما ترون إلى عبادي، أتوني من كل فج عميق، شُعثًا غُبرًا، قد أنفقوا الأموال، وأتعبوا الأبدان، فوعزتي وجلالي وكرمي لأهبنّ سيئهم بمحسنهم، ولأخرجنهم من الذنوب كيوم ولدتهم أمهاتهم. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟ فيقولون: يا ربنا، يريدون العفو والمغفرة، فيقول الله تعالى: يا ملائكتي، أشهدكم أني قد غفرت لهم وعفوت عنهم)).
أيها المسلمون، في جوار هذا البيت تتكوّن الصلة والعلاقة بين المسلمين، ويسود الوئام، وتتجلى الألفة والمحبة، وينسجم الجميع تحت شعار الإسلام وكلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، مبتعدين عن كل لون من ألوان المبادئ الهدامة والدعاوي العنصرية. في هذا البلد يتساوى الناس حيث جعله الله تعالى: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25].
وبالحج يكمل الدين ويتمّ، ففي حجة الوداع أنزل الله تعالى قوله: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وحينما نزلت هذه الآية قال أهل الكتاب: لو أُنزلت علينا هذه الآية لجعلنا يومها يوم عيد، فقال عمر : (أشهد لقد أنزلت في يوم عيدين اثنين، في يوم عرفة ويوم جمعة بعد العصر على رسول الله أثناء وقوفه بعرفه). ثم استشعر صلوات الله وسلامه عليه من هذه الآية قرب أجله. إن الكمال علامة على الزوال، ثم ودّع أصحابه في خطبته بمنى وقال: ((اللهم اغفر للحاج، ولمن استغفر له الحاج)).
أيها المسلمون، إن الحج من أفضل الأعمال، فعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله : أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((ثم جهاد في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((ثم حج مبرور)) ، والحج المبرور هو الحج الذي لا يخالطه إثم، وقال الحسن: "أن يرجع زاهدًا في الدنيا، راغبًا في الآخرة".
قال الله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197]، ويوضح ذلك قول رسولنا الأكرم: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) ، أي: رجع بلا ذنب. وقوله وقد سئل عن بر الحج: ((بر الحج إطعام الطعام وإفشاء السلام وطيب الكلام)).
أيها المسلمون، ورد عن عمرو بن العاص أنه قال: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت رسول الله فقلت: ابسط يدك فلأبايعك، قال: فبسط يده فقبضت يدي، فقال: ((ما لك يا عمرو؟)) قلت: أشترط، قال: ((تشترط ماذا؟)) قلت: أن يغفر لي؟ قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله، وأن الهجرة تهدم ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله؟!)).
إن جميع وجوه البر عامل قويّ في تزكية الحج وجعله مبرورًا، ويدخل في ذلك تحرّي الكسب الحلال والبعد عن الرياء والسمعة وعن المباهاة بالأعمال وعن التعالي في مظاهر الحج عمومًا، فإن ذلك أدعى لرجاء القبول، وقد ورد في السنة أن رسول الله صلى الصبح بمنى يوم عرفة، ثم غدا إلى عرفات وتحته قطيفة اشتريت له بأربعة دراهم، وهو يقول: ((اللهم اجعلها حجة مبرورة متقبلة، لا رياء فيها ولا سمعة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، فإن وجود الحجاج على أرض المسجد الحرام يذكّرهم بالصلة القوية بينه وبين المسجد الأقصى المبارك، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الإسراء:1].
هذان المسجدان أُسّسا لإقامة شعائر دين الله الذي رضيه لعباده، ألا وهو دين الإسلام. إنه ميراث النبوة، فالأنبياء لم يورثوا عقارًا ولا مالاً، وإنما ورثوا العلم والقيم الروحية والأخلاقية.
والمسلمون اليوم مطالبون بالعمل على تحرير المقدّسات الإسلامية وفي مقدّمتها المسجد الأقصى؛ لأن البقاء ليس للأقوى وإنما للأصلح، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
ولذا يتوجب على حجاج بيت الله الحرام أن يجعلوا قضيةَ المسجد الأقصى ومدينة القدس في مقدمة القضايا التي يجب أن تبحث وأن تناقش، وذلك بإظهار مكانتها وأهميتها في نفوس المسلمين، وإظهار ما تتعرض له من حملات التهويد وتغيير المعالم الإسلامية فيها، ومصادرة البيوت وهدمها، وإخراج أهلها منها، وعزلها عن بقية المدن والقرى الفلسطينية، ومنع المسلمين من الوصول إليها والصلاة في المسجد الأقصى المبارك.
إن مدينة القدس هي في طليعة الأماكن المقدسة لدى العرب والمسلمين، ولا توازيها في القداسة سوى مكة والمدينة، وقد عبر عن ذلك القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي في رسالة بعث بها إلى ملك إنجلترا قال فيها: "القدس لنا، وهي عندنا أعظم مما هي عندكم، فإنها مسرى نبينا ومجتمع الملائكة".
نعم أيها المسلمون، إن مدينة القدس ستبقى خالدة بذكرى الإسراء والمعراج المذكورة بالقرآن الكريم، وسيبقى عطر سيد البشرية فوّاحًا من رُباها الطيبة، وآثار معراجه إلى السماوات العلى حيث سدرة المنتهى باقية على صخرتها المشرفة، ولم تزل ذكرى اتخاذها قبلة للمسلمين في صدر الإسلام في سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم، فمكانتها عظيمة في القلوب والأرواح.
لقد برزت مكانة القدس بعد دخولها في الحكم الإسلامي على يد عمر بن الخطاب الذي دخلها في ظل فتح سِلمي آمن، يليق بمكانتها وجلالها، وبصحبته عشرات الصحابة والأجلاء. وكما قيل: لو كان شيء من الأرض يرتفع عن مكانه لارتفعت مدينة القدس على أجساد الشهداء حتى بلغت عنان السماء، ومنذ ذلك اليوم حكمها المسلمون حكمًا قائمًا على العدل والرحمة والتسامح؛ ولذا فإن السند التاريخي ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن القدس إسلامية عربية ومعها أرض الإسراء والمعراج. لقد شهدت عبر عصور الإسلام الزاهرة حياة مشرقة بالحق والعدل، وتعاقبت عليها رعاية الدولة الإسلامية، واهتم المسلمون بتجديدها وتعميرها والحفاظ عليها، وبذلوا أقصى ما في وسعهم لرعاية المسجد الأقصى تعميرًا وترميمًا وإصلاحًا، ولذا فإن المسلمين جميعًا هم أصحاب الحق الشرعي فيها، ولا يملك أي إنسان حق التنازل عن هذا المكان المقدس، وستبقى هذه المدينة المقدسة مفتاح الحرب ومفتاح السلام، وعلى العقلاء من الناس أن يدركوا ذلك جيدًا.
أيها المسلمون، جاء في الحديث الشريف عن أبي ذر قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله أيهما أفضل: أمسجد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله: ((صلاة في مسجدي أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض، حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعًا)) قال: أو قال: ((خير من الدنيا وما فيها)).
أيها المرابطون، وها نحن نعيش في زمن نجد فيه صدق ما أخبر به النبي مما ستكون عليه مدينة القدس، حيث يسعى المحتلون بكل الوسائل والطرق لتفريغها من أهلها الشرعيين، والتضييق عليهم بأشد أنواع الإجراءات القمعية والتعسفية، حتى لا يستطيع أحد الوصول إليها إلا بشق الأنفس. وما محاولة إغلاق الطرق الموصلة إلى باب المغاربة إلا عملية لما يخططون له ويسعون إلى تحقيقه.
أيها المسلمون، إن الناظر في حال الأمة العربية والإسلامية يُصاب بالذهول والدهشة، ويقف حائرًا أمام النكبات التي تنزل بها وتتوالى عليها بين الحين والآخر. إنها في سبات عميق وفي غفلة عما يحاك ضدها على جميع المستويات، تتداعى الأمم عليها كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، بالرغم من كثرة العدد ووفرة العدة، فالأعداء يحتلون أرضها ويستعمرونها وينهبون خيراتها وثرواتها ويتحكمون في نفطها وبترولها.
كثير من أبنائها يذبحون ويقتلون على مرأى ومسمع من دول العالم الكبرى، بل هناك شعوب منها تتعرض للإبادة والتطهير العرقي كما هو حاصل في فلسطين والعراق وغيرهما، وسط صمت دولي رهيب، وصمت عربي إسلامي مريب، ودون مشاهدة ردة فعل غاضبة تجاه ما يحصل. إن المجازر التي شاهدناها في خان يونس وفي كثير من المدن العراقية وهدم البيوت وتشريد أهلها منها وتركهم في العراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، كل ذلك دليل على أن هؤلاء لا يريدون لهذه الأمة ولا لهذا الشعب خيرًا، فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك.
(1/3610)
غزوة تبوك وواقع المسلمين اليوم
سيرة وتاريخ
غزوات
سمير بن عبد الرحمن عبدات
دالي إبراهيم
النصر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب غزوة تبوك. 2- تجهيز الجيش. 3- ظروف الغزوة. 4- تحرك الجيش إلى تبوك وما حصل في الطريق. 5- انتصار المسلمين وعودتهم إلى المدينة. 6- المتخلفون عن الغزوة. 7- دروس وعبر من غزوة تبوك.
_________
الخطبة الأولى
_________
في السنة التاسعة من الهجرة بلغ المسلمين وهم في المدينة النبوية أنّ هرقلَ عظيم الروم قد جهّز جيشًا قِوامُه أربعون ألفَ مقاتل، يريد غزوَ المسلمين في ديارهم، فرأى النبي أنه لا بد من القيام بغزوةٍ فاصلة يقوم بها المسلمون ضدّ الرومان في حدودهم قبل أن يبلُغوا ديارَ المسلمين، فخطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناسَ، وأمرهم أن يتجهّزوا للقتال، وبيّن لهم خطورةَ الموقف وشِدّته ليتأهّبوا له أهبَتَه، ثم حثّهم على الجهاد ورغّبهم في بذل الصدقات وقال: ((من يجهّز جيشَ العسرة وله الجنّة؟)) فقام عثمان وطرَح تجارته كلَّها التي جمعها من صِباه بين يدَي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: أنا أجهّز جيشَ العسرة يا رسول الله، فدمعت عينا النبيِّ ثم قال: ((اللهم اغفر لعثمان ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر)) ، فقال الناس: آمين، ثم أخد الناسُ يتصدّقون: أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب وطلحة وسعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة وخلق كثير غيرهم.
وكان أوان هذه الغزوةِ في حرٍّ شديد شديد يشوي الظليم وهو ذكر النّعام، وتتلمّظ منه الحيّة، فعرِفَت هذه الغزوة بغزوةِ العُسرة لأنها جاءت في فصل الحرّ وقد نضجت الثّمار وامتدّت الظّلال وعذُب الماء، ثم مع ذلك كانت المسافةُ إلى تبوك بعيدةً والمشقّة في السفر إليها متحقِّقة.
ثم تحرّك الجيش يريد تبوك، وقد بلغ تعدادُه ثلاثين ألفًا في جمع كبيرٍ ما شُهِد مثلُه في جيوش المسلمين من قبل، حتى إن المسلمين لم يستطيعوا تجهيزَه تجهيزًا كاملا رغم كلّ ما بذلوه، فأكلوا في طريقهم أوراقَ الشجر حتى تورّمت شفاهُهم، وكان ثمانيةَ عشرَ رجلا يعتقِبون بعيرًا واحدا، حتى إن جمل أبي ذرّ قد تثاقل عن حمله، فنزل عنه أبو ذر وحمل متاعَه على ظهره وأخذ يمشِي على قدمَيه والأرض قد التهبَت حرًّا يريد أن يدركَ النبيَّ ، ولا عجبَ فإنّ ذلك كان نابعًا من قوة إيمانهم وتحقّق يقينهم بما وعد الله تعالى المجاهدين في سبيله من الفضل الكبير والأجر العظيم.
وفي الطريق عسكَر الجيش الإسلاميّ، فافتقد النبيّ كعب بنَ مالك وكان من خِيرةِ الرجال فقال: ((أين كعب بن مالك؟)) فقال رجل يحسَب من المنافقين: أَلهَاه النظرُ في بُرديه أي: ثوبيه، فقام معاذ بن جبل فردّ عنه وقال: ما علِمنا عنه ـ يا رسول الله ـ إلاّ خيرًا، إنه لمؤمِن صادقٌ مجاهد، ثم واصل الجيش مسيرَه فلمّا بلغ أرضَ تبوك عسكَر هناك، وقام النبيّ فيهم خطيبًا، فخطب خطبةً بليغة حضَّ فيها على خيرَي الدنيا والآخرة، وحذّر وأنذر، وبشّر وأبشر، فجبر نقصَهم ورفَع معنوِيّاتهم.
فلمّا سمع الرومان وحلفاؤهم بزحف رسول الله أخذهم الرعبُ، فلم يجترئوا على التقدُّم واللقاء، بل تفرّقوا في البلاد خائبين خاسِرين، وأعزَّ الله جندَه، فقفلوا راجعين مظفرين منصورين لم ينالوا كيدًا، وكفى الله المؤمنين القتال. وفي طريق العودة حاول اثنا عشرَ رجلا من المنافقين الفتكَ بالنبي ، فأحاطوا به عند عَقَبة وهم متلثِّمون، فردّ الله كيدَهم، وأحبط تدبيرَهم، ففرّوا هاربين مرعوبين وقد همّوا بما لم ينالوا كما قال الله عز وجلّ.
وبلغ الجيش المدينةَ النبويّة، فخرج النساء والصبيان والوِلدان يقابلون الجيش ويرحّبون به.
ولم يتخلّف عن هذه الغزوة إلاّ بضعٌ وثمانون من المنافقين وجمعٌ من أهل الأعذار وثلاثةُ نفرٍ من المؤمنين الصادقين لم يكن لهم عذر، فجاء المنافقون يعتذِرون بأعذارٍ شتى والله يعلم إنهم لكاذبون، فقبل النبيّ منهم علانيّتَهم ووكل سريرَتهم إلى الله، أمّا النفر الثلاثة فقد اعترفوا بذنبِهم، فأمر النبيّ بهجرِهم حتى تنكّرت لهم الأرض، وضاقت عليهم بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، ثم تاب الله عليهم.
وأما أصحاب الأعذار من الضعفاء والمرضى فقد رفع الله عنهم الحرَج حتى قال النبي حين دنا من المدينة: ((إن بالمدينة رجالا ما سِرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر)).
_________
الخطبة الثانية
_________
لله ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن لا إله إلا الله فاطر الأرض والسماوات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ختم الله به الرسالات وبعثَه رحمةً للبريات.
أيها الناس، هذا حال الجيلِ الأول من أصحاب النبيّ ، فما حالُنا؟ هذه شمائلهم وأفضالهم فما شمائلنا وأفضالنا؟
عثمان يعد بتجهيز الجيش من مالِه، وأبو بكر يأتي بماله كلِّه، وعمر يأتي بنصف ماله، ومِن المسلمين اليومَ من يجمَعون ويمنعون وفي سبيل الله لا يتصدّقون، بل في اللهو والباطل هم ينفقون، وفي الصدّ عن سبيل الله أموالَهم يبذلون وهم لا يشعُرون.
صحابةُ النبي تحت حرِّ الشمس يمشون، وعلى الرّمال الملتهبة بأقدامهم يطؤون، وخلقٌ كثير منَ المسلِمين على رِمال الشواطئ يستَرْخون، وهم للعورَات كاشفون، وللمفاتن مظهِرون، ولربِّ السموات والأرض بالمعاصي مبارِزون، نساءً ورجالا جميعا مختلطون.
أبو ذر يترك بعيرَه، ويحمِل متاعَه على ظهره، ويمشي على قدمَيه حتى يدرك النبيّ ، فلا يفوته الموقف الجليل، وخلقٌ كثير من المسلمين اليوم قد شغِل عن إدراك الجماعات وحضور الصلوات بتتبُّع المسلسلات ومشاهدَة المباريات لكأس أوربا للأمَم.
النبيّ يتفقّد أصحابَه ويسأل عن إخوانه، ومِنَ المسلمين اليومَ من يبيت شبعانَ وجارُه إلى جنبِه جوعان وهو لا يدري.
رجلٌ من المنافقين يقع في عِرض كعبِ بن مالك، فيردّ معاذ بن جبل عن عرض أخيه، ومن ردّ عن عرض أخيه بالغيبة ردّ الله عن وجهِه النارَ يوم القيامة، ومِنَ المسلمين اليومَ من يقع حتى في أعراض العلماء والفضلاء وقلّما يردّ عنهم أحد.
نفَر من المنافقين يريدون الفتكَ بالنبيّ ، فيردّ الله كيدهم ويعصم نبيّه، وخلق لا يحصَون اليومَ يريدون الكيدَ بسنّة النبيّ ، فهم لها تاركون وعنها معرضون، بل هم لها محاربون وإن كانوا لا يظهرون وبغير ذلك يتملّقون، ردَّ الله كيدهم وخيَّب سعيهم.
في تبوك يخطب النبيّ خطبةً بليغة فيتأثّر الجيش، وتشحذ الهمم، وتقوى العزائم، وترتفع المعنويّات، والمسلمون اليومَ يسمعون العِظاتِ ويحضرون المحاضرات ويجتمعون في الجُمُعات، فخُطبٌ تُلقى وكلِماتٌ تتلى، ولكن تدخل من اليُمنى وتخرج من اليُسرى إلا من رحم الله.
المخلَّفون بلا عذر مِن المؤمنين الصادقين يعترفون بذنبِهم ويتوبون إلى ربّهم ويرضَون بحكمه ويسلّمون لأمره، ومن المؤمنين اليومَ من يصِرّ على المعاصي والذنوب ويجاهر بها علاّمَ الغيوب وآياتُ الله عليه تتلَى وعِظاتُه إليه تَترى، ثم هو إلى الله لا يتوب ولا يؤوب.
المنافقون في زمن النبيّ يكيدون للإسلام بالليل والنهار، وقد وجد في هذا الزمان من أبناء جِلدتنا وممّن يتكلّمون بألسنتنا من يكيد للإسلامِ سِرًّا وجهرًا، أولئك بنو عِلمان.
أيّها النّاس، لقد نصر الله نبيّه وأعزَّ جنده لأنهم أخذوا بتعاليم الكتاب والتزموا فصلَ الخطاب، وخُذِلنا وأُذلِلنا نحن اليومَ لأننا أعرضنا عن آيات الكتاب وابتغينا العزّةَ في الوقوف على أبواب اليهود والنصارى محرِّفي الكتاب.
فهلاّ من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس وعودةٍ جادّة إلى الحق، فإن الأيام تمضي، والأعوام تنقضي، والآجال تتصرم، والموعد مع الله حق، واللقاء به آت، والوقوف بين يديه ثابث، ثم إنا من السؤال على يقين، ومن الجواب السّديد في شكّ، فالله الله أيها المسلمون، توبوا إلى الله واتقوه، واخشَوه وراقبوه، تزوّدوا من صالحات الأعمال، وأقلِعوا عن سيّئات الأقوال والأفعال، رَبّوا أبناءكم على الإسلام وأدّبوهم بأدب خير الأنام، وخذوا على أيدي سفهائكم، واتقوا الله فيما استرعاكم.
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبما فيه من الآيات والذكر الحكيم...
(1/3611)
مواقف من سيرة عمر بن الخطاب
سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, تراجم
سمير بن عبد الرحمن عبدات
دالي إبراهيم
النصر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظمة أمة الإسلام. 2- وقفة مع علم من أعلام الإسلام. 3- فضائل عمر رضي الله عنه. 4- ثناء الصحابة غيرهم عليه. 4- عمر الخليفة العادل. 5- صور من زهده وخزفه من الله تعالى. 6- قصة استشهاد عمر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، إنّ هذه الأمة أمة عظيمة، أمّة كريمة مجيدة، ما شهد التاريخ مثلَها، وما عرف المخاض مولودًا أكرم على الله منها، أمّة تغفو ولكنّها لا تنام، قد تمرض ولكنّها لا تموت، أمّة أنجبت للدّنيا علماء فقهاء، وأخرجت للكون أبطالا شرفاء، ولنا اليوم وقفةٌ مع تاريخِ هذه الأمة، لنقلّب الصفحات نلتمّس العبَر والعِظات.
اقرؤوا التاريخ إذ فيه العبر ظل قوم ليس يدرون الخبر
ووقفةُ اليوم مع علَم من أعلام هذه الأمة، ورجلٍ من خِيرة رجالاتها، صائم إذا ذكر الصّائمون، وقائم إذا ذكِر القائمون، وبطَل مِغوار إذا ذكِر المجاهدون. إذا ذكر الخوف قيل: كان له خطّان أسودان من البكاء، وإذا ذكر الزّهد والإيثار قيل: لم يكن يأكل حتى يشبَع المسلمون، وإذا ذكِرت الشدّة في الحق قيل: هو الذي كان إبليس يفرق من ظلّه، والشياطين تسلُك فجًّا غيرَ فجِّه.
أحسبكم قد عرفتموه، إنه الفاروق عمر بن الخطاب صاحب رسول الله ، ورفيقُه في دعوتِه وجهاده، والخليفة الراشد بعد وفاة النبي وصاحبه رضي الله عنه.
أسلم عمر فأعزّ الله به الإسلام، وهاجر جهرًا، وشهِد مع رسول الله بدرا وأحدًا والمشاهد كلَّها، وهو أوّل خليفة دعِي بأمير المؤمنين، وأوّل من كتب التاريخ للمسلمين، وأوّل من جمع القرآن في المصحف، وأوّل من جمع الناس على صلاةِ التراويح، وأوّل من طاف بالليل يتفقّد أحوالَ المسلمين، حمل الدّرّة فأدّب بها، وفتح الفتوحَ، ووضع الخراجَ، ومصَّر الأمصار، واستقضَى القضاة، ودوّن الديوَان، وفرض الأُعطية، وحجّ بأزواج رسول الله في آخر حجّةٍ حجّها، قال ابن عمر: سمعت رسول الله يقول: ((بينما أنا نائم أوتيت بقدح من لبنٍ، فشربت منه حتى إني لأرى الرِّيّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلِي عمرَ)) ، قالوا: فما أولتَ ذلك؟ قال: ((العلم)).
قال ابن مسعود: إذا ذكِر الصالحون فحيّهلا بعمر، إنّ عمرَ كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، كان عمر شديد الخوف من ربّه، عظيم الخشية له، وكان يقول: (لو مات جديٌ بطفّ الفرات لخشيت أن يحاسب الله به عمر).
وعن عبد الله بن عامر قال: رأيت عمر بن الخطاب أخد تِبنة من الأرض فقال: ليتني كنتُ هذه التّبنة، ليتني لم أُخلق، ليت أمّي لم تلِدني، ليتني لم أكن شيئًا، ليتني كنت نِسيا منسيًّا.
وقال الحسن: كان عمر يمرّ بالآية من ورده فيسقطُ حتى يعاد منها أيامًا.
عرَف عمر ربَّه، وعرف قدرَ نفسه، فتواضع لله، فرفَع الله ذكرَه وأعلى شأنه، قال عبيد الله بن عمر بن حفص: إنّ عمر بن الخطاب حمل قربةً على عنقه فقيل له في ذلك فقال: إنّ نفسي أعجبتني فأردتُ أن أذلَّها.
بويع بالخلافة فكان سيفًا على أهل الباطل شديدًا عليهم، وسندًا لأهل الحقّ ليِّنا معهم، قام على الأرامل والأيتام، فقضى لهم الحاجات، وفرّج عنهم الكربات، روِي أنّ طلحة رضي الله عنه خرج في ليلةٍ مظلمة فرأى عمرَ قد دخل بيتًا ثم خرَج، فلمّا أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت فإذا فيه عجوزٌ عمياء مقعدَة لا تقدِر على المشي، فقال لها طلحة: ما بال هذا الرجل يأتيك؟! فقالت: إنه يتعاهدني من مدّةِ كذا وكذا بما يصلِحني ويخرج عني الأذى.
ولما رجع من الشام إلى المدينة انفرد عن الناس ليتفقّد أحوالَ الرعية، فمرّ بعجوزٍ في خِباء لها فقصدها، فقالت: يا هذا، ما فعل عمر؟ قال: قد أقبل من الشام سالمًا، فقالت: لا جزاه الله خيرا، قال: ولم؟ قالت: لأنّه ـ والله ـ ما نالني من عَطائه منذ تولّى أمرَ المسلمين دينارٌ ولا درهم، قال: وما يدرِي عمر بحالِك وأنت في هذا الموضع؟! فقالت: سبحان الله! والله ما ظننت أن أحدًا يلي على النّاس ولا يدري ما بين مشرِقها ومغرِبها، فبكى عمر وقال: واعمراه، كلّ أحدٍ أفقه منك يا عمر، حتى العجائز. ثم قال لها: يا أمةَ الله، بكم تبيعيني ظلامَتك من عمَر، فإني أرحمه مِنَ النّار، فقالت: لا تستهزئ بنا يرحمك الله، فقال: لست بهزّاء، فلم يزل بها حتى اشتَرَى ظلامتَها بخمسةٍ وعشرين دينارا. فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فوضعَت العجوز يدَها على رأسها وقالت: واسوأتاه! شتمتُ أميرَ المؤمنين في وجهِه، فقال لها عمر: ما عليك يرحمك الله، ثم طلب رقعةً من جِلد يكتب عليها فلم يجد، فقطع قطعة من مرقعته وكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى به عمر من فلانة ظلامتها منذ ولي إلى يوم كذا وكذا بخمسة وعشرين دينارا، فما تدّعي عند وقوفه في الحشر بين يدَي الله تعالى فعمر منه بريء. شهد على ذلك علي وابن مسعود)، ثم دفع الكتاب إلى أحدهما وقال: إذا أنا متّ فاجعله في كفني ألقى به ربي.
فرحم الله عمر، جمعت له الدنيا فأعرض عنها وزهد فيها، قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يرِدها. قال قتادة: كان عمر يلبس وهو خليفة جبّةً من صوف مرقوعا بعضها. وعن أبي عثمان النهدي قال: رأيت عمر يطوف بالبيت وعليه جبّة صوف فيها اثنَتا عشرة رقعة.
وجيء بمال كثير من العراق فقيل: أدخِله بيت المال، فقال: لا وربّ الكعبة، لا يُرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين، فجعل بالمسجد وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار، فلما أصبح نظر إلى الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والدرّ يتلألأ فبكى، فقال له العباس: يا أمير المؤمنين، ما هذا بيوم بكاء، ولكنه يوم بشرى، فقال: والله، ما ذهبتُ حيث ذهبتَ، ولكنه ما كثر هذا في قوم قطّ إلا وقع بأسهم بينهم، ثم أقبل على القبلة فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرَجا، فإني أسمعك تقول: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم:44].
وروِي أنّه كان يقسِم شيئا من بيت المال فدخَلت ابنةٌ له صغيرة فأخذت دِرهما، فنهض في طلبها حتى سقطت مِلحفته عن منكبَيه، ودخلت الصّبيّة إلى بيت أهلها تبكي، وجعلت الدرهم في فمها، فأدخل عمر أصبعه في فمها فأخرج الدرهم وطرحه مع مال المسلمين.
ولما أصاب الناس هولُ المجاعة والقَحط في عهد عمر كان لا ينام الليل إلا قليلا، وما زال به الهمّ حتى تغيّر لونه وهزل، وقال من رآه: لو استمرّت المجاعة شهورا أخرى لمات عمر من الهمّ والأسى.
وجاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسّمنَ والطعام والكِساء، فوزّعها على الناس بنفسه وأبى أن يأكل شيئا، وقال لقائد القافل:ة ستأكل معي في البيت، ومنَّى الرجل نفسَه وهو يظنّ أن طعام أمير المؤمنين خير من طعام الناس. وجاء عمر والرجل إلى البيت جائعَين بعد التّعب، ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسّر يابس مع صحنٍ من الزيت، فاندهش الرجل وتعجّب، وقال: لِمَ منعتني من أن آكل مع الناسِ لحمًا وسمنا؟! فقال عمر: ما أطعمك إلا ما أطعم نفسي، فقال الرجل: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وقد وزّعتَ اللحم والطعامَ عليهم؟! قال عمر: لقد آليتُ على نفسي أن لا أذوقَ السمن واللحم حتى يشبعَ منهما المسلمون جميعا.
ومن ورعه وتقشّفه رضي الله عنه ما روِي من أنّ امرأته اشتهَت الحلوى، فادّخرت لذلك من نفقةِ بيتها حتى جمعَت ما يكفي لصنعها، فلمّا بلغ عمرَ ذلك ردّ ما ادّخرته إلى بيت المال وأنقص من النفقة بقدرِ ما ادّخرت.
_________
الخطبة الثانية
_________
لا زالت الدّنيا ترزى بموت الأخيار، وتبلى بوفاة الأطهار، وتأتي نهاية عمَر بالموت كما هو سبيلُ كلّ حيّ سوى الله، فبينما عمر يصلّي بالناس صلاةَ الفجر إذ طعنه أبو لؤلؤةَ المجوسي، وطعن معه ثلاثةَ عشر رجلا، فقال عمر: قتلني الكلبُ، وتناول عمر يدَ عبد الرحمن بن عوف فقدّمه ليتمّ الصلاة، وأهلُ المسجد لا يدرون ما يجرِي إلا من كان خلفَ عمر، غيرَ أنهم فقدوا صوتَ عمر وهم يقولون: سبحان الله! سبحان الله! فصلّى بهم عبد الرحمن صلاةً خفيفة، فلمّا انصرفوا قال عمر: يا ابن عباس، انظر من قتَلني، فذهب ابن عباس ثم عاد فقال: قتلك غلامُ المغيرة، قال عمر: قاتله الله، لقد أمرتُ به معروفا، الحمد لله الذي لم يجعل ميتَتي بِيَد رجُلٍ يدّعي الإسلام، فاحتمل إلى بيته فانطلَقنا معه وكأن الناس لم تصِبهم مصيبة قبل يومئِذ، فقائل يقول: لا بأس، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه، فعلموا أنه ميّت، فدخلنا عليه وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شابّ فقال: أبشر ـ يا أمير المؤمنين ـ ببشرى الله لك من صحبة رسول الله وقدمٍ في الإسلام ما قد علمت، ثمّ ولِّيتَ فعدَلت، ثم شهادة، قال عمر: ودِدتُ أنّ ذلك كفاف، لا لي ولا عليّ، فلما أدبر الشابّ إذا إزاره يمسّ الأرض، فقال عمر: ردّوا عليّ الغلام، قال: ابن أخي، ارفع ثوبك، فإنه أبقى لثوبك وأتقى لربك.
ثم دعا ابنه عبد الله فأمره أن يقضيَ ما عليه من الديون، ثم أمره أن ينطلقَ إلى عائشة ليستأذنها في أن يدفَنَ مع صاحبَيه، فأذنت له وآثرته بالمكان على نفسها، فلمّا رجع عبد الله وأخبر عمر الخبر قال عمر: إن أنا قضيتُ فاحملوني ثم سلّم فقل: يستأذنُ عمر بن الخطاب، فإن أذِنت فأدخلوني، وإن ردّتني ردّوني إلى مقابر المسلمين.
قال عثمان بن عفان: أنا آخركم عهدا بعمَر، دخلتُ عليه ورأسُه في حجر ابنه عبد الله، فقال له: ضع خدي على الأرض، فقال عبد الله: فهل فخذي والأرض إلا سواء؟! فقال عمر: ضع خدّي بالأرض لا أمّ لك، وسمعتُه يقول: ويلي وويلَ أمّي إن لم تغفِر لي حتى فاضَت نفسه.
هذا هو عمر الذي عجَزت نساء الدنيا أن يلدنَ مثله، وقصرت أرحامهن أن تخرج للأرض رجلا على شاكلته. ما بلغ عمر وأصحابُه ما بلغوا إلاّ بهذا الدين الذي أعزّهم الله به، ومن أراد أن يدرك الركبَ فليأخذ بما أخذوا، وليلتَزم ما التزموا، ومن يفعَل ذلك فقد هدِي إلى صراط مستقيم.
عباد الله:
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنّ التشبّهَ بالكرام فلاح
(1/3612)
موالاة المؤمنين
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الولاء والبراء
سمير بن عبد الرحمن عبدات
دالي إبراهيم
النصر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موالاة المؤمنين من أصول الإسلام. 2- نعمة الأخوة. 3- مظاهر الأخوة ولوازمها. 4- أقسام الناس من حيث موالاتهم. 5- ولاءات الناس في العصر الحاضر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنّ من أصول الإسلام وقواعده العظام موالاة المؤمنين ومحبّة أهل الملة والدين، قال الله جل وعلا: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وقال عزّ من قائل: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
ولا ريب ـ أيها المسلمون ـ أنّ نعمةَ الأخوة بين المؤمنين والولاء بين عباد الله الصالحين من أجلِّ نعم الله على هذه الأمّة، وقد امتنّ الله بها على عباده حين قال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]، ولذلكم أوجب الله علينا موالاةَ المؤمنين ومحبّتهم، وتتلخّص مظاهرُ هذا الولاء في صورٍ كثيرة منها:
1- مناصرة المسلمين ومعاونتُهم بالنفس والمال واللّسان، فيما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم، قال سبحانه: وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [الأنفال:72].
2- ومن مظاهر موالاة المؤمنين التألّم لألمهم والسرور بسرورهم، قال : ((مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) متفق عليه، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى عبد الله بن قيس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا)) ثم شبّك بين أصابعه.
3- ومن مظاهر موالاة المؤمنين مناصحتهم ومحبّة الخير لهم وعدم غشّهم وخديعتِهم، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) متفق عليه من حديث أنس، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا)) متفق عليه.
وهذا المظهر من مظاهر الموالاة أصبح عزيزًا في الناس، فتجِد الرجل ينام وبطنه مليء، وأخوه المسلم بجواره جائِع، وتجد التاجرَ يصلّي في الصف الأول، ثم هو يدلّس في بيعه ويغشّ في تجارته، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
4- ومن مظاهر موالاة المؤمنين احترامُهم وتوقيرهم وعدم تنقّصهم وعيبهم وغِيبتِهم، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]، وقال : ((ليس منا من لم يرحَم صغيرَنا ويوقّر كبيرنا)) رواه الترمذي وأحمد. وانظروا ـ رحمكم الله ـ واقعَ المسلمين اليوم ترونَ عجبا، فكم من صغير تجرّأ على الكبير، ولم يعرِف له حقَّ التقدير والتوقير، بل كم من جاهل سفيه تعالى على ورثة الأنبياء وسخِر من الصالحين والأولياء، وتنقّص حقّ النبلاء والفضلاء، وكم من امرأةٍ احتقرت أخرَى لأنها دونها في المال والجمَال، وكم هم هؤلاء الذين يلمِزون وينبزون وعن آيات الله هم غافلون.
ثم اسمعوا قول الله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]. أما عن سوء الظن فحدّث عن البحر ولا حرج، حتى حلّ سوء الظنّ محلّ اليقين، وصار أداةً لتقييم الناس والحكمِ عليهم. أمّا الغيبة التي نهى الله عنها في كتابه فقد أصبحت سِلعةً رائجة وبضاعة مبذولة، فترى الرجل يبتسّم في وجهك، ويتملّق بين يديك، حتى إذا خلا عنك سلَّ سيف الغيبة في ظهرِك، فالله حسيبه وهو حسبُنا ونعمَ الوكيل.
5- ومن مظاهر موالاة المؤمنين أن يكونَ المسلم معهم حالَ العسر واليسر والشدّة والرخاء، بخلاف أهل النفاق الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:141].
6- ومن مظاهر موالاة المؤمنين زيارتهم والالتقاء والاجتماع بهم، وفي الحديث القدسي: ((وجبت محبتي للمتحابين فيّ والمتجالسين فيّ والمتزاورين فيّ)) رواه أحمد.
7- ومن مظاهر موالاة المؤمنين أيضا احترام حقوقهم، فلا يبيع على بيعِهم، ولا يسوم على سومهم، ولا يخطب على خطبتهم، وقد قال : ((لا يبع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)) رواه مسلم من حديث ابن عمر.
8- ومن مظاهر هذا الولاء الدعاء للمؤمنين والاستغفار لهم، قال تعالى مخاطبا نبيه : وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، والصلاة والسلام على النبيّ المصطفى والحبيب المجتبى.
وبعد: أما وقد سمعتم ـ معشر المسلمين ـ بعض مظاهر الولاء بين المؤمنين، فإن الناس فيما يجب في حقّهم من الولاء على قسمين اثنين:
1- القسم الأول: من تجِب محبّتُهم محبّةً خالِصة لا معاداةَ معها، وهم المؤمنون الخُلّص من الأنبياء والصدّيقين والشهداء والصالحين، وفي مقدّمتهم رسول الله محمد بن عبد الله ، فإنّه تجب محبّته أعظمَ من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ثم زوجاته أمهات المؤمنين وأهل بيته الطيّبين وصحابته الكرام الميامين، خصوصا الخلفاء الراشدين وبقية العشرة المبشرين والمهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان، ثم بقية الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ثم التابعون أهل القرون الثلاثة المفضّلة من سلف هذه الأمة، فالتابعون لهم بإحسان، والمؤمنون من بعدهم رضي الله عنهم أجمعين.
2- أما القسم الثاني: فهم من يحَبّ من وجه ويبغَض من وجه، فتجتمع فيه المحبّة والعداوة، وهم عصاة المؤمنين، يُحَبّون لما فيهم من الإيمان، ويبغَضون لما هم عليه من العصيان الذي هو دون الكفر والشّرك.
ومحبتهم تقتضي مناصَحتُهم والإنكار عليهم، فلا يجوز السكوت على معاصيهم، بل يؤمَرون بالمعروف بمعروف، وينهَون عن المنكر من غير منكر، وتقام عليهم الحدود والتعزيرات الشرعية، ولكن لا يبغَضون بُغضًا خالِصًا، ولا يُحَبّون ويوالَون حبًّا وموالاةً خالِصين، بل يعتدَل في شأنهم.
والحبّ في الله والبغض في الله أوثق عُرى الإيمان، والمرء مع من أحبّ يوم القيامة، وقد تغيَّر الوضع اليومَ وصار غالب موالاة الناس على الدنيا، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من أحبّ في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا).
(1/3613)
ماذا يريد هؤلاء الأغرار؟!
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
12/11/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اتفاق الشرائع على حفظ حقوق الإنسان. 2- السماحة والرحمة في دين الإسلام. 3- الحكمة من استخلاف الإنسان في الأرض. 4- تشديد النكير على الساعين في الأرض بالفساد والإفساد. 5- الآثار السلبية للأعمال الإرهابية. 6- صفات أهل التخريب والإفساد. 7- وجوب إنكار العمليات التخريبية والوقوف ضد أصحابها. 8- استهداف الأعداء لبلاد الحرمين الشريفين. 9- ضرورة أخذ الحيطة والحذر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتّقوا الله رحمكم الله، فمتاعُ الدّنيا قليل، والحساب طويل، فتهيّؤوا للنُّقلة قبلَ أن يفجأَ الرّحيل، واستعدّوا بالزّاد ليومِ المعاد، استغفِروا ربَّكم وتوبُوا إليه، تحلَّلوا من المظالِم، وخذوا على يد السفيهِ والظالِم، جِدّوا ولا تفَرّطوا، فحسرةُ الفوتِ أشدّ من سَكرة الموت، ومِن عَلامة إعراضِ الله عن العَبد أن يُشغِله فيما لا يَعنِيه، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ [غافر:39].
أيّها المسلمونَ، اتّفَقتِ الشرائعُ والملَل علَى حِفظ حقوقِ الإنسَان وتقريرِ كرامته، فالخلقُ سواسيَة في التكاليفِ والمسؤوليات، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
بَنُو آدَم كلُّهم أهلٌ للتّكريم والاحترام والتّفضيل، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:6، 7].
دينُ الله الذي جاءَت به الرّسُل عليهم السلام دعَا إلى ترابُط البشَر فيما بينهم وتعاوُنهم على الخيرِ والبرّ والعدلِ والصلاح: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل:90]، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
أمّا في دين الإسلام فإنّ السماحةَ والرحمةَ تأتي في أصولِ مبادئه وتعاليمه وفي روحِ أحكامه وتشريعاته، فرحمةُ ربّنا وسِعت كلَّ شيء، وهي قريبٌ من المحسنين، ومحمّد هو رحمةُ الله للعالمين أجمعين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
وتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ كيف جاء الاقترانَ بين النّهيِ عن الفساد في الأرض وأمَلِ الحُصول على رحمةِ الله عزّ وجلّ: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56].
كَما تتميَّز تعاليمُ دين الإسلام بإِعطاء الطابَع الإنسانيّ منزلةً متميّزة في قِيَم أخلاقيّة عالية، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40].
معاشرَ المسلمين، كلُّ هذه المبادِئ والمثُل وأمثالها لتكونَ الحياةُ طيّبَة ولتُعمَرَ الأرض ويسودَ الصّلاح والإصلاح، وذلكم هو سبيلُ التقوى والتّكريم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
وكلُّ هذه المبادئ والمثُل ليأمَن الناس على أنفسِهم مِن أنفسهم، وليتَّقوا شرورَ أنفسِهم وسيّئات أعمالهم، وليحذَروا نزغاتِ شياطين الإنسِ والجنّ ووسواسِهم، شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112].
بنُو الإنسان هم خُلَفاء الأرضِ ليبنُوا ويعمُروا ويتنافَسوا في الإصلاح فيها، وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:164، 165].
أيّها المسلمون، ولترسيخِ هذه المبادئِ وليسودَ الصلاح والإعمار فقد اشتدَّ النكير على من سَعَى في الأرض ليفسدَ فيها ويهلِكَ حرثَها ونسلَها: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة:205].
ومِن أجل ذلك كذلك فإنَّ من أعظم الذنوب وأكبرِ الكبائر سفكَ الدم الحرام وقصدَ المعصومين بالتخويفِ والتّرويع والإيذاءِ والقتل، ناهيكم باستخدامِ وسائل التفجيرِ والتخريب، فكلّ ذلك من أشدِّ أنواع الفساد في الأرض والإفسادِ في الخَلق.
وإنَّ من الحكمةِ والتعقّل النظرَ في آثار مِثل هذه التصرُّفات ونتائجِ مثل هذه المسالك، ولا سيّما على أهل الإسلام وديارِ الإسلام. لا بدَّ من وقفةِ حِساب وموقفِ محاسبةٍ مِن أجل النظر في المكاسِب والخسائر، ماذا جرّت هذه التصرفات؟ وماذا جرى لأهلِ الإسلام؟ لقد تغلغَلَ الأعداء في كثيرٍ مِن ديار المسلمين واستطالوا على المسلمين بألسنَتِهم وأسلِحتِهم وإعلامهم وأقلامهم، واستنفَروا جمعيّاتٍ ومنظَّمات وهيئاتٍ، حتى جعَلوا المظلومَ ظالمًا وصاحبَ الحقِّ باغيًا، مستدِلّين ومستندين إلى مثلِ هذه التصرّفات الرَّعناء، ومتذرِّعين بمثل هذه المسالِك الهوجاء. لقد أوشكَت أن تضمحلَّ قضايا المسلمين الكبرى، وتتوارَى مشكلاتٌ أخرَى يرادُ لها أن تأخذَ المسارَ نفسَه.
إنَّ مثلَ هذه الإقدامَات الحمقاء قدَّمت الذرائعَ والمسوِّغات لمزيدٍ من التدخّل والتسلُّط ومزيدٍ من الإثارات والثارات على الإسلام وأهلِه ودياره. ألم يدرِكوا أنه لم يستفد من ذلك إلا الحاقِدون والموتورون الذينَ يسرُّهم أن يختلطَ أمرُ الأمة ويختلَّ أمنها ويضربَ بعضها بعضًا؟! لقد أصبحَ المسلمون بعلمائهم ورِجالهم وساستِهم ودعاتهم وبل شبابهم مادّةً يلوكها الإعلامُ والفضاء، وكم من ساخطٍ وحاقد تدخَّل فيما لا يعنيه بسببِ هذه التصرفات.
هؤلاء الصِّغار الأغرار هاجموا بلادَهم، وقتَّلوا أهليهم ورجالهم، وخفروا ذمّةَ ولاةَ أمورهم، وروَّعوا الآمنين، وفتحوا الأبوابَ لتمكين المتربِّصين. ويحَهم، هل يريدون جرَّ الأمّة إلى ويلاتٍ تحلق الدينَ وتزعزع الأمنَ وتشيع الفوضَى وتحبِط النفوس وتعطِّل مشاريعَ الخير ومسيرةَ الإصلاح؟! هل يريدون أن يذلَّ الأحرار وتدَنَّس الحرائِر ويخرجَ النّاس من ديارهم؟! هل يريدون أن يكثرَ القتل وتنتهَكَ الحرُمات وتتفرّقَ الناس في الولاءات وتتعدَّد في المرجعيات حتى يغبط الأحياءُ الأمواتَ كما هو واقعٌ ـ مع الأسف ـ في بعض الديار التي عمَّتها الفوضى وافترَسها الأعداء؟! يريدون إثارةَ فِتن وقودُها الناس والأموال والثّمرات، ونِتاجُها نَقص الدّين ونشر الخوفِ والجوع والفُرقة.
ألا يعلَم هؤلاء الأغرَار أنّه على طولِ التاريخ لم تنجَح حركةٌ تتَّخِذ من العنف مسلكًا؟! ألم يعلَموا أنه لا يمكِن أن يؤدّيَ الإرهاب إلى تحقيقِ هدَفٍ أو مكسب؟! ناهيكم إذا لم يكُن له هدفٌ واضح أو قضيّة بيّنة، فضلاً أن يكونَ له هدف مشروعٌ أو حقّ ظاهر. كم من شابّ غرٍّ أقدم على اغتيالٍ وتفجير وتدميرٍ، قتل نفسَه ومن حوله دونَ مسوِّغ شرعيٍّ عياذًا بالله.
إنهم أغَيلِمةٌ صِغار يعيشون عزلَتَين: عزلةً نفسيّة شعوريّة، وعزلة علميّة، انطواءٌ على الذّات وانفصالٌ عن المجتَمَع وأهل العلم وعَزلٌ للمرجعيّات المعتَبَرة والبُعد عن وسَطِ أهلِ العلم وبيئَتهم، ومن ثَمَّ ليُّ أعناقِ النّصوص الشرعية وتوظيفُ دلالتها غيرِ الدّالّة في تسويغِ فِكرهم وأعمالهم؛ ليعيشوا في بيئةٍ متعالمةٍ ضيِّقة خاصّة قاتمةٍ على التحيُّز والتعصّب والاستدلال المنبَتّ عن أصولِه وضوابطه المعتبرة. ولقد علِموا ـ إن كانوا يعلمون ـ أنّه لا يوجَد أحَدٌ مِن أهل العلم ممّن يُعتَدّ به أجازَ مِثلَ هذه الأعمالِ والتصرّفات. وليحذَر مَن يتّقي اللهَ ربَّه وينصَح لدينه وأهلِه أن يسوِّغ لمثل هذه الأعمالِ أو يفرَحَ بها أو يتردَّد في إنكارها.
أيّها المسلمون، إنَّ المخاطر كثيرة، وإنَّ مكرَ الأعداء كبير، وهذا كلُّه يستوجِب يقظةَ الجميعِ في مواجهةِ كلِّ فكرٍ ضالّ أو تصرُّف عنيف أو سلوكٍ إرهابيّ. إنَّ هذا الإفسادَ في الأرض يستهدِف الجميعَ، وتهدِّد نتائجُه وآثارُه الجميع. يجب توعيةُ النّاشئة وتذكيرهم ليعظِّموا أوامرَ الله وحرماتِه، ويحذَروا سخطَه ونواهيَه، وكما تدرِك الأمّة عِظمَ ذَنب تارك الصلاةِ يجب أن تدركَ عظَمَ جُرم هذا الإفسادِ وخطَره على الدّين والدّنيا، فنبيُّنا محمّد الذي قال: ((العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاة، من تركَها فقد كفر)) [1] هو الذي قال: ((لزَوال الدّنيا أهونُ عند الله من إراقة دمِ مسلمٍ)) [2] ، وهو الذي قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يَزال المرءُ في فسحةٍ من دينِه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) [3] ، وهو الذي قال : ((من قَتَل معاهدًا لم يرَح رائحةَ الجنّة)) [4] ، وهو الذي قال ـ بأبي هو وأمي ـ عليه الصلاة والسلام: ((من خرَج على أمتي بسيفِه يضرِب برَّها وفاجرها فليس منّي ولست منه)) [5] ، وهو الذي قال: ((مَن رفَع علينا السلاح فليسَ منّا)) [6].
إنّنا بحاجةٍ إلى المواجهةِ بكلِمة الحقِّ الصادِعة والقولِ السّديد، ينهضُ به العالمُ والمعلّم والواعظ والخطيب والمفكِّر والكاتب. إنَّ على العلماء والمفكِّرين وأصحابِ الرأي والقلم وهم حُرّاس الدّين والدّيار والقِيَم والمكتسَبات، عليهم مسؤوليّة كبرى في توجيهِ الشّباب وتثقيفِهم وتوعيَتِهم وحمايَتِهم من الانسياق وراءَ أصحاب الأفكارِ الشاذّة والمنحرفة وأصحابِ الأغراضِ والأهواء، لا بدّ من حسن التوظيف للمنابر ووسائل الإعلام والنشر والمناهج والسعي الجادِّ نحو حِفظ الدين والأمّةِ والدّيار، يجب التوجُّه نحوَ حِفظ الحقوق وبِناء القوّة والسعي الجادّ في حِفظ جمعِ الكَلِمة والمحافظَة على وحدةِ الصفِّ ومعرفةِ فِقهِ الخِلاف وأدَبِ الاختلاف وحسنِ الدعوة إلى الله والجِدال بالتي هي أحسَن لا بالتي هي أخشن والحوارِ الهادِئ والنّقد البنّاء.
أيّها المسلمون، ومع هذا كلِّه فإنّ الأمةَ مطمئنّة إلى أهلها ورجالها وصِغارها وكِبارها، شبابِها وعلمائها، ساستِها وأهلِ الرأي فيها، كلُّهم على منهجٍ وسَط، فللَّه الحمد والمنّة. تلكم حقيقةٌ راسخة ثابِتة، لا يمكن تغييرُها والخروجُ عليها بإذن الله، تربَّوا عليها في مناهجِ التعليم، وفقهُوها وعيًا، وتمثَّلوها مسؤوليّةً وسلوكًا، فهم لا يشُقّون الطاعة، ولا يفرِّقون الجماعة، ولا ينازِعون الأمرَ أهلَه، ولا يضخِّمون الأخطاءَ، ولا يخفُونَ الحسَنات، ولا يقطَعون ما أمَرَ الله به أن يوصَل، ولا يفسِدون في الأرض، ولا يثيرُونَ الفتَن، ولا يعتدُون على مؤمِنٍ ولا مستَأمَن، ولا يغدِرون بذمّة، ولا يروِّعون آمنًا، ويتّقون اللهَ ما استطاعوا، يؤمُرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويسارِعون في الخيرات بإذن الله. هذا عندهم منهجٌ ودِين ومسلَك وعقيدةٌ، والتّقصير البشريّ وارِد، بل واقع، والنّقدُ الهادِف مُتاح، وكلّ ابنِ آدم خطّاء، وخيرُ الخطّائين التّوّابون.
وبعد: عباد الله، فالسّعيد من أدركته منيّتُه وهو ثابتٌ على شهادةِ التّوحيد، ليس في رقَبَته شيءٌ من حقوقِ العباد، ملازِمٌ لجماعة المسلِمين، متّقٍ للفِتَن، يحذَر فِتنًا لا تصيب الذين ظلَموا خاصّة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:8، 9].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (5/ 346)، والترمذي في الإيمان (2621)، والنسائي في الصلاة (463)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1079) من حديث بريدة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح غريب"، وصححه ابن حبان (1454)، والحاكم (11)، وهو في صحيح الترغيب (564).
[2] أخرجه الترمذي في الديات (1315)، والنسائي: كتاب المحاربين (3922) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال الترمذي: "وفي الباب عن سعد وابن عباس وأبي سعيد وأبي هريرة وعقبة بن عامر وابن مسعود وبريدة"، وأشار إلى أن وقفه أصح من رفعه، وكذا رجح وقفه البيهقي في الكبرى (8/22)، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في غاية المرام (439).
[3] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه البخاري في الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[5] أخرجه مسلم في الإمارة (1848) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الديات (6874)، ومسلم في كتاب الإيمان (98) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مَا سبّحَت بحمدِه ألسنةُ الذاكِرين، وسبحانَ الله ما أشرَقت بأنوار الطاعةِ وجوهُ العابدين، أحمده سبحانه وأشكُره، أفاض علينَا من النِّعَم والإحسان ما لا تبلُغه مسائل السائلين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيّدنا ونبيَّنا محمّدا عبد الله ورسوله المبعوثُ رحمةً للعالمين، وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بحسان إلى يومِ الدّين.
أمّا بعد: أيّها المسلمون، إنّ المخاطرَ كثيرةٌ، وإنّ مكرَ الأعداء كبير، وإن المستهدَفَ هو الإسلام وأهل الإسلام، وبخاصّة دار الإسلام الأولى بلادُ الحرمين الشريفين، يريدون ضربَ دورِها الرئيس في محيطِها العربيّ والإسلاميّ والدّوليّ، غيرَ أنَّ الحقَّ وأهلَه ودولتَه تقِف في مثل هذا مواقفَ حازِمَة، وتتعامل معها بمسؤوليّةٍ حِمايةً للدّين والدّار والنّاس، ولقد برهَنَت هذه الأحداثُ على اليَقَظة والكفَاءة والأداء الرفيع ودِقّة التّعامل، ممّا يسجِّل إنجازاتٍ أمنيّةً وقوّة إدارية ورؤيَة بعيدَة في كلِّ الظروف الزّمانيّة والمكانيّة، فلله الحمد والمنّة.
لقد نجَحَت كلُّ القِطاعات ـ الإداري منها والأمنيّ والسياسيّ ـ في التعامُل مع هذه الأحداثِ حِفاظًا على الدّين والدار والمكتسَبَات؛ لقناعة الجميع بأنَّ أيَّ تصرُّف من هذه التصرّفات الشاذّة لا يستهدف سوى الدين ومركز هذه البلاد وأمنِها وجماعتها. موقفٌ حازم تتّخذُه الدولةُ ضدَّ الإرهاب والفوضى والفتنة في جهدٍ أمنيّ وتوجيهٍ تربويّ وخِطاب توعويٍّ لمنع هذا الفكرِ الشاذِّ، وبخاصّةٍ في أوساطِ الشباب وأصحابِ المعارف القليلة والإدراكِ المحدود.
ومع كلِّ هذه الإنجازاتِ المشكورة والثّقَةِ الواثقةِ فمطلوبٌ مزيدٌ من اليقَظَة، وبخاصّةٍ على المستوى الفرديّ والشعبيّ والأسريّ، في تنبيهِ الأبناء وتحذيرِهم من هذه المخاطِر والانزلاقاتِ في الأفكار الضالّة غلوًّا وجفاءً، حمَى الله هذه الديارَ وديارَ المسلمين من كلِّ سوء، وجنَّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وحفِظ علينا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا وآخرتَنا التي إليها معادنا، إنه سميعٌ مجيب.
هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرّحمة المهداةِ والنّعمَة المسداة المبعوث رحمةً للعالمين سيد الأولين والآخرين، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم التنزيل، فقال عز قائلا عليما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك نبينا محمّد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/3614)
آداب السير والمرور
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
12/11/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله تعالى على الإنسان. 2- نعمة المراكب. 3- مظاهر سيئة لقيادة السيارات. 4- من آداب القيادة. 5- أخطاء شائعة أثناء القيادة. 6- المفاسد المترتبة على حوادث المرور. 7- من أدب النبي في السير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حقَّ التقوَى.
عبادَ الله، إنَّ الله تعالى يذكِّر عبادَه نِعمَه ويعرِّفهم بها لكَي يشكروه على هذه النِّعمِ، ويثنوا بها عليه ثناءً يليق بجلالِه، فهو أهل الثناء والمجد.
نِعَم الله متعدِّدةٌ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34]، من تِلكُم النِّعَم ما بيَّن الله في كتابِه من امتِنانهِ على عباده بأن سخَّر لهم ما يركبون وينتفعون ويقضون به حوائِجَهم ويقطعون به المسافاتِ العظيمة، كلُّ ذلك من توفيق الله، قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:71-73]. إذًا فكَون من هذه الأنعامِ ما هُو للرّكوب نِعمةٌ تحتاج أن نشكرَ الله عليها، وقال تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ثم قال: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8]، فأخبر تعالى أنّه سيخلُق ما لا يَعلمون ولا يجولُ بِفكرهم ويتصوّرُه حالهم، وهذا من كمالِ قدرته جلّ وعلا، وقد خلق ما لا يعلَمون وأتتِ العجائب، فسبحان الخالق لكلِّ شيء.
والله جلّ علا قال لنا أيضًا: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ [الزخرف:12-14]، وقال: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:7].
أيّها المسلم، إنّ مِن نِعَم الله علينا وجودَ هذه المركبات، أعني السّيّارات التي هيّأها الله وسَخَّرها، وأَلهَم خَلقًا من خَلقِه لاختِراعِها وتكوِينِها، وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96]. هذه المراكِبُ التي بمتناوَلِ الكثير من الناس، يقودُها العاقل والسّفيه والصغير والكبير، أجل إنها بمتناوَل الفرد، ملأَتِ البلاد والبرَّ. هذه النّعمَة العظيمةُ هل شكَرنا الله علينا؟! وهل حسُن استعمالُنا لها أم ساء الاستعمال وذهب الشّكر وقلَّ الثناءُ على الله؟! إنَّ شكرَ الله عليها أمر متعيِّن، فالله الذي يسَّرها وهيَّأها، وإنَّ حسنَ استعمالها لمن شُكر نِعَم الله علينا، فكم من محسِنٍ لاستعمالها، وكم من مسيءٍ لاستعمالِها.
أيّها المسلم، إنَّ هناك فئةً من مجتمعنا هدانا الله وإيّاهم لكلِّ خير، تراهم في سيارتهم يتصرَّفون تصرّفاتٍ جنونية، وتصرّفات خارجة عن العقل والمنطِق، وتصرُّفات دالّةٍ على ضعفٍ في العقل أحيانًا وعلى قِلّة مبالاةٍ بالنّفوس والمجتمع وعَدَم رِعاية الأنظمة وعدم المبالاة بالأرواح. ترى بعضَ أبنائنا يتصرَّفون تصرّفاتٍ قل عنها: إنها تصرّفاتٌ جنونيّة خارجة عن العقل والمنطق، تصرّفَ من لا يراعي نظامًا ولا يبالي بأرواحِ المسلمين، تصرّفَ مستهتِرٍ متكبِّر مغرورٍ بنفسه معجَب بشبابه لا يبالي ولا يرعوي، لماذا؟ لأنّ الإيمانَ ضعُف في قلبه، فكانت تصرّفاتُه تصرّفاتٍ خاطئةً خارجة عن النظام والمعقول. هذه التصرفاتُ التي تراها من بعضِ السائقين المتهوِّرين الذين لا يقدِّرون للمكان قدرَه ولا لأيّ وضعٍ قدرَه يسوِّي بين قيادَتِه داخِلَ البِلاد والزِّحام وبين قِيادته خارجَ البلاد، لا يفرِّق بين ذا وبين ذا، إنما غرضُه الوصول إلى حاجَتِه مهما كانتِ الظروف ولو على جُثَث الرّجال، لا يبالي بشيءٍ من ذلك. والمسلم الذي يخاف الله ويتّقيه ويرجوه هو الذي يحترِم دماءَ المسلمين، والذي يحترِم أموالهم ولا يتعدَّى عليهم، في الحديث يقول : ((المؤمِنُ من أمِنه الناس على دِمائهم وأموالهم)) [1].
أخي المسلم، إنّك حينما تمتطِي سيّارتَك فاتق اللهَ أولاً، واشكرِ الله على هذه النعمة وأن هيّأها لك ويسّر لك قيادَتها، فاعرف حقَّ الله واشكرِ الله وأثنِ عليه واستعِن بالله في كلِّ مهماتك، وقل: باسم الله، توكّلتُ على الله، لا حول ولا قوّةَ إلا بالله، يجيبك الملك: هُديتَ وكُفيتَ ووقيتَ، ويتنحَّى عنك الشيطان ويقول: ما لي برجلٍ قد هدِيَ وكُفيَ ووقِي؟! [2].
أخي المسلم، إيّاك وأن تتجاهلَ حقوقَ المسلمين، إياك وأن تقودَها وأنت جاهلٌ بالأنظمة لا تدري كيف تتصرَّف ولا كيفَ تتخلَّص من المواقف الحرجة، إياك أن تسلِّمَ قيادتها لطفلٍ صغير، لا يُرى مِن صِغَره، ولا يقدِّر للأمور قدرَها، ولا يعرِف للظروف أحوالها، إيّاك أن تقودَها وأنت يغلب عليك النعاسُ أو النّوم، فلا تدري كيفَ تتصرَّف، إياك أن تتصرَّف تصرّفاتٍ خاطئة.
مما يُؤسَف له أن البعضَ من المسلمين لا يبالي أثناءَ القَيادة، يسوِّي بين قيادته داخلَ البَلَد والازدحامات وبين قِيادتِه خارجها، يسوِّي بين قيادتِه خارجَ البلد أكان مشيُه ليلاً أم نهارًا، لا يبالي بذلك ما دامت السيّارة تمشي فإنّه لا يبالي، وربما صادَفَ بهيمةً فأدَّت إلى الكارثة، وربما وقَعَ عليه خطرٌ من غيرِ ذلك لأنه لا يقدِّر للوقتِ قدرَه.
ترى بعضَ أولئك ـ هدانا الله وإياهم ـ لا يفرِّق بين سيره في طريقٍ مستقيم وطريقٍ فيه تعرُّجاتٌ شديدة، لا يبالي بين ذلك، فهو مسوٍّ بين سيره في طريقٍ مستقيم وبين سَيره في طريقٍ فيه تعرّجات يحتاج إلى تروٍّ وتأمّل في الأمر.
بعضُهم ـ هدانا الله وإياهم ـ لا [يفرِّق] بين سيرِه في طريق سريعٍ لكلِّ ذاهبٍ طريقٌ غير الآتي، ولا بين طريقٍ مزدَوجٍ يشترِك فيه الجميع. كلُّ هذه التصرّفات تدلّ على قِلّة عقلٍ وضعفِ تصرّفٍ وعدَم رعاية للمصالح الخاصّة والعامة.
أيّها المسلم، إنّك حينما تقودُ سيّارتَك، فتصوَّر أنّ الطريق ليس لك وحدَك، وأنّ الطريقَ مشترَك لك ولغيرك، فإيّاك أن تزجَّ بنفسك وأن تتلِفَ الأموال أو تجنيَ على النفوس، تدبَّر وتعقَّل في أمرك.
أخي المسلم، ربما تقول: عندي ظروفٌ والوقت قصيرٌ أريد أن أقطعَ المسافةَ الطويلة في أقصرِ مدّةٍ ممكنة، هذا التصوّر خاطئ، افرِض أنّك إن تهوَّرتَ في قيادتك، فتحمَّلتَ مصائبَ على نفسك أو على غيركَ من إخوانك المسلمين، ما كنتَ تقطعُه في الساعةِ الواحدةِ أضِف إليه دقائقَ تَسلَم بتوفيقٍ من الله من هذه البلايا، لكن أن تزجَّ بنفسك وتسرِعَ سرعةً فائقة متجاوزة للحدود، فأيُّ جنايةٍ وقعت منك فأنت تتحمَّل تبِعاتها أمامَ الله جل وعلا؛ لأنّك السببُ في حصولِ ما حصَل، فتبوء بالإثمِ وعَذابِ الله يومَ القيامة.
أخي المسلم، يقود البعضُ السيّارةَ ولا يراعون الأنظمةَ المتّبعَة، والأنظمَةُ المفروضة التي لا تخالِف شَرعًا يجِب على المسلم الالتزامُ بها وطاعةُ من نظّمها لأنَّ هذا من طاعةِ وليِّ الأمر بالمعروف.
أخي، ترى بعضَهم يسير في طريقِه لا يبالي بأنظمةِ السير: كيف يقِفُ ولا كيفَ ينطلِق، تراه يُغرِي من خلفَه، فهو يقِف مواقفَ غير مناسِبة، ولا يعطي لمن خلفَه تصوّرًا هل هو سيكون عن يَسارٍ أو يمين، يلقِي بعرَبَته أيَّ مكان دونَ مراعاةٍ لذلك، تراه أحيانًا في سرعتِه ربما قطعَ الإشارات النظاميّة من غير مبالاةٍ، ثم تقع الأخطار ويحاوِل أن يبرِّرَ موقفَه بأمرٍ هو كاذب فيه غير صادق.
إنَّ الأقدارَ بيد الله، وكلّ ما يجري في الكونِ بقضاء الله وقَدَره، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]. هذا حقٌّ نؤمِن به ونصدّقه، ولكن لا يكون الإنسان سببًا في حصولِ الكوارث. إنَّ على المسلم أن يتّقيَ أسبابَ الكوارث بقدرِ إمكانه، والأمرُ الذي يقدِّره الله أمرٌ لا رادَّ له، لكن لا تكن ـ يا أخي ـ سببًا في حصولِ ما حصَل، أنت خُذ بالأسبابِ النافعة، وتوقَّ الشرَّ قدرَ استطاعَتِك، وما وقع بغيرِ إرادَتِك فالله جلّ وعلا لا يؤاخِذُك بذلك، أما أن تكونَ السببَ في إتلاف النفوس والأموالِ فأنت إذًا من الخاسرين، هدانا الله جميعًا سواءَ السبيل.
أخي المسلم، فكِّر قليلاً في نتائجِ هذه الكوارثِ، فكِّر قليلاً فيما يحصل مِن هذه الكوارثِ العظيمَة، ربما [بقيادتك] وتهوّرك تجني على فردٍ أو تجنِي على عدّةِ أشخاص، فتكون بقيادتِك تتلِف نفوسًا كثيرة، أحيانًا واحدَة، وأحيانًا ربما أتلفتَ عددًا من النّاس بسبَبِ سرعتك، فتندَم على سوءِ تصرّفك، ولا ينفعك النّدَم إذّاك.
أخي المسلم، يترتَّب عليه أمور: أولاً معصيةُ الله جل وعلا بارتكاب الأسبابِ التي تخِلّ بنظامِ السّير، ومعصية والي الأمرِ فيما وضَعه من نظامٍ يكفل بتوفيق الله للسَّير الانتظامَ وأداء المهمة.
أمرٌ آخر: فكِّر ـ يا أخي ـ في هذه الحوادثِ العظيمة، كم تقتُل بها نفوسًا، وكم تعيقُ بها آخَرين، فما بين من زهقت نفسهُ، وما بين من أُعيق بقطع أطرافه، وما بين مَن أصبح عالةً على مجتمَعِه في إغماءٍ عظيم بما يحصل من هذه الكوارثِ.
وأمر آخر: أفقَدتَ هذه النفوسَ حياتَها، ذلكم المسلمُ الذي يغتَنِم حياتَه لطاعةِ اللهِ ويتقرَّب إلى الله بما يُرضيه، كنتَ السببَ في فَقدِه حياته وانقطاعِ أعمالِه التي يرجو أن تكونَ زادًا له يومَ لقاء الله. هذا الشخصُ الذي أتلفتَه له امرأةٌ ترمَّلت وأطفالٌ صاروا بذلك أيتامًا، وأموال تلِفت، سيّاراتٌ تلِفت، يحتاج إصلاحُها إلى مال أو تعويضها إلى مالٍ، فتبقى بالحقيقةِ نادمًا على تصرّفاتِك الخاطئة إن يكن فيك بقيّةٌ مِن خير.
أيّها المسلم، إذًا فعلى الجميع تقوَى الله، وعليهم التبصُّرُ في أمرِهم، وعليهم أن يعينَ بعضهم بعضًا. اعرِف أنَّ الطريق ليس لكَ وحدَك، فمن خلفكَ ومن أمامك وعن جانبيك، كلُّهم شركاءُ لك في الطّريق، وكلٌّ مثلك يريد قضاءَ حاجتِه، فلنكُن متواضِعِين في أنفسِنا، ولنجتنِب الغرورَ والخداع. ما بالُك وأنت تنظُر لبَعض شبابِنا يتسابَقون في الطرقاتِ العامة سباقًا بينَهم لا لهدفٍ سليم، ولكن مفاخرةً وإعجابًا بالنّفوس وسيّارات ما تعِبوا على أثمانها، ولا بذَلوا فيها جهدًا، هيّأها لهم آباؤهم، فهم لا يبالون أتلَفوا اليومَ ويُعوَّضونَ غدًا، أو مؤمَّنٌ عليهم لا يبالون بما يفعَلون.
ترى بعضَ أهلِ الأجرة من السيارات يلقِي بعربَتِه متى ما رأى من يشير إليه دونَ مبالاةٍ بالطريق ومَن خلفَه ومَن أمامَه، كلُّ هذه التّصرّفاتِ الخاطئة تحمِّل المسلمَ إثمًا عظيمًا، لا يغرّنّك أنّك أمّنتَ على سيّارتك وأنّ مؤسّسةَ التأمين ستعفيك عن المسؤوليّة، إن أُعفيتَ عن المسؤوليّة في الدنيا فبأيِّ شيءٍ تلاقي الله يومَ قدومِك عليه؟!
إنّك ـ أيّها المسلم ـ بقتلِك الخطأ تتحمَّل الكفّارةَ المغلّظَة: عِتقَ رقبةٍ، فإن عَجزتَ عنها فلا بدَّ مِن صيام شهرين كامِلَين متتابعَين، لا تفطِر بينها إلاّ لعذرٍ قهريّ كمَرَضٍ أو نحوه، ولو أفطرتَ بلا عذرٍ يومًا لأعدتَ الشهرين كاملَين توبةً من الله، وكان الله عليمًا حكيمًا.
تنظُرُ إلى أطفالِ هذا الذي أزهقتَ نفسَه وإلى أهله، وكم أضَعتَ، وكم أحزَنتَ، وكَم ارتكبتَ وكم ارتكبتَ، فبالله عليك اتَّقِ الله في نفسك، وراقِبِ الله في سيرِك، ولنكُن ـ أيها المسلمون ـ على خلقٍ في تعامُلنا، في قيادةِ سيّاراتنا وسيرِنا في طرُقنا، طرقُنا ولله الحمد في غايةٍ من التنظيم والإعدادِ الذي يُعتَبَر فريدًا بين دُوَل العالم، ولكن الخطأُ والإساءة إنما هي في تصرّفاتِنا التي لا تنطلِق من عقلٍ سليم. وعلى الجميعِ نصحُ أبنائهم وسائِقِيهم، وحثُّ الجميع على الاعتدالِ والبُعد عن التهوّر الذي لا خيرَ فيه، أسأل الله أن يوفِّقَني وإياكم لما يحبّه ويرضاه، إنه على كل شيء قدير.
باركَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فِيهِ منَ الآيات والذّكر الحكِيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولكم ولِسائرِ المسلمين مِن كلِّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليهِ، إنّه هوَ الغَفور والرحيم.
[1] أخرجه أحمد (2/379)، والترمذي في الإيمان (2627)، والنسائي في الإيمان (4995) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (180)، والحاكم (22)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2118).
[2] جاء في ذلك حديث عن أنس رضي الله عنه، أخرجه أبو داود في الأدب (5095)، والترمذي في الدعوات (3426) وقال: "حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وصححه ابن حبان (822)، والضياء في المختارة (4/372-373)، وهو في صحيح سنن أبي داود (4249).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، سيّدُ ولَدِ آدَم إمامُ المتّقين وسيِّد الأوَّلين والآخرين محمّد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه رسَمَ لأمّتِه كيف التعامُل أثناءَ الزّحام، وكيف السّير أثناءَ الكَثرة؛ انصرَفَ من عرفةَ إلى مزدلفة فكان على ناقَتِه يشنقُ لها الزِّمام، إن رأَى سعةً نصَّ وإن رَأَى ضِيقًا تمهَّل في السير [1].
هكذا كان ، وهو قدوةُ المسلمين وإمامُ المسلمين، والصحابةُ يحبّونَه فوقَ محبَّتهم لأنفسِهم وأهليهم وأموالهم، وبالإمكان أن يُفسَحَ الطريق له وأن يكونَ المقدَّم على كلِّهم، لكنه سلَكَ هذا المسلَكَ العظيمَ مسلَكَ تربيةِ الناس وإعلامهم كيف السّيرُ وكيف الأمر، لم يسرِع ولكنّه كان يتمهَّل، إن رأى سعَةً نصَّ أي: أسرع، وإلا مشى العنَق مشيًا خفيفًا، وكان يشير إليهم بيده: السكينةَ السكينةَ [2] ، يمنعُهم مِن أن يؤذيَ بعضهم بَعضًا ويهلِك بعضُهم بعضًا، هكذا كان هديُه.
إذًا فنحن ـ أيّها المسلمون ـ يجب أن نكونَ محترِمين للأنظمةِ النافِعة المفيدة، وأن نعتقدَ أنّ احترامَها والتقيّد بها أمرٌ مطلوبٌ منّا شرعًا، لأنّ سلامةَ الأرواح والأموال مطلوبةٌ من المسلم، فالتهوّر وعدم المبالاة ليست مِن أخلاق المسلمين.
إنَّ أخلاقَ المسلمين قَبول الأنظمة النافعة وتطبيقُها، كلٌّ يطبّقها على نفسه ليسلمَ مجتمعُنا بتوفيق الله من هذه الكوارثِ التي تقضّ مضطَجَح المسلم وتؤلمه إيلامًا شديدًا. ما نسمَع في الصُّحف كلَّ يومٍ عن حوادِثَ مروّعة إنما أسبابها ـ بأمرِ الله ـ السّرعةُ الزائدة، التصرّفاتُ الخاطئة، قيادةُ السيارةِ لمن لا يحسِن القيادةَ ولا يطبّق الأنظمةَ ولا يعرف للسيرِ حقَّه.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنلتَزِم سلامةَ إخوانِنا ديانةً ندين الله بها، أسأل الله أن يأخذَ بنواصي الجميعِ لما يحبّه ويرضاه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهديِ هَدي محمّد ، وشرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنَّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولكَ محمّد، وَارضَ اللّهمّ عَن خلفائِهِ الرّاشِدين...
[1] أخرج البخاري في الحج (1666) عن أسامة رضي الله عنه أنه سئل: كيف كان النبي يسير في حجة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العنق، فإذا وجد فجوة نصَّ.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
(1/3615)
الاعتبار بزلزال شرق آسيا
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
19/11/1425
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مصائب الدنيا وآلامها. 2- إهلاك الله تعالى للأمم السابقة. 3- سنة الله تعالى في إنزال العذاب. 4- انتشار المعاصي والموبقات. 5- الحكمة من هذه الكوارث. 6- طغيان النظرة المادية في مثل هذه الحوادث. 7- آثار الزلزال المدمر. 8- ضعف الإنسان وعجزه. 9- وقفات مع زلزال آسيا. 10- دعوة للتوبة والرجوع إلى الله تعالى. 11- حال السلف الصالح في مثل هذه الكوارث. 12- سبيل الوقاية من عذاب الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واخشوا يومًا ترجعون فيه إليه، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون، اتقوا الله حق التقوى، واحذروا مكره، فإنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون.
أيها المسلمون، إن في هذه الدنيا مصائب وفتنًا ومحنًا وزلازل مدمّرة وأعاصير مهلكة وفيضانات مفرّقة، آلام تضيق بها النفوس، ومزعجات تورِث الخوفَ والجزع، كم ترَى من شاكٍ، وكم تسمع من لوّام، وكم تبصر من مبتلى، تتنوع الابتلاءات وألوان الفتن بين الناس أفرادا ومجتمعات حسب ابتعاد الناس عن المنهج الإلهي، وبحسب قربهم من هذا المنهج وهو التزام كتاب الله وسنة نبيه يكون التخفيف من البلاء والمحنة، والمعصية عندما تكون جماعية يفعلها القاصي والداني في المجتمع المسلم يكون لها أثر مدمر ومخيف لاتساع المساحة التي يظهر فيها شؤم هذا الأثر، فهي تعرّض المجتمع الذي فشت فيه بأسره لغضب الله وانتقامه، وتجعله فاقد المناعة، يهوي ويندثر عند تعرّضه لأدنى هزّة.
لقد قصّ الله علينا في القرآن الكريم خبر كثير من الأمم التي أهلكها بسبب المعاصي الجماعية، وذكّرنا جريمتهم التي استحقوا بها ذلك العقاب مثل قوم عاد: وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ [هود:59]، ومثل قوم لوط: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنْ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود:82، 83]، ومثل قوم شعيب: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتْ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود:94، 95].
ثم يبين الله تعالى سنّته المطّردة في عقوبة المجتمعات التي تفشو فيها المعاصي التي يتواطأ عليها المجتمع ويقرّها أهله، فيقول عز من قائل: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]. والعذاب والبأس الذي ينزله الله بمن يتعارفون ويتميّزون بهذه المعاصي والمنكرات ويفتخرون بها ويبذلون الأموال الطائلة في استنباتها وترسيخها بين الناس قد يكون من الكوارث والزلازل والأعاصير والجوائح التي تجعلها نكالا لمن يأتي من بعدهم كما عذب القرون السابقة، وقد يكون غير ذلك من البلاء والفتن التي تسلبهم نعمة الأمن والاستقرار وتضربهم بالخوف والجوع والذلة والمسكنة كما قال تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ [الأنعام:56]، وكما فعل الله بقارون فقال عز من قائل: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ [القصص:81]. والإنسان عندما يتصوّر العذاب الذي يأتيه من فوق أو يأتيه من تحت يكون أشدّ وقعا في النفس من تصوّره آتيًا عن يمين أو شمال، فالوهم قد يخيّل للإنسان أنه قد يقدر على دفع العذاب من يمين أو شمال، أمّا العذاب الذي يصبّ عليه من فوق أو يأتيه من تحت فهو عذاب غامر قاهر، ولا يدبر أمره إلا الله اللطيف الخبير.
أيها المسلمون، لقد فشا في كثير من المجتمعات الربا والزنا، وشربت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات، كثر أكل الحرام، وتنوعت الحيل، شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات في البنين والبنات، حورب الدين وأهله، وسيم الدعاة والمصلحون أشدّ العذاب والنكال، سخِر منهم واستهزئ بهم، ونال سِفلة القوم الترحيبَ والرفعة، وصدِّروا في المجالس، وأصبح قدوة الشباب الفنّان فلان والمطرب فلان. حين ابتعد الناس عن الطريق المستقيم كثر الكفر والفسوق، وقلّ الشكر وإرجاع الحقوق، كذبٌ وتزوير للحقائق، غيبة ومراوَدة، استبشار بالذنوب، خيانة وخداع، أمر بالمنكر ونهي عن المعروف، إصرار على الذنوب وعدم التوبة، عدم ذكر الله، تبرج وسفور، زنا ولواط، الاشمئزاز من ذكر الله، التجسس، النميمة، منع الخير، الجدال في الله، ترك الصلاة.. إلى غير ذلك من الذنوب والآثام التي تؤذن بعذاب الله وعقابه، وكان حقا على الله أن يعاقب من فعل بعض هذه المنكرات، فكيف بها جميعا؟! وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل:61]، وقال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45].
فمن فضل الله ورحمته أنه لا يؤاخذ الناس بكل ذنب، ولكن إذا نسوا تذكيرَ الله لهم خوّفهم بالآيات التي تهتزّ لها المشاعر والأبدان، كالزلازل والبراكين وسيلان الأودية بالنيران وما يقع في بعض البلدان من الفيضانات، وما ذاك إلا ليخوّف الله به الإنسان إذا تمادى في الطغيان، ولعذاب الآخرة أكبر، ولأمر الله أعظم، كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:52، 53].
إن الأمة حين تغفل عن سنن الله تغرق في شهواتها وتضل طريقها حتى تقع في مصارع السوء، إنها سنة الله حين تفشو المنكرات وتقوم الحياة على الذنوب والآثام والانحلال الخلقي وفشوّ الدعارة وسلوك مسالك اللهو والترف، حينها ينزل الله العذاب والعقاب، والعذاب يعم الصالح والفاسد كما ورد في الحديث: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)). فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44].
أيها الإخوة، لقد طغت النظرة المادية على كثير من أبناء هذا العصر، فضعف عندهم الربط بين الأسباب ومسبباتها، ولم يدركوا العلاقة بين الأعمال وآثارها؛ لهذا عندما زلزلت المدينة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل عائشة عن سبب هذا فقالت له: كثُرت الذنوب، فقال عمر: والله، لئن عادت فزلزِلت لا أساكنكم فيها.
قد يقول قائل ممن يدرس الجيولوجيا: إن سبب هذه الظاهرة الطبيعية هو تقلص القشرة الأرضية وما إلى ذلك، ونحن نقر بهذا التحليل العلمي النظري، ولكن ما وراء ذلك من الأسباب؟ وما السبب في تقلّص القشرة الأرضية وحدوث الزلزال؟ إنها الذنوب والمعاصي.
ولقد ورد في علامات آخر الزمان أنه تكثر الزلازل والخسف، فقال : ((لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل)) رواه مسلم، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يكون في آخر الزمان خسف ومسخ وقذف)) ، قالت: قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) رواه الترمذي وهو حديث صحيح.
أيها الإخوة، لقد سمعنا ما تناقلته وسائل الإعلام المقروءة والمرئية عن الزلزال الذي تعرّضت له ثماني دول في جنوب شرق آسيا على السواحل البحرية دولة أندونيسيا وجيرانها من الدول خلال هذا الأسبوع، وحسب ما ذكره الجيولوجيون المختصون في علوم الأرض أن هذا الزلزال من أعنف الزلازل في العالم منذ أربعين عام، ما يسمونه: المد البحري.
زلازل مدمرة ربا عدد القتلى على ستين ألف شخص، وكل يوم يزيد القتلى، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثواني من الساعة كانت كافية لتدمير كل شيء، منازل أصبح عاليها سافلَها، مساكن بأهلها، ثواني حتى ابتلعتهم البحار واضطربت بمن عليها، فكانت الكارثة وجاءت الأخبار المفجعة المؤلمة.
أكثر من ستين ألف قتيل، والجرحى لا يحصون، آلاف الأحياء جرفتهم أمواج البحار فأغرقتهم، آلاف الجثث لا يعرفها أحد، المقابر الجماعية تفتح لصعوبة دفن كل واحد في قبر، ملايين البشر يبيتون في الشوارع والطرقات خشية من هزة أخرى، فرق الإنقاذ تقف حسيرة عاجزة لا تدري ماذا تصنع.
ونقلت عدسات المصورين صورًا مؤلمة محزنة: هذه أمّ تبكي على ابنها القتيل، وهذه عائلة تحيط بعائلها المسجّى وقد فارق الحياة، وهذان زوجان يقفان على أطلال منزلهما يبكيان وقد صارا بغير مأوى، وهذا طفل يطفح على ماء البحر يراه من حوله لا يقدرون على إنقاذه. هكذا كان، وذهبت ثوان قلائل بجهد عشرات السنين، وأدرك الإنسان بعدها حقيقة حجمه في هذا الكون.
لقد اغترّ الإنسان في هذا العصر بما عنده من العلم والقدرة، وظن أن لن يقدر عليه أحد، وتوهّم أنه سيطر على الأرض وامتلك مقاليدها. غرّه علمه، وغرّته قوته، وغرته سطوته، فأراد الله أن يعلّمه الدرس وأن يبصره بحقيقته، وَخُلِقَ ?لإِنسَـ?نُ ضَعِيفًا [النساء:28].
الإنسان الذي صنع الكمبيوتر وغزا الفضاء ووصل إلى القمر ووقف على سطحه لم يستطع أن يفعل شيئًا، لم يقدر على منع الزلزال ولا على تخفيف آثاره، ولقد تقاطرت فرق الإنقاذ من أنحاء الأرض بعددها وعتادها فكم روحًا أنقذت؟! وكم حياة حفظت؟! ولقد رآها الراؤون تتنقل بين الأنقاض، تتنصت إلى أنين جريح أو غياث مستغيث، فما تزال تردّد النظر ثم ينقلب إليها البصر خاسئًا وهو حسير. وصدق عليّ رضي الله عنه: (مسكين ابن آدم، تؤلمه البقّة) أي: البعوضة. وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى ?لأرْضِ وَلاَ فِى ?لسَّمَاء وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ?للَّهِ مِن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ [العنكبوت:22].
أراد الله أن يبين للعالم أنه مالك الملك، العزيز القهار الجبار، لا تقف قوة أمام قوته، ولا توازي عظمة عظمته، وهل يقدر غير الله أن يأمر الأرض فتهتز فتدك ما عليها؟! لنا ـ يا عباد الله ـ مع هذا الحادث محطات تأمل ومنازل تفكر واعتبار منها:
بيان عجز الإنسان وضعفه وإحاطة قوة الله وقدرته به من كل الجهات: من فوقه، ومن تحته، وفي أرضه وسمائه وهوائه، وكأني بملائكة الموت قد نزلت على سواحل تلك الدول في جنوب شرق آسيا تنتظر الأجل المحتوم والموعد المرسوم، لقبض الأرواح واستيفاء الأعمار، ما أغنت عن الناس أجهزة ولا استعدادات، ولا عمائر أو ثكنات، ولا جند أو حرس، إنما هي لحظات فوقع الحادث الأليم وألمّ بالناس القضاء.
بيانُ عظيمِ بطش الله وقهرِه وجبروته وشدّته وقوة محاله وعظمته، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج:12]، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]. فإن الله سبحانه عزيز ذو انتقام، إنه سبحانه قوي عزيز، إنه سبحانه فعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير، إنه سبحانه شديد المحال، إنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، إنه هو الرزاق ذو القوة المتين.
ولا شك ـ يا عباد الله ـ أنّ هذه عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والفساد، وفيها لمن حولهم عبر وعظاتٌ لا يدركها إلا أولو الألباب، وهي تظهر قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تتحرك لبضع ثوان، فينتج عن ذلك هذا الدمار وهذا الهلاك وهذا الرعب. ولقد أكدت الآثار بأن ذلك يكثر في آخر الزمان، حتى لا يكاد يمر الشهر والشهران حتى تسمع بزلزال في موضع من هذه الأرض، جاء في الحديث الذي رواه الإمامان أحمد والبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، ويتقارب الزمان، وتكثر الزلازل، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج)) ، قيل: الهرج؟ أي: ما هو؟ قال: ((القتل القتل)).
وروى الترمذي عن أبي هريرة بإسناد فيه مقال قال: قال رسول الله : ((إذا اتخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعقّ أمه، وأدنى صديقه وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلةَ فاسقُهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخرُ هذه الأمة أولها؛ فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع)). ولقد شهد الواقع لبعض ما أشار إليه هذا الحديث، من ذلك هذه الزلازل المتتابعة التي لا تخفى عواقبها.
عباد الله، إن الله لا يخلق شرًا محضًا، فكم من شرّ في نظر الناس يحمل في طياته خيرًا كثيرًا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
لقد أخبر النبي أن الزلازل ستحدث وتكثر حين يكثر الفساد وتظهر الفتن، وستكون من علامات الساعة، فقال : ((لا تقوم الساعة حتى تقتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة دعوتها واحدة، وحتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم وتكثر الزلازل ويتقارب الزمان )).
وللعلم فهذه الزلازل والآيات بصفة عامة ليست مختصة بأرض معينة، ولا بمكان معين، فالله عندما حذر الناس من الخسف بسبب ذنوبهم لم يحدد جنسياتٍ معينة ولا بلادًا موصوفة، بل خاطب الجميع وقال: أَءمِنتُمْ مَّن فِى ?لسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ?لأرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ [الملك:16]، وقال أَفَأَمِنَ ?لَّذِينَ مَكَرُواْ ?لسَّيّئَاتِ أَن يَخْسِفَ ?للَّهُ بِهِمُ ?لأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ?لْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ [النحل:45].
اعلموا ـ عباد الله ـ أن من أهمّ ما يلزمنا تجاه هذا الحدث وأمثاله ما يلي:
1- التوبة والرجعة إلى الله سريعًا، فَفِرُّواْ إِلَى ?للَّهِ إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ [الذاريات:50]، من قبل أن يحل بنا ما حل بغيرنا، ولا تأمنوا من مكر الله.
2- الدعاء والتضرع لتخفيف المصاب وكفّ البلاء ورفع العقوبة وأن يرحم الله عباده ويتوب عليهم.
3- تسلية أهل المصائب ومواساتهم بالاتصال أو المراسلة وإمدادهم بالمعونات المادية والمعنوية.
فاتقوا الله عباد الله، واعتبروا بما جرى حولكم، فلنتب إلى الله جميعًا، فإن الله هو التواب الرحيم، ولنتذكر قول الله تعالى: قُلْ هُوَ ?لْقَادِرُ عَلَى ? أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ?نْظُرْ كَيْفَ نُصَرّفُ ?لآيَـ ? تِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ ?لْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لّكُلّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:65-67].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسنة نبيه ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ينزل البلاء برحمته وعدله، ويرفعه إذا شاء بالتوبة والإنابة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، وتوبوا إليه من ذنوبكم، وخذوا على أيدي سفهائكم قبل أن يحل بنا ما حل بمن حولنا، ولنعلم جميعًا أن الذي جعل غيرنا عبرة لنا قادر على أن يجعلنا عبرة لغيرنا.
عباد الله، ولنا مع سلفنا الصالح رحمهم الله وقفة مباركة لنتبين كيف كان حالهم في مثل هذه المواقف العظيمة: فهذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه زلزلت الأرض في عهده فجمع الناس ووعظهم فقال: (لئن عادت لا أساكنكم فيها)، وقال بعض السلف رحمهم الله لما زلزلت الأرض: "إن ربكم يستعتبكم".
ولنعلم أن ما وقع إنما هو من كسب الناس، قال الله تعالى: ظَهَرَ ?لْفَسَادُ فِى ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى ?لنَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ ?لَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، وَمَا أَصَـ ? بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]. فهل نعتبر يا عباد الله؟! إنّ حالنا لا ينطق بذلك، إننا على كثرة ما نسمع ونقرأ ونشاهد من حوادث مروعة وعقوبات مفزعة لا يزال الكثير منا مصرًّا على طغيانه وفجوره.
أيها المسلمون، إننا والله لنخشى من العقوبة، أليس الله يقول: لُعِنَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر ? ءيلَ عَلَى ? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ?بْنِ مَرْيَمَ ذ ? لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ ? هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]؟! وجاء في الحديث: ((إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)). فما الذي أمات الغَيْرة في قلوبنا؟! ما الذي ينجينا من عذاب الله؟! ما الذي يؤمننا من مكر الله؟!
عباد الله، اعلموا أنه لا يقينا من ذلك إلا أن نصلح ما فسد من أحوالنا، نبدأ بأنفسنا ونحملها على الحق، نبدأ بأهلنا وجيراننا ونسائنا وأولادنا، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولنعلم أن لا صحة للإنكار باللسان مع القدرة على التغيير باليد، ولا صحة للإنكار بالقلب مع القدرة على الإنكار باللسان، ولا يصح الإنكار بالقلب ما لم يتمّ الابتعاد عن العصاة وهجر أماكنهم وعدم مجالستهم، وذلك عند عدم انتفاعهم بالموعظة والنصيحة، قال الله تعالى: لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو ? نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22].
عباد الله، ارجعوا إلى دينكم، تعرّفوا على الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، اصدقوا الله يصدقكم، واذكروه يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأدّوا إليه حقّه يوفّيكم حقكم، فإن الله أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين وأجود الأجودين.
ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]؟! أولم تسمعوا إلى خبر الله عز وجل: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ [الأعراف:58]؟! ومن أصدق من الله حديثًا؟!
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن عذاب الله إذا حلّ بقوم عمّهم، فهو لا يصيب ناسًا دون آخرين، قال : ((إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)). وسألته عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا ظهر الخبث)).
فاعتبروا يا أولي الأبصار، اعتبروا يا أولي الألباب، ومن لم يتّعظ بالموت فلا واعظ له، واعلموا أن الدنيا دار بلاء وفناء، وأن الآخرة دار جزاء وبقاء، وأن الله تعالى لن يجمع لعبد أمنَين ولا خوفين، فمن خافه في الدنيا أمّنه في الآخرة، ومن أمِنه في الدنيا أخافه في الآخرة. نسأل الله تعالى الأمن التامّ والهداية.
اللهم يا ربنا، يا من خلقتنا ورزقتنا وأحسنت إلينا، يا أمان الخائفين، يا رب العالمين، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا ممن يأخذون صحائف الأعمال باليمين في يوم الزلزال الأعظم، اللهم يا رحمن يا رحيم كن لعبادك المستضعفين في كل مكان، يا ربنا مَن للمستضعفين من ضحايا الزلزال، يا ربنا من لمن ظلوا تحت الأنقاض...
(1/3616)
قضيّة مسلّمة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة, قضايا المجتمع
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
19/11/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تطلّع الإنسان إلى الأمن. 2- تحقيق الإسلام للحياة الآمنة. 3- فضل بلاد الحرمين. 4- أهمية استتباب الأمن في بلاد الحرمين. 5- حرمة البلد الحرام. 6- شنشنة الخصوم. 7- تعظيم السلف للحرم. 8- استنكار أعمال التفجير. 9- تهافت الفكر التكفيري. 10- الإشادة بجهود رجال الأمن. 11- كلمة لحجاج بيت الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتّقوه حقَّ التقوَى، فهي الرّكن الأقوَى والذّخر الأبقَى والطّريقُ الأنقَى، وهي نِعمَ المطيّةُ إلى جنّةِ المأوَى.
أيّها المسلمون، منذ الأزَلِ كان الإنسانُ ولم يزَل يتطلَّع إلى حَياةٍ آمنة مطمئنّةٍ على ثرَى هذا الكوكَبِ الأرضيّ، تَستقرّ فيها نفسُه، ويهدَأ خاطِره، ويسلو فؤادُه، ويطمئنّ ضَميره، وهل يُرى الخائفُ الفزِع إلاّ حذرًا يترقّب، لا يتلذَّذ بشرابٍ ولا طعام، ولا يستمتِع براحةٍ ولا منام؟! وإنّ حياتَنا المعاصرةَ التي قطعَت في ميدانِ الرقيِّ المادّيِّ والحضَاريّ شأوًا بعيدًا لا تزال تَرزَح تحت نيرِ القلَق والفزَع، ولم تنفكّ ترصف في أصفادِ الخَوف والهلَع وأوهاق الاضطراب والفوضَى، وأيُّ طعمٍ للحياة تحت هذه المعاني القاتمة الكالحَة؟!
ويومَ أن أشرقَت شمسُ هذه الشريعةِ الغراء ظلّلت الكونَ بأمنٍ وارِف وأمان سابغ المعاطِف، لا يستقلّ بوصفِه بيان، ولا يخطّه يَراعٌ وبنان، فالأمنُ مطلَبٌ يرومه جميعُ الأفرادِ والمجتمعات، وتنشدُه كلُّ الشعوبِ والحضاراتِ، في بُعدٍ عن منغّصاتِ الجرائم، وفي منأًى عن جالِباتِ القواصم.
يقالُ ذلك ـ أيّها المسلمون ـ والأمّةُ الإسلاميّة تتوجّه هذه الأيّام نحوَ محوَرِها الذي يجمعها، فالأعناقُ مشرئّبِةٌ والأنظار متوجّهة نحوَ قُطبِ الأمنِ والأمان وركيزةِ الاستقرار والاطمئنانِ، فها هي طلائعُ وفودِ الله قد أقبَلَت، وها هي حلقاتُ قوافلِ ضيوف الرحمن قد شرَّفَت، فحيّهلا بأكرمِ الوفود في أجلِّ بقعةٍ وأفضلِ مشهود.
إخوةَ الإيمان، لقد شاءَ الله لبلاد الحرمين الشريفَين اصطفاءً واختيارًا، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، فجَعلها منطلقًا للرّسالة الإسلاميّة الخالدة، ومتنزَّلاً لوحيه، ومهدًا لدعوة نبيّه عليه الصلاة والسلام، وقِبلةً لعبادِه، ومهوًى لأفئِدَتهم، ومحلاًّ لأداء مناسِكهم، فأمنُها أمنٌ لجميع البلاد، ونورُ إيمانها متلألِئ بحمد الله في كلّ الأصقاع والوِهاد. قلعةٌ من قِلاع الهدى، وصَخرة شمّاء تتهاوى أمامَها سهام العِدا، وتتلاشى أمام شموخِها عوامل الرّدى. منارةُ الإسلام ومأرِز الإيمان ومحضن العقيدة والشريعة ومركَز الإشعاعِ والحضارة ومنطَلَق القيادة والسّيادةِ والرّيادة للعالمِ الإسلاميّ والخطُّ الأخير في غرّةِ الوجود الإسلامي وخاتمةُ سورِ الدّفاع العقديّ والحصنِ الإيمانيّ. هي معقِل الشريعة وعاصمتُها الخالدة ورأسُ مال الأمّة وأغلى أرباحِها، تُعدّ بمثابةِ مركز القَلب في الجِسم الإنسانيّ، حفِظها الله فلم تطَأها قدمُ مستَعمِر، وسلَّمها الله فلن تعبَثَ بأمنِها يد دَعيٍّ مستهتِر. لا مكانَ فيها بإذن الله للعمليّات الإرهابيّة، ولا مجالَ فيها للأعمالِ التخريبيّة والأفعال الإجراميّة، فاللهُ قد بسَط أمنَه في ربوعها، ونشر أمانَه في كلِّ أرجائها، فله الحمد والمنة.
وإنَّ المسلم الحقَّ لينشرِح صدرُه باستتباب الأمن في قِبلة الإسلام الأولى وانطلاقَةِ دعوتِه الكبرى، ويفرح ويغتبِط حينما يرَى صفاء العقيدَة، ويغمره السّرور ويكتنِفه الاستبشارُ والحبور حين يجِد الراحةَ والأمن وهو يحجّ ويعتمِر بكلّ أمانٍ واطمئنان، بعدما كانت رحلةُ الحجّ والعمرة رحلةً مصيريّة تمثِّل حياةً أو مَوتًا، فللَّه الحمد أولاً وآخرًا وباطنًا وظاهرًا.
معاشر المسلمين، وإنَّ من فضل الله على عباده ما هيّأ لهم من هذا البيتِ الحرام والبلدِ الأمين، الحرمِ الأزهر والثرى الأفيحِ الأطهر والمقامِ الأسنى الأنوَر، خيرِ الأماكن وأجلِّ البقاع على الإطلاق وأفضلِها باتفاق، كيف وقد أدام الله ذكرَها في قرآنٍ يتلَى إلى يوم التلاق؟! يقول سبحانه: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [النمل:91]، وقد امتنَّ سبحانه على ساكني هذه الدّيار بنعمة الأمن والإيمان، فقال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص:57]، على حينِ أنَّ العالمَ اليومَ تتناوَشه حروبٌ عاصفة ورعودٌ بالخوف والفزع قاصفةـ وتقضّ مضاجعَه أعمال الإرهاب والحوادث، وتنغِّص أمنَه أبشعُ الجرائم والكوارِث، وأخبارُ الزلازل والفيضانات والبراكين والاضطرابات وتنامِي أعمال التخريب والتفجيرات.
إخوةَ العقيدة، وإذا كان الأمنُ في البلدِ الحرام متعدِّيًا إلى الصيدِ والنبات والجماد، فكيف بالإنسان المسلم؟! فهل بعدَ هذا من دليلٍ على رعايةِ الإسلام الفائقَة لحقوق الإنسان، وأنه دينُ الرحمة والأمن والخير والسلام؟!
إنَّ حرمةَ هذا البلد نافذة، وأمنَه ومكانتَه دائمة، من لَدن إبراهيمَ وإسماعيل عليهما السلام، إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وقد حماه سبحانه من كلِّ كيد وردَّ دونه أعتى أيد.
وهذا الأمنُ الذي امتدَّ مَداه وعمَّ أثره وسناه خاصّ بالبلد الحرام من سِوى الأرض أجمع، لا يرتفِع عنها ولا ينفضّ منها بحالٍ من الأحوال، فهو أمنٌ إلهيّ معجِزٌ لكلِّ المحاولات البشريّة في إيجاد منطقةٍ حرام يعمّ فيها الأمنُ والسّلام، ويلقى فيها السلاح، ويأمن فيها المتخاصِمون، وتحقَن الدّماء، ويلوذ بها كلُّ ملهوف، ويؤمَّن فيها كلّ مخوف، وهذا البلد الحرام وما اشتمل عليه من خصائصَ عِظام وأمنٍ لا يُضام منقطِع النّظير والأشباه، وذكرُ شرفِه وأمنِه جارٍ مجرَى سوائِرِ الأمثال على الأفواه، تتساقَط الشّعارات وتتهاوَى الحضارات كأوراق الخريف اليابسَة، ويبقَى البلد الحرامُ عبرَ التأريخ محفوظًا بحِفظ الله، رمزًا للتّوحيد وموئِلاً للعقيدة ودوحةً للأمن والأمان بحمد الله.
معاشرَ المسلمين، ولقد دَأب الخصومُ على رفعِ عقيرَتهم عند تجدُّدِ كلِّ نِعمة وتبدّدِ كلِّ نقمة، فشنّوا الحملاتِ الإعلاميّةَ المغرِضة، وبثّوا الدِّعايات والوشايات الكاذِبة ضدَّ هذه البلادِ المباركة، وهي شِنشِنة معروفةٌ من أَخزَم، يردِّدها بعض من أرخَى زِمامَ نفسِه لخصمه، وأعار عَقلَه وفكرَه لغيره، فصار يهذِي بما لا يدرِي، ويهرفُ بما لا يعرف، جهلاً أو إغراضًا، دون رويّةٍ وتثبّت ونظرٍ وتبيّنٍ واطّلاع، يصدِّق كلَّ ما يذاع، ويسلِّم بكلِّ يُشاع. وشأنُ المسلم الحصيفِ الواعي أن ينظرَ بميزان النقلِ الصحيح والعقل الصريح وجلب المصالح ودرءِ المفاسد والحذَرِ من الانسياقِ وراء أدعياءِ كلِّ فتنةٍ ومؤجِّجِي كلِّ محنَة.
إنَّ علينا جميعًا ـ يا رعاكم الله ـ أن نكونَ مع عِظَم هذا التشريفِ على مستوَى الثقةِ والتكليف، سائرين على دَربِ الجماعة تحتَ رايةِ التوحيد وعلى منهاجِ النبوّة، لا تتوازَعنا الفرَقُ والأهواء، ولا تفرِّقنا الأحزاب والآراء، محيينَ لما اندَرَس من معالم الدّين، مصحِّحين لما التبَسَ من مفاهيم الشريعة، محاذرين كلَّ شائعةٍ وتشويش، مجانِبين كلَّ ذائعةٍ وتشويش، تقصِد الإساءةَ والبلبلة والتحريش.
أمّةَ الإسلام، إنَّ من الثوابت والمسلَّمات أن قدسيةَ الحرمين الشريفين والتجافي عن كلِّ ما يعكِّر أمنَهما عقيدةٌ راسِخة وقضيّة أزليّة ثابتة، لا يغيِّرها السنون، ولا تبدِّلها القرون، فحريٌّ بأهلِ الإيمان مراعاتها والحفاظُ عليها، لا سيّما في زمن الفتن والتحدّيات والمحن والمتغيرات.
يؤكَّد ذلك والأمّةُ لا زالت تكتوِي بنار حملاتٍ مسعورَة تتبارَى وصيحاتٍ مغرضة تتعالى وتتجارَى، ولم يعد أحدٌ في تكذيبها يتمارَى. ألسنةٌ بالبُهتِ انطلقت وبالحِقدِ الدّفين اندَلقَت، إنه وإنِ انبرَى سفيهٌ غيرُ فقيهٍ ولاسنَ موتور ونبَح مَسعورٌ هبيلُ الرأي مسَطَّح التفكير، إثارةً للفتنةِ في بلادِ الحرَمين، وتأجيجًا للأغرار، وتهييجًا للرّعاع، فلن يزيدَ أمنَها إلا ثباتًا وأمانَها إلاّ رُسوخًا. والذي يقال لهؤلاء وأولئك: اقرَؤوا التاريخَ إذ فيه العِبَر، فللبيتِ ربٌّ يحميه، وفي الأثرِ عن أنَسٍ رضي الله عنه: (الفِتنةُ نائمةٌ لعَن الله من أيقظها) [1].
إنَّ استحكامَ الأمنِ في البلد الحرام عقيدةٌ راسخة، أصلُها ثابت وفرعُها في السماء، إزاءَ ما يُعلَم من حملاتٍ ماكِرة وهجماتٍ سافرة، ترفّ حولَ الإسلام وأهله وقِبلته ومقدَّساته من قِبَل أعدائِه وخصومِه ومَن سار في فَلَكهم وخدَم أغراضَهم وحقَّق مَرامَهم من بني جِلدتنا ومن يتكلَّمون بألسنَتِنا، فالذي حفِظَ بيتَه الحرام وسدَنتُه مشرِكون حافظُه ـ بحوله وقوّته ـ وسدَنتُه موحِّدون متَّبعون.
وإنَّ الأمنَ العميم الذي ضرَب بجِرانِه وأحاط بأركانِه على بلادِ الحرمين ـ زادَها الله توفيقًا ـ فآضَت بحمد الله مضرِبَ الأمثال وواحةَ سلامٍ واطمِئنانٍ عديمةَ المِثال لن تفُلَّ في شباتِه أصواتٌ ببَّغاويّة مغرِضة، ولن يلينَ من قناتِه أحداثٌ نشاز عن الحقِّ والهدَى معرِضة. فتبًّا لكلِّ يدٍ آثمة معتديَةٍ على أمنِ البلاد والعباد، متعطِّشةٍ لسفكِ الدّماء وتناثُر الأشلاء وانتهاك حُرمة الأبرياء، ناهِجةٍ منهجَ التّكفير، سالِكةٍ مسلكَ الإجرام والتفجير والتخريبِ والتدمير.
خرّج الترمذيّ في سننه أنّ رسولَ الله نظرَ إلى الكعبة فقال: ((ما أعظمَك وأعظمَ حرمتَك، إلاّ أنَّ المؤمنَ أعظمُ عندَ الله حرمةً منك)) [2]. ولقد ضَرَب السلف الكرامُ أروعَ الأمثلة في تعظيمِ البلَدِ الحرامِ والشهر الحرام، وما ذلك إلاّ خشيةَ اللَّمَم وتعظيمًا للحَرَم وصيانةً للحُرَم. ألا ما أروعَه من أدَبٍ، وما أنبلَه من أرَب، وبُؤسًا ثم بُؤسًا لمن خرَج عن نهجِه وشغب. كم يستبيك معظِّمُ الحرَمِ الحرام، وكم يستهوِيكَ موقِّرُ هذه العرَصَات العِظام، وتالله إنَّ ذلك لعنوانُ الصّلاح والفَلاح وميسمُ التّقوَى في الخلوةِ والجلوى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]. فهنيئًا لمن درَج بالخشيةِ بين جنباتِ هذه البلاد الطيّبة ونبَت، ويا بُشرى لمن استقرَّ على تعظيمِها وثبَت، فاللهَ اللهَ ـ إخوتي الحجّاج ـ في المحافظةِ على هذهِ الأجواءِ الآمنة المطمئنّة وتوقير هذه المشاعِر والبقاع الشريفة، فأمنُها أمنٌ لكلِّ مُستقْبِلٍ لقِبلتها، لا يغيظ بذلك إلاّ قلبُ كلِّ جحودٍ وضميرُ كلّ كَنود.
أمّةَ الإسلام، ومع ما يذكَّر من مكانةِ هذه البقاعِ الشريفة وضرورةِ رعايةِ أمنِها، فهي ليست دعوةً محليّة ولا إقليميّة ولا عنصريّة، وإنما هي دعوةٌ إسلاميّة شرعيّة عالميّة، وهذا قدَر الله وإرادتُه الكونيّة والشرعيّة لهذه البلاد المباركة، بل فخرُها وشَرَفها، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وما موقِع هذه البقعةِ مِنَ العالم إلاّ موقِعُ القِبلةِ من المصلَّى والتاجِ منَ الحُلّة والغُرّةِ من التّحجيل، وقولوا لي بربِّكم: من الذي لا يطبَع قُبلتَه على قِبلتِه ويهيم بحبِّ عَرَفات الشّعائر ومقدَّسات المشاعر وأماكِنِ المناسك لكلِّ متعبِّدٍ ناسِك؟! بل حُبُّها في ضميرِ كلِّ مؤمِنٍ يفيض، ومن قلبِ كلِّ شانئ يغيض، واللبيبُ المنصِف الذي لم تُعشِ نورَ بصَرِه وبصيرته رواسِبُ الغلِّ والشّحناء وكوامِنُ الحِقد والحسَد والبغضاء يدرِكُ أنَّ هذه الحقيقةَ معلَم من معالم هذه الشريعة وملمَح مهمٌّ مِن ملامح هذه الملّة، ينبغي أن يُروَى فلا يُطوى، ويُظهَرَ فلا يغمر، ولا يبانَ فلا يُطمَر، لا سيما للنّشء والأجيال.
يقال ذلك ـ أيّها المسلمون ـ تذكيرًا بالنّعَم ليُشكَرَ المنعِم المتفضِّل سبحانه، وتأكيدًا على هذه القضيّةِ المهمّة؛ حتى يتذكَّرَها جيلُ اليوم الذي يُخشَى أن ينخدِعَ بالأبواق النّاعِقَة التي أصبَحَت من المصداقيّة نافِقَة، وإهابَةً بالأمن للتذكُّر والاتّعاظ والاعتبار، وليس هذا القولُ لأحدٍ مجاملةً ومَدحًا، ولا لآخرَ ذمًّا وقدحًا، ولكنّه لله ثمّ للحقيقةِ والتأريخ.
أمّةَ الإسلام، وحينما يُذكَّر المسلمون بهذا الموضوعِ المهمّ فإنّ كلَّ غيورٍ تهتَزّ بالشّجب والإدانةِ مشاعِرُه وتتحرَّك بالاستنكارِ والتنديد كوامِنُه لكلِّ ما يكونُ سببًا في تقويضِهِ وزَعزَعةِ أمنِه، ولا شكَّ أنَّ ما حَدثَ مؤخَّرًا في مدينةِ الرياض ـ عاصِمةِ بلادِ الحرمين رياضِ التوحيدِ ونجدِ الأصالةِ والتّجديد ـ من تفجيراتٍ آثمة يائِسَة يُعدّ ضربًا من ضروبِ الإفسادِ المحرَّمِ، وصورةً قاتمة من صوَرِ الإرهاب المجرَّم، ودليلاً قاطعًا على تداعِي فِكرِ الغُلوِّ المنحرِف وتهافُتِه بطريقةٍ بشِعَة، حيث يهدِف إلى جرِّ بِلادِ التوحيدِ إلى ميدانٍ للاحتِرابِ والتفجير ومستَنقَعٍ للتّخريب والتدمير، ومع ذلك فإنّه يمثِّلُ ـ بحولِ الله ـ نهايةَ النهايةِ لهذا الفِكرِ المنحرِفِ لما أفرَزَه من أفعالٍ عشوائيّة يائسَةٍ وأعمَال مرتَجَلةٍ مترنِّحَة، تستهدِف كلَّ ما أمَامَها ولو كانَ البلَدَ ومكتسباتِه والمجتَمعَ ومنشآته وقلاعَ أمنه ورجالَه وممتلكاتِه، ممّا يؤكِّد حالةَ اليأس التي يعانيها وأوضاعَ البؤسِ بأبشعِ مراميها، وما هي إلاّ فُقاعاتٌ زائِلَة وإفلاس ذريعٌ وفشَل ظاهِر مفضوح وعبَثٌ صبيانيّ غيرُ مبرَّر.
والسؤال الذي يطرَح نفسَه: لماذا كلُّ هذا التصعيد الإرهابي؟! وإلى متى يستمرّ هذا المسلسَل الإجراميّ؟! ولماذا هذا التوقيتُ الزمنيّ في شهرٍ من أشهُرِ الله الحرُم، وفي الوقتِ الذي تستقبل الأمّة فيه موسِمَ الحجّ المبارك؟! وما هو دورُ كلٍّ منّا في إطفاءِ نارِ الفِتنة والوقوفِ بحزمٍ أمامَ المحرِّضِين عليها منَ القَعَدَةِ المتوَاطِئين والمتخاذِلِين المتفرِّجين؟! وهل يدرِكُ هؤلاء ومَن يقِف وراءَهم أنهم دُمًى يستخدِمها أعداءُ الملّةِ والأمّة وخصومُ البلاد وشانِئوها في تحقيقِ أغراضِهمُ الدّنيئةِ شاؤوا أم أبَوا؟! وهل أخذَتِ الأمةُ بالتدابيرِ الوَاقيَة لحمايةِ عقول أبنائِها وأفكارِ شبابها من هذا الدّخنِ الفكريّ والانحراف المنهجيّ؟! وهل يجعَل أبناءُ هذه البلادِ من أنفسِهم رقيبًا حاضرًا وعينًا ساهِرَةً لا تتغاضَى أمام أيِّ خِيانة لأمنِ البلاد وأمانها؟!
ومع ذلك فإنّه من التحدُّث بنعَم الله تلك الجهودُ الأمنيّة المباركة والضَرَبات الاستباقيّة الموفَّقةُ لرجالِ أمننا البواسِل الذين وقفوا في هذهِ الأحداث موقفَ اللّيوث الأشاوِس على أبوابِ العرينِ الوادع، والدعاءُ مبذولٌ لهم من حرَم الله الآمنِ أن يزيدَهم الله ثباتًا على ثباتهم، ويملأَ قلوبَهم سكينةً وطمأنينة، وأن يجعلَ أعمالهم رِباطًا في سبيله، وأن يثقِّل بها موازينَهم كِفاءَ ما قدّموا ويقدِّمون في خِدمة مجتمَعهم، وجزاءَ ما بذلوا ويبذُلون في تعزيزِ أمنِ بلادهم والمحافظةِ على ثغور مجتمَعِهم، مما يتطلَّب شدَّ أزرِهم وشحذَ هِمَمهم واستنهاضَ عزائمهم وتقديرَ جهودهم والتعاونَ معهم في تحقيقِ الأمن للبلاد والعباد.
ألا فلتسلَم بلادُنا الشماء، ولتهنَأ ربوعُنا الغنّاء، ولتبقَ عبرَ الأعصار دُرّةَ الأمصار وشامَةَ الأقطار وواحةَ أمنٍ وأمانٍ ومنطَلَقَ خيرٍ وسلام واطمئنان للبشريّة كافّة، ولتدُم حارسةً للعقيدة ذائِدةً عن الشريعة ساعيَةً لكلِّ خيرٍ وصلاح للإسلامِ والمسلمين، بل والإنسانيةِ جميعًا، وشاهَت وجوهُ الخصومِ المتربِّصين ورغِمَت أنوفُ الحاقِدين الحاسدين الذين تزكِمُهم وتشرِقُهم منظومتُها الأمنيّةُ المتألِّقة ونسيجُها الأمنيّ المتميِّز، وإن رغِمَت أنوفٌ من أناسٍ فقل: يا ربِّ، لا ترغِم سِواها.
حفِظ الله بلادَ الحرمين وسائرَ بلاد المسلمين من كيدِ الكائدين وحِقد الحاقدين وعدوانِ المعتدين، وأدام عليها أمنَها وإيمانها ورخاءَها واستقرارها، إنّه خير مسؤول وأكرَم مأمول، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
نفعني الله وإيّاكم بالوحيين، وبهديِ سيد الثّقلين، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفور رحيمٌ.
[1] رواه الرافعي في تاريخ قزوين (1/291) عن أنس مرفوعا، قال الألباني في السلسلة الضعيفة (3258): "منكر". وينظر من أخرجه موقوفا.
[2] الذي في سنن الترمذي في كتاب البر (2032) أن هذا من كلام ابن عمر رضي الله عنهما موقوفا عليه، وصححه ابن حبان (5763)، وحسنه الألباني في غاية المرام (435). وأخرجه ابن ماجه بنحوه عن ابن عمر مرفوعا، قال البوصيري في الزوائد (4/164): "في إسناده مقال"، وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (785).
_________
الخطبة الثانية
_________
لله الذي منَّ علينا بالإسلامِ شِرعة ومنهاجًا، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له هيّأ لعبادِه البلدَ الحرام فأمّوه آحادًا وأفواجًا، وكسَاه من حُلَل الأمن والإيمان ما يزيده جَلالاً وابتهاجًا، وأشهد أن نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله بعثَه ربّه هاديًا ونورًا وسراجًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبِه الذين كانوا للمقتفِين نِبراسًا وللأمة تاجًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان ما أهلَّ محرِمٌ بالتوحيد وناجى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، ويا أيّها الحجاج الميامين، اتقوا الله ربَّكم فهو بالتقوى قمين.
عباد الله، حجّاجَ بيت الله، ها هي أيّامُ الحجِّ المبارَكَة قد أظلَّت، ولياليهِ الزُّهرُ قد أهلَّت، وبواعِثُ الشوق من مكانِها أهبَّت، وأفئدَةُ المسعَدِين بهذا المكانِ قد وضعَت وخَبّت، وها هي بلادُ الحرَمين الشّريفين لكم قد تبدَّت واستعدَّت، برّاقةَ المباسم استبشارًا بكُم يا وفودَ خيرِ المواسِم.
أيّها الحجاجُ الأكارِم، يا مَن تكابِدون من أجلِ هذه الفريضةِ العظيمة الشوقَ وضرامها، ومِن أجلِ هذا البيت العتيق النّوَى وسِقامه، اشكُروا الله عزّ وجلّ على ما تنعَمون به من شرفَيِ الزمان والمكان، واغتنِموا ـ رحمكم الله ـ الأجورَ والعطايا، واجتنِبوا الآثام والخطايا، فالحقّ تبارك وتعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:179]، ويقول : ((ليس للحجِّ المبرور ثواب إلا الجنة)) خرّجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [1].
أخي الحاجَّ المبارَك، ها وقَد أسعَدَك الله بسلامةِ الوصول وحصولِ المأمول، وأمتَعَك ببَردِ اليقين، فسحَّت عينُك الدّمعَ السخين، خوفًا من الآثام والذّنوب، واستغفارًا للمعاصي والحوبِ، فاحرص ـ وفّقك الله ـ أن تكونَ نقِيًّا من ألفاظِك، غضيضًا في ألحاظِك، آطِرًا نفسَك على القُرُبات والطّاعات، صائِنًا قلبَك عن الهوى والدركات، مخلِصًا لمن لبَّيت نداءَه بالحج، وليكُن ذلك ـ يا محبّ ـ ديدنَك في كلِّ طريق وفجّ، متحلِّيًا بحسن الأخلاقِ ونُبل الشمائل وكريمِ السجايا وأدبِ التّعامُل، وحِفظِ الأمن والنظام والتأسِّي بالحبيب المصطَفى والرسول المجتبى القائل: ((خُذُوا عني مناسِكَكم)) [2] ، والاستعدادِ لهذه الفريضةِ العظيمة بالعِلم النافع والعمل الصّالح والتوبةِ النصوح، فلا مكانَ في الحجّ للمزايَداتِ والمهاتَرات والتّجمّعات والمظاهرات.
أيّها الأحبّةُ في الله، وثمّةَ لطيفةٌ ينبغِي أن لا تعزُبَ عن ذهنِ قاصِدِ بيتِ الله الحرام، وهي ذلك الارتباطُ الوثيق والاتِّصال العميق بين الأمنِ والإيمان، بين البيتِ والتوحيد، بينِ الحجّ والعقيدة، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم:35]، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26]. فالتّوحيد ـ يا عبادَ الله ـ أولاً وآخرًا، والعقيدةُ ـ يا حجَّاجَ بيتِ الله ـ ابتِداءً وانتهاءً، فإذا آمنّا أمِنَّا، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وإذا وحَّدنا توحَّدنا، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وعظِّموا الشعائرَ والمشاعر تحظَوا بالخيرِ الوافر والنجاةِ يومَ تُبلَى السرائر، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير فقال عزّ من قائلٍ كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيّد الأولين والآخرين وخاتم الأنبياءِ والمرسلين ورحمةِ الله للعالمين نبيّنا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأزواجه أمّهات المؤمنين، وصحابته الغرّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين...
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج (1773)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1349) بنحوه.
[2] أخرجه مسلم في كتاب الحج (1297) عن جابر رضي الله عنه.
(1/3617)
نصائح لحجاج بيت الله
فقه
الحج والعمرة
محمد أحمد حسين
القدس
19/11/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بدء المسيرة المباركة لحجاج بيت الله. 2- تحري المال الحلال في نفقة الحج. 3- التحذير من الرياء والمفاخرة بالحج. 4- فوائد وعبر من مدرسة الحج. 5- وقفات مع خطبة النبي في عرفات. 6- استحباب زيارة مسجد النبي والسلام عليه وعلى صاحبيه. 7- تفشي الظلم والمعاصي من أسباب وقوع الكوارث. 8- ما تنفقه الدول على التسلح يفوق ما تقدمه للمنكوبين. 9- استمرار العدوان على القدس وأهله. 10- دعوة لتوحيد الصف.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله العظيم وطاعته، وأحذركم وإياي من عصيانه ومخالفة أمره؛ لقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، منذ يومين بدأت قوافل حجاج بيت الله الحرام تنطلق من هذه الديار المباركة أراضي فلسطين متجهة للديار المقدسة، حيث الشعائر والمناسك لأداء فريضة الحج, بالطواف حول بيت الله الحرام، والشرب من ماء زمزم الطهور، وهو لما شرب له كما ورد في الأثر, والصلاة عند مقام إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا وجميع المرسلين أفضل الصلاة وأتم التسليم, والسعي بين الصفا والمروة، وهو سعي المتردد على باب الله طلبًا للغوث والعون تأسّيًا بأم إسماعيل عليهما السلام. قال تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158].
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، وخلال الأيام القادمة يكتمل سفر الحجاج من هذه الديار المباركة, نسأل الله لهم حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا وسعيًا مشكورًا وتجارة رابحة وسفرًا ميسّرًا وعودة ميمونة, ونوصي إخوتنا حجاج بيت الله وأنفسنا بالمبادرة إلى التوبة الصادقة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها؛ لقوله تعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
وحتى يكون الحج مقبولاً فتحرَّ في الحج أن تكون النفقة على نفسك وعيالك من مال حلال، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، ولله در الناجح المستبصر القائل:
إذا حججت بمال أصله دنس فما حججت ولكن حجّت العيرُ
لا يقبل الله إلا كل طيبة ما كل حجٍّ لبيت الله مبرورُ
واقصد ـ أخي الحاج ـ في حجك وجه الله، وابتعد عن الرياء والسمعة والمفاخر، اقتداء برسولنا الأكرم حيث قال حينما شرع في سفره من المدينة قاصدًا مكة لأداء الحج: ((اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة)). وبدأ التلبية، وهي نداء التوحيد وإعلان العبودية لله رب العالمين: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).
أيها المسلمون، يا من عزمتم على أداء الفريضة في هذا العام، إن هذه العبادة العظيمة تشتمل على حِكم جليلة، وهي مدرسة للتربية على الأخلاق وجميل الصفات، والتعاون بين الحجيج على البر والتقوى، والصبر على مشاق السفر وطباع الأصدقاء والإخوة الحجاج القادمين من جميع أرجاء المعمورة، فكونوا ـ يا حجاج ديار الإسراء والمعراج ـ رسل خير إلى المؤتمر السنوي الذي يجمع المسلمين على اختلاف لغاتهم وأجناسهم، فيوحد شعورهم وهم يؤدون شعائر ومناسك الحج في مظهر فريد وعظيم لوحدة العقيدة والسلوك.
فكلهم يهتفون بالتوحيد، ويلهجون بالعبودية بلغات شتّى، لا تختلف على رب السماوات العُلى، ويطوفون حول البيت العتيق، ويرتّلون خير دعاء: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار). وقد تجرّدوا من مظاهر الدنيا وزخرفها، فما يزيد لباس الإحرام عن مقدار ما يكفي ابن ادم حين خروجه من الدنيا، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ومن أركان الحج العظيمة الوقوف بعرفات الله يوم التاسع من شهر ذي الحجة، وفي هذا اليوم العظيم والمجمع الكبير يجود الله فيه على عباده بالعفو والمغفرة والعتق من النار، ويباهي بهم الملائكة، لما روي عن النبي قال: ((إذا كان يوم عرفة فإن الله تبارك وتعالى يباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثًا غبرًا ضاحين من كل فجّ، أشهدكم أني قد غفرت لهم)).
وفي هذا اليوم العظيم والمؤتمر الإسلامي الكبير أعلن رسول الإنسانية عليه أفضل الصلاة ميثاق حقوق الإنسان، فيما قرّره من مبادئ في خطبته الشهيرة في حجة الوداع، وقد التزم المسلمون بهذه المبادئ، وطبقوا هذه الحقوق، ليس على أنفسهم فقط، بل على غيرهم من الناس على امتداد دولتهم الإسلامية.
ومن تلك المبادئ حرمة الدماء والأموال، وإبطال الربا والتعامل به، ونبذ مظاهر الجاهلية والأخذ بالثأر.
كما أوصى بالنساء وحقوقهن، وجعل عصمة المسلمين وهويّتهم بتمسكهم بكتاب الله وسنة نبيه فقال: ((وقد تركت فيكم أمرين، لن تضلوا إن اعتصمتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله، وأنتم تُسألون عني، فما أنتم قاتلون؟)) قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأدّيت ونصحت، فقال: ((اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات.
إنه النداء الخالد والشرع الحكيم الذي انطلق في رحاب عرفات الله، يملأ سمع الزمان على امتداد الحياة، ويهيب بالمسلمين كلما انحرفوا عن جادة الصواب أن يعودوا إلى كتاب الله، ويقفوا عند حدوده، ويطبّقوا حكامه، متأسّين بسنة المصطفى وأصحابه الكرام ونهج السلف الصالح لهذه الأمة، إذ لا صلاح لأمتنا إلا بما صلح به أول أمرها.
أيها المسلمون، يا من عزمتم على أداء الفريضة لهذا العام، احرصوا على زيارة المسجد النبوي الشريف والصلاة فيه، خاصة في الروضة الشريفة، فقد روي عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة)).
وينبغي لزائر المسجد النبوي الشريف أن يزور القبر الشريف للسلام على الحبيب المصطفى وخيرة الخلق وصفوة الخالق، فيقف متأدبًا غاضًّا صوته، مستحضرًا هيبة النبي قائلاً: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنك قد بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وجاهدت في سبيل الله حق جهاده حتى أتاك اليقين. وبعد ذلك يتقدم للسلام على صاحبي رسول الله : أبي بكر الصديق وعمر الفاروق رضي الله عنهما، ثم يدعو لنفسه ولأهله وللمسلمين [1].
أيها الإخوة حجاج بيت الله الحرام من أبناء ديار الإسراء والمعراج، نودعكم على بركة الله، سائلين المولى عز وجل أن يحفظكم، وييسر سفركم، ويبلغكم مرادكم، وأن يجعل حجكم مبرورًا، وسعيكم مشكورًا، وذنبكم مغفورًا.
[1] لا يشرع الدعاء في مثل هذا الموطن لأنه خلاف ما جاءت به الأدلة الشرعية، ولم يفعله السلف الكرام رضي الله عنهم مع حرصهم الشديد على الخير، وهو ذريعة إلى الغلو ومنه إلى الشرك والعياذ بالله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
نوازل وكوراث تحلّ بالعالم، منها ما يجري على أيدي الناس مباشرة كالحروب والقتل، ومنها ما يجري وفق النواميس الكونية كحركة النيازك والزلازل، وهذا وذاك مردّه إلى ظلم الناس لأنفسهم وظلم بعضهم لبعض، وإعراضهم عن هدايات الحق، وارتكابهم للمعاصي، فلا ينزل بلاء إلا بذنب، والله يقول: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
وفي الحديث الشريف عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: خرج رسول الله يومًا فزِعًا محمرًّا وجهه يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثُر الخبث)).
لقد هلك خلق كثير جرّاء الزلزال الذي ضرب دول شرق آسيا، بينهم الأطفال الأبرياء والجنسيات المختلفة الأديان، وهذه آية من آيات الله، يعتبر بها المؤمن، ويفزع منها الكافر، وهو لا يستطيع منعها أو ردها، فلا مرد لأمر الله تعالى.
أيها المسلمون، إن ما يُنفق على آلات الحرب والدمار من المال يفوق ملايين المرّات ما يُقدّم من مساعدات للشعوب المنكوبة بهذه الكوارث، وإن ما يُبَدّد من أموال وطاقات في الحروب الاستعمارية اليوم يكفي للنهوض بشعوب البشرية إلى المستوى اللائق بحياة وكرامة الإنسان، فهل يعود الظالمون عن ظلمهم، ويخشون القوي الجبار؟!
أيها المسلمون، يا أبناء الإسراء والمعراج، في غمرة الضجيج بالحديث عن السلام يستمر العدوان الإسرائيلي على أبناء شعبنا في مدنه وقراه ومخيماته، ويودّع شعبنا المرابط مواكب الشهداء من الأطفال والشيوخ والشباب والنساء، كما تتسارع وتيرة الاستيطان ومصادرة الأرض وتجريفها لبناء جدران الأمن المزعوم.
ولم يسلم المسجد الأقصى من أذى المستعمرين والمتطرفين اليهود الذين يمسّون قدسيته من خلال وصولهم إليه بالمشروبات المحرمة، ومحاولة ممارسة الطقوس الخاصة بهم؛ لفرض واقع جديد بالقوة. كما يجري الإعداد لإزالة ما تبقى من حي المغاربة والطريق المؤدية إلى المسجد الأقصى من باب المغاربة، بما تمثله هذه الطريق من حضارة إسلامية وحقب من تاريخ المسلمين ومدينة القدس العربية الإسلامية.
إن القيام بمثل هذه الأعمال يُشكّل عدوانًا مباشرًا على المسجد الأقصى، ويمسّ مشاعر الملايين من المسلمين في هذا العالم، ويتحمّل الاحتلال الإسرائيلي كافة ما يترتب على هذه التصرفات من نتائج وتداعيات.
إننا نهيب بأبناء شعبنا المرابط أن يكونوا صفًّا واحدًا في المحافظة على هذه الأرض المباركة والتمسك بها والالتفاف حول مقدساتها، وعلى رأسها المسجد الأقصى. وفي هذا رعاية لحق شعبنا في العودة إلى دياره وتحرير أسراه وتحقيق حقوقه الثابتة والمشروعة فوق هذا الثرى الطاهر، الذي روي بدماء الصحابة الكرام والشهداء الأبرار، الذين قضوا في سبيل الدفاع عن العقيدة.
(1/3618)
الاعتبار بزلزال شرق آسيا
التوحيد, موضوعات عامة
الربوبية, جرائم وحوادث
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
19/11/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كثرة الزلازل. 2- زلزال آسيا. 3- واجبنا تجاه الحدث. 4- عبر وعظات. 5- وجوب الصبر والرجوع إلى الله تعالى. 6- ضعف الإنسان وعجزه. 7- بين زلزال الدنيا وزلزال الآخرة. 8- المخرج وسبيل النجاة. 9- استنكار تفجيرات الرياض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فأوصيكُم ونفسي بتقوَى الله، قَال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
إخوةَ الإسلام، كثُرت الزلازل في هذا العصرِ، وهذا تأكيدُ وتصديق ما جاء في الحديثِ: ((لا تقوم الساعة حتى تكثُر الزلازل)) [1] ، وعن سلمةَ بن نفَيل قال: كنا جلوسًا عند رسول الله فذكر الحديث وفيه: ((بينَ يديِ الساعةِ موتان شديدٌ، وبعده سنواتُ الزّلازل)) أخرجه أحمد [2].
أطافَ ببعض الأرضِ طائفُ الزلازل، فأحال الأمنَ خوفًا والحياة موتًا والعامِر خرابًا، وجعل المدينة الناضِرة يبابًا، وفي مثلِ طرفةِ عينٍ وانتباهَتِها غيَّر الله من حالٍ إلى حال، فإذا ألوفُ القتلى، وألوفٌ من الجرحَى، وألوف من المشرَّدين، فاستبدَّ الألمُ بالجميع حتى خُيِّل إليهم أنَّ القيامةَ قامت، فهذه أمٌّ فقَدَتِ ابنها، وذاك ابنٌ ينادِي أمَّه، ومشاهدُ دامية يعجز البَيان عن وصفِها، قال الله تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156].
ودورُنا في الحدَث الإسهامُ والمسح بيَدِ الرّحمة والشّفقَة والمواساةِ للأنفس الحزينةِ التي تئنّ تحت وطأةِ المصاب وتعيش الألمَ وتتجرَّع الحزن، ورسولنا يقول: ((واللهُ في عونِ العبد ما كان العبدُ في عونِ أخيه)) أخرجه مسلم [3]. والإسلامُ رَحِمٌ ورَحمة، قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
هذا الزلزالُ الذي زلزلَ العمران والمبَاني كما زلزَل القلوبَ والأنفس، وهدَم الكثيرَ من المنازل، وشرَّد الآلافَ من السكان، وقتل المئات من الأفراد، آلمَتِ المسلمينَ أحداثُه، وهو قدَرُ الله وقضاؤه. والزلازلُ لا تقرَع الأبوابَ إلا بغتةً، فعندما تتحرَّك الأرضُ بصوتها المخيفِ ودويِّها الرهيب وعندما تتساقط الجُدران وسُقُف الأبنية وعندما يصبِح أعلى الأرضِ أسفلَها وأسفلُها أعلاها، في تلك اللحظةِ يشعر الإنسانُ بجلال الله وعظمتِه وسلطانه وجبروتِه، قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
في المحنِ والمصائِبِ يعرِف الناسُ عزَّ الرّبوبيّة وقهرَها، وذلَّ العبودية وكسرَها، وأنّ الخلقَ كلَّهم ملكُه وعبيده، راجِعون إلى حكمِه وتدبيره، لا مفرَّ لهم منه، ولا محيدَ لهم عنه، والمؤمِنون على يقينٍ أنّ أفعالَ الله عز وجل تتضمَّن الحكمةَ وإن غابت عن عقولِنا المحدودةِ هذه الحكمةُ في بعضِ الأحيان.
المؤمِنُ يعتقد أن الله خالقُ هذا الكون، كلّ ما يتحرَّك في السماء وما تمورُ به الأرض كلُّ نسمةِ بَشر وحَرَكة شجر بإذنِ الله تبارك وتعالى، قال الله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]. لا يفعل الله شيئًا عَبثًا، لا يفعل شيئًا إلاّ لحكمةٍ ارتضاها، ولا يجرِي في الكون أمرٌ إلا بتدبيره وتقديرِه، قال تعالى: وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]. وبهذا نعلَم أنّ الذي يسيِّر الطبيعةَ ويُسيِّر الكونَ هو الله تبارك وتعالى، وللمسلم من قبلُ ومن بعدُ الرِّضا الموجبُ لرضوانِ الله، فإنَّ المصائب تنزل بالبَرّ والفاجر، فمن سخِط فله السّخطُ، ومن رضِيَ فله الرضا.
والمؤمِنون يتعامَلون مع الأحداث بالعظةِ والاعتبار، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى [النازعات:26]، وينهَلون منها الدروسَ التي تفتح الآذانَ وتوقِط القلوب وتحرِّك المشاعر، قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
هذا الحدث في عنوانه ابتلاءٌ، وحياةُ المسلِم يتخلّلها ابتِلاء، قال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ [الإنسان:2]، وقال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]. والمؤمَّل أن يكون المسلم مرهفَ الإحساسِ لهذه الأمور، قال تعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنعام:43].
هذه الزلازلُ لها مغزًى عميق وعِبرةٌ للمعتبرين، ورسالة لمن اغترَّ بلعمه وخُيِّل إليه أنّه بلغ الآفاقَ وقدر على كلِّ شيءٍ أنّه ضعيف أمام قدرة الله، عاجزٌ هو وعِلمه عن دفع أمرٍ كتَبَه الله عليه. الإنسانُ مهما بلَغ عِلمه وماله وجاهُه فهو ضعيفٌ أمام قدرةِ الله، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا. الإنسان المغرورُ المختال الفخور هذا هو شأنُه، إنه ضعيفٌ لا يملك شيئًا من هذا الكون، قال الله تعالى: وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28]، وقال تعالى: وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ [العنكبوت:22].
هذه الأحداثُ تبيِّن للإنسانِ قيمةَ هذه الدنيا وقدرَها ومِقدارها ومآلها، فهي معرَّضَة للزوال صائِرةٌ إلى الفناء، وأنها مَتاع الغرور، وأنها ظِلّ زائل ونعيم خادِع. هذه الدّنيا التي عليها يتقاتَلون وخلفَ حُطامها يلهثون لا تساوِي شيئًا، قال الله تعالى: وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20]، قال تعَالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77].
إنَّ زلزالَ الدنيا مَهول، وآثارُه مدمِّرة، وواقعُه مُفجِع، وهو في ذاتِ الوقت موقِظٌ لنا من رَقدتنا لنتذكَّرَ الآخرةَ، لقد خدَّرتَنا الدنيا بمفاتِنها، وشغَلتنا بهجتُها، حتى كأنّنا مخلَّدون على ظهرها، غير مرتَحِلين إلى بطنِها، وكأنَّ الموتَ صائِرٌ إلى غيرِنا دونَ أن يمسَّنا، وغدَتِ الآخرة قِصصًا تُتلَى وحديثًا يُروى ثم ينسَى، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115]. إنّه إنذارٌ شامِل لنعلمَ أنّ الحياةَ مؤقَّتة، وأنّ الأجلَ قريب مهما طالَ الأمل، وأنّ العبدَ عُرضة في كلِّ لحظةٍ وآنٍ للرّحيل عن دار الدنيا، قال تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان:34].
زلزالُ الدّنيا أرضٌ ترتجِف ومبانٍ تسقُط، يموت مَن يموت، ويحيَا مَن بقِيَ له من عُمُره بقيّة، أمّا زِلزال الآخرةِ ففيها تذهَل المراضع، وتضَع الحوامل، وتشيبُ الولدان، والنّاس كالسُّكارى من هولِ الموقِفِ ومن الذّعرِ، قال تَعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2].
ذهل النّاسُ في زلزالِ الدّنيا مِن هول المنظَر وشدّةِ الفاجعةِ، في قِطعةٍ محدودة من الأرض ثم ينتَهي الأمر، أمّا زلزال الآخرةِ فالأرض كلُّها تبدَّل والسماوات، والجِبالُ الشامخة تنسَفُ نَسفًا، والبِحارُ تفجَّر، وتنشقُّ السماء وتكشَط، وتغيُّراتٌ عَجيبة، قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، وقال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:105-107].
لقد سمِعنا في زلزالِ الدّنيا اليسير مَن ذهل من هولِ الفاجِعة عن زوجهِ وأولادِه، بل خرَج من بيته وقد نسِيَ ما يستُر به جسدَه، فقد شغِلَ بما هو أعظم، وفي القيامةِ يقول الرسول عن عائشة رضي الله عنها: ((يحشَرُ الناسُ يومَ القيامَةِ حُفاةً عراة غُرلاً)) ، فقلت:يا رسول الله، النساءُ والرجال ينظر بعضُهم إلى بعض؟! قال : ((يا عائشة، الأمرُ أشدُّ من أن ينظرَ بعضُهم إلى بعض)) أخرجه البخاري ومسلم [4].
وسبيلُ النجاة والمخرَج منَ الكرب والفِتنة والشِدّة والمحنة اللّجوء إلى الله تعالى وحدَه والفزَعُ إليه والصلاة، قال تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]، وعن حذيفة رضي الله عنه رفعه قال: ((يأتي عليكم زمانٌ لا ينجو فيه إلاّ من دعا دعاءَ الغريق)) [5] ، وقال : ((لا يرُدُّ القدَرَ إلا الدعاء)) [6] ، وقال أيضًا: ((من سرَّه أن يستَجَاب له عند الكربِ والشّدائدِ فليكثِرِ الدعاءَ في الرخاء)) رواه الحاكم وصححه [7]. ودعوةُ المضطرِّ مجابَةٌ، قال تعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62].
مِن أسبابِ النجاةِ التوبةُ والاستغفار، وذلك بتركِ الذنوب والعَزم على عدَم العودةِ إليها، قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال:33].
مِن أسبابِ النّجاةِ الإصلاحُ والأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر، قال تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود:116]، وقال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
الصّدقةُ وبَذل المعروفِ مِن أسبابِ النّجاةِ، قال : ((صنائِعُ المعروف تقِي مصارعَ السوء، وصدَقَة السِرّ تطفِئ غضَبَ الربِّ، وصِلةُ الرحم تطيل العمرَ)) [8].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيمِ، أقول قولي هذَا، وأستغفِر اللهَ العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه البخاري في كتاب الفتن (7121) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] مسند أحمد (4/104)، وأخرجه أيضا الدارمي في المقدمة (55)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2461)، والطبراني في الكبير (7/51)، وأبو يعلى (6861)، وصححه ابن حبان (6777)، والحاكم (8383)، وقال الهيثمي في المجمع (7/306): "رجاله ثقات".
[3] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء (2699) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6527)، صحيح مسلم: كتاب الجنة (2859).
[5] أخرجه البيهقي (2/40)، والحاكم (1/507، 4/425) وصححه على شرطهما، وأخرجه ابن أبي شيبة (6/22، 7/451)، وأبو نعيم في الحلية (1/274)، والبيهقي (2/40) عن حذيفة موقوفًا. وورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا، أخرجه ابن راهويه في مسنده (424) ، والبيهقي في الشعب (2/40) ، وأبو القاسم الأصبهاني في الترغيب والترهيب (1236). وأخرجه ابن أبي شيبة (7/531) عنه موقوفًا. وروي من كلام محمد بن المنكدر كما في الحلية لأبي نعيم (3/151).
[6] أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب: في القدر (90)، وابن المبارك في الزهد (86)، والطحاوي في مشكل الآثار (4/169)، والطبراني في الكبير (1442) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (3/153-872)، والحاكم (1/493)، وقال البوصيري في الزوائد (ص15): "وسألت شيخنا أبا الفضل العراقي رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (154).
[7] مستدرك الحاكم (1997) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو عند الترمذي في الدعوات (3382)، وأبي يعلى (6396، 6397)، وقال الترمذي: "حديث غريب"، وهو في السلسلة الصحيحة (593).
[8] أخرجه الطبراني في الكبير (8/261) عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/15) والهيثمي في المجمع (3/115): "إسناده حسن"، وله شواهد كثيرة عن عدد من الصحابة منهم: أنس ومعاوية بن حيدة وأبو سعيد وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة وأبو هريرة وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم، ولذا حسنه الألباني في صحيح الترغيب (889).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله الذي خلَق فسوّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده سبحانه وأشكرُه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصِّفات العلى، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسوله، صاحبُ المقام الأسنى والخُلُق الأوفى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه ومَن سلك سبيلَهم واقتفى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
إنَّ القلبَ ليحزنُ وإنَّ العقلَ ليذهَل حين يرقُبُ المسلم هذه الأحداثَ الدّامية والتّفجيراتِ المفزِعة التي وقَعَت قبلَ أيّامٍ في الرّياض وغيرها من هذه البلادِ، تولَّى كِبرَها فِئامٌ يحمِلون فكرًا سقيمًا ومنهَجًا منحرِفًا، فيهدِمون البناءَ ويعطِّلون التنميَةَ ويزعزِعون الأمنَ ويفسِدون الخيرَ ويريقون دماءَ المسلمين بلا وازعٍ من ضميرٍ ولا خوفٍ من ربٍّ منتقِمٍ جبّار، يتلمَّسون متنفَّسًا لحِقدِهم الدّفين ونفوسِهم المريضةِ التي عشعَشَت في جَنَباتها تصوُّراتهم المظلِمة. إنَّ هذه الأعمالَ التي تحصدُ أرواحَ العشرات من المسلمين لا تقومُ على أساسٍ شرعيٍّ، ولا تقبلُها العقولُ السليمةُ والفِطَر السويّة، وهي فِعلةٌ تتضمَّن البغيَ والظلم.
كيف سوَّلت لهم أنفسُهم حملَ أرتالٍ مِن وسائلِ التدمير، يمزِّقون بها جسَدًا طاهرًا ولِسانًا ذاكرًا وقَلبًا مخبِتًا وطِفلا بريئًا، ورسولُنا يقول: ((مَن أشار إلى أخيهِ بحديدةٍ فإنَّ الملائكةَ تلعنُه حتى يدعَه وإن كان أخاه لأبيه وأمِّه)) [1].
هذهِ الأعمالُ تشيع الهلَعَ وتثير الفزَعَ، تشعِلُ شرارةَ فِتنة داخليّة تدمَّر فيها الطاقاتُ وتهدَر فيها المكتسَبات. إنَّ التفريطَ في أمنِ المجتمع تدميرٌ له ولمكتسباتِه ودعائمِه؛ لذا يجِب علينا أن نسعَى جميعًا للحفاظِ على هذا الأمن، بسدِّ الثغرَاتِ التي يمكن أن تحدثَ شَرخًا في هذا المجتمع، أو تجعَلَ جسدَه مثخَنًا بالجِراح، فينشغِل برَدمِها عن دورِه ورسالتِه وبِناء مجتمَعِه وأمّته.
بيَّن القرآن أنّ سِمةَ المنافقين زعزعةُ أمنِ المجتمع والإفسادُ فيه وإشاعةُ الفتنةِ بدعوَى الإصلاح، قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12]. وعَلى الجميعِ أن يحِسّوا بواجِبِهم الشرعيّ لرأبِ الصَّدع في البنيان، ومعظَم النارِ من مستَصغَرِ الشّرَر.
إنَّ شناعةَ الجريمة جليّة لا تكتنِفها شُبهةٌ، وناصِعة لا شكَّ فيها ولا تردُّد، وممّا يثير العَجبَ كيفَ غيَّبَ هؤلاء نصوصَ الشرعِ وعقولَهم حتى أراقوا دماءَ الأبرياءِ وأسبَلوا دموعَ الثَّكالى وأجَّجوا لوعةَ كلِّ مسلمٍ وأحلّوا قومَهم دارَ البوار، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:104]، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [الشعراء:152].
ألا وصلّوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابِهِ فقال: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صَلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاءِ الأربعةِ الرّاشدين...
[1] أخرجه مسلم في البر (2616) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(1/3619)
فضائل الجمعة وأحكامها (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اليوم الشاهد ويوم المزيد. 2- الأحداث العظام في يوم الجمعة. 3- سبب تسميته بيوم الجمعة. 4- فضائل اختص بها يوم الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما زلت أحدِّثكم عن مزايا وخصائص يوم الجمعة، وما جاء في فضله وشرفه وبركاته، ذكرنا منها ثلاثة.
4- فالمزيَّة الرابعة من المزايا والخصائص التي شرِّف بها هذا اليوم أنَّه اليوم الشاهد الذي أقسم به الله تعالى في كتابه حين قال: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:2، 3]. قال أبو هريرة: (اليوم الموعود يوم القيامة، والشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة) رواه أحمد بسند صحيح، وروي مرفوعًا عن النبيِّ بطرق يقوي بعضها بعضا، وله شواهد كثيرة.
5- ومن أعظم وأشرف المزايا التي عظَّم الله بها هذا اليوم أنَّه يوم المزيد لحديث أنس بن مالك المتقدِّم، ويوم المزيد هو يوم تجلِّي الربِّ سبحانه لعباده في الجنَّة حتَّى ينظروا إليه ويتمتَّعوا برؤيته والنظر إلى جماله وسماع خطابه.
قال تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، قال ابن كثير: "هذه الآية كقوله تعالى في الآية الأخرى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]".
وقد ثبت في صحيح مسلم أنَّ الزيادة في الجنَّة هي رؤية المؤمنين لربِّهم تعالى. وذلك يكون مرَّة كلَّ أسبوع في يوم مخصوص هو يوم المزيد وهو يوم الجمعة.
وها هنا حديث تطيش الألباب عند سماعة طربًا ورجاء، حديث عظيم تقدَّم طرف منه ووعدت بذكر تمامه هنا، فأقول: قد ثبت عن أنس بن مالك في حديثه المتقدِّم أنَّ جبريل عليه السلام قال للنبيِّ حين عرض عليه يوم الجمعة، قال: وهو سيِّد الأيَّام عندنا ـ أي: عند الملائكة ـ، ونحن ـ أي: الملائكة ـ ندعوه في الآخرة يومَ المزيد، قال النبيُّ : ((قلت: لم تدعونه يوم المزيد؟)) قال: إنَّ ربَّك عزَّ وجل اتَّخذ في الجنَّة واديًا أفيح، من مسك أبيض، فإذا كان يوم الجمعة نزل تبارك وتعالى من علِّيِّين على كرسيِّه، ثمَّ حفَّ الكرسيَّ بمنابر من نور، وجاء النبيُّون حتَّى يجلسوا عليها، ثمَّ حفَّ المنابر بكراسي من ذهب، ثمَّ جاء الصديقون والشهداء حتَّى يجلسوا عليها، ثمَّ يجيء أهل الجنَّة حتَّى يجلسوا على الكثيب، فيتجلَّى لهم ربُّهم تبارك وتعالى حتَّى يُنظر إلى وجهه، وهو يقول: أنا الذي صدقتكم وعدي، وأتممت عليكم نعمتي، هذا محلُّ كرامتي، فسلوني، فيسألونه الرضا، فيقول عزَّ وجل: رضائي أحلَّكم داري، وأنالكم كرامتي، فسلوني، فيسألونه حتَّى تنتهي رغبتهم، فيفتح لهم عند ذلك ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، إلى مقدار منصرف الناس يوم الجمعة. ثمَّ يصعد الربّ تبارك وتعالى على كرسيِّه، فيصعد معه الشهداء والصديقون ـ أحسبه قال: ـ ويرجع أهل الغرف إلى غرفهم درَّة بيضاء، لا فصم فيها ولا وصم، أو ياقوتة حمراء، أو زبرجدة خضراء، منها غرفها وأبوابها، مطردةٌ فيها أنهارها، متدلِّيةٌ فيها ثمارها، فيها أزواجها وخدمها، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى يوم الجمعة ليزدادوا فيه كرامةً، وليزدادوا فيه نظرًا إلى وجه الله تبارك وتعالى، ولذلك دعي يوم المزيد.
هذا وللحديث بقيَّة تأتي في حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
6- المزيَّة الخامسة: أنَّ يوم الجمعة يوم حافلٌ بالأحداث الجسام والكائنات العظام، ففيه خلق آدم، بل أشار إمام الأئمَّة ابن خزيمة في صحيحه إلى أنَّ اسم الجمعة مشتقٌّ من الجمع لأنَّ فيه جمعت أجزاء آدم من التراب، ثمَّ روى الحديث بذلك عن سلمان قال: قال رسول الله : ((يا سلمان، ما الجمعة؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا سلمان، ما الجمعة؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا سلمان، ما الجمعة؟)) قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((يا سلمان، يوم الجمعة به جمع أبوك ـ أو أبوكم ـ)) يعني آدم. ورواه أحمد والطبراني بسند حسن.
وكذلك يسمَّى يوم الجمعة لأنَّ فيه يجمع الله الخلائق يوم القيامة، وفيه يجتمع المسلمون لهذه الخطبة.
وفي يوم الجمعة أدخل آدم الجنَّة، وفيه أخرج منها، وفيه توفِّي، وفيه أيضًا تقوم الساعة وأهوال القيامة، وفيه ينفخ إسرافيل في الصور، وفيه يصعق الناس ومن في السماوات والأرض. كلُّ هذا حدث ويحدث في يوم الجمعة.
وفي ذلك أحاديث صحيحة، منها ما رواه مسلم وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق الله آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة)) ، وعن أوس بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خلق الله آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة)) رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه واللفظ له، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عرضت الجمعة على رسول الله ، جاءه بها جبريل عليه السلام في كفّه كالمرآة البيضاء في وسطها كالنكتة السوداء، فقال: ((ما هذا يا جبريل؟)) قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك، ثمَّ سأله النبيُّ فقال: ((وما هذه النكتة السوداء فيها؟)) قال: هذه الساعة تقوم يوم الجمعة. رواه الطبراني في الأوسط بإسناد جيد.
7- المزيَّة السادسة: أنَّه ما من يوم جمعة إلاَّ وتفزع فيه السماوات والأرضُ وما فيها من جبال وبحار ودوابّ وكلُّ الخلائق سوى الإنس والجنِّ، من حين تصبح إلى أن تطلع الشمس شفقًا من قيام الساعة، فعن أبي هريرة عن النبي قال: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مصيخة ـ أي: مستمعة مصغية تتوقع قيام الساعة ـ يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس، شفقا من الساعة إلا الجنُّ والإنس)) رواه مالك في الموطأ وأصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
8- المزيَّة السابعة: أنَّ صلاة الفجر فيه هي أفضل صلاة عند الله تعالى، فقد روى أبو نعيم في حلية الأولياء والبيهقي في شعب الإيمان بسند جيِّد عن ابن عمر أنَّه قال لحمران بن أبان: ما منعك أن تصلِّي في جماعة؟ قال: قد صلَّيت يوم الجمعة في جماعة الصبح، قال: أوما بلغك أنَّ النبيَّ قال: ((أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يومَ الجمعة في جماعة)).
وكان النبيُّ يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة في الركعة الأولى بسورة السجدة، وفي الركعة الثانية بسورة الإنسان. روى ذلك مسلم في صحيحه عن ابن عباس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنَّما كان النبيُّ يقرأ هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنَّهما تضمَّنتا ما كان وما يكون في يومها، فإنَّهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المعاد، وحشر العباد، وذلك يكون يوم الجمعة".
هذا ما سمعتم، والله يغفر لي ولكم.
(1/3620)
فضائل الجمعة وأحكامها (3)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اختصاص المسلمين بيوم الجمعة. 2- الجمعة كفارة لمن حضرها بشروطها. 3- شروط تكفير السيئات لمن حضر الجمعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
9- ومن أجلِّ مزايا يوم الجمعة وهي المزيَّة التاسعة: أنَّ الله تعالى قد ادَّخر هذا اليوم لهذه الأمَّة وفضَّلها به على سائر الأمم، وقدَّمها يوم القيامة عليهم، وأضلَّ عنه الأمم التي قبلنا من اليهود والنصارى، ففي حديث أنس بن مالك أنَّ جبريل حين عرض الجمعة على رسول الله قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولقومك من بعدك، ولكم فيها خير، تكون أنت الأول، وتكون اليهود والنصارى من بعدك.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة، هدانا الله له، وضل الناس عنه، فالناس لنا فيه تبع، فهو لنا، واليهود يوم السبت، والنصارى يوم الأحد)) رواه ابن خزيمة في صحيحه، وأصله عند مسلم.
وعن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله : ((أضل الله تبارك وتعالى عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبعٌ لنا يوم القيامة، ونحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المقضيُّ لهم قبل الخلائق)) رواه مسلم.
وقال رسول الله لعائشة: ((تدرين على ما حسدونا؟)) يعني اليهود، قالت: الله ورسوله أعلم، قال: ((حسدونا على القبلة التي هدينا لها وضلُّوا عنها، وعلى الجمعة التي هدينا لها وضلُّوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين)) رواه أحمد والبيهقي بسند جيِّد، وروى ابن ماجة بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله : ((نحن آخر الأمم، وأوَّل من يحاسب، يقال: أين الأمَّة الأمِّيَّة ونبيُّها؟ فنحن الآخرون الأوَّلون)).
وإذا كان الله قد ادَّخر هذا اليوم لنا، وأضلَّ عنه اليهود والنصارى، فأضلُّ من اليهود والنصارى أولئك الذين يريدون استبدال هذا اليوم العظيم بيوم النصارى يوم الأحد، يستبدلون الأدنى بالأعلى، أفلا يعقلون؟!
10- المزيَّة العاشرة من مزايا يوم الجمعة: أنَّ فيه صلاة من صلاَّها بشروطها كانت كفَّارة لذنوبه مدَّة عشرة أيَّام ما اجتنبت الكبائر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)) رواه مسلم وغيره، وروى الطبراني في الكبير من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله : ((الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله عز وجل قال: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]))، وعن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((خمس من عملهن في يوم كتبه الله من أهل الجنة: من عاد مريضا وشهد جنازة وصام يوما وراح إلى الجمعة وأعتق رقبة)) رواه ابن حبان في صحيحه.
هذا إجمال ويليه بعد قليل، شيء من التفصيل، وبالله التوفيق.
_________
الخطبة الثانية
_________
واعلم أنَّه ليس كلُّ من حضر الجمعة تكون كفَّارةً له، بل ذلك يختصُّ بمن حضرها بشروطها من الاغتسال والادِّهان والسواك والتطيّب بأحسن ما يقدر عليه من أنواع الطيب، ولبس أحسن ما يجد من الثياب البيضاء، ثمَّ بكَّر فراح إلى المسجد ماشيًا غير راكب، ولم يؤذ أحدًا، ولم يفرِّق بين اثنين في المسجد، وصلَّى ما شاء الله له أن يصلِّي قبل خروج الإمام، فإذا خرج الإمام دنا منه وأنصت واستمع ولم يلغ. من وفَّى بهذه الشروط صحَّ له ذلك الأجر العظيم الوارد فيما سبق من الحديث.
وبرهان هذا أنَّ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((يحضر الجمعة ثلاثة نفر: فرجل حضرها يلغُو فذلك حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام وذلك أن الله يقول: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160])) رواه أبو داود وابن خزيمة في صحيحه بسند حسن، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام، ومن مسَّ الحصى فقد لغا)) رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وسنفصِّل البيان لسائر هذه الخصال الموجبة لأجر الجمعة في خطبة لاحقة إن شاء الله.
والله أسأل أن يغفر لي ولكم، وقوموا إلى صلاتكم.
(1/3621)
انتشار الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب انتشار الإسلام. 2- نقض دعوى انتشار الإسلام بالسيف. 3- نقض دعوى انتشار الإسلام لأسباب مادية ودوافع اقتصادية. 4- طرق انتشار الإسلام في الماضي. 5- الاستفادة من تقنيات العصر في نشر الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
بنظرة عاجلة إلى الماضي نجد أنَّ الإسلام قد انتشر انتشارًا واسعًا وسريعًا، ففي أقلَّ من مائة سنة بلغ معظمَ أقطار المعمورة. ومن هنا اختلفت تحليلات الدارسين والمؤرِّخين للأسباب الحقيقيَّة وراء ذلك.
والحقيقة أنَّ هيمنة الإسلام على العقول والقلوب كانت بقوَّة جاذبيَّته للفطر السليمة والعقول المتحرِّرة، فإنَّ عناصر القوَّة كامنة في ذاته، لا بقوَّة القهر، ويخطّئون الذين يرون أنَّ سرعة انتشار الإسلام كانت بقوَّة السيف والقهر، أو لأسباب اقتصاديَّة.
فمن المعلوم لجميع الدارسين المنصفين من أهل الإسلام وغيره من الملل أنَّه لا علاقة بين السيف وبين اعتناق الدين الإسلامي، فجميع الذين اعتنقوا الإسلام بحقٍّ اعتنقوه عن طواعية ورضا، لا عن قهر وهزيمة، وكلُّ المجتمعات التي وصلها الإسلام مع طلائع جيوش الفتح لم تكن مرغمةً على اعتناق الإسلام، فلا إكراه في الدين، وكان أمامها أن تختار بينه وبين العيش تحت ظلاله بعهد محترم، ولذا لم تزل الجاليات المسيحيَّة واليهوديَّة وحتَّى المجوسيَّة محترَمةَ العهد، ولم تتحوَّل عن دينها في ظلِّ الدول الإسلاميَّة المتعاقبة، إلاَّ ما كان في فترة محدودة في خلافة الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر، ثمَّ في حكم ابن تومرت الموحِّدي في المغرب، وهي تصرُّفات شخصيَّة سياسية، لا علاقة لها بالإسلام، بل أنكرها عليهم أهل الإسلام، وهي في غمرة معاملات خلفاء المسلمين وملوكهم لهذه الجاليات على مرِّ التاريخ تعدُّ من النادر الذي لا أثر له، والماء إذا بلغ قلَّتين لم يحمل الخبث.
وقد آل الأمر بكثير من المستشرقين إلى الاعتراف بأنَّ انتشار الإسلام لم يكن بالسيف، وأنَّ الجهاد الذي كان يصاحب الدعوة إنَّما كان يهدف إلى حماية الدعوة وضمان الحرِّية للناس ليسمعوا كلمة الله عزَّ وجل، فمن شاء آمن، ومن شاء بقي على دينه في مقابل عهد الذمَّة يُبرم معه، ليعيش حرًّا موفور الكرامة، يتمتَّع بحقِّ الحياة، وحقِّ العبادة، وحرِّية الاعتقاد، وحقِّ التعلُّم وحقِّ العمل، تحت رعاية الإسلام وعدالته ورحمته التي وسعت كلَّ شيء.
وعندما تداعت أوربا على سواحل الشام في القرون الوسطى كان لاختلاطهم بالمسلمين أثرٌ عظيم في تحوُّل كثير من أمرائهم ونبلائهم وجنودهم إلى الإسلام، وقد ذكرت كثير من المصادر المسيحيَّة هذه الحقيقة.
فدعوى انتشار الإسلام بقوَّة السيف لا سند لها في حقيقة الأمر، وأصحابها في غاية العجز عن الإدلاء بنوع دليل على تحليلهم.
وأبعدُ من هؤلاء في تحليل الحقائق أولئك الذين فسَّروا ظاهرة سرعة انتشار الإسلام وسعته بالأسباب المادِّية والدوافع الاقتصادية، حيث يرى أصحاب هذه النظريَّة أنَّ الحاجة هي التي دفعت بالمسلمين إلى الخروج من صحرائهم القاحلة المقفرة طلبًا لما حولهم من المدن والأمصار ذات الخيرات والأنهار.
فمن المعلوم أنَّ هذا يعود في التحليل إلى الأوَّل، وهو أنَّ أصحاب تلك المدن والأمصار التي غزاها المسلمون وفتحوها كان اعتناقهم للإسلام على سبيل الاستسلام للقوَّة والإكراه، وقد سبق تفنيد هذا، فما بني عليه فهو باطل أيضًا.
ومن جهة أخرى فإنَّ فساد هذا التحليل يتجلَّى أكثر عندما نعلم أنَّ من الحقائق التاريخيَّة أنَّ المسلمين تركوا حياة البذخ والترف، وخرجوا من أوطانهم إلى صحاري إفريقيا والمغرب وصحاري ما وراء النهر في وسط آسيا والصين، حاملين معهم دعوة الإسلام ليس غير، تاركين الأرض ومن عليها لأهلها يسوسونها بأنفسهم، ولذا نرى في ظلِّ الحكم الإسلامي أمراء من الفرس في بلاد الفرس، وأمراء من الترك في بلاد الترك، بل وفي بلاد العرب نفسها، وأمراء من البربر في المغرب. ولا يعرف على رأس الدول المتعاقبة في المغرب منذ دخول الإسلام غير أمراء من البربر، وما شأن طارق بن زياد والمعز بن باديس والناصر بن علناس والمهدي بن تومرت ويوسف بن تاشفين وغيرهم بخاف عنَّا معشر أهل المغرب.
ومن الطرائف أنَّ المغُول والأتراك الذي اجتاحوا بلاد المسلمين لم يلبثوا أن تحوَّلوا إلى الإسلام عن قناعة ورضا، وصاروا من أكبر حماته ودعاته، حتَّى كان منهم ملوك وسلاطين في الهند وآسيا، كما كان من جنسهم قبل ذلك ملوك في دولة السلاجقة بالعراق، وفي دولة المماليك بمصر والشام. وهذا كاف لنسف التحليل الزاعم أنَّ اعتناق الإسلام كان لدوافع اقتصادية، أو بسبب القهر والإكراه.
_________
الخطبة الثانية
_________
انتشر الإسلام من أوَّل يوم بالدعوة، ولم يزل ينتشر بها حتَّى بلغ أقطار معظم المعمورة في مدَّة وجيزة، تعدُّ ببضع عشرات من السنين كما سبق، فكما أنَّ ما بلغه الإسلام في الماضي من الانتشار الواسع والسريع كان بالدعوة إلى الله فكذلك انتشاره في المستقبل إنَّما يتحقَّق بالوظيفة نفسها، وهي الوظيفة التي جعلها الله تبارك وتعالى سمة لهذه الأمَّة حين قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، كما جعلها أيضًا وظيفة الأمَّة التي تستوجب بالقيام بها الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، فقال عزَّ وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
وقد كان انتشار الإسلام في العصور الأولى بطريقين: طريق الدعوة الرسميَّة، وذلك بما حصل من فتوحات مظفَّرة، والطريق الآخر ما جرى على أيدي العلماء والدعاة والعبَّاد والزهَّاد والتجار وعامَّة أفراد المسلمين كلٌّ بحسب علمه وقدرته على البلاغ بصفة غير رسميَّة.
وإذا كان الطريق الرسمي لانتشار الدعوة الإسلاميَّة في السابق هو طريق الفتوحات، فذلك حينما لم يكن يؤذن لصوت الإسلام أن يسمع في غير المجتمعات الإسلامية، وكانت سيوف الروم والفرس وأحلافهما تحول دون ذلك، واليوم وإن كان هذا السبيل قد انقطع العمل به بسبب ما آلت إليه أوضاع المسلمين من التخلُّف والضعف والتمزُّق، بالإضافة إلى غياب الخلافة التي هي رمز وحدتهم وقوَّتهم، فبالرغم من ذلك قد تيسَّرت أسباب للبلاغ لم تكن متوفِّرةً في الأزمان الغابرة، يمكن من خلالها اقتحام بيوت غير المسلمين بالصوت والصورة فقط، دون التعرَّض للخطر والأذى، فلا شكَّ أنَّ استغلالها لازم لتحقيق الانتشار الشامل والسريع للإسلام، بما يناسب من الوسائل العصريَّة، مثل وسائل الاتصالات الفضائيَّة وشبكة الأنترنت وغيرها. فإنَّ أعداء الإسلام لا يألون جهدًا في استعمال كلِّ ما يسهِّل لهم مهمَّة الغزو الفكري والثقافي المضاد للمسلمين في عقر بيوتهم.
إنَّ الحديث عن طرق انتشار الإسلام في المستقبل يجعلنا نضع في الحسبان قضيَّة العولمة، خصوصًا عولمة الأفكار والثقافات، وبحكم التطوُّر السريع والمذهل لوسائل الاتِّصالات الفضائيَّة التي قاربت بين أقطار العالم، وأزالت عنه كلَّ الحدود والحواجز، خصوصًا في مجال نقل المعلومات، بحيث أصبح العالم وكأنَّه مدينةٌ واحدة، تتحكَّم فيها أجهزة الحاسب، ومحطَّاتٌ فضائيَّة تعمل على نشر أيديولوجيات وثقافات العالم.
إنَّ العولمة لا يوقفها شيء، ولا تقف هي عن حدٍّ، والهيئات العالميَّة على اختلاف انتماءاتها الدينيَّة والاجتماعيَّة تسارع إلى نشر أفكارها وأيديولوجياتها بما فيها من غث وسمين، والإنسان صار يَسبح بلا شروط ولا قيود في عالم الفضائيَّات من موقعه.
فلا جرم أنْ وجب على المسلمين ـ وهم أصحاب الرسالة العالميَّة والحضارة الإنسانيَّة لجميع البشريَّة كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] ـ أن يستفيدوا من وسائل هذه العولمة وتقنيَّتها، في سبيل نشر الإسلام وطرح البدائل الإسلاميَّة في شؤون الاقتصاد والسياسة والاجتماع والتشريع وسائر العلوم الأخرى، في جميع ما في الوسع من أروقة السوق الدوليَّة، لتكون عنصرًا مؤثِّرًا في تيارات العولمة، بدلا من حال المتفرِّج المهزوم، فإنَّ الإسلام يتمتَّع بالمناعة الذاتيَّة وبثرائه وعطائه، بحيث إنَّه يؤثِّر ولا يتأثَّر، بيد أنَّ جميع المناهج المخالفة له تعتريها جوانب الضعف الموضوعي.
ويبدو أنَّ بعض الجهات الرسميَّة في العالم الإسلامي قد بدأت تفكِّر بجدِّيَّة في هذا الموضوع، خصوصًا بعد أن صارت شبكة الأنترنت تستغلُّ من قبل بعض المواقع المشبوهة لعرض ما يناقض الإسلام ويشوِّه حقيقته باسم الإسلام.
ويوجد الآن على شبكة الأنترنت ـ خارج الرسميات ـ مواقع إسلاميَّة دعويَّة كثيرة بحمد الله.
(1/3622)
وفاة الشيخ الألباني رحمه الله
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تتابع موت العلماء. 2- فاجعة وفاة الشيخ الألباني رحمه الله. 3- فضل الشيخ الألباني رحمه الله. 4- حزن المسلمين لوفاة علماء السنة. 5- إعلامنا ووفاة الألباني. 6- قصة وفاة الإمام أحمد رحمه الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها المسلمون، إنَّ حدثًا عظيمًا وقع في هذه الأشهر الأربعة الأخيرة من هذه السنَّة، لقد ثُلم في الإسلام ثلمٌ لا يرتقع، وكُلم فيه كلم أثرُه لا يرتفع، وهُدم فيه منارٌ لن يضيء، وغربت شمسٌ من شموسه لن تشرق.
لقد خسر العالم في هذه الأشهر الأربعة الأخيرة سبعةً من كبار العلماء، فمنذ أربعة أشهر رزئنا بوفاة الشيخ صالح بن غصون، ثمَّ بعده بأيَّام فجعنا بوفاة مفتي الزمان الشيخ عبد العزيز بن باز، فلم تكد دموعنا تجفُّ حتَّى جاء الخبر بوفاة الشيخ علي الطنطاوي، ثمَّ بعده بأيَّام وفاة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، ثمَّ بعده بأيَّام وفاة الشيخ مناع خليل القطان، ثمَّ وفاة الشيخ عطيَّة محمَّد سالم، بعضهم تلو بعض في أقلَّ من أربعة أشهر.
ثمَّ كانت الفاجعة الكبرى، والرزيَّة العظمى أن خسرنا في صدر هذا الأسبوع مصباحًا من مصابيح الدجى، وسراجًا من السرج الوهَّاجة بنور العلم والهدى. لقد ودَّعت الدنيا إمامًا من أئمَّة الهدى، وعالمًا ربَّانيًّا من علماء السنَّة والسبيل.
إنَّ الله عزَّ وجل حتم الموت على عباده حتمًا عدلاً، على بريَّته كافَّةً قضاء فصلاً، حتَّى يأتي ذلك على جميع من ذرأ وبرأ. وكان ممَّن أتى عليه حتم الله وقضاؤه أبو عبد الرحمن محمَّد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعال، دعاه الله إليه فأجابه، رضيًّا مرضيَّا نقيًّا تقيًّا نحسبه كذلك، غير مبتدع ولا ضالٍّ مضلّ، ولا زائغ عن الهدى، ولا مائل إلى الهوى، فلمثل ما كان عليه فليعمل العاملون.
فيا لها مصيبةً ما أشدَّ وقعها، وخسارةً ما أشدَّ وجعها. انقبض بها علم نافع كان منشورًا، وارتفع بها ذكرٌ صالحٌ كان الله به مذكورًا.
فإنَّه ليس على وجه البسيطة من رجل على السبيل والسنَّة هو أذكر لله تعالى من أئمَّة الدين، ولا أكثر صلاة على نبيِّه منهم، ولا أعبد لله منهم، وخير العبادة التفكّر والفقه في الدين.
والشيخان ابن باز والألباني يزيدان على غيرهما في ذلك أنَّنا علمناهما ووجوه الخلق في مشارق الأرض ومغاربها ميمِّمةٌ شطرهما طالبةٌ توقيعهما عن ربِّ العالمين فيما ينزل من نوازل بالمسلمين، بما آتاهما الله من علم نافع وفقه في الدين، قلَّما أوتي أحدٌ مثله من العالِمين. فالناس اليوم بعدهما أيتام، بعدما كانوا بالأمس كالصبيان في حجورهما.
ولقد رأيته في الشام من نحو خمسة عشر عامًا حين سافرت إليه، فرأيت طلبة العلم والدكاترة بين يديه كالصبيان في حجر أبيهم.
قال مالك بن أنس عن ربيعة بن عبد الرحمن: "الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم". فماذا يكون حال الصبي إذا فقد أبويه؟ فوالله، لحال الناس إذا فقدوا علماءهم أسوءُ من ذاك، ذلك لأنَّ وفاة إمام من علماء السنَّة والسبيل خسارة لا تفوقها خسارة؛ إذ يفقدون بفقدهم أعزَّ مطلوب وأجلَّ مرغوب، وهو نجاتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة بسلوك الصراط المستقيم والسبيل القويم، فمن لسبيل الاستقامة يهديهم ويبصِّرهم بها؟! ومن لمكايد الشيطان ينسخها؟!
قال سلمة بن سعيد: "كان يقال: العلماء سرج الأزمنة، فكلُّ عالم مصباح زمانه، فبه يستضيء أهل عصره"، قال: "وكان يقال: العلماء تنسخ مكايد الشيطان"، وقال سفيان بن عيينة: "أفضل الناس منزلةً يوم القيامة من كان بين الله وبين خلقه"، يعني: الرسول والعلماء.
فيا للهول من فقْدِ من كان بين الخلق وخالقهم داعيًا إليه هاديًا، وسراجًا منيرًا.
فسلام على مشاهد كانت بوجوده مشهودة، وعلى معاهد كانت ظلال رعايته وتعهُّده عليها ممدودة، وعلى مساجد كانت بعلومه ومواعظه معمورة، وعلى مدارس كانت بفيضه الزاخر ونوره الزاهر مغمورة، وعلى جمعيات كان شملُها بوجوده مجموعًا، وكان صوته الجهير كصوت الحقِّ الشهير، مدوِّيًا في جنباتها مسموعًا.
فلا أحسب بيتًا من بيوت المؤمنين يمرُّ عليهم هذا الحدث دون أن يخلِّف فيهم أثره من الحزن والأسى، إلاَّ أن يكون بيت سوء أو نفاق، قال أيُّوب: "إنِّي أخبر بموت الرجل من أهل السنَّة وكأنِّي أفقد بعض أعضائي"، وعن حمَّاد بن زيد: كان أيُّوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث فيُرى ذلك فيه، ويبلغه موت الرجل يذكر بعبادة فلا يُرى ذلك منه.
نعم لأنَّ عالمًا واحدًا أشدُّ على الشيطان من ألف عابد، ولأنَّ العالم ينفع الناس جميعًا، والعابد الزاهد إنَّما ينفع نفسه.
وعن أسد بن موسى قال:كنَّا عند سفيان بن عيينة فنعي إليه الدراوردي، فجزع وأظهر الجزع ـ ولم يكن قد مات ـ فقلنا: ما علمنا أنَّك تبلغ مثل هذا! فقال: إنَّه من أهل السنَّة.
فهكذا كانت أحوال السلف عند فقدهم لعلمائهم.
أين رجال الإعلام والصحافة من الحدث، أم أنَّ الأمر لا يعنيهم؟ نعم قد كتب بعضهم عن الحدث ولكن بما يشهد عليهم من الجهل بمقادير الرجال والظلم لهم.
بالأمس القريب ماتت بالهند عجوز من عجائز النصارى، كم أضلّت من العباد، وكم نشرت في الأرض من زيغٍ وفساد في الاعتقاد، فامتلأت بذكرها صحائف الجرائد، وتفنَّن رجال الإعلام في وصف الحدث أيُّهم رائد، كأنَّه صاعقةٌ حلَّت بديار المسلمين، أو مصيبة حصلت لهم في الدين. أفعجوز مصيرها إلى نار جهنَّم أحقُّ بالتنويه والتعزية والرثاء أم إمام يقود إلى الجنَّة؟!
لكنَّ بعضَ وسائل إعلامنا تنفرد عن الوسائل الساكتة بما هو أفظع وأطمّ، إذ وصفت الشيخ بمناسبة وفاته بما يدلُّ على الوقاحة والوقيعة في أعراض العلماء، وعدم الاكتراث بالطعن فيهم، وذلك ما لا تفعله النصارى برهبانهم وقسِّيسيهم.
وقد صرَّح بعضهم أنَّ الشيخ كان متطرِّفًا! والرجل ما زاد على أن أحيا السننَ وقمع البدع، فكأنَّ القوم يقصدون أنَّ سنن النبيِّ تطرُّف، فمن أحياها كان له نصيب من التطرف، وهذا معيارهم، وهكذا مقياسهم.
وإذا كان أهل النفاق قد راقهم ذلك، ورفعوا بموته رأسًا، فليبشروا بما يسوؤهم، فإنَّ الله وعدنا على لسان نبيِّه أنَّه يبعث على رأس كلِّ مائة سنة من يجدِّد لهذه الأمَّة أمر دينها. فلا يموت جيلٌ من العلماء حتَّى يخلفه جيل آخر، إلاَّ ما شاء الله من أوقات الفترات، حتَّى ينزل عيسى بن مريم في آخر الزمان فيحكم بشريعة الرحمان، كما بقيت محفوظة في صدور العلماء ودواوينهم. وكذلك هو الأمر، فقد ظهر في الساحة علماء بالسنَّة فقهاء في معانيها وبصراء برجالها وعللها، ما لم يكن منذ أعصار مديدة، بعد وفات السخاوي والسيوطي رحمهما الله.
وهذه أطروحات جامعات العالم تزخر بتحقيقات الألباني، فلا تكاد ترى رسالة دكتوراه إلاَّ وهي تفيد من علم الألباني وجهوده في خدمة السنَّة التي زادت على ستين عامًا، وهي حياة جيلين كاملين.
قال حمَّاد بن زيد: حضرت أيُّوب السختياني وهو يغسل شعيب بن الحبحاب وهو يقول: "إنَّ الذين يتمنَّون موت أهل السنَّة يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، والله متمٌّ نوره ولو كره الكافرون". فلا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله، إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
_________
الخطبة الثانية
_________
لقد قلت لكم: إنِّي لا أحسب بيتًا من بيوت المؤمنين يمرُّ عليهم هذا الحدث دون أن يخلِّف فيهم أثره من الحزن والأسى إلاَّ أن يكون بيت سوء، فإنَّ لموت العلماء الربانيين أئمَّة السنَّة تأثيرًا على المؤمنين عظيمًا.
قال علي بن حريث: "ما من أهل بيت لا يدخل عليهم الحزن بموت أحمد بن حنبل إلاَّ بيت سوء". وهذا كما قيل في أحمد بن حنبل فهو في أئمَّة الهدى في كلِّ زمان.
وعلى ذكر أحمد بن حنبل أسلِّي نفسي وإيَّاكم بمصيبة فقده، وأقصُّ عليكم صفة موته وكيف كان وقعها على المسلمين، لعلَّنا نأخذ بها العبرة عند وفاة علمائنا الربانيين.
لقد كان فقد الإمام أحمد بن حنبل المصيبة التي كسفت البال، والفجيعة التي غيرت الحال، طالت بها الأكماد، وانكوت بها الأكباد، فكم من عيون أبكتها، وكم من أجفان أدمتها، وحقَّ لها ذلك.
مرض الإمام أحمد بن حنبل قبل وفاته بتسعة أيام، فلمَّا اشتدَّت علَّته وتسامع الناس أقبلوا لعيادته، فكثروا ولزموا الباب الليل والنهار يبيتون، وجاء بنو هاشم فدخلوا عليه وجعلوا يبكون، وجاء قوم من القضاة وغيرهم فلم يؤذن لهم، فلمَّا كان يوم الجمعة اجتمع الناس حتَّى ملأوا السكك والشوارع، فلمَّا كان صدر النهار قبض رحمه الله، فصاح الناس، وعلت الأصوات بالبكاء حتَّى كأنَّ الدنيا ارتجَّت.
قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: لمَّا حضرت أبي الوفاة جعل يغرق ثمَّ يفيق ثمَّ يفتح عينيه ثمَّ يقول: بيده هكذا، لا بعدُ، لا بعدُ، لا بعدُ، ثلاث مرات، ففعل هذا مرَّةً وثانية، فلمَّا كان في الثالثة قلت له: يا أبه، أيّ شيء هذا؟ تقول: لا بعد لا بعد... فقال لي: يا بني، ما تدري؟! فقلت: لا، قال: إبليس لعنه الله قائمٌ حذائي عاضٌّ على أنامله يقول لي: يا أحمد فُتَّني ـ أي: سبقتني فلم أقدر على إضلالك وغوايتك ـ وأنا أقول له: لا بعد حتَّى أموت.
ومن فضائله رحمه الله أنَّه توفي يوم الجمعة، وقد قال رسول الله : ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة إلاَّ وقاه الله عزَّ وجل فتنة القبر)).
وقد توفي يوم الجمعة خلقٌ كثير من السادات والعلماء، فقد قتل عثمان بن عفان يوم الجمعة، وضرب علي بن أبي طالب يوم الجمعة إلاَّ أنَّه قبض يوم الأحد، وكذا توفي العباس بن عبد المطلب في يوم الجمعة، وكذا الحسن البصري ومحمَّد بن سيرين... وخلق يطول ذكرهم.
قال عبد الله: لمَّا فرغنا من غسله وكفنه غلبنا عليه بنو هاشم، وجعلوا يبكون عليه ويأتون بأبنائهم فيبكون عليه ويقبِّلونه.
بنو هاشم هم قوم النبيِّ، فكأنَّهم كانوا يعدُّون أحمد بن حنبل منهم لأنَّه كان يذبُّ عن سنَّة النبي ويناضل عنها، وامتحن في سبيل الله سنوات بين السجن والضرب والعذاب.
ثمَّ دفن وصلَّى عليه المسلمون، وكانت جنازة عظيمة، لم يشهد في جاهليَّة ولا إسلام أعظم جمعًا منها، لكثرة من حضرها من الخلق، فقال أبو زرعة الرازي: بلغنا أنَّهم كانوا ألف ألف وخمس مائة ألف، أي: مليون ونصف. يومٌ شاهد كأنَّه يوم عرفات. قال الهيثم بن خلف: دفنَّا أحمد بن حنبل يوم الجمعة بعد العصر، فما رأيت جمعًا قط أكثر من ذلك.
وفتح الناس أبواب المنازل والشوارع ينادون من أراد الوضوء. وكان أحمد في حياته يقول: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز".
وقد أظهر الناس في ذلك اليوم مدح السنَّة وذم البدعة ولعن الكرابيسي، فسأل السلطان: من الكرابيسي؟ فقيل: رجل أحدث بدعة لم يسبق إليها، فأمره السلطان بلزوم بيته حتَّى مات.
سبحان الله، جعل الله يوم موت أحمد يومًا تحيا فيه السنن، لا تموت بموته كما كان يظن أهل البدع، ويعزُّ فيه الإسلام لا كما يهوى أهل النفاق، حتَّى إنَّه اهتزَّ لموته اليهود والنصارى والمجوس، وأسلم في يوم جنازته خلق من الكفار.
قال الوركاني: "يوم مات أحمد بن حنبل وقع المأتم والنوح في أربعة أصناف من الناس: المسلمين واليهود والنصارى والمجوس، وأسلم يوم مات عشرون ألفًا من اليهود والنصارى والمجوس".
وقال عبد الوهاب الوراق: "أظهر الناس في جنازة أحمد بن حنبل السنَّة والطعن على أهل البدع، فسرَّ الله المسلمين بذلك على ما عندهم من المصيبة لما رأوا من عزِّ الإسلام، وكبت الله أهل البدع والضلالة، ولزم بعض الناس القبر وباتوا عنده، حتَّى منعهم السلطان مخافة الفتنة". وذُكر أنَّ صالحي الجنِّ سُمع نوْحُهم عليه أربعين ليلة بعد موته.
فهذا مبلغ أثر فقد إمام من أئمَّة الهدى عند المسلمين.
أحسن الله عزاءكم ـ أيُّها المسلمون ـ في علمائكم، وأحسن الله عليكم الخلف من بعدهم، فنسأل الله أن يتغمَّد أئمَّتنا العلماء برحمته، وأن يُلحقهم بالرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن لا يَفتننا بعدهم، ولا يَحرمنا أجرهم.
(1/3623)
تحريم الخروج على حكَّام المسلمين
أديان وفرق ومذاهب, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, فرق منتسبة
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- موقف الحسن بن علي رضي الله عنهما في الفتنة. 2- كلام ابن تيمية في الخروج على الولاة. 3- موقف أهل السنة والجماعة في الخروج على الحكام.
_________
الخطبة الأولى
_________
روى البخاري في صحيحه عن الحسن البصري قال: استقبل ـ والله ـ الحسنُ بن علي معاويةَ بكتائب أمثال الجبال، فقال عمرو بن العاص: إنِّي لأرى كتائب لا تولِّي حتَّى تقتل أقرانها، فقال معاوية وكان والله خير الرجلين: أي عمرو، إن قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء، من لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بضيعتهم؟ فبعث إليه رجلين من قريش من بني عبد شمس: عبد الرحمن بن سمرة وعبد الله بن عامر بن كريز، فقال: اذهبا إلى هذا الرجل فاعرضا عليه وقولا له واطلبا إليه. فأتياه فدخلا عليه، فتكلَّما وقالا له وطلبا إليه، فقال لهما الحسن بن علي: إنَّا بنو عبد المطَّلب قد أصبنا من هذا المال، وإنَّ هذه الأمَّة قد عاثت في دمائها، قالا: فإنَّه يعرض عليك كذا وكذا، ويطلب إليك ويسألك، قال: فمن لي بهذا؟ قالا: نحن لك به. فما سألهما عن شيء إلاَّ قالا له: نحن لك به، فصالحه.
قال الحسن البصري ولقد سمعت أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله على المنبر ـ والحسن بن علي إلى جنبه ـ وهو يقبل على الناس مرَّةً وعليه أخرى ويقول: ((إنَّ ابني هذا سيِّد، ولعلَّ الله أن يُصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)).
هذا الخبر يدلُّ على أمور:
فيدلُّ أوَّلا: على أنَّ الصلح بين علي ومعاوية كان أفضل من القتال مع إحدى الطائفتين، وإن كان علي بن أبي طالب أقرب إلى الحقِّ وأولى به، ومع ذلك فقد رضي بالصلح وشرع فيه، ثمَّ مات قبل إتمامه، فلمَّا خلفه ابنه الحسن أتمَّ ذلك فتنازل لصالح معاوية حقنًا للدماء، وإخمادًا لنار الفتن، وإرغامًا للأمم الحاقدة المتربِّصة من الصليبيين واليهود والمجوس، فحاز بذلك وصف الشرف على لسان النبي قبل أن يقع بسنوات، حيث قال: ((ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)) ، وكان ذلك من دلائل النبوة. وقد وقع الصلح، وشاع الوئام بين الأمَّة، فسمِّي بعام الجماعة.
ثانيًا: الذين اعتزلوا القتال فلم يقاتلوا في تلك الحروب لا مع علي ولا مع أهل الجمل ولا مع معاوية كانوا أحقَّ الناس وأصوبَهم، وكانوا جمهور الصحابة ومعظمهم، ومن أشهرهم من أهل الشورى ابن عمر وسعد بن أبي وقاص.
وممَّا يدلُّ على تصويب هؤلاء وهم جمهور الصحابة الذين امتنعوا عن القتال مع إحدى الطائفتين واعتزلوا الفريقين ما ورد عن أبي هريرة أنَّ رسول الله قال: ((يُهلك أمَّتي هذا الحيُّ من قريش)) قالوا: فما تأمرنا؟ قال: ((لو أنَّ الناس اعتزلوهم)) متفق عليه.
ثالثًا: من ينظر في التواريخ وما جرى من الفتن والمحن في هذه الأمَّة يجد أنَّه ما من فتنة وقعت إلاَّ كان سببها قتال الأمراء وعدم الصبر على جورهم.
قال ابن تيمية: "قلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلاَّ كان ما تولَّد على فعله من الشرِّ أعظم ممَّا تولَّد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلَّب الذي خرج على [أبيه] بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضًا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء. وغاية هؤلاء إمَّا أن يُغلبوا، وإمَّا أن يغلبوا ثمَّ يزول ملكهم، فلا يكون لهم عاقبة. فإنَّ عبد الله بن علي وأبا مسلم هما اللذان قتلا خلقًا كثيرًا، وكلاهما قتله أبو جعفر المنصور. وأمَّا أهل الحرَّة وابن الأشعث وابن المهلَّب وغيرهم فهزموا، وهزم أصحابهم، فلا أقاموا دينًا، ولا أبقوا دنيا، والله تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا".
وقال في موضع آخر: "لعلَّه لا يكاد يعرف طائفةٌ خرجت على ذي سلطان إلاَّ وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته".
وقال ابن القيِّم: "الإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم أساس كلِّ شرّ، وفتنةٌ إلى آخر الدهر... ومن تأمَّل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطُلب إزالته، فتولَّد منه ما هو أكبر منه".
وقد نبَّه على هذا حديث ابن عمر عن النبيِّ قال: ((ينشأ نشء يقرؤون القرآن، لا يجاوز تراقيهم، كلَّما خرج قرنٌ قطع)) ، قال ابن عمر: سمعت رسول الله يقول: ((كلَّما خرج قرنٌ قطع ـ أكثر من عشرين مرَّة ـ حتَّى يخرج في عراضهم الدجَّال)) ابن ماجة بسند صحيح.
فهذا خبر الصادق المصدوق بأنَّ هؤلاء الخارجين على الأمراء والولاة لا يكاد يخلو منهم زمان إلى أن يخرج الدجَّال في عراضهم، فيكون منهم في كلِّ زمان جيلٌ أو طائفة إلى آخر الزمان، كلَّما خرجت منهم طائفة قُطعت، سواء تغلَّبت أو انهزمت، وسواء قُطعت من قبل أهل الحقِّ أو من قبل أئمَّة الجور والبغي.
فأخبر الصادق المصدوق أنَّ معاركهم خاسرة فقال: ((كلَّما خرج قرن قطع)). والقرن هو الجيل والطبقة من الناس. فالخارج على السلطان مآله إلى الخسران، ولا بدَّ. فإنَّه إمَّا أن يقطع قبل الظفر، وإمَّا أن يَغلب فلا يلبث أن يخرج عليه من يقطعه. وهذا هو الذي وقع في تاريخ هذه الأمَّة، ومن طالع تواريخ الدول والملوك والأمراء من هذه الأمَّة رأى من ذلك عجائب وأوابد. فهذا يدلُّك على أنَّه لا يجتنى من قتال الأمراء إلاَّ الشرّ، وأنَّ الخروج عليهم طريقٌ مقطوع بنصِّ الحديث، وليس بعد الحقِّ إلاَّ الضلال. ولكن قلَّ من يعتبر، ولهذا قال الحسن البصري: "إنَّ هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كلُّ عالم، وإذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل".
فالله المستعان، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله.
_________
الخطبة الثانية
_________
رابعًا: وبناء على ما تقدَّم اتفق أهل السنَّة والجماعة على أنَّ قتال الحكام حرام، لما يؤول إليه من الفتن، وقد صار هذا أصلاً من أصول أهل السنَّة والجماعة، يتواصون به قرنًا بعد قرن.
ومن المنقول عن السلف وأهل العلم من جمل عقائدهم في ذلك ما يلي:
قال سفيان الثوري فيما أملاه على شعيب بن حرب: "يا شعيب، لا ينفعك ما كتبت حتَّى ترى الصلاة خلف كلِّ بر أو فاجر ـ يعني من الأمراء ـ والصبر تحت لواء السلطان، جار أم عدل".
وعن حرملة بن يحيى قال: سمعت سفيان بن عيينة، وسئل عن قول الناس: السنَّة والجماعة وقولهم: فلان سنِّي جماعي، وما تفسير السنَّة والجماعة؟ فقال: "الجماعة ما اجتمع عليه أصحاب محمَّد من بيعة أبي بكر وعمر، والسنَّة الصبر على الولاة وإن جاروا، وإن ظلموا".
وقال أحمد بن حنبل في عقيدته التي نقلها عنه عبدوس بن مالك العطَّار: "ولا يحلُّ قتال السلطان، ولا الخروج عليه لأحدٍ من الناس، فمن فعل ذلك، فهو مبتدعٌ على غير السنَّة والطريق".
وقال علي بن المديني في عقيدته التي أملاها على سهل بن محمَّد: "ولا يحلُّ قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحدٍ من الناس ، فمن فعل ذلك فهو مبتدعٌ على غير السنَّة".
وقال الإمام حافظ الإسلام محمَّد بن إسماعيل البخاري في عقيدته: "لقيتُ أكثر من ألف رجل من أهل العلم؛ أهل الحجاز ومكَّة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر، لقيتهم كرَّات قرنًا بعد قرن، ثمَّ قرنًا بعد قرن، أدركتهم وهم متوافرون منذ أكثر من ستٍّ وأربعين سنة... فما رأيت واحدًا منهم يختلف في هذه الأشياء:... وأن لا ننازع الأمر أهله، لقول النبيِّ : ((ثلاثٌ لا يغلُّ عليهنَّ قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله، وطاعة ولاة الأمر، ولزوم جماعتهم. فإنَّ دعوتهم تحيط من وراءهم))... وأن لا يرى السيف في أمَّة محمَّد. وقال الفضيل بن عياض: لو كانت لي دعوةٌ مستجابة، لم أجعلها إلاَّ في إمام ـ أي: الحاكم ـ لأنَّه إذا صلح الإمام أمن البلاد والعباد".
وقال الإمامان الحافظان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان: "أدركنا العلماء في جميع الأمصار؛ حجازًا وعراقًا وشامًا ويمنًا، فكان من مذهبهم:... ولا نرى الخروج على الأئمَّة، ولا القتال في الفتنة".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "المشهور من مذهب أهل السنَّة أنَّهم لا يرون الخروج على الأئمَّة وقتالهم بالسيف، وإن كان فيهم ظلم، كما دلَّ على ذلك الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن النبيِّ ".
وقال ابن تيمية أيضًا: "نهى النبيُّ عن القتال في الفتنة، وكان ذلك من أصول السنَّة. وهذا مذهب أهل السنَّة والحديث وأئمَّة أهل المدينة من فقهائهم وغيرهم".
قال أبو بكر المرُّوذي: سمعت أحمد بن حنبل يأمر بكفِّ الدماء، وينكر الخروج إنكارًا شديدًا.
وقال أبو الحارث الصائغ: سألت أحمد بن حنبل في أمر كان حدث ببغداد، وهمَّ قومٌ بالخروج، فقلت: يا أبا عبد الله، ما ترى في الخروج مع هؤلاء؟ فأنكر ذلك عليهم وجعل يقول: "سبحان الله! الدماء الدماء! لا أرى ذلك ولا آمر به. الصبر على ما نحن فيه خيرٌ من الفتنة يسفك فيها الدماء، ويستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم. أما علمت ما كان الناس فيه؟!" يعني أيَّام الفتنة. قلت: والناس اليوم، أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟! قال: "وإن كان، فإنَّما هي فتنةٌ خاصَّة، فإذا وقع السيف عمَّت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا، ويسلم لك دينك خير لك". ورأيته ينكر الخروج على الأئمَّة وقال: "الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به".
وقال علي بن عيسى: سمعت حنبل بن إسحاق يقول: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله، فقالوا له: يا أبا عبد الله، هذا الأمر قد تفاقم وفشا، يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك. فقال لهم أبو عبد الله: فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنَّا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه. فناظرهم أبو عبد الله ساعة، وقال لهم: "عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدًا من طاعة، ولا تشقُّوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتَّى يستريح برٌّ، أو يُستراح من فاجر"، وقال: "هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر".
فصارت هذه ترجمةً من تراجم أهل السنَّة والجماعة في عقيدتهم يتواصَون بها، ونقل فيها جماعة الإجماعَ عليها.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.
(1/3624)
سرّ الكسوف وما يتعلق به من أحكام
فقه, موضوعات عامة
الصلاة, مخلوقات الله
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أصناف الناس عند وقوع الآيات المونية. 2- الحكمة من الآيات الكونية. 3- صلاة الكسوف وما يشرع فيها.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59].
أيُّها المسلمون، أذاعت وسائط الإعلام في هذا الأسبوع ما تنبَّأ به الفلكيون ـ وأنباؤهم تخطئ وتصيب ـ من احتمال حدوث كسوف الشمس في ضحوة يوم الأربعاء القادم، فلذلك أهتبل هذه الفرصة لأشرح لكم ما ينبغي أن تعلموه من شأن هذه الآية العظيمة، آية الكسوف، وما يشرع لنا فعله عند حدوثها.
أيُّها المسلمون، مِن رحمة الله بالعباد أن يرسل من حين إلى آخر ببعض الآيات الدالة على عظمته وربوبيَّته وجلاله، ليثوب الناس إليه بعد طول فتور، وليخافهُ المذنبون بعد غفلة وغرور، وليُقْلع أهل الشرِّ عن جميع الشرور.
قال قتادة: إن الله تعالى يخوّف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون. ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال: (يا أيها الناس، إن ربَّكم يستعتبكم فأعتبوه)، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات فقال عمر: (أحدثتم. والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ).
فالحكمة من إرسال الله بالآيات تخويف العباد لعلَّهم يرجعون. والناس عند حدوث الآيات أصناف ثلاثة:
فمنهم الجاحدون المكذبون كما جحد فرعون وقومه بالآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، وفي هؤلاء قال الله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأنعام:25]، وقال: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [الأعراف:132].
ومنهم الطبائعيون المعرضون كما قال تعالى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [يس:46]، وقال: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:2]، وهذا كما أعرضت ثمود ـ وهم قوم النبي صالح ـ لمَّا رأوا السماء تلبَّدت وظنّوا أنَّه مجرَّد سحاب عابر ممطر فقالوا: عارض ممطرنا، وإذا هو عذابٌ أرسله الله عليهم، فلم يشعروا به حتَّى أصابهم. ومن أشبه الناس بهؤلاء اليوم الذين إذا رأوا آية كالكسوف ونحوها قالوا: إنَّها مجرَّد ظاهرة طبيعيَّة جميلة، ولذلك انصبَّت جهودهم على النصيحة بحمل النظارات الواقية من الأشعَّة المنبعثة من الشمس عند الكسوف، ليتمتَّعوا بالنظر إلى جمال الآية في أمان من خوف العمى.
وأمَّا المؤمنون الموقنون فهؤلاء هم الذين ينتفعون تمام المنفعة بهذه الآيات، فتحملهم على الخوف والمبادرة إلى التضرع والدعاء والسجود.
وقد قال عكرمة: قيل لابن عباس: ماتت فلانة بعض أزواج النبي ، فخرَّ ساجدًا، فقيل له: تسجد هذه الساعة؟! فقال: قال رسول الله : ((إذا رأيتم آية فاسجدوا)) وأيُّ آية أعظم من ذهاب أزواج النبي ؟! رواه أبو داود بسند حسن.
وكان النبيُّ إذا هبَّت الريح الشديدة عرِف ذلك في وجهه؛ لأنَّ وراء الآيات سرًّا.
فما سرُّ الكسوف؟ علماء الفلك والطبائعيون لا يملكون جوابًا على هذا السؤال.
وغاية ما عندهم هو تفسير طبيعة ما يجري وكيفيَّة وقوع ذلك فقط، فيقولون:حين يقع القمر بين الأرض والشمس ويكون الجميع في مستوى خط واحد فإنَّ ظلَّ القمر القاتم يمتدُّ خلفه على وجه الأرض في شكل مخروط، حيث ينتهي ببقعة سوداء على سطح الأرض يبلغ عرضها قريبًا من مائتي كلم، ويسير سيرًا بطيئًا على المناطق الحارة... إلى آخر تلك الشروح العلميَّة القائمة على المعاينة والنظر.
ولكن لماذا يحدث ذلك؟ وبأمر من؟ فهذا ما يعجز العلم عن الجواب عليه، وإنَّما يُعرف ذلك من جهة الوحي؛ لأنَّه من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وقد علمنا من جهة الوحي سرَّ ذلك فاسمعوا.
قال تعالى في سبب بيان الآيات وإرسالها: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، وقال: كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:73]، وقال: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [البقرة:187]، وقال: وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة:221]، وقال: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103]، وقال: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأعراف:89]. فبيَّن سبحانه أنَّه تعالى يرسل بالآيات ومنها الزلازل والصواعق والرياح الشديدة والمعجزات وعجائب المخلوقات كالشمس والقمر وكسوفهما، لأجل أن يعقلها العاقلون فيهتدوا بهديه، ويتَّقوه، ويتذكَّروا، وليخافه الخائفون، ويشكره الشاكرون.
وقد بيَّن النبي هذه العلَّة في خصوص كسوف الشمس، وردَّ على الذين ظنوا أنَّها كسفت لموت ابنه إبراهيم، فعن المغيرة بن شعبة قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله : ((إنَّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وادعوا الله)) متفق عليه، وعن جابر عن النبي قال: ((كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات الله يريكموهما، فإذا خسفا فصلّوا حتى تنجلي)) رواه مسلم.
وعن أبي موسى الأشعري قال: خسفت الشمس في زمن النبي ، فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة، حتى أتى المسجد فقام يصلي بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله في صلاة قطّ، ثم قال: ((إن هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلها يخوف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئا فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره)) متفق عليه.
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله : ((إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكنَّ الله تعالى يخوِّف بها عباده)).
وهذا لا يتعارض مع تفسير الفلكيين، لأنَّ الفلكيين بما يتوفَّر لهم اليوم من أدوات الحساب الدقيقة يمكنهم أن يطَّلعوا على كلِّ كسوف حصل في الماضي، ويحصل في المستقبل، وليس ذلك من التنجيم كما ظنَّه بعض القدماء من علمائنا، فالفلكيون إنَّما يتعرَّضون للجانب المشهود، وفي الوحي بيانٌ للجانب الغيبي، وهو العلَّة والحكمة من وقوعه، فلا تعارض بين الأمرين، وقد بيّن هذا أبو حامد الغزالي وابن دقيق العيد وابن السبكي وغيرهم رحمهم الله.
والخلاصة: إنَّ هذه الآيات يجب أن تحدث فينا الخوفَ من الله تعالى، وتتبدَّى ثمرة ذلك في التوبة وتجديد العهد مع الله تعالى وإصلاح الحال.
ويتعلَّق بهذه الآية آية الكسوف أحكام وأفعال سنشرحها بعد حين.
_________
الخطبة الثانية
_________
اعلموا ـ أيُّها المسلمون ـ أنَّ الشمسَ والقمر من آيات الله تعالى، والله يفعل ما يشاء، فإذا شاء خسفهما، ولا يفعل ذلك لعظيم عنده لا لموته ولا لحياته، ولكن ليخوِّف عباده، سواء باغتهم بذلك، أم توقَّعوا حدوثَه من قَبل بإنباء الفلكيين. وإذا حصل ذلك فرآه الناس فعليهم بالصلاة، لما رواه عبد الله بن عمر عن النبيِّ قال: ((إنَّ الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنَّهما آيتان من آيات الله تعالى، فإذا رأيتم ذلك فصلوا)).
1- وصلاة الكسوف مشروعة باتفاق العلماء، وظاهر قوله: ((فصلّوا)) يدلُّ على وجوب الصلاة، وبذلك قال بعض العلماء، لكنَّ جمهورَهم على أنَّها سنَّة مؤكَّدة.
2- ويستحبُّ في الكسوف الدعاء والاستغفار والصدقة والعتاق والتعوُّذ من عذاب القبر لقول النبيِّ في حديث عائشة: ((فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدَّقوا)) ، وقال في حديث أبي موسى: ((فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره)) ، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عن النبي أمر بالعتاقة في كسوف الشمس. رواه البخاري.
3- والسنَّة أنَّه لا أذان ولا إقامة لصلاة الكسوف، ولكن يُدعى لها بأن يقال: الصلاة جامعة. فعن عائشة قالت: لمَّا كسفت الشمس على عهد رسول الله نودي: إنَّ الصلاة جامعة. أخرجه البخاري.
4- ويصليها الرجال والنساء جماعة في المسجد لقول عائشة: خسفت الشمس في حياة النبي ، فخرج إلى المسجد فصفَّ الناس وراءه. الحديث أخرجه البخاري.
5- واختلف العلماء في عدد ركعاتها على أوجه لاختلاف الروايات بذلك، لا سيما أنَّ أكثر الروايات في ذلك ظاهرها الصحة، وللعلماء في ذلك مسلكان: مسلك التنويع ومسلك الترجيح.
فعلى مسلك التنويع يصلى بأيّ نوع من الروايات الصحيحة، وبنوا اختلاف الروايات على تعدّد الواقعة، وهو مذهب إسحاق بن راهويه وابن حبان والخطابي وابن المنذر وابن حزم وغيرهم، لكنَّ المحقّقين من النقاد كالشافعي وأحمد والبخاري والبيهقي وابن عبد البر على أنَّ الواقعة لم تتعدَّد، بل صلاها النبي مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم، ولذلك كان مسلك الترجيح أقوى. وأرجح الروايات عندهم حديث عائشة وأسماء وجابر وابن عباس وابن عمرو وغيرهم لكثرتها وكثرة طرقها، فما خالفها حكموا عليه بالشذوذ والنكارة.
وحاصل ذلك أنَّها ركعتان، في كلّ ركعة ركوعان وسجدتان، ويقرأ بين كلِّ ركوعين، ويجهر بالقراءة فيها، ويطيل القيام والركوع والسجود في الركعة الأولى.
عن عائشة أنها قالت: خسفت الشمس في عهد رسول الله ، فصلى رسول الله بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه... الحديث متفق عليه.
6- ويشرع بعد الصلاة أن يخطبهم الإمام على المنبر بخطبة يحمد الله عز وجل، ويثني عليه، ويعظهم فيها، ويحثُّهم على الدعاء والاستغفار والتعوذ من عذاب القبر كما في حديث عائشة المذكور وغيره.
(1/3625)
خطبة صلاة الكسوف
التوحيد, فقه, موضوعات عامة
الربوبية, الصلاة, مخلوقات الله
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الآيات الكونية. 2- عدم تعارض تنبؤات الفلكيين مع كون الله مختصّا بعلم الغيب. 3- الواجب على الناس عند حدوث الكسوف. 4- خطبة الرسول عند كسوف الشمس.
_________
الخطبة الأولى
_________
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاَّ الله، والله أكبر.
عباد الله، قد غمرتنا آية من آيات الله العزيز الحكيم، آيةُ الكسوف، فهي من آيات الله تعالى، الدالة على عظمته وجلاله وقدرته وحكمته ورحمته، ومن شأن الآيات أنَّها للصالحين رحمة وبرهانٌ، يزدادون بها إيمانًا، وتزداد قلوبهم بها ثباتًا ويقينًا، وتملؤها خوفًا من الله عزَّ وجل وطمعًا في رحمته، وهي للكافرين وأهل الغفلة تخويفٌ وإقامةٌ للحجَّة وقطعٌ للمناظرة والمحاجَّة.
فقد سمع ابن مسعود بخسف، فقال: (كنَّا أصحابَ محمَّد نعدُّ الآيات بركة، وأنتم تعدُّونها تخويفًا) رواه البخاري والترمذي والسياق للدارمي.
ذلك أنَّ الله تعالى أخبرنا في كتبه التي أنزل وعلى ألسن رسله الذين أرسل بأنَّ هذه الدار لا شكَّ فانية، وأنَّ الساعة لا ريب آتية، وكلُّ آت قريب، كيفَ وقد أذنت بالقرب منذ بُعث النبيُّ ؟! فهل من متذكِّر؟! هل من متَّعظ؟!
إنَّ قيام الساعة يكون بزلزال الأرض وانتثار الكواكب وخسوف القمر وغير ذلك من الآيات، فكان من رحمة الله تعالى وحكمته أن يرسل بالآيات الدالة على قرب ذلك اليوم المذكِّرة به من زلازل وكسوف وهدَّات السماء والرياح العاصفة والإعصارت الهائلة ما فيه عبرة وذكرى لأهل الإيمان، وأمَّا الغافلون فمهما مرَّت بهم الآيات فلن يبصروها ولن ينتفعوا بها، فيا ويح من مرَّت به هذه الآية فبات في غمرة السهو، ولم يفزع كما فزعتم إلى الصلاة والذكر.
وقد تجلَّت لنا آية من آيات الله، وإنَّها لحدث عظيم مخيف، فما لنا لا نخشع؟! وما بال أقوام إلى الدعاء والصلاة لا تفزع؟!
فهذا نبيُّ الله وهو أعلم الناس بربه وبأحكامه وسنَّته وآياته، وهو أتقى العباد وأخشاهم لله، فنراه يفزع عند آية الكسوف، حتَّى إنَّه من شدَّة الفزع والخوف خرج إلى المسجد للصلاة وهو يجرُّ درعًا لبعض أهله، لانشغال باله بالتوجه إلى الله في تلك الحال، حتَّى أدركه بعض أهله بردائه، كما في حديث أسماء في الصحيح.
أيُّها الناس، قد وقع الكسوف كما تنبَّأ به الفلكيون وكان الأمر كما أخبروا، فدلَّت هذه المطابقة اليوم على صحَّة ما توقَّعوه بحساباتهم الدقيقة، ولكنَّ هذا لا يدلُّ على أنَّهم يصيبون في كلِّ ما يتوقَّعونه من ذلك.
هذا وإنَّ إنباء الفلكيين بوقوع الكسوف اليومَ قبل وقوعه بأيام قد يكون فتنة لكثير من العوام والجهلة فيحسِّنون ظنَّهم بكذبة الفلكيين والمنجِّمين، فيظنُّون صحَّة ما يدَّعونه لصحَّة إخبارهم بأنَّ الكسوف يكون يوم كذا فيكون كما أخبروا قبل وقوعه، فيظنُّون أنَّهم بذلك أيضًا مصدَّقون فيما يدَّعونه من وقوع النحس أو السعد، ومن وقوع الغلبة والنصر أو الهزيمة وغير ذلك ممَّا يتنبَّؤون به من الغيب، وتجدون بعض الجرائد تتبرَّع كلَّ يوم بذكر تلك الأنباء المزعومة لأرباب التنجيم على مدار السنة، فيذكرون في كلِّ برج من الأبراج ما يشاء لهم الهوى بالتخرُّص والكذب والبهتان.
وقد ردَّ عليهم ابن القيم رحمه الله في كتابه "مفتاح دار السعادة" فأجاد، وذلك حين قال: "كثير من المنجِّمين يموِّهون على الجهال بأمر الكسوف، ويموِّهونهم أنَّ قضاياهم وأحكامهم النجوميَّة من السعد والنحس والظفر والغلبة وغيرها هي من جنس الحكم بالكسوف، فيصدِّق بذلك الأغمار والرعاع، ولا يعلمون أنّ الكسوف يُعلم بحساب سير النيِّرين في منازلهما، وذلك أمرٌ قد أجرى الله العادة المطَّردة به كما أجراها في الإبدار والسِّرار والهلال، فمن علم هذا علم وقت الكسوف ودوامه ومقداره وسببه، وأمَّا أنَّه يقتضي من التأثيرات في الخير والشر والسعد والنحس والإماتة والإحياء وكذا وكذا كما يحكم به المنجِّمون فقولٌ على الله وعلى خلقه بما لا يعلمون، نعم لا ننكر أنَّ الله سبحانه يحدث عند الكسوفين من أقضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم، ويجعل الكسوف سببًا لذلك، ولهذا أمر النبيُّ عند الكسوف بالفزع إلى ذكر الله والصلاة والعتاقة والصدقة، لأنَّ هذه الأشياء تدفع موجب الكسف الذي جعله الله سببًا لما جعله، فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر بدفع موجبه بهذه العبادات.
ولله تعالى في أيام دهره أوقاتٌ يحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء، ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قام به أو يقلِّله أو يخفِّفه، فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها، اندفع عنه الشر الذي جعل الله الكسوف سببًا له أو بعضه، ولهذا قلَّما يسلم أطراف الأرض حيث يخفى الإيمان وما جاءت به الرسل فيها من شرٍّ عظيم، يحصل بسبب الكسوف، وتسلم منه الأماكن التي يظهر فيها نور النبوَّة والقيام بما جاءت به الرسل أو يقلُّ فيها جدًّا".
وتعليقًا على هذه أقول: إنَّ هذا أمرٌ مشاهد ولله الحمد، فنجد في أطراف مشارق الأرض بأقصى قارة آسيا من الزلازل والإعصارات والمصائب ما لا يخفى، وكذلك بأقصى مغارب الأرض، يحدث فيها من الزلازل والعواصف والحرارة التي يسقط لها مئات الأشخاص موتًا بما هو معروف لديكم.
ونعود إلى كلام ابن القيم، قال: "ولمَّا كسفت الشمس على عهد النبيِّ قام فزعًا مسرعًا يجرُّ رداءه، ونادى في الناس: الصلاة جامعة، وخطبهم بتلك الخطبة البليغة، وأخبر أنَّه لم ير كيومه ذلك في الخير والشر، وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعتاقة والصدقة والصلاة والتوبة، فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله وبأمره وشأنه وتعريفه أمور مخلوقاته وتدبيره، وأنصحهم للأمَّة، ومَن دعاهم إلى ما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم، ونهاهم عمَّا فيه هلاكهم في معاشهم ومعادهم" اهـ
أيُّها الناس، إنَّ أسباب الكسوف وحسابه والنظر في ذلك من العلم الذي لا يضرّ الجهل به، وحين ينفع فلا ينفع نفعَ العلم بما جاءت به الرسول، فشتان بين فائدتي العلمين ونفعيهما، وإذا كان الكسوف معلومًا وقوعه في المستقبل بحساب الفلكيين ومفسَّرًا سببه الظاهر لديهم بتوسُّط القمر بين الشمس وبين أبصارنا، كما تحجب السحاب عنا الشمس فيغيب ضوؤها، فذلك الحساب وتلك الأسباب لا ينافي شيء منها ما أخبر به النبيُّ أنَّ الكسوف آية من آيات الله يخوِّف الله بها عباده.
وقد بيَّن هذا بيانا شافيًا ابن القيم رحمه الله فقال: "وأيُّ مناقضة بينهما؟! وليس فيه إلاَّ نفي تأثير الكسوف في الموت والحياة على أحد القولين، أو نفي تأثُّر أحدهما لموت أحد أو حياته على القول الآخر، وليس فيه تعرُّض لإبطال حساب الكسوف، ولا الإخبار بأنَّه من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله. وأمْرُ النبيِّ عنده بما أمر به من العتاقة والصلاة والدعاء والصدقة كأمره بالصلوات عند الفجر والغروب والزوال، مع تضمُّن ذلك دفع موجب الكسوف الذي جعله الله سبحانه سببًا له. فشرع النبيُّ للأمَّة عند انعقاد هذا السبب ما هو أنفع لهم وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وشأن الكسوف وأسبابه" اهـ.
فالواجب عند حدوث الكسوف هو الاشتغال عنه بالصلاة والذكر والدعاء والصدقة، وليس بالنظر إليه، فهذا شأن الذين آمنوا واتَّقوا، وأمَّا الغافلون والجاهلون فهم ينشغلون عن الصلاة والصدقة والذكر بالنظر إلى الكسوف والبحث في شأنه. وكذلك يكون أمرهم عند كلِّ آية تحدث، وعند خروج الدجال، وعند ظهور الآيات الكبرى المنذرة بقيام الساعة. أعاذنا الله من الفتن.
إخوة الإيمان، إنَّ ممَّا لا شكَّ فيه عند أهل الإيمان أنَّ الكسوف إنَّما يحدث بأمر الله تعالى الذي خضعت له الكائنات، ومن لطيف ما ذُكر في كسوف الشمس والقمر ما صحَّ عن أبي قلابة الجرمي رحمه الله ـ وهو من أئمَّة التابعين ـ قال في الكسوف: "إنَّ الله إذا تجلَّى لشيء من خلقه خشع له"، وهذا الكلام قد روي مرفوعًا عن النبي ولا يصحُّ رفعه، وإنَّما هو من كلام أبي قلابة الجرمي.
ويدلُّ على صحَّة هذا المعنى قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، فإذا كان الجبل خشع لربِّه لما تجلَّى له فاندكَّ، وحصل لموسى الصعق بمجرَّد أن رأى الجبل خاشعًا مندكًّا، فما بال الشمس والقمر لا يخشعان إذا تجلَّى الله لهما؟! وما لهما لا يخشعان وهما دائما السجود لله تعالى؟! أليس قد قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الحج:18]؟! فلا تنافي ولا تناقض بين هذا السرِّ اللطيف وبين تفسير الفلكيين لظاهرة الكسوف، فافهموا.
وقد شرح هذا ابن القيم رحمه الله بعد أنَّ بيّنَ أنَّ تلك اللفظة مدرجة في الحديث لا يصحُّ رفعها، ثمَّ قال: "إنَّ ها هنا مسلكًا بعيد المأخذ لطيف المنزع، يتقبَّله العقل السليم والفطرة السليمة، وهو أنَّ كسوف الشمس والقمر وجب لهما من الخشوع والخضوع بانمحاء نورهما وانقطاعه عن هذا العالم ما يكون فيه سلطانهما وبهاؤهما، وذلك يوجب لهما لا محالة من الخشوع والخضوع لرب العالمين وعظمته وجلاله ما يكون سببًا لتجلِّي الرب تبارك وتعالى لهما، ولا يستنكر أن يكون تجلِّي الله سبحانه وتعالى لهما في وقت معيَّن، كما يدنو من أهل الموقف عشية عرفة، وكما ينزل كلَّ ليلة إلى سماء الدنيا عند مضي نصف الليل، فيحدث لهما ذلك التجلِّي خشوعًا آخر ليس هو الكسوف، ولم يقل ـ أي: أبو قلابة ـ: إنَّ الله إذا تجلَّى لهما انكسفا، ولكنَّ اللفظة: إذا تجلَّى الله لشيء من خلقه خشع له، فها هنا خشوعان: خشوعٌ أوجبه كسوفهما بذهاب ضوئهما وانمحائه، فتجلَّى الله سبحانه لهما، فحدث لهما عند تجلِّيه تعالى خشوعٌ آخر بسبب التجلِّي، كما حدث للجبل إذ تجلَّى تبارك وتعالى له أن صار دكًّا وساخ في الأرض، وهذا غاية الخشوع، لكنَّ الربَّ تبارك وتعالى ثبَّتهما لتجلِّيه عناية بخلقه، لانتظام مصالحهم بهما، ولو شاء سبحانه لثبّت الجبل لتجلِّيه كما ثبَّتهما، لكن أرى كليمه موسى أنَّ الجبل العظيم لم يطق الثبات له، فكيف تطيق أنت الثبات للرؤية التي سألتَها؟!" اهـ.
أيُّها الناس، قد خطب النبيُّ أصحابه حين كسفت الشمس بخطبة بليغة حفظ منها جملٌ منثورة أذكر لكم منها ها هنا ما صحَّ لديّ مستمدًّا من الجزء الذي جمعتُه في ذلك، حيث تتبَّعت فيه جميعَ ما توصَّلت إليه من الأحاديث والآثار المتعلِّقة بحادثة الكسوف وخطبتِها.
فكان ممَّا قال في خطبته :
1- ما روته عنه أسماء: ((قد دنَتْ منِّي الجنَّةُ حتَّى لو اجْتَرَأتُ عليها لجِئْتُكم بِقِطَافٍ من قِطافها، ودنَتْ منِّي النَّارُ حتَّى قلت: أَيْ رَبِّ وأنا معهم؟! فإذا امْرَأَةٌ ـ حَسِبْتُ أنَّه قال: ـ تَخْدِشُهَا هِرَّةٌ، قلتُ: ما شأنُ هذه؟ قالوا: حَبَسَتْهَا حتَّى ماتتْ جُوعًا، لا أَطْعمتْها ولا أَرْسلتها تأكلُ من خشاش الأرض)) أخرجه البخاري.
2- وفي حديثها أيضًا في الصحيحين: ((ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي حتى الجنة والنار، فأوحي إلي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريب ـ لا أدري أي ذلك قالت أسماء ـ من فتنة المسيح الدجال، يقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن ـ لا أدري بأيهما قالت أسماء ـ فيقول: هو محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثا، فيقال: نم صالحا، قد علمنا إن كنت لموقنا به، وأما المنافق أو المرتاب ـ لا أدري أي ذلك قالت أسماء ـ فيقول: لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته)).
3- وقال في حديث عائشة في الصحيحين: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا)) ، ثم قال: ((يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته. يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا)).
4- وقال في حديث ابن عباس في الصحيحين: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله)) ، قالوا: يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك، ثم رأيناك كعكعت! قال : ((إني رأيت الجنَّة فتناولت عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، وأريت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء)) ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: ((بكفرهن)) ، قيل: يكفرن بالله؟! قال: ((يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط)).
5- وفي حديث جابر: ((إنه عرض علي كل شيء تولجونه، فعرضت علي الجنة حتى لو تناولت منها قطفا أخذته ـ أو قال: ـ تناولت منها قطفا فقصرت يدي عنه، وعرضت علي النار فرأيت فيها امرأة من بني إسرائيل تعذب في هرة لها ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، ورأيت أبا ثمامة عمرو بن مالك يجر قصبه في النار، وإنهم كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات الله يريكموهما، فإذا خسفا فصلوا حتى تنجلي)) رواه مسلم.
6- وفي حديث جابر أيضًا: ((يا أيها الناس، إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم شيئا من ذلك فصلوا حتى تنجلي. ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار وذلكم حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، وحتى رأيت فيها صاحب المحجن يجر قصبه في النار، كان يسرق الحاج بمحجنه، فإن فطن له قال: إنما تعلق بمحجني، وإن غفل عنه ذهب به، وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا، ثم جيء بالجنة وذلكم حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه، ثم بدا لي أن لا أفعل، فما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاتي هذه)).
قد كان بودِّي أن أشرح لكم بعض ما تضمَّنته هذه الخطبة النبويَّة من الحكم والمواعظ، ولكنِّي أحسبني قد أكثرت عليكم وطوَّلت، فحسبكم ما ذكرت.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألاَّ إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3626)
سبيل الإصلاح
العلم والدعوة والجهاد, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا دعوية
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
19/11/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وصايا نبوية. 2- فضل التوحيد. 3- فضل الاجتماع. 4- النصيحة لولاة الأمر. 5- الناصح الصادق. 6- سبيل المفسدين. 7- التحذير من دعاة السوء والفتنة. 8- واجب الآباء والمعلمين والدعاة إلى الله. 9- دروس وعبر من زلزال شرق آسيا. 10- دعوة للتبرع لمنكوبي الزلزال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيَا أيّها الناس، اتَّقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى.
عِبادَ الله، صَحَّ عنه أنّه قالَ: ((إنّ اللهَ يَرضَى لكُم ثَلاثًا: أن تَعبدوه ولا تشرِكوا بِه شَيئًا، وأن تعتَصِموا بحبلِ الله جمِيعًا ولا تفرَّقوا، وأن تُناصِحُوا مَن ولاّه الله أمرَكم)) [1]. إنها وَصايَا عظيمةٌ يَرضَاها الله لنا، إذًا فهو يأمُرنا بها وبمُلازَمتِها والاستِمرارِ على ذَلك.
يرضَى لنَا ربُّنا أن نعبدَه ولا نشركَ به شيئًا، ولا يرضَى لنَا الكفرَ، فالعِبادةُ حَقٌّ لربِّنا جلّ وعَلا، وهو المستحِقّ لعبادَتِنا دونَ سِواه، خَلَقَنا لنَعبدَه، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، خلَقَنا لهذِه الغايةِ العظيمةِ، وبعَثَ لنا رَسولَه ليبيّنَ لنا حَقيقةَ هذه العِبادةِ، هذهِ العبادةُ حقٌّ لربّنَا، فلِربِّنا الدُّعاءُ، فنخلِص دعاءَنا لله، لا ندعو مع الله غيرَه، ونذبَح له، لا نذبَح لغيره، وتتعلّق قلوبنا بربِّنا حبًّا وخوفًا ورجاءً، ونعلم أنّه المستحِقّ للعِبادةِ، فلا تصلحُ العبادةُ لسِواه كائنًا مَن كان، ولا يرضَى لنا أن نُشركَ به ونَكفرَه، فإنّ عبادتَنا لغيرِه شركٌ عظيم، شركٌ به جل وعلا، إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48].
ويَرضَى لنا تَعالى أن نَعتصِمَ بحبلِه جميعًا ولا نَتَفرَّق، يَرضَى لنا أن نَعتَصمَ بحبلِه جميعًا، وحَبلُه كتابُه وسُنّة رسوله ، نعتصمُ بهِما عِلمًا وعملاً، وأن نجتَمعَ على ذلك، وأن لا نتفرَّق، أن نعتصمَ بحبل الله، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
ويرضَى لنا أن نُناصِحَ من ولاّه الله أمرَنا، فإنّ التناصُحَ بين المسلِمِين طريقُ الخَيرِ والصّلاح، ووسيلةٌ لتَحقِيقِ المنافعِ ودَفعِ المفاسِدِ، وسبيلٌ لجَمع القلوبِ واتِّحادِ الكلِمَة وارتباطِ الجميعِ برابطِ الخيرِ والتّقى. والله تعالى يأمُرُنا أن نكونَ متعاوِنين على البرّ والتَّقوى، وينهانا عَن التعاونِ على الإثم والعدوان: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
النّاصِحُ لولاةِ أمرِه مَن يحبُّ لهم الخيرَ، ويحبِّب إليهم الخيرَ، ويسعَى جاهِدًا في تحقِيقِ المصالح ودَرءِ المفاسد، والسّعي فيما يُوحِّد الأمّةَ ويجمَع كلِمتَها على الخيرِ والهدى؛ ولأجلِ هذا جعَلَ النبيّ الدِّينَ في النّصيحةِ، فقالَ: ((الدّينُ النصيحة)) ، قالوا: لمن يَا رسولَ الله؟ قال: ((لله ولكتابِهِ ولرسولِه ولأئمّةِ المسلِمينَ وعامَّتهم)) [2].
فالنّاصحُ لولاةِ أمرِ المسلمينَ من يحِبّ الخير ويسعَى في تحقيقِ الخير بكلّ وسيلةٍ ممكنةٍ نافعةٍ، الهدفُ منها تحقيقُ المصالح ودَرءُ المفاسِد، الهدَفُ منها جمع القلوبِ، الهدفُ منها السّعيُ في الخيرِ العامّ للأمّةِ في حاضِرها ومستقبَلها. الناصِحُ ليسَ همُّه تتبّعَ الزّلاّتِ والسّقَطات، ولكن همُّه الإصلاحُ والتوفيقُ. النّاصحُ للأمّة ليسَ همّه الشماتةَ والفَرحَ بكلّ نَقص، وإنما همُّه السّعيُ فيما يُصلِح ويحقّق الخَيرَ للأمّة في حاضِرِها ومستقبَلِها.
أيّها المسلمونَ، إنَّ النّاصِحَ لولاّةِ الأمر مَن تراه دائمًا يسعَى في الإصلاحِ، ويوضِح للأمّة خطورةَ التمرّدِ على الأمّة والخروج على قيادَتها، وأنّ هذا يسبّب البلاءَ للأمّة في الحاضر والمستقبَل، فما سُفِكَت الدّماء وما انتهِكَت الأعراض وما دمِّرت الممتَلَكات وما عاثَ في الأمّة في دمائها إلاّ بأسبابِ التفرّقِ والاختلافِ.
إنَّ اجتماعَ الأمّةِ عِزٌّ لها وقوّةٌ لها، وإنّ أيَّ تفرّقٍ فيها فهو سبَب لضعفِها وهوانها، إذًا فالمسلِمُ دائمًا يسعَى فيما يحقِّق جمعَ الكلِمَة ولمِّ الشّعثِ وإصلاح أوضاعِ الأمّة بالطريقِ المشروع النّافعِ، بالكلِمَات الهادِفةِ والنّصيحةِ الصادقة التي تنمّ عن محبّةٍ في القلبِ وحِرصٍ على الخير.
أمّةَ الإسلامِ، إنّ هناكَ التِباسًا في الأمرِ عَلَى بعض مَن قلَّت بصيرتُه وضَعُف إيمانه وقَلَّ إدراكه وتمييزُه للصّالح مِن الضّار وللخَيرِ مِن الشرّ، إنّ فئةً مِن الناسِ اتَّخذوا للإصلاحِ ـ فيما يزعمون ـ وسائلَ حرَّمها الشرعُ ونهى عنها.
أخِي المسلم، هَل من وسائِلِ الإصلاحِ سفكُ دماءِ الأبرياء؟! وهل مِن وسائل الإصلاح تهديدُ أمنِ الأمّة؟! وهل مِن وسائلِ الإصلاح قتلُ رجالِ أمنِ الأمّة؟! وهَل من وسائلِ الإصلاحِ تَرويعُ الآمنين؟! وهل مِن وسائلِ الإصلاح إحداثُ الفَوضَى بين مجتمَعاتِ المسلمين؟!
إنَّ من عادَ إلى عقلِه رأَى أن تِلك الوسائلَ وسائلُ إفسادٍ لا إصلاح، ووسائل شرٍّ لا خيرَ فيها، ووسائل تدميرٍ للأمّة لا إصلاحٍ لها.
ليتّقِ المسلم ربَّه فيما يأتي ويذَر، وليحذَر من دُعاةِ السّوء ودُعاةِ البغيِ والعُدوان الذين يسعَونَ في الأرض فسادًا، مَطايا لشياطين الإنسِ والجنِّ فيما يسيئون به للأمّة ويفسِدون عليها نعمةَ الله وفضلَه عليها.
أيّها الشبابُ المسلم، لنتّقِ الله في أَنفسِنا، ولنَحذَر مكائدَ أعدائِنا، ولنَحذَر مِن دعاءِ السّوء والفسَاد ودُعاةِ الفتنةِ والتّضليل ودعاةِ الشرّ والبلاءِ الذين ربما اندَسّوا بين صُفوفِ بعضِ أبنائنا، فزيَّنوا لهم البَاطلَ، وحسَّنوا لهم الشرَّ، ودَعَوهم إلى الفتنةِ والبَلاء، يظنُّ هؤلاء الأغمارُ أنّ هذا سبيلُ إصلاحٍ وهدًى، ومعاذَ الله أن تَكونَ الجرائم وسائلَ للإصلاحِ، وسائلُ الإصلاحِ معروفةٌ، وطرُق الخيرِ والتعاوُن واضِحَة، لكن النّوَايا السيّئة تبرِز حقائقَ ما انطوَت عليه ضمائرُ هؤلاء، مِن قصدِ الإفساد وسَفكِ الدّماء وتدمير الممتلَكات وترويعِ الآمِنين، كلُّ ذلك من استحواذِ الشّيطان عليهم أن زيَّنَ لهم الباطلَ فظنّوه حقًّا، أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
شَرِيعةُ الإسلامِ جاءَت لتحُثَّ المجتمعَ المسلمَ على التّعاوُنِ والارتباط، وتحذِّرهم مِنَ الفتَن مَهمَا كان نوعُها، وتلزِم طاعَةَ ولاةِ الأمرِ فيما فيه طاعةٌ للهِ، وتجعَل ذلك دينًا يَدين العبدُ به لربّه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].
أمّةَ الإسلامِ، إنّ أعداءَ الإسلامِ يغيظهم أن يَرَوا المجتمَعَ المسلِمَ في أمنٍ واستقرارٍ وانتظامٍ في حَياتِه واستقرارٍ في أوضاعِه، فيدسّون إلى أولئك الأغرارِ ويوحُون إليهم الباطلَ على يَدِ مَن يَظنّ أولئك أنّ هؤلاء ناصِحون، والله يعلَم إنهم لكاذبون. يريدونَ بالأمّةِ الشرَّ والفَسادَ، يريدون لها الفوضَى، يريدون لها أن تكونَ غارقةً في دمائِها، يريدون أن يسلبوا نعمةَ الله عليها، يريدون أن يبَدِّلوا أمنَها خوفًا ورغَدَها جُوعًا واستقرارها فوضى، ويأبى الله ذلك والمؤمنُونَ.
أيّها المسلم، إنَّ المؤمنَ الغَيورَ على دينِهِ لا يرضَى بهذِه التّرّهات، وموقفُه مِنها موقِفُ المنكِرِ لها الذي يشجبُها ويعلَم أنها تصرّفاتٌ باطلةٌ، تصرّفات غير لائِقَة، تصرّفات مِن سُفهاءَ وضُعفاء العقولِ وقِلّة إيمان، أوحاها إليهم شياطينُ الإنس والجن ممّن ضلَّ سعيهم في هذه الحياةِ الدنيا، ويقول الله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:112، 113]. فشياطينُ الإنسِ أولئك الّذين ضَلَّ سَعيُهم في هَذه الدّنيا، شياطينُ يريدونَ إفسادَ الأمّةِ؛ لأنهم إخوانُ اليهود الذين يقول الله فيهِم: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
فاحذَر ـ أخي الشابّ ـ أن تنخدِعَ بهم أو تغترَّ بهم أو تثِقَ بهم أو تَرى أنَّ عِندهم نُصحًا، فوالله ما نصَحوك، وما قالوا لك الحقيقةَ، وإنما أرادوا بكَ الشرَّ وبأمّتِك.
شَبابَ الإسلام، لنتّقِ الله في أنفسِنا، ولنحذَر من أن نُصغيَ لأيِّ دِعايةٍ لا نعرِف حقيقتَها، ولا نقبَل من كلِّ من جاءَنا برأيٍ بمجرَّد أن حَسَّن ذلك الرأيَ لنا، لا بدَّ أن نعرفَ هذا القائلَ، وندرسَ حياتَه، ونعلَمَ ماذا يريد وماذا وراءَ السُّطور؛ لنكتشِفَ الأمرَ على حقيقَتِه، أمّا أن نستسلِمَ لدُعاةِ الضّلال والسوءِ الذين لا يريدونَ بمجتمَعِنا المسلمِ خيرًا، وإنما يريدون بهِ البلاءَ.
هذه الفتنُ والمصائِب لأناسٍ استرخَصوا أنفسَهم في الباطلِ، فلَقوا المصيرَ السيّئ والعياذ بالله، وتحمَّلَ أوزارَهم مَن أشارَ لهم ومَن أعانهم على باطلهم، أو مَن تعاطَف معهم، أو مَن أحسنَ الظنَّ بهم، فكلّ أولئَك شُركَاءُ في الإثمِ والعُدوانِ؛ لأنهم تعاوَنوا على العدوانِ، تعاونوا على أمّةِ الإسلامِ، وبَغَوا لها الغوائلَ، والله جلّ وعلا حافِظُها بتوفيقِه وعونِهِ.
أيّها الآباءُ الكِرام، إنّ الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. فعَلَى الآباء جميعًا تقوَى الله، وعلَيهم الأخذُ علَى أيدِي سُفَهائِهم، وأن لا يمكِّنوهم من هذهِ الآراء الشاذّة، وأن يأخُذوا على أيديهم ويتدارَكوا الأمرَ قبلَ أن يستفحِلَ.
إنَّ الآباءَ إذا انتبَهوا لأبنائهم وأين ذهبوا ومع من ذَهبوا وأين اجتمَعوا ومع مَن اجتمعوا وأين سافَروا مع مَن سافروا، حتى يأخذَ فِكرةً طيّبة عَن أبنائِه ومَن يلتقِي بهم؛ لأنّنا إذا أخَذنَا بهذا الطريق بتوفيقٍ من الله استَطعنَا أن نقطعَ خطَّ الرّجعةِ على الأعداء الذين يستغلّون ضعفَ عقولِ بعضِ الصّغار، يستغلّون ضعفَ عقولهم وقلّةَ بصيرتهم، وربما حسّنوا لهم البَاطلَ، وقالوا لهم: هذا سبيلُ الجنّةِ، سبيلُ الجنة في تصوُّرِهم أن تقتلَ مسلِمًا بريئًا أو معاهَدًا بَريئًا، تقتلَه ظلمًا وعدوانًا، هذا سبيلُ الجنّةِ في نظرِ أولئك، ولا شكَّ أنه سبيلُ النار لا سبيل الجنّة. إنَّ سبيلَ الجنّةِ والهدَى تقوَى الله وطاعةُ الله والنّصيحة للمسلمين وتوضيحُ الحقِّ لهم وتحذيرُهم من سُبلِ الرّدَى، أمّا قتل الأبرياء وتدميرُ الممتلَكَات ونهبُ الأموالِ وترويع الآمنين فإنّه سبيلُ الشيطان لا سبيل خيرٍ وهدى.
فيا أيّها الآباء الكرام، اتَّقوا الله في أبنائكم. ويا أيّها المعلِّمون، اتقوا الله في تلاميذِكم، وجِّهوهم إلى الخير، حذِّروهم مِن سبل الرّدَى، متى ما شمَمتم من أحدٍ نزعةً شرّيرة فحاوِلوا العلاجَ ما دامَ الأمرُ ممكِنًا، حاولوا علاجَ أفكَارِهم وتصحيحَ اتِّجاهِهِم وسلوكِهم، حتى لا يقَعوا ضحيّةً لتأثير الأعداء. إنَّ المعلِّمَ الصادِق من ينشُر الحقَّ ويدعو إليه، ويبيِّن لشبابِنا خطورةَ هذه الدّعايات المضلِّلةِ وخطورةَ هذه الآراءِ المنحَرِفة؛ لنصلِح من أبنائنا ما فسَد ونوجّههم إلى الخير.
وإنَّ خطباءَ المساجِد والدّعاةَ إلى الخير ووسائلَ الإعلام عمومًا واجبُ الجميعِ التكاتفُ وتبيين الحقِّ وإيضاحُ الهدَى والتحذير من سُبُل الرّدى بالأساليب الشّرعيّة والطّرُق الشرعيّة التي نضمَن بتوفيقٍ من الله أن نقضيَ على هذا الغلوّ الشّديد، غلوّ بالزيادة أو غلوّ بالتطرّف والبعدِ عن الهدى، لا بدَّ أن نسعَى في أن تكونَ أفكار شبابِنا أفكارًا متَّزِنة، أفكارًا وسطيّةً، أفكارًا بعيدَةً عن التأثّرِ بدعايات أهلِ الضّلال الذين يسعَونَ في الأرض فسادًا وهم لا يصلِحون.
أينَ الإصلاحُ من قومٍ اتَّخذوا الجرائمَ وسيلةً لما يدّعون أنه إصلاح؟! ويعلَم الله إنهم لكاذبون، وسائلُ الإصلاح معروفة، طرُق التوجيهِ والتّناصح واضحةٌ، أمّا القتل وسفكُ الدّماء والتّغرير بهؤلاء الجهَلَة والزّجُّ بهم في هوّة سحيقة، فهذا عينُ الغِشّ لهم وعينُ الخِيانةِ لهم، لو كان هذا في قَلبِه إيمان لما رَضِيَ لهذا الشابّ أن يزجَّ بنفسِه في أمورٍ لا خَيرَ فيها، وليست لها عواقبُ حسنة، بل عواقبها سيّئة. إنه لا يرضاها لأبنائِه، فكيف يرضَاهَا لأبناء الآخرِين؟! إنه لا يرضَاها لنفسه، فكيف يَرضاها للآخرين؟!
فلنتّق الله جميعًا، ولنتعاوَن على البرِّ والتقوَى، ولنعلَم أنّ دينَنا وأمننا ورَخاءَنا أمانةٌ في أعناقِنا، ليؤدِّ كلٌّ واجبَه، وليحذر كلٌّ منّا أن تزِلّ قدمُه بأمورٍ لا خيرَ فيها. فلنتَّقِ الله جميعًا، ولنأخُذ عِبرةً مِن أوضاعِ الآخرين الذين يعيشونَ في دوّامةٍ مِنَ الفِتن، تقضّ الأحداثُ مضاجِعَهم صباحًا ومساء، كم حَصَدت هذه الفتنُ مِن أرواح، كم أرمَلت من نساءٍ وأيتَمَت من أطفال ودمَّرت من أموالٍ وأفقرت من غِنَى وأذلَّت من عِزّ، عياذًا بالله من سوءِ الفِتن ما ظهَر منها وما بطن.
فلنعتصِم بحبلِ الله، ولنجتمِع على الخيرِ، ولنأخذ على أيدِي سُفهائنا، ولنأطرهم على الحقِّ أطرًا، ولنحذِّرهم من دعاةِ الضلال وأربابِ الفِتنِ الّذين لا يرحمونَ الأمّة ولا يحسِنون إليها، يغيظهم ما يرَونَ عندَنا من استقرارٍ واستِبابِ أمنٍ ونعمةٍ عظيمةٍ من الله في هذا البلَدِ المبارك الذي يؤُمّه ملايين المسلمين لفريضةِ الحجّ والعمرةِ، ويرونَ ما فيهِ مِن نعمةٍ وخير واستقرارٍ وطمأنينةٍ ووحدةِ أفكار وآراء، فلنحذَر ممن يريدون بنا الشرَّ والبلاء.
وفقني الله وإيّاكم لكلِّ خيرٍ، وأعانَني وإيّاكم لعلى كلِّ خير، وجنَّبَ بلادَنا وبلاد المسلمين عامة كلَّ بلاء وفتنة، إنه على كلِّ شيء قدير.
أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولكم ولِسائرِ المسلِمين مِن كلِّ ذنبٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليهِ، إنّه هوَ الغَفور والرحيم.
[1] أخرجه مسلم في كتاب الإمارة (1715) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس فيه: ((وأن تُناصِحوا من ولاّه الله أمرَكم)) ، وهي زيادة عند أحمد (2/267)، والبخاري في الأدب المفرد (442)، وصححها ابن حبان (3388)، والألباني في صحيح الأدب المفرد (343).
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (55) عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَمَا يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبدُه ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جلَ وعلا: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت:53].
إِخوتي الأعِزّة، في هذِه الأيّام وأحداثُ الزّلزال المدمِّر وتلك الفيضاناتُ الهائلة التي خلَّفَت ما يزيد على مائة وعشرين ألفَ قتيل، ومفقودين الله أعلَم بهم، وخلَّفت أَيضًا ملايين مِنَ البشر في العراءِ لا مسكَنَ ولا مَطعَم، وخلَّفت مصائبَ عظيمة الله أعلم بها.
إخوتي، إنّ هذه عبرٌ وعِظات لنا، وتذكِّر العبادَ دائمًا كمالَ قدرة الله، وأنَّ الله على كل شيء قدير، وعندما يقرأ المسلم كتابَ الله ويتلُو عقوبةَ الله لمن عاقَب ممّن صدَّ عن سبيلِه ممّن اغترّوا بأنفسهم وانخدَعوا بقوَّتهم، كيف كانت قوّتهم ضعيفةً لا شيء، اضمحلَّت أمام قُدرة الذي هو على كلِّ شيء قدير، قال الله عن قومِ هودٍ أنهم قالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، قال الله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:15، 16].
يا أيّها المسلِم، إنَّ كثيرًا اغترّوا بعلمهم، واغترّوا بقدراتهم، وظنّوا أنهم سيطروا على الأرض وملَكوا زمامَ الأمور، وأنهم وأنهم.. فجاءهم ما حيّر عقولهم وأوقفهم على عجزِهم وضعفِهم وقِلّة إمكانياتهم، إنها القدرة الربانيّة، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]. في بضع ثوان انقلبت الموازين، واختفَت كثير من الأراضي، وطغى الماء وارتفع ارتفاعًا شاهِقًا، حار البشرُ أمامه، فلا قُدرةَ تواجه ذلك ولا استطاعة. قدرةٌ ربانيّة حارَت أمامَها قوى البَشَر كلّها، إنّ هناك غرورًا في العِلم، غرورا وإعجابًا بأولئك، وأنهم يمكن أن يدرِكوا ما سيَقَع، ويمكِن أن يتخلَّصوا، ويمكن ويمكن... فجاءت القدرةُ الإلهية، والله على كل شيء قدير، أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
باتوا في سرورٍ وما شَعروا إلاّ والأخطار تحيطُ بهم من كلِّ جانب، وهذا المدُّ البحريّ الذي ارتفع إلى عدّة أمتار حتى طغى على كلِّ شيءٍ، فسبحان القادِر على كلِّ شيء.
إذا تأمّلَ العبد هذه الدّنيا وتذكَّر قولَ الله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1، 2]، وتأمّلَ قوله: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
أيّها المسلم، إنها عِظَةٌ لمن اعتَبر، هذه الأرضُ التي ذلَّلها الله لنَا، وجعلها لنا مِهادًا، نعيش على ظهرِها، ونواري أمواتَنا في بطنها، أودَع فيها من الإمكانياتِ ما يحتاج البشرُ إليه، وسهَّل السيرَ عليها، إذا أرادَ حرَّكها بما يقلِب موازينَ البشر وتحارُ البشر أمامَ تلك القوّة العظيمة، فسبحان القادرِ على كلّ شيء.
هؤلاء بلَغوا من العلم ما بلَغوا، وانخدَعوا بعلومِهم، وظنّوا أنّ ما هم عليه من عِلمٍ سيقيهم تلك الكوارث والأحداث، لكنّها أمورٌ تضعُف وتتلاشَى أمام قدرة الله جلّ وعلا، فمهما أُعطِيَ الإنسان من علمٍ ومهما أعطي من إمكانيات ومهما ومهما، فكلّ هذه الأسبابِ إذا أراد الله أمره فإنّ أمرَ الله لا يردُّه أحَد، ولا يقِف أمامَه أحَد، بل أمر الله ماضٍ، والعباد حيارَى أمام هذه القدرةِ العظيمة الربانية.
فيا إخواني، لنتَّقِ الله في أنفسنا، ولنحافظ على دينِ الله، ولنشكر الله بقلوبِنا وألسنَتِنا وجوارحنا، ولنحذَر من الله فإنَّ الله جلّ وعلا سريع العقاب، اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة:98]، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
نسأل الله أن يجعلَنا من المتَّعظين المعتبِرين، وأن يرحَمَ أمواتَ المسلِمين، ويوفّقنا جميعًا لما يحبّه ويَرضاه من الأقوال والأعمالِ، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
أيّها المسلم، إنّ الإحسانَ في هذه الأحداث العظيمةِ في هذه الكوارثِ العظيمة إحسانٌ يرجَى لصاحبه أن يضاعِفَ الله له المثوبةَ، فإنّ في كلّ كبدٍ رطبة أجرًا، فهذه الكوارثُ العظيمة التي عمّت ما عمّت من البلاد إنّ الإحسانَ والتبرعَ والمساهمة في سبيلِ الخير عملٌ صالح، فكم ممن يعيشون في العراءِ وكم وكم.. إنّ مسارَعةَ الأمّة الإسلامية ومساهمةَ المسلمين في الإنقاذ والإسعافِ لهو عملٌ صالح، فإنّ المسلمين إذا سبَقوا غيرَهم استطاعوا بهذِه الأعمال الطيّبةِ أن يجعلوها دعايةً لدينهم الصحيحِ الذي هو الحقّ والهدى، فالمبادَرَةُ في هذا السبيل مما يحبّه الله ويرضاه، نسألُ الله لنا ولكم السلامَةَ والعافيةَ في الدّين والبدَن والأهلِ والمالِ، إنّه على كلّ شيءٍ قدير.
واعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديث كتاب الله، وخَيرَ الهديِ هَديُ محمّد ، وشَرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضَلالةٌ، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنَّ يدَ الله عَلَى الجماعةِ، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمَرَكم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولكَ محمّد، وَارضَ اللّهمّ عَن خلفائِهِ الرّاشِدين...
(1/3627)
الدعوة إلى الإسلام
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الطريق الصحيح لعرض الإسلام. 2- وجوب تصفية الإسلام مما علق به من شوائب العصور الماضية. 3- الاستفادة من وسائل العصر الحديث لنشر الإسلام.
_________
الخطبة الأولى
_________
تعلمون ـ أيُّها المسلمون ـ أنَّ من مقتضيات القيام بهذا الدين بذلَ ما في الوسع والطاقة والجهد لنشره وتبليغه إلى الناس كافَّةً في جميع الآفاق، ليظهره الله على الدين كلِّه؛ لأنَّه يجب على الجميع أن يحقِّقوا لدين الله كلَّ أسباب الظهور والعلوِّ على الدين كلِّه، تنفيذًا لقول الله عزَّ وجل: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
فالدعوة إلى الإسلام مهمَّة المسلمين بعامة والعلماء والحكام بخاصَّة، فإنَّ الدعوة معلَّقة كسائر الواجبات بالقدرة والاستطاعة، ولمَّا كان العلماء والأمراء هم أقدر الناس على القيام بالدعوة كانت في حقِّهم أوجب، ولكنَّ ذلك لا يعفي غيرهم من هذا الواجب.
إنَّ ممَّا يتعلَّق من البحث بأطراف هذه القضيَّة أن نلفت النظر إلى أنَّ عرض الإسلام يجب أن يكون في محتواه صحيحًا سليمًا من كلِّ إضافة أو تغيير أو زيادة أو تبديل، وأمَّا طريقة عرضه فينبغي أن تكون مناسبةً للتطور الحضاري، فافهموا الفرق بين محتوى الدين فهو ثابت لا يتغيَّر، وبين وسيلة البلاغ التي تتطوَّر طرقها باختلاف العصور.
فالمحتوى يجب أن يعرض نظيفًا كما أنزل، بعيدًا عن المؤلَّفات التي ألِّفت في العصور البالية، والتي تأثَّرت بالانحطاط الذي صارت إليه معظم الدول الإسلامية في ذلك الوقت، خصوصًا الدول التي كانت تحت مظلَّة السلطة العثمانية، في العصور التي اصطلح عليها بـ(ما بعد الموحِّدين).
والإسلام الصحيح لا يمكن عرضه في صورة أبهى من الصورة التي جلاَّها القرآن المجيد بآياته البليغة، وأحكمت بيانها نصوص السنَّة النبويَّة الشريفة وسيرةُ النبيِّ وأصحابِه.
ولذا يجب الرجوع إلى المنابع الصافية الأولى للإسلام، فجميع ما وصل إلينا من التراث الإسلامي ينبغي قبل إحيائه تهذيبُه وتشذيبه ممَّا علق به وتراكم عليه في عصور الضبابيَّة والجمود الفكري والتخلُّف الحضاري. هكذا نصح العلماء الربانيُّون، وهكذا وجّه المفكِّرون المحقِّقون. وعبارات أعيانهم في ذلك معروفة فلست أطيل عليكم بها، وإنَّما أخصُّ بالذكر منهم واحدًا هو من نوادر المفكِّرين المسلمين، ذلكم هو الأستاذ مالك بن نبي الجزائري رحمه الله، فقد تكرَّر منه التنبيه على هذا الأصل حتَّى قال: "إنَّ تصفية الأفكار الميتة وتنقية الأفكار الميتة يعتبران الأساس الأوَّل لأيِّ نهضة حقَّة"، وقال أيضًا: "كلُّ محاولة لإعادة بناء حضارة الإسلام يجب أن تقوم أوَّلاً وقبل كلِّ شيء على أساس سيادة الفقه الخالص على الواقع السائد الذي نشأ عن صفين، ولا شكَّ أنَّ هذا يقتضي رجوعًا إلى الإسلام الخالص، أعني تنقية النصوص القرآنيَّة من غواشيها الكلاميَّة والفقهيَّة والفلسفيَّة"، وقال أيضًا: "موسى وعيسى ومحمَّد صلوات الله عليهم أجمعين لم يكونوا علماء كلام، ينطقون أفكارًا مجرَّدة، ولكنَّهم كانوا مجمِّعين لتلك الطاقة الأخلاقيَّة التي أوصلوها إلى نفوس فطريَّة. وعلم الكلام يمجِّد الجدال وتبادل الآراء، وهو في الوقت ذاته يشوِّه المشكلة الإسلاميَّة ويفسد طبيعتها، فعلم الكلام لا يواجه مشكلة (الوظيفة الاجتماعيَّة) للدين، لأنَّ المؤمن لا يفيد شيئًا من مدرسة تعلّمه مسألة وجود الله فحسب، دون أن تلقِّنه مبادئ الرجوع إلى السلف"، وقال في موضع آخر: "فما السبيل إلى أن يتحرَّك العالم الإسلامي تحت أوزار القرون وأثقال التقاليد والعادات المتخلِّفة المتراكمة؟..
فأيَّة مقارنة لتلك التقاليد بالإسلام؟! فينبغي تنقية الثقافة الإسلاميَّة من تلك المقدَّسات الوهميَّة، التي تسمَّى (تقاليد)، ولقد قام بتلك المهمَّة على خير وجه الشيخ عبد الحميد ابن باديس فاستطاع أن يخلِّص الجزائر من تلك التقاليد الزائفة التي كانت تتجسَّد في الطريقة المرابطيَّة، ولكنَّ فردًا واحدًا يعجز عن القيام بتلك المهمَّة وحده" انتهى.
فهذا ما يتعلَّق بكيفيَّة عرض الإسلام في محتواه، وأمَّا وسائل عرضه فهذا ما نوجز بيانه بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
قد ذكرت لكم ما يتعلَّق بكيفية عرض الإسلام في محتواه، وبقي القول في وسائل عرضه، فلا شكَّ أنَّ متابعة الرسول في نهجه الدعوي المتميِّز تقتضي أن يحسن المسلمون البلاغ بما يحقِّق لدين الله الظهور على الدين كلِّه، ولا يكون ذلك تامًّا كاملاً ما لم يحسن المسلمون الطرق العصريَّة لوسيلة البلاغ والاتصال، فالبلاغ هو وسيلة الدعوة، ولكن طرق البلاغ في تطوُّر مستمرّ، فقد كانت الكلمة المسموعة هي الطريقة الممكنة في أوَّل الأمر في عصر الصحابة، ثمَّ تطوَّرت بالكتابة وإعمال الأقلام، وفي عصرنا ظهرت طرق جديدة للنشر منها المسموع ومنها المقروء ومنها المرئي المتحرِّك، وهي في عالم اليوم يتربَّع على عرشها القنوات الفضائيَّة التي تبث البلاغات والثقافات والبرامج والأفكار عبر الأقمار الصناعيَّة والأنظمة الكابلية والرقمية، وباستخدام الألياف الصناعية وأشعَّة الليزر.
وهل من المقبول أن تبقى هذه الوسائل حكرًا على أيدي الكفار والفجار يبثُّون فيها سمومهم وشرورهم ويبقى الصالحون بعيدين عن ذلك بشبهة الورع؟!
فنخشى إن لم يبادر الصالحون إلى إحسان الانتفاع بهذه الوسائل العصرية للاتصالات الفضائية في الدعوة إلى الله أن نكون عرضة لسخط الله جراء انتشار الفساد على وجه الأرض بسبب تقاعسنا عن شرور البث المباشر ذي الطبيعة الماضية الفاجرة أيًّا كان مصدره، فإنَّ آثاره السيئة المتمثِّلة في بث اليأس في نفوس المسلمين، والشعور بفقدان الذات ومحو الهويَّة الإسلامية، فضلاً عن ضعف الانتماء وعدم الالتزام بأحكام الدين وآدابه، ونشر الفاحشة والانحلال وغير ذلك من المضار.
وإذا كان الكفار والمنافقون حريصين على إيصال ما لديهم من باطل إلى كلِّ أحد في إبداع وروعة وهم لا ينتظرون من وراء ذلك ثواب الله، بل هم عرضة لعقابه وأليم عذابه، فما بالنا ونحن قد خصَّنا الله تعالى بأكمل دين وأتمِّه وحمَّلنا مسؤولية إبلاغه للبشرية إنقاذًا لها من النار؟! فلا جرم وجب على ذوي السلطة والخبرة استخدام ما في الوسع من وسائل البث والنشر الفضائي تحقيقًا لما وعد الله به من ظهور الدين وتمكينه لأهله، وعسى أن يأتي الله بقوم يفعلون ويذهب بالقاعدين، والحمد لله رب العالمين.
(1/3628)
وفاة النبيَّ صلى الله عليه وسلم (1)
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم المصيبة بوفاة النبي. 2- نعي النبي في سورة النصر. 3- ابتداء مرضه. 4- شوقه إلى لقاء ربه تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
شهركم هذا هو شهر ربيع الأوَّل، وهو شهرٌ كما ذكرت من قبل حافلٌ بالأحداث العظام في تاريخ الإسلام، وإنَّ لنا فيه ذكرى أليمة ليس في الدنيا ذكرى أشدَّ ألمًا منها، ذلك ما حدث في مثل شهركم هذا في الثاني عشر منه منذ أربعة عشر قرنًا مضت، إنَّه حدث وفاة رسول الله.
هذه الذكرى قد سبق منِّي الاحتفاء بها في خطبة بليغة من نحو بضع سنين، وإنَّ في تكرارها وتذكارها فوائد عديدة، ليس هذا موضعَ بيانها.
أيها الناس، أنصتوا وألقوا إليَّ بأسماعكم، وحدِّقوا إليَّ بقلوبكم قبل أبصاركم، فإنِّي محدِّثكم اليوم حديثًا ليس كسائر الأحاديث، يستوجب منكم الإنصات وخشوع الأصوات.
لقد ألِف الناس عندنا في هذا اليوم أن يذكروا ذكرى مولد النبيِّ ، فتراهم لذلك يفرحون ويمرحون، بل قد لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إنَّ أكثرهم لا يفرحون لأجل المولد بل لمجرَّد اللهو واللعب، وينسَون الذكرى الأخرى؛ ذكرى وفاته فلا يحزنون ولا يتألَّمون، كيف وموته رزيَّة في الإسلام ما أخطرها، ومصيبة على أمَّة الإسلام ما أعظمها، فهي النازلة التي كادت تزلزل لها الجبال والجبال جبال، واهتزَّت لها قلوب الرجال والرجال رجال، وانقطع لها الوحي من السماء، وخرج الناس بها من دين الله أفواجًا وطاشت الأحلام، وغشي الآفاقَ ما غشيها من الظلام، ورفع الباطل رأسًا كان تحت قدمي رسول الله موضوعًا، وسمع المؤمنون من أعداء الله ما لم يكن في حياته مسموعا، وطمع إبليس أن يعيد الناس إلى الجاهليَّة الأولى، وأن يصدَّهم عن الإيمان والقرآن.
فالرزيَّة كلُّ الرزيَّة والمصيبة كلُّ المصيبة قد حصلت لهذه الأمَّة بوفاة نبي الرحمة ، فمنذ ذلك اليوم والنور الذي جاء به في تناقص وانقضاض، والعلم الذي بعث به في إدبار وانقباض، فظهر في الأمَّة بسبب وفاته ما أوعدت به من اختلاف القلوب والإحن ومن الشرور والفتن ومن المصائب والمحن، فكانت حياته أمانا لهذه الأمَّة من تلك الخطوب والمصائب. روى مسلم في صحيحه عن النبيِّ قال: ((أنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون)).
ففي الثاني عشر من شهر ربيع الأوَّل أتى النبيَّ ملكُ الموت ليقبض روحه الطيبة أزكى الأرواح، وينقلها إلى جوار الله بدار الأفراح.
وسأقصُّ عليكم ذلك من ابتداء مرضه إلى أن فُرغ من دفنه ، آخذًا ذلك كلَّه من جملة أحاديث صحيحة ألفِّقها تلفيقا، ثمَّ أسوقها إليكم كالحديث الواحد مساقًا متّسقًا.
فلنعش مع رسول الله أيَّامه الخمسةَ الأخيرة، نختصرها في هذه اللحظات القصيرة.
وأتوجَّه قبل البدء إلى بعض الجالسين ها هنا وكأنَّهم جالسون على الجمر، لأعلمهم بأنَّني مطيل عليكم بعض الشيء فصبر جميل، فإنَّ استذكارَ هذا اليوم يستدعي الإطالةَ عليكم، ولا بأس في ذلك، فإنَّه يجوز تطويل الخطبة أحيانًا لحدث يكون، فلا يتعنَّت عليَّ متعنِّت.
أوَّل ما أعلم رسول الله باقتراب أجله بنزول سورة النصر، وذلك في أيَّام التشريق في حجَّة الوداع بثلاثة أشهر قبل وفاته. فالمراد من هذه السورة: إنَّك ـ يا محمَّد ـ إذا فتح الله عليك البلاد ودخل الناس في دينك أفواجًا فقد اقترب أجلك، فاستعدّ للقائنا بكثرة التسبيح والاستغفار.
فلمَّا نعيت لرسول الله نفسه بنزول هذه السورة وأُعلم باقتراب أجله أخذ في أشدِّ ما كان من أمر الآخرة، وجعل يعرِّض للناس باقتراب أجله، كأنَّه كان يهيِّئهم لتحمُّل صدمة النبأ بوفاته حين ينزل به الموت.
فإنَّه لمَّا خطب في حِجَّة الوداع ـ وذلك بثلاثة أشهر قبل موته ـ قال للناس: ((خذوا عنِّي مناسككم، فلعلِّي لا ألقاكم بعد عامي هذا)) ، وطفق يودِّع الناس، فقالوا: هذه حِجَّة الوداع.
ولمَّا رجع من حِجَّته جمع الناس بمكان يقال له: غدير خم، فخطبهم وقال: ((أيُّها الناس، إنَّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربيِّ ـ يعني ملك الموت ـ فأجيب)) ، ثمَّ حثَّهم على التمسُّك بكتاب الله، ووصَّاهم بأهل بيته. روى ذلك كلَّه مسلم في صحيحه.
فلمَّا كان في آخر شهر صفر أمره الله بأن يستغفر لأهل البقيع، فأتاهم في جوف الليل فدعا لهم، فكأنَّه ودَّع الأحياء والأموات جميعًا من أصحابه. ثمَّ ابتدأه المرض.
ابتدأه المرض صبيحةَ ذلك اليوم وهو يوم الأربعاء آخرَ شهر صفر، وكانت مدَّة مرضه ثلاثة عشر يومًا.
وكان أوَّلُ ما ابتدئ من مرضه وجعَ رأسه، وكان الصداع وألم الشقيقة يعتريه كثيرًا في حياته، فبقي أسبوعًا والألم يتمادى به وهو يدور على أزواجه ويقول: ((أين أنا غدا؟ أين أنا غدًا؟)) يريد يوم عائشة، فلمَّا كان اليوم الثامن من مرضه، وهو يوم الأربعاء السابع من شهر ربيع الأوَّل صلَّى بهم صلاة المعرب، وقرأ فيها بالمرسلات عُرفا، وهي آخر صلاة جهريَّة صلاها لهم، فاشتدَّ به الوجع، وهو في بيت ميمونة، فاستأذن نساءه أن يمرَّض في بيت عائشة، فأذنَّ له، فخرج بين عمِّه العباس وابن عمه علي بن أبي طالب تخطُّ رجلاه في الأرض، حتَّى دخل بيت زوجته عائشة، فلمَّا حضرت صلاة العشاء وجاءه بلال يؤذنه بالصلاة وكان قد ثقل واشتدَّ به الوجع فقال: ((أصلَّى الناس؟)) قالت عائشة: فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) ، قالت: ففعلنا فاغتسل ـ أي: يتبرَّد بذلك من الحمَّى ـ، ثمَّ ذهب لينهض فأغمي عليه، ثمَّ أفاق فقال: ((أصلَّى الناس؟)) فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) ، قالت: فاغتسل، ثمَّ ذهب لينهض فأغمي عليه، ثمَّ أفاق فقال: ((أصلَّى الناس؟)) فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قال: ((ضعوا لي ماء في المخضب)) ، قالت: فاغتسل، ثمَّ ذهب لينهض فأغمي عليه، ثمَّ أفاق فقال: ((أصلَّى الناس؟)) فقلنا: لا، هم ينتظرونك يا رسول الله، قالت عائشة: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسولَ الله لصلاة العشاء، فأرسل رسول الله إلى أبي بكر أن يصلِّي بالناس، فصلَّى بهم أبو بكر تلك الأيام، فلمَّا أصبح رسول الله يوم الخميس كان الناس يسألون عن حاله، فخرج من عنده عليّ فقال له الناس: كيف أصبح رسول الله؟ قال: أصبح بحمد الله بارئًا، وكان قد خفَّ به بعض ألمه. روى ذلك البخاري.
وفي هذا اليوم يوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس، حدث في بيت رسول الله ما يأتيكم خبره بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: في يوم الخميس، وما أدراك ما يوم الخميس، الثامن من شهر ربيع الأوَّل كان عند رسول الله رجالٌ من أصحابه، فقال لهم: ((هلمُّوا أكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعده)) ، فقال: عمر بن الخطاب: رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم كتابًا لا تضلُّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فتنازعوا ولا ينبغي عند نبيٍّ تنازع، فلمَّا أكثروا اللغط والاختلاف، قال رسول الله : ((قوموا عنِّي)).
وكان ابن عباس إذا حدَّث بهذا الحديث بكى حتَّى تسيل دموعه على خدِّه كنظام اللؤلؤ، وكان يقول: يوم الخميس ما يوم الخميس، إنَّ الرزيَّة كلَّ الرزيَّة ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم. روى ذلك البخاري ومسلم.
وفي هذا اليوم يوم الخميس مرَّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقالا: ما يبكيكم؟ قالوا: ذكرنا مجلس رسول الله منَّا ـ يعني أنَّهم خشوا أن يموت، فيفقدوا مجلسه، فبكوا حزنًا على فوات ذلك ـ فدخل العباس فأخبر النبيَّ بذلك.
فقالت عائشة: قال النبيُّ : ((أهريقوا عليَّ من سبع قِرب لم تحلَّ أوكيتهنَّ، لعلِّي أعهد إلى الناس)) ، قالت عائشة: فأجلسناه في مخضب نصب عليه من تلك القِرب حتَّى أشار عليهنَّ أن قد فعلتنَّ، فوجد من نفسه خفَةً، ثمَّ خرج إلى الناس يُهادى بين العباس وعلي، والناس يُصَلُّون الظُّهْرَ خلف أبي بكر، فأراد أبو بكر أن يتأخَّر، فأشار إليه النبيُّ أن مكانك، ثمَّ أُتي به حتَّى جلس إلى جنبه فصلِّى بهم الظهر، وكانت هذه آخرَ صلاة صلاَّها لهم، وهو جالس وأبو بكر قائمٌ بجنبه يقتدي به، والناس يقتدون بأبي بكر.
ثمَّ جلس على المنبر، وهو معصوب الرأس بعصابة سوداء من شدَّة الوجع والألم، فحمد الله وأثنى عليه ثمَّ قال في خطبته: ((إنّ الله خيَّر عبدًا بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ذلك العبد ما عند الله)) ، ففهمها أبو بكر من بين الناس، فبكى وبكى وجعل يقول: بل نفديك بآبائنا وأمَّهاتنا وبأموالنا وأبنائنا. قال أبو سعيد الخدري: فعجبنا لبكائه، فكان رسول الله هو العبد الذي خيَّره الله بين لقائه وبين البقاء في الدنيا، وكان أبو بكر أعلمنا به.
أيُّها الناس، لمَّا قويت معرفة رسول الله بربِّه ازداد حبُّه له وشوقه إلى لقائه، فلمَّا خيَّره الله بين البقاء في الدنيا وبين لقائه اختار لقاء ربِّه على خزائن الدنيا. ولمَّا عرَّض النبيُّ على المنبر بأنَّه اختار اللقاء على البقاء ولم يصرِّح خفي المعنى على الناس ولم يفهمه إلاَّ صاحبه الخصيص أبو بكر الصديق، فجعل يبكي ويقول: نفديك بآبائنا وأمَّهاتنا، فسكَّنه رسول الله وقال له: ((يا أبا بكر، لا تبك)) ، ثمَّ قال للناس منوِّهًا بصاحبه أبي بكر ومشيرًا لهم بأنَّه الخليفة من بعده، فقال: ((إنَّ أمنَّ الناس عليَّ ـ أي: أكثرهم منَّةً ونعمةً عليَّ ـ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متَّخذًا خليلا غير ربِّي لاتَّخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلَّة الإسلام ومودَّته، لا يَبْقَيَنَّ في المسجد باب إلاَّ سُدَّ إلاَّ باب أبي بكر)) ، ووصَّاهم بالأنصار، ونهاهم عن اتِّخاذ القبور مساجد، ثمَّ نزل ودخل بيته فكانت هذه آخرَ خطبة خطبها لهم وآخر صلاة صلاَّها لهم، وذلك بأربعة أيَّام قبل موته.
هذا، وللحديث بقيَّة تأتيكم إن شاء الله في الخطبة اللاحقة، وسبحانك اللهم وبحمدك...
(1/3629)
مناهج التعليم أم القرآن الكريم
الإيمان, العلم والدعوة والجهاد
القرآن والتفسير, الولاء والبراء
وجدي بن حمزة الغزاوي
مكة المكرمة
18/11/1422
المنشاوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عداء الكافرين وحقدهم. 2- نداء اليهود والنصارى بتغيير مناهج التعليم عند المسلمين. 3- إبعاد القرآن هو هدف أعداء الله. 4- قضية الولاء والبراء. 5- نظرة الكفار لآيات القتال والجهاد. 6- الحث على تربية النشء على القرآن. 7- من خطط أعداء الله فكرة الأديان السماوية. 8- فكرة عدم تصارع الحضارات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدى هدى نبينا محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: معاشر المؤمنين، فإن من الأصول التي ينبغي على المؤمن أن يعقلها وأن يعيش من خلال فهمها ـ لا سيما في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها أمتنا الإسلامية ـ هو ما قرره ربنا جل وعلا عن اليهود والنصارى وما أخبر به جل وعلا عن نفسياتهم وعقائدهم وقلوبهم، ومن ذلك ما أخبر به ربنا جل وعلا بقوله: قَدْ بَدَتِ ?لْبَغْضَاء مِنْ أَفْو?هِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَـ?تِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].
فبيَّن سبحانه ـ معاشر المؤمنين ـ بيَّن حقيقة ينبغي على المسلم أن يفهمها وهو يعيش في هذه الأيام وفي هذه الظروف العصيبة، قد بدت البغضاء والحقد من أفواههم، وذلك ما يسمعه المسلم ليل نهار في تصريحاتهم وتصريحات زعمائهم، يقول العليم الخبير اللطيف بالمؤمنين الخبير بعباده العليم بما في صدورهم: وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ ، ما تكنه قلوبهم من البغضاء ومن الحقد أعظم مما تلفظوا به.
والذي يعي هذه الحقيقة ـ معاشر المؤمنين ـ يدرك أن اليهود والنصارى هم أعداء هذه الملة، وهذا أمر بينه الله عز وجل، ولا خيار للمؤمن إلا أن يتعامل معه وفق ما أمره الله جل وعلا.
ومن تلك العبارات ـ معاشر المؤمنين ـ التي تدل على بغضاء وحقد وتدل على ما تكنه صدورهم وقلوبهم تجاه المسلمين ما ينادون به من تغيير مناهج التعليم، وقد فهم بعض السذج من المسلمين وأصحاب الأفهام القاصرة أن المراد بتغيير مناهج التعليم هو تغيير مقررات المدارس في المراحل الابتدائية والمتوسطة والثانوية، وهذا أمر جد بعيد ـ معاشر المؤمنين ـ لأسباب من أهمها أن الغرب يعلم أصلاً أنه لا توجد دولة إسلامية تدرس الشريعة في مدارسها باستثناء بلادنا؛ فكل الدول الإسلامية المواد الدينية والشرعية عندهم لا تقدم ولا تؤخر، فسواء نجح الطالب أم رسب فيها فإن دراستها لا تحصيل ولا حاصل، ناهيك عما في تلك المناهج أصلاً من انحراف وخلل وخطأ في المعتقد والمنهج.
فهم إذًا يعلمون أنّ واقع تلك المناهج لا يقدم ولا يؤخر، وهم يعلمون أيضًا ـ معاشر المؤمنين ـ أن الرجال الذين أحيا الله بهم سنة الجهاد لم يتخرجوا من المعاهد الشرعية ولا من الجامعات الإسلامية، وإنما تخرجوا من كليات الطب والهندسة وغيرها من العلوم التقنية، فهم إذًا يدركون أن المناهج التي يدرسها أبناؤنا لا تقدم ولا تؤخر.
إذًا ما الذي يريدونه ـ معاشر المؤمنين ـ بدعوى تغيير المناهج الإسلامية ومراجعتها؟ إنهم يريدون بالدرجة الأولى كتاب الله عز وجل. نعم معاشر المؤمنين، حينما يتحدثون عن المناهج فإنهم يريدون كتاب الله عز وجل؛ فالقرآن هو الذي يؤرقهم، وهو الذي ـ بزعمهم ـ يعلم المسلمين الحقد والكراهية، وهذا ما يصرحون به علانية على مرأى ومسمع من المسلمين، فيزعمون أن آيات الولاء والبراء تدرس المسلمين الكراهية والحقد على أصحاب الأديان الأخرى حتى ولو كانوا من أقاربهم ومن أعز قرابتهم، ويؤرقهم أن يجدوا في صفوف المجاهدين من أبناء جلدتهم من يحاربهم لأنه آمن بهذا الكتاب.
ومن هذه الآيات مثلاً التي تؤرقهم والتي يريدون حجبها إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا مثل قوله جل وعلا: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْو?نَكُمْ أَوْلِيَاء إِنِ ?سْتَحَبُّواْ ?لْكُفْرَ عَلَى ?لإِيمَـ?نِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لظَّـ?لِمُونَ [التوبة:23]. فهذه آية واضحة ينادي الله عز وجل بها المؤمنين بلفظ الإيمان وبصفة الإيمان: لاَ تَتَّخِذُواْ من؟ ءابَاءكُمْ وَإِخْو?نَكُمْ أعزّ قرابة للرجل ينبغي أن يتبرأ منها في حالة واحدة، إن استحبت الكفر والضلال على الإيمان بهذا الدين العظيم الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده أجمعين، فمثل هذه الآيات عندهم تدريس للكراهية وتدريس للحقد وتتصادم مع الحضارات، ولا يمكن للعالم أن يعيش في سلام وأمان ومثل هذه الآيات تتلى في المحاريب وتدرس من على المنابر.
ومثلها قوله جل وعلا: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ?لْحَقّ [الممتحنة:1]، ومثلها قوله جل وعلا: لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة:22] وغير ذلك من الآيات التي لا تكاد تخلو منها سورة من كتاب الله عز وجل.
فهذه الآيات وأمثالها عندهم تدرس الحقد والكراهية واللاتسامح، وتعلم المسلمين أن يحقدوا على أصحاب الديانات الأخرى؛ لذلك ـ معاشر المؤمنين ـ هم يحاربونها ويظنون أن القرآن مثل التوراة والإنجيل، عهد الله بحفظهما إلى أتباع موسى وعيسى، فخانوا العهد والرسالة واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً، فبدلوا وحرفوا، ولم يعلموا أن الله عز وجل قال وقوله الحق ووعد ومن أصدق من الله قيلاً: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، فهذا الكتاب تكفل الله عز وجل بحفظه وتعهد بحفظه من عبث العابثين ولعب اللاعبين.
وهذه الآيات وأمثالها ـ معاشر المؤمنين ـ لا تدرسنا ولا تعلمنا أن نحقد على الأشخاص، وإنما تعلمنا أن نبغض الكفر وأهله؛ لذلك قال جل وعلا في نفس الآية: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وَإِخْو?نَكُمْ أَوْلِيَاء في حالة واحدة إِنِ ?سْتَحَبُّواْ ?لْكُفْرَ عَلَى ?لإِيمَـ?نِ ، فنحن إنما نعادي ونلعن الكفرة والمشركين لما اقترفته أيديهم من الكفر بالله والشرك معه ما لم ينزل به سلطانًا، أما هم كأشخاص فبمجرد أن يؤمنوا فما أعظم حفاوة المسلمين بهم، وما أجل تلك المنزلة التي ننزلها إياهم بمجرد إيمانهم، وبمجرد دخولهم في دين إبراهيم الخليل ومن تبعه من الأنبياء والمرسلين.
ويقول جل وعلا في الآية الأخرى: لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ فهم أعداء الله؛ نسبوا إليه الولد، وقالوا: إِنَّ ?للَّهَ ثَـ?لِثُ ثَلَـ?ثَةٍ فإذًا عدواتنا لهم ليست عداوة شخصية، وإنما هي عداوة إيمانية نتقرب بها إلى الله عز وجل، ويثاب عليها العبد المؤمن؛ فالولاء والبراء من أصول هذا الدين معاشر المؤمنين.
ومن الآيات التي تقض مضاجع القوم والتي يقصدونها بعبارات تغيير المناهج ومراجعة سياسات التعليم، الآيات التي تحض على قتال الكافرين، وما أكثرها في كتاب الله عز وجل، بل هناك صور مخصصة تبيِّن أحكام القتال، وتبيِّن سيرة الركب الأول من السلف الصالح من أصحاب المصطفى في غزواتهم مع المشركين من أعداء الله عز وجل، فهم مثلا يرون آية مثل قوله جل وعلا: وَلاَ تَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ أَمْو?تًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، هذه الآية عندهم هي المحرك الأول لما يسمونه بالعمليات الانتحارية، فهم يقولون: إذا أردتم إيقاف هذه العمليات الانتحارية التي يذهب ضحيتها آلاف الأبرياء ـ كما يصفونهم ـ فعليكم بمثل هذه الآيات التي تبين أن الذي يقتل في سبيل الله إنما هو في الواقع يحيا الحياة الحقيقية التي يطمع فيها كل مؤمن، لذلك قال جل وعلا: فَرِحِينَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ [آل عمران:170]، فَرِحِينَ أي: هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله يفرحون بما آتاهم الله من فضله، وبيَّن النبي في أكثر من حديث أن الشهيد يتمنى لو يُحيا فيقتل ثم يُحيا ثم يقتل لما يرى من الكرامة عند الله عز وجل.
وما أكثر الآيات ـ معاشر المؤمنين ـ التي ترغب في الجنان، وترغب في الشهادة في سبيل الله، وتحذر من الركون إلى الدنيا ولذاتها وشهواتها، مثل هذه الآيات خطيرة جدًا عند القوم؛ لأنها تفعل في النفوس والقلوب ما لا يفعله إلا مثل هذه الآيات التي هي من لدن حكيم خبير، فتتحرك لها القلوب المؤمنة، وتنقاد لها النفوس المذعنة، فتمتثل أمر الله عز وجل وترفع راية الجهاد في أوجه أعداء الله عز وجل من اليهود والنصارى والمشركين.
إذًا معاشر المؤمنين، لا تظنوا أن النداء بتغيير المناهج والنداء بمراجعة سياسات التعليم إنما يقصد بها مناهج الفقه التي تدرس الوضوء والصلاة والطهارة والزكاة، أو المقصود بها مناهج التفسير أو الحديث؛ فهذه يعلمون أنها لا توجد إلا في هذه الديار، وهي لا تقدم عندهم ولا تؤخر، وإنما الذي يقلقهم والذي يثيرهم هو هذا الكتاب الذي يقرؤه المسلمون ليل نهار، ويستمعون فيه إلى الآيات التي تلعن اليهود والنصارى وتذمهم، وتأمر بقتالهم حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
فانتبهوا لهذا معاشر المؤمنين، وليدفعكم هذا الفهم إلى الاعتناء بكتاب الله عز وجل حفظًا وفهمًا وتدريسًا، أنشئوا أبناءكم على تعلم ما يغيظ أعداء الله عز وجل، أنشئوا أبناءكم على حفظ هذا الكتاب المبين الذي هو بعون الله وقوته حصن لهم حصين، ودافع لهم قوي على التمسك بدين الله عز وجل، وعلى تعلم الولاء والبراء، وعلى معرفة قدر الجهاد فهو ذروة سنام الإسلام، وعده بعض أهل العلم سادس أركان الإسلام.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله إمام المجاهدين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بفضلك ومنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ أن من خطط أعداء الله عز وجل التي ترمي في المدى البعيد إلى نسيان المسلمين لعقيدة الولاء والبراء ولإغفالهم لهذه الآيات التي تتلى ليل نهار والتي ينبغي على الأئمة أن يركزوا عليها في هذه الأيام، وأن يُسمعوها المؤمنين ليل نهار، فقد شرع الله عز وجل لنا ثلاث صلوات جهرية وأمر نبيه أن يقول: ((يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)) ، ذلك حتى يسمعهم كلام الله عز وجل، ويسمعهم هذه الآيات التي لا تزيد الكافرين إلا غيظًا وحسرة وكفرًا، وتهدي من صدق منهم إلى صراط العزيز الحميد.
أقول معاشر المؤمنين: من تلك الخطط اللئيمة التي يفعلونها بث بعض المبادئ الخاطئة، والتي بدأ يروِّج لها بعض المسلمين في كتاباتهم وتصريحاتهم، ومن ذلك ـ مثلاً ـ أننا جميعًا أصحاب أديان سماوية، ما أكثر ما تردد هذه العبارة، اليهود والنصارى والمسلمون أصحاب أديان سماوية، فينبغي أن يعيشوا كأسرة واحدة، وكذبوا والله؛ فإنه لا توجد أديان سماوية، إنما هو دين واحد، إِنَّ الدّينَ عِندَ ?للَّهِ ?لإِسْلَـ?مُ [آل عمران:19]، ما بعث الله نبيًا ولا رسولا إلا وهو يدعو للإسلام، وهذا إبراهيم يقول له ربه: إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [البقرة:131]، فليس هناك شيء اسمه أديان سماوية إنما هو دين واحد، ما نزل من السماء إلا الدعوة لتوحيد الله عز وجل وعبادته وحده جل وعلا، فهذا أولاً مصطلح فاسد خاطئ، ليس له درجة من الصحة، وأما إن أرادوا أن هناك أهل كتاب، نعم هناك أهل كتاب بيَّن الله عز وجل لنا كيف نعاملهم، وكيف نؤاكلهم، وكيف ننكح من نسائهم، فصل لنا كل شيء وبينه نبينا ، ولكن الذي يريدونه هو اندماج العقيدة ـ معاشر المؤمنين ـ وضياع الولاء والبراء، فيكون كما يقولون مثلا: "إخواننا العرب" ويريدون بإخوانهم العرب النصارى منهم واليهود والدروز والنصيريين، كذبوا والله ليسوا بإخوة لنا، إنما إخواننا المسلمون من الأفغان، والمسلمون من الفلبين، والمسلمون من كل مكان على وجه الأرض، إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، فاعلموا هذا معاشر المؤمنين؛ لأنها عبارات ـ مع الأسف ـ تنشر في وسائل إعلام المسلمين.
ومن ذلك دندنتهم حول عدم تصارع الحضارات، فسموا هذا الدين العظيم دين التوحيد ودين المعاملات والدين الذي من أجله خلقت السموات والأرض والجنة والنار، وانقسم الناس إلى فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير، سموه حضارة وجعلوها مثل الحضارة اليابانية والحضارة الأمريكية، ونادوا بعدم صراع الحضارات، ونحن نقول لهم: إن هذه مصطلحات واردة لا ميزان لها في شرعتنا، إنما الناس عندنا كما علمنا ربنا: مؤمن وكافر وبينهما منافق له أحكام المسلمين حتى يلقى رب العالمين.
ومن قرأ كتابنا لم يجد إلا ذكرًا للكافرين والمؤمنين، وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وما عدا ذلك فلا ذكر لهم، فاعلموا هذا معاشر المؤمنين، اعلموا أن الناس إنما هم مؤمنون أو كافرون، والمؤمنون درجات تجمعهم دائرة الإسلام ونقيضهم الكفر وأهله، فاعلموا هذا رحمكم الله، واعلموا أن أعظم ما يصاب به المرء إذا أصيب في معتقده وإذا أصيب في ثوابت الدين وأصوله، هذه أعظم مصيبة ورب الكعبة.
نسأل الله العظيم رب العرش العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يحفظ علينا ديننا، اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا...
(1/3630)
خطبة استسقاء 16/9/1423هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
16/9/1423
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الأمر بالاستغفار. 2- معنى الاستغفار. 3- إكثار السلف من التوبة والاستغفار. 4- حاجة العبد إلى الاستغفار. 5- فضائل الاستغفار وفوائده. 6- دعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ التقوى، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
عبادَ الله، قال الله تعالى: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
بيّنت الآيات أنّ الاستغفارَ مِن الذنب سببٌ لنزول الغيث والإمداد بالأموال والبنين ونباتِ الأشجار وتوفّر المياه، ذلك أنّ الذنوب والمعاصيَ إذا انتشرت في أمّة سبّبت الشقاءَ والهلاك والقحط والجَدب، ولهذا أمرَ الله الناسَ عبر الأجيال بواسطةِ أنبيائه أن يقلِعوا عن المعاصي ويطلبوا الغفرانَ من الله على ما اقترفوه حتى ينالوا رحمتَه ويجتنِبوا غضبَه.
فها هو نبيّ الله هود يعِظ قومَه بما ذكره القرآن: وَي?قَوْمِ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى? قُوَّتِكُمْ [هود:52].
يذكر القرآن كيفَ وعَظ النبيّ صالح قومه: لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ?للَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]، أي: هلاّ استغفرتم ربَّكم حتّى تنالوا رحمتَه.
الاستغفار ـ عبادَ الله ـ معناه طلبُ المغفرة من الله بمحوِ الذنوب وسترِ العيوب مع إقلاعٍ عن الذّنب وندم على فعلها، يقول الله تعالى: فَ?سْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ [هود:61]، أي أنّ الاستغفار وسيلة لاستجابة الدّعاء.
عن حاطب قال: سمعت رجلاً في السَّحر في ناحية المسجد وهو يقول: (يا ربّ، أمرتَني فأطعتُك، وهذا السّحر فاغفر لي)، فنظرتُ فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه [1]. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يصلّي من اللّيل ثم يقول: يا نافع، هل جاء السّحر؟ فإذا قال: نعم، أقبل على الدّعاء والاستغفار حتّى يصبح [2].
لذا كان سلفنا الصّالح مع ما هم عليه من علمٍ وعمَل وزهد وورَع كانوا قليلاً ما ينامون، وكانوا بالأسحار يستغفرون، مع ما كانوا عليه من خيرٍ كثير، كان الواحد منهم يقول: "استغفارُنا يحتاج إلى استغفار"، كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِ?لأَسْحَـ?رِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]. فيا عجبًا، يقضون الليلَ في عبادة وصلاة، ثم يأتي السّحر فيستغفرون، كأنّهم لا زالوا يشعرون بالتّقصير.
وأوجبُ ما يكون الاستغفار عند الوقوع في مهاوي المعاصي وأرجاسِ الذنوب، ومن ذا الذي يسلم من ذلك؟! وهنا يجِد المسلم في الاستغفار أداةً يتعلّق بها لتقيمَه من عثرتِه، ومغسلةً يتطهَّر بها من أدران الذّنوب، فقد ذكر تعالى من أوصاف المتّقين في كتابه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135].
المسلمُ ـ إخوةَ الإسلام ـ بحاجةٍ إلى الاستغفار، فهو لا يستغني عنه أبدًا، لا ليلاً ولا نهارًا، كما قال تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنّكم تخطئون باللّيل والنهار، وأنا أغفر الذنوبَ جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم)) أخرجه مسلم من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه [3].
الاستغفارُ ـ إخوةَ الإسلام ـ يدفع عن النفس الشعورَ بالكبر والزهوَّ بالنفس والعُجبَ بالأعمال، يورثها الإحساسَ بالتقصير، وهذا الإحساسُ بالتقصير يدفع المسلمَ للمزيد من العمل في طاعة الله، فتزداد حسناتُه ويثقل ميزانه.
وتدبّر أيضًا حكمةَ الاستغفار دُبُر كلّ صلاة كما علّمنا عليه الصلاة والسلام، حتى لا يُعجَب المسلم بصلاتِه وعبادته ويتألّى بها على الله كما تألّى بعض الأعرابِ على الله ومَنّوا على الرسول بإسلامهم، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـ?مَكُمْ بَلِ ?للَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـ?نِ إِنُ كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [الحجرات:17].
الاستغفار مع الإقلاع عن الذّنوب سببٌ للخَصب والنّماء وكثرة النّسل وزيادة العزّة والمنَعة، وفي دعوة نوحٍ قومَه ونصحِه لهم نسمَع الله عزّ وجلّ يقول: فَقُلْتُ ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ ?لسَّمَاء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْو?لٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـ?تٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
هذا شعَيب عليه السلام يرى قومَه على أسوَأ الأخلاقِ مع الشّرك والإلحاد، فيلحّ في نصحهم للإقلاع عمّا هم فيه من ضلال، ويبشّرهم بأنّ ربّهم رحيمٌ بعباده وَدود، يرضى عن عباده الصّالحين، يكفِّر عنهم ما مضى من سيّئاتهم إذا أخلصوا النيّة والتوجّه إليه، ولنتدبّر قولَ شعيب لقومِه: وَ?سْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90]. هذه خزائنُ رحمة الله بين يدَيك أيها المسلم، ومفاتيحها الاستغفار.
الاستغفارُ سببٌ لمغفرةِ الذّنوب وتكفير السيّئات، الاستغفار سبَب لتفريج الهُموم وجَلب الأرزاق والخروج من المضائق، الاستغفارُ سببٌ لتكفير السيّئات ورفعِ الدّرجات.
مِن فوائد الاستغفار أنّه سبب لصفاءِ القلبِ ونقائه، فالذّنوب تترك أثرًا سيّئًا وسوادًا على القلبِ كما ورد عن النبيّ أنّه قال: ((إنّ المؤمنَ إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبِه، فإن تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، فإن زاد زادت، فذلك الرّان الذي ذكره الله في كتابه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى? قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14] )) أخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [4].
عبادَ الله، أكثِروا من الصّلاة والسّلام على رسول الهدى محمّد بن عبد الله، فقد أمركم الله بذلك. اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وأصحابه وأزواجه.
ربّنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين.
اللهمّ أنت الله لا إلهَ إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، اللهمّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، اللهمّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من الآيسين، أنزل علينا الغيث ولا تهلِكنا بالسّنين.
اللهمّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغثنا، اللهمّ أغِثنا، اللهمّ أغثنا غيثًا مغيثًا مريئًا مجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارّ عاجلاً غيرَ آجل، اللهمّ تحيي به البلاد، وتغيث به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضر والباد. اللهمّ سقيا رحمة، لا سقيَا عذاب ولا بلاء ولا هدمٍ ولا غرق.
اللهمّ اسق عبادَك وبلادك، وأحي بلدَك الميت، اللهمّ اسق عبادَك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك على العباد، وأحي بلدَك الميّت.
اللهمّ أنزل علينا الغيثَ يا ربّ العالمين، واجعل ما أنزلته علينا قوّة لنا وبلاغًا إلى حين.
اللهمّ إنّا خلق من خلقك، فلا تمنع عنّا بذنوبنا فضلَك، اللهم إنّا خلق من خلقك، فلا تمنَع عنّا بذنوبنا فضلك. اللهمّ ارحم الأطفالَ الرُّضَّع والشّيوخ الركَّع والبهائم الرُّتَّع، وارحم الخلائق أجمعين يا أرحمَ الراحمين، يا ربّ العالمين.
اللهمّ إنّا نستغفرك إنّك كنت غفّارًا، اللهم إنّا نستغفرك إنّك كنت غفارا، اللهمّ إنا نستغفرك إنّك كنت غفّارًا، فأرسل السماءَ علينا مدرارًا، برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
ربّنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين. ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربَّنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربَّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا، يا أرحم الراحمين.
اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادنا، واجعل الحياةَ زيادة لنا في كلّ خير، والموتَ راحةً لنا من كلّ شرّ يا ربّ العالمين.
اللهمّ ادفع عنّا الغلا والوبا والرِّبا والزِّنا والزلازلَ والمِحن وسوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصّة وعن سائر بلاد المسلمين عامّة يا ربَّ العالمين.
اللهمّ وفّق إمامَنا لما تحبّ وترضى، اللهمّ وفّقه لهُداك واجعل عملَه في رضاك يا ربَّ العالمين.
ربّنا آتنا في الدّنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عبادَ الله، اقلبوا أرديتَكم تأسِّيا بنبيّنا ونبيّكم محمّد [5]. اتّجهوا إلى الله بالدّعاء، وألحّوا في المسألة، ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (3/208).
[2] رواه ابن أبي حاتم في تفسيره كما في تفسير ابن كثير (1/354).
[3] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة (2577).
[4] سنن ابن ماجه: كتاب الزهد (4244)، وأخرجه أيضا أحمد (2/297)، والترمذي في التفسير (3334) وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (930، 2787)، والحاكم (6، 3908)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب (2469، 3422).
[5] سنة قلب الرداء أخرجها البخاري في الجمعة (1011)، ومسلم في الاستسقاء (894) من حديث عبد الله بن زيد رضي الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3631)
السونامي جحيم شرق جنوب آسيا
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
إبراهيم بن صالح السويد
رنيه
19/11/1425
الجامع الكبير
_________
ملخص الخطبة
_________
1- كارثة السونامي. 2- وصف هول الزلزال والفيضان. 3- دعوة للتوبة والرجوع إلى الله تعالى. 4- تجلي عظمة الله تعالى. 5- سنة الله تعالى في هذه الزلازل والكوارث. 6- إهلاك الله تعالى للأمم السابقة. 7- حال الأمة الإسلامية اليوم. 8- استنكار تفجيرات الرياض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا من بتقواه تهتدوا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، واخشوا من بخشيته تربحوا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [لقمان:23].
أيها المسلمون، "السونامي" وما أدراك ما "السونامي" إنه الحدث الجلل الأمر الباهر العجيب الذي أهلك الحرث والنسل، جرف البشر والشجر والحجر.
سلوا المحيط الهندي ماذا دهاه؟! لقد زمجر وأرعد، قذف بأمواجه فأهلك ما عُدَّ في هذا اليوم بمائة وخمسة وعشرين ألفًا، والمصابون كُثر لا يعلمهم إلا الله، وكل يوم يزيد قتلاه. إنها أمواج كالجبال، لم يكن هناك أحد عنها بمعزل، لقد آوى قوم وتسلقوا إلى الأشجار وآخرون صعدوا المنازل، لكنه هيهات لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. ولقد حال الموج بين الزوج وزوجته والأب وأولاده فكانوا من المهلكين. الله أكبر، ما أهون الخلق على الله إن هم عصوه.
يا قوم، سلوا أندونيسيا، بل سلوا تايلند وجزر المالديف وسيريلنكا والهند وغيرها، سلوا شواطئ هذه الدول عمن كانوا عليها يقترفون المهلكات، يجيبونكم: إنهم في بطن البحر، فلا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.
جثث ملقاة في الشوارع، وموتى في المنازل، والبحر قد التهم بشرًا كُثرا وأسرًا لا يحصون، ولا زال البحر بين مدٍ وجزرٍ، والزلازل أمرها عظيم ولم يرَ البشر منذ قرن قوة للزلازل مثل هذه.
ويا سبحان الله، زلزال وفيضان في آن، وفيها قال أمين الأمم المتحدة: إنها كارثة لم يشهد الكون لها مثيلاً.
ماذا فعلوا؟ وماذا جنوا؟ خبروني أيها البشر. إن الله لم يهلك أمة إلا بعد عصيانها، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
واسمعوا ـ يا مسلمون ـ وعوا: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99]، أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [الملك:16-18].
أمتي، لقد رأيت بأم عيني كما رأيتم هلاك هذه الأمم ونزوح ملايين البشر إلى حيث الأمان، ولم يعلم أولئك إلا وعقاب الله قد ألمَّ بهم، فلم يستطيعوا عند ذلك مهربًا، فلا منجى ولا ملجأ منه إلا إليه، ولقد وقع نظري على مأساة تاريخية وعقوبة جماعية وعذاب أليم، إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ [الرعد:6].
وحينما رأيت رجلاً كبيرًا في السن قد جاوز السبعين جالسًا يبكي زوجه العجوز والأمهات اللواتي يحملن أطفالهن ويسابقن الريح هربًا من الموت عليهم وعلى فلذات أكبادهم والتقرير الذي ذكر عددًا كبيرًا من النساء اللواتي أسقطن حملهن من شدة الهول تذكرت حينها قول الله تعالى في وصف يوم القيامة: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2].
أيها المسلمون، ليس بيننا وبين الله نسب، فهل أنتم عائدون؟! وهل أنتم تائبون توبة نصوحا؟! وإلا فإن الله له جنود السماوات والأرض، فمِن جنوده سبحانه الزلازل والرياح والفيضانات والبراكين وانتشار الأوبئة وقلة الثمرات وذهاب المال والبركات وغيرها.
ومما أدهش الصحفيين والإعلاميين ما التقطته عدسات التصوير من هلاك لقرى بكاملها وانجراف المساكن وتهدم المنازل، سوى أنه بقي مسجد لله شامخ لم ينله بأس، فيا سبحانك، بل لم ير أيّ حيوان قتل في هذا الطوفان مما يدل على أنه عقوبة شديدة، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [يونس:44]، وفي تلك البلاد المنكوبة من المسلمين وغيرهم ممن نرجو لمسلميهم الرحمة ولعاصيهم المغفرة ولغير مسلمهم الهداية إلى دين الإسلام، إنه مولانا فنعم المولى ونعم النصير.
ولقد جاء في الحديث الصحيح من حديث أبي موسى الأشعري: ((أمتي أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل)) رواه الإمام أبو داود وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وفي حديث آخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء: إذا اتخذت الفيء دولا والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا وتعلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وعق أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف وشربت الخمور ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحًا وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع)) رواه الإمام الترمذي في سننه (2307).
لقد ذكر الخبراء أن قاع البحر قد تصدع وامتد لمسافة ألف كيلو متر وعلى طول التصدع ارتفع قاع البحر رأسيًا بمقدار عشرة أمتار ثم اندفعت هذه الأمواج عبر المحيط الهندي بسرعة كبيرة، فالله أكبر الله أكبر وسبحانك فلا تعاجلنا بما أسأنا، ولقد وصل مد هذه الأمواج إلى الخليج العربي وألقى برحاله على شواطئ دولة عُمان وتأثرت به الصومال، وإنه لنذير بين يدي بأس شديد، فاللهم سلم سلم.
أيها المسلمون، اعتبروا واعلموا أنه لا يختلف اثنان بأن زلزال آسيا والمسمى بالسونامي مهول بكل المقاييس، ولقد تجلت قدرة الله ذي الجبروت، ولمن أسرف على نفسه بالمعاصي والذنوب فإن عليه النظر في عواقب هذا العذاب الأليم، وليسارع العباد إلى الله، وليجأروا إليه فهو يفرح بتوبة العبد، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، فلا مفر إلا إلى الله، فهل استطاع أحد من البشر أن يدفع هذه الكوارث رغم وجود التطور في التقنيات الحديثة؟! وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21]، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
فاستغفروا ربكم قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم، وتفكروا ما بتلك الدول من محنة لعلكم تذكرون، إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الرعد:19].
أيها المسلمون، إن السنن الكونية لا تتغير ولا تتبدل، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر:43]، وإن لهلاك الأمم وخراب الدول وشقاء المجتمع أسبابا، وإذا وجدت هذه الأسباب في أي أمة حلت عليها العقوبة الربانية، وإن المتأمل في عقاب الله تعالى يجده كما ذكرنا آنفًا أنواعًا وألوانًا، فإما صاعقة وإما زلازل وغرق أو فيضان أو ريح أو خسف أو مسخ أو مجاعة أو ارتفاع في الأسعار أو ظلم أو جور أو مرض أو فتن وسواها كثير.
وفي القرآن: فَأَخَذَتْهُمْ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنظُرُونَ [الذاريات:44]، وفي آية أخرى: فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ [الأعراف:136]، ويقول سبحانه في أمر الفيضان والطوفان: فَأَخَذَهُمْ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [العنكبوت:14]، ويقول جل وعلا: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ [القصص:59]، ويقول سبحانه: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]. وآيات كثر فيها وصف لعذاب الله تعالى وتلك الآيات في عذاب الدنيا، أما في الآخرة فإن الأمر أشد وأقسى: وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127].
وإنه لتأخذني قشعريرة لا أكاد أستطيع الوقوف عندما أتأمل حديثًا جاء عن المصطفى من حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها إذ دخل عليها وهو فزع يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلق بأصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفيها الصالحون؟! قال: ((نعم إذا كثر الخبث)) رواه الإمامان البخاري ومسلم يرحمهما الله.
وا أمتاه، وا أمتاه، إذا كثر فيها الخبث، إنه وعد وسنة لن تتخلف لأنه قد أخبر عنها من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام.
وتأملوا وانظروا إلى أحوال مجتمعاتنا فهل كثر الخبث فيها أم لا؟! إن المعاصي قد كثرت بشكل ينذر بخطر في ظل غياب شعيرة الحسبة، ولن يزيل هذا الخبث إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأطر على يد السفيه.
فاتق الله أيها المسلم، وانظر أيّ مدى بذلته في تغيير الخبث في البيت والشارع، وإياك أن تكون سببًا في شقاء أمتك بإغضائك عما حرم الله ولن يكفي هز الرأس والحوقلة، بل لا بد من التغيير، ولن تغرق السفينة إذا اهتدينا.
إن انتشار المعاصي والأخلاق الفاسدة والمظاهر الخليعة والانحراف في السلوك وانتشار الربا وفشوّ الزنا، بل إن أمر الزنا والعياذ بالله أصبح أمرًا عاديًا عند بعض الفسّاق وكأن شيئًا لم يحدث، لقد تفكّكت العفة والصيانة للمحارِم في بعض البيوتات، وكثرت الفتن مما ينذر بخراب ودمار.
فحالنا بحقّ تستحق الرّثاء، وصار المجتمع الإسلامي يعيش في جاهلية شوهاء، فلا حولاه. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
وإن من الناس من توغل في الشهوات وانهمك فيها وصار بطنه وفرجه غاية ما يهتم به ولم يدر المسكين أن الله أهلك من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون. ولكنني أبشر مع هذا بأن هذه الأمة المباركة لا زالت ولودا، وفيها مظاهر العفة والستر والصلاح ما يحفظ الله به هذه الأمة، ولقد انتشر العلم والدعوة بفضل الله وكثر المستقيمون من رجال ونساء، ولقد حرصت الدولة سددها الله على تعليم الكتاب والسنة ونشر الدعوة وتحكيم الشرع مما يبعث الأمل في نفوس الغيارى ومعه يمجدون الله ويحمدونه حمدًا كثيرًا، فلك الحمد ربي على ذلك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [الطلاق:7، 8].
بارك ربي لي ولكم بقرآنه المجيد، واستغفروه إنه لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى.
_________
الخطبة الثانية
_________
إن الحمد لمن يستعاذ به من المعتدين، والصلاة والسلام على إمام المهتدين، وعلى آله وصحبه الغر الميامين.
أما بعد: فماذا عسى أن يخطّه البنان من وصف حدَث أليم الشّأن، ألقى بشره على عاصمة بلاد التوحيد الرّياض النضرة من تفجيريين بائسين، خطّط له شياطين الأنس ممن قل في دين الله فهمهم، أوّلها على قرب وزارة الداخلية مما أحدث تهشّمًا في زجاج الوزارة، وقد روع سكان الأحياء المجاورة وسبّب أضرارًا وإهلاكًا، والآخر في مقر تدريب قوات الطوارئ في شرق الرياض، وقد استهدف رجال الأمن الميامين، وذلك في يوم الأربعاء مساء الموافق 17/11/1425هـ وقى الله بلادنا شرّ البائسين، ووفق ولاة الأمر إلى مرضاته وسددهم وثبتهم وجاد عليهم من فواتح فضله.
وإنه ليؤسف حقًا ويحزن شديدًا ما نسمعه من أحداث تهزّ النفوس ويرتجف لها الفؤاد فزعًا، ولقد ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، ولقد اعتدوا وأفسدا وبغوا في الأرض، فلعمري متى يرعوون؟!
وإنها لأحداث يذهل لها ربّان البلاد وقيّمو الفكر وحرّاس العقيدة من أصحاب فكر أثيم نما وترعرع وانتشر بشكل ينذر بخطر داهم، ولكن حينما يستعان بالله ذي الملك والجبروت ليندثرن في أسفل سافلين.
أيها المسلمون، وإن المتأمل في بأساء الأمة وأدوائها يرى فئة ذات فكر سمج وروح صفيقة لا رأي لها، ذات نزوات خاسرة تحاول الاستشراف وقيادة الأمة إلى حيث يفكرون له ويخططون، وأنتج هذا استرخاص الأنفس والأموال، فقتلوا أبرياء، ويتّم أطفال صغار، ورملت ذوات الخدور، وأجلب فكرهم خراب الديار وحلول الشنار والإساءة إلى الدين القويم، فأين هم من كتاب الله؟! وأين هم من سنة رسوله؟!
فإن كانوا أرادوا إخراج المشركين من جزيرة العرب إظهارًا لعزة المسلمين فلقد ساقوا آمال الأمة ورجالاتها إلى ذل يفرضه عدو لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة.
إنه لعمى أطم وغشاوة رانا على البصيرة، وقلة علم وفقه لقواعد الشريعة، أذهلتهم شعارات مزيفة، وإنهم لمن الأخسرين أعمالاً.
أمة الإسلام، إن الأمة تسطر ألمها وتكتب جراحها بدمائها، وتنادي: فلتعقلوا، فلتعقلوا.. وإن عشية الفاجعة الأليمة لم يهنأ فيها مسلم رضي بالله ربًا وبالإسلام دينا وبمحمدٍ نبيًا ورسولاً مما جرى وحدث.
فالله نسأل أن يكفينا شر من اعتدى من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا وأن لا نغتال من تحتنا.
عباد الله، صلوا وسلموا على سيد البشر وعلى آله وصحبه...
(1/3632)
اليوم الأول من رمضان
فقه
الصوم
إبراهيم بن صالح الدحيم
المذنب
1/9/1422
جامع ابن خريص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- رمضان فرصة للتوبة والاستزادة من العمل الصالح. 2- في صيام رمضان تربية للنفوس على الرحمة وتقوية للإرادة فيها. 3- رمضان فرصة للدعوة إلى الله تعالى. 4- حال السلف الصالح في رمضان مقارنة بحالنا.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما أجمل نسيم هذا اليوم، وما أروع شذاه، فحين انشق هذا الفجر عن ميلاد هذا الشهر ازدانت الدنيا وأشرقت أنوارها وهبت رياح الإيمان تنساب بين أرجائها.
روى الإمام أحمد والنسائي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تُفْتَح فيه أبواب السماء، وتُغْلَق فيه أبواب الجحيم، تُغَلُّ فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِم خيرها فقد حرم)).
مرحبًا بك يا رمضان، حبيبًا جئت على فاقة، جئت بعد عام كامل، مات فيه قوم ووُلِدَ آخرون، واغتنى قوم وافتقر آخرون، وسَعِدَ قوم وشقي آخرون، واهتدى قوم وضلَّ آخرون. جئتنا بعد عام كامل وكأَنّ في ردائك كتابًا تقول فيه لكل مسلم: إذا أنت أدركتني هذه السنة فقد لا تُتِمّني، وإن أتممتني فقد لا تلقاني بعد عامي هذا، فالبِداَر البِدارَ قبل فَوَات الفُرَص وذهاب الأعمار.
رمضان أقبل قم بنا يا صاح هذا أوان تبتّل وصلاح
الكون مِعطار بطيب قدومه روح ريحان ونفح أقاحي
صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها فالصفو ليس على المدى بمُتاح
واغنم ثواب صيامه وقيامه تسعد بخيرٍ دائم وفلاح
روى الطبراني في الكبير بسند حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي قال: ((افعلوا الخير دهرَكم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده)) حسنه الألباني.
وها هي رياح الإيمان قد هبَّت، ومواسم الخير قد أقبلت فاغتنمها.
أيها المسلمون، رمضان فرص وحظوات، صيام وصلوات، جهاد ودعوات، ذكر وصدقات، رمضان فرص لا تعوض وأوقات لا تهدر، فهل من مدّكر؟!
رمضان فرصة للتوبة، فالله قد فتح أبوابه، وأجزل ثوابه، ((يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها)) رواه مسلم. يفرح بتوبة عبده وليس أحدٌ أشدَّ فرحًا من الله بها، ((لله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلَتَت منه وعليها طعامُه وشرابه، فأيِسَ منها فأتى شجرة فاضطجع في ظلها قد أيِسَ من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخِطامِها ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح)) رواه مسلم. وإذا فرح الله بك يوم تتوب فأيّ خير ستلقاه؟! وأي شر ستوقاه؟!
أيها العاصي المُفَرِّط وكلنا ذلك الرجل، يا من نسي أبواب المساجد، وعكف على الملاهي، واقترف المناهي، أما آن لك أن تنتهي؟! أما ملّت نفسك هذا الطريق؟!
مَنْ لم يتبْ ويرقَّ قلبُه في رمضان فمتى يتوب؟! مَرَدَةُ الشياطين قد صُفِّدت، والشر قد اجتمع على نفسه فهو لا يطيق انتشارًا، وسحائب الإيمان أطلت وأظلت، وبيوت المسلمين قد لهجت بالدعاء وصلَّت.
والحُر من حذر الهوان يزايل الأمر الجسيما
والعاجز المأفون أبعدُ ما يكون إذا أقيما؟!
ما أحسن حال من التجأ إلى رب الأرباب، وما أطيب مآل من انتمى إلى كل صالح أواب، ما ألذَّ حديث التائبين، وما أنفع بكاء المحزونين، وما أعذب مناجاة القائمين، وما أمرَّ عيش المحجوبين، وأعظم حسرة الغافلين، وأشنع عيش المطرودين.
رمضان فرصة لتربية الرحمة في النفوس، حتى تعيش الجسد الواحد الذي يؤلم بعضَه ألمُ بعض، إنه من سنن الحياة أن الرحمة تظهر عند الإحساس بالألم، وأن الطغيان ينشأ عند الغفلة مع الأمن والغنى، كَلاَّ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَيَطْغَى? أَن رَّءاهُ ?سْتَغْنَى? [العلق:6، 7]، وهذا بعض السر الاجتماعي في الصوم، إذ يبالغ المسلم أشد المبالغة ويدقق كل التدقيق في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدةً آخرها آخر الطاقة، وهي طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريق غيرها إلا النكبات والكوارث التي تحل بالناس، "الصوم حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة، ويحض على الصدقة، ويسن خِلال البر، حتى إذا جاع من أَلف الشبع وعرف المترف أسباب المتع عرف الحرمان كيف يقع، وألم الجوع إذا لذع".
اسأل نفسك: كيف سيكون صيام المشردين؟! وهل سيصومون أم سيفطرون؟! وعلى أي شيء سيفطرون؟! وفي الحديث: ((لا تُنزع الرحمة إلا من شقي)) رواه أبو داود وصححه الألباني.
رمضان فرصة لتربية النفوس وتقوية الإرادة فيها والارتفاع بها إلى سماء المجد ودرجات العز والروح.
إن رؤية هلال الصيام في السماء لهو إشارة بالغة لبدء معركة الإرادة وجولة العزيمة، فالصوم يدرب المسلم على أن يمتنع باختياره عن شهواته وملذاته، في إرادة قوية ثابتة، لا يَضِيرُها كيد الشيطان، ولا تعدو عليها عوادي الشهوة، فانظر أي قانون من القوانين يحقق ذلك؟! وأي أمة من الأمم تجد ثلاثين يومًا من كل سنة قد فُرضت فرضًا لتربية إرادة شعبها ومزاولة فكرة نفسية واحدة؟!
ألا ما أعظم الإسلام، وما أروع الصيام، لو قيل لبعض الناس: دعوا عنكم الدخان لاستصعبوه وأحسوا العنت بفقده، فما بالهم اليوم دون أي نداء ودون إلحاح قد تركوه.
إن هذه الإرادة وهذه التربية الرمضانية يجب أن لا تذهب أدراج الرياح، بل الواجب أن ترسخ في النفوس، وأن تكون جزءًا لا يتجزأ من كيانها، حتى إذا انتهى الشهر وودَّع بقيت آثار هذه الإرادة وهذه التربية في النفوس، فلا يكون ذهابها إلا حين تروح الروح، وَ?عْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى? يَأْتِيَكَ ?لْيَقِينُ [الحجر:99].
رمضان فرصة للدعوة إلى الله وتذكير الغافلين وإرشاد التائهين، فلئن كان الناس يجتهدون في إفطار الصائم ليتحصلوا على مثل أجر صيامه، فإن من يهتدي بسببه إنسان له مثل أجر صيامه وصلاته وحجه وزكاته، وكل عمل صالح يعمله، ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا يَنقُص من أجورهم شيئًا)) رواه مسلم. فرمضان فرصة ذهبية للدعوة، فالنفوس فيه قد مالت إلى الخير، وخفّ ضغط الشيطان عليها، والواقع يشهد بذلك. فاعرضْ بضاعتك أيها الداعية، ولا يكن أهل الدنيا أكثر منك جدًا وأعظم سعيًا.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله وفَّق مَنْ شاء لطاعته، ويضلّ سبحانه من يشاء فهو مشغول بمعصيته، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
إن مما يشحذ الهمم ويقوِّي العزائم ويبعث على الجدِّ في العمل النظر في حال السابقين وخبر الصالحين، ثم الاقتداء بهم والسير على طريقتهم واستقبال رمضان بالجد والنشاط.
ذكر الأصفهاني قال: قال عبد العزيز بن مروان: كان المسلمون يقولون عند حضور شهر رمضان: "اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر، فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا منه الجد والاجتهاد والقوة والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن".
ابتاع قوم من السلف جارية، فلما قرب شهر رمضان رأتهم يتأهبون له ويستعدون بالأطعمة وغيرها، فسألتهم عن ذلك فقالوا: نتهيأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلا رمضان؟! لقد كنت عند قوم كل زمانهم رمضان، رُدوني إليهم.
لقد كان رمضان الذي يجيء إلى السلف رمضانًا حقيقيًا، وما أدري أمات وجاء غيره، أم شاخ وعجز أن يطوف في جميع البلاد فاكتفى ببعضها وببعض البيوتات دون بعض.
إن من الناس من يدخل عليه رمضان ويخرج دون أن يشعر به أو يحس له بأثر، فتضيع عليه أوقاته فيما لا ينفع، وقد قال السلف: "من علامة المقت إضاعة الوقت".
بل إن منهم من يزداد غِيّه ويعظم شرُّه في هذا الشهر، فلا يحرم نفسه الأجر فقط بل يرصدُ فيه مزيدًا من الوزر.
يا ساهيًا لاهيًا عما يراد به آن الرحيل وما قدمت من زاد
ترجو البقاء صحيحًا سلمًا أبدًا هيهات إن غدًا فيمن غدا غاد
قُلْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ [الزمر:15].
(1/3633)
عيد الفطر 1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الكبائر والمعاصي
أمين بن نور الدين بتقة
بوزريعة
1/10/1425
عثمان بن عفان
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اجتماع العيد. 2- تربص رمضان. 3- الاستمرار على الطاعة. 4- زمن الفتن. 5- فتن الجنس والمال والجاه والردة. 6- عداء العلمانيين للإسلام. 7- خطر التنصير. 8- طرق مواجة التنصير. 9- تذكر مسلمي العراق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الناس، أحمد الله لي ولكم حمدا كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، اجتمعنا متفاضلين متفاوتين كثيرا أو قليلا، انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21]
العيد ـ يا عباد الله ـ اجتماع يسأل المؤمنون فيه ربهم القبول، الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، فاللهم يا رحمان يا رحيم تقبل منا، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:127].
أيها المؤمنون، خرجنا من تربّص رمضان، والتربّص إنما يراد لما بعده، فلئن انقضى شهر الصبر فإن عمل المؤمن لا ينقضي حتى ينتهي العمر، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، فلا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. أيعقل أن تتعب في النسيج حتى يشتدّ ثم تنكثه وتحلّه، ما استفادت إلاّ تعبا ونصبا وحماقة ولعبا؟! أيعقل أن تتعبوا في حفظ الجوارح والمحافظة على العبادات والصلوات ثم بعد أن يثبت لكم بناء التقوى تهدمونه؟! أيعقل أن ينجيك الله من النار وأنت ترمي بنفسك فيها؟! أويعقل أن يرقيك في هذا الشهر في مراتب الإحسان وتأبى بعد رمضان إلاّ العصيان؟! بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ [الحجرات:11].
اثبتوا على هذا الدين يا عباد الله، فإنّ الطريق إلى الجنة طويل، والعبرة بالنهاية، إنما الأعمال بالخواتيم، وكان من دعائه : ((يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك)).
نحن في زمن نعايش فيه حديث المصطفى : ((تكون بين يدي الساعة فتن كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أقوام دينهم بعرض الدنيا)). نعم، فتن مظلمة نعيش زمنها، فكيف إذا زاد على ذلك تحالف الأعداء الثلاثة: النفس الأمارة بالسوء، وشيطان الجن الذي أقسم على إغوائك، وشياطين الإنس الذين قال الله فيهم: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89]. إنها فتن وشهوات، عقبات في طريق الجنّة، فالصبر الصبر على الدين يا عباد الله، ((صبرا آل ياسر، فإنّ موعدكم الجنة)) ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا [فصلت:35].
صبرا أمام الشهوات، وما أكثرها في هذا الزمان، شهوة الجنس التي أسقِطت بها دول وزلزِلت بها عروش، ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)). فصبرا يا شباب، إنكم في زمن ثورة الشهوات، هواتف خلوية وقنوات رقمية وشبكات معلوماتية. صبرا يا شباب، إن هي إلاّ لحظات وتردون الجنة، بل هي جنات. صبرا يا شباب، فأنتم في جهاد، فالمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله.
أذكر هذا للشباب، أما الشيوخ فقد وعظهم النبي بقوله: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان)).
ومن الشهوات شهوة المال والسلطة والكسب، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، ((إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)). فتنة قد تقود إلى الردة عياذا بالله، ألم نشاهد بعض المسلمين يعينون الكفار ضد إخوانهم ويتحالفون مع الصليبيين ضدّ بني جلدتهم؟! مع أنّ الله تعالى قال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].سئل فقيه المغرب أبو الحسن التسولي كما في أجوبة التسولي عن أسئلة عبد القادر الجزائري عن بعض الأهالي الذين كانوا يخبرون الفرنسيين بأخبار الجزائريين وربما قاتلوا أهل الإسلام مع النصارى فأجاب: "ما وصف به القوم المذكورون يوجب قتالهم إلى الكفار الذين يتولونهم". فانظر كيف أدّت شهوة المال والسلطان إلى الردّة عياذا بالله.
ومن الفتن فتنة الشهوة الغضبية التي قد يرتد صاحبها، وأخصّ بالذكر سبّ الدين، تلك المصيبة العظمى والبلية الكفرية الكبرى التي أجمع العلماء على ردّة صاحبها.
ومن الفتن فتنة شهوة الراحة والخمول وإدمان الكسل، وقد تقود أيضا إلى الردة عياذا بالله كترك الصلاة تكاسلا، فإنّ العلماء متفقون على أنّ تارك الصلاة ولو تكاسلا حدّه القتل، لكنهم اختلفوا هل يقتل بتركه صلاة واحدة أم خمس صلوات أم ثلاثة أيام، ذلك أن النبي قال: ((بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)).
فتن كقطع الليل المظلم يرتدّ صاحبها، ومنها فتنة الشبهات حتى تؤدي إلى كراهية ما أنزل الله، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:9].
أقول هذا في زمن دعاة التغريب والعلمانيين الذين يقولون: لماذا للذكر مثل حظّ الأنثيين؟! لماذا الولي في الزواج؟! لماذا قطع يد السارق ورجم الزاني؟! لم الصلاة؟! فليعلم أولئك أن الجزائر بلد عربي مسلم، والإسلام دين الدولة، وهذا البلد حرّرته صيحات الله أكبر في جهاد ثورة نوفمبر 54م المباركة التي هي أمانة في رقابنا يا عباد الله. ونقول: إن الشعب الجزائري مسلم، يكفي أن نسمعه حديث النبي : ((لا نكاح إلاّ بولي وشاهدي عدل)) ، حتى يسلّم لأمر الله ورسوله، لا عقدة له تجاه نصوص الوحي، ويعلم من أين يتلقّى دينه.
أقول هذا ـ يا عباد الله ـ ونحن نعيش فتنة الردّة المبرمجة، يقودها دعاة التنصير، مبرمجة فقد قرأتم تقرير وزارة الخارجية لإحدى الدول الكافرة وقد سجّلت ارتياحا للحريّة الدينية في الجزائر، يقصدون حريّة الردّة. لا أنشر لكم سرّا إذا قلت لكم: إنّ مسؤولا ساميا في بلاد القبائل يخبر أنّ سفارة إحدى الدول الكافرة دعت الجمعيّات التنصيريّة إلى احتواء الحضانات في بلاد القبائل، وضمنت لهم دعمها المالي التامّ، وهم يسعون إلى أن يصل عدد النصارى في البلد إلى 20000 ليطبّق عليهم قانون الأقليّات، وهم يعملون في هذا الإطار بأمور منها:
1- نشر الإنجيل المحرّف، وأذكر قصّة المعلم الذي رأى كتابا من الإنجيل المحرّف قد سقط من محفظة أحد الطلبة، فسأل التلاميذ عمن يملك مثله، فأجابه الكل أنّ له نسخة منه.
2- المدارس الخاصّة التي زاد عددها على ألفي مدرسة خاصة لا تدرّس لا العربية ولا العلوم الدينية.
3- توزيع الإنجيل في البواخر الوافدة من فرنسا.
4- نشر القنوات الفضائية الداعية للتنصير باللغة القبائليّة.
فالحذر الحذر عباد الله، في سنة 1906م لم يكن هنالك نصراني واحد في السودان، وهم اليوم يطالبون بالاستقلال، فإن وحدة التراب الوطني مهدّدة اليوم، فإن أعداء الوطن في الداخل والخارج ينفقون أموالا ضخمة في ذلك، فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ [الأنفال:36].
فما الحل؟ تقولون: الحل في العمل للدين، وهو مسؤولية الجميع، ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيّته)). تعلموا دين الله، وربوا أهاليكم على ذلك.
الدعوة إلى الدين مسؤولية الجميع، ((بلّغوا عنّي ولو آية)) ، ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل:125].
أبناءكم أبناءكم يا عباد الله، اختاروا لهم أمهاتهم، ((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) ، تخيّروا لنطفكم، اختاروا لأبنائكم أخوالهم، لا تتزوجوا إلاّ المتديّنات المؤمنات المحتشمات الحييات.
أبناءكم أبناءكم يا عباد الله، والله إن لم يحتضنهم المسجد لتحتضننّهم دور الفساد، إما المسجد وإمّا الضياع.
إنه زمن الفتن، يمسي الرجل مؤمنا ويصبح كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا.
أبناءكم أبناءكم يا عباد الله، ((فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصّرانه)).
وفي الأخير وصية للمرأة، أنت نصف المجتمع، وتلدين لنا النصف الثاني، فصرت المجتمع كلّه.
الله الله في دينك وحيائك، الله الله في أبنائك، انصحي ومري ووجهي، ولا تخفي عن الأب عيوب الأبناء.
تذكّروا ـ أيها الآباء والأمّهات ـ أن الأبناء أمانة، وعلى الصراط يوم القيامة تنصب الأمانة والرحم.
وفي الختام، نذكر في هذا اليوم إخوانا لنا بأي نفس وتحت أي سماء استقبلوا العيد، سمح فيهم القريب والبعيد، كل عام يأتي العيد وتنتهب من وطننا الإسلامي قطعة، فبعد فلسطين والأفغان والشيشان جاء دور العراق الحبيب والسودان الشقيق، فلئن لم نستطع إعانتهم بذواتنا وأموالنا فلا أقلّ من سلاح المقاطعة الاقتصادية والدعاء، فهل تنصرون إلاّ بضعفائك؛ بدعائهم وإخلاصهم؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/3634)
وفاة النبيَّ صلى الله عليه وسلم (2)
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- آخر عهد النبي بأصحابه. 2- لحظات احتضاره. 3- اضطراب الصحابة عند وفاة النبي. 4- موقف أبي بكر وعمر عند وفاة النبي. 5- حال الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاة النبي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها الناس، لمَّا قضى رسول الله خطبته ودخل بيته تزايد به الألم واشتدَّ به الوجع، حتَّى قالت عائشة: ما رأيت الوجع على أحد أشدَّ منه على رسول الله ، وكان يقول: ((إنِّي لأوعك كما يوعك الرجلان منكم)).
فلمَّا كان يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأوَّل وهو آخر يوم من أيامه ، بينما المسلمون في صلاة الفجر وأبو بكر يصلِّي لهم قال أنس بن مالك: لم يفاجئهم إلاَّ رسول الله قد كشف عن ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأنَّ وجهه ورقة مصحف، ثمَّ تبسَّم يضحك، قال أنس: فبهتنا ونحن في صلاتنا، وهمَّ المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فرحًا برسول الله ، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصفَّ، وظنَّ أنَّ رسول الله يريد أن يخرج إلى الصلاة، فأشار إليهم رسول الله بيده أن أتمُّوا صلاتكم، ثمَّ دخل الحجرة وأرخى الستر.
قال أنس: فلمَّا وضح لنا وجه رسول الله ما نظرنا منظرًا قطُّ كان أعجب إلينا من وجه رسول الله حين نظرنا إليه.
كانت تلك آخر نظرة نظروها إلى رسول الله وهو يتبسّم حتَّى كادوا يفتتنوا وهم في صلاتهم. مشهدٌ ما أروعه، كانت تلك نظرة الوداع التي أرخى بعدها الستر.
فلمَّا كان الضحى من ذلك اليوم ابتدأته سكرات الموت، وكان قد استدعى ابنته فاطمة فأتته، فلمَّا رأته في تلك الحال قالت: واكرب أباه! فقال: ((ليس على أبيك كرب بعد اليوم)) ، وكان قد سارَّها بشيء فبكت، ثمَّ دعاها فسارَّها بشيء فضحكت، ولمَّا سئلت بعد وفاته عن ذلك قالت: سارَّني النبيُّ أنَّه يموت في وجعه الذي توفِّي فيه فبكيت، ثمَّ سارَّني أنِّي أوَّل أهله يتبعه فضحكت، وكانت عامَّة وصيَّته حين حضرته الوفاة: ((الصلاة وما ملكت أيمانكم)). وكان عنده قدحٌ من ماء فكان يدخل فيه يديه ثمَّ يمسح وجهه بالماء ويقول: ((لا إله إلاَّ الله، إنَّ للموت سكرات)) ، ولم يمت حتَّى خيِّر مرَّة أخرى بين الدنيا والآخرة، فجعل يقول وهو شاخصٌ نحو السماء: ((اللهمَّ في الرفيق الأعلى)) ، حتَّى قبض.
قالت عائشة: قبض رسول الله ورأسه بين سحري ونحري، قالت: فلمَّا خرجت نفسه لم أجد ريحًا قطّ أطيب منها.
وقد توفِّي رسول الله شهيدًا، ذلك أنَّه أكل طعامًا في غزوة خيبر وضع له فيه سُمٌّ، فكان يقول: ((ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان انقطاع أبهري من ذلك السُمّ)).
ولمَّا توفِّي رسول اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته، وكان من هؤلاء عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه.
وكان أبو بكر حين توفِّي رسول الله بالسُّنح، فجاء عمر والمغيرة فاستأذَنَا فأذنت لهما عائشة وجذبت إليها الحجاب، فنظر عمر إليه فقال: واغشياه! ما أشدَّ غشي رسول الله ! فلمَّا دنا من الباب قال المغيرة: يا عمر، مات رسول الله ، فقال عمر: كذبت، لا يموت رسول الله حتَّى يفني الله المنافقين، وكان المنافقون قد فرحوا بموت رسول الله وأظهروا الاستبشارَ ورفعوا رؤوسهم، فخرج عمر إلى الناس ليكسر ظهور المنافقين، فجعل يقول: والله، ما مات رسول الله ، ولا يموت حتَّى يقتل الله المنافقين، وجعل يتوعَّدهم بالقتل والقطع ويحلف لهم.
ثمَّ أقبل أبو بكر على فرس له من مسكنه بالسّنح حتَّى نزل فدخل المسجد، فمرَّ بعمر وهو يتوعَّد ويحلف للناس أنَّ رسول الله لم يمت، فلم يكلِّمه أبو بكر، ودخل على عائشة فكشف عن رسول الله ثمَّ أكبَّ عليه يقبِّله ويبكي ويقول: وانبيَّاه، واصفيَّاه، واخليلاه، ثمَّ قال: بأبي أنت وأمِّي، طبت حيًّا وميّتا، والذي نفسي بيده لا يجمع الله عليك موتتين، فأمَّا الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها.
ثمَّ خرج وعمر يكلِّم الناس ويحلف فقال له أبو بكر: أيُّها الحالف على رسلك، اجلس يا عمر، فأقبل الناس إلى أبي بكر وتركوا عمر، فقال: أما بعد: من كان منكم يعبد محمَّدا فإنَّ محمَّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإنَّ الله حيٌّ لا يموت، وقرأ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فنشج الناس يبكون وكأنَّهم لم يعلموا أنَّ الله أنزل هذه الآية حتَّى تلاها أبو بكر، فتلقَّاها منه الناس كلُّهم.
قال عمر: فوالله، ما هو إلاَّ أن سمعت أبا بكر تلاها فعرفت أنَّه الحقُّ، فعقرت حتَّى ما تقلُّني رجلاي، وحتَّى هويت إلى الأرض وعرفت أنَّ رسول الله قد مات.
وقد جعل الله في خطبة كلٍّ من عمر وأبي بكر خيرًا ومصلحةً للمسلمين، كما نبيِّنه بعد حين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لقد جعل الله تعالى في خطبة كلٍّ من عمر وأبي بكر خيرًا ومصلحة للمسلمين، فإنَّه حين بلغ الناسَ نبأُ وفاة رسول الله جاء أهل النفاق، وأظهروا الفرح والشقاق، ومدُّوا الأعناق، فقطعها الله بخطبة عمر، وأرغم بها أنوفهم وكسر جاههم. وأمَّا المسلمون فماجت قلوبهم لهذه النازلة كموج البحر عند هبوب الرياح، وعُقرت لها أقدام الأبطال، واهتزَّت لها نفوس الرجال، وهم في الرجال كالجبال، فثبَّت الله قلوبهم بخطبة أبي بكر وشدَّ بها ظهورهم.
وأقبلت فاطمة تقول: يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه جنَّة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل أنعاه، يا أبتاه من ربِّه ما أدناه. وعاشت بعده ستَّة أشهر ثمَّ لحقته، فما ضحكت في تلك المدَّة، وحقَّ لها ذلك.
أيُّها الناس، كلُّ المصائب تهون عند هذه المصيبة، قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه، ويقول: يا عبد الله، ثق في الله، فإنَّ في رسول الله أسوةً حسنة.
اصبر لكلِّ مصيبة وتجلَّد واعلم أنَّ المرء غير مخلَّد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها فاذكر مُصابك بالنبيِّ محمَّد
قال أنس بن مالك: إنَّ أمَّ أيمن لمَّا قبض رسول الله بكت فقيل لها: ما يبكيك على النبيِّ ؟ قالت: إنِّي قد علمت أنَّ رسول الله سيموت، ولكنِّي أبكي على الوحي الذي رفع عنَّا. قال أنس: وقال أبو بكر لعمر: انطلق بنا إلى أمِّ أيمن نزورها، فلمَّا انتهيا إليها بكت، فقالا: ما يبكيك؟ ما عند الله خيرٌ لرسوله! قالت: والله، ما أبكي أن لا أكون أعلم أنَّ ما عند الله خيرٌ لرسوله، ولكن أبكي أنَّ الوحي انقطع من السماء، فهيَّجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان. رواه مسلم.
أيُّها الناس، حُقَّ للقلوب أن تتألَّم لفراق رسول الله ، كيف لا وهذه الجمادات كانت تتصدَّع من ألم فراقه؟!
ألم تروا إلى الجذع الذي كان يخطب عليه رسول الله لمَّا تركه وتحوَّل إلى المنبر حنَّ إليه وصاح كما يصيح الصبي والناس يسمعون صوته، فنزل رسول الله إليه فاعتنقه فجعل يُهدَّى كما يهدَّى الصبي الذي يسكَّن، فقال النبيُّ : ((لو لم أحتضنه لحنَّ إلى يوم القيامة)) رواه أحمد بسند صحيح.
كان الحسن البصري إذا حدَّث بهذا الحديث يبكي ويقول: هذه خشبة تحنُّ إلى رسول الله ، فأنتم أحقُّ أنت تشتاقوا إليه.
وروي أنَّ بلالاً كان يؤذِّن بعد وفاة النبيِّ قبل دفنه، فإذا قال: أشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله ارتجَّ المسجد بالبكاء والنحيب، فلمَّا دفن ترك بلال الأذان.
قال أنس: لمَّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله المدينة أضاء منها كلُّ شيء، فلمَّا كان اليوم الذي مات فيه أظلم كلُّ شيء، وما نفضنا أيدينا عن رسول الله وإنَّا لفي دفنه حتَّى أنكرنا قلوبنا.
ولمَّا فرغوا من دفنه قالت فاطمة: يا أنس، كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله ؟!
عباد الله، إنَّ استذكارنا لهذه الذكرى ليس لمجرَّد سكب العبرات، فلا جرم أن لا تخطئ الدموع مجاريها، ولكنَّ المقصود باستذكارها أن تكون حافزًا لتجديد العهد بمتابعة النبيِّ والاعتصام بسنَّته، ولملء ما يعتري قلوبنا من فراغ من محبَّته وتوقيره وتعزيره، والله المستعان.
(1/3635)
زلزال الجزائر
الرقاق والأخلاق والآداب
التوبة, الفتن
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من النذر الإلهية. 2- حال المجتمع المزري. 3- سعة رحمة الله تعالى. 4- عموم العذاب إذا نزل. 5- الواجب تجاه الزلازل التي وقعت.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:97-99].
وقال تعالى: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمْ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل:45-47].
أيُّها الناس، ما زال ربُّنا يستعتبنا بهذا الخسف، فيبعث بالهزَّات واحدة إثر أخرى، لتوقظ الغافل، وتردع الجاهل، فهل نحن منتبهون من رقدتنا؟! وهل نحن منتهون من معاصينا وذنوبنا؟! فوالله إنَّ هذه الزلازل ما أرسل الله بها إلاَّ تخويفًا لعباده عساهم يرجعون، وعقابًا للمسرفين، لعلَّهم يتوبون ويتضرَّعون، ولا يوقفها ـ والله ـ شيء إلاَّ الرجوع الصادق إلى الله، بنبذ الشرك والبدع والمعاصي رأسًا، وبالفزع إلى الصلاة والركوع مع الراكعين، والإنفاق ممَّا رزقكم الله تعالى.
أيها المسلمون، لقد فشا في كثير من المجتمعات ترك الفرائض والواجبات التي أوجبها الله ورسوله على القلوب والألسنة والأبدان، من التوحيد إلى إماطة الأذى عن الطريق، مرورًا بالصلاة والزكاة والصيام والحج وبر الوالدين وصلة الأرحام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الأمانات وتربية الأولاد...
وفشت فينا المحرمات من الربا والزنا وشرب الخمور وتناول المسكرات والمخدِّرات وأكل الرشا وأموال الناس بالباطل وجميع أنواع الفجور، وبالجملة ما من سبب يوجب سخط الرب سبحانه وغضبه وانتقامه وعاجل عقابه إلاَّ أتيناه.
ولولا سعة حلم الربِّ سبحانه وغلبة رحمة الله لغضبه لما بقي على الأرض من أحد، قال تعالى: !خطأ لم يُعثر على مصدر المرجع. وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [النحل:61]، وقال: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر:45]، ولكن الأمَّة إذا تمادت في الفساد فقد استوجبت نزول العذاب.
والعذاب يعمّ الصالح والفاسد كما ورد في الحديث: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)).
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44].
والغريب والعجيب أن وسائل الإعلام لم تعنَ ببيان سبب وقوع هذا الزلزال، وأنَّها الذنوب والمعاصي، وأنها عقوبة من الله تعالى، يريدون أن يغفل الناس عن آيات الله التي يخوِّف بها عباده ليؤوبوا ويرجعوا إليه.
وهذه جرائد تطلُع علينا بالكفر الموجب للمزيد من الهزَّات، يزعمون ـ وقد أعمى الله قلوبهم فلا ينتفعون بآياته ـ أنَّ الزلازل ليست عقوبةً إلهيَّة، لأنَّها أتت على بيوت الله كما أتت على بيوت الناس وفيهم البار والفاجر.
وهذا من سوء ظنِّهم بالله وجهلهم بحكمته ودينه وآياته، فإنَّ الله إذا أراد أن يخسف بقوم لم يمنعه ذلك ممَّا يريد، لأنَّ الجميع عبيده، والكلُّ ملكه فيفعل ما يشاء، وله الحكمة البالغة في أفعاله سبحانه، ومن رحمته أنَّه لا يجمعهم في مبعث واحد، بل يبعث كلَّ واحد على نيَّته وعمله.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن عذاب الله إذا حلّ بقوم عمّهم، فهو لا يصيب ناسًا دون آخرين، قال : ((إذا أراد الله بقوم عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)) رواه البخاري ومسلم.
فالزلزلة تصيب المؤمن البارّ كما تصيب الفجار والكفار، فيهلكون مهلكًا واحدا، ثمَّ يبعثون على أعمالهم، فشتَّان بين من ختم له بالحسنى، وبين من ختم له بالسوأى.
ولقد ورد في علامات آخر الزمان أنه تكثر الزلازل والخسف، فقال : ((لا تقوم الساعة حتى تكثر الزلازل)) رواه مسلم، وقال رسول الله : ((بين يدي الساعة خسف ومسخ وقذف، وذلك في أهل القدر)) وهو حديث حسن.
والعجب أنَّ الحديث ربط ذلك بالمكذبين بالقدر، ونحن نرى اليوم من يكذب أن تكون هذه الزلازل بقدر الله تعالى، ليخوّف الناس.
ونحن نتضرَّع إلى الله العليِّ القدير أن يلطُف بهذه البلدة وأهلها، وأن يحفظها دائما لأمَّة الإسلام، وأن يلهم المصابين وذويهم السكينة والرحمة، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يجعل هذا الخسف لنا رادعًا يردُّنا إلى الدين الحقِّ ردًّا جميلا، وآية مخيفة لأهل الفساد من العباد، عسى أن يتوبوا فيتوب الله عليهم ويصلح الحال، والله المستعان.
_________
الخطبة الثانية
_________
يعيش الناس هذه الأيَّام هلعًا متزايدًا جرَّاء تتابع هزَّات الخسف الذي وقع بنا.
أيُّها الناس، يجب أن تعلموا أوَّلاً أنَّنا جميعًا في قبضة الله تعالى، فأين المفرُّ؟! كلاَّ، من أحبَّ أن يفرَّ فليفرَّ إلى الله تعالى، إلى رحمته ومغفرته، فليفرَّ من موجبات سخطه وغضبه وهي الذنوب والخطايا، وعلى رأسها الشرك بالله تعالى والابتداع في الدين وترك الصلاة وترك الزكاة والتعامل بالربا والرشوة والمجاهرة علنًا بالفاحشة والإصرار عليها. وإلى من تفرُّ إذا لم تفرَّ إلى الله ربك خالقك وفاطرك؟! ومن ذا ينجيك من الله ربِّك ومليكك؟!
ويجب أن تعلموا ثانيًا أن المؤمن الصادق يعلم أنَّ في الكون أسبابًا وأن لأحداثه عللاً، ولكنَّه يؤمن أن الله خالق هذه الأسباب وأنَّه موجد هذه العلل، فلا يتحرَّك متحرِّك إلاَّ بأمره، ولا يسكن ساكن إلاَّ بأمره: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
وإذا علم العبد بأنَّ الأمر كلَّه بيد الله، وأنَّ كلَّ ما في الكون يتحرَّك بأمر الله ويسكن بأمر الله، وأنَّه وحده هو القادر على أن يوقف هذه الزلازل، وأنَّه وحده هو القادر على إصلاح الحال، فلنطمئنَّ إلى الله عزَّ وجل، لا إلى غيره، ولنرغب إلى الله في ذلك، لا إلى غيره، ألم تقرؤوا قول الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:94-96].
واعلموا ثالثًا ـ عباد الله ـ أنَّ مما يلزمنا التوبة والرجعة إلى الله سريعًا، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [الذاريات:50]، من قبل أن يحل بنا ما حل بغيرنا، ولا تأمنوا من مكر الله. قال تعالى: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة:126].
وأنت ـ يا أيها العاكف على المعصية المصرُّ عليها ـ ما لك؟! أعمِي قلبك عن هذه الآية، أم أمنت عذاب الله وعقوبته؟! قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:80].
وعليكم رابعًا بالدعاء والتضرُّع إلى الله ليخفِّف المصاب ويرفع البلاء والعقوبة، وأن يرحم الله عباده ويتوب عليهم.
فتضرَّعوا إلى الله بالدعاء، فإنَّ الله يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43]، فهو يحبِّ أن نتضرَّع إليه بالدعاء في حال البأس والملمات لتفريج الكربات.
ولا تنسوا تسلية أهل المصائب ومواساتهم وإمدادهم بالمعونات المادية والمعنوية، ومن أهمِّها تذكيرهم بالله وبالتوبة إليه.
(1/3636)
معاذ بن جبل وحِكَمه
سيرة وتاريخ
تراجم
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نسب معاذ وصفته رضي الله عنه. 2- من فضائل معاذ رضي الله عنه. 3- زهده رضي الله عنه. 4- من أقواله ومواعظه رضي الله عنه. 5- وفاته رضي الله عنه.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما زلت أحدِّثكم عن حكماء الأمَّة، نبتغي منهم الحكمة البليغة والموعظة الحسنة، وذلكم هو القصد من حضوركم الجمعة، وقد حدَّثتكم في الخطبة الماضية عن أحد العاقلين أبي الدرداء رضي الله عنه، وأحدِّثكم اليوم عن الآخر وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه، وهما العاقلان اللذان كان ابن عمر يستحب أن يحدَّث بأخبارهما، وإذا كان الصحابة يتحدَّثون بحكمة عقلائهم لينتفعوا بها فلنحن أولى وأحقُّ أن نستفيد منهم الحكمة والموعظة، بل وأذكر أيضًا في هذه المرَّة شيئًا من هديه وسمته ودلِّه ليكون ذلك مدعاة لنا على الاقتداء به.
معاذ بن جبل، ومن معاذ بن جبل؟ إنَّه السيد الإمام أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي المدني البدري. شهد العقبة شابا أمرد، مقدام العلماء وإمام الحكماء، القارئ القانت، المحب الثابت.
وصفه الأخباريُّون أنَّه كان طويلا حسنا جميلا حسن الثغر عظيم العينين أبيض، وهو رابع أربعة أمر رسول الله أن يؤخذ عنهم القرآن، فعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله : ((خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود وأبيّ ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة)) رواه أحمد.
وعن عاصم بن حميد السكوني أنَّ معاذ بن جبل لمَّا بعثه النبيُّ إلى اليمن خرج يوصيه، ومعاذ راكب ورسول الله يمشي تحت راحلته، فلما فرغ، قال: ((يا معاذ، إنك عسى أن لا تلقاني بعد عامي هذا، ولعلَّك أن تمرَّ بمسجدي وقبري)) ، فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله، قال: ((لا تبك يا معاذ، ـ أو: ـ إن البكاء من الشيطان)).
وعن الصنابحي عن معاذ قال: لقيني النبي فقال: ((يا معاذ، إنِّي لأحبُّك في الله)) ، قلت: وأنا والله ـ يا رسول الله ـ أحبُّك في الله، قال: ((أفلا أعلِّمك كلمات تقولهنَّ دبر كلِّ صلاة؟! ربِّ أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
وذكره ابن مسعود يومًا فقال: إنَّ معاذًا كان أمة قانتًا لله حنيفًا ولم يكن من المشركين، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، نسيتها؟! إنَّما قال الله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا [النحل:120]، قال: لا، ولكنا كنا نشبهه بإبراهيم، ثم قال: أتدري ما الأمَّة؟ إن الأمَّة هو معلِّم الناسِ الخيرَ، والقانت المطيع، وإن معاذ بن جبل كان يعلِّم الناس الخير، وكان مطيعًا لله ورسوله.
وعن محمد بن سهل بن أبي حثمة عن أبيه قال: كان الذين يفتون على عهد رسول الله ثلاثة من المهاجرين: عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، وثلاثة من الأنصار: أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت.
وخطب عمر الناس بالجابية فقال: (من أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل) والأثر صححه الحاكم.
وعن شهر قال: "كان أصحاب محمد إذا تحدثوا وفيهم معاذ نظروا إليه هيبة له".
وعن أبي مسلم الخولاني قال: دخلت مسجد حمص فإذا فيه نحو من ثلاثين كهلا من الصحابة، فإذا فيهم شاب أكحل العينين، براق الثنايا ساكت، فإذا اختلف القوم أقبلوا عليه فسألوه ليفصل بينهم فيما اختلفوا فيه ويزيل الإشكال فيما أشكل عليهم، قال: فقلت: من هذا؟ قيل: معاذ بن جبل، قال: فوقعت محبته في قلبي.
وعن أبي بحرية قال: دخلت مسجد حمص فإذا بفتى حوله الناس، جعد قطط، إذا تكلم كأنما يخرج من فيه نور ولؤلؤ، فقلت: من هذا؟ قالوا: معاذ بن جبل.
قال يحيى بن بكير: سمعت مالكا يقول: هو أمام العلماء رتوة.
وعن مالك الدار أن عمر رضي الله عنه أخذ أربعمائة دينار، فقال لغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة، ثم تلهَّ ساعة في البيت حتى تنظر ما يصنع، فذهب الغلام قال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، قال: وصله الله ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية، اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان حتى أنفذها. فرجع الغلام إلى عمر فأخبره فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل فقال: اذهب بها إلى معاذ بن جبل، وتلهَّ في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع، فذهب بها إليه قال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذه في بعض حاجتك، فقال: رحمه الله ووصله، تعالي يا جارية، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأته فقالت: ونحن ـ والله ـ مساكين فأعطنا، ولم يبق في الخرقة إلا ديناران، فدحا بهما إليها، فرجع الغلام إلى عمر فأخبره بذلك فقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.
هذا هو معاذ بن جبل، وهو في العلم جبل، وفي الحكمة جبل، وفي الزهد والورع جبل، فهل من قاصد للتأسي به؟! وهل من راغب في الاقتداء به واقتفاء أثره؟! وهل من مبتغ لسماع حِكَمه ومواعظه؟
_________
الخطبة الثانية
_________
فمن مواعظه المنثورة وحكمه المأثورة ما روى أيوب عن أبي قلابة وغيره أن فلانا مر به أصحاب النبي ، فقال: أوصوني، فجعلوا يوصونه، وكان معاذ بن جبل في آخر القوم، فقال: أوصني يرحمك الله، قال: قد أوصوك فلم يألوا، وإني سأجمع لك أمرك: (اعلم أنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك إلى الآخرة أفقر، فابدأ بنصيبك من الآخرة، فإنه سيمر بك على نصيبك من الدنيا فينتظمه، ثم يزول معك أينما زلت).
وعن ابن شهاب أن أبا إدريس الخولاني أخبره أن يزيد بن عميرة وكان من أصحاب معاذ بن جبل قال: كان لا يجلس مجلسا إلا قال: (الله حكم قسط تبارك اسمه، هلك المرتابون، إنَّ من ورائكم فتنًا يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن، حتَّى يأخذه الرجل والمرأة والحرُّ والعبد والصغير والكبير، فيوشك أنَّ الرجل يقرأ القرآن فيقول: قد قرأت القرآن فما بال الناس لا يتَّبعوني، وقد قرأت القرآن، ثمَّ يقول: ما هم بمتَّبعيَّ حتَّى أبتدع لهم غيره، فإيَّاكم وما ابتدع، فإنَّ ما ابتدع ضلالة، واتَّقوا زيغة الحكيم، فإنَّ الشيطان يلقي على في الحكيم كلمةَ الضلالة)، فقلت لمعاذ: ما يدريني أن الحكيم يقول كلمة الضلالة؟ قال: (بلى، اجتنب من كلام الحكيم كلَّ متشابه، الذي إذا سمعته قلت: ما هذا، ولا ينأى بك ذلك عنه، فإنَّه لعلَّه يراجع، وتلقَّ الحقَّ إذا سمعته، وقد يقول المنافق كلمة الحق فاقبلوا الحق، فإنَّ على الحقِّ نورًا) رواه ابن بطَّة وأبو نعيم.
وعن أبي إدريس الخولاني قال: قال معاذ: (إنك تجالس قوما لا محالة يخوضون في الحديث، فإذا رأيتهم غفلوا فارغب إلى ربك عند ذلك رغبات).
وعن أبي بحرية عن معاذ قال: (ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)، قالوا: يا أبا عبد الرحمن، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: (ولا، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]).
وعن عبد الله بن سلمة قال: قال رجل لمعاذ بن جبل: علمني، قال: وهل أنت مطيعي؟ قال: إني على طاعتك لحريص، قال: (صم وأفطر، وصل ونم، واكتسب ولا تأثم، ولا تموتن إلا وأنت مسلم، وإياك ودعوة المظلوم).
وعن معاوية بن قرة قال: قال معاذ بن جبل لابنه: (يا بني، إذا صليت فصل صلاة مودّع لا تظن أنك تعود إليها أبدا، واعلم ـ يا بني ـ أن المؤمن يموت بين حسنتين: حسنة قدمها وحسنة أخرها).
وعن محمد بن سيرين قال: أتى رجل معاذ بن جبل ومعه أصحابه يسلمون عليه ويودعونه، فقال: (إني موصيك بأمرين إن حفظتهما حُفظت: إنه لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر، فآثر من الآخرة على نصيبك من الدنيا حتى ينتظمه لك انتظاما فتزول به معك أينما زلت).
وعن الأسود بن هلال قال: كنا نمشي مع معاذ فقال: (اجلسوا بنا نؤمن ساعة).
وعن أشعث بن سليم قال: سمعت رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: (ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وستبتلون بفتنة السراء، وأخوف ما أخاف عليكم فتنة النساء إذا تسوَّرْن الذهبَ ولبسْن رياط الشام وعُصْب اليمن، فأتعَبْنَ الغنيَّ وكلَّفن الفقير ما لا يجد).
لم يزل الناس ينتفعون بمعاذ بن جبل في حياته، مع أنَّه لم يعش طويلا، بل مات شابًّا شهيدًا بالطاعون، حين أصاب مدينة عمواس بالشام، لكنه وحتى في مماته نصح ووعظ.
قال عبد الله بن رافع وغيره: لما أصيب أبو عبيدة في طاعون عمواس استخلف على الناس معاذ بن جبل، واشتد الوجع فقال الناس لمعاذ: ادع الله أن يرفع عنا هذا الرجز، فقال: (إنه ليس برجز، ولكنه دعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم وشهادة يختص الله بها من يشاء من عباده منكم. أيها الناس، أربع خلال من استطاع منكم أن لا يدركه شيء منها فلا يدركه شيء منها)، قالوا: وما هن؟ قال: (يأتي زمان يظهر فيه الباطل ويصبح الرجل على دين ويمسي على آخر، ويقول الرجل: والله، لا أدري على ما أنا، لا يعيش على بصيرة، ولا يموت على بصيرة، ويعطى الرجل من المال مال الله على أن يتكلم بكلام الزور الذي يسخط الله، اللهم آت آل معاذ نصيبهم الأوفى من هذه الرحمة)، فما أمسى حتى طعن ابنه عبد الرحمن بكرُه الذي كان الغرماء به وأحب الخلق إليه، فرجع من المسجد فوجده مكروبا فقال: (يا عبد الرحمن، كيف أنت؟) فقال: يا أبة، الحق من ربك فلا تكن من الممترين، فقال معاذ: (وأنا إن شاء الله ستجدني من الصابرين، فأمسكه ليلته ثم دفنه من الغد). ثم طعنت امرأتاه فهلكتا، وطعن هو في إبهامه فجعل يمسها بفيه ويقول: (اللهم إنها صغيرة فبارك فيها، فإنك تبارك في الصغيرة)، ويقول: (هي أحب إلي من حمْر النَّعم).
وحين حضره الموت جعل بعض التابعين يبكي، فرآه معاذ فقال: (ما يبكيك؟) قال: ما أبكي على دنيا كنت أصبتها منك، ولكن أبكي على العلم الذي كنت أصيبه منك، قال: (ولا تبكه؛ فإن إبراهيم صلوات الله عليه كان في الأرض وليس بها علم، فآتاه الله علما، فإن أنا مت فاطلب العلم عند أربعة: عبد الله بن مسعود وسلمان الفارسي وعبد الله بن سلام وعويمر أبي الدرداء).
وحين اشتد به نزع الموت فنزع نزعا لم ينزعه أحد، وكان كلما أفاق من غمرة فتح عينيه ثم قال: (رب، اخنقني خنقك. فوعزَّتك، إنك لتعلم أن قلبي يحبّك) حتَّى مات رحمه الله ورضي الله عنه.
قال سعيد بن المسيب: "رفع عيسى بن مريم عليه السلام وهو ابن ثلاث وثلاثين، ومات معاذ بن جبل وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة".
وأنت أيُّها الكهل، يا من بلغت الأربعين، ويا من جاوزت الخمسين، ويا من أوفيت الستين، إلى متى هذه الغفلة؟! ومتى تنجع فيك مواعظ الواعظين؟!
(1/3637)
خطبة عرفة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأزمنة والأمكنة
مراد وعمارة
عرفة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب تعظيم يوم عرفة. 2- فضائل يوم عرفة. 3- خطبة النبي يوم عرفة ويوم النحر. 4- حال السلف يوم عرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيُّها الحجَّاج، إنَّ يومكم هذا يوم عظيم مشهود جليل، يوم كريم مبارك فضيل. عظيم جليل لأنَّ الله عزَّ وجل عظَّم حرمته، وعظَّم فيه حرمات المسلمين في دمائهم وفي أعراضهم وفي أموالهم، وجعل ثواب العمل الصالح فيه أعظم أجرا، وجعل الذنب فيه أخطر وزرا، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يعدلون صيامه بصيام سنتين، كما رواه الطبراني في معجمه الأوسط بسند حسن.
وإنَّ يومكم هذا يوم كريم مبارك فضيل، لأنَّ فيه من البركات العظام والأيادي الجسام ما لا نظير له في سائر أيام العام، فلا جرم أن كان هذا اليوم العظيم المبارك من مفاخر الإسلام.
ففيه أكمل الله الدين، وأتمَّ نعمته على المؤمنين، فقال عزَّ وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أنَّ رجلاً يهوديًّا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتَّخذنا ذلك اليومَ عيدا، فقال عمر: أيُّ آية؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا ، فقال عمر: إنِّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلت ورسول الله قائم بعرفة.
معشر الحجَّاج، إنَّ يومكم هذا يوم حافل بالهبات والخيرات، جمُّ المنح والبركات؛ فيه يُعتق الله عزَّ وجل من العباد من النار ما لا يعتق فيما سواه، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله قال: ((ما من يوم أكثر من أن يُعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة)).
وفي عشيَّة هذا اليوم ينزل ربُّنا عزَّ وجل إلى السماء الدنيا حتَّى يدنو من الحجَّاج بعرفة، كما يليق بجلاله وعلوِّه، ففي تمام حديث عائشة المذكور قريبا عن النبيِّ : ((إنَّ الله عزَّ وجل يدنو ـ يعني من الحجَّاج ـ ثم يباهي بهم الملائكة)) ، وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح مجوَّد عن عبد الله بن عمرو عن النبيِّ قال: ((إنَّ الله تعالى يباهي ملائكته عشَّية عرفة بأهل عرفة، يقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا)).
ومن بركة هذا اليوم العظيم أنَّ صيامه لمن لم يحجَّ يكفِّر ذنوب العبد سنتين كاملتين: السنةَ التي قبله، والسنةَ التي بعده، فعن أبي قتادة قال: سئل رسول الله عن صوم يوم عرفة؟ فقال: ((يكفِّر السنة الماضية والباقية)) رواه مسلم.
ومعلوم أنَّ هذا بالنسبة لمن لم يحجَّ، أمَّا الحجَّاج فالمشروع لهم هو الإفطار في هذا اليوم، اقتداء بالنبيِّ.
أيُّها الحجَّاج، إنَّ من شواهد العظمة في هذا اليوم أنَّ الله جلَّ جلاله جعله يومًا مشهودا، وبهذا فسِّر قوله تعالى: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ [البروج:3]، فالشاهدُ يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة، لأنَّ المسلمين يحتشدون في هذا اليوم العظيم بعرفة، من كلِّ حدب وصوب، ومن كلِّ فجٍّ عميق، يفدون من شعوب وقبائل شتَّى، وبألوان وألسن مختلفة، موحِّدين ربَّهم مهلِّلين، مجيبين نداءه ملبِّين، فكان حقًّا يومًا من أيام المسلمين مشهودا.
ومن شواهد عظمة هذا اليوم إقسام الله عزَّ وجل به، وباليوم الذي يليه، وبالعشر التي تشتمل عليه بين يديه، فقال عزَّ وجل: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:1-3]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ( وَلَيَالٍ عَشْرٍ : ليال عشر ذي الحجَّة، وَالشَّفْعِ : يوم النحر، وَالْوَتْرِ : يوم عرفة) رواه الطبراني والبيهقي بسند صحيح.
فالشفع الذي أقسم الله سبحانه به هو يوم النحر، وهو يوم الحجِّ الأكبر، وذلكم غدا، وهو شفع لأنَّه اليوم العاشر من شهر ذي الحجَّة، والوتر هو اليوم التاسع، وهو يومكم هذا، وهو يوم القرِّ.
فأفضل الأيَّام عند الله عزَّ وجل هذه العشر الأوائل من شهر ذي الحجَّة، ثمَّ اختار الله تعالى من هذه العشر هذين اليومين التاسع والعاشر، وله الحكمة البالغة فيما يختار، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].
فيومنا هذا يومُ عرفة، وهو يوم القرِّ، وغدًا يوم عيد النحر، وهو يوم الحجِّ الأكبر، هذان اليومان هما أفضل الأيام وأعظمُها حرمة عند الله عز وجل، فعن عبد الله بن قُرط الثمالي عن النبيِّ قال: ((إنَّ أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثمَّ يوم القر)) يعني عرفة. رواه أحمد وأبو داود بسند صحيح.
فاشتمل هذا الحديث على فائدتين عظيمتين؛ إحداهما: تعظيم الربِّ عزَّ وجلَّ لهذين اليومين على سائر الأيام، ولهذا خطب النبيُّ في كلٍّ منهما، وأكَّد فيهما على حرمتهما وعظمتهما، وقرن ذلك بحرمة المسلم في دمه وماله وعرضه، فروى مسلم في صحيحه أنَّ النبيَّ خطب الناس في يوم عرفة فقال: ((إنَّ دماءكم وأعراضكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) ، ثمَّ حثَّهم على الاعتصام بكتاب الله عزَّ وجل.
ثمَّ خطبهم خطبة أخرى في يوم النحر بمنى عند الجمرات فقال: ((أيُّ يوم هذا؟)) قالوا: يوم النحر، قال: ((فأيُّ بلد هذا؟)) قالوا: البلد الحرام، قال: ((فأيُّ شهر هذا؟)) قالوا: الشهر الحرام، قال: ((هذا يوم الحجِّ الأكبر، فدماؤكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة هذا البلد، في هذا اليوم)) ، ثم قال: ((هل بلَّغت؟)) قالوا: نعم، فطفق رسول الله يقول: ((اللهمَّ فاشهد)). هكذا ساقه أبو داود وابن ماجة، وعلَّقه البخاري في صحيحه، وإسناده صحيح.
تأمَّلوا ـ معشر الحجَّاج ـ تأكيد النبيِّ في خطبة عرفة ثمَّ في خطبة يوم النحر بمنى على تعظيم هذين اليومين وشدَّة حرمتهما، وأنَّ حرمة المسلم في دمه وعرضه وماله مثل حرمة هذين اليومين في هذا الشهر الحرام، في هذا البلد الحرام على الدوام إلى يوم القيامة.
فاتَّقوا الله عباد الله في الدماء والأموال والأعراض، هذه الفائدة العلمية الأولى.
والفائدة الثانية: أنَّ يوم عرفة مع شدَّة حرمته وعظمته فإنَّ اليوم الذي يليه وهو يوم النحر غدًا أفضل وأعظم حرمة عند الله من يوم عرفة، ولذلك سمَّاه الله يوم الحجِّ الأكبر، في قوله تعالى: وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].
وبهذا فسَّره النبيُّ فقال: ((يوم الحجِّ الأكبر يوم النحر)) علَّقه البخاري في صحيحه، ووصله أبو داود وابن ماجة بسند صحيح.
غدًا ـ معشر الحجَّاج ـ يوم النحر، غدًا ـ معشر الحجَّاج ـ يوم الحجِّ الأكبر. وما نسبة يوم عرفة إلى يوم النحر إلاَّ كنسبة الطهارة إلى الصلاة، فإنَّ عرفة مقدَّمة بين يدي النحر، ففي عرفة يكون الوقوف والتضرُّع والابتهال والاستغفار والدعاء، وغدًا تكون الوفادة والزيارة لبيت الله، فكأنَّ العباد قد تطهَّروا من ذنوبهم في يوم عرفة، فأذن لهم ربُّهم يوم النحر في زيارته والدخول عليه في بيته، ولهذا كان في يوم النحر رمي الجمار وحلق الرؤوس وتقصيرها، وتقديم القرابين وطواف الزيارة بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ومعظم أفعال الحج ومناسكه، فلا جرم أن كان يوم النحر يوم الحج الأكبر واليوم الحرام الأعظم. فيوم عرفة كالطهور والاغتسال بين يدي يوم النحر.
روى البيهقي في كتابه الفذ "فضائل الأوقات" عن أبي سليمان الداراني أحد الصالحين رحمه الله تعالى قال: سئل بعض السلف عن الوقوف بعرفة: لِمَ لمْ يكن بالحرم؟ فقال: لأنَّ الكعبة بيت الله، والحرم باب الله، فلمَّا قصدوه وافدين أوقفهم بالباب يتضرَّعون. فقيل له: لِمَ أوقفهم بالمزدلفة بالمشعر الحرام؟ قال: لأنَّه لمَّا أذن لهم بالدخول عليه أوقفهم بالحجاب الثاني وهو مزدلفة، فلمَّا أن طال تضرُّعهم أذن لهم بذبح قربانهم، فلمَّا قضوا تفثهم وقرَّبوا قربانهم فتطهَّروا بها من الذنوب التي كانت لهم أذن لهم بالزيارة إليه على الطهارة.
فتأهَّبوا ـ معشر الحجَّاج ـ الواقفين بعرفة كي تفدوا غدًا يوم الحجِّ الأكبر وقد طهُرتم من ذنوبكم في يومكم هذا، فأكثروا فيه من الاستغفار والتهليل والدعاء.
أيُّها الحجَّاج، إنَّ يومكم هذا مع ما نوَّهت به لكم من عظمته وفضله، وما أشدت به لكم من بركته وخيره، فإنَّ السلف الصالح لم يكونوا في هذا اليوم إلاَّ خائفين وجلين يغلب عليهم الحياءُ من الله وخشيتُه، مع قوَّة يقينهم أنَّه يوم مغفرة وعتاق من النار، فكانوا مع حسن ظنِّهم بربِّهم مؤنِّبين موبِّخين لأنفسهم.
قال مطرِّف بن عبد الله بن الشخِّير أحد الصالحين من التابعين وهو واقف بعرفة: "اللهم لا تردَّ أهل الموقف من أجلي"، وقال بكر بن عبد الله المزني وهو واقف بعرفة: "ما أشرفه من موقف لولا أنَّني فيهم"، وقال عبد الله بن المبارك: جئت إلى سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تذرفان، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظنُّ أنَّ الله لا يغفر له.
فأيقنوا ـ معشر الحجَّاج ـ بعموم مغفرة الله لكم في هذا الموقف العظيم، وأحسنوا ظنَّكم بربِّكم الكريم، وأنَّه ذو قدرة على مغفرة الذنوب جميعًا، وإن كانت كالجبال وإن بلغت عنان السماء، فحقِّقوا رجاءكم في الله، دون أن يصرفكم ذلكم عن الخوف والحياء منه.
معشر الحجَّاج، اغتنموا يومكم هذا لتجديد ما خلق من إيمانكم، ولتجديد العهدِ بإسلامكم، فألظُّوا بشهادة التوحيد صادقةً بها قلوبُكم، فقد روى مالك وغيره عن النبيِّ قال: ((أفضل الدعاء دعاءُ يوم عرفة، وأفضلُ ما قلت أنا والنبيُّون من قبلي عشيَّة عرفة: لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلِّ شيء قدير)).
فأكثروا من هذا الدعاء، والله يوفقني وإياكم، ويغفر لي ولكم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألاَّ إله إلاَّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/3638)
محنة العراق
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الفتن, الولاء والبراء
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار الاستعمار. 2- التحذير من المرجفين في الفتن. 3- واجب المسلم في الفتن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمَّا بعد: يقول الله تعالى في كتابه: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
أيُّها المسلمون، من قال: إنَّ عهد الاستعمار قد ولىَّ؟! ومن قال: إنَّ اليهود والنصارى يقبلون بحوار الحضارات؟! ومن قال: إنَّ العقارب والأفاعي والحيات قد تنقلب يومًا إلى ضفادع وحمامات، فلا تلدغ أحدا؟!!
إنَّ هذا لهو العقم في الفكر والبلادة في الذهن، بل والتكذيب لكتاب الله تعالى القائلِ سبحانه: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا ، والقائل جلَّ جلاله: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120].
إنَّ العقارب والحيات خلقت لتلدغ، فلن تتخلَّى عن طبيعتها، فكذلك أمَّة اليهود وأمَّة الروم من النصارى، ولله درُّ القائل:
إنَّ الروم إذا لم تُغْزَ غزت لأنَّ ذلك طبعُها وخلقُها
ألم يقل النبيُّ : ((يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها)) ؟!
فوالله، ما زلنا لقمة سائغة لكلِّ طامع فينا ما دمنا غثاء كغثاء السيل، لا ننهض بأنفسنا، وما دمنا لا نغيِّر ما بنا من فساد وابتعاد عن دين الله تعالى.
والعدوان على العراق اليوم يندرج تحت هذا الذي أخبر به نبينا ، والأكلة هم أمم الروم دائمًا. وحتَّى من لم يشارك اليوم في طبخ الكعكة فإنَّه يطمع في حصَّته منها بعد الحرب.
نعم إنَّ الإنكليز هم كما وصفهم الشيخ محمَّد البشير الإبراهيمي رحمه الله: هم أول الشر وآخره ووسطه، وإنَّهم كالشيطان، منهم يبتدئ الشر وإليهم ينتهي، وإنَّهم ليزيدون على الشيطان بأنَّ همزاتهم صور محسَّمة تؤلم وتؤذي وتقتل، وجنادل مسمومة تهشم وتحطِّم وتخرِّب، لا طائف يمس ثم يخنس، ووسوسة تلابس ثمَّ تفارق، ويزيدون على الشيطان بأنَّهم لا يطردون بالاستعاذة وتذكُّر القلب، وإنَّما يطردون بما يطرد به اللصُّ الوقح من الصفع والدفع والحجار والمدر، ويدفعون بالثبات المتين للصدمة، وبالإرادة المصرَّة على المقاطعة في الأعمال، والإجماع المعقود على كلمة واحدة ككلمة الإيمان: إنَّ الإنكليز لكم عدوّ فاتخذوه عدوًّا. يردِّدها كلُّ مسلم بلسانه، ويجعلها عقيدة جنانه.
قد علمتم أنَّ الإنكليز هو الذي وعد صهيون فقوَّى أمله، وانتدب نفسه على فلسطين فكان الخصم والحكم في القضية، وأنَّه ما انتدب إلاَّ ليحقِّق وعده.
وعلمتم أنَّ بريطانيا هي التي جرَّت ضرَّتها البلهاء أمريكا إلى محادَّتكم وجرَّأتها على احتقاركم.
هذا ما قاله الشيخ محمَّد البشير بالأمس منذ أكثر من نصف قرن، فكيف لو رأى ما يجري اليوم في فلسطين والعراق؟! لقال: إنَّ الإنكليز والأمريكان هما في الشرِّ لدتان، وشريكا عنان.
فالواجب على المسلمين أن يفهموا هذا، وأن يعلموا أنَّ من كان عدوًّا لهم فأقلُّ درجات الإيمان أن يكونوا أعداء له، وأنَّ موالاته بأيِّ نوع من أنواع الولاية هي خروج عن أحكام الإسلام، لأنَّ معنى الموالاة له أن تنصره على نفسك ودينك وإخوانك.
أيُّها المسلمون، في مثل هذه الظروف يسعى المنافقون والمرجفون إلى إضعاف حال المسلمين، فيبثون الأخبار الكاذبة والتحليلات المبنية عليها هنا وهناك، ولهم سماعون مطيعون لهم في بلاد المسلمين.
فترى كثيرًا منهم يلقون باللائمة على المتسبِّب في هذا العدوان، فبعضهم يردُّ الأمر إلى طغيان هذا وجبروته ودكتاتوريَّته، وآخرون يعكسون القضيَّة ويردُّون الأمر إلى الذين أثاروه على أنفسهم واستجلبوا عساكر اليهود والنصارى إلى أراضيهم، متَّبعين في ذلك تحليلات اليهود والنصارى التي تبثُّها الإذاعات ومحطَّات البثِّ وسائر وسائط الإعلام من جرائد وصحف وغيرها، فيتتبَّع المسلم ذلك سائر يومه، ولا يتفرّغ لعبادة ربِّه، ولا للدعاء في كلِّ حين لإخوانه. فليس الوقتُ وقتَ تلاوم وتشاؤم، وإنَّما الوقت وقتُ تلاحم وتواؤم، وإظهارٍ لموالاة المسلمين ونصرتهم، ومعاداة العتاة المعتدين من الكافرين وخذلانهم.
ومن أخطر ما يسعى به أهل النفاق في هذه الظروف صرف الأمَّة عن علمائها، واستصدار الفتاوى الشيطانية من أهل الجهل والتهوّر، ليصفوا العلماء بالجبن والسكوت.
فالواجبُ على عامّة المسلمين رعايةُ حقِّ العلمَاء ومعرفةُ حقوقهم، وسؤالهُم عندَ وقوع الإشكال، فاهتداءُ المرءِ موكولٌ باعتصَامه بالوحيَين، واعتصامُه بهما موكولٌ باقتدائه بأهلِ العلمِ بهما، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
فالواجب رجوعُ الناسِ إلى علمائِهم الربانيّين المعروفين بالاعتقادِ الصحيح والمسلَك القويم، والواجبُ على الجميع ـ خاصّةً شباب المسلمين ـ ملازمةُ العلماءِ أهلِ النّصح والدراية، والأخذ عنهم، وتحرّي أقوالهم، والوقوف عندَ آرائهم، فالله جل وعلا يقول: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
قال بعض المفسّرين: "هذا تأديبٌ من الله لعبادِه عن فعلِهم هذا غيرِ اللائق، وأنَّه ينبَغي لهم إذا جاءَهم أمرٌ من الأمور المهمّة والمصَالح العامّة ما يتعلّق بالأمنِ وسُرور المؤمِن أو بالخوف الذي فيه مصيبةٌ عليهم أن يتثبَّتوا، ولا يتعجَّلوا بإشاعة ذلك [الخبر]، بل يردّونَه إلى الرّسولِ وإلى أولي الأمرِ منهم أهلِ الرأيِ والعِلم والنّصح والعقلِ والدراية، يعرفون الأمورَ والمصالح وضدّها، فإذا رَأوا في إذاعتِه مصلحة ونشاطًا للمؤمنين وسرورًا وتحرُّزًا من أعدائِهم فعَلوا ذلك، وإن رَأوا أنّه ليسَ فيه مصلحةٌ أو فيه مصلحة ولكن مضرَّتُه تزيدُ على مصلحتِه لم يذيعوه".
وينبغي على المسلم في مثل هذه الظروف أمور:
أحدها: أن يبادر إلى التوبة إلى الله عزَّ وجل، لأنَّ عامَّة ما يصيب المسلمين من بلاء ومحن وفتن فبما كسبت أيدينا، ولا يشغل وقته في تتبُّع الأحداث من مختلف الجرائد والمحطَّات السمعيَّة والبصريَّة، عبر شبكات الأنترنت أو المقعَّرات الهوائية، فإنَّ كثرة الاشتغال بذلك قد توجب الجزع والنوح على المصائب، وقد تدعو إلى اليأس والاستسلام، وإلى خلاف الواجب من الصبر والثبات والأخذ بأسباب النصر.
وأنت ـ يا أخا الإسلام ـ ترى كما أرى ما الناس فيه من فُرُط الاهتمام بما يجري وما جرى في العراق.
وأمَّا نحن فما أحوجنا إلى أن نعدَّ أنفسنا بأن نعبِّدها لله وحده، وأن نحقِّق التوحيد تحقيقًا ينتفي معه أن تكون نفوسنا ذليلة لغير الله خائفة من غير الله متضرِّعة إلى غير الله مستغيثة بغير الله تعالى، توحيدًا خالصًا من كلِّ شائبة من شوائب الشرك، كبيره وصغيره. وهذا إنَّما شرطه وطريقه العلم، قال الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19].
مسكين من عاش عمرَه حتى مات وهو لا يعرف ربَّه بأسمائه وصفاته، ولم يسلم له وجهه حنيفًا مخلصًا، ولم يتقرَّب إليه ولو بسجدة واحدة له في عبادته، لا يعبد معه أحدا.
لا ينصر الله قومًا يعبدون القبور والمشاهد والأضرحة والمقامات والمزارات والأولياء، ويتقربون بالتمسح بالقبور والاستغاثة بالمقبور، وبدعاء الحسين والاستنجاد به وبغيره، فمهما أطلقوا عليها من اسم فإنَّ معناها واحد، واسمها الحقيقي هو الآلهة والأصنام. لا ينصر الله من ترك سنَّة نبيِّه وتشبَّه بالمغضوب عليهم من اليهود والضالين من النصارى. فإذا تنازع يهوديٌّ بالنسب مع يهوديٍّ بالشبه في الوصف، فالغلبة للأقوى منهما.
ولسنا نثبِّط الهمم والعزائم، ولا نأمر بالجزع واليأس، بل نؤمن بأنَّ النصر لن يكون إلاَّ لأهل الإسلام، مهما كان ذلك متأخِّرًا في آخر الأزمان.
ولا نستصرخ أحدًا سوى الله تعالى، لا دولا ولا الرأي الدولي العام، فلا نقيم المظاهرات الصاخبة والمسيرات العارمة، التي هي امتصاص للغضب أكثر منها شحذًا للهمم نحو ما يحبُّه الله ويرضاه. فهؤلاء إنَّما يعملون على إزالة آثار العدوان في النفوس، والواجب هو العمل على إزالة أسباب العدوان من النفوس، أسباب كثيرة يجمعها: ما كسبت أيدينا من الخروج عن طاعة الله وطاعة رسوله.
فعلينا بالعودة الحميدة إلى الله وإلى رسوله، إلى كتاب الله وسنَّة نبيِّه، هذا هو السبيل، وهذا هو المخرج من جميع ما يصيبنا من مذلَّة وإذلال ومن مصائب ومساوئ.
_________
الخطبة الثانية
_________
الأمر الثاني: أن يحذر من اليأس والخنوع والاستسلام والنوح على الإسلام والجزع لما يصيب المسلمين من غربة ومحن ومصائب، إذ ذلك كما أسلفت ممَّا كسبت أيدينا، بل أنفسَنا نلوم، وإلى ربِّنا نعجِّل بالتوبة والعودة.
وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وكما أن الله نهى نبيَّه أن يصيبه حزن أو ضيق ممَّن لم يدخل في الإسلام في أوَّل الأمر فكذلك في آخره، فالمؤمن منهيٌّ أنْ يحزن عليهم أو يكون في ضيق من مكرهم، وكثير من الناس إذا رأى المنكر أو تغيُّر كثير من أحوال الإسلام جزع وكَلَّ وناح، كما ينوح أهلُ المصائب! وهو ـ أي: المسلم ـ منهيٌّ عن هذا، بل هو مأمورٌ بالصبر والتوكُّل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وأنَّ العاقبة للتقوى، وأنَّ ما يصيبه فهو بذنوبه فليصبر إنَّ وعد الله حقٌّ، وليستغفر لذنبه، وليسبِّح بحمد ربِّه بالعشيِّ والإبكار".
فلا ينبغي للمسلم أن يجزع عندما يرى تتابع الفتن والمحن على أمَّة الإسلام، فإنَّ الله كتب عليها ذلك ليطهِّرها، ويعجِّل لها الجزاء في الدنيا، وإنَّ هذه الأمَّة مبشَّرة بالعزَّة والرفعة والسناء إلى يوم القيامة. نعم قد يسلِّط الله بعضنا على بعض كما قد يسلِّط علينا أعداءنا، وإنَّ من أشدِّهم عداوة لنا اليهودَ والمشركين، وقد يأخذون بعض ما بأيدينا من الأرض، ولكن لا يبلغ الأمر إلى أن لا يبقى من هذه الأمَّة باقية، بل لا تزال في هذه الأمَّة طائفة تقاتل على الحقِّ منصورةً، لا يضرُّها من خذلها ولا من ناوءها إلى يوم القيامة، كما صحَّ عن نبيِّنا.
الأمر الثالث: الإقبال على الله ودينه، يتعلَّمه ويعمل به ويدعو إليه على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل عنه بالتي هي أحسن، ويوالي من والاه، ويعادي من عاداه، فلا يوالي ولا يعادي لهواه، بل لله ولما يحبُّه ويرضاه.
وأساس ذلك كلِّه العلم، فيتعلّم ما يجب تعلُّمه من شرائع الإسلام وفرائض الدين والحكام، والتي بها يتحقَّق الالتزام به، وأوَّل ما يتعلَّم ما نتَّقي به الخلود في النار في الآخرة، وهو التوحيد ونبذ الشرك بجميع صوره وأنواعه، ما ظهر منها وما خفي، ثمَّ بتوقِّي ما يوجب النار، وذلك بالتزام شرائع الإسلام وأحكامه وآدابه. وبهذا نتحقّق بالتقوى، فالتقوَى سبيلٌ للمخارج من الأزماتِ والمحَن ومن القلاقل والفتن، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3].
وهي الصفة التي بها فقط ينمحق الذلُّ عنَّا، وينصرنا الله على أعدائنا، فهذا أقوم سبيل لإزالة أسباب عدوان الملل علينا، وبغي بعضنا على أنفسنا.
الأمر الرابع: أن ننصر إخواننا في العراق.
إنَّ نصرنا لإخواننا في العراق وفلسطين وغيرهما من أعضاء جسد الأمة لا يمكن أن يتم بآحاد الناس فرادى وجماعات، بل لا يتم ذلك إلاَّ بمعونة الحكومات في أوطان المسلمين، كما بيَّنه علماؤنا في مثل هذه المحنة، ولكننا إذا اتقينا الله فإنَّنا نملك سلاحًا هو أمضى وأقوى من كلِّ سلا، لسنا نحتاج معه إلى رؤوس نووية ولا إلى أيدي قوية، إنَّها دعوات تنطلق برؤوس خاشعة وأيدي مرتفعة إلى رب السماء الذي بيده الملك وله الأمر والخلق، الذي نواصي العباد كلِّهم بين أصبعين من أصابعه، ينصر من يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، ويؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء. نعم الدعاء أمضى سلاح.
سلاح الدعاء نجَّى الله به نُوحًا عليه السلام، فأغرق قومه بالطوفان، حين كَذَّبوهُ واتهموه بالجنون، ومنعوه من تبليغ دعوته بمختلِفِ أنواع الإيذاءِ، دعا ربَّهُ طالبًا النُّصْرَة عَلَيْهِمْ: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ [القمر:11-14]. وسلاح الدعاء نجى الله به موسى عليه السلام من الطاغية فرعونَ. وسلاح الدعاء نجى الله به صالحًا، وأهلك ثمودَ، وأذَلَّ عادًا، وأظهرَ هودَ عليه السلام، وأعَزَّ محمدًا في مواطنَ كثيرة. وفي صحيحي البخاري ومسلم عن النبيِّ : ((دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)).
هذا ما يمكننا القيام به، وهذا هو الطريق المشروع لنا لنصر إخواننا، وأمَّا ملء الشوارع والمحافل والساحات بالمظاهرات والمسيرات فإن كان المراد إسماع صوتنا للعدوِّ وللرأي العام الدولي فإنَّ ذلك يكفيناه ممثِّلو الأمَّة، فهم النواب وهم العرفاء، وأيضًا فإنَّ العدوَّ لا يهمُّه رأينا، ولا يبالي لأصواتنا وضجيجنا، بل ولا يبالي بالرأي العام الدولي، فلن يصرفه ذلك عن عزمه، وإنَّما ينبغي أن نستصرخ ربَّنا ونضجَّ إليه بالدعاء، لا أن نستصرخ العالم ونملأ الشوارع بالضجيج الفارغ، وربَّما بالكلمات المنكرة، فالعالَم لن ينصرنا ولن يستجيب لصرختنا، إنَّما النصر بيد الله تعالى وحده. فيا عجبا لهذه الأمَّة كيف لبَّس عليها الشيطان أمر دينها، لقد كان المشركون يدعون الآلهة من دون الله تعالى، فإذا أصابتهم المصائب وأشرفوا على الهلاك دعوا الله مخلصين له الدعاء، وهذه الأمَّة حين تصيبها المهالك تدعو غير الله تعالى، تدعو من لا يسمع صوتها ولا يستجيب لطلباتها.
وقد قال حذيفة بن اليمان وهو أعلم الأمَّة بالفتن الكائنة قال: (ليأتينَّ على الناس زمان لا ينجو فيه إلاَّ من دعا بدعاء كدعاء الغريق) أي: أخلص كما يخلص الغريق رواه ابن أبي شيبة والحاكم وأبو نعيم بسند صحيح.
اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين في العراق وفي كل مكان، اللهم اشدد وطأتك على أعدائك؛ أعداء الدين وأعداء عبادك المؤمنين، من اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين المعتدين على عبادك المستضعفين في العراق وفي فلسطين، واجعلها عليهم كسني يوسف.
(1/3639)
عمل المولد عند علماء المالكية
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انتشار بدعة المولد في العالم الإسلامي. 2- الرد على من وصف محاربي البدع بالوهابيين. 3- موقف علماء المالكية من بدعة المولد.
_________
الخطبة الأولى
_________
فقد غدا عمل المولد النبويِّ من العوائد المألوفة عند كثير من العوام، ومن الأعياد الرسميَّة لدى كثير من الملوك والحكام، فاعتقد أكثرهم أنَّه شعيرة من شعائر الإسلام، فإذا هو بدعة شنيعة من بدع غلاة الشيعة الطغام، كما بيَّنته لكم في خطبة من أيَّام، وقد ظنَّ بعض الناس أنَّه لم ينكر هذه البدعة من العلماء سوى الحنابلة دون غيرهم من مذاهب أئمَّة الإسلام، وهذا ظنٌّ باطل يردُّه بشدَّة ما سأورده عليكم عن غير الحنابلة من نقول عن الفقهاء المفتين والموقعين عن ربِّ العالمين أولى النهى والأحلام.
وقبل ذلك ها هنا كلمة لازمة في ردِّ تهمة قائمة، فنحن ـ معشر أهل السنَّة والجماعة ـ طالما وسمنا بأنَّنا وهَّابيُّون بسبب قيامنا برد البدع عمومًا وهذه البدعة المولدية خصوصًا، وهذه النسبة وهابي سمة ينسب إليها كلُّ داع إلى اتِّباع الكتاب والسنَّة ناهج لمنهج السلف الصالح محذِّر من البدع، وهذه النسبة لسنا بأوَّل من نسب إليها من دعاة الحقّ، فقديمًا في زمن الاستعمار نسبت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وعلى رأسهم الإمام العلامة عبد الحميد بن باديس والشيخ الطيب العقبي والشيخ البشير الإبراهيمي، فنسبوا إلى أنَّهم وهَّابيُّون، وكان الواسمون لهم بهذه السمة طائفتان: إحداهما تعمل لإفساد الدين بإفساد الوطن، والأخرى تعمل لإفساد الوطن بإفساد الدين. فالطائفة الأولى هم أهل البدع والضلالة، من أصحاب الطرق وشيوخ الزوايا، ومن ورائهم الطائفة الأخرى من رجال الاستعمار الفرنسي الغارق والغريق في اللائكيَّة. فالاستعمار يخطِّط ويدبِّر، وجماعة الطرق تنشط وتحبِّر.
وكذلك الواسمون لنا اليوم بهذه السمة هم مبتدعة الوقت أفراخ مبتدعة الأمس، القاصدون لإفساد الأديان، واللائكيُّون أفرادًا وجماعات، أفراخُ الاستعمار بالأمس، القاصدون لإفساد الأوطان. فمهلاً يا دعاة الضلالة ويا دعاة الفتنة.
وأنا ـ ولا أعوذ بالله من كلمة أنا ـ أرمي هؤلاء الواسمين لنا بهذه النسبة جميعًا بكلمة سبقت من الشيخ الإمام محمد البشير الإبراهيمي حين رميت جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين من قبل الاستعمار والطرقيين بأنَّها وهَّابية، فما أشبه الرامي بالرامي وما أشبه المرمي بالمرمي، فكان من جواب الشيخ رحمه الله أن قال: "يا قوم، إنَّ الحقَّ فوق الأشخاص، وإنَّ السنَّة لا تسمَّى باسم من أحياها، وإنَّ الوهَّابيِّين قوم مسلمون يشاركونكم في الانتساب إلى الإسلام ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدوده، ويفوقون جميع المسلمين في هذا العصر بواحدة وهي أنَّهم لا يقرُّون البدعة، وما ذنبهم إذا أنكروا ما أنكره كتاب الله وسنَّة رسوله، وتيسَّر لهم من وسائل الاستطاعة ما قدروا به على تغيير المنكر.
أإذا وافقنا طائفةً من المسلمين في شيء معلوم من الدين بالضرورة وفي تغيير المنكرات الفاشية عندنا وعندهم ـ والمنكر لا يختلف حكمه باختلاف الأوطان ـ تنسبوننا إليهم تحقيرًا لنا ولهم، وازدراء بنا وبهم، وإن فرَّقت بيننا وبينهم الاعتبارات؟! فنحن مالكيُّون برغم أنوفكم، وهم حنبليُّون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة، ونحن نُعمل في طريق الإصلاح الأقلام، وهم يُعملون فيها الأقدام.
وما رأيكم في أوروباوي لم يفارق أوروبا إلاَّ مرَّةً واحدة طار فيها بطيَّارة فوقعت به في الهند، فرأى هنديا يصلي، ثمَّ طار بها أو طارت به فوقعت به في مراكش، فرأى مراكشيًّا يصلي، فقال له: أنت هندي لأنَّك تصلِّي، ألا تعدُّون هذا القياس منه سخيفًا؟! إلاَّ تعدُّوه كذلك فقد جئتم بأسخف منه في نسبتنا إلى الوهَّابيَّة" اهـ كلام الشيخ الإبراهيمي رحمه الله.
وفيه الجواب لخصومنا اليوم وراَّث خصوم جمعية العلماء بالأمس، فكما أنَّ البدعة رحم ماسَّة، فإن بين الاستعمار بالأمس وأتباعه اللائكيين اليوم رحمًا موصولة، وما خرج من مشكاة واحدة كان الجواب عليه واحدا.
وإن عادت العقرب عدنا لها وكانت النعل لها حاضرة
أقول الذي سمعتم، والحمد لله أوَّلا وآخرا.
_________
الخطبة الثانية
_________
أهتمُّ الساعةَ بنقل كلام فقهاء المالكيَّة خصوصًا ليعلم أنَّ مذهبهم في حدوث هذه البدعة هو عين مذهب غيرهم من المذاهب الأخرى. فليقل ذوو الأغراض الفاسدة والعقول المختلَّة بعد ذلك: إنَّ المالكيَّة هم عين الوهَّابية!
1- فمن علماء المالكيَّة الإمام تاج الدين الفاكهاني رحمه الله، قال: "لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنَّة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمَّة الذين هم القدوة في الدين، المتمسِّكون بآثار المتقدِّمين، بل هو بدعةٌ أحدثها البطَّالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكَّالون".
2- ومن علماء المالكيَّة الإمام العلامة الأستاذ أبو عبد الله الحفَّار المالكي، وله في ذلك جواب حافل نقله الونشريسي في المعيار المعرب، نختصر منه ما يلي، قال رحمه الله: "ليلة المولد لم يكن السلف الصالح يجتمعون فيها للعبادة، ولا يفعلون فيها زيادةً على سائر ليالي السنة، والخير كلُّه في اتِّباع من سلف، فالاجتماع في تلك الليلة ليس بمطلوب شرعًا، بل يؤمر بتركه".
3- ومن علماء المالكية الشيخ العدوي، فذكر في باب الوصيَّة من حاشيته على شرح مختصر خليل كلام الفاكهاني المتقدِّم وأقرَّه.
4- ومن علماء المالكية المعتمدين في مغربنا الشيخ البناني، فذكر أنَّ من أنواع الوصيَّة بالمعصية إقامة المولد على الوجه الذي كان يقع عليه في زمانه كاختلاط الرجال بالنساء وغير ذلك من المحرَّمات، فماذا لو رأى زماننا؟!
5- ومن علماء المالكية الشيخ محمَّد عرفة الدسوقي، فذكر في حاشيته على شرح الدردير لمختصر خليل كلام البناني المذكور وأقرَّه.
6- ومن علماء المالكية الشيخ الإمام المحقِّق أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله، قال في بعض فتاواه: "إقامة المولد على الوصف المعهود بين الناس بدعة محدثة".
7- ومن علماء المالكية الشيخ العلامة ابن الحاج، صاحب كتاب المدخل، فقد نصَّ فيه على أنَّ عمل المولد من البدع المحرَّمة.
8- ومن علماء المالكية المتأخِّرين بمصر الشيخ المفتي محمَّد عليش المالكي، من علماء الأزهر وكبار فقهاء المالكية في زمانه من نحو قرن، قال في كتابه فتح العلي المالك: "عمل المولد ليس مندوبًا، خصوصًا إن اشتمل على مكروه، كقراءة بتلحين أو غناء، ولا يسلم في هذه الأزمان من ذلك وما هو أشدّ".
معاشر السامعين، هذه نصوص فقهاء المالكية، فهل جئنا ببدع من القول فيما ادَّعينا؟ وإنَّما خصَّصت هذه الخطبة بنقل أقوال فقهاء المالكيَّة ليعلم أنَّهم موافقون لفقهاء المذاهب الأخرى في هذه القضيَّة، وليعلم أنَّ إنكار هذه البدعة الرديَّة لا يختصُّ به فقهاء الحنبليَّة، ولا دعاة الوهَّابيَّة، ولنا وقفة ثالثة نتمُّ فيها في الخطبة اللاحقة إن شاء الله بقية ما وعدتكم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم.
(1/3640)
بدعة عمل المولد
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اتفاق العلماء على بدعية الاحتفال بالمولد. 2- الأصل في الأعياد أنها توقيفية. 3- المعاصي المصاحبة للاحتفال بالمولد. 4- التشبه بالنصارى في عمل المولد.
_________
الخطبة الأولى
_________
إتمامًا لما بدأناه أسوق لكم الأدلَّة الشرعيَّة على تحريم الاحتفال بالمولد النبوي، وأختصر لكم ذلك في سبعة أوجه فإليكموها:
الوجه الأوَّل: أنَّ العلماء متَّفقون على أنَّ عمل المولد بدعة محدثة، ومن قواعد الشرع أنَّ كلَّ بدعة فهي ضلالة، ويجب ردُّها وإنكارها، لقوله : ((من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ)). وتحرير هذا أنَّه لم ينقل عن النبيِّ ولا عن أحد من أصحابه والتابعين لهم في القرون الثلاثة الأولى المفضَّلة أنَّهم خصُّوا هذا اليوم بشيء من العمل أو اتَّخذوه عيدًا، وعدم النقل دليل على الترك، إذ لو فعلوا لنقل، لأنَّ الله تعالى قد عصم هذه الأمَّة من أن تجتمع على كتمان شيء من الدين.
ولا شكَّ أنَّ المقتضي للاحتفال بمولده كان قائمًا، فقد كانوا أقوى الأمَّة حبًّا وإجلالا للنبيِّ ، وكانوا أشدَّ الناس اتِّباعًا له وطاعةً لأمره، ولم يكن يمنعهم من الاحتفال بمولده مانع، ولا يدفعهم عنه دافع، ومع ذلك تركوا إقامته، فهذا الترك منهم هو السنَّة التي يجب اتِّباعها، وضدُّه هو البدعة التي يجب اجتنابها.
والخير كلُّه في اتِّباع من سلف والشرُّ كلُّه في ابتداع من خلف
الوجه الثاني: أنَّ الأصل في الأعياد الشرعيَّة التوقيف من الشارع، فلا عيد إلاَّ ما سنَّه الشارع، ولم يثبت أنَّ الله عزَّ وجل ولا رسوله، أنَّه سنَّ لنا عيدًا سوى عيدين اثنين على مدار العام، وهما عيد الفطر وعيد الأضحى، وعيد ثالث على مدار الأسبوع وهو يومكم هذا يوم الجمعة، فمن أحدث في الدين عيدًا سوى هذه الأعياد الثلاثة فقد استدرك على الله ورسوله، وقد قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وقال: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64].
فمن جاء بعد انقطاع الوحي وذهاب عصر النبوَّة والخلافة الراشدة وانقضاء القرون الثلاثة الأولى الفاضلة من زمن السلف الصالح، وزاد في الدين شيئًا لم يكن، وهو الاحتفال بالمولد النبوي واتِّخاذه عيدًا، فقد لزمه من الباطل أمور بمقتضى نصِّ الآيتين المذكورتين:
أحدها: أنَّ الله لم يكمل لنا دينه ولم يتمَّ علينا نعمته ونسي أن يشرع لنا الاحتفال بعيد المولد، حتَّى جاء هؤلاء العبيديون الطغام فاستدركوا ذلك على الله تعالى.
الثاني: أنَّ الرسول خان فلم يبلِّغ، إذا كان الله قد شرع ذلك.
الثالث: أنَّ الصحابةَ والتابعين وأتباعَهم الذين هم صفوة الأمَّة وخيارُها اجتمعوا على خيانة عظيمة في الدين، وهي كتمان ذلك إن كان الرسول قد بلَّغ.
فهذه ثلاثة أمور لازمة لكلِّ مبتدع، وكلُّ واحد منها قادح في دين قائله، فليختر منها لنفسه ما يشاء.
ومن المنقول الشائع عن الإمام مالك قوله رحمه الله: "من ابتدع في الإسلام بدعةً يراها حسنةً فقد زعم أنَّ محمَّدًا خان الرسالة، لأنَّ الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينا". فأين الناس اليوم من قول مالك؟! وأين مالك من ذلك؟! ومالك ما مالك، وما أدراك من مالك، مالك الذي يُتفقَّه له في هذه الدّيار، لا بقوله وقول أصحابه السابقين، ولكن بما يخالفهم من أقوال المتأخِّرين، ويُفتى بمذهبه في جميع القضايا والأحكام، لا على ما جرت به أصوله ومآخذه، ولكن على ما يناقض ذلك وينابذه، ومن ذلك هذه القضيَّة قضية عمل المولد.
الوجه الثالث: أنَّ اليوم الذي ولد فيه النبيُّ هو بعينه اليوم الذي توفِّي فيه، فالنعمة العظمى التي حصلت بمولده قد أعقبتها الرزية الكبرى التي حصلت بوفاته، فليس الفرح فيه بمولده بأولى من الحزن فيه على وفاته، وبماذا يُفرح والدين الذي بُعث به في غربة وإدبار، والنور الذي أنزل معه في تناقص وانحسار؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
الوجه الرابع: أنَّ يومَ مولد النبيِّ لو كان عيدًا لم يجز صيامه لنهيه عن صيام يوم العيد، ففي الصحيحين عن النبيِّ أنَّه نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى.
وفي مصنَّف ابن أبي شيبة بسند صحيح عن قيس بن السكن قال: مرَّ ناسٌ من أصحاب رسول الله على أبي ذر يوم الجمعة وهم صيام، فقال: (أقسمت عليكم لتفطرنَّ فإنَّه يوم عيد).
وفي صحيح مسلم أنَّ رجلاً سأل النبيَّ عن صوم يوم الاثنين فقال: ((هو يوم ولدت فيه وفيه أنزل عليَّ)). فأخبره بحكمة صيام ذلك اليوم بأنَّه يوم ولد فيه، فإذا وافق يوم مولده يوم اثنين فالسنَّة أن يصوم ذلك اليوم لا أن يفطر فيه، وهذا ينافي جعله عيدًا. أفلا تبصرون؟!
الوجه الخامس: أنَّ الاحتفال بمولد النبيِّ إذا لم يعَدَّ من المواسم الشرعيَّة ولا من الأعياد الدينيَّة فإنَّه لا يخلو من المحرَّمات والمعاصي، ومن أخطرها الشرك بالله تعالى، كتعظيم النبيِّ بالعبادات التي لا يجوز أن تصرف إلاَّ لله تعالى، كدعائه والاستغاثة به وإطرائه بالقصائد والممادح المشتملة على أعظم صور الشرك والإطراء المنهيِّ عنه بقول النبيِّ : ((لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، وإنَّما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله)).
وإذا خلا من الشرك والقربات البدعيَّة فنفس تخصيصه بالقربات الشرعية بدعة، وهو ما يسمَّى عند العلماء بالبدعة الإضافيَّة.
الوجه السادس: أنَّه عند فرض خلوِّ إقامة المولد من جميع البدع الحقيقيَّة والإضافيَّة فإنَّه لا يخلو من تبذير المال في التجمير بالنيران والشموع وحرائق المفرقعات والإسراف في الطعام والشراب، وقد قال رسول الله : ((إنَّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)) رواه البخاري ومسلم.
الوجه السابع: أنَّ إقامة الاحتفالات بالمولد النبوي إذا لم يقصد بها التعبُّد وخلت من جميع الآفات المذكورة فإنَّ فيها تشبُّهًا بالنصارى في إقامتهم الاحتفالات بميلاد عيسى بن مريم عليه السلام. وقد نهينا عن التشبُّه بهم، ففي سنن أبي داود بسند صحيح عن النبيِّ قال: ((من تشبَّه بقوم فهو منهم)). والمشابهة حاصلة بمجرَّد اتخاذ ميلاد نبيِّنا عيدًا، وإن كان إيقاع ذلك الاحتفال على وجه مخالف للنصارى.
فهذه سبعة أوجه، كلُّ واحد منها دليل بنفسه على تحريم الاحتفال بذكرى المولد النبوي، فكيف بها مجتمعة؟!
هذا وإنَّ من تمام البيان والإمعان في إقامة الحجَّة وقطع المحجَّة أن نجيب عن الشبهات التي يتمسَّك بها المجيزون لهذه البدعة الباطنيَّة، والخطبة اللاحقة إن شاء الله هي الموعد.
(1/3641)
شبهات المحتفلين بالمولد النبوي
قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات
مراد وعمارة
باب الوادي
التقوى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بطلان الاستدلال بقوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا. 2- بطلان تخريج ابن حجر والسيوطي لعمل المولد. 3- كل بدعة ضلالة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لا يزال أقوام لم تردعهم الحجج البيِّنات التي أقمناها لبيان حدوث بدعة عمل المولد واتِّخاذه عيدًا، فراحوا يفتِّشون جعبهم الخاوية، فلم يجدوا فيها سوى خيوطٍ واهية كخيوط العنكبوت، بل أوهى، فتعلَّقوا بها وتعلَّقت بهم، كما تتعلَّق الحشرات بحبال العنكبوت، بل الأمر أمرُّ وأدهى، فلا هم نجوا من قبضتها واستحكامها على قلوبهم، ولا هي أغنتهم بشيء في ميدان الحجاج إلاَّ الضجيج واللجاج.
وأنا أعرض لكم جملة شبهاتهم مكتفيًا من الجواب عنها بحسبها وضعف قدرها:
الشبهة الأولى: في قول الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58]، قالوا: فعن عبد الله بن عباس أنَّ رحمة الله في هذه الآية هو النبي.
وهذا من تحميل النص ما لا يحتمله، فإنَّ تفسير الآية: فليفرحوا بالقرآن وبالإسلام. هكذا فسَّرها جميع من فسَّرها من السلف، وهو الثابت عن ابن عباس أيضًا، وأمَّا الرواية التي ذكروها عنه فلا يدرى ما إسنادها مع مخالفتها للثابت عنه، وهو المشهور المطابق لما عليه الجمهور. فمعنى الآية: فليفرحوا بنعمة القرآن وبالإسلام أن جعلهم من أهله.
ومن لطائف خذلان الله لأهل الأهواء والبدع أنَّهم لا يستدلُّون بآية أو حديث صحيح إلاَّ كان حجَّةً عليهم، وكذلك الأمر هنا في هذه الآية، فلو فرضنا أنَّ معنى رحمة الله هو النبيُّ فإنَّ في هذا حجةً عليهم، ألا ترون أنَّ المعنى حينئذ: فليفرحوا أن جعلهم من أتباع نبيِّه، وهو الرحمة المهداة للاهتداء والاتِّباع، فلا يخلو إمَّا أن يكون الفرح به فرحًا بذاته فقط أو باتِّباعه، فالأوَّل لا ينفع مخالفه العاصي لأمره، والثاني فأفرح الناس به أحرصهم على اتِّباع سنَّته، كما في حديث أبي هريرة لمَّا سأل النبيَّ : من أسعد الناس بشفاعتك، فأخبره النبيُّ أن لا أحد أولى بهذا السؤال منه لما رأى من حرصه على الحديث. فأفرح الناس بالنبي أكملهم اتِّباعًا لسنَّته وهديه، ولم يكن من هديه ولا من هدي أصحابه الاحتفال بمولده، فذلك مناف للفرح به، فتأمَّلوا.
الشبهة الثانية: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قد ظهر لي تخريجها ـ أي: بدعة المولد ـ على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أنَّ النبيَّ قدم المدينة فوجد أهلها يصومون يوم عاشوراء فسألهم، فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجَّى موسى، فنحن نصومه شكرًا لله تعالى. فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معيَّن من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كلِّ سنَة".
وهذا قاله ابن حجر بحثًا لا تقريرًا، فليفهم، فكأنَّه يتكلَّم على لسان من يجيز ذلك، ولذلك صرَّح في أوَّل بحثه أنَّ عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح.
والجواب أن نقول: إن هذا المعنى لو كان صحيحًا لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين وهم أعمق الناس علمًا وأصوبهم رأيًا. فهذا ليس تخريجًا على السنَّة، بل هو خروج عليها وعلى هدي السلف.
وهذا جار على قاعدة في العلم مقرّرة، يغفل عنها كثير من القرون المتأخِّرة، وهي أنَّ كلَّ نصٍّ شرعيٍّ لم يثبت عن السلف أنَّهم عملوا به على حال، فما زعمه المتأخِّرون دليلاً على تلك الحال فليس دليلاً، إذ لو كان دليلا لم يعزب عن السلف مجتمعين ثم يعلمه الخلف متفرِّقين.
وقد ردَّ السيد رشيد رضا على هذه الشبهة في فتاواه ردًّا قويًّا لا يتَّسع المجال لنقله، فنكتفي بهذه الإحالة عليه.
الشبهة الثالثة: قال السيوطي رحمه الله وغفر له: "قد ظهر لي تخريجه ـ أي: عمل المولد ـ على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أنَّ النبيَّ عقَّ عن نفسه بعد النبوَّة، مع أنَّ جدَّه عبد المطَّلب قد عقَّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرَّةً ثانية، فيحمل ذلك على أنَّ الذي فعله النبيُّ إظهار للشكر على إيجاد الله إيَّاه رحمة للعالمين، وتشريع لأمَّته كما كان يصلِّي على نفسه، لذلك فيستحبُّ لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات".
الجواب: الجلال السيوطي على جلالته فهو من أنصار هذه البدعة وذلك من زلَّته، ويكفي في سقوط هذا التخريج أنَّه بناء عاطل على أساس باطل، أمَّا كونه بناء عاطلاً فلأنَّه يجري عليه ما تقدَّم في تخريج ابن حجر، ويزاد هنا بأنَّ أساس البناء باطل، لأنَّ الحديث الذي بنى عليه هذا التخريج حديث ساقط ضعيف باتِّفاق الحفَّاظ، والسيوطي خاتمتهم، فما باله تخلَّف هنا عنهم؟!
_________
الخطبة الثانية
_________
الشبهة الرابعة: ما ذكره ابن الجزري في كتابه "عرف التعريف بالمولد الشريف" قال: "قد رئي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار، إلاَّ أنَّه يخفَّف عنِّي العذاب بإعتاقي لثويبة عندما بشَّرتني بولادة النبيِّ وبإرضاعها له. فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمِّه جوزي في النار بفرحه ليلة مولد النبيِّ به، فما حال المسلم الموحِّد من أمَّة النبيِّ يسرُّ بمولده".
وذكر الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه "مورد الصادي في مولد الهادي" أنَّه: "قد صحَّ أنَّ أبا لهب يخفَّف عنه عذاب النار في مثل يوم الإثنين لإعتاقه ثويبة سرورًا بميلاد النبيِّ ".
الجواب: أنَّ هذا الخبر مرسل، كما بيَّنه الحافظ في الفتح، وعلى فرض ثبوته فهو رؤيا منام، لا تثبت بمثلها الأحكام.
الشبهة الخامسة: قالوا: إنَّ عمل المولد وإن كان في الأصل بدعة فهو بدعةٌ حسنة، لأنَّه فعله أناسٌ صالحون، وقد قال ابن مسعود: (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن). قالوا: وقد صحَّ عن النبيِّ أنَّه قال: ((من سنَّ في الإسلام سنَّةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء)).
الجواب أن يقال: إنَّ تقسيم البدعة إلى سيِّئة وحسنة مصادمٌ لقوله : ((كلُّ بدعة ضلالة)). فمن قسم البدعة إلى حسنة وسيِّئة فقد زعم أن ليس كلُّ بدعة ضلالة، لأنَّ منها ما هو حسنٌ، وكفى بهذا سلبًا للعموم الظاهر المراد بتلك الكلمة الجامعة من رسول الله. وكلام ابن مسعود لا يدلُّ على هذا التقسيم، وإنَّما معنى كلامه: أنَّ ما أجمع على استحسانه الصحابة فهو عند الله حسن، هكذا فسَّره العلماء كابن حزم وابن القيم والشاطبي وغيرِهم.
وقضيَّة عمل المولد لم يستحسنها الصحابة ولا التابعون ولا أتباعهم، ولا أحد من الأئمَّة المتبوعين ولا أصحابهم المفتين، وإنَّما استحسنه طائفة من آخر المتأخِّرين، وهم دون المتقدِّمين علمًا وفضلا.
وأمَّا الحديث المذكور فسبب وروده يبيِّن المراد منه ويوضِّحه، ومعناه: من عمل بسنَّة ثابتة أو أحياها، وليس المراد من عمل بسنَّة اخترعها، أو عمل بسنَّة محدثة مبتدعة.
فمن زعم أنَّ الاحتفال بالمولد بدعة حسنة فقد ردَّ على النبيِّ قوله: ((كلُّ بدعة ضلالة)). وإن أراد أنَّها مستثناة من هذا العموم فليس معه من الأدلَّة ما يخرجها عنه، وأنَّى لهذه البدعة أن تكون حسنةً وهي من اختراع العبيديِّين غلاة الشيعة الباطنية؟!
(1/3642)
عقوبة إزهاق النفس
العلم والدعوة والجهاد, فقه
الحدود, محاسن الشريعة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الشريعة الإسلامية بحفظ النفس. 2- سبب نزول قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً. 3- بيان كفارة قتل الخطأ وذكر شيء من أحكامها. 4- الإشارة إلى صور مختلفة تدخل تحت قتل الخطأ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أحاط الله تعالى النفس الإنسانية بسياج متين، فأوجب على صاحبها أن يحفظها، وحرم الاعتداء عليها أو قتلها بغير حق، ورتَّب الجزاء العظيم والعقاب الأليم لمن أراق دم مسلم عامدًا متعمدًا وأزهق روحَه دون سبب، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، ونفى سبحانه وتعالى أن يتعمد المؤمن قتل أخيه، ويقصد ذلك بالإعداد والترصد له، لكن ذلك يحدث منه على سبيل الخطأ، فالكل خطّاء، ومن تلك الأخطاء قتل المؤمن لأخيه المؤمن خطأ، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا [النساء:92].
وقد ذكر الإمام الطبري رحمه الله أنها نزلت في رجل قتله أبو الدرداء ، وذلك أن النبي بعث أبا الدرداء في سرية، فعدل إلى أحد الشعاب لحاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف، فقال الرجل: لا إله إلا الله، فضربه أبو الدرداء بالسيف فقتله، وساق غنمه وأتى بِها إلى رفقته، ثم وجد في نفسه شيئًا من فعله ذلك، فلما عاد إلى المدينة أخبر النبي بما كان مع الرجل، فقال له : ((ألا شققتَ عن قلبه؟)) فقال أبو الدرداء: يا رسول الله، إنما قالها ليتقي السيف. فقال : ((لقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه، فكيف بلا إله إلا الله؟!)) فقال: كيف بي يا رسول الله؟ فقال: ((فكيف بلا إله إلا الله؟!)) ورددها ثلاثًا، فقال أبو الدرداء: حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. ونزلت هذه الآية. وفيها عرّف الله تعالى عباده ما يجب في قتل الخطأ من الكفارة والدية، وقد أجمع العلماء كافة على وجوب الكفارة على كلِّ من قتل مؤمنًا خطأ، أيًا كان القاتل أو المقتول ذكرًا أو أنثى، وسواء كان القتلُ مباشرة أو بالتسبب.
وخصال كفارة القتل كما وردت في الآية تنحصر في شيئين: الأول: عتق رقبة مؤمنة، والثاني: من لم يستطع أن يعتق وجب عليه أن يصوم شهرين متتابعين كفارة لخطئه في قتل من قتل.
وليس لقتل الخطأ كفارة غير ذلك كما في الكفارات الأخرى من الإطعام؛ لأن الله تعالى لم يذكر في هذا المقام إلا العتق والصيام.
وإذا لزمت المسلم هذه الكفارة وابتدأ الصيام فإن الشهر يعتبر بالأهلة؛ لأنه قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين يومًا، فمن ابتدأ الصيام في أول شهر وكان الشهر ناقصًا والشهر الذي يليه تامًا كاملاً فإن صومه صحيح، ويصدق عليه أنه صام شهرين متتابعين، وأدى الواجب الذي عليه، قال : ((إن الشهر يكون تسعةً وعشرين، ويكون ثلاثين)) متفق عليه.
ولو ابتدأ في الصيام ثم مرض أو دعته الضرورة للسفر أو كانت امرأة فتخلّل صيامَها دورتها الشهرية لم يقطع ذلك كله التتابع، بل يستمر في صيامه بعد زوال العذر، ويكمل بقية الصيام.
ويدخل تحت قتل الخطأ صور عديدة، يجدر التنبيه عليها، منها تفريط بعض قائدي السيارات في تفقد مركباتِهم، وقيادتهم لها دون تفحّص أجزائها ومعرفة صلاحية قطعها للاستعمال، كالإطارات والأبواب والإنارة وغير ذلك من هياكلها الأخرى التي يؤدي العيب والخلل فيها إلى تعريض أرواح الركاب أو المشاة للخطر في أي لحظة.
فإذا حصل شيء من ذلك فإنه تفريط واضح من قائد السيارة، يتحمّل كل ما يترتب عليه، فلو كان الحادث بسبب انفجار أحد الإطارات التي لم يستبدلها لقرب تلفِها أو لنوم السائق أو عدم تركيزه أو انشغاله أثناء القيادة أو سرعته الزائدة وعدم التزامه بأصول القيادة السليمة الصحيحة، فنتج عن ذلك وفاة بعض الركاب أو غيرهم فإنه يجب عليه أن يَكَفِّرَ بعدد الأشخاص الذين تسبب في وفاتهم.
كما أن الحادث لو وقع بسبب التصادم مع سيارة أخرى، ونتج عنه بعض الوفيات، وثبت بعد ذلك أن كلاً من السائقين قد أخطأ بنسبة معينة، فإن على كل واحد منهما كفارة، عن كل نفس توفّيت في الحادث، ولا تأثير لاشتراكهما أو اشتراك غيرهما في سبب الوفاة، فإن الكفارة كلٌّ لا يتجزأ.
وله أن يصوم شهرين متتابعين، ثم يتوقف بعد انقضائهما، ويبتدئ بعد ذلك بصيام الكفارة الأخرى، وهكذا حتى ينهي عدد الكفارات اللازمة في ذمته، ومن الحالات التي تحدث كثيرًا في التسبب في القتل ولزوم الكفارة ما يحدث من بعض الأمهات حين تُهمل طفلها الصغير، فلا تحتاط في المحافظة عليه، وتفرط في ملاحظته، فقد تنشغل في عمل المنزل وتتركه، فيبدأ الطفل بالحركة واللعب والانطلاق للعبث بما حوله، وقد يكون فيه هلاكه، كأدوات الكهرباء ومصادرها، أو حمام السباحة أو حفرة يقع فيها أو أدوات حادة، فيموت بسبب ذلك، أو تترك طفلها الصغير مع أخيه فيؤذيه ويعرضه للموت والهلاك.
ومن حالات قتل الخطأ ما يقع من البعض عند إرادته ركوب السيارة وقيادتها، فلا يتفقد ما حولها؛ إذ قد يكون بعض الأطفال مختبئين أو يلعبون خلف السيارة، فيدهسهم ويتسبب في وفاتهم، وغير ذلك من صور القتل الخطأ الأخرى التي تجب فيها الكفارة التي ذكرها الله تعالى بقوله جل شأنه: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا إلى أن قال سبحانه: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:92]
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3643)
ترويع الآمنين
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا الأسرة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حرص الشريعة الإسلامية على حفظ النفس وصيانتها. 2- النهي عن ترويع المسلم أو إدخال الرعب عليه بأي وسيلة. 3- نَهي النبي عن الإشارة بالسلاح والحكمة منه. 4- أمر النبي بأخذ الحيطة والحرص على البعد عن الأسباب المؤدية إلى إيذاء المسلمين. 5- الإكثار من المزاح وتجاوز الحدود المسموح بها يوقع الإنسان في مخالفة الشرع.
_________
الخطبة الأولى
_________
حرصت الشريعة الإسلامية على حفظ النفس وصيانتها وحمايتها من الاعتداء عليها، وحتى ترويعها، وتجنيبها كل الأضرار التي تفتك بها، ووضعت كافة الوسائل المؤدية إلى المحافظة عليها.
فحرّم المصطفى تخويف المسلم وترويعه، ونهى عن إدخال الرعب عليه بأي وسيلة، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسيرون مرة مع النبي في سفر، فاستراحوا ونام رجل منهم، فقام بعضهم إلى حبل معه فأخذه، وأمَرَّهُ على جسد أخيه النائم ففزع، فقال : ((لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا)) رواه أبو داود. وروى ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((من أخاف مؤمنًا كان حقًا على الله أن لا يؤمّنه من أفزاع يوم القيامة)) رواه الطبراني.
ونَهى عن الإشارة بالسلاح وقال: ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه، حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) رواه مسلم. فهذا تحذير من الإشارة بأي آلة مؤذية قد تؤدي الإشارة بِها إلى القتل، كالسكين والآلات الأخرى الحادة، حتى لو كانت الإشارة مجرّد مزاح، وفي هذا تأكيد على حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه.
وقد بيَّن السبب في ذلك النهي، وهو أن إشارته تلك ومزاحه على أخيه بتلك الآلة قد يتحوّل إلى أمر حقيقي، فيحدث القتل أو الجرح وهو لا يقصده، قال : ((لا يشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من حفر النار)) متفق عليه.
قال الإمام القرطبي رحمه الله: "لعنُ النبيِّ للمشير بالسلاح دليل على تحريم ذلك مطلقًا، جادًّا كان أو هازلاً، ولا يخفى وجه لعن من تعمّد ذلك؛ لأنه يريد قتل المسلم أو جرحه، وكلاهما كبيرة، وأما إن كان هازلاً فلأنه ترويع مسلم، ولا يحل ترويعه، ولأنه ذريعة وطريق إلى الجرح والقتل المحرمين".
وقال الإمام النووي رحمه الله: "في الحديث تأكيد على حرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه وتخويفه والتعرض له بما قد يؤذيه. وقوله : ((وإن كان أخاه لأبيه وأمه)) مبالغة في إيضاح عموم النهي في كل أحد، سواء من يتهم فيه ومن لا يتهم، وسواء كان هذا هزلاً ولعبًا أم لا؛ لأن ترويع المسلم حرام بكل حال، ولأنه قد يسبقه السلاح" انتهى.
وفي سنن النسائي من حديث أبي بكرة أن رسول الله قال: ((إذا أشار المسلم على أخيه المسلم بالسلاح فهما على جرف جهنم، فإذا قتله خرَّا جميعًا فيها)).
كما أمر بأخذ الحيطة والحذر والحرص على البعد عن الأسباب المؤدية إلى إيذاء المسلمين وإلحاق الضرر بهم، فعن أبي موسى أنه قال: ((إذا مر أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نبل فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها؛ أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء)) رواه البخاري ومسلم. وهذا تأكيد منه على الاحتياط في هذا الأمر، والحفاظ على نفس المؤمن، والابتعاد عن إيذائه بأي شيء.
وفي حديث جابر قال: نَهى رسول الله أن يُتعاطى السيف مسلولاً. رواه الترمذي. وورد أنَّ رسول الله أتى على قوم يتعاطون سيفًا مسلولاً فقال: ((لعن الله من فعل هذا، أوَليس قد نهيت عن هذا؟!)) ثم قال: ((إذا سَلَّ أحدكم سيفه فنظر إليه فأراد أن يناوله أخاه فليغمده، ثم يناوله إياه)) رواه أحمد. وهذا كله من باب الاحتياط، حتى لا يؤدّي ذلك إلى إصابة أحد بعضوٍ من أعضائه وجرحه وإلحاق الضرر به.
لذلك ينبغي على المسلم أن يأخذ بهذه التوجيهات النبوية، ويستنير بِها، ويطبقها في تعامله مع إخوانه، وليتفقد كل آلة تؤدي عند الخطأ في استعمالها إلى إلحاق الضرر بالآخرين، وليحرص عند استخدامها أن لا يكون ذلك في جموع غفيرة، كما قد يحدث ذلك في مناسبات الأعياد والأفراح ونحوها، فكم من مخالفة لذلك التوجيه النبوي الذي أكد على الاحتياط فيه، كم أدت مخالفته إلى الندم والحسرة، وبالأخص حينما يترتب على ذلك إزهاق نفس بريئة أو إعاقة سويّ، أو التسبب في فقد عضو من أعضائه.
وليحذر الجميع من الإفراط في المزاح بتلك الآلات، فإن الإكثار من المزاح وتجاوز الحدود المسموح بها يوقع الإنسان في مخالفة، ويرمي به إلى ارتكاب جناية يندم بعدها على إفراطه في مزاحه، فإن كثيرًا من المزاح يورث العداوة والبغضاء، ويؤدي إلى قطع العلاقات الأخوية والصلات الوثيقة بين المتواصلين. وكم من علاقة وطيدة ورابطة وثيقة جمعت بين متآلفين، وقربت بين متباعدين، أدى المزاح إلى فصمها وفرق بين أفرادها.
فالعاقل من يكون متأنيًا في أفعاله وأقواله، نائيًا عما يؤدي إلى ابتعاد إخوانه وأصدقائه.
أَكرم جَلِيسك لا تمَازح بالأَذَى إنَّ المزاح ترى به الأضغانُ
كم من مزاح جذَّ حبل قرينه فتجذمت من أجله الأقرانُ
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3644)
السلامة المرورية
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توالي نعم الله تعالى على عباده. 2- السيارات من أعظم النعم في هذا العصر لما لها من الفوائد. 3- السيارة من منافع الحديد التي أخبر الله تعالى عنها في كتابه. 4- السيارة وسيلة ينبغي قصر الانتفاع بِها على الجوانب الإيجابية. 5- على قائد السيارة أن لا يخرج عن القواعد الصحيحة حين القيادة. 6- الآداب الإسلامية للطريق. 7- على كل سائق الالتزام بآداب القيادة.
_________
الخطبة الأولى
_________
تتوالى نعم الله تعالى على عباده في كل وقت، وتنهمر عليهم في كل أوان وحين، يعجز المرء عن حصرها، ويضعف عن استقصائها وعدِّها، قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
وبين وقت وآخر تظهر لنا المكتشفات الحديثة وسائل جديدة تعينُ الإنسانَ على تسهيل أموره وقضاء حاجاته وتلبية رغباته. ولا شك أن المسلم الواعي يختار من ذلك ما لا يتعارضُ مع أهداف الشريعة ومقاصدها، ويأخذ ما يتوافق مع أصولها ومبادئها.
ومن أعظم النعم التي يسَّرها الله تعالى وسخَّرها للبشرية في هذه الأزمنة ما هيأه جل وعلا من ظهور السيارات وتسخيرها لخدمة الإنسان، بأشكالها المتعددة وأحجامها المختلفة، وهي من المخلوقات التي أشار إليها القرآن الكريم في قول الحق جل وعلا: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].
فكان من فوائدها أن أراحت الإنسان من عناء السفر، وأزاحت عنه كثيرًا من المشاق والمتاعب التي كان يواجهها في رحلاته وتنقلاته. كما أن السيارات قربت المسافات، واختصرت الأوقات، ووفرت كثيرًا من المجهودات.
وذلك شيء من المنافع التي تُجنى من الحديد، والتي ذكرها القرآن الكريم في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ [الحديد:25].
والسيارة وسيلة ينبغي قصر الانتفاع بِها على الجوانب الإيجابية، وأداة حَرِيٌ بصاحبها أن يجعلها مجلبةً للخير والنفع، وأن لا تكون مفتاح شر أو مصدر قلق أو وسيلة إزعاج أو أذى يضر بِها نفسه وغيره.
إن هذه المركبة لم تُصَنَّع إلا لخدمة الإنسان ونفعه، وهي كذلك إن أحسن استعمالها والتزم الطريقة المثلى في قيادتها، والمنهج السليم في استخدامها، والأدب المروري في تنقلاته عليها.
إن على قائد السيارة أن لا يخرج عن القواعد الصحيحة حين يقود سيارته، وعليه أن يلتزم بأنظمة المرور التي وضعت في الأصل لحماية السائق نفسه من الأخطار التي قد تناله عند ارتكابه أدنى مخالفة، كما أنها وضعت لحفظ حقوق الآخرين من المشاة وقائدي السيارات الأخرى، حتى لا يصيبهم أذى أولئك السائقين المخالفين الذين لا يعبؤون بالقواعد والتعليمات، ولا يعيرونها أدنى اهتمام، إذ ترى المخالفات الصريحة والتجاوزات المفرطة منهم وهم يقودون سياراتهم، وبالأخص حين يغيبون عن أعين رجال المرور.
وهذا ليس من الأدب الإسلامي في شيء، فإن ديننا يحث أفراده على احترام مشاعر الآخرين ومعاملتهم بالطريقة التي يرضاها المرء لنفسه، يودّ لهم ما يودّ لشخصه من الخير والنفع، ويكره لهم ما يكرهه لها من الشر والأذى والضرر، وقد قال الله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال : ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه البخاري.
وقد رسم لنا المصطفى ووجهنا وحثنا على الالتزام بآداب الطريق ومراعاة الآداب العامة فيه، فذكر من تلك الآداب كف الأذى، وذلك يحتم على السائق وهو يقود سيارته أن يعمل بهذا التوجيه المحمدي، فلا يؤذي إخوانه قائدي السيارات الأخرى، أو المشاة بمضايقتهم، أو تعريض أرواحهم للخطر.
فهو حين يقود سيارته يلتزم بالسرعة المحددة التي حَدَّدَتها الجهات المختصة لسلامة الجميع، ورسمتها لكل سائق حتى يحفظ نفسه، ويحفظ غيره ممن يرافقه أو يستخدم الطريق التي يسلكها.
والسائق الذي يسير في طريقه باعتدال واتزان وتعقل وتروٍّ وهو يمسك بمقودِ سيارته سائق مثالي، يحسب ألف حساب لأي خلل يصدر منه أثناء القيادة، قد تكون عاقبته وخيمة ونتائجه سيئة أليمة، وهو يتوقع المفاجآت من الآخرين أثناء قيادته، ولذلك لا يرضى أن يوقع نفسه في موقف لا يحسد عليه.
كما أنه يدرك أن أي عبث يمارسه وهو يقود السيارة قد يؤدي إلى اختلال سيرها، وعدم قدرته على التحكم بها، فينتج عنه اصطدامها بأي جسم آخر، فيلحقه الضرر بنفسه وسيارته، فضلاً عن تضرر بعض المشاة أو الركاب أو إصابتهم في أجسادهم أو ممتلكاتهم.
إن السائق الفطِنَ ذا الفكر الناضج والفهم السليم والشعور الإسلامي المتمكن في قلبه ـ الذي استقاه واستلهمه من قوله : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه)) رواه مسلم، وقوله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم ـ هو السائق العاقل الذي أيقن أن مخالفته في قيادة سيارته قد يتمخض عنها إهدار أموال أو إتلاف أعيان أو ترمل نساء أو تيتم أطفال أو تفكيك أُسر أو إصابة آخرين بإعاقات كاملة أو جزئية، وتصَّور تلك النتائج السلبية المفزعة، والعواقب الوخيمة والمفجعة، التي ترتبت على المخالفات المرورية، والاستهتار بآداب السير، وعدم المبالاة بالتعليمات المستمرة والتوجيهات المتكررة التي تصدرها الجهات الأمنية، والحريصة على سلامة أفراد المجتمع والحفاظ على مقدراته وممتلكاته.
إن على كل واحد منا أن يلتزم وهو يقود سيارته بآداب القيادة، وأن يحافظ على نفسه ومن معه ومن هم في الطرقات التي يسلكها إخوانه.
إن التؤدة والتأني في السير من الأمور المحمودة ومن الصفات المرغوبة، قال تعالى: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3645)
التزام قواعد المرور
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شمولية دين الإسلام لجميع مناحي الحياة. 2- جملة من الأخطاء والمخالفات الشائعة بين سائقي السيارات. 3- قيادة السيارة بهدوء واتزان. 4- من الأضرار المترتبة على القيادة بسرعة عالية. 5- على كل سائق التحلي بالآداب الإسلامية عند القيادة. 6- وجوب مراعاة المشاة عند قيادة السيارة. 7- عادات سيئة ينبغي للسائق تجنبها.
_________
الخطبة الأولى
_________
ورد عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((من أخرج من طريق المسلمين شيئًا يؤذيهم كتب الله له به حسنة، ومن كتب له عنده حسنة أدخله بِها الجنة)) رواه الطبراني.
الدين الإسلامي دين شامل، لم يدع شيئًا يتعلق بشئون أفراده في حياتهم ومعاملاتهم إلا بينه وأوضحه لهم، وعرفهم بأصول التعامل فيما بينهم، والمسلك السليم الذي ينبغي أن يتبعه كل واحد منهم في حياته، في علاقته مع إخوانه وأصدقائه، وأن يحسن أسلوبه في حديثه مع الآخرين، ويتحلى بحسن الخلق في كل قول وفعل حتى يكون محبوبًا، وأن لا يرتكب عملاً مشينًا أو مخالفة صريحة متعمدة يتضرر منها إخوانه أو جيرانه أو أفراد مجتمعه.
ولو تأملنا الحال في تعامل بعض الناس لوجدنا بعض الأخطاء التي ترتكب من قبل البعض بقصد أو بغير قصد، مما يتعلق بالسير في الطرقات العامة والشوارع المخصصة لسير السيارات أو المشاة.
فالأصل أن يسلك الطريق بسيارته بهدوء واتزان، وأن يراعي أحوال المشاة ومن يسلك الشارع من إخوانه السائقين بسياراتهم، وأن يتجنب الوقوع في أي مخالفة قد تكون سببًا في إلحاق الضرر بالآخرين أو إيذائهم، وإذا كانت النصوص الشرعية تبين أن إزالة الأذى وإماطته عن الطريق يكتب به الأجر والثواب للمؤمن فإن إلحاق الأذى والضرر بالآخرين يكون سببًا في تحمل الفاعل للإثم ووقوعه في الذنب.
فبعض السائقين قد يقود سيارته بسرعة هائلة في الشوارع المزدحمة وفي وسط المدن، حيث تكتظ الشوارع بالسيارات والمشاة، مما يتسبب في كثير من الأحيان بوقوع الاصطدام أو إزهاق نفس بريئة، فيتسبب في أذية نفسه بإتلاف سيارته وتحمله مبالغ لإصلاحها وإعادتها لحالتها الأولى، كما يتسبب في تحميل الآخرين تكاليف إصلاح سياراتهم، أو يكون ذلك عليه إذا كان هو المتسبب الرئيس فيه.
كما لا ننسى أنه حين تُزهق روح إنسان بسبب سرعته هذه فإنه يتسبب في إدخال الحزن واليتم والترمل لأفراد أسرة ذلك الذي تسبب في وفاته، بسبب سرعته الجنونية وعدم التزامه بآداب قيادة السيارة والتمهل في مشيه وسيره. ولا شك أن الحكم الشرعي في ذلك أنه يكون ضامنًا لكل ما يترتب على التلف الذي وقع بسبب سرعته، سواء كان تلفًا في آلة أو مركبة أو إزهاق نفس أو إلحاق ضرر بإنسان كإصابته بجروح أو كسور أو نحو ذلك.
ومما يتصل بهذا الجانب المخالفات المرورية التي يرتكبها كثير من السائقين، من عكس خط السير أو تجاوز إشارة المرور الحمراء أو الوقوف في الأمكنة والمواقف التي يُمنع الوقوف فيها أو غير ذلك من المخالفات الأخرى، وكم رأينا من مشاهد محزنة وصور دامية لحوادث ذهب ضحيتها الأنفس البريئة، أو كانت سببًا في إصابة البعض بإعاقات تامة أو جزئية، والسبب في ذلك قلة الوعي لدى البعض في قيادة السيارات والمركبات، أو إصرار بعض السائقين على عدم التنازل عن شيء من حقوقهم المؤقتة في القيادة التي يكتسبونها أثناء السير، كأفضلية المرور والأولوية في استخدام الطريق ونحو ذلك، مما يؤدي إلى وقوع الحوادث.
إن قائد السيارة ينبغي عليه مراعاة عدة أمور أثناء القيادة، فعند ركوبه يبتدئ بالأدب الإسلامي الذي وجه إليه، وهو ما ورد أن عليًا أُتي بدابة ليركبها، فلما وضع رجله في الركاب قال: ((بسم الله)) ، فلما استوى على ظهرها قال: ((الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون ))، ثم قال: ((الحمد لله)) ثلاث مرات، ثم قال: ((سبحانك إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)) ، ثم ضحك عليٌ فقيل له: يا أمير المؤمنين، من أي شيء ضحكتَ؟ فقال: رأيت النبي فعل مثل ما فعلتُ ثم ضحك، فسألته فقال : ((إن ربك سبحانه يعجب من عبده إذا قال: اغفر لي ذنوبي، يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيري)) رواه الترمذي وصححه.
وإن كان مسافرًا دعا بدعاء السفر المشهور المعروف، وكذلك إذا خرج يدعو بالدعاء الآخر الذي رغب فيه المصطفى بقوله: ((من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ : بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيتَ ووقيتَ وهديتَ، وتنحى عنه الشيطان)) رواه الترمذي، وهذا عام في كل من خرج من بيته.
وعليه أن يتفقد سيارته من أي خلل قد يكون فيها؛ لأن المركبة إذا كانت غير صالحة للاستعمال بسبب خلل في بعض أجزائها قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بقائدها وبالآخرين، والنبي قال: ((إذا مَرَّ أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نبل فليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها، ثم ليأخذ بنصالها؛ أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء)) رواه مسلم.
وهذا تأكيد منه لأمته بعدم إيذاء الآخرين بشيء من الآلات المستعملة في ذلك الوقت كالسهام، وفي معناها كل شيء يملكه الإنسان يؤدي استعماله إلى إلحاق الضرر بالناس، والسيارات من أكثر ما يستخدم في هذا الوقت، فينبغي أن يكون الاستعمال بالطريقة المثلى الصحيحة، والتي لا تؤدي إلى إيذاء الآخرين وإضرارهم.
وعلى السائق أن يلتزم بأنظمة المرور وقواعده التي وضعت لسلامة السائق وسلامة غيره من إخوانه الذين معه، أو الذين يقودون سياراتهم، أو يعبرون الطريق، أو يمشون في الشوارع والممرات، وقد قال : ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه أحمد.
كما عليه أن يراعي غيره من إخوانه المشاة عند قيادته السيارة، فإذا رأى أحدًا يريد عبور الطريق فليعطه الفرصة ليمر، وليقف حتى يتخطى من أمامه، فإن ذلك من تفريج الكربات، وقد قال : ((من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)) رواه مسلم. وينبغي له أن يشكر السائق على وقوفه له؛ لأن ذلك من باب المكافأة، وقد قال : ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) رواه أحمد.
ومن العادات التي ينبغي للسائقين نبذها تلك التي يقوم بِها البعض ـ وهم قلة ـ حين يقف اثنان كل واحد منهما بسيارته وسط الطريق يتحدثان، أو يسلم أحدهما على الآخر، ووراءهما رَتَلٌ من السيارات، مما يتسبب في عرقلة حركة المرور، وذلك من الأذى المنهيّ عنه، ((والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) رواه البخاري.
فاحرص أن تكون مثاليًا وأنت تقود سيارتك، وتذكّر دائمًا أن هذه المركبة نعمة تفضّل الله بِها عليك، وهيّئها لك لتقضي بِها حاجاتك، أو وسيلة تكسب به معيشتك، فاستخدمها للغرض الذي وُجِدت من أجله، ولا تجعلها سببًا في إلحاق الضرر بك أو الأذى بإخوانك الآخرين، صحبتك السلامة، وسر دائمًا في أمان الله وحفظه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/3646)
مسؤولية رجل الأمن
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان الرسل للطريق الموصل إلى رضوان الله تعالى. 2- الطريق إلى الجنة محفوف بالمشاق والعوائق. 3- دور الشيطان في إفساد الإنسان. 4- التحذير من مقارفة المعاصي صغيرها وكبيرها. 5- الغاية من وجود الشرطة حفظ الأمن والاستقرار. 6- نظام العسس القديم كان النواة لنظام الشرطة. 7- أهم الأعمال المنوطة برجال الشرطة. 8- على كل فرد في المجتمع أن يعتبر نفسه رجل شرطة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد أوجد الله تعالى الإنسان في هذه الحياة، وخلقه لحكمةٍ جليلة، وغاية سامية ونبيلة، بينها الله تعالى في كتابه الكريم، فقال جل شأنه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، ولإقامة الحجة على خلقه أنزل الخالقُ جل في علاه الكتب وأرسل الرسل، ليبلغوا للناس رسالته، قال تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:165]، فبين الرسلُ للناس المنهج الواضح الذي يجب عليهم سلوكه والطريق الصحيح الذي ينبغي الالتزامُ به، حتى يفوزوا بموعود الله تعالى لهم.
إلا أن الوصول إلى ذلك الهدف ـ وهو الفوز بالجنة والرضا من الله تعالى ـ لا يمكن لأيّ واحدٍ أن يصل إليه بكل سهولة، بل لا بد من جدٍّ واجتهاد وعملٍ ومثابرة وصبر دؤوب على أداء الطاعةِ التي كُلِّفَ بها والتزامٍ تامٍّ بجميعِ الأوامر، واجتنابٍ دائمٍ لجميعِ المحرمات التي حذر الشارع من الوقوع فيها والعمل على كبح جماحِ النفس عن السقوط في مهاوي الرّذيلة والفساد.
ونفس المسلم وإن كانت حريصة على الالتزام بكل ما ذكر إلا أن هناك من أخذ على نفسه العهد أن يوقع الأمة جميعها في المحظورات، ويُحسِّن لها المعاصي والمنكرات، ويصدها عن فعل الخيرات، ويزين لها القبيح، ويريها الحق باطلاً والباطل حقًا، ألا وهو إبليس اللعين، الذي التزم أن يغوي هذه الأمة جميعها، قال تعالى حكاية عنه: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ [الأعراف:16، 17]، وقال جل شأنه: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39].
من هنا تبدأ النفس الإنسانية وتفكر في الخروج عن جادة الصواب التي رسمها الشارع جل وعلا، فتتولد فيها النزعةُ إلى الشر والفساد، فتشرع في الانحراف والزيغ، ويظهر فيها الميلُ إلى العنف وإذكاء نار الفتنة وحب التسلطِ والقهر، فإذا اتصفت بهذه الصفات انحرفت عن الطريق المستقيم، وخرجت عن الوظيفة الأساسية التي خُلِقت من أجلها، فتتفشى في المجتمع ظاهرة لم تكن فيه، وهي زرع القلق والاضطراب وإظهار عدم الاستقرار بين أفراده، فمتى وقعت السرقة، وانتشر القتل، وفشت الفاحشةُ بجميعِ أنواعها، وارتكبت المحرمات كبيرها وصغيرها أحدث ذلك كلُّه نوعًا من الخلل في المجتمع وهلعًا وفزعًا بين أفراده، فيقوم الخوف مقام الأمن، والفوضى بدل الهدوء والاستقرار، والقلق مكان الطمأنينة.
كذلك فإن وجود المغريات بشتى صورها، وتوفرها أمام الشخص، وعدمَ وجود رادعٍ يمنع من الوقوع فيها، كل ذلك يسهل على الفرد الذي ضعف الوازعُ الديني في نفسِه أن يقع في الجريمة، ويشبع رغبته، ويحقق مقصده السيئ الذي عقد العزم على الوصول إليه.
إلا أن الشريعة الإسلامية لم تغفل عن هذا كله، بل نبهت أفرادها وحذرتهم حتى من مجرد التفكير بمقارفة المحرمات، وأوضحت أن إرادة ارتكاب المحرم فقط توجب العقاب في بعض الحالات، قال تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو أن رجلاً همَّ بخطيئةٍ لم تكتب عليه ما لم يعملها، ولو أن رجلاً همَّ بقتلِ رجلٍ بمكة وهو بعدن أو ببلدٍ آخر أذاقه الله من عذاب أليم).
لذلك كله كان لزامًا على العلماء وأصحاب الفكر والرأي وحملة القلم تحذير الناس من الوقوع في جميع المحرمات، وتنفيرهم من الوقوع في المخالفات، وبيان النتائج السلبيةِ التي تعقب ارتكاب الجرائمِ بشتى صورها، كبيرة كانت أو صغيرة.
وإذا لم ينجح هذا الأسلوب، ولم يفد هذا المسلكُ مع بعض الخارجين عن نظام هذا الدين والراغبين في الانخراط في قائمة المجرمين، ولم يردعهُمُ النصح والتوجيهُ من الكفِّ عن بث الرعب والفزع بين الناس، فإن الدين الإسلامي أوجد سلطةً أناط بِها القيام بمهمة ردع المجرمين والقضاء عليهم واستئصالهم من هذا المجتمعِ الطاهر النقي، وهذه السلطة هي الشرطة التي أُوجدت لحفظ الأمن في المجتمع ورعاية أفراده، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرجت مع النبي يوم أحد، فلما رآني استصغرني وردَّني، وخلفني في حرس المدينة في نفر منهم أوس بن ثابت وأوس بن عرابة ورافع بن خديج. وقد ورد أيضًا ما يدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مع رسول الله بمنزلهِ الشرطة من الوالي، حيث كانوا ينفذون أوامره، ويقومون بالمهام التي كان يكلفهم بِها.
من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال: قال علي بن أبي طالب: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله : أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبرًا مشرفًا إلا سويته).
ولعل نظام العسس الذي كان موجودًا في عهد النبي وزمن خلفائهِ الراشدين يعتبر النواة الأولى لنظام الشرطة الذي بدأ يظهر بعد ذلك بصورةٍ أشمل، وبتخصصات متعددة وأغراض مختلفة.
لقد أنيطت برجال الشرطة بعد ظهورهم بشكل أوسع في الأزمنةِ اللاحقة مهمات كبيرة ومسؤوليات جسيمة، حيث ظهر لأفراد المجتمع الدور البارز الذي يقوم به أولئك في حفظ الأمن والنظام، فظهرت هيبة رجال الشرطة في أعين الناس، وذلك لجِدهم في حسمِ الخلافاتِ والنزاعات وغلقِ أبواب الشر.
ومن خلال نظرة عامةٍ إلى أهم الأعمال المنوطة برجال الشرطة في المحافظة على أمن المجتمع نجد أن ذلك يتلخص في أمور منها:
أولاً: تنفيذ الأوامر التي يصدرها ولي الأمر بمختلف أنواعها، من تفقد أحوال الناس وإقامة الحدودِ الصادرة بحق المجرمين، كجلد شاربِ الخمر وقطع يد السارق وتنفيذ القصاص وغير ذلك.
ثانيًا: مداهمةُ المجرمين في الأماكن التي يتوقع وجودهم فيها، من خلال قيام رجال الشرطة بالمراقبةِ الدائمةِ والمستمرةِ للمشبوهين أينما ذهبوا، للتحقق من أهدافهم المشبوهة وضبطهم وهم متلبسون بشبهِهِم.
ثالثًا: السهر على استتباب الأمن، والعمل على راحة الجميع، من خلال القيام بالدوريات المتتابعة على مدار اليومِ والليلة في الطرق العامة، وفي داخل الأحياءِ والمجمعاتِ السكنية.
رابعًا: العمل على تعويد الناس وإلزامهم بطاعة ولي الأمر، من خلال توجيههم إلى الالتزامِ بالنظام والمحافظة عليه وعدم الخروج عنه، حتى لا تعم الفوضى، وليبقى المجتمع آمنًا.
خامسًا: المحافظة على أموال الناس وممتلكاتِهم الخاصةِ والعامة، من خلال الحراسةِ التي يقوم بِها رجال الأمن في الأسواق والمحلات التجارية والمرافق العامة.
سادسًا: التصدي لأهل البدع والأهواء ممن يحدثون ظواهر جديدةً داخل المجتمع، تخالف ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله.
وبالجملة فإن مهام رجال الشرطة كثيرة، وهي في جملتها تنحصر بقيامهم بكل عمل يحول دون وقوع الجريمة في المجتمع، والمحافظة على أمنهِ واستقراره، وعدم تسرب الفوضى والفسادِ بين أفراده، حتى يهنأ الجميع بحياةٍ آمنةِ سعيدة.
إن أفراد المجتمع بأسره يجب على كل واحد منهم أن يكون شرطيًا أمينًا داخل هذا الكيان الكبير الشامخ، وذلك بتعاونه مع رجال الشرطة في كل ما من شأنه إنجاح مهمتهم ومساعدتهم في الوصول إلى تحقيق النجاح في وظيفتهم التي أنيطت بهم.
وأخيرًا، فإن رجل الأمن مسؤول مسؤولية عظيمةً أمام الله تعالى بقيامه بعمله الذي كُلف به خير قيام، وبطاعته لرؤسائه وتنفيذ أوامرهم، كما أن عليه أن يلزم الصدقَ في تعامله مع الناس، وأن يتجنب الظلمَ بشتى طرقهِ، وأن يتحرى الدقة والحرص عند قيامه بتنفيذ جميع مهامه، وأن يتذكر دائمًا عين الرقيب الذي لا ينام.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3647)
وحل المخدرات
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الشريعة الإسلامية بالمحافظة على الضرورات الخمس. 2- العبث بالعقل وإفساده من أفظع الجرائم. 3- تعاطي المسكرات والمخدرات من أعظم وسائل إفساد العقل. 4- المخدرات سلاح أعداء الإسلام. 5- تأثير المخدرات على الحياة الاجتماعية. 6- أثر المخدرات المدمر على اقتصاد المجتمع. 7- المخدرات سبب رئيس في تفشي الجرائم. 8- غرس الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر في القلوب أساسُ الصلاح والوقاية من كل فسادٍ وخطرٍ يهدد المجتمع.
_________
الخطبة الأولى
_________
وجَّهت الشريعة الإسلامية أفرادها للمحافظة على عقولهم، وشددت على صيانة العقل وحمايته من كل ما يخل به أو يتسبب في إزالته، كما أكدت على وجوب حفظ الضرورات الأربع الأخرى: الدين والنفس والعرض والمال، وإذا حفظ المرء عقله وحافظ عليه، وصانه عن كل ما يخدشه أو يغيره سهل عليه القيام بما كلف به، وفهم الخطاب الموجه إليه، وقام به على أكمل وجه، فيحفظ دينه، ويحافظ على نفسه، ويستبسل في الدفاع عن عرضه، ويحرص على إنفاق ماله في الوجوه المشروعة. أما إذا أهمل عقله وضَّيعه واستعمله فيما لا ينفعه فإن انحرافه عن جادة الصواب قريب، ووقوعه في مزالق الرذيلة وشيك.
إن العبث بالعقل وإفساده جريمة كبرى تعد من أفظع الجرائم.
ومن أعظم الوسائل التي تفسد العقل وتغيره تعاطي المسكرات أو المخدرات، فتناولها يغطي العقل ويحجبه عن أداء واجبه الذي خلق من أجله، فلا يعرف ماهيته في هذه الحياة، ولا يدرك وظيفته فيها، فيكون بذلك قد فرَّط في المحافظة على إحدى الضرورات التي أمر بصيانتها والعناية بها وعدم الاعتداء عليها.
إن ذلك الفرد الذي اعتدى على عقله وغيره عن صورته الحقيقية التي خُلق عليها يعَدّ واحدًا من أفراد المجتمع ولبنة من لبناته، يمثل مع غيره المجتمع بأسره الذين باستقامتهم يستقيم المجتمع، وبصلاحهم تسعد الأمة، وتكون قوة ضاربة تقف في وجه أعدائها المتربصين بِها من كل جانب.
لقد حرص أعداء الأمة الإسلامية شرقًا وغربًا وفي كل مكان على إفساد هذه الأمة، وهدم كيانها، وشل حركتها، والقضاء عليها، وضربها من حيث لا تشعر، وإفساد شباب هذه الأمة، ونخر أجسامهم وعقولهم، وقد ظهرت محاولة إفسادهم لشباب المسلمين بضرب كل ميدان ومرفق، بغزو نشطٍ ومكثف من جميع الاتجاهات، ومن كل النواحي الثقافية والأخلاقية والفكرية.
ولعل سلاح المسكرات والمخدرات الذي صدروه إلى كافة المجتمعات الإسلامية، وتفننوا في إرساله بشتى الصور ومختلف المسميات من أكبر الأخطار المحدقة بالأمة التي تواجهها الشعوب الإسلامية، محاولة من أعدائها للقضاء على دينها وأخلاقها ومواردها.
إن تعاطي المخدرات يؤثر على الحياة الاجتماعية تأثيرًا سلبيًا، فانشغال المتعاطي بالمخدر يؤدي إلى اضطرابات شديدة في العلاقات الأسرية والروابط الاجتماعية. فكم مزَّقت المخدرات والمسكرات من صِلات وعلاقات، وفرقت من أُخُوَّةٍ وصداقات، وشتَّتت أسرًا وجماعات، وأشعلت أحقادًا وعداوات، قال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]. وإن جوًا تنتشر فيه هذه الأدواء والمهلكات لهو جوّ يسوده القلق والتوتر، ويخيم عليه الشقاق والتمزق.
إن من يلقي بنفسه في سموم المسكرات يسهل عليه أن يبذل كل غالٍ ونفيس، ويضحي بكل عزيز من أجل الوصول إليها والحصول عليها، حتى ولو كان ذلك من أضيق المسالك وأخطر الطرق، فقد يسرق أو يختلس، بل ويتخلى عن جميع القيم والأخلاق ليحصل على المادة التي يصل بِها إلى ما يريد، ويسير في هذا المسلك الوعر إلى أن تضعف قواه الجسدية والعقلية، فيصبح غير قادر على العمل، فيكون عالة على أسرته ومجتمعه، وقد ينتهي به الحال إلى الإعاقة الكاملة أو التشوه، بعد أن يفقد كل مميزاته الإنسانية من عقل وخلق، ومقوماته الاجتماعية من عمل مثمر أو وظيفة نافعة أو صناعة رابحة، كما يفقد أهله وعشيرته وأصدقاءه، وفي ذلك ضياع للفرد الذي هو كيان الأسرة ولبنة في قيام المجتمع، وإذا فقدت الأسرة كيانها حل بِها التمزق، فيصبح بناء المجتمع هشًا ضعيفًا، لا يستطيع أن يقف أمام العواصف المعادية والتيارات الوافدة، ويصير فريسة سهلة لأي عدو يتربص به الدوائر.
أما الأضرار الاقتصادية الناجمة عن تعاطي المخدرات فهي كبيرة جدًا، ذلك أن مدمني المسكرات والمخدرات يشكلون عائقًا كبيرًا في طريق التنمية والتقدم الاقتصادي، ويخلقون عبئًا ثقيلاً على عاتق الأمة بما يهدرون من ثروتها، وما يجلبونه لها من المآسي والنكبات، فلقد أثبتت الدراسات التي قام بِها الباحثون المتخصصون أن تعاطي وإدمان المخدرات يؤثران على إنتاجية الفرد في العمل، وذلك من خلال ما يطرأ على الفرد من تغييرات نتيجة للتعاطي والإدمان، وأن هذا التأثير يشمل كَمَّ الإنتاج وكيفَه.
ولما كان إنتاج المجتمع حصيلة مجموع إنتاج الأفراد فإنه يتأثر تأثرًا مباشرًا باعتلال إنتاج الفرد وهبوطه، فضلاً عما ينفق من الأموال والجهود في سبيل مكافحة المسكرات والمخدرات ومنع تهريبها وتداولها وتعاطيها، من حيث تخصيص إدارات مهمتها مكافحة المخدرات والقضاء عليها، وما يتبع ذلك من إنفاق الأموال الطائلة عليها، وتكليف الكثير من الكفاءات للعمل بها، وكان يمكن أن توجه تلك الأموال، وأن تصرف تلك الجهود إلى أعمال نافعة ومهام أخرى تسهم في توفير كثير من الخدمات الأخرى للمجتمع.
ولو نظرنا إلى انتشار الجرائم وتفشيها في المجتمعات لوجدنا أن تعاطي المسكرات والمخدرات يشكل أحد الأسباب الرئيسة في ظهورها، ذلك أن المدمن عادة ما يكون فاشلاً في مجتمعه، عاجزًا عن القيام بأي عمل ينفعه، كما أنه يصبح خاليًا من الشعور بالمسؤولية، لفقده ما يؤهله لذلك من دين أو عقل، نتيجة تعاطيه لتلك السموم، ومن كان هذا شأنه فإنه سيقدم على طلب المال وتحصيله من أي مصدر، وبأي وسيلة حتى لو استدعى ذلك منه ارتكاب الجرائم بشتى صورها.
كذلك فإن تَهريب المسكرات والمخدرات وترويجها وتعاطيها يؤدي إلى تحريك النزعات العدوانية والإجرامية لدى كل من يتعامل معها، فالمهرب لا يتورع عن ارتكاب أبشع الجرائم في الحصول على منفذ لإيصال ما لديه من سموم إلى المكان المقصود، كما أن المروج لا يتوقف عن ابتكار أسوأ الطرق والوسائل للوصول إلى فريسته، ولعل تأثيره على الأطفال وحديثي السن كبير جدًا؛ لما يقدمه لهم من إغراءات، ولعدم وعيهم الكافي عن أضرار المخدرات، وعدم معرفتهم بالشخصية التي ينتحلها ذلك المروج، ليوقعهم في وحل التعاطي والإدمان، مما قد يضطر أولئك ـ بعد تناولها والإدمان عليها ـ إلى ارتكاب جرائم السرقات والسطو للحصول على المال الذي يمكّنهم من شرائها والاستمرار في تعاطيها، وفي ذلك زعزعة لأمن واستقرار المجتمع، إضافة إلى إخلال المتعاطي بالأمن العام عند وجوده في الأماكن العامة، كما أن قيادته للسيارة تحت تأثير المخدر يشكل خطرًا عليه وعلى الآخرين، كما أن مهربي المخدرات لا يتورعون عن التعاون مع أي جهة حتى لو كانت من الأعداء، في سبيل تحقيق أهدافهم ومآربهم، وتحصيل مكاسبهم غير المشروعة.
إن غرس الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر وبكتاب الله تعالى وبسنة رسوله في نفوس الناس أساسُ الصلاح والوقاية من كل فسادٍ وخطرٍ يهدد المجتمع بأسره، فيجب على كل فردٍ مسلم ـ أيًا كان عمله وعلمه، وفي أي مكان وجد نفسه ـ أن يغرس ذلك الإيمان في نفوس الأفراد والأسر والمجتمعات، لتخليص الشعوب الإسلامية من اقتراف المنكرات كلها، وقيامها بطاعة الله تعالى، على أن الاستقامة على شرع الله ومنهجه القويم، وتعميق روح الإيمان في النفوس، والاستجابة لأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه، والمسارعة إلى تلبية نداء الباري جل وعلا، والتأدب بالآداب الإسلامية الفاضلة، والتحلي بالأخلاق الحسنة، والسير على منهج السلف الصالح، والاتصاف بصفات أهل الإيمان: كل ذلك يحفظ المرء المسلم، ويجنبه الوقوع في أوحال المسكرات والمخدرات، ويحميه من سلوك طريقها، ويمنعه من الاستجابة لدعوات أصحابها، فيكفل له السعادة في الدنيا والآخرة، ويفوز بموعود الله تعالى الذي وعد به عباده المؤمنين المستقيمين: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30، 31].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3648)
أضرار التدخين
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الكبائر والمعاصي
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
- عناية الإسلام بحفظ النفس. 2- خبث الدخان وما فيه من المفاسد. 3- الإشارة إلى طائفة من الأمراض التي يسببها التدخين. 4- تعدي مضار التدخين إلى جلساء المدخن وتأذيهم منه. 5- متى يتخذ المدخن القرار الصائب بإقلاعه عن التدخين؟
_________
الخطبة الأولى
_________
يحثّ ديننا الإسلامي أفراده على تهذيب نفوسهم، ويعمل على غرس تعاليمه الحميدةِ في أعماق قلوبِهم، ودعوتِهم إلى ما فيه نفعهم وفائدتهم، وتحذيرهم من كلِّ ما يسوؤهم ويتسبب في إضرارهم.
لذلك أمرهم بالمحافظة على أنفسهم، وحثهم على صيانتها والبعد عن كل ما يُعرضها للهلاك أو الأذى، بل إنه حذر الشخص من الاعتداء على أعضائه أو نفسه؛ لأنها ليست ملكًا له، ورتب أشد العقوبات على من ارتكب ذلك، وهي كونه خالدًا مخلدًا في جهنم والعياذ بالله تعالى.
ومن أعظم المزالق التي يرتكبها البعض وتُلحق الضرر بهم اقترافهم التدخين، الذي ينتشر بشكل أكبر في أوساط الشباب والمراهقين. والتدخين قد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه جالب لكثير من الأمراض، وخاصةً الصدرية منها، والمدخن يدرك ذلك ويعرفه، لكنَّ شيطانه أقوى منه، فهو يزين له المعصية، ويسوّف له الإقلاع عنها وتركها.
ولو سألت أيّ مدخن عن هذه السيجارة التي يمسكها بين إصبعيه: هل هي من الطيبات؟ لأجابك بكل صراحةٍ واقتناع بأنها ليست من الطيبات، وأنها لا تجلب له منفعة ينفرد بِها عن الآخرين، بل هي كابوس جاثم على صدره، تتولد منه أنواع المآسي والأضرار، يكفيك قبحًا فيه أن جميع من يشربه يود تركه.
إننا لو تأملنا بعضًا من الآيات القرآنية الكريمة لوجدنا أنَّها واضحة في دعوتها إلى كل نافع مفيد، وحثها على الابتعاد عن كل ضار ومؤذٍ، قال تعالى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [النساء:2]، وقال جل في علاه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157].
ولا يتردد من له أدنى ذرة من عقل إلا أن يدخله ضمن قائمة الخبائثِ وأنواع المؤذيات، وقد أفتى كثيرٌ من العلماء المحققين بتحريمه؛ لما يترتب عليه من الأضرار والمفاسد العظيمة، ومنها الإسراف في إنفاق المال، وقد حرم الله تعالى الإسراف ونهى عنه، قال جل في علاه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].
وقد أجمع العلماء على أن كل ما يؤدي إلى الضرر ويوقع في المهالك يجب اجتنابه، وفعله محرم، وقد قال : ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه أحمد.
وكثيرة هي الأضرار الناجمة عن تعاطي التدخين، فمنها ضياع المال وإنفاقه في وجه غير مشروع وصرفه في المحرم، فلو فُرض أن إنسانًا بدأ في التدخين من سن الخامسة عشرة إلى أن بلغ ستين سنة، وأن متوسط تدخينه في اليوم عشرون سيجارة، فإن مجموع ما دخنه يتجاوز ستة عشر ألف علبة سجائر، قيمتها واحد وثمانون ألف ريال، فمن هذا يتبين أن المدخن العادي يصرفُ هذا المبلغ الضخم في جلب الضرر لنفسه، ويزيد المبلغ كثيرًا عند أولئك الذين يتعاطون التدخين بشراهة وبكمية أكبر.
وقد أثبت الأطباء وأعلنوا مرارًا أن التدخين مضر بالبدن منهك للصحة، وأنه يقتل ما يقارب ثلاثة ملايين إنسان في كل عام، وهو سبب رئيس للإصابة بعدة أمراض، منها: سرطان الرئة والتهابها، وسرطان الحنجرة، وضيق التنفس، وزيادة سرعة ضربات القلب، وارتفاع ضغط الدم، وزيادة معدل الإصابة بتصلب الشرايين، وفقدان الشهية، ومحو الشعور بالجوع، والأرق الطويل، وضعف الإبصار، وغير ذلك من الأمراض الأخرى. وإنه لا يَسَعُ العاقل وهو يسمع أن واحدًا فقط من هذه الأمراض سببه التدخين إلا أن يعزم على تركه ويُقلع عنه بالكلية.
ثم إن أضرار التدخين لا تقتصر على المدخن نفسه، بل إنها تعم كل من حوله، وأقربهم الملكان اللذان عن يمينه وشماله، وقد جاء في الحديث عنه أنه قال: ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)) رواه مسلم.
ثم كيف يليق بعاقل أن ينفخ الدخان في وجوه من حوله، وينفثه بحضرة من هم أكبر منه سنًا وأعلى قدرًا؟! بل كيف يرضى بنفثه في وجوه من يجلسون من أبنائه وبناته وزوجته، ويكدّر عليهم صفو جلستهم؟! أليس من حق الزوجة أن لا تجد من زوجها إلا رائحة زكية طيبة، أم أن الزوج لا يرى إلا بعين واحدة؟! فهو حين تخطئ زوجته أو تنسى القيام بشيء بسيطٍ من حقوقه يحاسبها حسابًا عسيرًا، ويؤنبها على أخطائها تلك تأنيبًا شديدًا.
ومن هنا فإن على الزوجة العاقلة أن تعمل جاهدة على إعانة زوجها على الإقلاع عن التدخين، بأن تُظهر له تضايقها من هذه الروائح الكريهة المؤذية المنبعثة من فمه، وتبين له خطر التدخين على صحته وصحة من معه في البيت، وأن تتجنب الجلوس معه أثناء التدخين، وتشعره بتأذيها منه، وفي كل مرة يحاول إشعال سيجارته تطلب منه أن يؤجل ذلك إلى وقت آخر فيما بعد، وهكذا حتى تستطيع انتشال زوجها مما هو فيه.
ومن الدراسات المتعلقة بأضرار التدخين ما ثبت من أن المدخن للسيجارةِ الواحدةِ إذا جلس معه شخص أثناء تدخينه فإنه يدخن معه نصف السيجارة، ويلحقه ضرر بجلوسه معه.
إذًا ليست هناك نتائج وفوائد إيجابية يجنيها المدخن من تعاطيه التدخين، بل مفاسدُ وأضرار كثيرة، والمدخن يعرف هذا لكنه قد يكابر ويعاند، والشجاع مَنْ يتخذ قراره الأصوب في الامتناع عن التدخين والإقلاع عنه إلى غير رجعة، حتى لا يلحقه الأذى والإثم والضرر في دينه وصحته وماله، فهل ترضى ـ أيها المدخن ـ بأن تودِع النار في صدرك بثمن تدفعه مقدمًا، وأن تشرب نارًا وتدفع مقابل ذلك دينارًا؟! إنه ما دام قد ثبت أن التدخين من أعظم ما يجلب الأمراض للجسد، وأن البعض يسميه بالانتحار البطيء، فإني أخشى أن تكون ممن قتل نفسَه، ودخل في قوله : ((ومن تحسى سمًا فقتل نفسه ـ أي: من شرب وتجرع سمًا ـ فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3649)
الأخوة الصادقة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مكارم الأخلاق
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من خلق الله تعالى البشر قبائل وشعوبًا مختلفة. 2- التقوى هي معيار التفاضل الحقيقي بين البشر. 3- الإسلام يمقت كل نظرة يكون أساسها النسب والدم واللون. 4- اهتمام الإسلام بكل ما من شأنه توثيق العلاقة بين المسلمين وتقوية الصلة بينهم. 5- الأسس والثوابت التي يجب أن تبنى عليها الأخوَّةَ.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله تعالى في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
نادى الله تعالى بني الإنسان كلهم، من المؤمنين وغيرهم، ليذكرهم بأصولهم وأساس خلقهم، فهم من أصل واحد، وفي الخلقة سواء، بنو آدم وحواء؛ إذ ليس شعبٌ أفضل بجنسه من شعب، ولا قبيلة أكرم بأصلها من قبيلة، وإنما كان هذا التقسيم والتفريع ليتعارفوا ويتآلفوا، وتجتمع قلوبهم، وتقترب أفئدتهم، وتزول من أوساطهم عوامل الفرقة والشتات والتمزق والانقسام، وتسود روح المودة والوئام والألفة والانسجام.
ثم إن الخصلة التي يمكن أن يتميز بِها الإنسان ويرتفع على غيره ويسمو وينال الفوز والكرامة من الله تعالى إنما هي الصلاح والتقوى والخوف والخشية منه جل وعز ومعرفته حق المعرفة وعبادته كما أراد، فمن كان بالله أعرف كان منه أخوف.
يقول : ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى)) رواه أبو داود.
والسعادة والهناء والحياة الطيبة ضمنها الله تعالى لكل من خافه واتقاه، وداوم على طاعته ورجاه، واجتهد طالبًا مغفرته ورضاه، قال جل في علاه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
فالعمل إذًا والحرص على العبادة والاجتهاد فيها هو الذي يظهر ويبرز، وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى [النجم:39-41]، فالله تعالى ينظر إلى الجميع بأفعالهم، ولا موقع للمناظر والتفاخر والتسابق في زخارف الدنيا وزينتها، قال : ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) رواه مسلم.
فالإسلام يمقت كل نظرة يكون أساسها النسب والدم واللون، وإثارة ذلك دعوة للعصبية وإحياء لها، وعودة إلى ما كان عليه الناس في الجاهلية، ووسيلة لتفريق الكلمة، وتمزيق وحدة المجتمع المسلم الذي تربطه علاقة الإسلام والإيمان، التي هي أقوى من كل رابطة، وأوثق من أي علاقة أخرى، قال تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا [الفتح:26]، وقال : ((من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جُثى جهنم)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم؟ قال: ((وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سماهم الله عز وجل: المسلمين، المؤمنين، عباد الله عز وجل)) رواه أحمد.
ولما ثار اليهود في المدينة، وأشعلوا الخلاف بين الأوس والخزرج، ودسُّوا بينهم شابًا يهوديًا ذكَّرهم بمعركة بعاث التي حدثت بينهم، وذكَّرهم بأحقادهم وعداواتهم القديمة، فاستثاروهم، وقام شاب من الخزرج وسَلَّ سيفَه، وقام آخر من الأوس، فتواعدوا خارج المدينة، وتَهيؤوا للقتال، فسمع رسول الله بخبرهم، فخرج من بيته وهو يقول: ((حسبي الله، لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو ربُّ العرش العظيم)) ، ويقال: إنه خرج حافيًا بلا نعلين، حتى وقف بين الصفين، وقال بأعلى صوته : ((يا معشر المسلمين، الله، الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّفَ بين قلوبكم؟!)) رواه الطبري. فلما سمع الصحابة ذلك عرفوا أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوهم فبكوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدوهم، وأنزل الله تعالى قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ أي: كيف تقتتلون؟! وكيف تتناحرون؟! وكيف تتباغضون؟! وكيف تتقاطعون؟! وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].
لقد اهتمَّ الدينُ الإسلامي بكل ما من شأنه توثيق العلاقة بين المسلمين، وتقوية الصلة بينهم، والبعد عن كل ما يؤدّي إلى الفرقة والشتات والنفرة والتباغض، وحارب العنصرية بكافة أشكالها وطرقها، وأبطل العصبية بشتى صورها، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من قاتل تحت راية عُمِّيَّةٍ: يغضب لعَصَبَةٍ أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبةً فقُتِل فقتلة جاهلية)) رواه مسلم، وعن جبير بن مطعم أن رسول الله قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) رواه أبو داود، وروى المروزي بإسناده عن حذيفة قال: قال رسول الله : ((لن تفنى أمتي حتى يظهر فيها التمايز والتمايل والمعامع)) ، قيل: يا رسول الله، ما التمايز؟ قال: ((عصبية يحدثها الناس بعدي في الإسلام)) ، قيل: فما التمايل؟ قال: ((تميل القبيلة على القبيلة فتستحلّ حرمتها)) ، قيل: فما المعامع؟ قال: ((سير الأمصار بعضها إلى بعض، تختلف أعناقها في الحرب)).
إن الأخوَّةَ بين أفراد المجتمع المسلم ـ قبائل وشعوبًا وجماعات ـ يجب أن تكون قائمة على الأركان والثوابت التي أسس عليها المصطفى المجتمع الإسلامي، وينبغي لها أن تكون كذلك وتستمر عليه، مجتمع كالجسد الواحد، يتآلف ويتعاون ويترابط، يظهر فيه الإيثار والمحبة، وتسوده المودة والألفة والعفو عن الزلات والصفح عن الأخطاء والهفوات وحسن الظن، ويزول منه الحسد والقطيعة والشحناء والضغينة والاحتقار والسخرية والبغضاء والخديعة، وتختفي منه الأنانية وحب الذات، وينبغي أن تكون تلك المعاني ظاهرة في التعامل بين جميع المسلمين، يلتزم بِها الكافة قولاً وفعلاً وسلوكًا وتعاملاً، فمن وجد في نفسه شيئًا من التعالي والزهو، أو أحسّ باحتقار أو انتقاص لأي من إخوانه المسلمين بنظرته للجنس أو البلد أو اللون أو العرق أو المال أو الجاه فليراجع نفسه، وليتفقد إيمانه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ:37].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3650)
شريحة المعاقين
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- اهتمام الشريعة الإسلامية بكافة أفرادها دون تمييز بينهم. 2- للمعاقين حقوق زائدة على حقوقهم العامة. 3- أول حق للمعاق ينطلق من حسن اختيار الزوجة. 4- حرص الشريعة الإسلامية على حماية الجنين من كل ما يلحق الضرر به. 5- وجوب الحرص على رعاية المعاق بتربيته وتعليمه. 6- عتاب اله تعالى للنبي بسبب إعراضه عن أعمى. 7- مراعاة الشرع للمعاق في الأحكام التكليفية.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد اهتمت الشريعة الإسلامية بأفرادها، ووضعت لهم حقوقًا، ولم تميز بينهم، بل أمرت بالعدل، ووجهت إلى إعطاء كل ذي حق حقه. فالمجتمع المسلم كل فرد فيه جزء لا يتجزأ منه، يتمتع بكامل حقوقه التي وضعها له الإسلام.
والمعاقون شريحة من شرائح المجتمع وفئة عزيزة من فئاته، لهم سائر الحقوق التي للفرد الصحيح، ولهم حقوق أخرى انفردوا بها مراعاة لأحوالهم وحاجاتهم.
وينطلق حق المعاق في المجتمع أول ما ينطلق من أسرته التي ولد فيها، ونشأ في ظلالها، وتربى بين أفرادها، فإن الواجب على الأسرةِ قبل تكوينها من مؤسسيها الزوج والزوجة حسن الاختيار عند الرغبة في الزواج؛ لأن الوراثة من مسببات الإعاقة، فلا يكون من أسرةٍ عرفت بكثرة الإعاقة في أفرادها، فإن الطفل قد يرث الإعاقة من وراثاته القريبة أو البعيدة عن والديه، ومن حقوق الابن على والديه مراعاة الصلاح والاستقامة والسلامة من العيوب، قال : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه)) رواه الترمذي، وقال: ((تخيروا لنطفكم)) رواه ابن ماجه.
ثم تأتي أهمية العناية بالمولود منذ أن يكون جنينًا في بطن أمه، وتجنيبه أسباب الإعاقة، وحمايته منها بإذن الله تعالى. ويتمثل ذلك في أن الإسلام أباح للحامل أن تفطر حين تكون صائمة وتخاف على جنينها من الضرر، وهذا ما يؤكد عناية الشريعة الإسلامية بالفرد قبل قدومه إلى هذه الحياة.
ومن هنا فإن على الأم أن تحافظ على جنينها، وتبعد كلّ خطر عنه، وتبتعد عن كل ما يؤثر في نموه وتكوينه، فتعاطيها للتدخين والمخدرات من أكثر المخاطر التي قد تعرضه للإعاقة، كما أن تناولها لبعض الأدوية وهي حامل دون استشارة الطبيب وذوي الاختصاص قد يسبب للجنين أضرارًا ومؤثرات تؤدي إلى ولادته معاقًا أو مشوهًا، فينبغي للوالدين وخاصة الأم الحرص على حماية الجنين من أي مؤثر قد يكون سببًا في ولادة مولود غير سوي.
وإذا رُزق الوالدان الولد وكتب الله تعالى أن يكون معاقًا فإن الإسلام حثّ الوالدين على العناية به، وتربيته تربية صالحة، والاهتمام بكافة شؤونه، ومن ذلك الحرص على تعليمه وبذل كل ما يحتاجه في سبيل ذلك، وعلى المجتمع أن يعنى بشؤونه وييسر السبل ويذلل الصعاب للمعاقِ؛ كي يتعلم ويكون عضوًا فاعلاً فيه.
لقد عاتب الله تعالى رسوله الكريم حين اشتغل بدعوة قريش عندما جاءه ابن أم مكتوم ـ وكان أعمى ـ طمعًا منه في إسلامهم حتى يكونوا سببًا في دعوة قومهم إلى الإسلام، قال تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنْ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس:1-10].
قال ابن كثير رحمه الله: "ومن هنا أمر الله عز وجل رسوله أن لا يخص بالإنذار أحدًا، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف والغني والفقير والسادة والعبيد والرجال والنساء والكبار والصغار، ثم الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة" انتهى كلامه رحمه الله.
إن الدين الإسلامي لم يهمله لأنه أعمى، بل اهتم به، وقدمه على الأصحاء؛ لأن العلم حق من حقوق التربية الإسلامية، وأنزل في شأنه آياتٍ تُتلى إلى يوم القيامة. كما أن الشريعة الإسلامية لم تهمل حال المعَاق في التكاليف، بل رفعت المشقة والعسر عنه.
قال تعالى: لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح:17]. فأباح التخلف والقعود لأصحاب هذه الأعذار ـ ومنها المرض والعرج والعمى ـ عن الجهاد في سبيل الله. وهي من الآيات التي هي أصل في سقوط التكليف عن العاجز، فكل من عجز عن شيء سقط عنه، ولذلك فإن المعوق رُفع عنه الحرج وأعذره الله تعالى.
وأكدت السنة النبوية ذلك، وبينت أن الإعاقة تخفف عن المريض التكليف، ويكتب له الأجر كاملاً، قال : ((إذا مرض العبد أو سافر كَتَبَ الله تعالى له من الأجر ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)) رواه البخاري، ورفعُ الحرج عن المعاق في التكاليف الشرعية إذا كان لا يلحقه ضرر أمرٌ مشروع، ولذلك ذكر الفقهاء أن المريض إذا خشي من الإتيان بالمطلوبات الشرعية على وجهها خوفًا من ألم شديد أو زيادة في المرض أو تأخر برءٍ أو فساد عضو أو حصول تشويه فيه فإنه يعدل إلى الأحكام المخففة.
والتطبيق التربوي لذلك ما ورد عن عمران بن حصين قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي عن الصلاة، فقال: ((صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك)) ، وفي زيادة: ((فإن لم تستطع فمستلقيًا، لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها)) رواه البخاري والنسائي.
إذًا فالشرع المطهر راعى المعاق عند تكليفه، ولم يحمّله ما لا يطيق، أو ما لا يتناسب وقدراته وطاقته، مما يؤكد أنه وضعه في عين الاعتبار عند التشريعات، وهذا يجعل المعاق في موقف قوي له اعتباره، حيث رسم الإسلام له حقوقه الخاصة واعتبرها، كما وضع له حقوق الأسوياء الأصحاء تمامًا.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3651)
العمل وذم البطالة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث الإسلام على التكسب وطلب الرزق. 2- العمل الطيب من صفات الأنبياء. 3- الصحابة وطلب الرزق. 4- التوكل لا ينافي الخروج والسعي في طلب الرزق. 5- من فضائل طلب الرزق الحلال والعمل الشريف. 6- تحذير الإسلام من البطالة وسؤال الناس والتواكل.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد وجهت الشريعة الإسلامية أفرادها إلى العمل، وحثتهم على التكسب وطلب الرزق، وبينت لهم أن الكسب باليد خيرُ ما يُجمع، وهو سبيل أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، وحذرت أشد التحذير من الاعتماد على التسول واستجداء الناس والتذلل لهم؛ لما يورثه من المذلة والمهانة في الدنيا والآخرة.
فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله، فيحتطب على ظهره، فيأتي به فيبيعه، فيأكل منه ويتصدق منه، خير له من أن يأتي رجلاً أعطاه الله من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه)) متفق عليه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم)) رواه البخاري ومسلم.
لقد أمر الله تعالى المؤمنين بترك البيع والشراء والتجارة ساعة أداء العبادة المفروضةِ عليهم، وذم من يشتغل بالتكسب في ذلك الوقت، وأذن لهم بالانتشار وطلب الرزق بعد أدائها، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9].
يقول القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَذَرُوا الْبَيْعَ : "مَنَعَ اللهُ عز وجل البيع عند صلاة الجمعة، وحَّرمه في وقتها على من كان مخاطبًا بفرضها، والبيع لا يخلو عن شراء، فاكتفى بذكر أحدهما، وخص البيعَ لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق". ثم قال عند قوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]: "هذا أمر إباحة، أي: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم، وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أي: من رزقه، ونُقل عن عِراك بن مالك رحمه الله ـ وهو من أعلام التابعين ـ أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين".
وبين الله تعالى في كتابه الكريم أن العمل لكسب العيش وتحصيل ما لا بد منه كان دأب أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان:20].
قال القرطبي رحمه الله: "هذه الآية أصل في تناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك"، وقال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخبرًا عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين أنهم كانوا يأكلون الطعام ويحتاجون إلى التغذي به، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم، فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة والصفات الجميلة والأقوال الفاضلة والأعمال الكاملة والخوارق الباهرة والأدلة القاهرة ما يستدل به كل ذي لبٍ سليم وبصيرةٍ مستقيمة على صدقِ ما جاؤوا به من الله" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
وأخبر جل وعلا عن داود عليه السلام بقوله جل شأنه: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [الأنبياء:80]، والمراد باللبوس هنا الدروع.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: "هذه الآية أصل في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهلِ العقول والألباب، لا قول الجهلةِ الأغبياء القائلين بأن ذلك إنما شُرع للضعفاء، فالسببُ سنةُ الله في خلقه، فمن طعن في ذلك فقد طعن في الكتاب والسنة، ونَسَبَ من ذكرنا إلى الضعفِ وعدمِ المُنَّة، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع والخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدمُ حَرّاثًا، ونوحُ نجارًا، ولقمان خياطًا، وطالوت دباغًا، وقيل: سقّاء، فالصنعة يكف بِها الإنسان نفسه عن الناس" انتهى كلامه رحمه الله.
وعن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله : ((ما أكل أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده)) رواه البخاري.
والحكمة في تخصيص داود بالذكر ـ كما يقول الحافظ ابن حجر ـ أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة الله في الأرض، وإنما ابتغى الأكل من طريق أفضل.
وقد ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((كان زكريا نجارًا)). قال الإمام النووي: "فيه جواز الصنائع، وأن النجارة لا تسقط المروءة، وأنها صنعة فاضلة".
لقد باشر الأنبياء كلهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، باشروا رعي الغنم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((ما بعث الله نبيًا إلا رعى الغنم)) ، فقال أصحابه: وأنت يا رسول الله؟ فقال ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)).
وكان كبار أصحاب رسول الله وأفضلهم يحترفون بأيديهم، وعلى رأسهم الخليفة الأول أبو بكر الصديق. قالت عائشة رضي الله عنها: لما استخلف أبو بكر الصديق قال: لقد علم قومي أن حِرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وشُغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وأحترف للمسلمين فيه.
لقد كان أصحاب رسول الله يتَّجرون وهم فقراء، فيغنيهم الله من فضله، وفي قصةِ عبد الرحمن بن عوف ما يوضح ذلك ويبينه، روى أنس بن مالك قال: قدم عبد الرحمن بن عوف، فآخى النبي بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، وعند الأنصاري امرأتان، فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئًا من أقط وشيئًا من سمن، فرآه النبي بعد أيام وعليه صفرة، فقال: ((مَهْيَمْ يا عبد الرحمن؟)) فقال: تزوجت أنصارية، فقال: ((فما سقت إليها؟)) قال: وزن نواة من ذهب، قال: ((أولم ولو بشاة)) رواه البخاري.
يتضح من كل ما تقدم تأكيد الشريعة الإسلامية على أهمية العمل والاكتساب، وأن على كل فرد قادر أن يسعى بنفسه لتحصيل ما يحتاجه من مقومات الحياة، والله تعالى قد قدر الأرزاق وكتبها، وعلى المرء أن يأخذ بجميع الأسبابِ الممكنة لتحصيل الرزق وجمعه، وأن لا يبقى خاملاً ينتظر رزقه، فإن الله تعالى أمر بالسعي في الأرض والتنقل بين أرجائها طلبًا للعمل والكسب، قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15].
قال ابن كثير رحمه الله: "أي: سافروا حيث شئتم من أقطارها، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات، وقد روى عمر بن الخطاب عن رسول الله قال: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا)) رواه أحمد والترمذي، فأثبت لها رواحًا وغدوًا لطلب الرزق مع توكلها على الله عز وجل، وهو المسخر المسير المسبب".
وقال عمر بن الخطاب : (لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن الله تعالى إنما يرزق الناس بعضهم من بعض)، وتلا قول الله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10].
ومع أن الخروج في طلب الرزق وتحصيله مما وجه إليه الشرع ورغَّب فيه فهو سبب لمغفرة الذنوب، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفورًا له)) رواه الطبراني.
كما أن السعي لكسب العيش وطلب الرزق جهاد في سبيل الله تعالى، فعن كعب بن عجرة قال: مرَّ على النبي رجل فرأى الصحابةُ من قوته ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله، فقال رسول الله : ((إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يُعفها فهو في سبيل الله)) رواه الطبراني.
وهكذا فإن الإسلام رغَّب في الكد والعمل والتحصيل، وذم البطالة بشتى صورها، وحذر منها لما فيها من الجمود والاتكالية، فبقاء الفرد عاطلاً دون عمل معتمدًا على غيره يجعله ذليلاً مكسور الجناح، واضعًا نفسه تحت رحمة الخلق وشفقتهم، يرجو برهم وعطفهم، ويخاف شرَّهم وعقابهم، فهو إن لم يسايرهم منعوا عنه العطاء، ومخرجه من ذلك أن يكون عاقلاً منتجًا، وأن يوجد لنفسه مهنةً، يكتسب من خلالها، وأن يكون في عداد المثمرين المنتجين، حتى لا يبقى عالة على نفسه ومجتمعه.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3652)
التاجر المؤتمن
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, البيوع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حث الشرع على طلب الرزق بالكسب والتجارة. 2- من آداب التاجر: تصحيح الهدف من التجارة، الصدق، اجتناب الحلف، الابتعاد عن التطفيف في الكيل والوزن، الحذر من الوقوع في الغش، السماحة وحسن الخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن طلب المعيشة والتكسّب من أهمّ الأمور التي حثّ عليها ديننا الحنيف، الذي أمر أفراده بالخروج في طلب الرزق، قال تعالى: وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:11]، وقال جل في علاه: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20].
والتجارة من المهن التي يمارسها الناس منذ القدم، لغرض التكسب والحصول على الرزق المشروع، وهي من أفضل طرق الكسب وأشرفها، وقد امتن الله تعالى على قريش، وذكر رحلاتهم التجارية التي يقومون بِها إلى اليمن والشام، فقال جل في علاه: لإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ [قريش:1، 2].
ونَهى جل وعز المؤمنين عن أكل الأموال بالباطل، واستثنى مال التجارة، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]. فأباح سبحانه وتعالى الربح الحاصل من البيع والشراء الذي يتمّ عن تراضٍ بين البائع والمشتري، ولأهمية التجارة فإن الله تعالى أذن بها بعد أداء صلاة الجمعة، وحثّ على الانتشار لطلب الرزق، في قوله جل في علاه: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10].
قال العلامة القرطبي رحمه الله: "هذا أمر إباحة، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا [المائدة:2]، يقول: إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم.
وكان عراك بن مالك رحمه الله إذا صلى الجمعة انصرف، فوقف على باب المسجد، فقال: اللهم إني أجبت دعوتك، وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين.
وورد أن عبد الله بن بُسْر المازني صاحب رسول الله كان إذا صلى الجمعة خرج فدار في السوق ساعة، ثم رجع إلى المسجد، فصلى ما شاء الله أن يصلي، فقيل له: لأي شيء تصنع هذا؟ قال: لأني رأيت سيد المرسلين يصنع هكذا، وتلا قوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]. رواه الطبراني وغيره.
وقال سعيد بن جبير رحمه الله: إذا انصرفت يوم الجمعة فاخرج إلى باب المسجد، وساوم بالشيء وإن لم تشتره.
وقد ذكر العلماء أن أكثر أسباب الرزق متعلق بالتجارة، وبينوا فضلها وآدابها المتعلقة بها، فمن أهم آداب التاجر ما يأتي:
أولاً: أن يهدف من تجارته وبيعه وشرائه عفة نفسه والاستعانة بالمال على إقامة الواجبات وامتثال الأوامر وترك المنهيات وصون أولاده وأهله عن الحاجةِ إلى الناس وسؤالهم واستجدائهم، وقد قال : ((لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطبُ على ظهره خير من أن يأتي رجلاً أعطاه اللهُ من فضله فيسأله، أعطاه أو منعه)) متفق عليه.
ثانيًا: أن يصدق في بيعه وشرائه، وليحذر من الكذب فإنه من صفات المنافقين، والصدق صفة محمودة في كل حين، وبالأخص في التجارة، فقد ورد عنه أنه قال: ((التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الترمذي وحسنه.
وهذه الصفة وإن كانت ثقيلةً على بعض التجار والباعة، إلا أن عاقبتها محمودة، وآثارها مطلوبة ومرغوبة، ومن أعظمها أن البائع إذا تحرى الصدق وصدق مع المشتري ولم يخدعه أو يدلس عليه كان المال الذي يحصل عليه مباركًا، ويوسع الله تعالى له في رزقه، ويفتح له أبوابًا من البيع، وييسر له أموره، قال : ((البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحقت بركة بيعهما)) متفق عليه.
ثالثًا: على البائع أن يتجنب الحلف في بيعه، فقد قال : ((إياكم وكثرة الحلف في البيع، فإنه يُنَفِّقُ ثم يمحق)) رواه مسلم، وفي الصحيحين عنه أنه قال: ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب)) ، وعَدَّ المكثر من الحلف في البيع والشراء من الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، فقال: ((ورجل جعل الله بضاعته؛ لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه)) رواه البيهقي.
رابعًا: على البائع أن يتجنب النقص في الكيل والوزن، وأن يوفي إذا كال أو وزن، كما لو كان ذلك له، وقد أعد الله لمن طفف أو اتصف به العذاب الشديد، فقال: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3].
كما أن البيع من الأمانة، والبخس في المكيال والميزان خيانة للأمانة، وهو سبب لاحتباسِ الأمطار وحرمان الناس والبهائم والأرض منها.
خامسًا: على البائع أن يبتعد عن الغش بجميع أنواعه، فيلزمه أن يبين العيوب التي في السلعة للمشتري، ولا يخفيها، وقد قال : ((من غشنا فليس منا)) رواه مسلم. فكل كسب يحصل عليه البائع بغشّ أو خداعٍ أو تدليس على المشتري فهو كسبٌ محرّمٌ لا يحل له، ولا يتصور أنه بتصريفه للسلعة التي في محله أو معرضه أو دكانه أنه قد استطاع أن يخدع المشتري ويستغفله، فإن الله تعالى مطلع على سره وعلانيته، فليتق الله تعالى، وليحذر من أليم عذابه وعظيم سخطه وعقابه.
سادسًا: أن يكون البائع سمحًا، حسن الخلق، طيّب المعاملة مع المشترين، فإن ذلك أمر مطلوب من المسلم، وصفة محمودة فيه، روى جابر أن رسول الله قال: ((رحم الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى)) رواه مسلم.
إن الصفات التي ينبغي أن يعرفها التاجر والبائع ويتحلّى بِها كثيرة، لكن عليه أن يصدُق ويبين ويبتعد عن الغشّ والتدليس وإلحاق الضرر بالمشترين.
روي عنه أنه رأى الناس يتبايعون فقال: ((يا معشر التجار)) ، فاستجابوا لرسول الله ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه، فقال: ((إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من اتقى وبر وصدق)) رواه الترمذي وصححه وابن حبان والحاكم.
اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3653)
مماطلة الدائن
فقه
البيوع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة مساعدة الناس وقضاء حوائجهم. 2- من أحكام الدين: توثيقه بالكتابة، توثيقه بالشهادة، المبادرة إلى قضائه، تبييت النية الحسنة بالقضاء. 3- ظاهرة المماطلة بالدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
يلجأ بعض الناس في حالات خاصة إلى اقتراض شيء من المال أو الاستدانة من الآخرين، حتى يتهيأ له إعادتها وييسر الله سدادها، وذلك أمر مباح، بل هو من باب الرفق بالمسلم والتعاون وتفريج الكرب الذي حث عليه النبي بقوله: ((ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه بِها كربة من كرب يوم القيامة)) متفق عليه.
وهناك من الناس ممن أنعم الله عليهم بنعمة المال، لا يتردد في إجابة أخيه وقضاء حاجته وإعانته، احتسابًا للأجر والثواب، وطلبًا للخير والبركة والزيادة من الرب الوهاب، قال : ((إن لله خلقًا خلقهم لحوائج الناس، يفزع إليهم الناس في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب النار)) رواه الطبراني.
وإذا كان ذلك من الأمور المشروعة والتي يؤجر فيها المقرضُ والدائن لإعانته المحتاج وتفريج كربته فإن الدين يتعلق به كثير من الأحكام التي يجدر بنا أن نقف على أهمها في هذه الوقفات:
الوقفة الأولى: إنَّ آية الدين الواردة في سورة البقرة قد دلت على مشروعية تسجيل الدين وتوثيقه بالكتابة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ [البقرة:282].
فينبغي توضيح مقدار المبلغ الذي استدانه، وبيان نوع الدين وصفته، وتحديد المدة التي اتفق الطرفان عليها، وأن يكون ذلك بينًا واضحًا لا لبس فيه؛ لأنه قد يحدث إشكال بين الطرفين فيما بعد، فيلجأ إلى الورقة المدون عليها الدين، فيزول الإشكال، ويرتفع اللبس الحاصل بينهما.
الوقفة الثانية: توثيق الدين بالشهادة لقوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].
وذلك لتكون الشهادة وثيقة احتياط؛ لأن إثبات الدَّين بشهادة الشهود تنفي أيّ شك، وترفع أدنى خلاف أو نزاع يحصل بين الطرفين، وهي طريقة لسلامة الدائن والمدين، وملزمة لكل منهما بما تضمنته.
الوقفة الثالثة: أن يبادر المدينُ أو المقترض إلى سداد الدين عند حلول الأجل المتفق عليه، وأن لا يماطل دائنه مع قدرته على السداد؛ لأن أمر الدين عظيم، فقد يفاجئه الموت، ويأتي الأجل وهو مستمر في مماطلته، فتبقى حقوق الناس في ذمته، وقد بين النبي خطورة ذلك، وحث على التعجيل في قضاء الدين.
بل إنه كان يستعيذ من الدين ابتداء، قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله يدعو في الصلاة: ((اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)) ، فقال له قائل: يا رسول الله، ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال: ((إن الرجل إذا غرم حدَّث فكذب، ووعد فأخلف)) رواه البخاري ومسلم.
وشدد في أمر الدين، وبيَّن أنه من حقوق الآدميين التي يجب قضاؤها، وأن دخول الجنة متوقف على قضائه، فقد قال لأصحابه مرة وقد وضع راحته على جبهته: ((سبحان الله، ماذا أنْزِلَ الليلة مِن التشديد؟)) فسكت الصحابة رضي الله عنهم وخافوا، ثم سألوه من الغد: يا رسول الله، ما هذا التشديد الذي نزل؟ فقال : ((في الدَّين، والذي نفسي بيده، لو أن رجلاً قُتل في سبيل الله ثم أُحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه)) رواه النسائي.
كما أن المسلم إذا مات وعليه دين ـ لم يقضه ولم أو يُقْضَ عنه ـ يُخشى عليه من عذاب القبر، فإن النبي لما امتنع في بداية الأمر من الصلاة على مَن عليه دين وتكفل أبو قتادة رضي الله عنه بأدائه ولقيه من الغد، قال: ((ما فعل الديناران؟)) فقال: يا رسول الله، إنما مات أمسِ، ثم لقيه في اليوم التالي وقال: ((ما فعل الديناران؟)) فقال: يا رسول الله، قد قضيتُها، فقال : ((الآن بردت جلدته)) رواه أحمد. وفي الحديث الآخر قال : ((نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه)) رواه أحمد والترمذي.
الوقفة الرابعة: أن على من احتاج إلى أخيه باقتراض شيء من ماله أو الاستدانة منه أن يُبيت النية الحسنة بسداد الدين وإعادة المال المقترض عند حلول أجله أو توفر المال لديه، وأن لا ينوي استغلاله ومماطلته وأكل ماله، فإنه إن نوى ذلك فقد عرض نفسه للعقوبة، قال رسول الله : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) رواه البخاري. فإن كان في نيته الأداء أعانه الله تعالى ويسر ردها بالتي هي أحسن ووفقه لذلك، وهيأ له من الأسباب ما يعينه على قضاء الدين ورده، وإن كان في نيته غير ذلك سلَّط الله عليه عقوبة في نفسه وماله بكثرة المصائب ومحقِ البركة، والجزاء من جنس العمل.
لقد انتشر في الآونة الأخيرة بين كثير من المقترضين والمستدينين ظاهرة عدم وفاء القرض أو وفاء الدين، فتجد الشخص يأتي إلى أخيه في بداية الأمر ليطلب منه سلفةً نقدية أو سلعة يشتريها بالدَّين، ويظهِر له حسنَ النية بكلام معسول وعبارات مُنَمَّقَة، وأنه سيسدّده في الوقت الذي يحدّده المقرِض، وهو في الحقيقة يضمر خلافَ ذلك، ثم يأخذ المال وتمر عليه شهورٌ وربما سنوات دون أن يعتذِر منه، أو يطلب فسحة في الأجل.
وهذا ليس من خلق المسلم، وليس من الأدب الإسلامي في شيء، فإن ديننا يحثّ على رد الجميل، والمكافأة للمعروف بمثله أو أحسن منه والدعاء لصاحبه، وقال : ((خير الناس أحسنهم قضاء)) متفق عليه.
فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى في ذلك، ويخشى عقوبته ووعيده الذي أخبر به ، وليبادر إلى رد القرض وأداء الدين عند حلوله دون تسويف أو مماطلة.
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3654)
صفاء القلوب
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, أمراض القلوب, مساوئ الأخلاق
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- دعوة الإسلام إلى صفاء القلب وسلامته. 2- القلب النقي من الحقد هو القريب من الناس. 3- من آثار الحقد السلبية. 4- عظيم الأجر في نقاء القلب والسريرة. 5- الحسد هو الطريق إلى الحقد. 6- وصية نبوية جامعة في التعامل مع الخلق.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن صفاءَ القلوب وسلامة الصدور ونقاء السريرة صفات محمودة، دعا الدين الحنيف إليها، ومدح المتصفين بها، وأثنى عليهم، وبيَّن فضلهم وعلُو درجاتهم ورفعة منازلهم، إذ هي أخلاق المسلم وخلال المؤمن التي من شأنها تقوية الصلة وتوثيقها بين أفراد المجتمع، وتكوين رابطة مثلى، تنشر الرحمة والعطف والود بين كافة فئات المجتمع.
فالقلب حين يكون نقيًا من الشحناء، سليمًا من البغضاء، خاليًا من الحقد والضغينة، فهو القلب العطوف الذي أُتْرِع بالرحمة، وملئ بالحنان والشفقة، إنه القلب الذي ينبع بمحبة الخير وأهله، وصنع المعروف وبذله، يتتبع مواطن البر والإحسان، ويتفقد المحتاجين في مجتمع الإيمان.
القلب النقي من الحقد هو القريب من الناس، المحبوب عندهم، المرغوب في القرب منه والتعامل معه؛ لأن ما في داخله ظهر على وجه صاحبه، واتضح في سلوكه وتعامله، فهو بعيد عن التقلب والتلون، ليس من عادته المكر والخداع، ولا المراوغة والتصنُّع.
قال تعالى: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا [الحشر:9] أي: لا يحملون في قلوبهم حقدًا ولا حسدًا ولا ضغينة على إخوانهم ولا عداوة لهم.
إن الحقد يولّد النفرة والاستثقال للآخرين وبُغْضَهم، والبعد عن الأخيار والطيبين وكراهتهم، وإظهارَ المساوئ وإخفاء المحاسن. والحطُّ من مكانة الناس وازدراؤهم أعمالٌ مذمومة، ومن سلِم من ذلك غفر الله تعالى له، روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ثلاث من لم يَكُنَّ فيه غفر الله له ما سواه لمن شاء: من مات لا يشرك بالله شيئًا، ولم يكن ساحرًا يتبع السحرة، ولم يحقد على أخيه)) رواه البخاري في الأدب المفرد.
وحين يُصفِّي المؤمن سريرته من الأوغار، وينقيها من الأحقاد، فإنه ينال الثواب العظيم والأجر الجزيل الذي يطمحُ إليه كلُّ مسلم، ألا وهو الفوز بالجنة والتنعم بخيراتِها، يوضح ذلك ما رواه أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا مع رسول الله فقال: ((يطلع الآن عليكم رجلٌ من أهل الجنة)) ، فطلع رجل من الأنصار تَنْطُفُ لحيتُه من وضوئه، قد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأول، فلما قام النبي تبعه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما فقال: إني اختلفت مع أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاث ليال، فإن رأيت أن تؤويني إليك هذه المرة، فقال الرجل: نعم، فبات معه ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل شيئًا، غير أنه إذا تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وَكَبَّرَ حتى صلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرًا، فلما انقضت الليالي الثلاث، وكدتُ أن أحتقر عمله، قلت له: يا عبد الله، لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ ولا تهاجُر، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة)) ، فطلعت أنت المرات الثلاث، أردت أن آوي إليك فأنظر ما عملك، فأقتدي بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ؟ قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي على أحدٍ من المسلمين غِشًا، ولا أحسُدُ أحدًا على خير أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغَت بك، وهي التي لا نطيق. رواه أحمد بإسناد على شرط الشيخين.
فتبين من هذا أن السلامة من الغش والخديعة وتطهير القلب من الحقد والضغينة ونظافة الصدر من السخيمة كل ذلك يدفع بالمسلم إلى رفعة الدرجات، وفوزه برضا رب الأرض والسموات، فيثيبه على ذلك أعظم الثواب، ويمنُّ عليه بالجنة أنفس مرغوب وأحسن مآب.
إن من أقبح الصفات التي تدفع بالمرء إلى الحقد ما يكون في قلبه من الحسد، وتمني زوال النعمة عن أخيه، والفرح بنزول البلاء به، والسرور عند إصابته بمصيبة، وقد قال : ((إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)) رواه أبو داود، والقلب لا يتسع إلا للإيمان، ومن لوازمه محبة الإنسان الخير والنجاح والفوز والفلاح لإخوانه، قال : ((لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد)) رواه ابن حبان.
إن الحقد من الصفات الذميمة التي تمزق عرى الصداقة، وتفرق القلوب المتآلفة والنفوس المتحابة؛ لأن القلوب إذا تآلفت ارتبطت برباط المحبة، وراعت حقوق الأخوة الإسلامية التي أكد عليها القرآن: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وحذر من المسببات الجالبة لتمزيقها وذهابها، يقول : ((إياكم والظنّ، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم.
ما أعظم هذه التوجيهات النبوية والإرشادات المحمدية التي يدعو فيها الحبيب المصطفى إلى البعد عن كل صفة منها، فهو يؤكد على صرف الهمة إلى الاعتناء بأحوال القلب وصفاته، بتصحيح مقاصده وأهدافه، وتطهيره عن الصفات الذميمة وغرس الخلال الحميدة في سويدائه.
إنك لو أمعنت النظر في هذا الحديث، وما ورد فيه من الصفات التي تأبى الأُخُوَّةُ الإيمانية أن يتصف بِها المؤمن أو يرضاها لأخيه لوجدتَ أن كثيرًا من القلوب قد أُشبعت بها، وارتوت الأفئدة بآثارها السيئة، فنتج عنها الحقد والضغينة، ولعل السبب في ذلك هو التنافس المثير في جمع المادة واللهث وراء بريقها الزائف والجري خلف حطام الدنيا، ولم يسلم من ذلك إلا من طهَّر الله قلبه، فانصرف بكليته إلى عبادة ربه، وتعلق فؤاده بخالقه، وصدق في توجهه إلى سيده، فلم تُنسه المغريات ما هو مترقب له وقادم عليه ومنتظر وقوعه، لا يخاف الضيق في دنياه، ولا الضنك في هذه الحياة، وهو متوكل حق التوكل على الرازق الوهاب، ومخلص في عبادته لرب الأرباب.
والناس في هذه الدنيا على رُتبٍ هذا يُحطُّ وذا يعلو فيرتفع
فأخلِصِ الشكرَ فيما قد حبيتَ به وآثرِ الصبرَ كلٌّ سوف ينقطع
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3655)
الحنين إلى البلد الأمين
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأزمنة والأمكنة
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
26/11/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وفود الحجيج إلى البيت العتيق. 2- فضل مكة المكرمة. 3- من ذكريات مكة. 4- مكانة الحج وفضله. 5- وجوب تعظيم الشعائر. 6- ضرورة تعلم أحكام الحج والعمرة. 7- أهمية التوحيد. 8- فضل عشر ذي الحجة. 9- التحذير من الفتوى بغير علم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18]، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235].
أيّها المسلمون، احفَظوا على أنفسِكم الأوقات فإنّه لا قيمةَ لها، وطيِّبوا لأنفسِكم الأقوات ولا تنالوا إلاّ أحلَّها، وزِنوا الأعمالَ بميزان الشّرع وصحِّحوا المقاصدَ والنيات وخذوا بالإخلاص فضلها، وراقِبوا في السّرّ والجهرِ عالمَ الخفيات فما أحسنَ المراقبةَ وأجلّها، واغتنِموا أيامَكم الفاضلة قبل الفوات أيامًا شرَّفها الله وفضّلها.
وبعد: أيّها المسلمون، في هذه الأيّام المباركة تستقبِل مكّةُ وفودَ الحجيج، ويحتضِن المسجد الحرام ضيوفَ الرحمن في مواكبَ مهيبة تجلِّلهم عناية الله، جاؤوا من كلِّ فجٍّ عميق يلبّون نداءَ ربهم ويجيبونَ أذانَ خليله: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:26، 27]. جاء الحجّاج يحثّونَ المطايا، يسابِقهم الشوق، ويحدوهم الأمل، يغمرُهم الفرحُ وهم في مسِيرِهم إلى بيت الله المعظَّم، طامعين في تكفيرِ الخطايا وبلوغِ الجنان، يؤدّون الركنَ الخامس من أركانِ دينهم في أقدسِ بُقعةٍ على وجه الأرض.
مكّةُ المكرَّمة تاريخٌ وذكريات سيرةٌ ومسيرة، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:96، 97]. إليه حجَّ الأنبياء وصلّى إمامُ الحنفاء، مِن مكّة شعّ نورُ الهدى، وانطلَقَت رسالة التوحيدِ حتى عمَّت أرجاءَ الأرض، وغيّرتِ العالم، وأرسَت أجملَ وأعدلَ حضارة عرَفها التاريخ، فهي مركَز العالم ورَمز وحدةِ المسلمين ومَصدَر النور للعالمين، أفضلُ البِقاع عند الله، وأحبُّ البلاد إلى رسول الله صلّى وسلّم عليه الله. مكّةُ المكرّمة أمّ القرى، بها ميلادُ أشرف الورى، على رُباها نشأ وترعرع، وفي أرجائِها مشى وما تضَعضَع، نصفُ قرنٍ من الزمان شهِدَت حياةَ النبيّ في مكّةَ، فأيّ شرفٍ يعلو هذا الشرف؟! ولو نَطقَت هذه الرُّبى فأيَّ سيرةٍ ستذكر؟! وأيَّ تاريخٍ ستسرد؟!
في هذه البقاعِ نزل جبريل عليه السلام بالوحي، وصدَع النبي بالتوحيد من جبلِ الصّفا. لو حدَّثتكم الكعبةُ أو حكى زَمزم والمقام لقالوا: كان هنا أبو بكر وعمر، وكان عثمان وعليّ، وغيرهم من الصَّحب الكرام رضوان الله عليهم أجمعين. أضاؤوا الدنيَا، وطهّروا الأرضَ، واعترَك التوحيد مع الوثنيّة حتى أظهرَ الله الدّين.
هنا وقف النبيّ أمامَ الكعبةِ ليقرّرَ مبادئ الدّين العظمى، ويرسُم نهجَ الإنسانية الأرقى، والذي عجزَت عن تحقيقِه كلُّ حضارات البشَر إلى يومنا هذا.
حجاجَ بيت الله الحرامِ، هنيئًا لكم بلوغُ بيت الله المعظّم، هنيئًا لكم هذه الشّعائر والمشاعر، شرفُ الزمان وشرف المكان مع عظيم الأعمالِ، فاحمدوا الله على ما حبَاكم من هذه النِّعَم، واشكروه فقد تأذّن بالزِّيادة لمن شكَر، قدِمتم أهلاً، ووطئِتم سهلاً، وأنتم ضيفُ الله ووفدُه، الواجِبُ إكرامُه ورفده، يسّر الله حجَّكم، وحفِظكم من كلِّ مكروه، وجعل حجّكم مبرورًا وسعيَكم مشكورًا، تقبَّل الله منّا ومِنكم.
أيّها المسلمون، إنَّ قصدَ هذه البقاع الطاهرةِ يكفّر الذنوبَ ويمحو الآثامَ ويحطّ الأوزارَ، بل ليس للحجِّ المبرور جزاءٌ إلا الجنة، قول نبيكم.
كم اشتاقت لبَطحاءِ مّكةَ النفوس وهفت لرُباها القلوب، وكم مِن باكٍ شوقًا وتوقًا، وكم من متحسِّرٍ يتمنَّى رؤيةَ وادي محسِّر، يتمنّى المبيتَ ليلة بمِنى أو الوقوف ساعةً بعرفة أو المشاركةَ في ليلةِ مزدلفة أو المزاحمةَ عند الجمرات أو الطواف بالبيت وسَكب العبرات، يتمنّى هذه المواطنَ حيث تسيل العَبرَات وتنزل الرحمات وتُقال العثرات وتُستَجَاب الدعوات، سقَى الله تلك الرّبى والبِطاح.
هذه الخيف وهاتيك مِنى فترفَّق أيّها الحادي بنا
واحبسِ الرّكبَ علينا ساعةً نندُب الرّبعَ ونبكي الدَّمِنا
فلذا الموقِف أعدَدنا البُكا ولذا اليومِ الدّموع تُقتَنى
ما على حادي المطايا لو ترفَّق ريثما أسكُب دَمعِي ثم أَعنَق
هذه الدّارُ التي يعرِفُها بالهوى مِن أهله مَن كان أشوق
ولا زالتِ المواكب تتدفّق بالحَجيج مِن كلّ فجٍّ عميق، ما أجملَ أصوات التلبيةِ تعُجّ بها الطائراتُ في الأجواء، والمواخِر في عُباب البحار، والمراكِب التي تلتهِمُ الطريقَ وتغُذّ السيرَ آمّين البيت الحرام، لبّيكَ اللّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. وجهةٌ واحدة، وهدَف واحِد، كلُّهم مستجيبون، ثمّ في حرَمِ الله يلتقون. إنها قوافِلُ الإيمان ورِحلةُ الحياة إلى مَهوَى الأفئِدَة ورمزِ الإسلام وقِبلة المسلمين.
عبادَ الله، حجّاجَ بيته الحرام، إنّ منزلةَ الحجّ عند الله عظيمة، ومكانتَه في الدين كبيرة، أوجبَه الله بقوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97].
أمّا فضلُه فقد روى أبو هريرةَ أنّ النبيَّ قال: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارةٌ لما بينهما، والحجّ المبرور ليس له جَزاءٌ إلا الجنّة)) رواه البخاريّ ومسلم، وفي الصحيحين أيضًا أنَّ النبيَّ سئل: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله عزّ وجلّ)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((جهادٌ في سبيل الله)) ، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الحجّ المبرور)).
إنّه تجارةُ الدّنيا والآخرة ورِبح الدّارين، عن ابن مسعود قال: قالَ رسول الله : ((تابِعوا بين الحجّ والعمرةِ؛ فإنهما ينفِيان الفقرَ والذنوب كما ينفي الكير خبَثَ الحديد)) رواه أحمد والترمذي بسند صحيح، وفي الصحيحين أنّ النبيَّ قال: ((من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسُق رجع كما ولدَته أمه)) أي: نقِيًّا من الذنوب والخطايا، هذا معَ مُضاعفة الحسناتِ ورِفعة الدرجات، عن جابرٍ أن النبيَّ قال وهو بالمدينة: ((صلاةٌ في مسجدي هذا أفضلُ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجدَ الحرام، وصلاةٌ في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة)) رواه أحمد والبخاري في التاريخ بسند صحيح، أي: صلاة أربعٍ وخمسين سنة، فهل يُلام في هَوَى الحرَمِ بعد ذاك أحد؟! ناهيك عن مواقفِ الرّحمة في عرفات، والازدلافِ عند المشعر الحرام، والتقلّب في فجاج مِنى، والطوافِ بالبيتِ وبين الصفا والمروة، ورمي الجمرات، وكلُّ ذلك من مواطنِ الرّحمة وإجابة الدعاء.
أمّا عرفات، وما أدراك ما عرفات؟! يقول النبيّ : ((ما مِن يومٍ أكثر من أن يعتِق الله فيه عَبدًا من النار من يومِ عرفة، وإنّه ليدنو ثم يباهِي بهم الملائكةَ، فيقول: ما أراد هؤلاء؟)) رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها. إنهم يريدون رحمةَ ربهم وجنّتَه، يريدون مغفِرةَ ذنوبهم والعتقَ من النار، جاؤوا من أقاصي الدّنيا وأطراف الأرض، ترَكوا أهلَهم وأوطانهم، وأنفَقوا كلَّ ما يستطيعون للوصولِ إلى هذه الأماكن الشريفة، في وقتٍ ترى فيه بعضَ الموسرين القادرين يتكاسَلون عن أداءِ فريضة الإسلام، ينفِقون أموالهم ويضيِّعون أوقاتهم في السّفَر والنزهة واللّهو والغفلة لم يحُجّوا مرّةً واحدة. ليعلَم هؤلاء أنهم ترَكوا ركنًا مِن أركان الإسلام، يقول عمَر بن الخطّاب : (من كانَ ذا مَيسَرة فمات ولم يحج فليمُت إن شاءَ يهوديًّا أو نصرانيًّا)، ورُوي مثلُه عن عليِّ بنِ أبي طالب. فليتّقِ اللهَ وليبادِرِ المستطيع قبلَ الفوات، ولو فاجأه العَجز أو الأجَل فلن ينفَعَه الاعتذار بالتهاون والكسل.
أيّها المؤمنون، حجّاجَ بيت الله العتيق، أمَا وقد أوصلَكم الله بيتَه فعظِّموا شعائِرَه يزِدكم إيمانًا وتَقوى، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32].
ومِن تعظيم الشعائِر إحسانُ العمل وإتمامه والحِرص على كماله واتباع هديِ النبيِّ في كلِّ صغيرةٍ وكَبيرة، وقد قال: ((خذوا عني مناسككم)). كما أنَّ تتبُّع الرّخَص والتهاونَ في المناسك خُذلان ونَقص، والله تعالى يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]. كما أنَّ من تعظيمِ شعائر الله البعدَ عمّا ينقِص الحجَّ واحتِرام وتوقيرَ الزّمان والمكانِ الذي عظّمه الحقُّ سبحانه. تجنَّبِ المراءَ والجدل والخِصام والتشويش، فالقَبول والمغفِرة مشروطة بذلك، قالَ الله عزّ وجلّ: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197]، وقد سَبَق قولُ النبيِّ المخرَّج في الصحيحين: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)).
إنَّ زكاءَ النفس وزيادةَ الإيمان وحصولَ التقوى يكون حينَ يقبِل المسلم على عبادَتِه بأدبٍ وخشوع، ويتفرّغ لما جاءَ له وما قصَدَه، حافظًا وقتَه مخلِصًا لربه. كما ينبغِي السؤال عن الأحكامِ الشرعيّة قبل الشروعِ في العمل، فكم من حاجٍّ يعبد اللهَ على جهل، لا يتعلّم ولا يسأل، وكم من مُستفتٍ لو سَأَل قبلَ العمل لم يقَع في الحرج. وعلى القائمين على الحجّاج مسؤولية عظيمة، فليتّقوا الله، وكلّ راعٍ مسؤول عن رعيّته.
أيّها المؤمنون، إنَّ الأصلَ الذي بنِيَ عليه هذا البيتُ العظيم هو توحيدُ ربِّ العالمين القائل في محكم التنزيل: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26]. وفي ثنايا آياتِ الحج قال سبحانه: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ [الحج:30، 31].
فطهِّروا أعمالَكم رحمكم الله، والزَموا السنةَ في أعمالكم وجميعِ حياتكم، فإنّ الشركَ محبِط للعمل. والزَموا ذكرَ الله تعالى فهو سِمَة بارزَة في الحجّ، وهو إعلانٌ للتوحيدِ الذي هو شِعَارُ الحجّ: "لبّيكَ اللّهمّ لبيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنّعمة لكَ والملك، لبيك لا شريكَ لك"، وقد قال سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203]، وقال: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، وقال عزّ من قائِل: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [البقرة:200]، وقال سبحانه: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، وسلَك بِنا سنّةَ سيّد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حقَّ حمدِه، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد نبيِّه وعبدِه، وأشهَد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لمجدِه، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله أزكَى الأنام وأفضل من حجَّ البيت الحرام، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم وعدِه.
أمّا بعد: أيّها المسلمون في كلّ مكان، عمّا قليلٍ ستحلّ الأيامُ العَشْر الأُولى من شهرِ ذي الحجة، وهي أيّامٌ عظّم الله قدرَها، ورفع ذكرَها، وأقسَم بها في كتابه فقال: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]، وفي صحيحِ البخاريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((ما مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيها أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من هذه الأيام العشر)) ، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجلٌ خرَج بنفسِه وماله ثم لم يرجِع من ذلك بشيء)).
ويُستَحبّ فيها الإكثارُ من الصالحات وأنواعِ النوافل والتكبيرِ والتحميد والتهليل، فأحيوا هذه السنَنَ، وابتغوا عند الله الخير لعلكم تفلحون.
ومَن لم يكن حاجًّا فيُستَحبّ له صيام يومِ عرفة، لحديث أبي قتادةَ أن النبيَّ قالَ عن صوم يومِ عرفة: ((أحتسِب على الله أن يكفّر السنةَ الباقية والماضية)). ومَن نَوى أن يضحِّي فلا يقصّ شيئًا من شَعرِه أو ظُفره من دخولِ العشر إلى أن يضحّي.
وثمّةَ أمرٌ مهمّ ينبغي تنبيهُ الناس عليه، ألا وهو التّسابقُ للفَتوى ممن لا يحسنها والقولُ على الله بلا عِلم، فكم من متسرِّعٍ أحرَجَ الحجاج، وربما حمل وِزرَ إفساد حجِّهم بتصدُّرِه للإفتاءِ وهو لم يُصدَّر، وبتدخُّلِه في التّوجيه وهو لم يُسأَل، وقد كان في عافيةٍ لو لزِمَ التقوى والورَع، ولقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم يتدافَعون الفتوى، فما بالُ أقوامٍ اليومَ يتسابقون فيها كأنها غنيمَة؟! لا شكّ أنَّ تعليمَ الناس وإرشادَهم وإفتاءَهم من أعظم القُرُبات وألزمِ الواجبات، لكنّه للعلماء وطلبةِ العمل المدركين، أمّا من الجهّال والعوامّ فجريمة، وقد قرَن الله تعالى القولَ عليه بلا علم بالشركِ والإثم والبغي. إنّ الحجَّ عبادةٌ ونسُك تحتَاجُ إلى فقهٍ وعُمق، وعلى المؤهَّلين أن يقوموا بدورِهم ليُستَغنَى بهم عن غيرهم.
ثم اعلَموا ـ رحمكم الله ـ أن الله قد أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى فيه بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون من جنّه وإنسه، فقال جل في علاه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:65].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد ما زهرت النجوم وتلاحمت الغيوم، وصل وسلم على نبيك وآله وأصحابه وأزواجه وذريته، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين...
(1/3656)
كلمة التقوى
التوحيد
أهمية التوحيد, شروط التوحيد
حسين بن عبد العزيز آل الشيخ
المدينة المنورة
26/11/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل كلمة التوحيد ومدلولاتها. 2- شروط كلمة التوحيد. 3- سنة الله في الابتلاء والتمحيص. 4- الرابطة الحقيقية لأهل الإسلام. 5- علاقة الأخلاق والآداب بالعقيدة الإسلامية. 5- مذهب أهل السنة والجماعة في مسائل التكفير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، اتّقوا الله جلّ وعلا يغفِر لكم ذنوبكم ويجِركم من عذاب أليم.
إخوة الإسلام، أجلُّ ما في الحياةِ تحقيقُ التعبُّد للهِ جلّ وعلا، ولأجل ذا فالتّوحيد أعظم مطلوبٍ وأكبر مقصود، فلا إلهَ إلا الله هي زُبدة دعوةِ الرسل وخلاصة رسالتهم، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].
"لا إله إلا الله" لها من الفضائل العظيمةِ والمزايا الكبيرة والثّمار النافعة والأجورِ الكريمةِ ما لا يمكن لأحدٍ استقصاؤه ولا لمخلوقٍ عدُّه، لها مِنَ الأجر العظيم والثّواب الكبير ما لا يخطُر ببالٍ ولا يدور في خيال، قال سفيان بن عُيينة رحمه الله: "ما أنعَمَ الله على العبادِ نعمةً أعظمَ من أن عرَّفهم لا إله إلا الله".
هي الكلِمة الطيّبة والقول الثابت والعروةُ الوثقى وكلِمة التقوى، من تمسَّك بها نجا، ومن فرَّط فيها هلَك، ففي الصحيحين أن النبيَّ قال: ((إنّ اللهَ حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغِي بذلك وجه الله)).
إخوةَ الإسلام، وهذهِ الكلمةُ العظيمة لها حقُّها وفرضُها، ولها شروطُها ولَوازِمُها، قيلَ للحسَن البصريّ رحمه الله: إنَّ ناسًا يقولون: من قال: لا إله إلا الله دخَل الجنة، فقال: "مَن قال: لا إله إلا الله فأدَّى حقَّها وفرضَها دخل الجنة"، وقال وهب بن منبّه رحمه الله لمن سأله عن مفتاحِ الجنّة وأنه لا إله إلا الله، فقال: "بلَى، ولكن ما مِن مفتاحٍ إلا وله أسنان، فإن أتيتَ بمفتاحٍ له أسنان فتِحَ لك، وإلاّ لم يُفتَح". حينئذٍ ففرضٌ على كلِّ مخلوق القيامُ بحقيقةِ مدلولها والتطبيق لأساسِ مقصودها من إثباتِ الوحدانية لله جل وعلا ونفيِ الشركِ عنه سبحانه وتعالى.
هذه الكلِمةُ العظيمة "لا إله إلا الله" ليسَت اسمًا لا معنَى له، أو قولاً لا حقيقةَ له، أو لفظًا لا مضمونَ له، بل لها المَعنى العظيمُ والمفهوم الجَلِيل الذي هو أجلُّ من جميع المعاني وأعظَم من جميع المباني. إنها تضمَّنت معنى أساسيًّا هو أنَّ ما سِوى الله لا يُعبَد ولا يؤلَّه، وأنّ إلَهِيّة ما سواه أبطَلُ الباطل وأظلَم الظلم ومنتهَى الضّلال.
كلمةٌ عظيمة لا تنفَع قائلها إلا حين يعرِف مدلولها نفيًا وإثباتًا، ويعتقِد ذلك ويعمَل به، من قالها وهو يعلَم علمًا جَازمًا أنه لا معبودَ حقٌّ إلا إلهٌ واحد هو الله جلّ وعلا لا شريك له. كلمةٌ تقتضي إثباتَ العبادة وإخلاصَها لله وحدَه واجتنابَ عِبادة ما سواه ونفيَ جميع أنواع العبادةِ عن كلِّ من سوى الله، على حدِّ قول الله جل وعلا: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
"لا إله إلا الله" اشتمَلَت على معنى عظيم، وهو أنّ العبدَ لا يقصد شيئًا بالتألُّه والتعبُّد والخضوعِ والتذلّل إلا للهِ الواحِد الأحَدِ، بتوحيدٍ نقيٍّ تخرُج النفس به مِن ظلمات الجهل، وترتفِع به من أوحالِ الشرك، وتتطهَّر به من دنَس الخرافات والأوهامِ. توحيدٌ خالِص يرتفع به الإنسانُ كريمًا من أن يخضَعَ لأيّ مخلوقٍ علَت مرتبته أو دنَت، يقول عزّ شأنه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
"لا إله إلا الله" معناها إفرادُ الله جلّ وعلا بالعبادة والبراءةُ الكاملة من عبادةِ كلِّ ما سواه من الشفعاءِ والأنداد، ولو كانوا ملائكةً مكرَّمين أو أنبياءَ مرسَلين، قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:11-14].
كلمةٌ ما أجلَّها، تتضمَّن الإقبالَ على اللهِ وحدَه خُضوعًا وتذلُّلاً، طمعًا ورغبًا، إنابَة وتوكُّلاً، دعاءً وطلبًا، رجاءً وخوفًا. فأهل "لا إله إلا الله" لا يصرِفونَ شيئًا مِن العِبادة والتديُّن لغير الله، فهم لا يسأَلون إلاّ الله، ولا يدعُون إلا إيّاه، ولا يتوكَّلون إلا عليه، ولا يرجُون غيرَه، ولا يذبحونَ ولا ينذُرون إلاّ له، ولا يَرجون كشفَ ضرٍّ ولا جَلبَ نَفعٍ إلاّ منه وحدَه، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
أخِي المسلم، "لا إله إلا الله" من شروطها العلم بمعناها المذكورِ آنفًا، فربُّنا جلّ وعلا يقول: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19]، ونبيُّنا محمّد يقول فيما رواه مسلم: ((مَن ماتَ وهو يعلَم أن لا إلهَ إلا الله دخل الجنة)).
من شروطِها أن يكونَ قائلُها موقِنًا بها يقِينًا جازمًا لا شكَّ فيه ولا ريب، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا [الحجرات:15]، وسيِّد الخلقِ صلوات الله وسلامُه عليه يقول: ((أشهد أن لا إلهَ إلا الله وإني رسولُ الله، لا يلقَى الله بهما عبدٌ غيرَ شاكٍّ فيهما إلا دخَلَ الجنّةَ)).
مِن شروطها الإخلاصُ المنافي للشّرك والرّياءِ؛ بتصفيَةِ الأعمال والأقوال والأفعالِ وتَنقيَتها من جميعِ الشوائبِ الظاهرة والباطنَةِ، في صحيح البخاري أن سيد الخلق قال: ((أسعَد الناسِ بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه)).
من شروطِها ـ عبادَ الله ـ الصدقُ فيها باللسان والقلبِ والعمل، ففي الصحيحَين عن إمام الموحِّدين صلوات الله وسلامُه عليه أنه قال: ((ما مِن أحدٍ يشهد أن لا إلهَ إلا الله وأنّ محمّدًا عبده ورسوله صادقًا من قلبِه إلاّ حرّمه الله على النار)).
من شروطها المحبّة الكاملة لله ولرسوله والمحبّةُ لدينه وشرعِه، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165].
مِن شروطها القَبولُ الكامِل لهذه الكلمة، قبولاً تامًّا بالقلب واللسان، مع الانقياد والقيام بشرعِ الله والإذعان لحكمه والتسليمِ الكامل لذلك، وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22].
فتوحيدُ الاعتقادِ يتبَعه توحيدُ العمل والاستقامَةُ في الاتّباع، فلا تقوم العقيدةُ بصفائها إلاّ حين يقارنها العملُ الصالح والإحسَان فيه، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [النساء:125]. فصاحب "لا إله إلا الله" مَشاعِر قلبِه وخلَجَات ضميرِه مرتبِطة بربِّه، مؤتمِرةٌ بأوامره، منتهية عن نواهيه.
معاشرَ المسلمين، أمّةُ "لا إلهَ إلا الله" أمّةٌ مؤمِنةٌ باختِصاص ربها بالحكم، لا تنازع ربَّها في حكمه، مسَيطِرٌ دينُها على هواها، متغلِّب على النفوس وبواعثِها وغاياتها، الإسلامُ دستورُها ونِظامها، وهو مصدَر فخرِها وعزِّها، أمّةٌ خاضعة لربِّها، طائِعَة لخالقها، منقادَة مسلِّمَة لشريعة خالِقِها، إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ [الأنعام:57]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
أمّةَ الإسلام، تمرُّ بديار الإسلام أزَماتٌ حادّة وفِتَن مدلهِمّة، وتحلُّ بهم بلايا كبرَى ونكباتٌ شتى، وما يحلُّ ومَا يقَع من نكَبات ما هو إلاّ سُنَن الله في الابتلاءِ والتمحيص، فربُّنا جلّ وعلا يقول: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4]، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [آل عمران:141].
فأهل "لا إلهَ إلا الله محمّد رسول الله" لا تزيدُهم الابتلاءَاتُ والفِتَن إلاّ إيمانًا صادقًا باللهِ وتَصديقًا محقَّقًا برسول الله وثَباتًا على الحقّ عقيدةً وسلوكًا ونِظامَ حياة، فربُّنا جلّ وعلا يقول: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران:146]، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120].
نعم، يعلَمون أنه التّخلِّيَ عن حقوقِ "لا إله إلا الله" وأنّ الانفصالَ عن ذلكَ خسَارةٌ مَا بعدَها خَسارَة، يدرِكون أنَّ ذلك هو الهلاكُ والفَناء، يستيقِنون أنّه لا حياةَ لأمة الإسلامِ إلاّ بالإسلام، بقاؤُها مرهونٌ بالمحافَظَة عليه، وفناؤُها راجِعٌ إلى التفريطِ فيه، يدوم عِزّها بدوامِه، ويضمحلّ باضمحلاله.
أمّةَ الإسلام، إنَّ الرابطة الحقيقيّةَ التي يجتمِع عليها أهلُ الإسلام فتجمَع المتفرِّق وتؤلِّف المختلِف هي رابطةُ "لا إله إلا الله محمّد رسول الله"، فعليها يجِب أن يوالُوا، وبها يحِبُّون، وبها تصبِح مجتمعاتهم كالجسَد الواحِد وكالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا.
إنها رَابِطةُ العقيدةِ التي تَضمَحِلّ معها كلُّ وشيجَةٍ، وتتهاوى دونها كلُّ صِلَة، بها تتوحَّد الصفوف وتتألَّف القلوب، تجمَع القلوبَ المتنافِرَة، وتؤلِّف بين الشعوبِ المتناثِرَة. رابِطةٌ تتضاءَل أمامَها الشِّعارَاتُ القَبليّة والدعواتُ العنصريّة والانتماءات الحِزبيّة. رابِطةٌ مُقتضاها أن تحبَّ لأهلِ الإيمان ما تحِبّ لنفسك من الخَير على حدِّ قوله : ((لا يؤمِن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه)) رواه البخاري، وفي لفظ: ((حتى يحبَّ لأخيه المسلم من الخير ما يحبّ لنفسه)) ، قال ابنُ حجَر رحمه الله: "الخيرُ كلِمة جامعة تعمُّ الطاعاتِ والمباحاتِ الدنيويّة والأخروية". ومِن ذلك ـ عبادَ الله ـ أن يبغِض المسلم لأخيهِ ما يبغِض لنفسه من الشرّ، يتألَّم لألمه، ويحزن لحزنه، قال : ((المسلِم من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه)) رواه البخاري.
إخوةَ الإسلام، للآدابِ والأخلاق صِلةٌ وثيقَة بعقيدةِ الأمّة ومبادِئِها، بل هي التّجسيدُ العَمَليّ لقِيَمها ومُثُلها، فأهل "لا إلهَ إلا الله" ذوو قِيَم عاليةٍ وأخلاقٍ نبيلة، لهم محاسِنُ لا تُجارَى وفضائِلُ لا تُبارَى، ذوو رحمةٍ وإحسان ورِفقٍ بالمخلوقِين، ذوو عَطفٍ وجودٍ وكَرَم وسَخاءٍ بجميعِ المسلمين، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]. والرحيم المشفِق سيِّد الخَلق يقول : ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتعاطُفِهم وتراحمِهم كمَثَل الجسدِ الواحِد، إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له سائِر الجسَد بالسَّهر والحمّى)).
أهل "لا إلهَ إلا الله" أهلُ عدلٍ وإنصافٍ وإصلاح، ولذا فكلُّ تصرّفٍ خَرَج عن العدلِ إلى الجَور وعن الرحمةِ إلى القَسوة وعن المصلحة إلى المفسدةِ وعن الحِكمة إلى العبث فليس من الإسلامِ في شيء، كما نصَّ على ذلك العلاّمة ابن القيم رحمه الله، وربّنا جلّ وعلا يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].
أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولَكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنِه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبده ورسولُه الداعِي إلى رضوانِه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابِهِ وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسِي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّة الله للأوّلين والآخرين.
إخوةَ الإسلام، مِن عقائدِ أهلِ السنة والجماعة تسميَتُهم أهلَ القِبلة مسلمِين مؤمنين ما دامُوا بما جاءَ بِهِ النبيّ معتَرفِين، وله بكلِّ ما قال وأخبر مصدِّقين، قال : ((من صلَّى صلاتَنا واستقبَلَ قِبلتَنا وأكل ذبيحَتَنا فذلك المسلِم، له ذِمّة الله وذمّة رسوله، فلا تخفروا اللهَ في ذمّته)) أخرجه البخاري.
ومِن عقائدِ أهل السنة والجماعة أنهم لا يكفِّرون أحدًا من أهلِ القبلة يقول: "لا إله إلا الله" إذا أتى بذنب ما لم يستحلَّه، فمِن الإفكِ العظيمِ والبهتانِ المبينِ إطلاقُ التّكفير لأهل "لا إله إلا الله"، بدون برهانٍ من القرآنِ الكريمِ ولا منَ السنةِ المطهّرة وإجماع المسلمين المعتَبَر، فرسولنا يحذِّر من ذلكَ بقولِهِ: ((إذا قالَ الرّجل لأخيه: "يا كافر" فقد باء بها أحدُهم، إن كانَ كمَا قالَ وإلاّ رجَعت عليه)) متفق عليه.
ولأهل العلم في بيانِ قوله : ((وإلاّ رجعت عليه )) أقوال، أشهرها أنَّ ذلك محمولٌ على من استحلَّ التكفيرَ فيبوء حينئذٍ بالكفرِ، وقيل: المعنى: رجعَت عليه نقيصتُه لأخيهِ ومَعصيَةُ تكفيرِه إيّاه، وقيل: إنّ ذلك يؤول به أي: إنّ تكفيرَه لأخيه المسلم يبوء به إلى الكُفر؛ لأنّ المعاصي بريد الكفر، وقيل: معناه: فقد رجع عليه تكفيره؛ لكونه جعل أخاه المؤمنَ كافرًا، فكأنه كفرّ نفسه، إمّا لأنّه كفَّر من هو مثلُه، وإمّا لأنّه كفّر من لا يكفِّره إلاّ كافِرٌ يعتقِد بطلانَ دينِ الإسلام.
فاجتنِبوا التكفيرَ لأهل الإسلام ولأهل "لا إلهَ إلا الله"، ولا يخوض في ذلكَ إلاّ عالم ربّانيّ متمرِّسٌ على كتابِ الله جل وعلا وسنّةِ رسوله وعلى درايةٍ بإجماع المسلمين.
إخوةَ الإسلام، "لا إله إلا الله" كلمَةٌ عظيمَة تعصِم قائلَها من أن يُسفَك دَمه أو يُهدَر ماله أو يُهتَكَ عِرضُه، قال : ((لا يحِلّ دمُ امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدَى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنّفس بالنفس، والتارِك لدينه المفارق للجماعة)) أخرجه الشيخان، وعن أسامةَ بن زيد رضي الله عنه قال: بعَثَنا رسول الله إلى الحُرَقَة من جُهينة، فصبَّحنا القومَ فهزمناهم، ولحِقتُ أنا ورجلٌ من الأنصارِ رَجلاً مِنهم، فلمّا غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاريّ وطعنته برُمحي حتى قتلتُه، فلما قدِمنا بلَغ ذلك رسولَ الله فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعدَما قال: لا إله إلا الله؟!)) قال: قلتُ: يا رسولَ الله، إنما قالها خَوفًا من السلاحِ، قال: ((أفَلا شققتَ عن قلبِه حتى تعلمَ ذلك)) ، فما زال يكرِّرها عليَّ.. الحديث أخرجه مسلم، وفي لفظٍ آخَر أنَّ رسولَ الله قال: ((فكَيف تصنَعُ بلا إلهَ إلا الله إذا جاءَت يوم القيامة؟!)) ؛ ولهذا قال محذِّرًا من حملِ السلاح على أهل "لا إله إلا الله": ((من حمَل علينا السلاحَ فليس منّا)) ، وفي لفظٍ: ((مَن سلَّ علينا السلاحَ علينا فليسَ منا)) رواه مسلم.
فاتَّقوا الله عباد الله، والتزِموا بحقائقِ "لا إله إلا الله"، وعظِّموا فروضَها، والتزموا بشروطها؛ تسلَموا وتفوزا وتغنَموا دنيًا وأُخرى.
ثم إنَّ اللهَ جلّ وعلا أمرَنا بأمرٍ عظيم تزكو به نفوسنا وتصلح به دنيانا وأخرانا، ألا وهو الصلاة والسّلام على النبيّ الكريم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وأنعِم على سيّدنا ورسولنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الراشدين...
(1/3657)
سنة الهزيمة والنصر
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
آثار الذنوب والمعاصي, المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
17/6/1424
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- وعد الله المؤمنين بالنصر والظفر. 2- تحقيق هذا الوعد في تاريخ المسلمين. 3- أسباب هزائم المسلمين في هذا العصر. 4- حول معاناة المسلمين في القدس. 5- المؤامرة على الأقصى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة محمد: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ وَ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَـ?لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ ?للَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَـ?لَهُمْ [محمد:7-9]. ويقول سبحانه وتعالى في سورة الروم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى? قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِ?لْبَيّنَاتِ فَ?نتَقَمْنَا مِنَ ?لَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ ?لْمُؤْمِنينَ [الروم:47]، صدق الله العظيم.
أيها المسلمون، هاتان الآيتان الكريمتان توضح صورة لنا، لا لبس فيها ولا غموض، أن الله عز وجل قد ربط الأسباب بالمسببات، فهو سبحانه يعطي وعدًا على نفسه بأن ينصر المؤمنين، لأن النصر من عنده وحده، ولن يخلف الله وعده، ولكن يا مسلمون متى يتحقق وعد الله؟ والجواب: إذا نصرنا الله، وكيف يكون نصر المؤمنين لله؟
أيها المسلمون، أقرأ على مسامعكم بعض فقرات من رسالة قيمة وجّهها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الصحابي الجيل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي كان قائدًا للجيوش الإسلامية في العراق، يقول عمر في هذه الرسالة التي كتبت قبل أربعة عشر قرنًا: (فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب).
أيها المسلمون، إن أمير المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يركز في رسالته أول ما يركز على تقوى الله رب العالمين، فإن أول عامل من عوامل نصر المؤمنين لله هو الاتصاف بتقوى الله في جميع الأحوال، وتقوى الله هي أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة في الحرب.
أيها المسلمون، ويقول عمر في رسالته أيضًا: (وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم)، فمن عوامل النصر ـ يا مسلمون ـ الابتعاد عن المعاصي، لأن المعاصي والآثام إذا اقترفها المسلمون تكون أشد خطرًا عليهم من أعدائهم.
والأشد خطرًا وإثمًا هو المجاهرة بالمعاصي، وهذا ما نشهده في أيامنا هذه، فإن ارتكاب المعاصي والآثام والموبقات والمجاهرة بها من أسباب إلحاق الهزائم المتكررة بالأمة.
أيها المسلمون، ويتابع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسالته القيمة فيقول: (وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة)، أي أن من أسباب نصر الله للمؤمنين معاصي أعدائهم، ولولا ذلك لم تكن للمسلمين غلبة على أعدائهم، لأن عدد المسلمين أقل عددًا من الأعداء، ولأن عدة المسلمين لم تكن كعدتهم، وإن استوى الطرفان، أي المسلمون والأعداء في المعصية، كانت الغلبة للأعداء كما نلحظ في أيامنا هذه.
أيها المسلمون، من المعلوم أن المسلمين عبر التاريخ لم يسبق لهم أن انتصروا على أعدائهم بسبب زيادة في العدد أو العدة، فما من معركة انتصر بها المسلمون إلا وكان الأعداء أكثر منهم عددًا وعدة، إنما انتصر المسلمون على الأعداء بتقوى الله والتزام الشريعة الإسلامية والابتعاد عن المعاصي، والله رب العالمين يقول في معركة بدر: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ ?للَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123]، أي وأنتم ضعاف، وعددكم قليل، وهذا يؤكد بأن نصر المسلمين لم يكن في يوم من الأيام مرتبطًا بالقوة المادية، ولا يعني هذا إهمال القوة المادية، ولكن ليست هي العامل الأساس في النصر، والدليل على ذلك ما حصل قبيل معركة اليرموك، فقد قال أحد الجند من المسلمين: ما أكثر الروم وما أقل العرب! لأن الروم عددهم كثير، فأجابه قائدهم: لا بل قل: ما أكثر العرب وما أقل الروم، فالعبرة يا مسلمون ليست بالعدد، بل بالكيف والنوع، وانتصر المسلمون على الروم رغم التفاوت في العدد.
أيها المسلمون، إن انتشار المعاصي بين المسلمين في هذا الوقت لمؤشر على الهزيمة المستمرة، فلا بد من العودة إلى الله رب العالمين، وبالدعاء والتضرع له مع إعداد العدة، ليحقق الله وعده، وليُجري النصر للمؤمنين، فالنصر من الله رب العالمين لمن يستحق النصر، وأي شك في ذلك هو شك بالإيمان، وهو عين الهزيمة.
أيها المسلمون، والسؤال بالمقابل: كيف يكون نصر الله للمؤمنين؟
إن الله العلي القدير العزيز الجبار لا يعوزه أي أسلوب من الأساليب، ولا أي شكل من أشكال النصر للمؤمنين، فيقول الله عز وجل في سورة المدثر: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى? لِلْبَشَرِ [المدثر:31]، ويتمثل جند الله أحيانًا بالملائكة كما حصل في معركة بدر، لقوله سبحانه وتعالى في سورة الأنفال: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَ?سْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مّنَ ?لْمَلَئِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، ويقول سبحانه وتعالى أيضًا في سورة الأنفال: إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ?لْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ فَ?ضْرِبُواْ فَوْقَ ?لاعْنَـ?قِ وَ?ضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12].
أيها المسلمون، قد يقول قائل: نحن الآن في عصر الصواريخ والأقمار الصناعية والبوارج البحرية، وهذه الأساليب الحديثة المتطورة هي التي تقرر النتائج وتحسم الموضوع، فما علاقة نصر الله وقدرته في هذا المجال؟ والجواب على هذا الطرح التشكيكي، أقول: إن قدرة الله رب العالمين أزلية دائمة، وهي قائمة، سواء كان ذلك في عصر الجِمال أم في عصر الصواريخ، وإن حرب تشرين عام ثلاثة وسبعين للميلاد لتؤكد ذلك، حين انطلق الجند المؤمنون بهتاف: الله أكبر، كانوا يشاهدون القتلى من الأعداء قبل أن يصلوا إليهم، وكاد هؤلاء الجند أن يقلبوا الموازين لولا الأوامر بالتوقف.
ثم إن هزيمة العراق مؤخرًا جاءت نتيجة للخيانات أولاً، وثانيًا لأن المسئولين في العراق وقتئذ لم يطلبوا النصر من الله، ولم يكون متصلين بالله، ولم يتقوا الله أصلاً، فكيف سيأتيهم النصر، والله سبحانه وتعالى يقول: إِن تَنصُرُواْ ?للَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]، جاء في الحديث الشريف: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم، قيل: أين هم يا رسول الله؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس )) [1]. صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين.
[1] رواه أحمد في مسنده من حديث أبي أمامة (21816) قال الهيثمي: رواه عبد الله وجادة عن خط أبيه والطبراني ورجاله ثقات. مجمع الزوائد 7/288.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، له الحمد في الدنيا والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد، كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء المعراج، هناك ثلاث نقاط تهم المؤمنين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس وهي:
أولاً: الأسرى المعتقلون السياسيون في السجون الإسرائيلية، لقد قام قبل أيام أهالي الأسرى المعتقلين السياسيين بمسيرات عدة يطالبون فيها بالإفراج عن أبنائهم، ويشرحون الأوضاع السيئة التي يعيشها أبناؤهم خلف القضبان، ونحن نضم صوتنا إلى مطالبهم العادلة، فالحرية والكرامة هما حق شرعي لكل إنسان، وما بعد الضيق إلا الفرج إن شاء الله.
ثانيًا: مكتب الداخلية في مدينة القدس مرة أخرى، وسبق أن أشرنا إلى الشكاوى من قِبل المواطنين الذين يعانون ما يعانونه أمام مكتب وزارة الداخلية في القدس، واليوم نشرت الصحف المحلية عن اعتقال قائد حرس مكتب الداخلية وعن اعتقال عدد من اللذين يعملون في مكتب الداخلية بتهمة الرشاوى وتهمة التحرش الجنسي، ونحن نقول: ليس هذا الاعتقال هو العلاج الكافي، نحن نقول: لا بد من تسهيل المعاملات لدى المواطنين ورفع المعاناة والتعقيد والابتزاز وحماية الناس من المستغلين، فإن تسهيل المعاملات أصلاً يمنع أي ابتزاز وأي رشاوى.
ونشكر الشباب الذين حاولوا فرض النظام والهدوء ومنع الفوضى والرشاوى من أهل القدس، هذا هو جهدهم، وبارك الله فيهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أيها المسلمون، ثالثًا: المسجد الأقصى المبارك، ويوم الخميس القادم تصادف ذكرى إحراقه، وفي هذه الأجواء وقبل أيام، يصرح ما يسمى بوزير الأمن الداخلي الإسرائيلي أنه سيسمح للزوار من غير المسلمين بزيارة باحات المسجد الأقصى المبارك اعتبارًا من الأسبوع القادم، سواء وافقت الأوقاف أم لم توافق، حسب قوله.
وينطبق على هذا الوزير المثل القائل: "سكت دهرًا، ونطق كفرًا" فهل من صلاحياته أن يقرر إعادة برامج السياحة للمسجد الأقصى المبارك؟ ونؤكد له ولغيره بأن الأوقاف الإسلامية هي صاحبة الصلاحية والاختصاص في الإشراف على المسجد الأقصى المبارك، وأن استئناف برامج السياحة هو بيد الأوقاف الإسلامية في الوقت الذي تراه مناسبًا، وإن الأوقاف الإسلامية ترفض التهديد، كما ترفض التدخل في شؤونها، فلا يجوز شرعًا أن يتدخل غير المسلم في شئون المسلمين عامة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَلَن يَجْعَلَ ?للَّهُ لِلْكَـ?فِرِينَ عَلَى ?لْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، ويقول عز وجل: وَلِلَّهِ ?لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَـ?كِنَّ ?لْمُنَـ?فِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، وسيبقى المسلمون والمرابطون ـ بإذن الله ـ السدنة والحراس الأوفياء لمسجدهم المبارك، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً.
(1/3658)
صيحة نذير فهل من مدكر؟!
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
10/4/1423
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تحذير النبي من اتباع سنن اليهود والنصارى. 2- تحذير النبي من دعاة الضلالة من أبناء جلدتنا. 3- تحذير النبي من كثرة الخبث والغثاء في المسلمين. 4- خطة إسرائيلية جديدة للمؤامرة على أرض فلسطين. 5- وقفية أرض فلسطين. 6- انتهاك اليهود حرية العبادة في الأقصى. 7- فضل إماطة الأذى من طريقة المسلمين. 8- التحذير من التفريط والاعتداء على الأملاك العامة وحقوق الآخرين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، يا أحبة الله، أوصيكم وإياي بتقوى الله وأحذركم ونفسي من عصيانه ومخالفة أمره, مَّنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـ?مٍ لّلْعَبِيدِ [فصلت:46].
فقد روى الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، وفي هذا الحديث النبوي الشريف المطول يسأل حذيفة قائلاً: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ فيجيبه عليه الصلاة والسلام: ((نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)) , قلت: صفهم لنا، قال : ((هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا, قلت ـ أي حذيفة ـ: فما تأمرني إن أدركني ذلك، قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)) [1].
أي يا مسلمون، إنه سيخرج من العرب دعاة للضلالة والفتن والفساد والاستسلام، فعلينا أن نجتنبهم وأن لا نتعاون معهم, اللهم وحد المسلمين في جماعة واحدة وأن يكون لهم إمام واحد يحكم بكتاب الله وسنة رسوله.
أيها المسلمون، يا أحبة الله، هناك حديث نبوي شريف آخر يشير إلى أنه سيخرج من العرب من سيحاربون الإسلام وينشرون الفسوق والفتن في البلاد، فقد روت أم المؤمنين زينب _رضي الله عنها_من حديث مطول بأن النبي قد دخل عليها فزعًا وهو يقول: ((ويل للعرب من شر قد اقترب، فقلت (أي زينب) يا رسول الله: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث)) [2] , والخبث هو الفساد والفتنة والاستسلام، اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، هناك حديث نبوي ثالث يشير إلى تكالب الأمم الكافرة على المسلمين فيقول رسولنا الأكرم : ((يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزِعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن قال: حب الدنيا وكراهية الموت)) [3].
نعم أيها المسلمون، فإن عدد المسلمين في العالم يزيد عن مليار ونصف مليار ولكنهم غثاء كغثاء السيل.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، كان رسولنا الأكرم يتناول في خطب الجمعة الأحداث القائمة التي تقع من الجمعة إلى الجمعة، وتأسيًا بحبيبنا وقائدنا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم أتناول موضوع حق عودة اللاجئين مقابل استلام المستوطنات، أي تتنازل إسرائيل عن المستوطنات مقابل أن يتنازل اللاجئون عن العودة إلى ديارهم، بمعنى أوضح، أن يجري توطين اللاجئين الفلسطينيين في المستوطنات القائمة في الضفة الغربية وقطاع غزة لقاء تنازلهم عن بيوتهم وأراضيهم من عام ثمانية وأربعين، وهذا الطرح كان ضمن حلول مقترحة ممسوخة.
ولحل القضية الفلسطينية فهناك مؤامرات تطرح الآن لإيجاد حل للتخلص مما يسمى بالقضية الفلسطينية، والله سبحانه وتعالى يقول: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ?للَّهُ وَ?للَّهُ خَيْرُ ?لْمَـ?كِرِينَ [الأنفال:30]، والله عز وجل لهم بالمرصاد بقوله: إِنَّ رَبَّكَ لَبِ?لْمِرْصَادِ [الفجر:14].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، سبق أن أصدرنا فتوى شرعية بشأن حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وإن حق العودة هو حق شرعي لا مجال للتنازل عنه، لا من قبل اللاجئين أنفسهم، ولا من قبل غيرهم، وإن هذا الحق حق ثابت غير خاضع للتفاوض، ولا يجوز لأحد أن يأخذ تعويضًا عن الممتلكات والأراضي، لأن ذلك يعتبر بيعًا، والبيع كما هو معلوم لا يجوز شرعًا باتفاق علماء الأمة, وتحاول إسرائيل أن تفسر معنى اللاجىء بأنه الشخص الذي لجأ بنفسه، ولا تعترف بحق لأولاده ولا لأحفاده، وحسب تفسير إسرائيل فإنه لم يعد هنا لاجئون، لأن اللاجئين الذين هاجروا عام ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين قد توفي معظمهم، ولم يبقَ منهم إلا العدد القليل.
ونقول: إن الدين الإسلامي قد أقر نظام المواريث، فإن الأبناء يرثون الآباء، وإن الأحفاد يرثون الآباء وهكذا، وعليه فإن عدد اللاجئين داخل فلسطين وخارجها يزيد عن خمس ملايين ونصف المليون، فهم وارثون شرعًا بالإضافة إلى المعاناة التي لحقت بجميع الأجيال نتيجة الهجرة والتشريد والإقامة في المخيمات.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، ثم لا بد من التأكيد على أن أرض فلسطين هي وقف إسلامي وأن اللاجئ الذي لا يرغب في العودة أو لا يستطيع العودة لا يحق له أخذ أي تعويض عن بيته أو عن أرضه فإن ممتلكاته تعود للمسلمين كافة، وعليه فلا حل شرعًا لقضية اللاجئين إلا بعودتهم إلى ديارهم وأوطانهم، لن يسقط حقهم مهما طال الزمان.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، أما موضوع المستوطنات فإنها مقامة على أرض مغتصبة ومصادرة ومملوكة، وعليه فهي غير شرعية ولا يجوز شرعًا اعتبارها بديلاً لحل موضوع اللاجئين، وإن ربط موضوع اللاجئين بالمستوطنات هو ربط خبيث ماكر غير شرعي، وهو حل مرفوض كما نرفض جميع الحلول الاستسلامية التي تطرح بين الفينة والأخرى، والتي لا تحافظ على الحق الشرعي لأهل فلسطين، ولا يصح إلا الصحيح، ولا صحيح إلا ما وافق القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولا يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله.
جاء في الحديث النبوي الشريف: ((احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) [4].
وفى رواية: ((احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا)) [5] صدق رسول الله.
[1] رواه البخاري في صحيحه، كتاب الفتن، باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة (7084)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمه جماعة المسلمين (1847).
[2] رواه البخاري في صحيحه من حديث زينب بنت جحش في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج (3346)، ومسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتران الفتن (2880).
[3] رواه أبو داود في كتاب الملاحم من حديث ثوبان (4297)، وأحمد في مسنده (21891).
[4] رواه الترمذي في سننه عن حديث ابن عباس كتاب صفة القيامة (2516).
[5] رواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عباس (3/624). وبعضه عند أحمد في المسند (2800).
_________
الخطبة الثانية
_________
نحمد الله رب العالمين حمد عباده الشاكرين الذاكرين، ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد، صلاة وسلام دائمين إلى يوم الدين، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها المصلون، لقد أصدرت الهيئة الإسلامية العليا ومجلس الأوقاف والشؤون الإسلامية بيانًا بعنوان: (أين حرية العبادة) وتضمن البيان ذكر إجراءات إسرائيل التعسفية بمنع عدد من المصلين من الوصول إلى المسجد الأقصى المبارك، ونحن نعرف ونؤكد شرعًا بأنه لا يجوز أن يمنع أي مسلم من الوصول إلى الأقصى، والله يمهل ولا يهمل.
أيها المسلمون، أبدأ هذه الخطبة بحكاية صالح جليل دخل الجنة لماذا؟ لأنه رفع غصن شوك من الشجر عن الطريق حتى لا يتأذى الناس من هذا الغصن، فغفر الله له بعمله وأدخله الجنة، فقد قال رسولنا الأكرم بحق هذا الصالح: ((بينما رجل يمشي بالطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخّره، فشكر الله له فغفر له)) [1] ومعنى أخّره أي: أزاحه عن الطريق.
وفي وصف آخر: ((مر رجل بغصن شجرة على ظهر طريق، فقال: والله لأنحّيَنَّ هذا عن المسلمين لا يؤذيهم فدخل الجنة)) [2] , وفي رواية أخرى: ((لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق)) [3] , أي بسبب شجرة قطعها من ظهر الطريق فدخل الجنة، كانت هذه الشجرة تؤذي الناس، فلا غرابة في ذلك يا مسلمون، فإن إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان لقول رسولنا الأكرم : ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها: قول: لا اله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) [4].
فعلى المسلمين أن يتوجهوا إلى الإيمان في جميع شعبه ومراتبه، ومعنى ذلك يا مسلمون أن من يرمي القاذورات في الطريق يكون آثمًا ويكون مهزوز العقيدة والإيمان، والأشد إثمًا من يسرق من الشارع ويبني فيه ويتجاوز حدوده، وكثير من شعبنا يستخف في اعتداءاته على الشوارع والطرقات العامة فيتجاوز في البناء، وعليه فيبقى الذي يتجاوز في البناء آثمًا طيلة حياته ما دام البناء قائمًا في طرف الشارع أو آخذًا من الشارع، وهذا مؤشر على ضعف الإيمان، وأننا لا نتعامل فيما بيننا على أساس الإيمان، ثم نقول: لماذا لم ينصرنا الله؟ فكيف ينصرنا الله ونحن نعتدي على بعضنا البعض بقصد، ونعتدي على الشارع العام الذي هو ملك لجميع المسلمين، وإنما نتعامل حاليًا على أساس المصالح الشخصية الضيقة، فإذا تعرضت مصلحة شخص فإنه يقوم ولا يقعد، ويحولها عشائرية ويجمع أقاربه على الباطل، ليحمي نفسه، فالذي يريد أن ينصر أخاه ينصره على الحق وليس على الباطل.
ونحن جميعًا مدعوون للاحتكام إلى الكتاب والسنة في جميع أمورنا، ليس أن نصلي ثم نذهب لنعتدي على جارنا أو على غيرنا زورًا وبهتانًا، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)) [5].
واعلموا أنكم بين يدي الله موقوفون وبأعمالكم محاسبون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
[1] رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة، كتاب الأذان، باب فضل التهجير إلى الظهر (654)، ومسلم في كتاب البر والصلة، باب فضل إزالة الأذى (1914).
[2] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة كتاب البر والصلة، باب فضل إزالة الأذى (1914).
[3] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة كتاب البر والصلة، باب فضل إزالة الأذى (1914).
[4] رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان (35).
[5] رواه مالك في موطئه من حديث عمر في كتاب الجامع، باب النهي عن القول بالقدر (1661).
(1/3659)
زلزال آسيا – السلام المزعوم
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
آثار الذنوب والمعاصي, جرائم وحوادث
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
26/11/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم قدرة الله تعالى. 2- هول زلزال جنوب شرق آسيا. 3- آثار الذنوب والمعاصي. 4- عجز الإنسان أمام قدرة الله تعالى. 5- أسباب الزلازل والكوارث الكونية. 6- التذكير بأهوال يوم القيامة. 7- كذب السلام المزعوم. 8- عنصرية اليهود وعصبيتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
يقول الله عز وجل في سورة الأنعام: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ [الأنعام:18]، ويقول سبحانه وتعالى في السورة نفسها: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، ويقول رب العالمين في سورة القمر: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:49-51].
أيها المسلمون، قبل أيام (يوم الأحد في 25/12/2004) أفاق العالم من سكرته على الزلازل والبراكين التي اجتاحت عدة أقطار من جنوب شرق آسيا، حيث الملاهي والموبقات والمعازف والمغنيات، فأصبحت قاعا ونسفها ربها نسفا.
هذا الزلزال الذي وصلت قوته إلى تسع درجات على مقياس ريختر، أما البراكين فقد حركت أمواج المحيطات بسرعة سبعمائة كيلومتر في الساعة، وكانت قوة تفجيراتها تفوق مليون قنبلة ذرية، وأن عدد القتلى تجاوز مائة وخمسين ألف شخص حتى الآن، ولا تزال فرق الإنقاذ والإطفاء تجمع ما تستطيع جمعه من الجثث التي تقذفها الأمواج، أما الجرحى والمشردون فلم يستطيعوا حصرهم، فهم بالملايين.
لقد زالت جزر بأكملها، وتغيرت المعالم الجغرافية للمنطقة. هذه الزلازل والبراكين التي خربت جنوب شرق آسيا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة ,فهذه ظواهر طبيعية في هذا الكون الرهيب مرتبطة بقدرة الله العلي القدير.
أيها المسلمون، وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]. السؤال الذي يطرح نفسه: هل تستطيع البشرية جمعاء بما لديها من تقدّم علمي وتكنولوجي وتقني أن توقف وقوع الزلازل والبراكين؟! والجواب: أن الزلازل والبراكين وغيرها من الظواهر الطبيعية هي بيد الله الواحد القهار خالق السموات والأرض، وهو الذي يسيرها بنظام دقيق، فيقول في سورة يونس: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس:22]، ويقول في سورة الكهف: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:47]، ويقول في سورة الأنبياء: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33]، ويقول في سورة يس: لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس:40]، وغيرها من الآيات الكريمة التي تؤكد قدرة الله عز وجل في تسيير الكون وتنظيمه.
أيها المسلمون، أما العلوم التقنية والاستكشافات التكنولوجية فمهمتها الكشف عن الظواهر الطبيعية في الكون من الزلازل والبراكين والمد والجزر والرياح والفيضانات والخسوف والكسوف. ولا يزال الإنسان يكتشف كل يوم أمورا جديدة في هذا الكون الرهيب، ولكن يستحيل على العلم أن يوجد هذه الظاهر، كما يستحيل عليه أن يمنع وقوعها وحدوثها. ويمكن للعلم أن يخفف من الأضرار الناجمة عن الزلازل والبراكين مثل ما قامت به اليابان من إشادة البنايات والعمائر على كرات حديدية كبيرة بحيث تتحرك مع اهتزازات الزلزال، وما قامت به المغرب من ربط أساسات العمائر والبنايات في جسر موحد حينما أعادت بناء مدينة أغدير في المغرب.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن العلم الحديث ليقف عاجزا عن إيجاد الحياة والروح في الخلية التي هي أصغر جزء في الإنسان وفي الكائنات الحية الأخرى؛ لأن ذلك مرتبط بقدرة الله عز وجل وحده القائل في سورة الإسراء: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85]، والقائل في سورة يس: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:82، 83].
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا حصلت الزلازل والبراكين في أقطار جنوب شرق آسيا ولم تحصل في مواقع أخرى؟! وما الحكمة من حصول الظواهر الطبيعية والآيات الكونية؟! والجواب عن ذلك يكمن في قوله عز وجل من سورة الأنبياء: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، ومن جهة أخرى فإن الله العلي القدير يوضح لنا الحكمة من هذه الآيات والظواهر في سورة الإسراء بقوله: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، وفي سورة القمر بقوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:15] أي: ليتذكر الناس قدرة الله رب العالمين وليتعظوا وليخافوا عقابه. أما شاهَد العالم عبر المحطات والفضائيات صورة أحد المساجد في بلاد أندونيسيا لم يصب بأي أذى رغم أن جميع المباني التي حوله من جميع الجهات قد دمرت تدميرا كاملا؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، هذه لمحة عن الزلازل والبراكين التي أصابت جنوب شرق آسيا وعن بيان قدرة الله رب العالمين من خلال هذه الزلازل والبراكين التي حصلت قبل أيام وعلى مرأى ومسمع العالم الذي أصيب بالرعب والذهول، والسؤال: ما بالكم ـ يا مسلمون ـ في الزلزال الأخروي يوم القيامة؟! لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42]، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، يوم يجعل الولدن شيبا. وهناك مئات الآيات الكريمة التي تتحدث عن أهوال يوم القيامة، كيف لا وإن اليوم الآخر هو ركن من أركان الإيمان؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن زلزلة الآخرة شيء عظيم لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]، ولقوله عز وجل: إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:1، 2].
فالمسلم الذي يتعظ بما يجري في الدنيا ويجهّز نفسه لذلك اليوم يوم الحساب يوم الجزاء والعقاب، ويتوجب على الدول الكبرى المتغطرسة والمتمرّدة على أحكام الله يتوجّب عليها أن تثوب إلى رشدها وأن ترتدع عن كفرها وأن تكفّ أذاها عن الشعوب المستضعفة وأن تنهي احتلالها لأراضي المسلمين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، في بيت المقدس أرض المحشر والمنشر، إن اليوم الرهيب يوم تجتمع الخلائق، إنهم يقفون بين يدي الله الواحد القهار فيقول عز وجل: وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48]، لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].
وتشير الأحاديث النبوية الشريفة إلى أن العرق يتصبّب من الإنسان على ضوء أعماله في هذا اليوم، فمن الناس من يصل العرق إلى قدميه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى وسطه، ومنهم ما يصل إلى أذنيه، ومنهم من يغرق في عرقه، ومنهم من يغمره العرق غمرا بحيث يتمنى أن يخرج من هذا الموقف الرهيب ومن هذا العذاب العظيم، أعاننا الله وإياكم على هذه المواقف الرهيبة.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، توبوا إلى الله توبة نصوح، وفروا إلى الله مولاكم، واحتكموا لهذا الدين العظيم الذي جاء لسعادة البشرية في الدنيا والآخرة، جاء في الحديث النبوي الشريف قال رسولنا الأكرم : ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له)).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، بحلول العام الميلادي الجديد يتشرّف أدعياء السلام بيوم السلام العالمي، وأيّ سلام يريدون؟! وهل يلتقي السلام العادل مع الاحتلال والاستعمار والاستيطان؟!
فأقول للذين يتسترون وراء شعارات السلام، أقول لهم: يتوجب عليكم إن كنتم صادقين في دعواكم أن تقفوا في وجه المخططات العدوانية والتوسعية والاستعمارية من قبَل الدول الكبرى ضد الشعوب المغلوبة والضعيفة، عليكم أن تطبقوا الشعارات على أرض الواقع، وإلا فهي شعارات خادعة زائفة، ويتوجب على الحكام في العالم العربي والإسلامي أن يتقوا الله في أنفسهم وديارهم وشعوبهم وأن يوحدوا صفوفهم وأن يعودوا إلى كتاب الله وسنة رسوله.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، أما على المستوى المحلي فأين السلام الذي تريده السلطات المحتلة؟! هل السلام هو الذي يدعو إلى قتل الأبرياء ونسف المنازل وتجريف الأراضي؟! وهل الذي يريد السلام يقيم المستوطنات والمستعمرات في فلسطين؟! وما نشر في الصحف المحلية قبل يومين عن مخطط لربط مستوطنة "معالي أدوميم" بالقدس بالإضافة إلى المزيد من مصادرة الأراضي في منطقة بيت لحم، كل ذلك يؤكد أن السلام غير وارد لدى السلطات المحتلة. ثم أين الانفراج الذي يترقبه أهل فلسطين؟! هل يكون هذا الانفراج مرتبطا بالمخططات التصفوية لهذا الشعب الصابر المرابط؟! إن السلطات المحتلة ماضية في مخططاتها، وتريد أن تكسب الوقت لاستكمال هذه المخططات بإطلاق بالونات إلهاء وخداع.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، لقد وزع بيان موجه إلى جميع المسلمين الساكنين في أرض إسرائيل بهذا العنوان، وزع البيان للمرة الثانية يدعو إلى رحيل المسلمين من فلسطين وأن يأخذوا التعويضات اللازمة ليسكنوا في البلاد العربية المجاورة، أما فلسطين فهي أرض إسرائيل وللشعب اليهودي فقط كما يزعم هذا البيان.
وبالرغم من أن البيان لم يوقع من جهة محددة إلا أن البيان مزود برقم الهاتف والعنوان البريدي وصفحة الإنترنت لمن يريد المزيد من المعلومات. والذي يقرأ هذا البيان يلمس روح العنصرية والعداء كما يلمس فيه التناقض: إنهم يطالبون أهل فلسطين الأصلية بالرحيل ثم يزعمون بأنهم ـ أي: اليهود ـ يريدون أن يعيشوا بسلام مع أهل فلسطين، ونحن نقول لهم: نحن أصحاب الحق الشرعي ولن نرحل، ومن يطالبنا بالرحيل هو الذي ينبغي أن يرحل عن هذه البلاد المباركة المقدسة، وإن ديننا الإسلامي العظيم هو دين السلام وليس الاستسلام، هو دين يحق الحق ويقيم العدل، هو دين يدعو إلى سعادة البشرية.
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، يثار بين الفينة والأخرى موضوع اللاجئين من حيث التعويض أو توطين اللاجئين في البلاد العربية، ونحن نقول: إن حقنا الشرعي واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، وسبق أن أصدرنا الفتوى الشرعية في حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وديار أبائهم وأجدادهم، ولا مجال للتفاوض والمساومة في هذا الموضوع، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
(1/3660)
القلوب الرحيمة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام دين الرحمة والعطف والرأفة. 2- شمولية الرحمة في الإسلام لكل شيء. 3- من صور الرحمة في سيرة رسول الله. 4- أهمية التراحم في المجتمع. 5- الصحابة وخلق الرحمة. 6- الرحمة حتى بالحيوان.
_________
الخطبة الأولى
_________
الإسلام دين الرحمة والعطف والرأفة، جاء يدعو إليها، ويزرعها في قلوب أفراده، ويحث المجتمع بأن تخيم عليه الرحمة ظاهرًا وباطنًا، وتبدو الشفقة والعطف في سلوك وتعامل أفراده.كيف لا، وربنا جل في علاه متصف بالرحمة، فهو الرحمن الرحيم، وهو القائل في الحديث القدسي: ((إن رحمتي سبقت غضبي)) رواه مسلم.
والرسول أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، وبعثه رحمة للأمة، وكان يقول: ((إنما أنا رحمة مهداة)) رواه الحاكم، بل إنه من شدة رحمته بأمته جعل نفسه مثل الأب لابنه في قوله : ((إنما أنا لكم مثل الوالد لولده)) رواه أحمد وأبو داود.
وإن مجال الرحمة في ديننا واسع لا حدود له، فهي لا تقتصر على الأهل والأولاد وذوي القربى، وإنما تشمل الناس جميعًا، بل والحيوان أيضًا.
وفي سيرة النبي وحياته صور عديدة يتضح من خلالها كيف أنه وسع دائرة الرحمة في أقواله وأفعاله، ولم يكن يدعها حتى في صلاته، فعن أنس أنه قال: ((إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطيلها، فأسمع بكاء الصبي، فأتجّوز في صلاتي ـ أي: أخففها ـ مما أعلم من شدة وَجدِ أمه من بكائه)) متفق عليه.
ودخل الأقرع بن حابس على رسول الله فرآه يقبل الحسن بن علي رضي الله عنهما، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا. فنظر إليه رسول الله فقال: ((أوَلا أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! من لا يَرْحم لا يُرْحم)) متفق عليه.
لقد حرص الإسلام على انتشار الرحمة بين المسلمين وشيوعها وظهورها في أفعالهم ومعاملتهم، فقال : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) رواه مسلم.
فالتراحم إذا لم يكن صفة يتصف بِها أفراد المجتمع تكون بين الكبير والصغير والغني والفقير، وتُرى آثارها بينهم فإن هذا يدل على انتشار الكبر والترفع والتعالي، فإن الرحمة لا يترفَّع عنها إلا من مُلئ قلبه حسدًا وحقدًا وبُغضًا، وأنى لمجتمع مسلم أن يكون كذلك، قال : ((لا تُنزع الرحمة إلا من شقي)) رواه أحمد وأبو داود.
وقد كان مجتمع الصحابة رضي الله عنهم تسوده الرحمة، إذ عرفوا منزلتها، فاتصفوا بِها، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29].
وقد كانوا يتسابقون إلى فعل الخير رحمة بالمستحقين للعون والمساعدة، وطلبًا لما عند الله تعالى من الأجر والثواب، فهذا عمر يتعهد امرأة عمياء بالمدينة، ويتردد عليها، يوفر لها ما تحتاجه من الطعام والشراب واللباس، غير أنه لاحظ أن رجلاً آخر يتعهد هذه العجوز، ويأتيها بما تحتاجه، فإنه كلما جاءها وجد عندها ما يكفيها، فترصد عمر ، وأخذ يراقب هذا الرجل، من هو يا ترى؟ من هذا الذي سبقه على فعل الخير وعمل البر والإحسان؟ فيتضح له أنه أبو بكر خليفة المسلمين، كان على صلة دائمة بهذه المسكينة الضعيفة.
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعطف أثرياؤهم على فقرائهم، فيجودون على المحتاجين مما أعطاهم الله من واسع فضله، فهذا عثمان تأتيه قافلة محملة بما يحتاجه الناس من المؤنة، وفي وقت كانت المدينة تعيش فيه جدبًا وقحطًا، فيساومه التجار عليها، فيقول لهم عثمان: كم تزيدونني؟ قالوا: العشرة باثني عشر، فقال: قد زادني، قالوا: فالعشرة خمسة عشر، فيقول زادني، حتى أوصلوا الربح إلى سبعة أضعاف، وهو يقول: قد زادني أكثر، فيقولون: ما بقي من تجار المدينة أحد، فمن أعطاك؟ قال: إن الله أعطاني بكل درهم عشرة، فانصرف التجار عنه، وهو ينادي: اللهم إني وهبتها فقراء المدينة بلا ثمن ولا حساب. لقد كانت الرحمة تشيع في نفسه الحانية وقلبه الفياض بالجود والعطاء المتدفق بالعطف والحنان والسخاء.
فالإسلام حَثَّ على غرس صفة الرحمة في نفوس أفراده، حتى في معاملتهم للحيوان بأن يكونوا رحماء به، فينظرون إليه بعين الشفقة والرحمة، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((بينما رجل يمشي في الطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثلُ الذي كان بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ماءً، ثم أمسكه بفيه، حتى رقِيَ ـ أي: صعد ـ فسقى الكلبَ، فشكر الله له فغفر له)) ، فقال الصحابة رضي الله عنهم: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرًا؟! فقال: ((في كل ذات كبد رطبة أجر)) رواه البخاري ومسلم.
وبيَّن رسول الله أن من حق الحيوان عدم إرهاقه في العمل أو تكليفه فوق طاقته، وأن يؤمِّن له صاحبه ما يحتاجه من العلف والماء، وأن لا يقصر عليه بشيء من ذلك، فقد ورد أن النبي دخل بستانًا في المدينة، فأتاه جمل فجَرْجَرَ وحَنَّ وذرفت عيناه، فمسح رسول الله سنامه ورأسه فسكن، فقال لصاحب الجمل: ((أما تتقي الله في هذه البهيمة التي ملَّككها الله؟! إن جملك يشتكي من كثرة الكُلَف وقلة العلف)) رواه أحمد والترمذي. أي: تزيد عليه في الحمل والعمل فوق طاقته، ثم لا تعطيه كفايته من الغذاء والطعام.
وهكذا فإن الرحمة ينبغي أن تسري في نفوس المؤمنين وفي مشاعرهم على النحو الذي رسمه الإسلام، وأرسى قواعدها، وأسس دعائمها القرآن الكريم، وظهرت في معاملة المصطفى لأمته، وإرشاده لهم بالتحلي بها، حتى يعيش مجتمعًا متآلفًا متماسكًا، تذوب فيه كل الفوارق، وتجتمع فيه القلوب على نور الإسلام وهديه.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحش على ولدها، وأخَّر تسعًا وتسعين رحمة، يرحم بِها عباده يوم القيامة)) ، ورأى رسول الله امرأة أخذت صبيًا فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال لأصحابه: ((أترون هذه طارحة ولدها في النار؟)) قالوا: لا يا رسول الله، فقال : ((لله أرحم بعباده من هذه بولدها)) متفق عليه.
اللهم طهر قلوبنا من الحسد، ونَقِّها من البغضاء والكبر، واملأها بالعطف والرحمة، وروِّها باللطف والشفقة، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3661)
التكافل الاجتماعي
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من فضائل قضاء حوائج الإخوان في السنة. 2- كل إنسان يبذل من المعروف والعون ما في وسعه قليلاً كان أو كثيرًا. 3- من أقوال السلف في مساعدة الناس وقضاء حاجاتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
إن خصال الخير وصنائع المعروف التي حث الإسلام على فعلها متعددة الطرق واسعة الأبواب، فالمجتمع الإسلامي تتهيأ فيه الفرص لأعمال الخير والإحسان وبذل المعروف للإخوان.
وما أعظم الأجر الذي يناله من يسعى في قضاء حاجة إخوانه، ويفرج كُرَب أقاربه وخِلاَّنه، إذ ينالُ ذلك الثواب في موقف هو أحوج فيه للحسنات، يوم يقف بين يدي رب الأرباب، يوم العرض والحساب، حيث يشمل كل عمل قام به نحو المحتاجين ومن ضاقت عليهم أحوالهم سواء يَسَّرَ عليه في قضاء دينه، أو سدده عنه، أو فَكَّ ضائقته، أو شفع له عند من يعينه، أو سهل له مهمته، قال : ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فَرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه بِها كربةً من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) متفق عليه.
وبين أن من عباد الله من أوجد الله فيه خاصية مساعدة إخوانه وقضاء مصالحهم وتلمس احتياجاتهم، ولذلك فإن هؤلاء يلجؤون إليه بعد الله تعالى لعونهم ومساعدتهم، فقد روي عنه أنه قال: ((إن لله خلقًا خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله يوم القيامة)) رواه الطبراني، وفي لفظ: ((إن لله أقوامًا يختصهم بالنعم لمنافع العباد، يُقرهم فيها ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها منهم فحوَّلها إلى غيرهم)) رواه الطبراني.
إن مساعدة الآخرين وعونهم التي دعا الإسلام إليها لا تتوقف عند حد، ولا تختص بقريب أو صديق، ولا بوقت دون آخر، بل كلَّما سنحت الفرصةُ للعون والمساعدة وكان المسلم قادرًا على فعلها وقضائها، فحريٌ به أن يسارع إلى تقديمها، فإن ذلك مما يؤلف القلوب، ويقرب النفوس، ويضفي على العلاقات رباطًا قويًا من المودة والمحبة والأنس، كما قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبَهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
من كان للخير منَّاعًا فليس له على الحقيقة إخوانٌ وخِلاّن
أحسِن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ فلن يدوم على الإنسان إمكانُ
ورد عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال في الحث على قضاء الحوائج وبذل المعروف: (نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغارم، ولا تحتسبوا بمعروف لم تُعَجّلوه، ولا تكسبوا بالمطل ذمًّا، واعلموا أن حوائج الناس من نعم الله عليكم، فلا تملّوا النعم فتكون نقمًا، وإن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه، وإن أعفى الناس من عفا عمن قدر عليه، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحب المحسنين).
وروي عن عمر قال: (أفضل الأعمال إدخال السرور على مؤمن: كَسوتَ عورته، أو أَشبعتَ جوعته، أو قضيتَ له حاجة).
إن على كل قادر على بذل المعروف وقضاء حاجة أخيه المسلم أو المساعدة في ذلك والمشاركة فيه أن يسهم على قدر جهده وطاقته ومكانته، وأن يحتسب أجرَ ذلك عند الله تعالى.
قال : ((تَلَقَّت الملائكة روحَ رجل ممن كان قبلكم، فقالوا: أعملتَ من الخير شيئًا؟ قال: لا. قالوا: تذكَّر. قال: كنتُ أداين الناس، فآمر فتياني أن يُنْظِروا المعسر ويتجاوزوا عن الموسر. قال: قال الله عز وجل: نحن أحق بذلك منه، فتجاوزوا عنه)) رواه البخاري ومسلم.
ثم إن ما تبذله من جاه أو عون أو مساعدة قد تحتاجه في قابل الأيام، فقد تصير في موقف أنت في أمس الحاجة فيه إلى من يعينك، وينقذك فيه من مَأْزِقٍ صعب وقعت فيه:
خيرُ أيام الفتى يوم نفَع واصطناع العُرف أبقى مصطنع
ما يُنالُ الخيرُ بالشرِّ ولا يحصد الزارع إلا ما زرع
ليس كل الدهر يومًا واحدًا ربما انحطّ الفتى ثم ارتفع
ورد أن ابن سعيد بن العاص لما حضرته الوفاة قال لبنيه: يا بني أيكم يقبل وصيتي؟ فقال ابنه الأكبر: أنا، قال: إن فيها قضاء دَينِي، قال: وما دينُك يا أبتي؟ قال: يا بُنَيَّ، في كريمٍ سددتُ خَلَّتَه وفقره، ورجل جاءني في حاجة وقد رأيت السوء في وجهه من الحياء، فبدأت بحاجته قبل أن يسألها.
وقد صور ابن إسحاق هذا المعنى بقوله:
وإذا طلبتَ إلى كريمٍ حاجةً فحضوره يكفيك والتسليم
فإذا رآك مُسَلِّمًا عرَف الذي حَمَّلْته فكأنه ملزوم
قال أبو حاتم رحمه الله: "ما ضاع مالٌ ورَّثَ صاحبَه مجدًا، ولولا المتفضّلون مات المتجمّلون، ولا يستحقُّ اسم الكرم بالكف عن الأذى إلا أن يَقرِنَه بالإحسان إليهم، فمن كثرت في الخير رغبته وكان اصطناع المعروف همته قصده المحتاجون، وتأمّله الملهوفون والمعوزون، ومن كان عيشه وحده مقتصرًا على نفسه فهو قليل العمر وإن طال عمره، والبائس من طال عمره، ولم يبذل المعروف، ولم يقض حوائج إخوانه".
كثير هم أولئك الذين يجِدهم المرء حوله في رخائه ويسره، لكنهم ينحسرون ويقلون أوقات المحن والشدائد، ورحم الله الإمام الشافعي إذ قال:
ولما أتيتُ الناسَ أطلبُ عندهم أخا ثقةٍ عند ابتلاء الشدائدِ
تقلبت في دهري رخاءً وشدةً وناديتُ في الأحياء: هل من مساعدِ؟
فلم أر فيما ساءني غير شامتٍ ولم أر فيما سَرَّني غير حاسد
وقال أيضًا:
إني صحبتُ أناسًا ما لهم عددُ وكنت أحسبُ أني قد ملأتُ يدي
لما بلوتُ أخلائِي وجدتُهم كالدهر في الغدر لم يبقوا على أحدِ
إن غبتُ عنهم فشرُّ الناس يشتُمني وإن مرضتُ فخير الناس لم يَعُدِ
وإن رأوني بخيرٍ ساءهم فرحي وإن رأوني بشرِّ سرَّهم نكدِي
لكن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، وفي الناس من زرَع الله في أفئدتهم محبة الضعفاء والمساكين، وإعانة ذوي الحاجات والمعوزين، ومسح دموع اليتامى والمساكين، وجبرَ خواطر الأرامل والثكالى والمكلومين. كتب الله لهم الأجر والمثوبة، وتقبَّل منهم ما قدّمت أيديهم، ورفع مكانتهم، وأعلى قدرهم ومنزلتهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3662)
ميزان الصداقة
الأسرة والمجتمع, الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الولاء والبراء, فضائل الأعمال, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جاء الإسلام بكل ما يسعد المرء في الدارين. 2- ضرورة بناء العلاقات بين الناس على الحب في الله والبغض فيه. 3- علو منزلة المتحابين في الله تعالى. 4- كل صداقة بنيت على غرض دنيوي فهي زائفة مصطنعة زائلة.
_________
الخطبة الأولى
_________
المتأمّل في هذا الدين يجده أتى بكلّ ما يسعدُ المسلمَ في حياته ومعاده، فهو يوجّه أفراده دائمًا إلى تعميق الصّلة والأخوة بينهم، وتثبيت أواصر المودّة والمحبة، وغرس أسس الترابط والتآلف بين القلوب، ولمّ شمل الأفراد والتقريب بينهم. وباعتبار أن المؤمنين في المجتمع الإسلامي إخوة فلا وجه إذًا لكلّ ما يعكّر صفو العلاقة والأخوة القائمة في صدورهم، بل إن عليهم أن يعملوا على رسوِّها وثباتها ونمائها، وينأوا بِها عن كل ما يخدشها أو يعمل على زعزعتها وعدم استقرارها، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
وينبغي أن تكون هذه الرابطة على أساس الحب في الله والبغض في الله، كما قال : ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)) وذكر منها: ((وأن يحب المرء لا يحبه إلاّ لله)) متفق عليه.
وهذه المحبة الصادقة الصافية في الله تعالى ينتج عنها علوُّ المنزلة ورفعةُ الدرجة يوم القيامة، ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله ذكر منهم: ((ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) متفق عليه.
فهذان الرجلان ـ كما يقول أحد شراح الحديث ـ تمكنت بينهما أواصر المحبة والصداقة، صداقة قوية وخالصة لله تعالى، لم يعلق بِها شيء من شوائب النفاق والتملق وابتغاء المنفعة وتحصيل المصلحة الدنيوية، لا يؤثر فيها غنى، ولا يقطعها فقر، بل تزداد يومًا بعد آخر وثوقًا وإحكامًا ورسوخًا وثباتًا، سِرُّهما في طاعة الله تعالى، وجهرهما في مرضاة خالقهما، لا يتناجيان في معصية، ولا يُسِرَّان منكرًا، يسعيان بأقدامهما إلى طاعة الله تعالى، لا يمشيان إلى فسق أو فجور؛ لأن هذين جمعت بينهما رابطة الدين وحبه، لم يجتمعا لزيادة رصيدهما من حطام الدنيا، أو السعي للوصول إلى درجة عالية أو مرتبة دنيوية زائلة.
فهنيئًا لهذين اللذين يزداد شرفهما حين يدنيهما الله تعالى في ذلك اليوم العظيم، ((ويقول: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلُّهم في ظلِّي يوم لا ظلّ إلا ظلي)) رواه مسلم.
إن هذا الشرف وتلك المكانة العالية ليست بالأمر الهين، ولا المطلب السهل، إنها صعبةُ المُرْتَقى، عسيرة المُبْتَغى إلا على أناس زهدوا في هذه الحياة وفي زخارفها وزينتها، باعوا قصورها ونعيمها وملاذها، وراحوا ينشدون مرضاة الله تعالى، اشْرَأَبّت نفوسهم، وتطلعت قلوبهم، وارتفعت هممهم إلى الجزاء الأخروي، إلى ما أعده الله تعالى للمتحابين فيه من المنازل العالية والدرجات السامية، يطمعون في محبة الله تعالى لهم ورضاه عنهم، عن أبي هريرة عن النبي قال: ((إن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله تعالى على مدرجته ـ أي: على طريقه ـ ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية. قال: هل لك عليه من نعمةٍ تربها عليه ـ أي: تقوم بِها ـ ؟ قال: لا، غير أني أحببتُه في الله تعالى. قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم.
بل إن النبي بشَّرهم بعلو منازلهم وتميّزهم عن غيرهم وسبقهم لمن سواهم وحصولهم على ما لا يحصل عليه أحد، ففي مسند الإمام أحمد أنه قال مخاطبًا أصحابه رضي الله عنهم: ((يا أيها الناس، اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله)) ، فجاء رجل من الأعراب من قاصِيَة الناس، وأشار بيده إلى رسول الله فقال: يا نبي الله، ناس من الناس، ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله! صِفهم لنا. فسُرّ وجهُ رسول الله لسؤال الأعرابي وقال: ((هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور فيجلسهم عليها، فيجعل وجوههم نورًا وثيابهم نورًا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) رواه أحمد.
فأي تشريف وتكريم أسمى من هذا وأرفع منه؟! يحظى به من سمت نفوسهم، وصفت قلوبهم، وفاضت بالحب الإيماني الصادق في الله عز وجل، إنها دعوة نبوية وحفز لتأسيس صداقة قوية، تجمع القلوب على حب صادق خالص لله تعالى، لما لهذا الحب من نتائج إيجابية في الدنيا والآخرة، تظهر آثارها بين أفراد المجتمع المسلم، فهم متآلفون متواصلون، ضمتهم هذه الرابطة القوية، وحوتهم تلك العلاقة الإيمانية، يسعدون بسعادة أحدهم، ويحزنون لحزنه، يستبشرون بنجاحه، ويتألمون لألمه وإخفاقه.
أما الصداقة الزائفة، والمحبة المبنية على تحصيل المصالح الدنيوية وجلب المنافع العاجلة، فإن الحب فيها مصطنع مزيف، إذا هبت عليها رياح المصلحة فرقتها ومزقتها؛ لأنها لم تبن على أساس راسخ ولا أصل ثابت.
إن كل صداقة في غير الله تعالى تنقلب يوم القيامة عداوة، قال تعالى: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، فالأصدقاء في هذه الحياة يعادي بعضهم بعضًا يوم القيامة إلا أصدقاء الإيمان، الذين بنوا صداقاتهم على الحب في الله والبغض في الله.
ويتضح ذلك يوم القيامة، حين تظهر الندامة والحسرة والأسى على تلك العلاقة الزائفة في الدنيا، قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً [الفرقان:27-29].
عدوك من صديقك مستفادُ فأقلل ما استطعت مِن الصحابِ
فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشرابِ
وإنك قلما استكثرت إلا وقعت على ذئابٍ في ثيابِ
فدع عنك الكثير فكم كثيرٍ يعابُ وكم قليل مستطابِ
وما اللُّجَج الملاحُ بمروياتٍ وتَلقَى الرِّيَّ في النطفِ العذابِ
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3663)
الصداقة الملونة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مساوئ الأخلاق
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منهج الإسلام في تربية أفراده قائم على المحبة والتقارب. 2- ينبغي أن يكون المسلم قريبًا من إخوانه عطوفًا ودودًا. 3- العاقل هو من يداري إخوانه ويصدق معهم. 4- كلمة جامعة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعامل الناس. 5- العاقل لا يصادق المتلوّن ولا يؤاخي المتقلّب. 6- تحذير النبي من ذي الوجهين.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد مَنَّ الله تعالى على هذه الأمة بدين الإسلام، وأكرمها بنور الإيمان، أخرجها به من الظلام، وألف بين القلوب طلبًا للوئام، فاجتمعت الكلمة، وقويت الشوكة، وارتبطت برباط المودة والألفة، وانحسرت دواعي الشتات والفرقة، والاختلاف والنفرة، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63].
ما أجمل صورة المجتمع المسلم حين يستمرّ على تلك الثوابت، ويعمل بتلك الأسس والقواعد، حيث يبقى مجتمعًا قويًا متماسكًا، تسود أفراده روح المودة والسماحة، في انسجام تام، وتآلف فريد، لا تؤثر فيه الرياح العاتية، ولا المؤثرات الوافدة.
غير أن المجتمع إذا تخلّى عن شيء من تلك الأسس، ونأى بنفسه عن التوجيهات النبوية التي تحثّه على التحلي بأدب الأخوة الإسلامية، وتدعوه إلى الأخذ بالأسباب الجالبة للترابط والألفة سرت بين أفراده القطيعة، وحُرم من التواصل والتعاطف.
إن منهج الإسلام في تربية أفراده قائم على المحبة والتقارب، والبعد عن كلّ ما يكدر ذلك أو يكون سببًا في الجفوة والشحناء والتباعد والبغضاء.
والمسلم ينبغي أن يكون قريبًا من إخوانه، عطوفًا ودودًا، يصلهم ويحسن إليهم، يُظهر محاسنهم ويبرز فضائلهم، يخفي عيوبهم ويصفح عن سيئهم، يتحمل أذاهم ويعفو عن زلاتِهم، يقول : ((وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) متفق عليه.
قال أبو حاتم رحمه الله: "الواجب على العاقل أن يعلم أن الغرض من المؤاخاة التي يجب على المرء لزومها مشي القصد ـ أي: الوسط ـ الذي وصف الله به عباده بقوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]، ومنها: خفض الصوت، وقلة الإعجاب، ولزوم التواضع، وترك الخلاف".
والعاقل هو من يداري إخوانه ويصدق معهم، ويكون وفيًا لهم؛ لأنه لا خير في الصداقة إلا مع الوفاء، وأما الأُخوَّة الزائفة التي تطفو على السطح، وهي براقة في الظاهر، جوفاء من الداخل، فلا خير فيها؛ لأن المرء إذا احتاج إليها ووصل عندها لم يجدها شيئًا، فهي كالسراب يحسبه الظمآن ماء.
ولقد أحسن من قال:
كم من أخٍ لك لم يلده أبوكا وأخٍ أبوه أبوك قد يجفوكا
صافِ الكرامَ إذا أردتَ إخاءهم واعلم بأن أخا الحِفاظ أخوكا
كم إخوةٍ لك لم يلدك أبوهم وكأنما آباؤهم ولدوكا
لو كنت تحملهم على مكروهة تخشى الهلاك بها لما خذلوكا
وأقارب لو أبصروك معلقًا بنياط قلبك، ثَمَّ ما نصروكا
الناس ما استغنيتَ كنتَ أخًا لهم وإذا افتقرتَ إليهم فضحوكا
قال سعيد بن المسيب رحمه الله: وضع عمرُ للناس ثماني عشرة كلمة، كلها حِكَم، قال: (ما كافأتَ من يعصي الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجَتْ من مسلم شرًا وأنت تَجِدُ لها في الخير محملاً، ومن تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء الظن ولا يلومن إلا نفسه، ومن كتم سره كانت الخيرة في يديه، وعليك بإخوان الصدق، فعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعُدة في البلاء، وعليك بالصدق وإن قتلك الصدق، ولا تتعرض لما لا يعنيك، ولا تسأل عما لم يكن، فإن فيما كان شُغلاً عما لم يكن، ولا تطلبن حاجتك إلى من لا يُحب لك نجاحها، ولا تصحبن الفاجر فتعلَّم فجوره، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله، وتَخَشَّع عند القول، وذل عند الطاعة، واعتصم عند المعصية، واستشر في أمرك الذين يخشون الله، فإن الله تعالى قال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]).
وهكذا فإن المسلم يجب أن يكون صافي الودّ، صادقًا مع إخوانه، واضحًا معهم، باطنه كظاهره، لا يوغر في صدره حقدًا عليهم، ولا يجد في نفسه كراهة لهم، حاله في غيبتهم كحاله معهم في حضرتهم، إن حضر أخاه في مجلس أثنى عليه بما يستحقه، وأكرم وفادته، ولا يكن كحال البعض، يظهر الود لأخيه، والصفاء والمحبة له، وبمجرد أن يتوارى عنه وينصرف من حضرته يبدأ بالكلام في عرضه، لا يترك وصفًا ذميمًا إلا ألصقه به، ولا صفة يكرهها إلا اتهمه بها، فهو متقلّب الحال، متلّون الوداد، إذا رآه رحَّب به، وإذا غاب عنه ذَّمه. قال محمد بن حازم رحمه الله:
وإن من الإخوان إخوانُ كشرةٍ وإخوانُ "حياك الإله ومرحبا"
وإخوانُ "كيف الحال والأهل كلهم؟" وذلك لا يَسْوَى نقيرًا مُتَرَّبا
جوادٌ إذا استغنيت عنه بماله يقول: إلي القرض والقرض فاطلبا
فإن أنت حاولتَ الذي خلف ظهره وجدتَ الثريا منه في البعد أقربا
فالعاقل لا يصادق المتلوّن، ولا يؤاخي المتقلّب، ولا يظهر من الود إلا مثل ما يضمر، ولا يضمر إلا فوق ما يظهر، فأين هم أهل هذه الصفات؟! لقد عزّوا في مثل هذا الزمان. وإنك لتعجب! بشاشة عند اللقاء، وابتسامة عند الملتقى، وترحيب حار عند المواجهة، وفسحة في المجلس، ولينٌ في الكلام، ولسان يقطرُ كلماتٍ أحلى من العسل، فإذا ما غبتَ عنه تحول ذلك كله إلى ضده.
إذا كان ود المرء ليس بزائد على "مرحبًا" أو "كيف أنت وحالكا"
ولم يكُ إلا كاشرًا أو محدثًا فأفٍ لوُدٍ ليس إلا كذلكا
لسانك معسول ونفسك بشةٌ وعند الثريا من صديقك مالكا
وأنت إذا همت يمينك مرة لتفعل خيرًا قاتلتها شمالكا
لقد حذر رسول الله من هذا التلوّن، وبيَّن أن ذلك من صفات الأشرار وأخلاقهم، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ: ((ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة وله وجهان من نار)) ، وفي لفظ: ((من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار)) رواه ابن حبان في صحيحه. فالله تعالى يخلقه على أبشع صورة وأقبح هيئة؛ لأنه كان متملقًا في حياته، متلوّنًا في مقابلاته.
اللهم اجعل صدورنا سليمة، ونفوسنا كريمة، ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3664)
الغادر الممقوت
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مساوئ الأخلاق
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة الثقة والأمانة في حياة الناس. 2- أعظم الغدر أن ينقض الإنسان العهد الذي بينه وبين خالقه. 3- الغدر صفة ذميمة وممقوتة. 4- الغدر طريق إلى تفكك المجتمع واضطرابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
الثقة صفة محمودة، تطمئن إليها النفوس، وترتاح لها القلوب، وكل إنسان موثوق محبوب للناس، مقرب عندهم، مأمون في أقواله ومعاملاته، وبقدر ما يكون ثقة أمينًا فإنه يكون أهلاً يُعتَمَد عليه بعد الله تعالى، وبقدر ما تفقد الثقة منه ويكون مهزوزًا في تعامله، بقدر ما يبتعد الناس عنه، ولا يأمنون غدره وانقلابه.
والمرء إذا كان معدوم الثقة تنقطع عنه كل الروابط الأخوية والعلاقات الاجتماعية؛ لأن الخيانة ديدنه، والغدر صفته وعادته، يبيعك بأقل ثمن، ويروغ عنك لأتفه سبب، لا يتردد في إلقائك في المهالك والحفر، ولا يتورع عن وصفك بأقبح الصفات ونعتك بأبشع الألفاظ، فلا تطمئن لصداقته، ولا ترتاح لتظاهره بحسن علاقته. لذلك كانت صفة الغدر من الصفات القبيحة التي ذمها الإسلام، ومن الخلال الذميمة التي حذر منها أشرف الأنام.
قال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً [الإسراء:34]، وقال جل وعلا: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً [النحل:91].
وأعظم الغدر أن ينقض الإنسان العهد الذي بينه وبين خالقه، فهو الذي أوجده من العدم، وَأَدَرَّ عليه الخيراتِ والنعم، ثم هو في كل مرةٍ لا يفي بما وعد، ولا يُتِم ما به التزم وتعهد.
ومن اتصف بذلك فإنه على حالٍ خطيرة، وفي موقف قد يؤدّي به إلى السعير، قال تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة:75-77].
إن الغدر صفة ذميمة وممقوتة، ولا أدلّ على ذلك من أن الخالق جل وعلا هو خصمه يوم يبعث الخلائق، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه العمل ولم يوفه أجره)) رواه البخاري. ومن كان الله تعالى خصمه فقد وقع في أحقر موقف وأذل صورة وأخزى حال، إذ هو أمام رب العالمين وأحكم الحاكمين.
ولقد عاتب رسول الله الغادرين بعقوبة قاسية أليمة، فعن أنس بن مالك أن أناسًا قدموا على رسول الله المدينة فاجتووها ـ أي: استوخموها فلم تناسبهم واعتلت صحتهم ـ، فقال لهم رسول الله : ((إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها)) ، ففعلوا وانطلقوا إليها، فشربوا من أبوالها وألبانها، حتى صحوا وسمنوا قتلوا الراعي واستاقوا الإبل، فبلغ ذلك النبي فبعث في آثارهم وأتى بهم، فأمر أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ثم أمر بمسامير فأحميت فكحل بِها أعينهم، وطرحهم في الحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا. رواه البخاري ومسلم.
وهكذا أنزل بهؤلاء هذه العقوبة الصارمة جزاء غدرهم ومقابلتهم الإحسان بالإساءة والمعروف بالنكران، ولعذاب الآخرة أخزى وأشد.
ولو لم يكن في الغدر والخيانة وعدم الوفاء بالعهد إلا أن رسول الله عدّ ذلك من صفات المنافقين لكفى، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي قال: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) رواه البخاري ومسلم.
ومما يدل على شؤم الغدر وسوء عاقبته أن الله تعالى يفضح صاحبه على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) متفق عليه. فتكون عقوبته في ذلك الموقف العظيم التشهير بخيانته وإعلان غدره ونشر فضيحته أمام أهل الموقف، حتى يُعرف بذلك ويُذم بينهم.
وكلما انتشر الغدر بين الناس وشاع بينهم نقضُ العهد وعَدَم الوفاء به أدى ذلك إلى تفكك المجتمع واضطرابه، وفقدان الثقة بين أفراده، وعدم اطمئنانهم لبعضهم، وبعدهم عن تقوية روابط الألفة والتماسك فيما بينهم.
روى بريدة قال: قال رسول الله : ((ما نقض قوم العهد إلا كان القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قومٍ إلا سُلط عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حُبس عنهم القطر)) رواه الطبراني.
اللهم اجعلنا أوفياء لك، أصفياء في عبادتك، أحباء لعبادك، مطيعين رسولَك، منفذين أوامرك، مجتنبين نواهيك، صفِّ سرائرنا من الضغينة والشحناء، وطهر قلوبنا من النفاق، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات، برحمتك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3665)
تحريم الأذية والانتحار
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
26/11/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حب الخير للمسلمين. 2- أنواع الأذية للمسلمين. 3- صور من الأذية باللسان. 4- صور من أذية المسلمين في أموالهم. 5- صور من الأذية بالفعل. 6- جريمة الانتحار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن خُلُق المؤمنِ حبَّ الخير لإخوانِه المؤمنين، فهو يحِبّ لهم الخيرَ أين كانوا، ويكره لهم الشرَّ حيث كانوا، يحِبّ لهم الخيرَ كما يحبّ لنفسه، ويكره لهم الشرَّ والأذى كما يكرَه لنفسه؛ ولذا يقول النبيّ : ((لا يؤمِن أحدُكم حتى يحِبَّ لأخيه ما يحبّه لنفسه)) ، هكذا الإيمان الصادِق الحقيقيّ. وبضدّ هذا ـ والعياذ بالله ـ من يؤذون المؤمنين ويلحِقون الضرر بهم، وهذا الأذى يكون تارةً بالقول وأخرَى بالفعل، وقد ذمَّ الله من يؤذي المؤمنين ويعرِّضهم للأذى بقوله: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
أيّها المسلم، فمن أنواعِ الأذى ما يؤذي به بعضُ الناس إخوانَه المسلمين بأقواله، فمن تلك الأذيّة التي يؤذيهم بلسانه بأن ينسِب لهم باطلاً، ويقول عليهم زورًا وبهتانًا، يحكم عليهم بالفِسقِ وهو لا يعلم، وربما كفَّرهم ـ والعياذ بالله ـ بغير رويَّةٍ ولا بَصيرة ولا تأمّلٍ ولا نظر في العواقب، وإنما يطلِق الكلِمات لا يزن لها وزنًا، ولا يقيم لها شأنًا، إنما هي ألفاظٌ يذكُرها بلِسانه، ولا يتصوَّر هذا القائل مدَى خطورتها وضرَرَ إثمها على المسلم، ولذا يقول محذِّرًا لنا من ذلِك أنّ مَن قال لأخيه: يا عدوَّ الله أو يا كافر وليس كذلك إلا حارَ عليه، أي: إلا رجَع عليه مثل ما قال. فليحذرِ المسلم أن يطلقَ الكلمات من غير أن يزِن لها وزنًا، وليتثبَّت فيما يقول، والله محاسبُه عن ألفاظه، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
يؤذي المسلمينَ أحيانًا بسبِّهم وشتمِهم ولعنِهم، وهو لا يتصوَّر نتائجَ تلك الكلماتِ القبيحة، ولذا يقول : ((لعنُ المسلم كقتله)) ، ويقول أيضًا: ((سِباب المسلم فسوق وقتاله كفر)).
يؤذيهم بلسانِه فيسعَى بينهم بالنّميمة ليفسدَ العلاقةَ القائمةَ بين الإخوان، وربما سعَى بالإفساد بين الزوجَين، وربما سعَى بين الأخَوين وبين الأبِ وأولاده أو الرّحم بعضهم مع بعض. نميمة خبيثة، نقلُ الكلام السيّئ على وجهِ الإفساد وإلحاقِ الضررِ وتصديعِ بناء المجتمع المسلم.
يؤذيهم بأقواله فترَاه يغتابهم وينتهِك أعراضَهم بلا رويّة ولا بصيرة، يتشفّى في أعراض المسلمين، كفاه إثما لو عاد لنفسِه وصحَّح أوضاعَه وأصلح أخطاءه، لكان في ذلك كفاية وغُنية من أن يشتغلَ بأعراضِ المسلمين ثَلبًا وعيبًا من غير بصيرةٍ ولا تأمّل.
يؤذيهم بلسانِه فينسِب لهم البُهتان ويحكِي عنهم الزورَ والأقوالَ الخبيثة، وهم قد لا يكونون قالوها ولم يحكوها، لكنّه يتلقّف الكلامَ من كلِّ قائل من غير أن يتثبَّت فيما يُنقَل إليه، ولذا قال الله لنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
يؤذيهم بلسانِه فيشهَد عَليهم زورًا وبهتانًا، شهادةً ظالمة جائِرة لا صحّةَ لها؛ لكي ينفَع شَخصًا ويضرَّ آخر، وتلك شهادة الزورِ الباطلة التي حذَّرنا منها ربّنا وحذّرنا منها نبيّنا حيث يقول لما عدّ الكبائر وكان متكِّئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) ، فما زال يكرِّرها حتى قال الصحابة: ليته سكت.
يؤذيهم بأقوالِه فيقيم دَعوى كيديّة لا صحّةَ لها ولا أصل لها ولا بِناء ثابت لها، لكنها الدّعوَى الكيديّة التي يقصد منها إلحاقَ الضرر وإيصالَ الهمّ والغمّ على أخيه المسلم، وقد تنكشف الأمور ضدَّ ما يريد، لكن يكفيه أن ألحقَ الضرَرَ بأخيه المسلم وأساءَ إليه وعطَّل مصالحَه، وتلك والعياذ بالله كبيرةٌ عظمى.
يؤذيهم بلسانِه فيكتب فيهم ما لم يقولوه، ويحكِي عنهم ما لم يتحدّثوا به، وكلّ هذا من أذَى المسلمين، فالواجب على المسلِمِ تقوى الله والكفُّ عن هذا الأذى السيّئ.
يؤذيهم في أموالهم، فيتعدَّى على أموالهم ظلمًا وعدوانًا، تارة يؤذيهم فيجحَد الحقوقَ التي لهم، ويماطل أحيانًا بالوفاء، فلا يعطِي الناس حقوقَهم إلاّ بعد كلفةٍ ومشقّة، ولذا سمّى النبيّ ذلك ظالمًا بقوله: ((مَطلُ الغنيِّ ظلم يحِلُّ عِرضَه وعقوبته)).
يؤذيهم في أموالهم فيجحَد حقوقهم، ويجحَد حقوقَهم التي في ذمّتِه، إمّا لأن صاحبَه ليس عنده توثُّق قويّ، فيستغلّ ذلك فيجحَد الحقوق، والله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
يؤذيهم فيتعدَّى على أموالهم ظلمًا وعدوانًا، وفي الحديث: ((من اقتطَع شبرًا من الأرض طُوِّقه يومَ القيامة من سبع أرضين)).
يؤذيهم في أموالهم بالتعدِّي عليها سَرِقة أو إتلافًا أو غِشًّا في البيوع وخِداعًا وتدليسًا، فيكون بذلك مؤذيًا لهم حيث أخَذ من أموالهم بغيّر حقِّها. فجُحود الحقوقِ والمماطلة بها وعدَم الوفاء وعدَم الوضوح في التّعامل كلّ هذا من أذَى المسلمين، لو فكّر المسلم في ذلك لاتَّقى الله وترفَّع عن هذه الأذيّة.
ويؤذيهم بسفكِ دمائهم بغير حقّ، وكلّ هذا حرام، ولهذا النبيّ يقول: ((إنّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرام)). إنَّ سفكَ الدماء بغيرِ حقّ ظلم وعدوان، ((ولا يزال العبدُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)).
وعكسُ هذا مَن وفَّقه الله فسلم المسلمون من شرِّ لسانه ويدِه، كما قال : ((المسلم من سلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمِنَه الناس على دمائهم وأموالهم)). فحقيقة الإسلام الصادِق الذي سلِم المسلمون من شرِّ لسانه ويده، فلا يؤذيهم بلسانه، ولا يؤذيهم بيده، ويأمَنونه على الدّماء والأموال؛ لأن هذه حقيقةُ الإيمان الدّالّة على صدق الإيمان وقوّة اليقين.
فلنكن ـ أيها المسلمون ـ بعيدًا عن إيذاء الآخرين، مترفِّعين عن ذلك، سالكين الطريقَ المستقيم في تعاملنا مع إخواننا؛ ليكون إيماننا الإيمانَ الصادق، فليس الإيمان بدعوى أو أمور ظاهرة وأنت في خلاف ذلك، فكم من متظاهرٍ بالإسلام والخيرِ لكنه عند التعامُل تجِد الرّوَغان، وتجِد المماطلة، وتجد الأمور المتناقضة التي تتنافى مع دين الإسلام، فدين الإسلام دينٌ ومعاملة، صِدقٌ في القلب ويقينٌ وأعمال ظاهرة تدلّ على ما في القلبِ من إيمانٍ وصِدق حتى يكونَ الإيمان حقيقيًّا، فالإيمان الصادِق هو الذي يحمل المسلمَ على البعد عن أذَى المسلمين بكلِّ أنواع الأذى، والنبيّ يقول لنا: ((من كان عِنده لأخيه مظلمَة من دمٍ أو مال فليتحلَّل منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا دِرهم، إن كان له حسناتٌ أُخِذ من حسناته، وإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيّئاتهم ثم طرِحَت عليه فطرِحَ في النار)). فليحذر المسلِمُ ذلك، وليتَّق اللهَ في تعامله مع إخوانه، ولا يحملنَّه عدمُ عِلم الآخرين بحقوقهم أن يجحَدها ويظلمها ويؤذيهم فيها، فإنّ ذلك من الأذى المحرَّم الذي حرَّمه الله ورسوله.
ومِن أنواع الأذى المماطلةُ بالحقوق، كتأخير قِسمةِ الميراث أحيانًا؛ لأن بعضَهم قد يريد بها ظلمَ الآخرين والتحايلَ عليهم ومحاولةَ تنازلهم عن بعض حقوقِهم، لأجل المصالح الشخصيّة، فالمسلم يتباعَدُ عن هذا، وإن ائتُمِنَ أدَّى أمانته بصدقٍ وإخلاص.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد والعون على كل خير، إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
مِن نِعَم الله عليك ـ أيها المسلم ـ أنَّ الله أوجدَك من العدَم، فحياتك مِن نِعَم الله عليك، أوجدك ربّك من العَدَم، وربّاك بالنِّعم، ووهَب لك الحواسّ، وهيّأ لك كلَّ سُبُل الاكتساب، وهيّأ لك سبل الهدى مِنَ الضلال، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ [الملك:23].
إذًا فوجودُك ـ أيها المسلم ـ في الحياة نِعمة؛ لأنّك وُجدتَ وقد كرَّمك الله وفضَّلك على سائر المخلوقات، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70]. ما سِوى ابن آدم تنتهِي حياتهم بموتهم، أنتَ ـ يا ابن آدم ـ خُلِقتَ لأمرٍ عظيم؛ لطاعةِ ربك وعبادته، وُعِدتَ بالنعيم المقيم إن استقمتَ على الخير والهدى، وتُوعِّدتَ بالعذاب الأليم إن أعرضتَ عن شرع الله ودينه.
أيها المسلم، فالمسلِم يفرَح بالحياة لا للحياة، ولكن ليتزوّدَ منها عملاً صالحًا قبلَ لقاء الله، يعلَم أن حياته مقدَّرة بزمنٍ قدَّره ودبَّره من علِم الأمور كلَّها، فهو يعيش منتظرًا أجلَه الذي قدَّره الله له، إذًا فهو يجِدّ ويعمَل صالحًا ليتزوّد من حياتِه لمعادِه، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]. فالمؤمن يتميَّز عن غير المؤمن، غيرُ المؤمِن حياته مادّتُه، لا يرجو حسابًا ولا يخاف عقابًا، أمّا المؤمن فلا، حياتُه لهدفٍ وغاية؛ طاعةُ الله، عمارة الأرض بطاعة الله، تزوّدٌ من هذه الدنيا لدار القرار. إذًا فهو يفرَح بالحياة لهذا، ولهذا نهِيَ المؤمن عن تمنِّي الموت، فقال لنا نبيّنا : ((لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ لضرٍّ نزل به، فإن كان محسِنًا فإنه يزدَاد خيرًا، وإن كان مسيئًا فيستَعتِب)). إذًا فتمنِّي الموت لا يليق بالمسلم، لا يتمنّاه، لماذا؟ لأنّه يريد ولو ساعة يعيشها في الدنيا، فعسَى توبة نصوحا، وعسى رجوعا إلى الله، وعسى إنابة، وعسى كلمة يقولها يختِم الله بها خيرًا.
أخي المسلم، إذا علِمنَا ذلك وعلِمنا أيضًا أنّ الشرعَ أوجَب على المسلمِ حِفظَ نفسه، وحرَّم عليه التعدّيَ عليها والجنايةَ عليها، فقال لنا ربّنا جل وعلا: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وقال لنا ربّنا جل وعلا: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]. إذًا فنفسك أمانةٌ عندك، لا تتعدَّى عليها، ولا تزجُّ بها فيما تعلم النتائجَ السيّئة، بل حافظ عليها حتى يأذنَ الله بمفارقةِ الروح للجسد.
أيها المسلم، هذا مبدأُ الإسلام، حرَّم المسلم التعدّيَ على النفس، كما يحرم عليك التعدّي على نفوس الآخرين فيحرم عليك التعدّي على نفسِك والسعيِ في إزهاق نفسك، فإنّ هذا من كبائرِ الذنوب. وقضايا الانتحارِ قضايا جاء الإسلام بضدِّها، ولا يقدم عليها من في قَلبِه إيمان؛ لأنَّ المؤمن مأمورٌ بالصّبر في البلاءِ والرّضا بقضاء الله وقدره، وأنّ هذه المصائبَ تكفِّر المعايب وترفع الدرجات وتحطّ الخطايا. إذًا فقتلُ النفس جريمةٌ وكبيرة من كبائر الذنوب، بل هي ـ والعياذ بالله ـ من علاماتِ سوءِ الخاتمة، أي: أنَّ الذي يقتل نفسَه يدلّ على أنه خُتِم له بشرٍّ والعياذ بالله، نسأل الله السلامة والعافية.
ونبيّنا حذّرنا من هذه الجريمةِ أشدَّ تحذير، في عهد النبي وفي إحدى غزواته التقى المشركون والمسلِمون، ومال النبيّ إلى عسكره، ومال المشركون إلى معسكرهم، وإذا رجلٌ في عسكر النبيّ لا يدَع للمشركين شاذّة ولا فاذّة إلا قضى عليها بسيفه، فقال بعض المسلمين: ما فازَ اليومَ فينا مثلُ فلان، فقال النبيّ : ((والذي نفسي بيده، إنه من أهل النار)) ، فشقَّ على الصحابة وقال قائلهم: إذا كان هذا في النارِ فمن يدخل الجنة؟! فقال رجل منهم: أنا كفيل به، أتتبَّعُه في كلِّ مواقِفه، فما زال معه حتى إذا أثخنته الجراحُ أخذ سَيفَه فجعل ذأبته بين ثديَيه واعتمَد عليه حتى قتَل نفسَه، فرجع إلى النبيّ وقال: أشهدُ أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله، قال: ((وما ذاك؟)) قال: الذي قلت: إنه في النار هكذا فعل، فقال : ((إن العبدَ ليعمَل بطاعةِ الله فيما يظهر للناس فيختَم له بشرٍّ فيدخل النار، وإنّ أحدَكم ليعمَل بعمل أهل النار فيما يظهر للناس فيسبِق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها)).
أيها المسلم، ونبيّنا يقول: ((من قتل نفسه بشيء عذِّب به يوم القيامة)) ، وأخبرنا أن قاتلَ نفسه يُعذَّب يوم القيامة في نار جهنم بتلك الوسيلةِ التي قتل بها نفسه، فيقول لنا : ((من تردّى من جبلٍ فهو يتردّى في النار يوم القيامة خالدًا مخلدًا فيها أبدًا إلى يوم القيامة، ومن قتل نفسَه بسمٍّ فسمُّه في يده يتحسّاه في نار جهنّم خالدًا مخلّدا فيها إلى يوم القيامة، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدتُه في يدِه يجَأ بها بطنَه يومِ القيامة في نار جهنّم خالدًا مخلّدًا فيها أبدًا)). كلّ هذا تحذيرٌ للمسلم من الإقدامِ على الجرائم، ونأي له عن أن يقدم على هذه الجريمةِ النكراء التي لا يقدِم عليها إلاّ قلب فارغ من الإيمان ليس له في الآخرة نصيب.
هؤلاء المنتحِرون يَرونَ هذا الانتحارَ تخلُّصًا أو يعدُّه بعضُهم شجاعةً أو يعدّه ويعدّه، كلّ هذا من تحسين الشيطان، كلّ هذا من الضّلال، المسلِم يتبصَّر في أمورِه وفيما يقدِم عليه وفي مواقفِه كلِّها؛ حتى يكونَ على صراطٍ مستقيم، لكن أن يقتل نفسه أن يفجِّر نفسَه ويمزِّقَ أشلاءه بأيِّ حقٍّ ذلك؟! كيف تلقَى الله وقد مزّقتَ أشلاءك؟! كيف تلقى الله بهذه الجريمة النكراء التي هي اتباعٌ للشيطان وطاعةٌ للهوى وتنفيذ لأوامر أعدائك الحاقدين الذين يريدونَ أن يقضوا على حياتك بهذه الصورة المشينة القبيحة التي لا يرضاها مسلم لنفسه؟!
نسأل الله لنا ولكم الثباتَ على الحقّ والاستقامة على الهدى، وأن يجنِّبنا وإياكم نزعاتِ الشيطان، ويحفظنا وذرّياتنا وسائرَ المسلمين بحفظه، ويجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، إنّه على كل شيء قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين الأئمّة المهديّين...
(1/3666)
عيد الفطر 1419هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
1/10/1419
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- شعيرة العيد. 3- أهمية التوحيد. 4- من أنواع الشرك. 5- التحذير من كبائر الذنوب. 6- التحذير من بعض المعاملات المحرمة. 7- التذكير بحق الجار. 8- كلمات للمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
فها هي ذي صفحات الأيام تطوى وساعات الزمن تقضى، بالأمس القريب ـ عباد الله ـ استقبلنا حبيبًا واليوم نودعه، نزلنا ها هنا ثم ارتحلنا، كذا الدنيا نزول وارتحال، ولئن فاخرت الأمم من حولنا بأيامها وأعيادها وأكستها أقدارًا زائفة وبركات مزعومة وسعادة واهية فإنما هي تضرب في تيه وتسعى في ضلال، ويبقى الحق والهدى في سبيل أمة نبي الهدى والرحمة ، فالحمد لله الذي هدى أمة الإسلام سبيلها، وألهمها رشدها، وخصها بفضل لم يكن لمن قبلها.
أطلق بصرك ـ يا صاح ـ لترى هذه الأمة المرحومة مع إشراقة يوم العيد وهي تتعبد الله عز وجل بالفطر كما تعبدته من قبل بالصيام، فالله أكبر ـ يا عباد الله ـ على نعمة الهداية والإسلام.
عباد الله، إن العيد شعيرة من شعائر الإسلام ومظهرٌ من أجل مظاهره تهاون به بعض الناس وقدموا عليه الأعياد المحدثة، ألا فليعلموا أنهم على ضلالة ما لم ينيبوا إلى ربهم ويتوبوا إليه ويستغفروه ويعظموا شعائره، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]. إن يوم العيد ـ أيها المسلمون ـ يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته وخلصت لله نيته، وليس العيد لمن لبس الجديد وتفاخر بالعدد والعديد، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد وسكب الدمع تائبًا رجاء يوم المزيد.
وخير ما نذكركم به في هذا الجمع المبارك ـ إخوة الإسلام ـ المحافظة على التوحيد ونبذ الشرك الذي يعد من أعظم الذنوب على الإطلاق، وهو الذنب الذي لا يغفره الله عز وجل إلا بإحداث توبة خاصة ورجعة صادقه ترده إلى حياض الإسلام. والشرك منه ما هو أكبر يخرج من الملة، وصاحبه مخلد في النار إن مات على ذلك والعياذ بالله.
ومن أنواع هذا الشرك المنتشرة في كثير من بلاد الإسلام عيادة القبور واعتقاد أن الموتى يقضون الحاجات ويفرجون الكربات لقربهم من الله زعموا، وما علم هؤلاء الجهلة والطغام أن الموتى هم بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة منهم، وكأنهم لم يسمعوا قول الحق جل وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163، 164]. فاحذر ذلك أخي، وتذكر قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف:194].
ومن أنواع الكفر والضلال الذهاب للسحرة والمشعوذين الأشرار، وعندها تهتك الحرمات وتصرف العبادة لغير الله، فيدعى غير الله، ويستغاث ويرجى ويسأل غير الله، ويذبح لغير الله، فاحذروا ذلك يا عباد الله، فأولئك أعداء لكم لو تعلمون، واستمسكوا بحبل الله المتين، والجؤوا إليه، فإنه هو البر الرحيم، كيف لا وهو القائل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، وقوله : ((من مات وهو يدعو من دون الله ندًا دخل النار)) رواه البخاري.
ومن كبائر الذنوب قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومردُ ذلك وسببه الغضب الذي هو جمرة الشيطان التي يوقد بها قلب ابن آدم فيدفعه إلى قتل أخيه المسلم بغير حق، وفي ذلك قال الحق جل وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
واحذروا الزنا فإنه كان فاحشة وساء سبيلاً، ومرده إلى النظر المحرم والكلمة المحرمة والسماع المحرم والفعل المحرم والمؤدي بدوره إلى سوء السبيل وأرذل طريق، ولا يرضى به مسلم أيًا كان، فكيف يرضى لبنات المسلمين؟! واحذروا سبله ووسائله من الغناء المحرم وسماع المعازف وكلام الحب والغرام، فإنه بريد الزنا، والغناء حرام بنص القرآن والسنة المطهرة، ولا يماري فيه إلا جاهل أو متبع لهوى. وكذلك احذروا الدخول على النساء الأجنبيات ومصافحتهن، ولا يعتذر معتذر بأن هذه المرأة قريبتي أو أنها بمنزلة أختي أو ما يزعمون بأن قلوبنا طاهرة، فهذا سيد ولد آدم يقول: ((إني لا أصافح النساء)) ، وتأمل في بيعة الرسول على الإسلام مع عِظمِها ومكانتها لم يبايعهن إلا بالكلام، تقول عائشة: لا والله، ما مست يد رسول الله يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام، واستمع إلى قول حبيبك وهو يقول لك: ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)).
واحذروا الخلوة بالمرأة الأجنبية فقد قال : ((لا يخلونّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)). ومن صور الخلوة ـ عباد الله ـ ذهاب المرأة مع الرجل الأجنبي في سيارة دون محرم، وهذا لا يجوز ومن طرق إغواء الشيطان ولو كان أمينًا تقيًا، فإنه حرام، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
واحذروا الأخلاق الرديئة، ومن أسوئها وأضرها على الفرد والمجتمع الدياثة، فهي صفة ذميمة لا يرضى حُر بأن يتصف بها، فكيف يكون من أهلها؟! وهي أن يرضى الرجل ويقر الخبث في أهله، وأيّ خبث ـ يا عباد الله ـ أن يرضى الرجل الحر المسلم العربي ذو الشيمة والعزة والكرامة بأن تصافح زوجته أو ابنته أو أخته أو غيرهن من محارمه رجلا ليس بمحرم لها أو تجالسه وتخلو معه؟! أو كيف يرضى من يدّعي الشهامة والنخوة أن تخرج موليته إلى السوق أو المسجد بدون حجاب شرعي يستر جميع بدنها؟! وكذالك تمكين الأهل في البيت من الأفلام والمجلات المحرمة التي تنشر الفساد والمجون وتظهر التبرج والسفور، فيفسد أخلاقهم ويزعزع عقيدتهم ويضيع دينهم، ألا فاعلموا أن ذلك كله من الدياثه وغيره كثير، فاحذر ـ يا عبد الله ـ فإن الأمانة عظيمة، والحمل ثقيل، والكتاب والكتبة يحصون فيه كل صغير وكبير، وستعرض على العليم الخبير الذي استرعاك هذه الرعية فضيعتها ولم تحفظها، فما هو موقفك في ذلك اليوم العظيم؟! يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، كم هو حقير هذا المخلوق الصغير الذي يدعى الإنسان، وذلك عندما يتجرأ على محاربة ربه جل وعلا، فمثله كمثل طفل صغير يحاول عبثًا أن يحارب سيده ومولاه، ولله المثل الأعلى وهو العلي الكبير. ومن هؤلاء آكلو الربا وماحقو البركة من الأرض والسماء، رضوا بالحرام الممحوق، وتركوا الحلال المبارك، أفسدوا العباد والبلاد حتى منع القطر من السماء عقوبة من الله المنتقم الجبار، وأورثت الأمة بسبب ذلك ذلاً وصغارًا وضيقا وانكسارًا، فاللهم رحماك يا ربنا من هذا الذنب العظيم، اللهمّ لا تمنع عنا فضلك بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين. فاحذروا ـ رحمكم الله ـ من الربا قليله وكثيره، وتحروا في جميع بيعكم وشرائكم فإن أعداء الإسلام لبسوا على المسلمين دينهم، فتبعهم أبواق ممن ادعى الإسلام وما هم بمسلمين، وتذكروا قول الحق جل وعلا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، وقوله: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، واعلموا أن صاحبه ملعون كما أخبر بذلك الصادق المصدوق وكل من أعانه عليه، فقد قال : ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) ، وقال: ((هم سواء)).
واحذر من بيع النجش، وهو أن تزيد في سلعة ولا تريد شراءها لخداع غيرك، قال : ((المكر والخديعة في النار)). واحذر الرشوة أخذًا وعطاءً فإنها حرام، ((وأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به)). واحذر شهادة الزور وهي أن تشهد على أمر لم يقع بأنه وقع وفي الحقيقة أنه باطل، فكم من مظلوم أخذ بجرم لم يفعله، وكم من مال اقتطع بغير حق أو أعطي بغير حق، فويل لهم ثم ويل لهم يوم العرض على الله الملك الحق المبين.
ومما حرمه ربنا جل وعلا شرب الخمور، وهي من كبائر الذنوب، ومن شربها في الدنيا ولم يتب منها ومات عليها سقاه الله من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار أعاذنا الله وإياكم منها، وحرم من شرب خمر في الجنة، وهي أم الخبائث لأن من شربها ذهب عقله فلا يميز ولا يعقل فيفعل كل ما حرم الله، فاحذروها تسلموا.
وأكرموا جيرانكم، واحفظوا حقوقهم، فقد أوصى بها ربنا جل وعلا من فوق سابع سماء لعظم حقه، فلا تؤذه في نفسه ولا أهله ولا ماله ولا بيته، وتذكر حديث رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ضننت أنه سيورثه)) ، وقال : ((والله لا يؤمن)) ثلاثًا، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)) ، فأحسن إلى جارك قدر استطاعتك، وتحمل إساءته، فإنك مأجور بإذن الله.
متعكم الله بصحتكم على طاعته، وأسعدكم بعيدكم في يومكم، واحذروا المعاصي كلها صغيرها وكبيرها وأنتم تتمتعون بنعمة ربكم في لباسكم وأكلكم وشربكم، واحذروا من الإسراف والمخيلة والطغيان على عباد الله، وأكثروا من ذكر الله وشكره على ما من به عليكم، وواسوا الفقراء والمساكين والأرامل والمعوزين من المسلمين، عسى ذلك أن ينفعكم عند رب العالمين، ولا تنسوا أن رب رمضان هو رب شوال والشهور كلها، فاستمروا في طاعة الله مما اعتدتموه في شهر الخير والبركات من الصيام والقيام وقراءة القرآن والذكر والدعاء والبر والمعروف والإحسان والطاعة، ليس لمنتهاها حد إلاّ الموت، وأوّل هذه الطاعات بعد رمضان صيام الست من شوال، فمن صامها بعد صيام رمضان كان كمن صام الدهر، ومن بقي له من رمضان أيام بعذر فعليه بالمسارعة في القضاء أداءً لحق الله، واحرصوا على الصلاة في جماعة المسلمين، وتضرعوا وتذللوا لربكم وأخبتوا له وسلوه القبول لشهركم وما أودعتموه فيه، وسلوه العفو عن الزلل والتقصير.
اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعدنا بطاعتك وتقواك، ولا تجعلنا من رحمتك مطرودين، ورضّني بقضائك، وانصرنا على أعدائك، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة دارنا وقرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير الشاكرين لربه والذاكرين، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، وراقبوه ولا تعصوه لعلكم تفلحون.
عباد الله: إن المرأة المسلمة هي ركيزة البيت المسلم والأسرة السعيدة، وكثيرًا ما تقع في بعض المحرمات جهلاً أو غفلة أو محاكاة للغير. وحيث إن الإنسان مجازًى بعمله ولا ينفعه أحد من أهل الأرض نسوق للمسلمة المتوضئة العابدة لربها بعضًا من المخالفات التي ندعو الله أن تدعها وتحذر منها وتتوب إلى ربها توبة صادقة.
فأولها وأهمها بعد الشهادتين تأخير الصلوات عن وقتها كصلاة العشاء وذلك بسبب ما تضعه من مساحيق عند الخروج من البيت والتأخر في العودة إلى المنزل مما يسبّب بدوره التأخر في النوم، ومن ثم قد لا تصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، وهذه من صفات المنافقين، هذا لمن تأخر عن الصلاة في وقتها، فكيف بمن لا تصلي؟! وتذكري إذا حافظت على صلاتك قول النبي : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أيّ أبواب الجنة شئت)).
ثانيًا: عدم اهتمام الأخت المسلمة بزكاة المال والحلي التي تملكها إذا حال عليها الحول وبلغ النصاب، فعليها أن تزكي الحلي التي تملكها سواء لبسته أو لم تلبسه أو كنزته كما أفتى بذلك الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين حفظهما الله.
ثالثًا: سكوت المرأة على زوجها وأولادها الذين لا يصلون، ولتعلم أنها داعية وستسأل أمام ربها عما استرعاها أحفظت أم ضيّعت، ولتعلم المرأة أنها إذا كان زوجها لا يصلي أبدًا فإنه قد كفر والعياذ بالله، ويعتبر مرتدًا عن الإسلام، وعقدها يفسخ منه، ويحرم عليها معاشرته، فعليها بذل الجهد في الإصلاح والنصح له والدعاء له بالهداية والتوفيق.
وتهمل كثير من النساء لبس بناتها، فتلبسهم القصير الذي يظهر جسدها، فتعودها على السفور والتبرج من صغرها، فكيف إذا كبرت؟! ولا تهتم باختيار الملابس الساترة، ولا تتجنب الملابس المحرمة كالتي تحمل شعارات الكفار وتحمل الصور ذات الأرواح، فذلك كله لا يجوز. فلتتقي الله المرأة المسلمة في بناتها وأولادها.
ومن المخالفات خروج المرأة المسلمة في الأسواق باستمرار لغير الحاجة الملحة، فتكثر الكلام مع البائعين والخياطين، ويتعدى إلى الضحك والمزاح مع رفيقاتها في الأسواق أمام الرجال، ولم تسمع إلى قول المصطفى : ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)). وتبع ذلك ما يحصل من متابعة النساء للموضة في الملابس والتسريحات والعطور والمساحيق مما لا يناسب عاداتنا الإسلامية مما غزانا به أعداء الإسلام من أبناء القردة والخنازير، فظهر علينا في نساء المسلمين من تلبس القصير والضيق والرقيق والبنطال الذي عمّ وانتشر في كثير من نساء المسلمين إلا من رحم الله وقليل ما هم، وبعدها ماذا تراك تجد؟ لا شك أنكم تلمسون كثرة خروج النساء متبرجات في الطرقات في الأسواق والنزهات والمساجد والمستشفيات إلا قليلاً ممن عصم الله، فترى من مظاهر التبرج والسفور كشف الوجه الذي هو محلّ فتنتها أو وضع النقاب الذي يظهر العينين وشيئا من الوجنتين والحواجب، فتفتن عباد الله في الطرقات، أو أن تضع غطاء رقيقًا، وظهر لنا من الموضة المشؤومة الملابس المفتوحة من الخلف والأمام بشكل مزري ومخجل ولكن لا خجل، ولبس الكعب العالي والعباءة المطرزة والمزركشة أو القصيرة، ثم نزلت بحكم الموضة فوضعت على الأكتاف بدلاً من الرأس والذي كان فيه ستر عظيم لجسد المرأة، أما الآن فحدث عن مفاتنها ولا حرج، ولا شك أن هذا من ضعف شخصية المرأة المسلمة، حيث إنها تتبع من أذلّ الله من نساء ورجال اليهود والنصارى ومن دعاة الحضارة المزعومة، وحقًا إنها الجاهلية بعينها، ولم تتذكر أختي المسلمة حديث ((رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) ، ولم تسمع قوله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد)) وذكر: ((ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها من مسيرة كذا وكذا)).
وتذكري أنك مخرجه من الدنيا بكفن تلفين فيه، واحذري من تغيير خلق الله فقد لعن رسول الله الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والواصلة والمستوصلة والمتفلجات لأسنانها طلبًا للحسن، فاحذرن من لعن سيد المرسلين، واحذري بمن يقوم بهذا العمل لك وهنّ الكوفيرات، فاحذريهن رحمك الله.
ومما شاع وانتشر بين نساء المسلمين اختلاطهن بالرجال الأجانب كأخ الزوج وزوج الأخت وابن العم وابن الخال وغيرهم من غير المحارم، وتجلس معهم وتمازحهم ونسيت دينها وحياءها وحشمتها، فبأيّ حقّ تكلِّمين، ووقوع كثير من نساء المسلمين في الخلوة بالسائق وركوبها معه وحدها بدون محرم، ومن ذلك أيضًا دخولها على الأطباء الرجال للعلاج بحجة الضرورة، وهذا حرام، والضرورة ليست على أهوائنا بل حددها الشرع، وهي أن لا يمكن علاج هذا المرض إلا عند هذا الطبيب، وإلا سوف يؤدي عدم ذلك إلى المهلكة، فهل كل امرأة تحققت لها هذه الضرورة؟! وإن كان ولا بد وتحققت الضرورة فلا تذهب لوحدها، بل لا بد من مرافقة محرمها معها، وتظهر مكان الألم المحدد فقط، وتستر بقية جسدها.
واجتهدي ـ أختاه ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكم ترين من منكر وتسمعين وتمرين عليه وكأنه لا يعنيك، واذكري قول نبيك : ((من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وأخيرًا أختاه، بيتك ثم بيتك ثم بيتك، هو دوحتك الصغيرة التي تستظلي فيها من هجير هذه الدنيا، فاحرصي على أن يكون بيتًا إسلاميًا، واحرصي على طاعة زوجك والتودد إليه وعدم تحميله ما لا يطيق، وتحرّي فضله، وكوني له هاشة باشة، واحرصي على راحته، فإن حق زوجك عليك عظيم، وإنما هو جنتك ونارك، فانظري أين أنت منه، واتقي الله لو بشق تمرة، وتذكري قول حبيبك : ((يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار)).
اللهم احفظ نساء المسلمين واجعلهن قرة عين لأزواجهن وآبائهن وأبنائهن، اللهم احمهن من التبرج والسفور ومن تقليد نساء الكفرة واليهود، واجعلهن من العابدات التقيات النقيات الطاهرات، واجعلهن من الحور العين في الجنات، اللهم من أراد بهن سوءًا فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين لك مطيعين لك مخبتين لك منيبين، ربنا تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وأجب دعاءنا وثبّت حجّتنا واهد قلوبنا وسدّد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا يا ربّ العالمين.
(1/3667)
الجار المأمون
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, قضايا المجتمع, مكارم الأخلاق
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نصوص الكتاب والسنة في تعظيم حق الجار والوصية به. 2- أقسام الجيران في الحقوق. 3- تعريف الجار وحدّه. 4- من حقوق الجار: الإهداء إليه، الإحسان إليه، كف الأذى عنه، احتمال أذاه. 5- الإشارة إلى حال الجيران اليوم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) رواه البخاري، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثُه)) متفق عليه.
هذان حديثان من مشكاة النبوة، التي تهدي إلى مكارم الأخلاق وجميل الصفات، وتوجه إلى البر والإحسان، وتدعو إلى المودة والرحمة والشكران. وإن من أعظم ما قرره الإسلام وأثبته حق الجار، فقد جاء به كتاب الله تعالى، وبينه رسول الهدى.
لقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى الجيران، قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [النساء:36].
تضمنت هذه الآية الكريمة عشرة حقوق، حتى عُرفت بين أهل العلم بآية الحقوق العشرة، بينها حق الجار، فقد أمر الله تعالى بحفظه والقيام بحقه، وأكد على ذلك بذكره لهذا الحق بعد ذكر الوالدين والأقربين.
والجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق، وجار له حقان، وجار له حق واحد، فأما الجار الذي له ثلاثة حقوق فالجار المسلم القريب، له حق الإسلام وحق القرابة وحق الجوار، والجار الذي له حقان هو الجار المسلم، فله حق الإسلام وحق الجوار، والجار الذي له حق واحد هو الكافر له حق الجوار.
وإن أولى الجيران بالرعاية والإحسان من كان أقربهم بابًا إليه، وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه الله لهذا فقال: "باب: حق الجوار في قرب الأبواب"، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: ((إلى أقربِهما لكِ بابًا)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "والحكمة في ذلك أن الجار الأقرب يرى ما يدخل بيت جاره من هديةٍ وغيرها، فيتشوف لها، بخلاف الأبعد، وكذلك فإن الأقرب أسرع إجابة لما قد يقع لجاره من المهمات، ولا سيما في أوقات الغفلة".
وقد ذكر العلماء عدة أقوال في حد الجوار، فقال بعضهم: هو الملاصق لبيته، وقال آخرون: إن أربعين دارًا من كل ناحية جار، وقيل غير ذلك.
ولقد أكدت الشريعة الإسلامية على حقوق الجوار ولزوم القيام بِها في أمور عديدة ومجالات مختلفة، منها:
التودد إلى الجار والإحسان إليه والبرُّ به وإكرامه، ويتمثل ذلك بالإهداء إليه مما يأكله ويشربه، ومما منَّ الله تعالى به عليه من النعم، فقد روى أبو ذر قال: قال رسول الله : ((يا أبا ذر، إذا طبخت فأكثر المرق، وتعاهد جيرانك)) رواه مسلم. أي: تفقدهم بزيادة طعامك ما تحفظ به حق الجوار. وقال : ((ليس المؤمن بالذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه)) رواه البخاري في الأدب المفرد.
وفي ذلك حض على مكارم الأخلاق وإرشاد إلى محاسنها، لما يترتب على هذا الإهداءِ من المحبةِ وحسن العشرة والمودة والألفة، ولما يحصل به من المنفعة ودفع الحاجة، فقد تصل إلى الجيرانِ رائحة الطعام، فتتوق نفوسهم إليه، لا سيما الصغارُ من الأولاد، فيشقّ على القائم عليهم ذلك، خاصةً إذا كان فقيرًا لا يستطيع توفير مثل ذلك لهم.
وفي هذا حثٌ على البذل والإنفاق، وتعويد النفس على السخاء والكرم، وتطهير لها من البخل والشح، وذلك من صفات المؤمنين.
وينبغي تبادل الهدايا بين الجيران ولو كان شيئًا يسيرًا؛ لأن الأكثر لا يتيسر في كلّ حين، وإذا تواصل الناس كان كثيرًا، وقد قال : ((يا نساء المسلمات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسنَ شاة)) رواه البخاري ومسلم.
ومن حقوق الجار أن يحسن إليه بما استطاع من المال والجاه والنفع، كأن يستشيره في أمر من الأمور، أو يطلب مساعدته في قضاء حاجةٍ له، أو يرشده في مسألة يجهلها، وينبغي أن يبدأه بالسلام، ويتفقد أحواله، ويعوده إذا مرض، ويعزيه في مصيبته، ويهنئه في أفراحه، ويشاركه في مسراته، ويعفو عن زلاته، ويصفح عن هفواته، ويلاحظ منزله عند غيابه، ويتعاهد أولاده فيما يحتاجون إليه عند سفره.
وقد جمع ذلك النبي عندما سأله أصحابه رضي الله عنهم: ما حق الجار يا رسول الله؟ قال: ((إن استقرضك أقرضته، وإن استعانك أعنته، وإن احتاج أعطيته، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير سرّك وهنأته، وإن أصابته مصيبة ساءتك وعزيته، ولا تؤذه بقتار قدرك، إلا أن تغرف له فيها، ولا تستطيل عليه بالبناء لتشرف عليه وتسدّ عليه الريح إلا بإذنه، وإن اشتريت فاكهةً فاهد له منها)) رواه الخرائطي.
ومن حقوق الجار أيضًا كفّ الأذى عنه، فقد قال : ((من كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فلا يؤذِ جاره)) رواه البخاري. فيجب على الجار أن لا يتعرض لجاره بأي شيء يسوؤه، فلا يتطاول عليه بيده ولا بلسانهِ، ولا يعيره بشيء أو ينتقص منه، ولا يضايقه في طريقه، أو يلقي النفايات عند بابه، أو يوقف سيارته موقفًا يتأذى منه، أو يزعجه بأبواق سيارته أو بأصوات تتعالى تؤرقه في نومه أو تقلق راحته، وقد قال : ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) ، قالوا: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) رواه البخاري. والبوائق هي الحقد الباطن وسائر أنواع الشر والأذى.
فالذي يتعرض لجيرانه بالأذى، ويسيء إليهم ويستمر على ذلك، بلا مبالاة ودون مراعاة لحقوق الجار إنما يكشف عما في داخل قلبه من الحقد والكراهية، وذلك أمر قادح في إيمانه بأعظم ركني الإيمان، وهما الإيمان بالله واليوم الآخر، فالإيمان محله القلب، وهو أمر باطني، والأعمال دليل على وجوده أو على عدمه، فمن ادعى الإيمان وأقواله وأفعاله تناقض إيمانه فدعواه باطلة.
ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل أن يتحمل ما يصدر من جاره من إساءة إليه، فيقابلها بالإحسان والعفو والصفح، وقد قال : ((خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره)) رواه أحمد والترمذي.
إن الجار لما كان مأمورًا بالإحسان إلى جاره كان التمسّك به مستوجبًا للثواب، فمن كان أكثرهم حظًّا من ذلك فهو أعظمهم ثوابًا عليه، فكان عند الله خيرهم، قال الحسن البصري رحمه الله: "ليس حسن الجوار كف الأذى، ولكن حسن الجوار احتمال الأذى".
من هذه النصوص الشرعية والتوجيهات النبوية يتبين لنا عظم حق الجار، من الإحسان إليه وكف الأذى عنه واحتمال ما قد يصدر منه، لكن المتأمل في حال كثير من الناس اليوم يجد أن المدنية الزائفة قد ألقت بظلالها على حياتهم، فتناسوا هذه الحقوق الواجبة عليهم تجاه جيرانهم، وأعرضوا عنها وأهملوها، فلا تكاد ترى مظهرًا من مظاهر الصلة المستمرة والعلاقة الوطيدة بين الجيران، فقد أشغل الناسَ عن القيام بتلك الواجبات كثرةُ تهافتهم على المادة، وانشغالُهم بملذات الحياة، وتَعْجَبُ كثيرًا حين تعلم أن شخصين في حي واحد، بل في بناية واحدة يتجاوران سنوات عدة، لا يدخل أحدهم منزل جاره خلال هذه المدة، ولا يتفقّد أحواله، وقد يسافر الجار أو يمرض أو يحزن أو يفرح وجاره لم يشعر بذلك، ولم يشاركه في أفراحه وأتراحه، بل قد ترى الشقاق والنزاع محتدمًا بين الجيران، والعداء ظاهرًا بينهم بالقول أو الفعل، وذلك كله مخالف لهدي الإسلام وتعاليمه، فلا بد من وقفةٍ نراجع فيها أنفسنا، ونصحح فيها أحوالنا، ونعمل على تطبيق التوجيهات النبوية الواردة في القيام بحقوق الجيران والوفاء بواجباتهم والإحسان إليهم. والله المستعان، وعليه التكلان.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3668)
الإسراف والتبذير
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
قضايا المجتمع, مساوئ الأخلاق
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عواقب الإسراف والتبذير. 2- وسطية الأمة المحمدية. 3- الأدلة على حرمة الإسراف والتبذير من الكتاب والسنة. 4- مظاهر الإسراف والتبذير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، فإن الإسراف والتبذير داء فتاك يهدد الأمم والمجتمعات، ويبدد الأموال والثروات، وهو سبب للعقوبات والبليات العاجلة والآجلة.
فمن ذلك ـ يا عباد الله ـ أن الإسراف سبب للترف الذي ذمه الله تعالى وعابه وتوعد أهله في كتابه, إذ قال تعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:41-45]. قال ابن كثير رحمه الله: "كانوا في الدار الدنيا منعمين مقبلين على لذات أنفسهم".
فإياكم ـ يا عباد الله ـ أن تكونوا من المترفين، فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة.
أيها المؤمنون، التبذير والإسراف سبب يؤدي بصاحبه إلى الكبر وطلب العلو في الأرض، قال : ( (كلوا واشربوا وتصدقوا من غير سرف ولا مخيلة)) [1].
فالحديث يدل على أن الإسراف قد يستلزم المخيلة وهي الكبر، فإن الكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه، كَلا إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7].
عباد الله، إن الإسراف والتبذير يؤدي إلى إضاعة المال وتبديد الثروة، فكم من ثروة عظيمة وأموال طائلة بددها التبذير وأهلكها الإسراف وأفناها سوء التدبير.
فاتقوا الله عباد الله، فإن الله نهاكم عن إضاعة المال، ففي حديث المغيرة قال: سمعنا رسول الله يقول: ((إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)) رواه البخاري [2].
والإسراف إضاعة للمال وتخوُّض فيه بغير حق، قال : ((إن رجالاً يتخوَّضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة)) [3] ، وهذا كما قال الله تعالى: وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43].
عباد الله، إن الإسراف سبب من أسباب الضلال في الدين والدنيا، وعدم الهداية لمصالح المعاش والمعاد، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ [غافر:28]، وقال سبحانه: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ [الزخرف:5]، وقال سبحانه: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [يونس:12].
أيها المؤمنون، إن من عقوبة الله تعالى للمسرفين أن جعلهم إخوانًا للشياطين، فقال سبحانه: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27].
فاتقوا الله عباد الله، وذروا ظاهر الإثم وباطنه، واعلموا أن الإسراف يشمل جميع التعديات التي يتجاوز بها العبد أمر الله وشرعه، سواء كان ذلك في الإنفاق أو في غيره.
فتوبوا ـ عباد الله ـ من الإسراف كله، فإن الله دعاكم إلى ذلك فقال: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:53، 54].
فاتق الله يا عبد الله، وتب إلى الله من التفريط والتقصير، وأعدَّ للسؤال جوابًا، فإن الله سائلك عن هذا المال: من أين اكتسبته؟ وفيم أنفقته؟
[1] أخرجه الحاكم في المستدرك (7188) وصححه من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا به.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الزكاة (1477)، ومسلم في كتاب الأقضية (593).
[3] أخرجه البخاري في فرض الخمس (3118) من حديث خولة الأنصارية رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
واعلموا أن تقوى الله تعالى لا تتم للعبد إلا بالأخذ بمكارم هذه الشريعة وفضائلها علمًا، وامتثالها في الحياة واقعًا وعملاً.
أيها المؤمنون، إن من فضل الله تعالى علينا أن شرع لنا دينًا قيمًا وجعلنا بين الأمم أمةً وسطًا، وسطًا في الأحكام والشرائع، ووسطًا في الآداب والفضائل، فالحمد لله على ذلك كثيرًا كثيرًا، وشكرًا له بكرة وأصيلاً.
عباد الله، أيها المؤمنون، إن من معالم تلك الوسطية المباركة ما ذكره الله تعالى في كتابه عند ذكر صفات أحبابه والخلَّص من عباده، قال تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، أي: كانوا في نفقاتهم الواجبة والمستحبة على العدل والوسط، لا وَكسَ ولا شَطَطَ، فعباد الرحمن هم الحكماء العدول في نفقاتهم، لا يتجاوزون ما حده الله وشرعه، ولا يقصرون عما أمر به وفرضه.
أيها المؤمنون، إن الناظر في أحوال كثيرٍ من الناس اليوم يرى ويشهد غياب هذه الخصلة عن جوانب عديدة من حياة الناس، فكم هم الذين تورطوا في الإسراف والتبذير في جميع الشؤون والأمور, إسراف في المآكل والمشارب, إسراف في الملابس والمراكب, إسراف في الشهوات والملذات.
أيها المؤمنون، إن الله جل وعلا قد نهى عن الإسراف والتبذير في آيات كثيرة، فقال تعالى: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وقال جل ذكره: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:26-27]، وقال سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]، وقال تعالى: وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ [غافر:43].
وقد نهى النبي عن الإسراف في الأمر كله، فنهى عن الإسراف في المآكل والمشارب والألبسة، بل ونهى عن الإسراف في الصدقات، فقال في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ((كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة)) رواه أحمد وغيره بسند جيد [1].
وقد نهى عن الإسراف في الوضوء، ففي النسائي وابن ماجه أن النبي توضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: ((هكذا الوضوء، فمن زاد عن هذا فقد أساء وتعدى وظلم)) [2]. قال الإمام البخاري رحمه الله: "كره أهل العلم الإسراف فيه ـ أي: في الوضوء ـ وأن يجاوزوا فعل النبي ".
عباد الله، إن الله جل وعلا أنعم عليكم نعمًا عظيمة كثيرة, فكان من ذلك أن أغناكم بعد فقر، وأطعمكم بعد جوع، وهداكم بعد ضلالة، وفتح لكم من أبواب الخير وسبل الرزق ما لم يكن لكم على بال.
فاشكروا الله تعالى على ذلك حق شكره، واعلموا أن ذلك كله لا يغنيكم عن فضله ومنّه.
أيها المؤمنون، إن ما تصاب به النفوس عند الغنى وكثرة العرض ووفرة المال التجاوز والطغيان، قال الله تعالى: كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6، 7].
وصدق الله العظيم فإنه لما فُتح علينا من الدنيا ما فتح وتوالى على كثير منا النعم اغترّ فئام من الناس بهذا الطيف العارض والظل الزائل، فطغوا وتجاوزوا حدود الله تعالى؛ فأسرفوا وبذروا وتخوضوا في مال الله بغير حق، فظهر في حياة الناس مظاهر الإسراف والتبذير.
فمن هذه المظاهر ومن تلك المعالم التي تورّط فيها كثير من الناس اليوم الإسراف في المآكل والمشارب، فترى من الناس من يجتمع على مائدته من ألوان الطعام وصنوف الشراب ما يكفي الجماعة من الناس، ومع ذلك لا يأكل إلا القليل من هذا وذاك، ثم يلقي باقيه في الفضلات والنفايات، فليت شعري أنسي هؤلاء المسرفون أم تناسوا أن من الناس أمَمًا يموتون جوعًا، لا يجدون ما يسدّون به حرارة جوعهم ولظى عطشهم؟! أم نسي هؤلاء قول الله تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ [التكاثر:8]؟! قال ابن القيم رحمه الله: "والنعيم المسؤول عنه نوعان: نوع أخذ من حله وصرف في حقه فيسأله عن شكره، ونوع أخذ بغير حله وصرف في غير حقه فيسأل عن مستخرجه ومصرفه".
أيها المؤمنون، إن من معالم التبذير في حياة الناس اليوم الإسراف في المراكب والملابس والمساكن، فتجد أقوامًا تحملوا الديون العظيمة وأرهقوا ذممهم وشغلوها ليحصل أحدهم على السيارة الفلانية أو الثوب الفلاني أو المسكن الفاخر والبيت الفاره، تكاثرٌ وتفاخر، سفَه في العقل وضلال في الدين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
أيها المؤمنون، إن من الإسراف المذموم ما يفعله كثير من حدثاء الأسنان أو سفهاء الأحلام من إضاعة الأوقات وتبديدها في الملاهي والملذات والشهوات؛ فتجد الواحد من هؤلاء يصرف عمره وخاصة نشاطه وفكره ووقته في لهو ولعب وسهر وتسلية، لا في عمل دنيا ينتفع به، ولا في عمل آخرة ينجو به، غفلة وطيش، ضلال وزيغ، ضياع لمصالح المعاش، وذهاب لمصالح المعاد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، إن من الإسراف والتبذير الإسراف في استخدام المرافق الحيوية التي تقوم عليها حياة الناس اليوم من ماء وكهرباء ونحو ذلك؛ فالماء الذي هو أرخص موجود وأعز مفقود يهدر بالكميات الكبيرة الهائلة بلا عتاب ولا حساب، وكأننا نعيش على ضفاف أنهار لا تتوقف وآبار لا تنضب، غفلة وإهمال، تبذير وإساءة استعمال، ولا شك أن الواقع المرير الذي نعيشه يخالف ما جاءت به شريعة أحكم الحاكمين، فإن النبي نهى عن الإسراف في الماء، ولو كان استعماله في عبادة فضلاً عن غيرها.
فاتقوا الله عباد الله، وتعاونوا جميعًا رعاة ورعية على ترشيد هذا الأمر، فإن قلة المياه وشُحّهَا أحد التحديات الكبرى لكثير من دول العالم اليوم، فإن لم نكن على وعي بهذا الأمر يوشك أن نقع فيما لا تحمد عقباه.
أيها الإخوة الكرام، أما الإسراف في الكهرباء فذاك أمر قلّ من ينجو منه، فكم هم الذين يضعون في بيوتهم أو متاجرهم أو مجالسهم من الإضاءة أو التكييف ما يزيد على حاجة المكان، وكم هم الذين لا يطفأ لهم نور في ليل أو نهار.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإن الله ورسوله ينهيانكم عن ذلك.
عباد الله، إن من أعظم التبذير أن تستعمل المال الذي تفضل الله به عليك في معصية الله تعالى، فالله جل وعلا ينعم عليك ويتفضل وأنت تخالفه وتحاده، قال الله تعالى: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:26، 27].
قال قتادة رحمه الله: "التبذير: هو النفقة في معصية الله وفي غير الحق وفي الفساد".
[1] أخرجه الحاكم في المستدرك (7188) وصححه.
[2] أخرجه النسائي في الطهارة (140)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (422) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(1/3669)
آلام وآمال
العلم والدعوة والجهاد
القتال والجهاد, المسلمون في العالم, محاسن الشريعة
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من دلائل نبوته. 2- من مآسي المسلمين اليوم. 3- بشائر في حفظ الله لهذا الدين. 4- الصحوة الإسلامية أمل الأمة. 5- نصائح وتوجيهات للعمل لهذا الدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله الذي أوصاكم بتقواه، واشكروه على أن اختاركم على العالمين، فجعلكم من أتباع خاتم النبيين وإمام المرسلين نبينا محمد ، في وقت اندرست فيه أعلام الهدى، وكثر فيه أهل الباطل والفساد، ونفقت فيه بضاعة أهل الإباحية والإلحاد، وراجت فيه سوق الزندقة والنفاق عند أكثر العباد.
تفشت فيه البدع والحادثات، فلبست الأمة فتنا ربا فيها الصغار، وفني عليها الكبار، قل الفقهاء والعلماء والصلحاء، وكثر الأدعياء والقرّاء، فظهر صدق ما أخبر النبي مما ستقع فيه الأمة من الانحرافات والمنكرات والمخالفات.
فمن ذلك أن النبي الذي أمضى أكثر دعوته يحذر من الشرك ويدعو إلى التوحيد أخبر أن الشرك سيقع في الأمة، فقال: ((لا تقوم الساعة حتى يلحق حيّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان)) [1]. وها هو صِدق ما أخبر به ، فإن فئامًا من الأمة يبنون القباب على القبور، ويعمرون المشاهد والأضرحة، يدعون غير الله ويعبدن الأموات ويذبحون لهم القرابين وينذرون لهم النذور، يعلون أعلام الشرك، ويطمسون منارات التوحيد.
ومما وقع في الأمة وقد أخبر به متابعة اليهود والنصارى والتشبه بهم والأخذ عنهم، ففي الصحيح أن النبي قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) ، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) [2].
والأمة اليوم تتسابق وتتسارع في التبعية لليهود والنصارى والتشبه بهم، حتى أصبح تقليدهم ومضاهاتهم في سلوكهم وأفكارهم وأخلاقهم ونظمهم واقتصادياتهم وسياساتهم معيار التحضر والتقدم والتمدن عند كثير من المسلمين. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأخبرنا أيضًا أن الأمة ستضطرب موازينها وتنتكس مقاييسها وتغش معاييرها، فقال : ((سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)) ، قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)) [3].
ومما أخبر به أن الأمة ستدع الجهاد وتأخذ أسباب الضعف والرقاد، فقال : ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) رواه أبو داود وغيره [4]. وها هي الأمة ركنت إلى الدنيا وأعرضت عن الآخرة، هجرت ظهور الخيل التي عقد في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأخذت أذناب البقر، فسلط الله عليها الذل الموعود، حتى تجرعت كؤوس الذل والهوان والصغار من أذلّ الخلق يهود الذين ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب على غضب، حتى غدت كما قال الأول:
ويُقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأذَنون وهم شهود
هذا بعض ما أخبر به النبي أنه سيقع في الأمة، وهو وللأسف جزء من واقعها اليوم لا يمكن إغفاله، فالأمة اليوم تصطلي بنار الوهن والضعف والغفلة من أبنائها، وبنار الكيد والمكر والتخطيط والتشويه والتدمير والمسخ من أعدائها، فالأزمات والكروب تحدق بها من كل جانب، فالحق في أمتنا ضعيف الشوكة مهيض الجناح، لذا فإن الناظر لحال أمتنا اليوم قد تعتريه مشاعر اليأس والقنوط من ابتعاث هذه الأمة وحياتها، وقد تنتابه مشاعر الإحباط من أن تعود هذه الأمة إلى سابق عزها وسالف مجدها ومكانتها.
ولكن هذا الشعور وهذه الهواجس والوساوس سرعان ما تتبدد وتنقشع وتزول وتضمحل عندما ندرك أن الله سبحانه وتعالى وعدنا بحفظ دينه، كما قال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ [الحجر:9]، فهذه الأمة محفوظة بحفظ رسالتها ودينها وكتابها، فهي باقية ما بقي الليل والنهار.
ووعد الله هذه الأمة أن لا يجمعها على ضلالة، وأنها مهما ضعفت وبعدت وأعرضت عن ذكره ودينه سبحانه فلا تزال فيها طائفة تحمل هذا الدين، هي منار للسائرين ودليل للحائرين وملاذ للمستضعفين، يقومون لله بالحجة، ويدعون إليه على بصيرة، يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدًا إلا الله، فمما تواتر عن النبي قوله: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)) هذا لفظ مسلم [5] ، ولفظ البخاري من حديث معاوية أن النبي قال: ((لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)) [6] ، جعلنا الله وإياكم منهم.
ومما يسرّي عن المؤمنين الصادقين الذين تقرّحت قلوبهم وتفتّقت أفئدتهم مما نزل بالأمة من المآسي والخطوب أن يعلموا أن الإسلام دين الله، وأنه ليس أحد أغير من الله على دينه أن يذلّ أو يمتهن، ولا على أوليائه أن يعذّبوا أو يقهروا، وهو سبحانه وتعالى تكفّل بنصر دينه وإظهاره على كل دين، قال الله تعالى: هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
وقد بشر النبي بذلك فقال فيما أخرجه مسلم وغيره عن ثوبان رضي الله عنه: ((إن الله زوى لي الأرض ـ أي: جمعها وضمها ـ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها)) [7] ، وقال مبشرًا أمته فيما أخرجه أحمد وغيره: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزّ عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)) [8].
وما أجمل ما قاله ابن القيم رحمه الله في نونيته:
فالله ناصر دينه وكتابه والله كاف عبده بأمان
لاتخش من كيد العدو ومكرهم فقتالهم بالكذب والبهتان
واثبت وقاتل تحت رايات الهدى واصبر فنصر الله ربك دان
والحق منصور وممتحن فلا تعجب فهذي سنة الرحمن
لكنما العقبى لأهل الحق إن فاتت هنا كانت لدى الديان
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من المواعظ والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم (4252)، والترمذي في الفتن (2219)، وابن ماجه في الفتن (3952) من حديث ثوبان رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7320)، ومسلم في العلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[3] أخرجه ابن ماجه في الفتن (4036)، والحاكم في المستدرك (8493) وصححه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه أبو داود في البيوع (3462).
[5] أخرجه مسلم في كتاب الإيمان (156) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في المناقب (3641).
[7] أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة (2889).
[8] أخرجه أحمد (16509) من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فمن بشائر الخير التي بشر بها نبينا محمد أمته ما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)) [1].
فكلما أصاب الأمة الضعف والوهن وقل تمسكها بدين الله تعالى بعث الله لها من يردها إلى جادة الطريق، ويعيدها إلى الصراط المستقيم، وإن من بشائر الخير وبوارق الأمل التي تشع في النفوس الفرح والسرور، وتلبسها لباس البهجة والحبور، هذه الجذوة التي تلوح في الأفق تشرق كالفجر، والتي يسمونها: "الصحوة"، وهي حقيقة تجديد وبعث لهذا الدين، أهلها من الغرس الموعود الذي بشر به النبي ، ففي ابن ماجه بسند جيد عن أبي عنبة الخولاني قال: قال رسول الله : ((لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرسًا يستعملهم في طاعته)) [2].
فأهل الصحوة هم غرس الله، وهم حراس الدين وحماته، قبلوا شريعة الله قولاً وفعلاً، وحرسوا سنة نبيه حفظًا وعملاً، قوامون بأمر الله، عن الدين ينافحون، ودونه يناضلون، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، هدم الله بهم البدع المحدثة للمذاهب الضالة والآراء المنحرفة، صاحوا بأعلى أصواتهم ينادون بالعودة إلى الكتاب والسنة والتمسك بهما في العقائد والأحكام. فمَنَّ الله سبحانه وتعالى على كثير من المسلمين فاستجابوا لدعاة الإيمان مع كثرة العوائق والعقبات، فعاد قطاع عريض من الأمة إلى الله تعالى، فحيثما توجهت رأيت رجوعًا خاشعًا خاضعًا لله تعالى، ووجدت نفوسًا متعطشة إلى الدين وأهله مشتاقة إلى الإسلام ورجاله بعد أن أضناها طول السُّرى وراء مناهج الكفر والإلحاد، وأرهقها طول السعي وراء السراب، وأمضها السير في دروب التِيه والظلام، فحيثما مشيت سمعت آهات التائبين وزفرات النادمين وعبرات الباكين تردد، ودموع الخشوع والندم تزين وجوههم، تائبون عائدون لربنا حامدون. فالحمد لله الذي نصر دينه وأنجز وعده وهزم الأحزاب وحده، وصدق القائل:
صبح تنفّس بالضياء وأشرقا والصحوة الكبرى تهز البيرقا
ما أمر هذي الأوبة الكبرى سوى وعد من الله الجليل تحققا
عباد الله، إن هذه الوعود وهذه الآمال وهذه المبشرات لا تعفي الأمة وأهل الصحوة والخير خاصة من العمل الدائب والكد الدائم الناصح، فلا بد من جهد صادق ونية صالحة ودعوة مثابرة وعلم راسخ حتى يتحقق للأمة نصر الله تعالى، فإن الله سبحانه وعد الأمة بالنصر والعز والتمكين والظهور على الأعداء والمعاندين إذا استقامت على الشرع القويم علمًا ودعوةً وعملاً، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـ?هُمْ فِي ?لأرْضِ أَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ وَأَمَرُواْ بِ?لْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ?لْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـ?قِبَةُ ?لأمُورِ [الحج:41].
ولا يظن ظان أن هذا النصر وهذا الوعد بالتمكين سيأتي باردًا بلا آلام وتضحيات، فإن سنة الله تعالى تأبى ذلك، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ?لْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ?لَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ?لْبَأْسَاء وَ?لضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى? يَقُولَ ?لرَّسُولُ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ مَتَى? نَصْرُ ?للَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ ?للَّهِ قَرِيبٌ [البقرة:214].
فنسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يرزقنا وإياكم الثبات على الدين، وأن يجعلنا جميعًا من عباده المتقين ومن حزبه المفلحين، وأن يقر أعيننا بنصر الدين.
[1] أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم (4291).
[2] أخرجه ابن ماجه في المقدمة (8).
(1/3670)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 2- فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3- عواقب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- وقفات مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المؤمنون بالله ورسوله، اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
أيها المؤمنون، اشكروا نعمة الله عليكم بالانتساب إلى الإسلام، الذي هو دين الله، وبأن جعلكم من خير أمة أخرجت للناس، فإن هذه أجل النعم وأعظمها.
أيها المؤمنون، إن خيرية هذه الأمة على سائر الأمم ليست نابعة عن مجاملة أو محاباة أو اختصاص بلا مسوغ، بل هي منبثقة عما ذكره الله تعالى عنها في كتابه حيث قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله [آل عمران:110]، فمناط الخيرية في أمة الإسلام ـ يا عباد الله ـ موصول العُرى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنبثق من الإيمان بالله ورسوله، فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات تحققت فيه الخيرية، وإلا فلا، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قرأ هذه الآية: (من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها).
أيها المؤمنون، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم للدين، وهو الذي من أجله بعث الله المرسلين، وهو مهمة ووظيفة خاتم النبيين، قال الله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [الأعراف:157]. فالله تعالى بعث محمدًا ناهيًا عن المنكر، داعيًا إلى المعروف على هدى وبصيرة.
عباد الله، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة دينية، أمر الله بها المؤمنين، فقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. وقد قال : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده)) [1].
أيها المؤمنون، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أبرز صفات المؤمنين، ولذلك قال سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة:71].
أيها المؤمنون، لقد لعن الله على لسان رسله قومًا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
عباد الله، أيها المؤمنون، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات الشرعية والشعائر الدينية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها عند الله".
أيها المؤمنون، إن هذه المنزلة العالية التي جعلها الله للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي لأجل ما يحصل به من الفوائد الكبار والمصالح العظام التي تعود على الآمر والناهي، وعلى المأمور والمنهي، بل يعود خيرها على الأمة بأسرها، فمن أبرز فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القيام بما أمر الله سبحانه وتعالى به، فإن الله سبحانه أمر به كما قال جل ذكره: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)) [2].
فبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم الحجة على الخلق والشهادةُ عليهم، فإن الله بعث الرسل مبشرين ومنذرين، آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، قال الإمام مالك رحمه الله: "وينبغي للناس أن يأمروا بطاعة الله، فإن عُصوا كانوا شهودًا على من عصاهم".
أيها المؤمنون، إن من فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة الملة والشريعة وحفظ الدين والشعائر، قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة:251]، فبالأمر بالمعروف تقوم الشريعة، وبالنهي عن المنكر تندثر الرذيلة والمعصية.
أيها المؤمنون، ومن فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكبار وحسناته العظام أن الله جعله سببًا لدفع العقوبات العامة ورفعها، فإن ترك هذه الشعيرة العظيمة من أهم أسباب وقوع العقوبات، فالأمر بالمعروف سياج الإيمان، والعاصم من وقوع غضب الله الواحد الديان، قال الله تعالى: فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ [هود:116]، وقال سبحانه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117].
وفي مسند الإمام أحمد بسند جيد عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنّه فلا يستجيب لكم)) [3]. قال ابن العربي رحمه الله: "وهذا فقه عظيم، وهو أن الذنوب منها ما يعجل الله عقوبته، ومنها ما يمهل به إلى الآخرة، والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات، وركوب الذل من الظلمة للخلق".
وهذا يبين ـ يا عباد الله ـ سنة من سنن الله تعالى في الأمم والمجتمعات، فإن الأمة التي يقع فيها الظلم والفساد فينهض لهما من يدفعهما وينكرهما هي أمة ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير.
أما الأمة التي يظلم فيها المستبدون، ويفسد فيها المفسدون، فلا يكون فيها من ينكر المنكر ويجابه الفساد، فهي أمة مهددة بالدمار والعقاب العام، فالأخذ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صمام أمان وسبب نجاة.
أيها المؤمنون، إن من حسنات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر انقماع الفساد وأهله، وانخناس الشيطان وجنده، واندحار الشر وحزبه، فكلما نشط الخير ضعف الباطل، وكلما أشرع المعروف أعلامه طوى الشر والفساد شراعه.
قال الغزالي رحمه الله في بيان سوء عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد".
فاتقوا الله عباد الله، فإن الأمر بالمعروف عزّ لأهل الإيمان، وذل لحزب الشيطان، قال سفيان الثوري: "إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر المؤمن، وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق". وذلك أن أهل الفساد يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، قال عثمان بن عفان: (ودت الزانية لو زنى النساء كلهن). فظهور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحاصر به الرذيلة، وتنقمع به المعصية، ويقع الرعب والخوف في قلوب أرباب الفساد والمعاصي، وهذا مشاهد ملموس، فهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما هي عليه إلا أن لها من الهيبة والرهبة في صدور المفسدين ما يعرفه المجربون المطلعون.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (70).
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (70).
[3] رواه أحمد من حديث حذيفة (22212), والترمذي في الفتن (2095).
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فتلك ـ أيها المؤمنون ـ بعض فوائد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضائله، ولنا مع هذه الشعيرة عدد من الوقفات:
الأولى: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة تعبد الله بها المؤمنين، وأمر بها المسلمين، فقال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، فكل مؤمن ومؤمنة مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فليست هذه الشعيرة وظيفة فئة من الناس، لا يقوم بها إلا هم، بل هي عبادة خوطب بها الجميع، قال الغزالي رحمه الله: "الحسبة ـ أي: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ وظيفة دينية اجتماعية، قبل أن تكون وظيفة حكومية"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكل بشر على وجه الأرض فلا بد له من أمر ونهي، لو أنه وحده لكان يأمر نفسه وينهاها؛ إما بمعروف وإما بمنكر".
ومن هذا يتضح أن هذه الشعيرة يحتاجها كل أحد؛ يحتاجها المرء مع نفسه، والرجل مع أولاده وأهله، والمدرس مع طلابه، والأمير مع رعيته، والرعية مع حكامها، ويحتاجها كل صاحب مسؤولية في مسؤوليته، أعاننا الله وإياكم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الوقفة الثانية: إن هذه الشعيرة لما كانت تحول بين الناس وشهواتهم ورغباتهم التي يزينها لهم شياطين الإنس والجن، فإنها تلقى من كثير من الناس تنقصًا وهمزًا ولمزًا، ونقدًا مجحفًا أو باطلاً، ينصب غالبًا على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وعلى هيئاته الخاصة به.
وهؤلاء الناقدون والمتكلمون في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أحد صنفين:
صنف مردت قلوبهم على الذنوب والمعاصي، وعششت الشهوات في قلوبهم، وأشربت حب الفساد، فهم سماسرة الفساد وأربابه، لا يعيشون إلا به، فهؤلاء لا غرابة في حقدهم وحنقهم، ووقيعتهم في الآمرين بالمعروف والناهيين عن المنكر، فإنهم شَجَا حلوقهم، ونكد عيشهم، فهم يتربصون بأهل الحسبة الدوائر، يلتقطون السقطة، ويضخمون الهفوة، ويجعلون من الحبة قبة، فهؤلاء لا حيلة لنا فيهم إلا أن نقول كما قال الله تعالى لأسلافهم: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمران:119].
الصنف الثاني: قوم فيهم خير وصلاح، وحب لأهل الإصلاح، إلا أنهم يصغون لتشويه أهل الريب والفساد، وينصتون لوقيعة أهل المعصية والنفاق، وما ينشرون عن أهل الحسبة من الإشاعات والمبالغات، كما قال الله تعالى: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة:47]. فضلاً عن أن يكون قد حصل لبعضهم موقف مع أهل الحسبة، يجعله مبررًا لوقيعته، وشاهدًا لسماعه، فهؤلاء ليس لنا معهم قضية، إلا أننا نذكرهم بالله الذي رضوا به ربًا، وبرسوله نبيًا، وبإسلامه دينًا، ونقول لهم: أيها المؤمنون، إياكم أن تكونوا أعوانًا لأهل الفساد والنفاق على إخوانكم، فأهل الحسبة إخوانكم، وإن بغى بعضهم عليكم، فانصحوا لهم بالحسنى، وبينوا أخطاءهم بالمعروف، وإياكم والتشهير والتعميم والمبالغة، ولا تنسوا في غمرة ذلك حاجة الأمة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك من محاسن القوم. فوالله، وبالله، وتالله، إنهم لمما يحفظ الله به العباد والبلاد، فكم من شر قد ردوه، وكم من عرض حفظوه، وكم من شباب عن الضلال حجبوه، وكم من مفسد مخرب قد فضحوه وكشفوه.
فالآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر حراس الدين وحماته، عن الدين ينافحون، ودونه يجاهدون، ينفون فساد المفسدين، ويبطلون سعي المخربين، فجزاهم الله خير ما جزى عباده المؤمنين، وقد أجاد من قال:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمو من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدوا
أولئك هم خير وأهدى لأنهمُ عن الحق ما ضلوا وعن ضده صدوا
الوقفة الأخيرة: هي مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، قال الله تعالى: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان:17]. فعلى كل آمر وناهٍ أن يصبر على ما يلقاه، وأن يوطن نفسه على ذلك، وليوقن بثواب الله تعالى، فإنه من يثق بالثواب من الله لا يجد مس الأذى.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.
(1/3671)
التشبه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الولاء والبراء
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عزّة المؤمن. 2- التحذير من مشابهة الكفار. 3- وجوب مخالفة أهل الكتاب. 4- مخالفات لكثير من المسلمين في العصر الحاضر تُخِلُ بهذا الأصل العظيم. 5- أسباب التشبه بالكفار. 6- سبل الوقاية من الوقوع في التشبه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يا أيها المؤمنون, اتقوا الله تعالى, واشكروه أن جعلكم من خير أمة أخرجت للناس، فإن أمة محمد هي خير أمة, وحزبه هم أعزّ حزب, قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
فعزتنا ـ أيها المؤمنون ـ مستمدة من عزة الله القوي العزيز, فهي عزة دائمة دوام الليل والنهار, لا يرفعها تأخر حضاري, ولا تراجع علمي, ولا انكسار عسكري, ولا تقهقر مادي, بل نحن الأعزاء بالله تعالى, إن صدقنا الله تعالى في إيماننا وعبوديتنا له, قال الله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين [آل عمران:139]. وقد قال الأول:
ومما زادني شرفًا وتيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيًّا
وتأكيدًا لهذه العزة وهذا التميز لأمة محمد فقد نهى الله تعالى المؤمنين عن اتباع سبيل الكافرين؛ من اليهود والنصارى والمشركين, وغيرهم من أمم الكفر, فنهى الله أهل الإسلام عن التشبه بالكفار, وعن تقليدهم والتبعية لهم, فقال جل وعلا: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ [المائدة:48]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب:1].
ولا شك عند أولي الأبصار أن تقليد الكفار والتشبه بهم من أعظم صور الطاعة لهم، وقد نهى النبي عن مشابهة الكفار في أحاديث كثيرة, منها ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن ابن عمر مرفوعًا: (( من تشبه بقوم فهو منهم )) [1]. وفي هذا الحديث غاية التحذير ومنتهى التنفير عن مشابهة الكفار، كيف لا وقد جعل النبي مَن تشبه بالكفار منهم؟! نعوذ بالله من الخذلان. وقال النبي في بيان خطورة التشبه: (( ليس منا من تشبه بغيرنا, لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى )) [2].
ومن علامات تميز هذه الأمة عن غيرها أن النبي قد علل كثيرًا من الشرائع والأحكام بمخالفة اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر, مما يدل على أن مخالفة الكافرين مقصد نبوي شرعي, فمن ذلك مثلاً:
ما أخرجه مسلم عن شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعًا: (( خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) [3] , وقال أيضًا: ((خالفوا المشركين, أَحْفوا الشوارب, وأوفوا اللحى )) [4] , وهذا قليل من كثير في السنة المطهرة.
ومما يدل على أهمية مخالفتهم وأن مخالفتهم هي سبب الخيرية في الأمة, بل سبب لعلو الدين وظهوره, أنه قال : (( لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) [5]. ومن تأمل كلام أهل العلم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم علم علمًا لا يدخله شك ولا ريب إجماعهم على النهي عن مشابهة الكفار ووجوب مخالفتهم. وذلك لكثرة النصوص الواردة بذلك.
أيها المؤمنون, احرصوا على أن تلقوا ربكم بقلوب سليمة, استمعوا إلى ما قاله الحبر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: " وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب أو أشد، ومتى كان القلب مريضًا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة, وإنما الصلاح أن لا تشبه مريض القلب في شيء من أموره ".
وبهذا يتبين أن مخالفتهم في جميع الشؤون مقصودة للشارع، فليس النهي عن مشابهتهم في عباداتهم أو عقائدهم فقط, بل هو عام في عاداتهم وآدابهم وأخلاقهم وجميع شؤون حياتهم, قال ابن القيم رحمه الله: " ومن تشبه بالإفرنج في لباسهم ونظمهم ومعاملاتهم فهو بلا شك إفرنجي غير مسلم, وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم".
أيها المؤمنون, إنه مع هذه النصوص الكثيرة التي تنهى عن التشبه بالكفار إلا أن النبي قد أخبر أن مشابهتهم ومتابعتهم ستقع في الأمة, فعن أبي سعيد مرفوعًا: ((لتتبعنّ سنن من قبلكم, شِبرًا بشبر, وذراعًا بذراع, حتى لو سلكوا جُحر ضَب لسلكتموه)) قلنا: يا رسول الله, اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) [6].
وها هي الأمة اليوم تحاكي أمم الكفر شرقية وغربية, في الزي واللباس, وتتشبه بهم في آداب الأكل والشرب, وأساليب المعاشرة والمخالطة, وطرائق الكلام والمعاملة, وغير ذلك, بل وتتلقى عنهم الأفكار والآراء, حتى صاغ فئات غير قليلة من الأمة حياتهم وأفكارهم وأساليبهم على نهج الحياة الغربية والفكر الغربي.
والأسباب التي دعت هذه الفئام إلى التشبه بالكفار وتقليدهم عديدة, إلا أن من أبرزها: الغفلة عن سبب العزة والسعادة الحقيقية, فإن كثيرًا ممن تشبه بالكفار ظن أن سبب عزة هؤلاء وارتفاعهم هو أخلاقهم, وما هم عليه من نبذ الدين وعدم الاهتمام به، وقد غفل هؤلاء عن قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)، وقد قال تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
[1] أخرجه أحمد من حديث ابن عمر (4868), وأبو داود في اللباس (3512).
[2] أخرجه الترمذي في الاستئذان والآداب (2619).
[3] أخرجه أبوداود في الصلاة (556).
[4] أخرجه مسلم في الطهارة (380).
[5] أخرجه أبوداود في الصوم (2006), وأحمد في باقي مسند المكثرين (9434).
[6] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب (6775).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون, إن من الأسباب الرئيسة التي جعلت كثيرًا من المسلمين يتشبه بالكفار من اليهود والنصارى الاختلاط بالكفار, والانفتاح عليهم, وذلك أن هذه العصور شهدت ثورة كبرى في الاتصالات والنقل, فقربت المسافات, واتصلت الجهات, حتى غدا العالم كما يقال: قريةً واحدةً. فلما وقع ذلك كثر الاحتكاك بهم والتعامل معهم, فأدى ذلك إلى ظهور معالم التشبه والتبعية والتقليد لأمم الكفر في حياة المسلمين وواقعهم, فرأينا بعض إخواننا ـ هداهم الله ـ من جعل الغرب وما فيه قدوة له في اللباس والزي, وفي الأكل والشرب, وفي تصفيف الشعر وقصه, بل وتمادى بعضهم حتى قلدوهم في الفكر والرأي, فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولا حلَّ لهذه المشكلة إلا بالتقليل من خلطة هؤلاء, ووجودهم بين المسلمين, فلا يجوز لأحد أن يسافر إلى بلاد الكفر إلا عند الحاجة, ويجب أن يكون المسافر عنده من العلم والإيمان والصبر واليقين ما يدفع به شبهاتهم, ويتقي به ما في بلادهم من فتن وشهوات تهتز لها الجبال الرواسي.
كما أنه يجب علينا جميعًا أن نتعاون على عدم استقدام الكفار, إلا عند عدم وجود من يقوم بما يقومون به من أعمال, وذلك أن تكاثرهم بين ظهرانينا؛ في بيوتنا وأعمالنا وأسواقنا ومكاتبنا, له تأثير بالغ في بث أخلاقهم, وإشاعة أفكارهم.
(1/3672)
التشبه
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, الولاء والبراء
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عزّة المؤمن. 2- التحذير من مشابهة الكفار. 3- وجوب مخالفة أهل الكتاب. 4- مخالفات لكثير من المسلمين في العصر الحاضر تُخِلُ بهذا الأصل العظيم. 5- أسباب التشبه بالكفار. 6- سبل الوقاية من الوقوع في التشبه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يا أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى، واشكروه أن جعلكم من خير أمة أخرجت للناس، فإن أمة محمد هي خير أمة، وحزبه هم أعزّ حزب، قال الله تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
فعزتنا ـ أيها المؤمنون ـ مستمدة من عزة الله القوي العزيز، فهي عزة دائمة دوام الليل والنهار، لا يرفعها تأخر حضاري، ولا تراجع علمي، ولا انكسار عسكري، ولا تقهقر مادي، بل نحن الأعزاء بالله تعالى، إن صدقنا الله تعالى في إيماننا وعبوديتنا له، قال الله تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين [آل عمران:139]. وقد قال الأول:
ومما زادني شرفًا وتيهًا وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيًّا
وتأكيدًا لهذه العزة وهذا التميز لأمة محمد فقد نهى الله تعالى المؤمنين عن اتباع سبيل الكافرين؛ من اليهود والنصارى والمشركين، وغيرهم من أمم الكفر، فنهى الله أهل الإسلام عن التشبه بالكفار، وعن تقليدهم والتبعية لهم، فقال جل وعلا: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقّ [المائدة:48]، وقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الأحزاب:1].
ولا شك عند أولي الأبصار أن تقليد الكفار والتشبه بهم من أعظم صور الطاعة لهم، وقد نهى النبي عن مشابهة الكفار في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد عن ابن عمر مرفوعًا: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [1]. وفي هذا الحديث غاية التحذير ومنتهى التنفير عن مشابهة الكفار، كيف لا وقد جعل النبي مَن تشبه بالكفار منهم؟! نعوذ بالله من الخذلان. وقال النبي في بيان خطورة التشبه: ((ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى)) [2].
ومن علامات تميز هذه الأمة عن غيرها أن النبي قد علل كثيرًا من الشرائع والأحكام بمخالفة اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر، مما يدل على أن مخالفة الكافرين مقصد نبوي شرعي، فمن ذلك مثلاً:
ما أخرجه مسلم عن شداد بن أوس رضي الله عنه مرفوعًا: ((خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم)) [3] ، وقال أيضًا: ((خالفوا المشركين، أَحْفوا الشوارب، وأوفوا اللحى)) [4] ، وهذا قليل من كثير في السنة المطهرة.
ومما يدل على أهمية مخالفتهم وأن مخالفتهم هي سبب الخيرية في الأمة، بل سبب لعلو الدين وظهوره، أنه قال : ((لا يزال الدين ظاهرًا ما عجل الناس الفطر؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون)) [5]. ومن تأمل كلام أهل العلم على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم علم علمًا لا يدخله شك ولا ريب إجماعهم على النهي عن مشابهة الكفار ووجوب مخالفتهم. وذلك لكثرة النصوص الواردة بذلك.
أيها المؤمنون، احرصوا على أن تلقوا ربكم بقلوب سليمة، استمعوا إلى ما قاله الحبر الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: "وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب أو أشد، ومتى كان القلب مريضًا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة، وإنما الصلاح أن لا تشبه مريض القلب في شيء من أموره".
وبهذا يتبين أن مخالفتهم في جميع الشؤون مقصودة للشارع، فليس النهي عن مشابهتهم في عباداتهم أو عقائدهم فقط، بل هو عام في عاداتهم وآدابهم وأخلاقهم وجميع شؤون حياتهم، قال ابن القيم رحمه الله: "ومن تشبه بالإفرنج في لباسهم ونظمهم ومعاملاتهم فهو بلا شك إفرنجي غير مسلم، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم".
أيها المؤمنون، إنه مع هذه النصوص الكثيرة التي تنهى عن التشبه بالكفار إلا أن النبي قد أخبر أن مشابهتهم ومتابعتهم ستقع في الأمة، فعن أبي سعيد مرفوعًا: ((لتتبعنّ سنن من قبلكم، شِبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو سلكوا جُحر ضَب لسلكتموه)) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: ((فمن؟!)) [6].
وها هي الأمة اليوم تحاكي أمم الكفر شرقية وغربية، في الزي واللباس، وتتشبه بهم في آداب الأكل والشرب، وأساليب المعاشرة والمخالطة، وطرائق الكلام والمعاملة، وغير ذلك، بل وتتلقى عنهم الأفكار والآراء، حتى صاغ فئات غير قليلة من الأمة حياتهم وأفكارهم وأساليبهم على نهج الحياة الغربية والفكر الغربي.
والأسباب التي دعت هذه الفئام إلى التشبه بالكفار وتقليدهم عديدة، إلا أن من أبرزها: الغفلة عن سبب العزة والسعادة الحقيقية، فإن كثيرًا ممن تشبه بالكفار ظن أن سبب عزة هؤلاء وارتفاعهم هو أخلاقهم، وما هم عليه من نبذ الدين وعدم الاهتمام به، وقد غفل هؤلاء عن قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله)، وقد قال تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
[1] أخرجه أحمد من حديث ابن عمر (4868), وأبو داود في اللباس (3512).
[2] أخرجه الترمذي في الاستئذان والآداب (2619).
[3] أخرجه أبوداود في الصلاة (556).
[4] أخرجه مسلم في الطهارة (380).
[5] أخرجه أبوداود في الصوم (2006), وأحمد في باقي مسند المكثرين (9434).
[6] أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب (6775).
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المؤمنون، إن من الأسباب الرئيسة التي جعلت كثيرًا من المسلمين يتشبه بالكفار من اليهود والنصارى الاختلاط بالكفار، والانفتاح عليهم، وذلك أن هذه العصور شهدت ثورة كبرى في الاتصالات والنقل، فقربت المسافات، واتصلت الجهات، حتى غدا العالم كما يقال: قريةً واحدةً. فلما وقع ذلك كثر الاحتكاك بهم والتعامل معهم، فأدى ذلك إلى ظهور معالم التشبه والتبعية والتقليد لأمم الكفر في حياة المسلمين وواقعهم، فرأينا بعض إخواننا ـ هداهم الله ـ من جعل الغرب وما فيه قدوة له في اللباس والزي، وفي الأكل والشرب، وفي تصفيف الشعر وقصه، بل وتمادى بعضهم حتى قلدوهم في الفكر والرأي، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولا حلَّ لهذه المشكلة إلا بالتقليل من خلطة هؤلاء، ووجودهم بين المسلمين، فلا يجوز لأحد أن يسافر إلى بلاد الكفر إلا عند الحاجة، ويجب أن يكون المسافر عنده من العلم والإيمان والصبر واليقين ما يدفع به شبهاتهم، ويتقي به ما في بلادهم من فتن وشهوات تهتز لها الجبال الرواسي.
كما أنه يجب علينا جميعًا أن نتعاون على عدم استقدام الكفار، إلا عند عدم وجود من يقوم بما يقومون به من أعمال، وذلك أن تكاثرهم بين ظهرانينا؛ في بيوتنا وأعمالنا وأسواقنا ومكاتبنا، له تأثير بالغ في بث أخلاقهم، وإشاعة أفكارهم.
(1/3673)
نسائم الحج
فقه
الحج والعمرة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
4/12/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- إهلال شهر الحج الأكبر. 2- الشوق إلى بيت الله الحرام. 3- أجواء الحج الإيمانية. 4- مظهر الوحدة في الحج. 5- قضية التوحيد. 6- حال الأمة الإسلامية. 7- حرمة المسلم. 8- تذكر المضطهدين في فلسطين والعراق. 9- الوصية بالثبات بعد الحج. 10- فضل عشر ذي الحجة. 11- مناسك الحج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ وأوصيكم ـ حجاج بيت الله ـ بتقوى الله عز وجل، فإن التقوى خير الزاد، وبها صلاح البلاد والعباد في المعاش والمعاد، وهي الطريق المبلغ لرضا رب العباد.
أيّها المسلمون، ها قَد دارَ فلكُ الزَّمان دورتَه، وحلَّت بالأمة الإسلامية مناسبةٌ عظيمة، وأظلَّتها مواسم بالخيرات عميمة، تبدّى لنا هلالُ شهرِ ذي الحجَّة الحرام، ليسكبَ في قلوبنا نورًا من أنوارِه، وليُتلِعَ أرواحَنا [1] بفيضٍ مِن حِكَمه وأسراره. أيامٌ قلائِل وأمّتنا الإسلاميّة قابَ قوسين أو أدنَى من أداءِ فريضةِ الحجِّ إلى بيتِ الله الحرام الركنِ الخامسِ من أركان الإسلام، فنسأل الله تعالى أن ييسِّر على حجّاج بيته الحرام، ويعينهم على أداء مناسكهم، إنه جواد كريم.
أيّها الحجّاج الميامين، قدِمتُم خيرَ مقدَم، أهلا حللتم، وسهلا وطئتم، طِبتم وطاب ممشاكم، وحقّق الباري سؤلَكم ومُناكم. تشرف بكم بلادُ الحرمين حرسها الله، فخِدمتُكم تاجُ فَخار يتلألأ على صدورِ أهلِها، ووِسامُ شرفٍ يتألَّق في عِقدِ جيدِ أبنائها. وإنّ الشوقَ إلى هذا البيتِ العتيق والانعطافَ إلى هذه العرَصاتِ المقدَّسة والنّزوعَ إلى هذه المشاهدِ المُنيفةِ والبِقاع الشّريفةِ إذا عايَنها المحِبّ المُعنَّى تبدّدَت لدَيه كلُّ المشاقِّ واللأواء.
فحيّهلا إن كنت ذا همة حدا بك حادي الشوق فاطوِ المراحلا
وقل لِمنادي حبِّهم ورضاهمُ إذا ما دعا لبيك ألفًا كواملا
ولقد خالَطكم ذلك النّفحُ الإيمانيّ وزايَلتموه، كيفَ والمسجدُ الحرام نصبَ الأعينِ قرَّة ومِلءَ القلوب إجلالاً ومسَرّة؟! فحقًّا على كلِّ قاصدٍ له شُكر الباري على ما أسداه وحمدُه على ما خصَّه به وأولاه، ومِن شُكر نعمة الله أداءُ هذه الفريضة وإتمامُها كما شرعَ الله، وكما قال جلّ في علاه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196].
حجّاجَ بيتِ الله، ها أنتم أولاءِ في رحابِ الحرمين الشّريفين، تعيشون أجواء مفعمةً بالرَّوحانية في أجلّ مناسبة إسلامية عالميّة، فلِلّه درُّكم من إخوةٍ متوادّين متراحمين، وأحبّةٍ علَى رِضوان الله متآلفِين متعاونين، وصَفوةٍ لنسائِم الإيمانِ متعرِّضين، ذَوَت في جليلِ مقصدِكم زينةُ الأثواب وعزّةُ الأنساب وزخارفُ الألقاب والأحساب، يقول تباركت أسماؤه وعمّت نعماؤه: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:27، 28]. وتأمّلوا ـ يا رَعاكم الله ـ الأسلوبَ التنكيريّ في سياق الامتِنان، وهي صيغة من صيغ العموم لتعمّ منافع الدِّين والدّنيا والآخرة.
معاشر المسلمين، وفي هذه الموَاكبِ المَهيبةِ والحشودِ المباركةِ الحبيبةِ التي اتّحَدَت زمانًا ومكانًا شَعائرَ ومشاعرَ يعقِد الإسلامُ وفي أحكَمِ ما يكون العَقد بإحدَى منافعِ الحَجِّ الجُلَّى مَناطَ الوحدةِ الجماعيّة والروحيّة الصّلبة التي تنحَسِر دونَها كلُّ المِحَن والمآسي التي ارتكَسَت فيها أمّتنا، يقولُ جل وعلا: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52].
ولئِن تبصَّر المسلِمون أحوالَهم في هذا المنعطَف الخطيرِ مِن تأريخ أمتهم لأيقَنوا بأنّ ما لحِقهم مِن ذلٍّ ومهانة وما مسَّهم من لُغوب وضنَى واستكانة فِي كثيرٍ مِن المجتمعاتِ إنّما يعود إلى تمزُّقِ عُراهم وتفرُّق وقواهم. وما شعيرةُ الحجّ ـ أيها الحجّاج الأماجد ـ في مجمَعِها العتِيد وجوهرِها ومظهرِها الفريد إلاّ دعوةٌ للمسلمين إلى وجوب الوحدةِ والاتّحاد وثنيٌ لهم عمّا مُنوا به في هذه الحِقبةِ المعاصِرة من تقاطُعٍ وضعفٍ وتدابر. لقد آن الأوانُ أن تجعَلَ أمّة الإسلامِ مِن هذا الموسِم الوحدَويّ فرصةً لاجتماعِها ومناسبةً لاتّحادِها بعدَما فرّقَتها الفتنُ والأهواءُ وشتّتتها المِحَن واللأواء، والله عزّ وجلّ يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، ويقول سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
إخوةَ الإيمان، ضيوفَ الرّحمن، وكُبرَى القضَايَا التي ارتكز عليها ركنُ الحجّ الركين وقامت عليها جميع الطاعاتِ والعباداتِ هي تجريدُ التّوحيد الذي هو حَقّ الله على العبيدِ وإفرادُه سبحانه بالعبادةِ دونَ سواه ونبذُ الشّرك وما ضاهاه.
فلواحدٍ كن واحدًا في واحدِ أعني طريقَ الحقِّ والإيمان
فصلاح العقيدة سبب لكلّ صلاح، وأعظم مقاصد الحج توحيد الله في العقيدة والمنهج والإذعان له من كل فجّ والتقرّبُ له بالعجّ والثجّ، وما التلبيةُ التي يدوّي بها الحجيج وتهتزّ لها جَنَباتُ البلدِ الأمين وتجَلجِل بها المشاعرُ المقدّسة إلاّ عنوان التوحيدِ والإيمانِ وشعار الطاعة والإذعان، وقد وصفَ جابر بن عبد الله رضي الله عنهما إهلالَ النبيّ قائلاً: فأهلَّ رسولُ الله بالتوحيد: ((لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنعمة لك والملك، لا شريك لك)) [2] ، ولأجلِ التوحيدِ رُفعَت قواعِد هذا البيت المعظّم، وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا [الحج:26].
ومع تقرُّر ذلك كلِّه ووضوحه وضوحَ الشمس في رابعة النهار إلا أنّ البعضَ لا يفتأ يشوب هذا التوحيدَ بما يُكدّر صفاءه ويخدِش بهاءَه، فهل يغني شيئًا دعاءُ القبور والتمسُّح بالأحجار والستور وسؤالها قضاءَ الحاجاتِ ودفعَ الشرور؟! كلاّ ثمّ كلاّ. إنّ الغَيورَ ليذرِف الدّموع الحرّاءَ على ما آلَ إليه في ذلك حالُ بعض أهلِ الشريعة الغرّاء، فالله المستعان.
إنّ الواجبَ على أهلِ الإسلام عمومًا وقاصِدِي المسجدِ الحرامِ خصوصًا أن يكونوا مَثَلاً عاليًا في إسلامِ الوجهِ لله وإفراده بخالِص التوحيدِ وصدق العبوديّة، مع التمسُّك الوثيق بالسنّة والتزام منهج الإسلام الحقِّ في الاعتدال والوسطية، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، والتحلّي بجميل الأخلاق والمزايا وكريم الشمائل والسجايا.
أمّةَ الإسلام، الحجّ مشهدٌ جليل مهيب من مشاهد هذه الأمة، يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، وإن الناظر في أحوال الحجيج يقف على صورة جليّة تحكي واقع الأمة الإسلامية بحلوه ومرِّه، ولذلك فإن من المنطلقات المهمة أن تستثمرَ الأمة هذه المناسبة العظيمة لإصلاح واقعها في جميع جوانبه. إن المستقرئ لأحوالها يرجع بالأسَى لما آل إله أمرها في كثيرٍ من أوضاعها، حيث اندرَست جملةٌ من معالم الشريعةِ حينما كدّرتها شوائب الضلالةِ والهوى، فانفرط عِقد وِحدتها، وتناثَر سلسال رونَقِها، وتفرَّقت بها السُّبل والآراء، وتجارَت بها المحَن والأهواء، وذرّ قَرن الفتنة في كثيرٍ من مجتمعاتها، وتكلّمتِ الرُّويبضة، واستنسَر خفافيش الظلام ممن في نفوسِهم غرض وفي قلوبهم مرَض، وتنامى فِكر الغلوِّ والإرهاب، ولم تسلَم البلاد الآمنة من غوائِل العنف والإرهاب.
ومما يزيد الفتَنَ فِتنًا افتِتان كثير من أبنائها بالعَولمة المعاصِرة التي لم تكتَفِ بترويجِ ثقافات وأنماطٍ سلوكيّة مجرّدَة، بل تجاوزت ذلك إلى اختراقِ العقول والأفكار بالمبادئ المادّية التي تعرض عن هدايات الوحي الربانيّة، مما يكشف بجلاءٍ عن مدَى التقليد والتبعيّة التي تنخر في جسدِ الأمة الإسلامية، وتحوطها بالضّعف والخوَر والانهزاميّة، ولذلك فإنّ الحج فرصة للتّذكير بأنّ مدار صلاح الأمة وسعادتها وعِزّتها وريادَتها على قوّة تمسُّكها بعقيدتها وثوابِتِها.
ألا ما أروعَ شأنَ الحجيج حينما يعبِّرون عن عبوديّتهم لربهم بالتزامِهم أمرَه، وما أحسن حالَهم وهم يهتِفون بحبِّهم لرسولهم بمتابعةِ سنّته عليه الصلاة والسلام في المناسك وغيرها، وما أجلَّ تعبيرَهم عن الإيمان بتكبُّد المشاقّ ليؤَدّوا المناسكَ على وجهها الشرعيّ، وما أجملَ شعارَهم حين يلبّون لله بالتّوحيد.
أما والذي حجَّ المحبّون بيتَه ولبَّوا له عن المهلِّ وأحرَموا
دعاهم فلبَّوه رضًا ومحبّةً فلمّا دعَوه كان أقربَ منهمُ
ونحسبُ أنَّ نفوسَ إخوانِنا الحجّاج مقبِلةٌ على الطاعةِ، متقرِّبة إلى الله بالعبادةِ، متخلِّية عن كلِّ الشعارات، مبتعِدَة عن المزايدات والمهاترات، محاذِرة كلَّ اللوثات والمخالفات، ملتزِمَة بكافَّةِ التوجيهات والتّعليمات؛ لذلك كان هذا المقامُ مِن أعظم المقامات التي يتأكَّد فيها التنادِي بالصّلاح والإصلاح على منهَج النّجاح والفلاح، المتمثِّل في الكتابِ والسنّة بفَهم سلَف الأمّة رحمهم الله.
فيا أمّة الإسلام، ويا حجَّاج بيت الله الحرام، يا جموعَ الطائفين بكعبةِ الله، القائمين حولَ بيت الله، الرّاكعين الساجدين في حرَم الله، يا مَن أتيتم من كلِّ فجٍّ عميق واجتمَعتم في أرجاءِ هذا البيت العتيق، هذه قِبلتكم قِبلَة واحدة، وهذه أمّتكم أمّة واحدة، فبأيِّ مسوِّغٍ شرعيّ تختلفون؟! وبأيّ مقتضًى علميّ تتفرّقون؟! وبأيّ موجب منطقيّ تتنازعون، وأنتم أمام قِبلتكم تجتَمعون، وحيثما كنتم إليها تتوجّهون وشطرَها تيَمِّنون؟! أما تعلمون وتوقِنون أنّ في مخالفتكم ما أُمِرتم به من الاعتصامِ بحبل الله جميعًا ذهابَ ريحكم وضياعَ هيبتكم وتسليطَ عدوِّكم عليكم؟! وقد قال في مثل هذا الموقفِ العظيم: ((ترَكتُ فيكم ما إن تمسَّكتُم به فلن تضلّوا بعدي أبدًا: كتابَ الله)).
أيّها الماثِلون بين يديِ الله، الميمِّمون وجوهَكم شطرَ حرمِ الله، ألم يئِن الأوانُ أن تتوحَّدوا فلا تتنافروا، وتتفاعَلوا مع قضاياكم فلا تتخاذَلوا؟! وليس لغيرِ ذلك من جدوًى تستنقِذكم مما ألمَّ بكم.
أيّها المقدِّسون لحُرُمات الله، أما تعلَمون أنّ حرمةَ هذا البيتِ عند الله عظيمة، وأن حرمة دم المسلم أعظمُ حرمة منه عند الله؟! إنّ المعظِّمين لهذا البيت حقًّا هم من يُعظِّمون حرمةَ دماء المسلمين، ويصونون حرماتهم، ويذودون عنها بكلِّ ما يستطيعون، بل يتترَّسون بقلوبهم ويتحصَّنون بأرواحهم ويفتدونهم بفلذات أكبادهم دون أن يُخلَص إليها أو يهلكون، فكيف إذا كان منهم من يستبيحها أو يعين عليها أو يسكت ويتغاضَى عن مرتكبِيها؟! ألم يقُلِ المصطفى في هذا الموقف العظيمِ: ((إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) ؟! ألم يقل عليه الصلاة والسلام: ((ألا لا ترجِعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض)) ؟! فضرَب بعضنا رقابَ بعض، وأعمَل في إخوانه خروجًا وتكفيرًا وفي مجتمعِه إفسادًا وتفجيرًا وفي وطنِه تخريبًا وتدميرًا، فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
فيا أيّها المحرِمون المحَرِّمون لأكناف هذا الحرَم الطاهر، ألستم تسأَلون عن أكنافِ شقيقه المسجد الأقصى المبارك؟! أوَلَست أكنافه هناك تُستَباح؟! أوَليس يعيش سَليبًا معيبَ الجناح؟! فإلى الله المشتَكى، وهو حسبنا ونعمَ الوكيل، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ولكن مع كلِّ ذلك فالتفاؤل عظيمٌ بانبلاجِ نورِ الصباح، والله وحدَه المستعان.
فيا حجّاجَ بيت الله، إنّنا نناشدكم اللهَ أن تكونوا في طليعةِ الأمة إلى إصلاح أحوالها، وفي الصّدارة إلى استقامةِ أوضاعها، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]. ولتستقبلوا أيّامكم بصفحةٍ ناصعَة مفعَمَة بجلائل الأعمال، ولتعلَموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ من أسباب صلاحِ الحال ورفعِ البلاء الإلحاحَ على الله بالدعاء الدعاء، فادعوا اللهَ وأنتم موقنون بالإجابةِ، وخصّوا إخوانكم المستضعفين في الأرضِ المباركة فلسطين، وفي بلاد الرافدين وغيرِها من البلاد المنكوبةِ بالزلازل والفيضاناتِ بمزيدٍ من الدعوات الصالحات فلعلّ وعسى.
عسى وعسَى من قبلِ وقتِ التفرّق إلى كل ما نرجو من الخير نلتقي
فيُجبَر مكسورٌ ويُقبَل تائبٌ ويُعتَق خطّاءٌ ويُسعَد مَن شقِي
ومَن منَّ الله عليه فضلاً منه ومنًّا بأن يعيدَه من ذنوبه كيوم ولدَته أمّه كيف يسوِّد صفحاتِه في مستقبَل أيّامه ويستقبل حياتَه بمساخطِ الله والجرأةِ على حدوده، ألا فلنقلِع عن كلّ أمرٍ محرّم، ولنذَر كلَّ فعلٍ مجرَّم، ولنتحلَّ بكل خيرٍ وفضيلة، ولنحذَر من كلّ شرٍّ ورذيلة، فإنّه بمجموع مخالفاتِ الأفراد وبمجمَل تهاون المجتمعات نزل بالأمّة ما نزل، ولكن لا يأس مِن رَوح الله، ولا قنوطَ مِن رحمة الله، فإنّ النصرَ مع الصبر، وإنّ الفرَجَ مع الكرب، وإنَّ مع العسر يُسرًا.
وبعدُ: أيّها المؤمنون، فهذه قَبَساتٌ من سِراج الحجّ الوهَّاج وإضاءاتٌ للحجيجِ وذكرَى ومنهاج، وإنّه لخليقٌ بالأمّة الإسلاميّة وهي تعيش مرحلةً من أخطرِ مَراحلِها التأريخيّة أن تستلهمَ مِن هذه الفريضةِ العظيمةِ دروسَ الوحدةِ والعزّة والإباء ومعانيَ الألفةِ والإخاء والمودّةِ والصّفاء والمحبَّةِ والنّقاء، لتحقّق بإذن الله السعادة والهناء؛ إذ الحجُّ وما اشتَملَ عليه من رَوحانيّةٍ أخّاذةٍ ودروسٍ وعِبَر نفّاذة أنجعُ دواءٍ لعِلَل الأمّة وأدوائها ومقاومَةِ تيّارات النّزاعات والشّقاق فيها، كما أنّه خَيرُ دليلٍ للصّدورِ بالأمّة إلى محاضِنِ أمجادِها وعريقِ مقوِّماتِها.
فاللهَ اللهَ ـ حجّاج بيتِ الله ـ في تعظيم هذه الشعيرةِ كما شرع الله، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وأدائِها كما سنَّ المصطفَى رسولُ الله القائِلُ فيما أخرجه الشيخان: ((خذوا عنّي مناسككم)) [3] ، والحذَرَ الحذرَ مِن تعرِيضِها للنّواقِضِ والنواقص في أركانِها وواجباتِها وآدابِها ومستحبّاتها وسائرِ أحكامها، واللهُ من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197].
بارك الله لي ولكم في الوحيَين، ونفَعَني وإيّاكم بهديِ سيِّد الثّقلين، أقول ما سلَف، وأسأل الله أن يجعلَ لي ولكم في رحمته عِوضًا عن كلّ خلف، وتوبوا إلى الله جميعا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90].
[1] أي: يرفعها ويسمو بها.
[2] أخرجه مسلم في الحج (1218).
[3] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلّي لا أحج بعد حجتي هذه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، خصَّ موسمَ الحجِّ بمزيدٍ مِنَ الطاعاتِ والقُرُبات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى وكامل الصفات، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبد الله ورسولُه المبعوث بالهدَى والبيّنات وأحكامِ الحجِّ النيِّرات، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِه الهداةِ التُّقاة، والتّابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو الفوز بأعالي الجنات والنجاة من مهاوي الدركات، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ عبادَ الله ـ وأطيعوه، وازدلِفوا إليه بالشّكرِ ولا تَعصوه، لا سيّمَا في هذه الأزمنة المباركةِ والأمكِنَة المقدّسة.
أيّها الأحبّة في الله، ومِن فضلِ الله سبحانه وجزيل نعمائه ما تعيشه الأمة الإسلامية من عبَقِ هذه الأيّامِ الغرّ الفاضلةِ العشرِ الأُوَل من ذي الحجّةِ التي عظَّم الله شأنَها ورفع قدرَها وأقسَم بها في محكَم كتابِه المبين، فقال جلّ جلالُه: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:1، 2]، وقال تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28].
وقد أخرج البخاريّ في صحيحه من حديثِ ابن عبّاس رضي الله عَنهما أنّه قال: قال رسول الله : ((ما مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيها أحبّ إلى اللهِ عزّ وجلّ مِن هذه الأيّام العشر)) ، قالوا: يا رسولَ الله، ولا الجهادُ في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله، إلاّ رجلٌ خرَج بنفسِه وماله ثمّ لم يرجِع من ذلك بشيء)) [1].
الله أكبر، يا لَه من فضلٍ عظيمٍ وموسمٍ بالخيراتِ عميم، فيستحبُّ في هذه العشرِ المباركة الإكثارُ من جميعِ الأعمالِ الصّالحة وخاصة التكبير، فقد روى الإمام أحمدُ من حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((فأَكثِروا فيهنّ منَ التّكبير والتّهليل والتحميدِ)) [2] ، قال البخاريّ رحمه الله: "وكان ابن عمرَ وأبو هريرةَ رضي الله عنهما يخرُجان للسّوق ويكبِّران، فيكبِّر الناس بتكبيرها" [3].
الله أكبر الله أكبر، لا إلهَ إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمدُ.
فبادروا ـ أيها المؤمنون ـ إلى انتهاز هذه الفرص الثمينة، فإنما هي أيام قلائل، لكنما الأعمال والأجور فيها جلائل.
حجّاجَ بيت الله الحرام، اقضُوا هذه الأيامَ المباركة مشتغِلين بالأعمال الصالحة، فإذا جاء يومُ الثامن من ذي الحجّة استُحِبّ للحجاج أن يخرجوا إلى منى ويبيتوا بها ليلةَ التاسع، فإذا طلعتِ الشمس يومَ التاسع توجّهوا إلى عرفات، فإذا زالت الشّمس وقفوا بها الموقفَ العظيم مشتغلين بالذّكر والدعاء، فما من يومٍ أكثر من أن يعتِق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، يقول : ((أفضل الدّعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلتُ أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) ، فإذا غربتِ الشمس ازدلَفوا إلى المزدلفة، وباتوا بها ليلةَ العيد، وفي صبيحة يوم العيد يرمي الحجاجُ جمرةَ العقبة، بسبعِ حصيات، ثم يكمِلون بقيّةَ المناسك من الذبح والحَلق أو التقصير والطّواف، قال تعالى: ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29].
ألا فاتَّقوا الله عبادَ الله، وتفقَّهوا في أحكامِ المناسِكِ، واسأَلوا أهلَ العلم عما يشكِل عليكم، يقول سبحانه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
تقبَّل الله منَ الحجّاج حجَّهم، وجعَله حجًّا مبرورًا وسَعيًا مَشكورًا وذَنبًا مغفورًا، وأعادهم إلى بلادِهم سالمين غانمين، مأجورين غيرَ مأزورين، إنّه خير مسؤول وأكرَم مأمول.
هذا، وصلوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على النبيّ المصطفى والرّسول المجتبى، خير من أدّى المناسكَ وأوضَحَها لكلّ ناسِك، فقد أمرَكم بذلكم المولى جل وعلا في محكمِ قيلِه وأصدقِ تنزيله، فقال تعالى قولا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على سيّد الأوّلين والآخرِين وأشرف الأنبياء وخاتم المرسلين نبيِّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين وأزواجه أمهات المؤمنين وصحابته الغرّ الميامين, والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتِك يا أرحمِ الرّاحمين.
اللهمَّ أعزَّ الإسلام والمسلِمِين، وأذلَّ الشرك والمشركين...
[1] صحيح البخاري: كتاب العيدين (969) نحوه.
[2] أخرجه أحمد (2/75، 131)، وعبد بن حميد (807)، والبيهقي في الشعب (3750، 3751)، قال أحمد شاكر في تعليقه على المسند (5446): "إسناده صحيح"، وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (733).
[3] صحيح البخاري: كتاب العيدين، باب: فضل العمل في أيام التشريق، والأثر وصله أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في الشافي، والقاضي أبو بكر المروزي في العيدين، كما في فتح الباري لابن رجب (9/8).
(1/3674)
عشر ذي الحجة
فقه
الحج والعمرة
حيان بن حلمي الإدريسي
القدس
4/12/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل عشر ذي الحجة. 2- عموم بركة هذه الأيام. 3- وفود الحجيج. 4- نداء إبراهيم عليه السلام بالحج. 5- انتقال مشعل الهداية إلى الجزيرة العربية. 6- تضحية إسماعيل وصبره. 7- حال الأمة في هذا الزمان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يا عباد الله، لقد أقسم رب العزة في كتابه الكريم بفضل الأيام العشر من هذا الشهر الكريم شهر ذي الحجة، فقال عز وجل: وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ [الفجر:1-5].
إنها الأيام المعلومات التي يشهد المسلمون فيها والجميع منافع لهم، ويذكروا اسم الله، قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:26-28].
فيا عباد الله، إننا نستظل في هذا الأسبوع الكريم ببركة الأيام العشر، هذه أوقات مضاعفة الحسنات، وأوقات إجابة الدعوات وإفاضة البركات والنفحات الربانية، هذه أوقات عتق الرقاب من النار، إنها أيام الثجّ: سيلان دم الهدي، والعجّ: رفع الصوت بالدعاء والتسبيح والتهليل وذكر الله، هذه أوقات الوقوف بالمشاعر ورفع الحوائج للمولى ورفع الشكايا من الظلم والبطش الذي أصابنا من أعدائنا ومن تحكّم في رقابنا.
إن هذه الأيام ـ يا عباد الله ـ مواسم عظام، ولا يظنّ ظانّ أن فضلها وبركتها مقتصرة على حجاج بيت الله الحرام فقط، وإنما يشترك في خيرها حجاج بيت الله الحرام وكذلك المقيم على الطاعات في كل الأرض وجنباتها، ومن يتنافس على عمل الخير والأعمال الصالحة النافعة يضاعف له الثواب، ويرتقي إلى أعلى الدرجات، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال رسول الله : ((ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام)) يعني الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) ، وفي رواية: ((فأكثروا فيهن من التسبيح والتهليل والتحميد)) ، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي قال: ((ما من أيام أحب إلى الله عز وجل أن يتعبّد له فيه من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بصيام سنة، وقيام كل ليلة منها بقيام ليلة القدر)) ، وقد روي عن النبي أنه قال: ((ما رئي الشيطان أصغر ولا أدحر ولا أغيظ منه يوم عرفة؛ لما يرى من تنزّل الرحمة وتجاوز الربّ عن الذنوب العظام، وما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيده من النار من يوم عرفة، ومن صام يوم عرفة غفر له ذنب سنتين متتابعتين)) ، وقد روي عن الرسول أنه قال: ((إن الله عز وجل يدنو إلى السماء الدنيا عشية عرفة، فيقبل على ملائكته فيقول: ألا إن لكل وفد جائزة، وهؤلاء وفدي، شعثا غبرا، أعطوهم ما سألوا، وأخلفوا لهم ما أنفقوا، وإذا كان عند غروب الشمس أقبل عليهم فقال: ألا إني قد وهبت مسيئكم لمحسنكم، وأعطيت محسنكم ما سأل، أفيضوا باسم الله)).
عباد الله، لقد بدأت وفود الحجيج تصل تباعا إلى بلد الله الحرام تلبيةً لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام الذي جعله الله إماما للناس في قوله تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124].
وقد كانت أوامر رب العزة قد صدرت إلى نبيه إبراهيم عليه السلام بدعوة الناس للحج إلى بيته الحرام بقوله تعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج:27]، فقام إبراهيم بالنداء، واستغرقت استجابة هذا الدعاء أكثر من ألفي سنة حتى نزلت الرسالة على خاتم الأنبياء سيدنا محمد ، وحينما ظهرت دعوة الإسلام كان الناس من مشركي مكة يطوفون حول الكعبة ويصفّرون ويصفّقون وفيهم العراة، ويبتهلون إلى الأصنام والأوثان التي وضعوها في بيت الله الحرام، فلما أظهر الله دين الإسلام قام الرسول وصحابته بتحطيم الأوثان وتطهير البيت من الرجز وعبادة الأصنام، وتحول مركز الدعوة ونزول الوحي من بلاد الشام منتقلا إلى أرض الحجاز التي أصبحت موئلا لرسالة الإسلام، وتحولت القبلة من بيت المقدس إلى مكة بعد أن ظلّت القدس لعشرات القرون مهبطا للرسالات السماوية وموئل الأنبياء من نسل إبراهيم عليه السلام من أبناء إسحق، وقد كان لتحول الرسالة من نسل إسحق إلى نسل إسماعيل ولدي إبراهيم عليه السلام حكمة إلهية؛ ذلك أن بني إسرائيل بعث الله لهم بعشرات الأنبياء، فلم يصلح أمرهم، ولم تتغير نفوسهم أو طبيعتهم، فعزلهم الله عن منصب حملة الهداية، ونقَلها إلى أرض الجزيرة العربية إلى نسل إسماعيل إلى الارض التي جعل فيها رب العالمين أول بيت وضع للناس، وزاد من كرم الله علينا أن أنعم على هذه الأمة بأن وضعها خير أمة أخرجت للناس، وزاد رب العزة علينا من فضله أيضا بأن جعل دين الإسلام هو الدين الخاتم، وجعله المهيمن، ولم يقبل من الناس غير الولاء لهذا الدين، وأنزل رب العزة في يوم وقفة عرفة على نبيه محمد عليه السلام في السنة العاشرة في أثناء خطبة الوداع التي ألقاها رسول الله في الحجيج قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3].
وقد رضيت أمة العرب حمل هذه الرسالة الشريفة، وكانوا مطيعين لنبيهم محمد ، وافتدوه بأرواحهم وأموالهم وأولادهم، وبذلوا في سبيل الله نشرها كل غال ونفيس، وهم بذلك تأسّوا بالرضا والقبول والإذعان الذي أبداه فيهم إسماعيل عليه السلام، حيث قال لأبيه إبراهيم: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، وذلك عندما علم أن رب العالمين أمر أباه إبراهيم بذبحه، ولم تكن تضحية إسماعيل بنفسه هي التضحية الوحيدة إذا ما أضفنا إليها أنه امتثل أيضا لأمر الله عز وجل بأن يبقى ويستوطن في أرض الجزيرة العربية القاحلة غير الآهلة بالسكان، فعاش فيها مع والدته إذعانا لأمر الله، وعاش في بلد قاحل شديد الحرارة، مع أنه ولد في أرض العراق بلاد الخيرات والماء الوفير.
هذه هي أمة العرب التي خرجت من أرض الجزيرة من نسل إسماعيل، حملت الأمانة، وأدت الرسالة، وجاهدت في سبيل الله، وتحملت كلّ تبعات نشر الدعوة، فاستحقت أن تكون خير أمة أخرجت للناس، فما بالها اليوم استكانت وتركت الميادين للأمة التي غضب الله عليها ولعنها ونزع منها الرسالة؟! ما بال هذه الأمة التي كانت تجاهد مع رسول الله أصابها الوهن وحب الدنيا حتى فضلت بناء القصور وركوب أفخر السيارات والطائرات وفضلت سباق السيارات وسباق الخيول على سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]؟! ما بال هذه الأمة تتسابق اليوم لإرضاء سادتها الذين يقفون متفرجين بل متآمرين على رعيتهم وهم يداسون تحت أقدام الغاصبين المحتلّين والمتآمرين على دين الله وعلى أرضنا وثرواتنا وتراثنا وحضارتنا وكرامتنا وحريتنا؟! ما بال هذه الأمة التي كل ما في دينها يوحدها من الإيمان بالله الواحد إلى كتاب كريم واحد إلى ميول واحد وقبلة واحدة؟! ما بالها فقدت إحساسها بالمصير الواحد حتى صارت أمما تعيش في أقطار متفرقة، انتماء كل واحد منها للمكان الذي تعيش فيه، لا دخل لها بالعراق وأهله، ولا دخل لها بفلسطين وأهلها، ولا دخل لها في السودان وأهلها؟!
لقد فقدنا الإحساس بوحدة المصير، وتكرّست التجزئة والتشتّت، وأصبح لكل بلد مصالحه وأولوياته، هذا ينادي بالتنمية، وذاك ينادي في بلده بالتحرير، وأمة أخرى تنادي بالوقف على الحياد، وأمة أخرى تستضيف قواعد المستعمرين، وأخرى تستقبل وفود الغاصبين لأرض إخوانهم في فلسطين.
عباد الله، إن ابتعادنا عن دين الله وتحكيم شرعه أوصلنا اليوم إلى فوضى، لا نعرف من أين نحن ولا من نحن، نعيش في تناقض وتنابذ، نعيش في كيانات مغلقة دون بعضها وحدود مصطنعة رسم خريطتها المستعمرون بحسب خريطة التوراة، ومن استمع إلى أخبار اجتماع الجامعة العربية يوم أمس في ظل غياب سبع وزراء في ظل عدم اتفاقهم على أدنى ما يكون قبوله أو الاتفاق عليه من قرارات لم يعلم أن المسؤولين في أقطارنا ليسوا على قدر المسؤولية أنّ همّ كلّ نظام هو استمرار وجوده وحماية مصالحه الشخصية، وأين هو مصير الأمة ومصالحها التي جعلوها بين أيديهم وائتمنوا عليها؟!
إننا كأمة مسلمة نبرأ منهم أمام الله عز وجل، ونسأله أن يبعث لهذه الأمة من يوحّد كلمتها ويجمع كيانها في كيان واحد؛ لكي نتمكن من الوقوف ثانية أمام التحديات وأطماع الأعداء قبل أن نذوب وتسحقنا الأقدام، ولن يعفي الله أيا منا من مسؤولية تغيّر هذا الواقع المخزي.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/3675)
أحكام الأضاحي
فقه
الذبائح والأطعمة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
4/12/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حكمة الاصطفاء. 2- فضل العمل في عشر ذي الحجة. 3- فضل يوم عرفة ويوم النحر. 4- سنة الأضاحي. 5- أحكام الأضحية وآدابها. 6- توضيح بخصوص دخول شهر ذي الحجة. 7- ظاهرة التحايل على أنظمة الحج. 8- كلمة لحملات الحج. 9- فضل الحرم وعظمته.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنَّ مِن حكمة الله جلّ وعلا تفضيلَ بعض الأيام على بعض وتفضيلَ بعض الشهور على بعض وبعض الأماكنِ على بعض، حكمةٌ من الله، وذاك لتوفيرِ أسباب نيلِ البركات والخيرات، وسبحان الحكيمِ العليم.
أيّها المسلم، نحن في أيام مباركة وأيّامٍ فاضلة، أيّام عشر ذي الحجة، تلكم الأيّام التي أقسم الله بها في كتابِه العزيز: وَلَيَالٍ عَشْرٍ [الفجر:2]. هذه الأيّامُ لعمَلُ الصالح فيها فضلٌ عن سائر الأيّام. هذه الأيام مشتمِلة على مهمّات الإسلام، فنبينا يقول: ((ما مِن أيّامٍ العملُ الصالح فيهنّ أحبُّ إلى الله من هذهِ الأيّام العشر)) ، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجل خرجَ بنفسه ومالِه فلَم من ذلك يعُد بشيء)).
فتأمَّل ـ أخي ـ قولَه : ((ما مِن أيّام العملُ الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله)) ، فدلَّ على أن الأعمالَ الصالحة في هذه الأيّامِ لها مزيدُ فضل وكرَمٍ وجود. الأعمال الصالحةُ تشمل كلَّ عمل صالح يحبّه الله، من صلاة، تلاوةِ قرآن، صدقةٍ، بذل للمعروف، صيامها، ذكر الله جلّ وعلا في هذه الأيّام؛ ولذا قال الله جل وعلا: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:28]، فشُرِع للمسلمِ في هذه الأيّام أن يكثرَ مِن ذكرِ الله والثناءِ عليه، كان أبو هريرةَ وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما يخرجان فيكبِّران فيكبِّر الناس بتكبيرهما.
أيّها المسلم، اجتَمَعت في هذه الأيامِ أمّهات الطاعة: الصلاةُ، الصيام، الحجّ، الصدقة. في هذه العشرِ أيّامٌ لها شأنها: يوم عرفة ويومُ النحر، فيوم عرفة من أفضلِ أيام الله، يقول فيه : ((خيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفَة، وخير ما قلتُ أنا والنبيّون قبلي يوم عرفة: لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)).
سُنَّ للمسلم غيرِ الحاج أن يصومَ هذا اليوم، لقوله : ((صيامُ يومِ عرفة أحتسِبُ على الله أن يكفّر السنة الماضيةَ والسنّة الآتية)) ، أمّا الحاجّ فلا يشرَع له صيام ذلك اليوم؛ لأنه في ذكرٍ ودعاء، ففطرُه يعينُه على دعائِه وذكره؛ ولهذا النبيّ وقف يومَ عرفة مفطرًا، شكّ النّاس في فِطرِه أو صومِه، فبعثَت أمّ الفضل له قدحًا من لبن، فشرِبه والناسُ ينظرون.
أيّها المسلم، هذه أيّامٌ مباركة، فتقرَّب إلى الله بما يرضيه من الأقوال والأعمال، وتحرَّ الدعاءَ في هذه الأوقات المباركةِ، فعسى أن توفَّقَ لقبولِ دعائك.
أيّها المسلم، اعلَم أنّ الأضَاحي سنَّةُ إبراهيم عليه السلام وسنّة نبيِّكم ، عِبادةٌ قديمة تعبَّدَ الله بها الأمَمَ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ [الحج:34] أي: لكلِّ أمّةٍ من الأمم جعلنا منسكًا، شريعةً في الذبح، إذًا فالأضحيّة عبادةٌ لله وقُربة يتقرَّب بها المسلم إلى الله، وقد دلَّت نصوصُ القرآن وسنّةُ محمّد على مشروعِيّتِها وسنّيتِها، قال الله جلّ وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، والمرادُ بالنّسيكَةِ الذّبيحة، وقال جلّ وعلا لنبيِّه : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2]، فكان نبيُّكم كثيرَ الصّلاة كثيرَ النّحر.
ونبيُّكم حثَّ على الأضحيّة بقوله وعملَها وأقرَّ عليها، ففي تفضيلها يقول : ((ما عمِل ابنُ آدمَ يومَ النّحر عملاً أحبّ إلى الله من إراقةِ دَم، وإنه ليأتي يومَ القيامةِ بقُرونها وأظلافِها وأشعارها، وإنّ الدمَ ليقع من الله بمكانٍ قبلَ أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا)) ، وقال له زيد بن أرقم: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: ((سنّةُ أبيكم إبراهيم)) ، قال: ما لنا منها؟ قال: ((بكلِّ صوفة حسنة)).
أيّها المسلم، إنها عبادةٌ لله وطاعَة لله، إنها إراقةُ الدمِ طاعةً وتقرّبًا إلى الله، مراغَمةً لعُبّاد الأوثان الذين يريقونَ الدّماء للقبور والغائبين والأمواتِ. فهذه طاعةٌ لله، قُربة تتقرَّب بها إلى الله.
نبيُّكم رفَع شأنَ هذه الأضحيةِ وعظَّمها؛ لأن تعظيمَها من تعظيمِ الله ومِن إقامة شعائر الله، فكان نبيُّكم يحافِظ عليها مدَّةَ بقائِه في المدينة منذ هاجَر إلى أن لقِيَ ربَّه، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أقام النبي بالمدينة عشرًا يضحِّي كلَّ عامٍ.
وكان يعلِن هذه الأضحيةَ ويرفَع مِن شأنها، فأخبرنا أنس بنُ مالك رضي الله عنه أنَّ النبيَّ كان إذا صلّى يومَ النّحر دعا بكَبشين أقرنين أملَحين، قال أنس: فرأيتُه واضعًا قدَمَه على صِفاحِهما، يسمِّي ويكبِّر، ثم ذبحَهما بيدِه. وأخبر جابر بنُ عبد الله بذلك، وأنه كان ينحَر ويذبَح بالمصلِّى؛ لأنّه يريد إعلانَ هذه السنةِ وإظهارَها والرفعَ من شأنها، ولذا قال علماءُ المسلمين: إنّ الأضحية سنّة، وإنَّ ذبحَها أفضلُ من التصدُّق بقيمتها، قالوا: لأنّه حافظَ عليها ولازَمَها ولم يَدَعها أبدًا، بل لمّا دفّتِ الدافّةُ بالمدينَةِ ونزل بها الفُقَراء نهاهم أن يدَّخِروا فوقَ ثلاثٍ؛ لأجل إطعامِ الفقراء، ولم يأمُرهم أن يتصدَّقوا بقيمَتِها. وقالوا أيضًا: إنّ هذا فعلُ النبيّ واستمرارُه عليها، وخُلَفاؤه بعده واضَبوا على هذه السنّةِ ولازموها، وإراقةُ الدمِ في وقتها أفضلُ من الصدقةِ، ألا ترَى هديَ التمتّعِ والقِران لو أراد حاجٌّ متمتِّع أن يتصدَّق بقيمَةِ الهديِ لقيل: إنه أخلَّ بواجبٍ من واجباتِ الحجّ.
إذًا فهي عبادةٌ وطاعة لله جلّ وعلا وقربة يتقرَّب بها العبد إلى الله. إنّ الله جل وعلا يقول لنا: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، فالذّبحُ عبادَةٌ لله، ولذا إذا ذبِحَ لغير الله كان ذلك شِركًا أكبَر كحالِ عُبّادِ الأوثان والقبور، فالذّبحُ عِبادةٌ لله وقربَةٌ يتقرَّب بها العَبد إلى الله في يومِ النّحرِ وأيّام التشريقِ، يقول : ((أيّامُ التشريقِ أيّام أكلٍ وشرب وذكرٍ لله)).
أيّها المسلم، إنّ شأنَ الأضحية يسيرٌ لمن يسَّره الله عليه، وجمهورُ المسلمين يرَونها سنّةً مؤكّدة، بل بعضهم ذهب إلى وجوبها، لكن الجمهور على أنها سنّةٌ مؤكَّدة، ينبغي للقادر عليها أن لا يدَعَها، وأمرُها ميسَّر، ففِي عهدِ النبيّ الرّجلُ يذبَح الشاةَ الواحدة عنه وعن أهل بيتِه كما فعل ذلك النبيّ ، فقد ضحَّى بكبشَين قال في أحدِهما: ((اللهمَّ هذا عن محمّد وآل محمّد، وقال في الآخر: اللهمّ هذا عمّن لم يضحِّ من أمّتي)) ، فصلوات الله وسلامه عليه.
أيّها المسلم، في عهدِ النبيِّ ـ كما سبَقَ ـ الشاةُ الواحدة عن الرجلِ وأهلِ بيتِه، هذه الأضحيةُ التي هي تبرّع من الشّخص، يقول أبو أيّوب رضي الله عنه وقد سُئل عن الأضاحي في عهد النبي فقال: كان الرجل منّا يضحِّي بالشاة الواحدة عنه وعن أهلِ بيتِه، فيأكلُون ويطعِمون، ثم تباهى الناس فصارُوا كما ترى.
إذًا فيا أيّها المسلم، لا تَدَع هذه السنةَ، هي شاة واحدةٌ عنك وعن أهل بيتِك، ولا يخدعنَّك من يهوِّن شأنَها ويقلِّل من قدرِها، أو يقول: اللحمُ كثُر ولا حاجةَ للأضاحي، أو يقول: ألقوا قيمتَها في مواضعَ أُخَر إلى آخر ذلك، هذه سنّةُ محمّد وعمَل أمّةِ الإسلام، فلا يجوز للمسلم أن يستخِفَّ بشأنها، ولا أن يقلِّلَ من قدرها، ولا أن يظنَّ أنَّ إنفاقَها لقيمَتِها قائم مقامَ هذه السنّة وهذه الشعيرةِ العظيمة.
أيّها المسلم، إنّ نبيَّنا بيَّن لنا أحكامَ الأضاحي كما كان أيضًا مبيَّنًا في كتاب الله العزيز، فالجِنس الذي منه الأضاحي هي بهيمةُ الأنعام: الإبل والبقر والغنَم، وقد بيَّن لنا السنَّ المجزِئَ في ذلك فقال: ((لا تذبَحوا إلاّ مسنّةً، إلا أن يعسُرَ عليكم فتذبَحوا الجذَعَ من الضّأن)) ، فدلَّ على أنه لا بدَّ أن يكون مسِنًّا، وهي في الإبلِ ما تمَّ له خمسُ سنين، وفي البقر ما تمَّ له سنتان، وفي الضّأن ما تمَّ له ستّةُ أشهر، وفي المعزِ ما تمَّ له سنة.
ولا بدَّ أن تكونَ هذه الأضحيةُ خاليةً من العيوب المانعةِ للإجزاء، وقد بيَّن أصولَ هذه العيوبِ، وجاء أيضًا ذِكرُ عيوبٍ أخرى لكنها أقلُّ منَ الأوّل، ففي حديثِ البراء أنّ النبيَّ قام فيهم فقال: ((أربعٌ لا تجزئ في الأضاحي: العوراءُ البيِّن عوَرُها، والمريضةُ البيِّن مرَضُها، والعرجاءُ البيِّن ضلعها، والكسيرة التي لا تنقي)). فبيّن لهم أنّ العوراءَ التي استُبين عورُها ـ انخسفت عينُها أو نتأت ـ فإنها لا تجزِئ، ومَن كانت عمياءَ كان أولى في عدَم الإجزَاء. وبيَّن أن المريضةَ البيّن مرضها وظهَر أثرُ المرضِ عليها؛ في أكلِها، مشيها، في شيء من جِلدها، فإنها لا تجزِئ. وبيّن أنّ العرجاء التي استبان ضلعُها وتعجِز عن مُواكَبَة الصّحاح أنها لا تجزِئ، وأنَّ الكسيرةَ الهزيلة التي لا مخَّ فيها فإنها لا تجزئ.
وهناك عيوبٌ أخرى ينبَغي اتِّقاؤها، مثل ما قُطِع أكثر من نِصف قرنها أو أذنها؛ لأنَّ النبي نهى أن يضحَّى بأعضَبِ القرنِ والأذُن. سئل سعيد بن المسيب فقال: "النصفُ فأكثر". فما قطِع أكثرُ من نصفِ قرنها أو أذنها فإنَّ عدمَ التضحية بها هو الأولى. مشقوقَةُ الأذُن أو مخروقتها تركُها أولى، ساقِطَة الأسنان تركُها أولى، البَتراءُ التي لا ذَنَب لها أصلاً ناقِصةٌ تركها أولى، كلّما كانت الأضحية كاملةً في صفاتِها كان ذلك أكمَل، قال عليّ رضي الله عنه: أمرَنا النبيّ أن نستشرِفَ العينَ والأذن؛ لأنّ العيوبَ في هذين أكثرُ من غيرها، فاختيارُك الطيِّبةَ لأنّ الله جل وعلا يقول: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ [البقرة:267].
ولها وَقتٌ محدَّد في الشرع، وهو من بعدِ صلاة عيدِ يومِ النحر إلى غروبِ شمس اليوم الثالثَ عشرَ من ذي الحجة، هكذا سنّةُ رسول الله ، فيذبَح يومَ النحر وأيّام التشريق الثلاثة، وإن كان يومُ النحر أفضلَ، لكنّ المدّةَ مستمرَّة إلى غروبِ شمس يومِ الثالثَ عشر، فوَقتُ الذبح أربعةُ أيام، ولا يجوز التأخُّر عن ذلك ولا التقدُّم، والنبيّ خطب أصحابَه يومَ النحر فقال: ((إنّ أوّلَ شيء نبدأ به في يومنا أن نصلّيَ، ثم نرجع فنَنحَر، فمن ذبح على ذَلك فقد أصاب سنّتَنا، ومن ذبح قبلَ ذلك فهو لحمٌ لأهله)). فالسنّة دلَّت على أنه لا يجوز ذبحُ الأضاحي إلا بعد صلاةِ الإمام يومَ النحر، بعد صلاة المسلمين وأدائهم لتلك الصلاة، فيصلّون ثم ينحرون، قال الله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر:2].
وبيَّن لنا آدابَ الذّبحِ، وأرشدنا إلى الطريق المستقيم، فأوّلاً لا بدَّ من تسميةِ الله، فاسم الله شرطٌ لحِلّ الذبيحة؛ لأنّ الله يقول: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:118]، وقال: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121]، وعنه : ((ما أنهرَ الدّمَ وذكِرَ اسم الله عليه فكُل)).
والسنّةُ للمسلِمِ القادر المحسِن أن يتولَّى ذبحَ أضحيتِه بنفسه، فإنّ النبيَّ كان يتولَّى ذلك بيدِه مع وجود من هو أحبُّ إليهم من أنفسِهم وأهليهم، لكنها عبادة، وكلُّ عبادةٍ يتولاَّها المسلم بنفسِه فذاك أكمل وأفضل، وإن لم يفعَل فليحضُر ذبحَها فإنها عبادَةٌ لله، يُروَى أنه قال لابنَتِه فاطمة: ((قومِي إلى أضحيتِك فاشهَديها، فإنه يغفَر لك بأوَّل قطرةٍ من دمها)).
وسنَّ لنا رسولُنا الرِّفقَ بالحيوان، فسَنَّ لنا حَدَّ شِفارِ السّكين، وأن تكونَ آلةً حادّة لكي تجهِز الذبيحَة من غير إضرارٍ بها، فيقول لنا : ((إن اللهَ كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء، فإذا قَتلتم فأحسِنوا القِتلة، وإذا ذبحتُم فأحسِنوا الذِّبحة، وليُحِدّ أحدكم شفرتَه، وليُرِح ذبيحته)).
كما أرشَدَنا أن لا نذبحَ بآلةٍ كالّةٍ، وأن لا نحِدَّ السكينَ في وجهِ البهيمة، وأن لا نَذبَحَ أخرى وأخرى تنظر، وأوجَب علينا إراقةَ الدمِ بقطعِ الحلقوم والمريء، ونتمِّم ذلك بقطعِ الأوداج، ليكون في ذلك راحة للذبيحة وإحسان إليها، قال له رجل: يا رسولَ الله، أذبَحُ الشاةَ وأجِدُني أرحمها! قال: ((الشاةُ إن رحِمتَها رحِمَك الله)) ، ولما رأَى رَجلاً يسوقُ أضحيَتَه يجرُّها قال: ((سُقها إلى المنحَر سَوقًا رفيقًا)) ، فصلوات الله وسلامه عليه.
السّنَّةُ للمسلمين أن يأكُلوا من أضاحِيهِم ويهدوا ويطعِموا، الله يقول: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ [الحج:28].
أيّها المسلم الوصايا للأمواتِ تنفَّذ كاملةً من غير نَقصٍ.
واعلَم أنّ هذه العيوبَ في الأضاحي لو كانت حاصلةً بعد شرائِك لها مِن غير أن يكون تفريطٌ منك أو إهمال فلا شيءَ عليك؛ لأنَّ النبي سأله رجلٌ أنه اشتَرى أضحيَةً فعَدا الذّئب فأكَلَ أليتَها قال: ((ضحِّ بها)). قال العلماء: العيوبُ إذا طرَأت في الأضاحي من غير إهمالٍ ولا تضييع فإنها تجزِئ، وأمّا إن أهمل وفرَّط فإنه يضمَن ذلك لأنها أمانةٌ عندَه.
وإذا عجِز الوقتُ عن الأضاحي كلِّها وكان الموقِفُ واحِدًا جمعَها ولو في أضحيّةٍ واحدة، وإن تعذَّر أخَّرها ولو سنَةً أو سنتين، المهِمُّ أداءُ هذه الأمانة، أداءُ هذه المسؤولية، إحياءُ هذه السنّة، الرّفع من شأنها وقدرِها والاهتمام بها، وأن لا نُصغِي لمن يرى أنها أمرٌ يسير، بل هي سنّةٌ وشعيرة من شعائرِ الدين.
نسأل الله أن يتقبّلَ منّا ومنكم صالحَ أعمالنا، وأن يوفّقنا وإياكم لاتباع سنّة لمصطفى والعمَل بها والثّبات على الحق، إنه على كلِّ شيءٍ قدير.
أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحَمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كمَا يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ اللهِ، لَعلَّ البَعضَ مِنّا حصَل عِنده إشكالٌ، وذلك أنَّ مساءَ الثلاثاء لَيلةَ الأربِعاء الذي يوافق الأوّلَ من شهر ذي الحجة رأى الناس بعدَ أذانِ مغرب يوم الثلاثاء الهلالَ واضحًا جليًّا، وتكاثَرت رؤيتُه واستبانَه الكثير منهم، وعند هذا حصَل تساؤلٌ مِن بعضهم: لماذا هذا الهلالُ بهذه المنزلة؟ أليسَ يومُ الأربعاء يوم اثنين أو يوم ثلاثة؟ لماذا؟ قالوا: لأنّ المعتادَ أنّ الهلال لا يراه الناس إلا مساءَ الأوّل أو مساء الثاني، أما أن يُرى في أوّل ليلةٍ رؤيةً واضحة جليّةً هذا أمرٌ مستنكر، إذًا حصَل عندهم إشكالٌ في هذا.
فيا أخي المسلِم، أحِبّ أن أوضِحَ لك أمرًا، وهو أنّ نبيَّنا علَّق صومَنا لرمضان وفِطرَنا مِن رمضان بأمرين: إمّا أن نرَى هلالَ رمضان في ليلةِ تسعة وعشرين من شعبان في مساء تسع وعشرين من شعبان فنصبح صائمين، أو لا نراه فنستكمِل ثلاثين ثمّ نصوم بعد ذلك، وفي رمضانَ إن رأينَا هلالَ شوّال مساء تسع وعشرين أفطرنا، وإن غُمّ علينا أكمَلنا رمضان ثلاثين ثم أفطَرنا، هذه سنّة رسول الله : ((صوموا لرؤيته، وأفطِروا لرؤيتِه، فإن غُمّ عليكم فأكمِلوا العِدّة)). كذلك ذو القِعدةِ وذو الحجة، لو ادَّعى أحدٌ رؤيةَ هِلالِ ذي الحجّة مساء الاثنين لكان حقًّا أنّ يومَ الثلاثاء واحد، لكن لما لم يتقدَّم أحدٌ ليقولَ: إني رأيتُ هلالَ ذي الحجّة مساءَ الاثنين فالقواعِدُ الشرعيّة على أنّنا نجعل ذا القِعدة ثلاثين يومًا، وأنّ يوم الأربعاء هو الأوّل من ذي الحجة، وكونُ الهِلال رُئِي أو كونُه تأخَّر غيابه أو نحو ذلك هذه أمورٌ يسيرَة، القواعِدُ الشرعية أعمُّ من ذلك؛ لأنَّ القاعدةَ الشرعية عُلِّقت بالرؤيةِ أو بالإتمام.
وإذ مجلسُ القضاء الذي احتاطَ وأعلَن منذ أيامٍ عديدة وتكرَّر الإعلان في وسائلِ الإعلام حثَّ المسلمين على الترائي ومن رآه فليتقدَّم برؤيته إلى أقربِ محكمةٍ ليسجِّلَ بها شهادتَه، وأنّ هذا من التعاون على البرّ والتقوَى، وأنّ هذا اهتمامٌ بِركنٍ من أركانِ الإسلام، هكَذا كان الإعلانُ وتكرّر مِرارًا في وسائل الإعلام، يُدعى إلى تحرِّي الرؤية والجِدِّ في ذلك فلم يتقدَّم أحَد. إذًا فكَونُ يومِ الأربعاء هو الأوّل من ذي الحجّة أمرٌ لا إشكالَ فيه، ولا لَبسَ فيه، وموافِقٌ للقواعد الشرعيّة، إذًا فكِبَر الهلال أو صِغَره لم يُجعَل مناطًا في وجوبِ إِتمامِ الشهر ولا في نُقصانه، وإنما المهِمّ الرؤية الشرعية، وإذا لم تثبُت الرؤية فالمجال الإكمال، ولا نهتمّ لماذا كبر القَمَر وكان قبلُ ليس كذلك، هذه أمورٌ ظنيّة لا تُبنَى عليها الأحكامُ الشرعيّة، إذًا فيوم الأربعاء هو الواحِد من ذي الحجة موافَقةً للقواعد الشرعية، نسأل الله لنا ولكم التوفيقَ والسّداد.
أخي المسلم، تعلَمُ أنَّ الله جل وعلا من كرمِه وإحسانه لم يفرِض الحجَّ على المسلم إلا مرّةً واحدة في عمره، من أدّى تلك الفريضةَ اعتُبِر مؤدِّيًا للواجب وبرِئت ذمّتُه من المسؤولية. وهنا نرى بعضَ إخواننا قد لا يقتنِعون بهذا، هو صدَرت فتوَى على أنّ والي الأمر إذا وضَعَ نظامًا يُقصَد من خلالِه التقليلَ والتيسير وأنَّ من أدَّى سنةً يتأخَّر خمسَ سنين رِفقًا بالناس وفسحًا للمجال وإعطاءَ الفرصة لن لم يحجَّ، هذا أمرٌ لا يخالف الشرع، وليس فيه منعٌ للخَير، ولكنه تنظيمٌ في المصلحة، إلاّ أنه ـ وللأسف الشديدِ ـ نرى بعضَ إخواننا يحتَالون، فيأتون مراكِزَ عند المواقيت، فيخلعون ثيابهم، فإذا جاوزوا لبَسوا إحرامَهم، الإحرامُ واجبٌ عند الميقات، وهذا لا يرتدي الإحرامَ تحايُلاً ويقول: لست بحاجٍّ، فإذا تجاوَزَ ذلك لبِس الإحرام وارتَكَب خطأً ومحرَّمًا؛ لأنَّ الواجبَ إيقاعُ النيّة عندَ المواقيت، وكونُك ترتكب محرَّمًا في سبيلِ الحصولِ على نافلة تخالِف الأمر، فهذا ـ يا أخي ـ في النفسِ حَرجٌ منه، وأنا لا أؤيِّدُك على هذَا الفِعل ولا أشجِّعُك عليه.
أمرٌ آخر يا إخواني، حملاتُ الحجّ لهم حِيَل في هذا المقام، فيأخُذون تصريحاتٍ مِنَ المسؤولين، ثم يبيعون كثيرًا منها على الآخرين، فيأخذُ من قد حجَّ لأنه لم يحجَّ، وكلّ هذا تحايُل، وكلّ هذه غيرُ سليمة، وبذلُ العِوَض في هذا غير جائز، وقَبض العوَض فيها غير جائز، فلا ينبغي لنا التساهلُ والتحايل على الأمورِ التي لا تخالِف الشرعَ، فهذا تحايُلٌ غير سليم.
إخواني، حملاتُ الحج ـ هدانا الله وإياهم ـ يلاحَظ على بعضهم شيءٌ كثير، فبعضُهم إذا قرُب الحجّ ترى له إعلانًا وبرنامجًا وتنظيمًا جيّدًا، فإذا قدِم الحجّاج وجدوا كثيرًا ممّا قِيلَ غيرَ موجود، ووجدوا ما أمِّن وكُتِب وأعلِن أنّه فقط حِبرٌ على الورق، وأنّ هذا صاحبَ الحملَةِ لم ينفِّذ كلَّ ما قال ولا نِصفَ ما قال، وهذا ـ يا إخواني ـ خيانة للأمانة، والله يقول: وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [المؤمنون:8]. إهمالُهم لحجّاجِهم، عَدَم المبالاة بهم، عدَم تثقيفهم، تساهَلُهم في كثيرٍ مِن أمورهم، إلجاؤهم الحجّاجَ أحيانًا إلى عدَمِ القيام بالواجب، كلّ هذا من الأمورِ المخالفة للشَّرع، فالتَزِم ما تَعهَّدتَ به، والتَزِم ما ضَمِنتَه على نفسك، وإياك وهذا التساهُلَ، وإياك وهذا التلاعب.
أيها المسلم، إنَّ بيت الله الحرام أفضلُ بقَعِ الأرض على الإطلاق، حَرَمٌ شرَّفَه وعظَّمه وخصَّه بخصائصَ عظيمة، فمِن خصائصه أنّ الله جل وعلا توعَّد من همَّ فيه بسوء أن يعجِّل له العقوبة، قال جل وعلا: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، من همَّ بسيّئة في الحرم في نفسِه وإن لم يفعَل فإنّ الله يعاقبه على هذا الهمِّ السيّئ وعلى هذا المقصدِ الخبيث؛ لأن الله ألزم المسلمين باحتِرام أمنِ هذا البلد، قال جل وعلا: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران:97]، والخليل دعا لأهله بقوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة:126]، ونبينا بيّن حرمةَ هذا البلد وشأنَه فقال: ((إن الله حرّم هذا البلدَ يوم خلق السموات والأرض، ولم يحرِّمه الناس، وإنه حرامٌ بتحريم الله له إلى يوم القيامة، لا يعضَد شوكه، ولا ينفَّر صيدُه، ولا يُختَلَى خلاه، ولا يُسفَك فيه دم، ولا يلتَقط لقطته إلا معرِّف)) ، كلّ ذلك تعظيمًا لشأنِ هذا البيتِ وإِرشادًا للمسلِم أن يرعَى أمنَه ويرعى حرمتَه؛ لأنّ هذا من واجب الإسلام، ولا يستخِفّ ببيتِ الله الحرام ولا يستخفّ بأمنه إلا من في قلبه مرضٌ والعياذ بالله.
نسأل الله أن يوفِّقَ المسلمين لكلّ خير، وأن يحفَظَ حجّاجَ بيتِه الحرام، ويعينهم على أداءِ نسكهم، ويصرف عنهم كيدَ الكائدين وحِقد الحاقدين، وأن يوفِّق وُلاةَ أمرنا لما يرضيه، وأن يمدَّهم بعونِه وتوفيقِه وتأييدِه، وأن يسهِّل أمرَ الحجيج، ويعينهم على أداء نسكهم في أمنٍ يسر وسكينة، إنه على كل شيءٍ قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمَّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعَةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجمَاعة، ومن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رَحمكم الله ـ على نبيكم امتثالاً لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين...
(1/3676)
عيد الأضحى 1425هـ
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد, فقه
الإعلام, الذبائح والأطعمة, المرأة, المسلمون في العالم, محاسن الشريعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
10/12/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بنعمة الحج. 2- شعيرة ذبح الأضاحي وما يتعلق بها من آداب وأحكام. 3- نعمة الهداية للإسلام. 4- أهمية التوحيد. 5- منهج الوسطية. 6- التحذير من الغلو. 7- خطورة التكفير. 8- أمن بلاد الحرمين. 9- الدعوة للإصلاح. 10- التذكير بمآسي المسلمين وجراحاتهم. 11- قضية فلسطين والعراق. 12- الأعمال الخيرية والإغاثية.13- المشروع الحضاري الإسلامي. 14- مناهج التعليم. 15- ضرورة العناية بالشباب. 16- واجب وسائل الإعلام. 17- التحذير من إعلام الرذيلة. 18- صيانة الإسلام للمرأة. 19- أهمية الحسبة. 20- نصائح وتوجيهات.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، لا إلهَ إلاّ الله، والله أَكبر، الله أَكبر، ولله الحَمد.
أمّا بعد: فيا إخوةَ الإسلامِ في كلّ مكان، أيّها الإخوة المسلمون في أمّ القرى بلدِ الله الحرام، حجّاجَ بيتِ الله الكرَام، خيرُ ما يُوصَى به الأنامُ تقوَى الله الملِكِ القدّوس السّلام، فاتَّقوا الله ـ عبادَ الله ـ في السِّرِّ والإعلان، وزكّوا بواطنَكم من الأوضارِ والأدران. اتَّقوا الله في الغَيبِ والشهادةِ تحوزوا والحسنَى وزِيادة.
أيّها الحُجّاجُ الميامِين، ها قد أنعَم الله عليكم ببُلوغ هذا اليومِ المبارَك الأزهَر، وشهِدتُم بفضلِه ومنِّه يومَ الحجّ الأكبَر والمنسكِ الأشهَر، يَوم عِيدِ الأضحى المبارك، اليوم الذي يجود فيه البارِي جلّ وعلا بمغفرةِ الزّلاّت وسَتر العيوبِ والسيّئات وإقالةِ العثَرات وإغاثةِ اللّهَفات ورفعِ الدرجات وإجابةِ الدعوات وقَبول التوبَات. طوبى لكم أيّها الحجَّاج الكِرام، ثم طوبى ما تَنعَمون به من غامِرِ الإيمانيات وسابغ الرَّوحانياتِ، دُموعُكم لرضوانِ الله مطَّرِدَة، والضُّلوع مِنكم بالأشواق متَّقِدَة، والدّموعُ والإنابَة ما يكادُ يذهَب بالمُهَج ويأخُذ الألبابَ.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبِيرًا.
عِبادَ الله، منَ الشّعائر العظمَى التي يتقرّب بها المسلمون إلى ربِّهم في هذا اليوم الأغرّ المبارك شعيرةُ ذبحِ الأضاحِي، اقتِداءً بخَليلِ الله إبراهيم ونبيِّ الله وحبيبِه محمّدٍ عليهما الصّلاة والسلام.
إنّ الأضاحي ـ عباد الله ـ سنة أبيكم إبراهيم وحبيبكم محمد ، فاتقوا الله عباد الله، وضحّوا تقبّل الله ضحاياكم، فقد ضحّى عليه الصلاة والسلام بكبشين أملحين أقرنين [1] ، لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37]. أخرج البخاريّ من حديث جُندب بن سفيان رضي الله عنه قال: صلّى النبيّ يَومَ النّحرِ ثم خطَب ثمّ ذبح وقال: ((من ذبَحَ قبل أن يصَلّي فليذبح أخرَى مكانَها، ومن لم يذبح فليذبَح بسمِ الله)) [2].
ويبدأ وقتُ الذّبحِ ـ عبادَ الله ـ مِن صلاةِ العِيدِ، وينتهِي وقتُ ذَبح الأضاحي بغروب شمسِ اليومِ الثالث من أيّام التشريقِ لقوله عليه الصلاة والسّلام: ((وكلّ أيام التشريق ذبحٌ)) أخرجه الإمام أحمد وغيره [3].
ولا يجوز التّضحيةُ بالمعِيبةِ عيوبًا بيّنَة، لما في حديثِ البراءِ بن عازب رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((أربعٌ لا تجزِئُ في الأَضَاحِي: العَورَاءُ البيِّنُ عوَرُها، والمريضة البيّن مَرضُها، والعَرجاء البيِّن ظلَعُها، والكبيرةُ التي لا تُنقِي)) أخرجه أحمد وأهل السنن [4].
اللهُ أَكبر، الله أَكبر، لا إلهَ إلاّ الله، والله أَكبر، الله أَكبر، ولله الحَمد.
ويُعتبَر في سِنّ والأضاحي السنُّ المعتبَر شَرعًا، وهو في الإبِل خمسُ سنين، وفي البقَرِ سنتان، وفي المَعز سنة، وفي الغنَم نصفُ سنة.
وتُجزئ الشّاةُ الواحدة عن الرجُل وأهلِ بيتِه، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه [5].
والسنةُ أن يتَولّى المضحِّي الذَّبحَ بنفسِه؛ لأنَّ النبيَّ عليه الصلاة والسلام نحر ثلاثًا وستين بدنةً بيده الشريفة، ثم أعطَى عليًّا رضي الله عنه فنحَر الباقي، كما جاء ذلك في صحيح الخبر عنه [6].
الله أكبر، الله أكبر، لا إلهَ إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، وللهِ الحَمد.
ومِن السّنَّة ـ يا عبادَ الله ـ أن لا يُعطَى جازِرها أجرَتَه منها.
ومِنَ السنّة أن يأكلَ منها ثُلثًا، ويهديَ ثلثًا، ويتصدّق بثلُث، لقول الله عز وجل: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ كَذ?لِكَ سَخَّرْنَـ?هَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا.
أمّةَ الإسلامِ، اشكُروا الله على ما هداكم لهذا الدين، فلقد كان الناسُ قبلَه في جهالةٍ جهلاء وضلالة عمياء، إلى أن منّ الله عز وجل ولله الفضل والمنّة، فأضاءَ الكون بشمسِ الرسالة المحمّدية على صاحِبِها أزكى صلاةٍ وأفضل سلامٍ وتحيّة، فأخرجَ الناسَ من الظّلُمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد.
وكان أساسُ الأسُس وأصلُ الأصول في دَعوتِه عليه الصلاة والسلام وركيزةُ مرتَكَزاتها ورُكن أركانها توحيد الله عزّ وجلّ وإفرادَه بالعبادة، وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. بالتوحيد أرسِلت الرسل وأُنزلت الكتب، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25]، قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
فلِواحدٍ كن واحدًا في واحدِ أعني سبيلَ الحقّ والإيمان [7]
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إخوةَ الإسلام، ومن الأمور المهمّة التي يجب أن يتوارَد عليها المسلمون في موسِم حجّهم المبارك ما تميّزت به شريعتنا الغرّاء من منهجِ الوسَطيّة والاعتدال في كلّ أبوابها ومَقاصِدِها، فهي وسطٌ في الاعتقاد والعبادات والمعاملات وفي كلّ شيء، لقول الله عز وجل: وَكَذ?لِكَ جَعَلْنَـ?كُمْ أُمَّةً وَسَطًا [البقرة:143]، فلا إعناتَ ولا غلوّ، ولا إفراط ولا تفريط، ولا مشقّة ولا حرَج، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ?لدّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].
ولما انحرَفَ فِئامٌ من المسلمين عن مِنهاج الوسطيّة والاعتدال ظهَرَت فتنةٌ فاقِرَة يقاسي المسلمون جرّاءها الكروبَ، فِتنَة زلّت فيها أقدامٌ وضَلّت فيها أَفهام، ألا وهي فِتنة التّكفير الدّاعية إلى الخروجِ على ولاة أمر المسلمين وإثارةِ القلاقِلِ وزعزعة أمنِ الأمّةِ وشَرخِ صفّ جماعَتها. وأسبابُ هذا الضلال فهمٌ منحرِف أُحاديّ لنصوص الكتاب والسنة، ولله درّ الإمام العلاّمة ابن القيم حيث يقول:
ولهم نصوصٌ قصّروا في فهمِها فأُتوا من التّقصير في العِرْفان
الكفر حقّ الله حقّ رسوله لا بالهوى أو برأي فلانِ
من كان ربّ العالمين وعبده قد كفّراه فذاك ذو كفران [8]
إنّ الذين يؤلّبون المسلمين على وُلاةِ أمرهم ابتغاءَ الفِتنةِ والفوضَى ويَسعَون في الأرضِ فسادًا وتدميرًا وإرهابًا وإِرعابًا وتفجيرًا واستِحلالاً للدّماءِ المعصومة من المسلِمِين والمعاهَدين والمستَأمَنين باسمِ الإسلام أو دعوى الإصلاح زعموا لَمَا هم عليه من أبطَل الباطِل وأشدِّه تنكُّبًا عن دين الإسلام، مِنْ أَجْلِ ذ?لِكَ كَتَبْنَا عَلَى? بَنِى إِسْر?ءيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ?لأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ?لنَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]. الله أكبر، أيُّ وعيدٍ وتهديدٍ أبلغُ وأزجر من هذا؟! يقول عليه الصلاة والسلام: ((من قتَل معاهَدًا لم يَرَح رائحةَ الجنّة، وإنّ ريحَها ليوجَد من مسيرة كذا وكذا)) أخرجه البخاري [9]. وهل يعني الولاءُ والبراء اتخاذَ المستأمَنين والمعاهَدين والذمّيين غرضًا للقتل والترويع وسفكِ الدماء وتناثُر الأشلاء؟! وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَن لاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8]، لاَّ يَنْهَـ?كُمُ ?للَّهُ عَنِ ?لَّذِينَ لَمْ يُقَـ?تِلُوكُمْ فِى ?لدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَـ?رِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. والآية دليلٌ على سماحةِ الإسلام ويُسرِه ووسطيّته واعتداله وموقفِه المنصِفِ من المخالفين.
إنّ قضيّة التكفيرِ الخطيرة ناجمةٌ عن انحرَافٍ وغلُوّ، وقد نُهِينَا عن الغلوّ في الدين لأنّه سبب هلاكِ الأوّلين: يَـ?أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ ?لْحَقّ [المائدة:77]. والغلوّ مذمومٌ في جانب الوجودِ والعدَم والفِعل والترك، كما أنّ الإرهابَ مذمومٌ في الأسبابِ والبواعث والمقدّمات والنتائجِ والأفعال وردودِ الأفعال، إضافةً إلى أنّ امتَطاءَ صَهوةِ تكفير المجتمعاتِ يبعَثُ عليها جَهلٌ مركَّب في فهمِ مسائلَ من الدّين، وقد بلغت حدًّا يوجِب التصدِّي لها من قِبَل أهلِ العِلم بالحجّةِ والبَيان والدّليل والبرهان، حراسةً لناشئة الأمّة مِن الهُويّ في عَينِها الحَمِئة والتمرُّغِ في أَوحَالها النّتِنة، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من رَمَى أخاه بالكفرِ أو قال: عدوّ الله وليس كذلك إلا حارَ عليه)) [10] ، وقال : ((من قال لأخيه: يا كافِر فقد باءَ بها أحَدُهما)) عياذًا بالله، خرّجهما مسلم في صحيحه [11].
إنَّ على علماءِ الشريعَة الموقِّعين عن ربّ العالمين والمؤتمَنين على ميراثِ النبوّة والدعاةِ ورجالِ الحِسبة، وعلى وسائل الإعلام ورجال التربية والتعليم أن يربطوا المسلمين وفِتيانهم بمنهاجِ الوسَطيّة السّلفيَّة المعتدِلة التي جاءت بها شريعَة الإسلام، ودلّت عليها نصوصُ الكتابِ والسنَّة وتمثّلتها فهمُ سلَفِ الأمّة، وامتثَلتها بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله، فكان أَن سَطع بأساطِينِ قيادَتها نورُ الإيمانِ، وعمّ الأمنُ والأمَان، وغدَت ثَغرًا باسمًا في وجهِ الزّمان، فضلاً من الله ومَنًّا، لا باكتِسابٍ مِنّا.
إنَّ أمنَ بلاد الحرمين الشريفين قضيّةٌ لا تقبَل المساوماتِ ولا تخضَع للمزايدات والمهاترات، ولا تهزّها الزوبعات، وقد بسَط الله فيها أمنَه وأمانَه إلى أن يرِثَ الله الأرضَ ومن عَليها وهو خير الوارِثين، وإن رغِمَت أنوفٌ مِن أناسٍ فقل: يا ربّ، لا تُرغم سِواها. لا مكانَ في هذه البلادِ المبارَكةِ بإذنِ الله للعنفِ والتّخريبِ والإفسادِ والتأليب والتّرعيبِ.
أمّةَ الدعوة والإصلاح، ومِن القضايا التي يجب أن تتواصَى بها الأمّةُ وتحدَّدَ أصولُها وضَوابطُها وتُتَّخَذ عنوانًا للتّرابُط وتجاوزِ العقَبات والتّحدّيات الدعوةُ للإصلاح الذي هو وَجهٌ من وجوه حِكمةِ بِعثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، يقول تعالى على لسانِ شُعيبٍ عليه السلام: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ?لإِصْلَـ?حَ مَا ?سْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بِ?للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88].
والذين يتوجَّهون شَطرَ الإصلاح المعتَبر ويحمِلون لواءَه لهم رِجالٌ بَررَةٌ، يُسلِمون الأمّة إلى ساحاتِ الخير والقوّة، ولا يَقودُ هذه الرِّكابَ إلاّ كبيرُ الهمّة مَضّاء العزيمة، وسيَكون الإصلاحُ مَربحًا ومغنَمًا إذا انطلَقت الأمة فيه من إصلاحِ ذاتها والنظر في عيوبها وتهذيبها وأطرِها على سُنَن الهُدى، وأتبَعت ذلك بإصلاحِ الأسَر لأنها نواة المجتمع، وسيكون الإصلاحُ للعَلياء مرقاةً إذا بَسطنا ظِلالَه على المجتمَع والأمّة بما تقتَضيه المصالحُ الشرعيّة من التدرّج والرفق والأناة ومراعاة فِقهِ المهِمّات والأولَوِيّات.
ولمّا كانت الأهواءُ تجمَح والمدارِك تختلِف وتتفاوَت كانَ لِزامًا اعتبارُ صَلاح المصلِحِ وصفاءِ منهجِه واستقامةِ آرائه. إنه إنِ انبَرَى سفيهٌ غيرُ فقيه ولاسَنَ مَوتورٌ يزعم الإصلاح بشقّ عصا الطاعة وتفريق الجماعة، فإنه داعية فتنةٍ، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها.
ويؤكَّد هنا ـ يا رَعاكم الله ـ على الجانب المزعوم للإصلاح الذي يركَب مطيّتَه بُعض المزايدِين على الشريعة وذوِي المغامرات الطائِشَة والأطروحات المثيرة المتَّسِمة بالمخالَفات الشهيرة واللاهثِين وراءَ ركوب موجةِ حُبّ الشُهرَة والظهور، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى ?لأرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ ?لْمُفْسِدُونَ وَلَـ?كِن لاَّ يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أمّةَ الإسلامِ، أيّتها الوفودُ المباركة، تعيشون هذا اليوم على ثَرَى هذا البلد الأمين الأفيَح سرورَ العيدِ وأُنسَ التعارُف والتآلف، وتنعَمون بنسائِمِ الرحمةِ والأخوّة الإسلامية في هذه المواكبِ المهيبةِ، ولكنّنا نذكّر في غمرَة الأسى بأنّ أمّتَنا الإسلاميّة لا تزالُ تتجَرّع المآسيَ والحسرات وتتلقّى الويلاتِ والنّكبات، القوارعُ تنوشُها من كلّ حدَبٍ وصَوب، والخطوب تؤمُّها من كلّ مضيقٍ وطريق، تبدّدَت قواهَا، وانفصمت عُراها، وحيثما أجَلتَ النظرَ أدمَت عينَيك وقرّحَت فؤادَك توازِعُ الأشلاءِ ونزيف الدماء واغتصابُ الأرضِ والعِرض، والعّدوّ المتربِّصُ يجدّ في خَنق أنفاسِها وتجاهُل قضايَاها، ولا مخلِّصَ لها من هذا الواقع المزري إلاّ الاعتصامُ بكتاب الله وسنة رسوله ، وأن نتنادَى بالوحدة الإسلاميّة، إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]، وأن لا تربِطَ ولاءاتِها وتوجُّهاتها إلا لعقيدَتها وثَوَابِتها، وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ [آل عِمران:103].
وفي هذا الموسمِ الكريم ملتقَى العالَم الإسلاميّ من أطرافِ البقاع والأسقاع يجب على الأمّة أن يمتدَّ بصرُها لتعيَ جيِّدًا موقعَها من رِكاب العلياء والقِيادة، ولتعلَم أنَّها أمة الخيرية والشّهادة على العالمين، ولْتعلم أنّ مسؤوليّاتٍ جسامًا تنتظرها، كِفاؤها الصبرُ والعِزّة، في ابتدارٍ لأسباب النصر ووسائل الظَّفر مهما كانت قوّةُ العدوّ قاهِرة، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].
إنّه لا سبيلَ للغايةِ المنشودَةِ إلاّ بالأوبةِ العمَليّة الصادِقة إلى نور الوحيَين الشريفين واتخاذهما شِرعةً ومنهاجًا. وإنّنا في حاجةٍ ملِحّة إلى أن نتمثَّل ذلك كلٌّ بحَسَب ثغرِه من الأمانةِ والمسؤوليّة على كلِّ صعيد؛ سياسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا واقتِصاديًّا واجتماعيًّا وإِعلاميًّا وتربَويًّا، إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى? يُغَيّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11].
الله أَكبر، الله أكبر، لا إلهَ إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، وللهِ الحمد.
إخوةَ الإسلام، قضية المسلمين الكُبرَى قضيّةُ فلسطين والأقصى المبارك، المسجد الأقصَى الجريح المعَنَّى، قضيّة فلسطينُ المسلِمة التي تُسام العذابَ والدّون، والأقصى الملَوَّع الذي يُقاسِي مَرائرَ العدوانِ والهون، فليتَ شِعري كيفَ تَطيب الحياةُ وأرضُنا المقدّسة مسرَى إمامِ الأنبياءِ عليه الصّلاةُ والسّلام في يدِ المحتلِّين الغَاصِبين.
إنّ على الأمّة الإسلاميّة أن تتحرّكَ تحرّكًا جادًّا لنصرة قضايا المسلمين في كلّ مكان، لا سيما في الأرض المباركة فِلسطِين، وأن تسعى لإصلاح حال إخواننا في بلاد الرافدين، فالله ناصرٌ دينَه ومعلٍ كلمتَه، والنّصرُ للإسلامِ وأهلِه طالَ الزَّمانُ أو قَصُر.
الله أكبر، الله أَكبر، لا إلهَ إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحَمد.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الأضاحي (5564، 5565)، ومسلم في الأضاحي (1966) عن أنس رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الجمعة (985). وأخرجه أيضا مسلم في كتاب الأضاحي (1960).
[3] مسند أحمد (4/82) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، وأخرجه أيضا البزار (8/364)، وابن حبان (3854)، والطبراني في الكبير (2/138)، والبيهقي (5/239)، وفيه اختلاف واضطراب، والصحيح فيه أنه منقطع، قال البزار: "وحديث ابن أبي حسين هذا هو الصواب، وابن أبي حسين لم يلق جبير بن مطعم، وإنما ذكرنا هذا الحديث لأنا لم نحفظ عن رسول الله أنه قال: ((في كل أيام التشريق ذبح)) "، وانظر: التمهيد (23/197).
[4] مسند أحمد (4/284)، سنن الترمذي: كتاب الأضاحي، باب: ما لا يجوز من الأضاحي (1497)، سنن أبي داود: كتاب الضحايا (2802)، سنن النسائي: كتاب الضحايا، باب: العجفاء (4371)، سنن ابن ماجه: كتاب الأضاحي، باب: ما يكره أن يضحى به (3144)، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (907)، وابن خزيمة (2912)، وابن حبان (5889)، والحاكم (1/467)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1211).
[5] أخرج مالك في الضحايا (1050)، والترمذي في الأضاحي، باب: ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في الأضاحي، باب: من ضحى بشاة عن أهله (3147) عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: كان الرجل في عهد النبي يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته فيأكلون ويطعمون. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1216).
[6] أخرجه مسلم في الحج (1218) في حديث جابر رضي الله عنه الطويل في صفة حج النبي.
[7] هذا البيت من الكافية الشافية لابن القيم.
[8] الكافية الشافية.
[9] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3166) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[10] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (61) عن أبي ذر رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في الأدب (6045).
[11] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (60) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه أيضا البخاري في الأدب (6104).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أَكبر، اللهُ أَكبر، الله أَكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إلهَ إلاّ الله، والله أكبر، الله أكبر، وللهِ الحمد.
الحمدُ لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، اتَّقوا الله يا حجّاجَ بيتِ الله، واعلموا أنّ التقوى سببُ القَبول وخيرُ مطيّةٍ لتحقيق الخيرِ المأمول، إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ?للَّهُ مِنَ ?لْمُتَّقِينَ [المائدة:27].
أيّها المسلمون، إنَّ من مقاصدِ الإسلام السامِيَة تهذيبَ النفوسِ من الشحِّ والأثرةِ، والإحسانَ للفقراءِ والمحتاجين والملهوفينَ والمنكوبين، يقول الله عزّ وجلّ: وَأَحْسِنُواْ إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [البقرة:195]، ويقول في الحديث الصحيح: ((من لا يرحَم الناسَ لا يرحمه الله عزّ وجلّ)) [1].
وهذه السَّجيَّة المنبثِقةُ من سماحةِ الإسلام وجوهَره تأسو الجراحَ وتداوي الكُلومَ وتخَفِّف البأساءَ وتدفع البلاءَ والضرَّاء، ولا غِنى عنها لأيّ مجتمَعٍ ينشُد المحبَّة والوِئامَ، ولن يتنَكَّر لذوي الحاجات والعاهاتِ والفاقات والمعوِزين إلاّ غِلاظُ الأكبادِ قساةُ القلوبِ عياذًا بالله، وشريعتُنا الرّحيمَة حذّرت من ذلك أيّما تحذِير.
أمّةَ الإسلام، إنّ الأعمَالَ الخيريّة والإغاثيّة بصنوفِها المتعدّدة جزءٌ لا يتجَزّأ من منظومةِ شريعتِنا الغرّاء وحضارَتِنا المشرِقةِ اللألاء، هي الكفُّ الندِيّ والبلسَم الشفيّ وطوقُ النّجاة للمجتمعات والملتقَى الإنسانيّ للحضارات، ومَن ينتسبُ إليها يَسمو سماءَ المجدِ شرفًا، قد تخلَّى عن الذّات، وتجاوز المصالحَ والأنانيّات، عاشَ شمعةً مضيئَة، يبذل الخيرَ للغَير، وإذا طُوِي بساطُ الأعمال الخيريّة وأفَل نجمُها وعُطِّلت قوافِلها حلّت في المجتمَعاتِ الكوارثُ والنّكَبات، وانتشر الفقرُ والعَوَز، واستشرَتِ البَطالة، ولا غروَ أن تجدَ نماذجَ مضيئةً مشرِقَة تنطلقَ من ثوابتِ بلادِ الحَرَمين حرسها الله ونسِيجِها المتمَيِّز، فلَها القِدحُ المعلَّى والدّورُ الرائدُ المجلَّى في ذلك كلِّه، وما هي إلاّ شكرٌ للمنعِم على إنعامِه، وآيةٌ ساطِعَة على كَرَم أبنائِها وزكَاءِ أَرُومَتِهم ونُبل معدنهم ومحبَّتهم للخير وتفانيهِم فيه بحمد الله، ولن يقبِضَ أياديَها البيضاءَ في إِسداءِ الخير للناس وبذلِ النَّدى والمعروف وإغاثةِ الملهوفين ولو في أقاصي المعمورة ـ كما هو واقعُ الحالِ بحمد الله ـ تخذيلُ الشانِئين وحملاتُ المغرِضين ومحترِفو الإساءَة للبرآء الخيّرين، ممّا يؤكِّد وجوبَ التصدِّي الحاسِم والوقوفَ الحازم للحملات الإعلامية المغرِية، وذو الفَضلِ لا يسلَم من قَدح وإن غدا أقومَ مِن قِدح، والله المستعان.
وما الأعمال المشرّفة التي قامت بها بلاد الحرمين الشريفين تجاهَ إخواننا المسلمين المنكوبين بالزلازل والفيضانات والمدّ البحريّ مؤخَّرًا إلا نموذج مشرق على الأيادي البيضاء التي تسديها لأمتنا الإسلامية، بل وللإنسانيّة جمعاء.
إنّ على الأمّة الإسلاميّة أن تضطلعَ بالمشروع الإسلاميّ الحضاريّ الذي يضع الخطَطَ والبرامِج والاستراتيجيات المهمّة والآليّاتِ العمَليّة والخطُوات التنفيذيّة الجادّة لكافّة القَضايا والمستجدّات والتحدّيات، لا سيّما قضايَا الإرهابِ وقضايا المخدّرات.
إننا بحاجةٍ إلى أن نُعالجَ الجهلَ بقواعدِ الاعتِدالِ والوسَطيّة والتخلُّص مِن الآراء الآحاديّة والاجتهاداتِ الفرديّة والفتاوَى التحريضِيّة، لا سيّما في فضَايا الأمّة الكبرى والقضايا المصيريّة، لا بدّ من وضعِ ميثاقٍ علمِيّ عالمي عالٍ للإفتاء، يحقِّق المرجعيّةَ المعتبَرة للفتوَى في النّوازلِ والمستجدّات المعاصِرَة، كما لا بدّ من وضع ميثاقٍ عالٍ للحوار الحضاريّ بين الشعوب، تحقيقًا لحوار الحضارات، لا صدامِ الحضارات، تحقيقًا للمصالح وتكمِيلها، ودرءًا للمفاسِدِ وتقليلها. وإنَّ من فَضلِ الله وكريم ألطافِه أن ضمِنَ المستقبلَ المشرِقَ لهذهِ الأمّة، فلا مكانَ لليأس والقُنوط، ولا مجالَ للتخاذُل والإحباط، بل جدٌّ وعمَل وتفاؤل وانطلاق واستشرافٌ لآفاقِ مستقبلٍ أفضل صلاحًا وإصلاحًا، ولن يصلُح أمرُ آخِر هذه الأمّة إلا بما صَلَح به أوّلها.
أمّةَ التعليمِ والتربية، مناهِجُنا مبَاهِجُنا، فهي التي تمثِّل مِحورَ الثّمرةِ التعليميّة والتربويّة، وفي ضوئِها تتكوّن مداركُ الأجيالِ واتجاهاتُهم، وبها تتعلَّق الآمالُ في الإصلاحِ الفكرِيّ والعقديّ والاجتماعي، وهي ولا ريبَ من الأهميّة بمكانٍ في الدّلالة على رقيِّ الأمّة أو انحدارها. ولئن حدَّقنا في مضامينِ تلكَ المناهج ومعانِيها وحلَّقنا فوقَ مفرداتها ومَبانيها لألفَيناها بحمدِ الله ومنِّه قائمةً على الكتابِ والسنّة، مستوحَاةً من هدي سلفنا الصالح، مواكِبةً لتمدُّن العصرِ وتطوُّرِه، في غيرِ تبعيّةٍ أو تقليد أو ذَيليّة، نقتبِس مِن علومِ الحضارةِ المعاصِرةِ ما تؤيّدُه شريعتُنا الغراء، وننبذُ ما سواه. أمّا الافتراءاتُ التي ألحِقَت بها وحامت حولَها فهي أوهى من أن تُتَعقَّب أو تُنتَقَض، وتحويرُ المناهِج وتنقيحُها مما يقتَضيه توثُّب العصرِ ورُقيُّه، لكن ثم لكن مع التمسّك بالثوابتِ والعقائدِ والمبادِئ التي لا يمكِنُ أن تتغيّر طالَ الزمان أو قصُر.
الله أكبر، الله أَكبر، لا إلهَ إلا الله، والله أكبر، الله أَكبر، ولله الحَمد.
إخوةَ الإيمان، فئةٌ عزيزَة على نفوسِنا، تلكُم هِي فئةُ الشباب، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءامَنُواْ بِرَبّهِمْ وَزِدْنَـ?هُمْ هُدًى [الكهف:13]. فئةٌ تُعَدُّ بحَقٍّ مَناطَ آمَال الأمّةِ ومعقِدَ رجائِها، فلا بدّ منَ العناية بقضايا الشباب، والحذر من إغفال قضاياهم، لا بدَّ من فتح الحوار مع أبنائنا وأحبابنا وشبابنا، إنّ التّجافيَ عن محاورَتهم وتوجيهِهم وإرجاءَ الحلولِ لمشكِلاتهم قد يؤدّي إلى فسادٍ عريض في كلّ مَزلَقٍ خلقيّ وجُنوح سلوكيّ وانحرافٍ فكريّ.
لا بدّ من تحصينِ الشّباب من لوثاتِ العولمة والتّغريب والحفاظِ عليهم من تيّارات الغلوّ والتكفير، وما فواجعُنا التي كابَدناها منّا ببعيدٍ، لذا فإنّ الحاجَةَ ملِحَّةٌ لأخذهم بحِكمةِ العاقل الأحوَذي، واحتضانهم وفتحِ الصّدور لهم واستِخدامِ أمثل الأساليب التي تُلامِس أفئدَتَهم وتوافق فِطرَتهم؛ لنثوبَ بهم إلى رحابِ الجيل الإسلاميِّ المأمول، ولعلّ ذلك يكونُ مِن أولويّات الحوار والإصلاح الذي نفَحَنا عَبَق أريجه بحمد الله، وقام داعيًا إلى منهَج الوسطيّة والاعتدال والمطارَحاتِ الشّفيفة في الآراءِ دونَ موارَبَة أو إعضاء، وإنّ منهجَ الحوار ليُحسَبُ للأمّة الإسلاميّة وَثبةً فكريّة وحَضاريّة تُحكِم نسيجَ الجماعةِ المسلِمَة وتعضدُ من وَحدتها وتآلفها، ومنقبَةً شمّاء تستطلِع في شموخٍ آليّاتِ التّحَدّي في الداخل والخارجِ في هذا العصر المتفَتِّق على متغيّراتٍ خطيرة ومستجدّات لا تعرف التمهّل.
لا بدَّ مِن مراعاة آدابِ الحوار وضوابِطِه ومنهجِهِ وأخلاقيّاته، حتى لا يتحوّل الحوارُ إلى فوضى فِكريةٍ تلحِقُ الآثارَ السلبيّة على البلاد والعباد، وأن لا يُتَّخَذ الحوار من ذوي المآربِ المشبوهَة مطيّةً للنّيل من المسلَّمَات والمساس بالثوابِتِ.
أمّةَ الإسلام، وسائل الإعلام لها دورها العظيم، ولها مجالها الكبير، عليها مسؤولية عظيمة وعِبءٌ ثقيل في بثِّ قَضايا الأمّة والسّعيِ للدّفاع عنها وحلّها، معَ كشفِ هَجَماتِ الأعداء المسعورَة والوقوف بحزمٍ أمامَ حملاتهم المحمومة وتصحيحِ المفاهيم المغلوطةِ عن دينِنا وعقيدَتِنا.
إنّ بعضَ وسائلِ الإعلام والقنوات الفضائيّة المتهتِّكَة تثير غاراتٍ شَعواء من الشهوات والملذّات، تضرِم نيرانَ الفسادِ والإفساد، تزلزل معاقِلَ الطُّهر والفضيلة. إنّنا نناشِدُ أولِئَك أن يتَّقوا اللهَ في قِيَم الأمّة ومُثُلِها وفضائِلِها، وأن يُبقوا على البقية الباقيَة من حياءٍ لأهلِ الإسلام.
إنَّ استِحواذَ الرذيلة على جوانبَ من حياةِ الأمة عبرَ تلك القنواتِ يُعرِّضهم لأخطرِ المهالك، ويفضي بهم إلى مهاوٍ سحيقة من الظّلْم والظّلَم، خُصوصًا وأنَّ كثيرًا من القلوبِ خاوية من اليقين والخَشية، وهما خير عاصِمٍ من قواصم تلكَ المستنقعاتِ الوبيئة.
إنّ هذا الوَاقعَ لمن أمضى الأسلحةِ التي انتضاها أعداء الأمةِ وبعضُ أفراخهم من بني جِلدَتنا ومن يتكلّمون بلغتنا للقضاء على ما تبقّى من شَأفَتنا، وحسبُك من شرٍّ سماعُه.
فيا إخوتي في الله، أينَ عزّةُ الغَيرة والفضيلةِ والحياء؟! بل أينَ صلابة العقيدةِ وقوّة الإيمان؟! إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [النور:19].
فيا إخوةَ الإسلام، ويا حجّاجَ بيتِ الله الحرام، اتقوا الله عز وجلّ، ولتعلَموا أنَّ ممّا يدعو إلى ضرورةِ وجود الإعلام المتميّز الالتزامَ بميثاق شرَفٍ إعلاميٍّ إسلاميّ يتقيّد بِه جميعُ مُلاّك هذهِ القنوات الفضائيّة في إعلاءِ صرحِ الفضيلة. وإنّ لكم في الإعلامِ الإسلاميّ الهادف الرّصين المرتقِي في أدائِه المبدِع في عرضِه النيِّرِ في فكرِه المتميِّز في طرحِه وأسلوبه خيرُ بديلٍ في تمثيلِ الإسلام أحسنَ تمثيل لمواجهةِ التحدِّياتِ والعَولمَة الإعلاميّة والثقافية المناوئةِ للإسلامِ في بعض وسائل الإسلام العالميّة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إلهَ إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحَمد.
معاشرَ المسلمين، المرأةُ المسلِمة لها رِسالتها، وعليها واجبها العظيم، فهي في الإسلام جوهرة مصونة ودرّةٌ مكنونة، لا بدّ من العنايةِ بها أمًّا أو بنتًا أو زوجةً أو أختًا، لا سيّما في هذه الأزمنة التي كشّر فيها أعداء الإسلام عن هجماتهم ضدَّ المرأة المسلمَةِ بدعوى تحريرها، نَعَم تحريرِها من قِيَمِها وعقيدتها وأخلاقها.
فلنتّق اللهَ عبادَ الله، ولنَعلَم ولتعلَم المرأةُ المسلمة على سبيل الخصوص أنّ عزَّها في حِجَابها. إنَّ الإسلامَ حين شرَع الحجابَ وألزمَ بالحياءِ إنما يصرف المَرأةَ إلى خصَائِصِها ومكانَتِها التي لا يُحسِنها سِواها، ويراعي فطرتها وظروفَها وأنوثَتها، لتمضيَ مع الرّجل في هذا الكَونِ بنِظام بديعٍ، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، قُلْ ءأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ?للَّهُ [البقرة:140].
وللواهمين والواهِماتِ يُقالُ: إنَّ المَرأةَ في مكانَتِها السَّنيَّة بالتزام آدابِ الحجابِ الشرعيّة والضوابط المرعيّة لا يمنَعها ذلك أن تكونَ في قمّة الحضارةِ والرقيّ والعَطاء والنّماء للمجتمعات وإحراز السَّبق العلميّ والتقدّم الاجتماعيّ والنهوضِ بأمّتها والانتِصارِ لدينِها، وإن اضطُرَّت إلى العمَل فبالضوابِط الشرعيّة في بعدٍ عن الاختلاطِ بالرّجال، وأن لا تكونَ رجلَةً تنازِعهم أقدامَهم وتزاحمهم مناكبَهم، حين ذاك يغيضُ ماؤها ويذهَب بهاؤها، فالحذرَ الحذر من كلّ دعوةٍ نشاز تريد أن تهبطَ بالمرأة من سماءِ مجدِها وأن تنزلها من علياءِ كرامتها وإن بدَت بزخرفِ القَول ومعسول الحديث ودعوَى التقدُّميَّةِ المزعومَةِ والمَدنيّة الزائِفَة والحرّية المأفونة.
وإنّنا إذ نحمَد الله على ما امتنّ به على فتاةِ بلاد الحرمين مِن تمثُّل الحجابِ والوقار والحِشمة لنذكِّرها بالمحافظةِ على مكانتها بين قرينَاتها في سَائر المجتمعات، ونحذِّرها في الوقتِ نفسِه أن تُخدَع ببعضِ الأصواتِ النّشاز أو ببعض الأبواق الناعقة التي تتبجّح بالخروج على شِرعةِ الحِشمة والهديِ والمعروف، وإنّ ما تلَوِّح به تلك الأصواتُ المبحوحة إنما هو مسلَكُ المنهزمين والمنهزِمات أمام بريقِ الحضارة الزائفة، والله عزّ وجلّ يقول: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمةُ الخيرية على العالمين، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. فمروا بالمعروف أمرًا رفيقا، وانهوا عن المنكر نهيًا حليمًا حكيمًا حقيقًا، فالحسبةُ قوام الدين، وهي صمام الأمان في الأمّة، فكونوا لها أوفياء، وبأهلها أحفياء، حتى لا تغرقَ سفينةُ الأمّة.
حافظوا على الصلوات مع الجماعة، احفظوا حقوق الله وحقوق إخوانكم المسلمين من عباد الله، احفَظوا أقدارَ العلَمَاء، وصونوا أعراضَ أهلِ الحِسبة والدّعاة الفُضَلاء، وأطيعوا أمرَ من وَلاّه الله أمركم، فقد قرن الله أمرهم بأمره سبحانه وأمر رسوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59].
علَيكم بالصِّدقِ ـ عِبادَ الله ـ والوَفاء بالعهد والأمانة وبرِّ الوالدَين وصِلةِ الأرحام، تراحموا وتلاحموا وتسامحوا، وكونوا عِبادَ الله إخوانًا. احذَروا الربا واحذروا الغِشَّ وقولَ الزور والكذِبَ والخيانةَ، ولا تقرَبوا الزّنا، احذَروا الرّشوةَ، واجتنبوا المخدّرات والمسكِرات. إيّاكم والنّميمةَ والغِيبةَ والظلمَ والتساهُلَ في حقوقِ العِباد، وعليكم بالاعتصام بالكتاب والسنة ولزوم جماعة المسلمين.
هذا وصلوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على البشير النذير والسراج المنير كما أمركم بذلك المولى اللطيف الخبير فقال تعالى قولا كريما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين وأشرف الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في الأدب (6013)، ومسلم في الفضائل (2319) عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، واللفظ لمسلم.
(1/3677)
عيد الأضحى 1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, فضائل الأعمال
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
10/12/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- لكل أمة عيد. 2- الفرق بين أعياد الكفار وأعياد المسلمين. 3- فضل أمة الإسلام. 4- ما يشرع لغير الحاج في هذه الأيام المباركة. 5- الحث على أركان الإسلام والعمل الصالح والتحذير من الشرك والمعاصي. 6- وصايا للنساء. 7- فضل عيد الأضحى. 8- الأضحية وأحكامها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعروةِ الوثقى، فإنّ تقوى الله خير زادٍ ونِعم المدَّخَر ليوم الميعاد.
عبادَ الله، إنَّ لكلّ أمّة عيدًا يعود عليهم في وقتٍ معلوم، يتحقَّق فيه أمَل، ويتَتَابع به عمل، وتتقوَّى به عقيدةُ تلك الأمة، وتقوم فيه بِعبادتها، وتحقِّق به جانبًا عظيمًا من وحدَتها، ويتمثَّل في هذا العيدِ رمزُ وجودها. قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: لِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ [الحج:67] قال: (منسكًا يعني عيدًا) [1].
لكنّ أمّةَ الإسلام تختلِف في عيدها عن الأممِ الأخرى؛ فالأمَم غيرُ الإسلاميّة أعيادُها أعيادٌ جاهلية أرضية من وضعِ البشر، لا تنفع في هداية القلوب بشيء، أمّا أمّةُ الإسلام فقد بنى مجدَها الواحد الصّمدُ رافِع السماء بلا عمد، قال تعالى: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لأسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3].
إنَّ أمةَ الإسلام عميقةُ جذور الحقِّ في تاريخ الكون، متَّصلِةُ الأسباب والوشائج عبرَ الزمان السحيق، قال الله تعالى: إِنَّ هَـ?ذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:92]. وختَم الله الأنبياءَ الذين بعثَهم اللهُ بالدّين الحقِّ عليهم الصلاة والسلام، ختمَهم بسيّد البشر ، فنسخَت شريعته كلَّ شريعة، فمن لم يؤمِن بمحمد فهو في النّار أبدًا. وأمرَه الله تعالى أن يتّبعَ ملّةَ إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ ?تَّبِعْ مِلَّةَ إِبْر?هِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ ?لْمُشْرِكِينَ [النحل:123]. فكانت أمّة الإسلام وارثةَ خليل الرّحمن محمّد ووارثةَ خليل الله إبراهيم الأبِ الثالث للعالَم عليه الصلاة والتسليم.
وأنتم في عيدِكم هذا على إرثٍ حقّ ومَأثَرةِ صِدق من الخليلين عليهما الصلاة والسلام، فقد منَّ الله على المسلمين بعيد الفطر وعيد الأضحى، عن أنس قال: قدِم علينا رسول الله المدينةَ ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ((لقد أبدَلَكم الله بهما خيرًا منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى)) أخرجه أبو داود والنسائي [2].
وقد جعل الله برحمتِهِ وحِكمته هذين العيدَين بعد عبادة عظيمة، فجعل عيدَ الفطر بعد الصيامِ والقيام، ينقُل النفسَ من الجهد والاجتهادِ في العبادة إلى المباحاتِ النافعة التي تجِمّ القلبَ ليستعدَّ لعبادات أخرى، وعيد الأضحى بعد الوقوفِ بِعرفة الذي هو أعظم ركنٍ في الحجّ، فيومُ عرفَة مقدِّمَة ليوم النّحرِ بين يديه، فإنَّ يومَ عرفة يكون فيه الوقوفُ والتضرّع والتوبة والابتهال والتطهُّر من الذنوب والنقاء من العيوب، ثم يكون بعده يومُ النحر وذبحُ القرابين عبادةً لله تعالى وضِيافة ونزلاً من الله الجوادِ الكريم لوفده، ثم يأذن الله لوفده بزيارته والدخول إلى بيته العتيق بعد أن هذِّبوا ونُقُّوا ليتفضّل عليهم ويكرمهم بأنواع من الكرامات والهبات، لا يحيطُ بها الوَصف.
وعيدُكم هذا سمّاه الله في كتابِه يومَ الحجِّ الأكبر؛ لأنّ أكثَرَ أعمال الحجِّ تكون فيه، وجاء في فضل هذا العيد ما رواه أحمد وأبو داودَ من حديث عبد الله بن قُرط أن النبيَّ قال: ((أفضل الأيّام عند الله يومُ النحر ويوم القرّ)) [3] ، وهو اليومُ الذي بعد يومِ النّحر، أي: الحادي عشر.
ومن رحمةِ الله وحِكمته أنّه إذا شرع العملَ الصالح دعا الأمّةَ كلَّها إلى فعله، وإذا لم يتمكَّن بعض الأمّة من ذلك العملِ الصالح شرَع لهم من جنسِه من القرُبات ما ينالون به من الثوابِ ما يرفع الله به درجاتهم، فمن لم يقدَّر له الوقوفُ بعرفات للحجّ شرع الله له صيامَ عرفة الذي يكفّر السنة الماضية والقابلةَ، وشرَع له الاجتماعَ لعيدِ الأضحى في مصلّى المسلمين وصلاةَ العيد والذكر والأضحيةَ قُربانًا لله تعالى، كما يتقرَّب الحاجّ بالذبح لله يوم النّحر اتِّباعًا لهدي نبيّنا محمّد ، وتمسُّكًا بملّة أبينا إبراهيم ، وتحقيقًا لعبادةِ الله وحدَه لا شريك له، وتوحيدًا لقلوبِ الأمّة، وجمعًا لكلمتِها، وربطًا لأمّة الإسلام بهُداتها العِظام الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام، فقد أوقَفَ جبريل عليه الصلاة والسلام نبيَّنا على المشاعِرِ والمناسِكِ كلِّها منسكًا منسكًا، وشرَع الله له كلَّ قُربة صالحة كما فعل من قبلُ مع أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، إنَّ عيدَكم هذا ذو منافعَ عظيمة وفوائدَ كريمة، منافعُه في العبادةِ حيثُ يتقرَّب فيه المسلم بأحبِّ الأعمالِ إلى اللهِ تعالى، ومنافِعُه في الاجتماعِ حيث يتواصَل فيه المسلِمون ويتزاوَرون ويترابَطون ويتسَامحون ويتوادّون فيكونونَ كالجسدِ الواحِد، تتلاشى فيه الضغائن والحزازاتُ والأحقاد، وتنتهِي فيه القطيعةُ والتّدابُر، فيكون المسلِمون بنعمة الله إخوانًا، ويتعرّضون في هذا العيد وفي مجتمعه لنفحات الله، ويسألون الله من فضله في الدنيا والآخرة، فتغشاهم الرحمة من الله، ويستجيب الله تبارك وتعالى لهم، ويرحم اجتماعهم، ويتفرَّقون بغنائمَ منَ الله وفَضل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عبادَ الله، الصلاةَ الصلاةَ؛ فإنها عمودُ الإسلام وناهيَةٌ عن الآثام، أقيموها في بيوتِ الله جماعة؛ فإنها أوّل ما يُسأَل عنه العبدُ يومَ القيامة، فإن قبِلت قُبِلت وسائِر العمل، وإن رُدَّت رُدَّت وسائر العمل، وأدّوا زكاةَ أموالِكم طيّبةً بها نفوسُكم؛ فمن أدّاها فلَه البركةُ في مالِه والبشرى له بالثّواب، ومن بخل بها فقد مُحِقت بركة مالِه والويل له من العقاب، وصومُوا رمضانَ، وحُجّوا بيتَ الله الحرام؛ تدخلوا الجنّة بسلام.
وعليكم ببرِّ الوالدين وصِلَة الأرحام، فقد فاز من وفَّى بهذا المقام. وأحسنوا الرعايةَ على الزوجات والأولادِ والخدَم ومن ولاّكم الله أمرَه، وأدّوا حقوقهم، واحمِلوهم على ما ينفعهم، وجنِّبوهم ما يضرّهم، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، وفي الحديث عن النبيِّ : ((كلُّكم راع، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته)) [4].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، إيّاكم والشِّركَ بالله في الدّعاءِ والاستِعانة والاستِغاثة والاستِعاذة والذّبح والنذر والتوكُّل والخوف والرجاء ونحو ذلك من العبادة؛ فمن أشرك بالله في عبادَتِه خلَّدَه الله في النار، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18].
وإيّاكم وقتلَ النفس التي حرَّم الله، ففي الحديث: ((لا يزال المسلِمُ في فسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا)) [5] ، ولزوالُ الدّنيا أهوَن عند الله من قتلِ رجلٍ مؤمِن.
وإيّاكم والرّبا؛ فإنه يوجِب غضَبَ الربّ، ويمحَق بركة المال والأعمار، وفي الحديث: ((الرِّبا نيِّفٌ وسبعون بابًا، أَهونُها مِثل أن ينكِحَ الرّجل أمَّه)) [6].
وإيّاكم والزِّنا؛ فإنّه عارٌ ونار وشَنار، قال تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، وفي الحديث: ((ما مِن ذنبٍ أعظم عند الله بعد الشِّرك من أن يضَعَ الرجل نطفتَه في فرجٍ حرام)) [7].
وإيّاكم وعملَ قومِ لوطٍ؛ فقد لعن الله من فعل ذلك، قال : ((لعَن الله من عَمِلَ عملَ قومِ لوط)) قالها ثلاثًا [8].
وإيّاكم والمسكراتِ والمخدِّرات؛ فإنّها موبِقاتٌ مهلِكات، توجب غضَبَ الربِّ، وتمسَخ الإنسان، فيرى الحسنَ قبيحًا، والقبيحَ حسنًا، عن جابر أنّ النبيَّ قال: ((كلُّ مسكرٍ حرام، وإنّ على الله عهدًا لمن يشرَب المسكر أن يسقيَه من طينة الخبال، عُصارةِ أهل النار)) رواه مسلم والنسائي [9].
وإيّاكم وشربَ الدّخان، قال تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِندَ ?للَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، وهو باب من أبواب الشرّ كبير، يفتح على الإنسان شرورًا كثيرة.
وإيّاكم وأموالَ المسلمين وظلمَهم؛ فمن اقتطَع شبرًا من الأرض بغيرِ حقٍّ طوَّقه الله إياه من سبعِ أراضين.
وإيّاكم وأموالَ اليتامى؛ فإنّه فَقرٌ ودمار وعقوبة عاجلة ونار.
وإيّاكم وقذفَ المحصنات الغافلات، فإنه من المهلِكات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وإيّاكم والغيبةَ والنميمة؛ فإنها ظلمٌ للمسلم وإثم، تذهَب بحسناتِ المغتاب، وقد حرَّمها الله في الكتاب.
وإيّاكم وإسبالَ الثياب والفخرَ والخُيَلاء، ففي الحديثِ: ((ما أسفَلَ من الكعبَين فهو في النّار)) [10].
يا معشرَ النِّساء، اتَّقين اللهَ تعالى، وأطِعن الله ورسوله، وحافِظن على صلاتِكنّ، وأطعنَ أزواجكنّ، وارعَينَ حقوقهم، وأحسِنَّ الجوار، وعليكنّ بتربيةِ أولادكنّ التربيةَ الإسلامية ورعاية الأمانة، وإيّاكنّ والتبرجَ والسفور والاختلاطَ بالرّجال، وعليكنّ بالسِّتر والعفاف؛ تكنَّ من الفائزات، وتدخُلنَ الجنّةَ مع القانتات، عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله : ((إذا صلَّت المرأة خمسَها وصامت شهرَها وحفِظت فرجَها وأطاعت زوجَها قيل لها: ادخُلي الجنّةَ من أيِّ أبواب الجنة شِئتِ)) رواه أحمد والطبراني [11].
وعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: جاء النبيُّ مع بلال إلى النّساء في عيد الفطر فقرأ: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ?لْمُؤْمِنَـ?تُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى? أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِ?للَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـ?دَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَ?سْتَغْفِرْ لَهُنَّ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [الممتحنة:12]، ثم قال: ((أنتُنّ على ذلك؟)) قالت امرأة: نَعَم يا رسول الله [12]. وروى الإمام أحمدُ أنّ أُمامةَ بنت رُقيقة بايعَت رسولَ الله على هذه الآية، وفيه: ((ولا تنوحِي، ولا تبرَّجي تبرُّجَ الجاهلية)) [13]. ومعنى وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـ?نٍ يَفْتَرِينَهُ أي: لا يلحِقنَ بأزواجهنّ غيرَ أولادهم؛ لحديث أبي هريرة : ((أيما امرأةٍ أدخلت على قومٍ ولدًا ليس منهم فليسَت من الله في شيءٍ ولن تدخُلَ الجنّة)) رواه أبو داود [14].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57، 58]
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه ابن جرير في تفسيره (17/198)، وعزاه السيوطي في الدر (6/47) لابن أبي حاتم.
[2] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1134)، سنن النسائي: كتاب العيدين (1556)، وأخرجه أيضا أحمد (3/103)، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وصححه الحافظ في الفتح (2/442)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1004).
[3] أخرجه أحمد (4/350)، وأبو داود في المناسك (1765)، والنسائي في الكبرى (4098)، وصححه ابن خزيمة (2866)، وابن حبان (2811)، والحاكم (4/246)، وأقره الذهبي، ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني في الإرواء (1958).
[4] أخرجه البخاري في كتاب الجمعة (844)، ومسلم في كتاب الإمارة (3408) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[5] أخرجه البخاري في الديات (6862) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] أخرجه الطبراني في الأوسط (7151) عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (4/117): "فيه عمر بن راشد وثقه العجلي وضعفه جمهور الأئمة"، وحكم عليه أبو حاتم بالانقطاع كما في العلل لابنه (1/381)، ولكن له شواهد يصحّ بها، ولذا صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1871).
[7] عزاه السيوطي في الجامع لابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي، وأخرجه ابن الجوزي من طريقه في ذم الهوى (ص190) والهيثم تابعي ثقة، فهو مرسل، والراوي عنه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1580).
[8] أخرجه أحمد (1/309)، وأبو يعلى (2539)، والطبراني (11546)، والبيهقي (8/231) عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل، وصححه ابن حبان (4417)، والحاكم (4/356)، وذكره الألباني في صحيح الترغيب (2421).
[9] صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2002).
[10] أخرجه البخاري في كتاب اللباس (5787) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[11] مسند أحمد (1/191) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، قال المنذري في الترغيب (2/671): "رواة أحمد رواة الصحيح خلا ابن لهيعة، وحديثه حسن في المتابعات"، وعزاه الهيثمي في المجمع (4/306) للطبراني في الأوسط وقال: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح"، وقال الألباني في صحيح الترغيب (1932): "حسن لغيره".
[12] أخرجه البخاري في التفسير (4895)، ومسلم في العيدين (884).
[13] مسند أحمد (2/196) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وأخرجه أيضا الطبري في التفسير (28/79)، والطبراني في مسند الشاميين (1390)، وعزاه الهيثمي في المجمع (6/37) للطبراني وقال: "رجاله ثقات"، وحسنه الألباني في جلباب المرأة المسلمة (121).
[14] سنن أبي داود: كتاب الطلاق (2263)، وأخرجه أيضا النسائي في الطلاق (3481)، وابن ماجه في الفرائض (2743)، والدارمي في النكاح (2238)، والبيهقي في الكبرى (7/403)، وصححه ابن حبان (4108)، والحاكم (2814)، لكن في إسناديه مجهولان، ولذا ضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1427).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر كلّما ضجَّت الأصواتُ بالدعوات، الله أكبر كلّما تقرَّب العابدون بالصالحات، الله أكبر كلَّما تعرَّضوا لنفحاتِ الرحمن في عرفات، وكلّما سفَحت الأعين هنالك من العَبَرات، الله أكبر كلَّما تعاقب النورُ والظلُمات، الله أكبر عددَ ما خلق في السماء، الله أكبر عدَدَ ما خلَق في الأرض، الله أكبر عدَدَ كلِّ شيء، الله أكبر ملءَ كلِّ شيء، الله أكبر عدَدَ ما أحصاه كتابه ومِلءَ ما أحصاه كتابه.
الحمد لله ربِّ العالمين، أعزَّ بطاعته المتّقين، وأذلَّ بمعصيته الفاسقين، الذي نزَّل الكتابَ وهو يتولَّى الصالحين. أشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له القويّ المتين، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله الأمين، بعثه الله بين يدَيِ الساعة رحمةً للعالمين، لينذِر من كان حيًّا ويحقَّ القول على الكافرين، اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ تفلحوا، وأطيعوه تهتَدوا.
عبادَ الله، إنَّ يومكم هذا يومٌ فضيل وعِيدٌ عظيم جليل، يجتمع فيه الحاجّ بمنى، يكمِّلونَ أنساكَ حجّهم، ويذبحون قرابينَهم للإله الحقّ لا ربَّ غيره، إِحياءً لسنّة أبيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بشرعِ نبيِّنا محمّد ، فقد أمر الله خليلَه إبراهيم بذبحِ ابنه الوحيد إسماعيلَ عليه السلام، فبادَرَ إلى ذلك مُسارِعًا، وأتى الأمر طائعًا، فلمّا أضجعه للذّبح سلَب الله السكينَ حدَّها، وعالج الذّبحَ بالسّكّين فلم تنفُذ في الرقبة، فلمّا اطَّلع الله على العزمِ الأكيد واليقينِ الوَطيد فدى الله إسماعيلَ عليه السلام بذِبحٍ عظيم، وفاز الخليلُ عليه الصلاة والسلام في هذا الابتلاء، وحقَّق درجةَ الخلّةِ التي لا تقبَل الشّرِكة، فأراد الله أن تكونَ خلّةُ إبراهيم خالصةً لله، لا يشاركه فيها محبّةُ الولد، والمحبّةُ والذلّ والانقياد هي العبادَة.
وقد وفَّى مقامَ الخلّةِ أيضًا سيّدُ البشر نبيّنا محمّد ، فقد اتخذه الله خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً. رواه البخاري [1].
ووَقفَ العالَم مطَّلِعًا على هذا الابتلاء لأبينَا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ورَوَتها الأجيالُ من جميعِ الملَلِ عبرَ التاريخ، معظِّمين هذا الإيمانَ الأعلى، وكان ذبحُ أبينا إبراهيم لفِداءِ ابنِه الذي فُدِي به من الرّبِّ تبارك وتعالى، كان سُنّةً في بنيه في هديِ الحجّ وأضاحي المسلمين.
جاء في فضلِ الأضحية عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبيِّ : ((ما عمِل ابن آدم في يومِ أضحَى أفضل من دم يُهراق إلا أن يكونَ رحِمًا يوصَل)) رواه الطبراني [2] ، وعن أبي سعيد الخدريّ عن النبي قال: ((يا فاطمةُ، قومي إلى أضحيتك فاشهدِيها، فإنّ لك بكلِّ قطرةٍ من دمها أن يغفرَ لكِ ما سلف من ذنوبك) )، قالت: يا رسولَ الله، ألنا خاصّة أهلَ البيت، أو لنا وللمسلمين؟ قال: ((بل لنا وللمسلمين)) رواه الطبراني والبزار [3].
واعلَموا أنّ الشاةَ تجزئ في الأضحية عن الرجل وأهلِ بيته، وتجزئ البدنةُ وهي الناقة عن سبعة، والبقرة عن سبعةٍ، ولا يجزئ من الضّأن إلا ما تمّ له ستّةُ أشهر، ولا من المعزِ إلاّ الثني وهو ما تمَّ له سنة، ولا يجزِئ من الإبل إلا ما تمَّ له خمس سنين، ولا من البقَر إلا ما تمّ له سنتان.
ويُستَحَبّ أن يتخيَّرها سمينةً صحيحة، ولا تجزئ المريضةُ البيِّن مرضُها، ولا العوراء، ولا العجفاء وهي الهزيلةُ، ولا العرجاءُ البيِّن ظلَعها، ولا العَضباء التي ذهب أكثرُ أُذنها أو قرنِها، وتجزئ الجمّاء والخصيّ.
والسّنّة نحرُ الإبل قائمةً معقولةَ اليدِ اليسرى، ويقول عند الذبح: بسم الله والله أكبر، اللهمّ هذا منك ولَك.
ويُستحَبّ أن يأكلَ ثُلُثًا، ويهدِيَ ثلثًا، ويتصدَّق بثلُث، ولا يعطي الجزارَ أجرتَه منها.
ووقتُ الذبح بعد صلاةِ العيدِ ويومان بعده باتفاق أهل العلم، واليومُ الذي بعد ذلك فيه خلاف بينهم، والأرجح جوازه.
عبادَ الله، تذكَّروا ما أمامَكم من الأهوالِ والأمور العِظام بعدَ الموت، وتفكَّروا فيمَن صلَّى معكم في هذا المكان في سالِفِ الزمان من الآباء والأحبَّة والإخوان، كيف خلَّفوا الدّنيا ووَارَاهم التّرابُ وانصرَفَ عنهم الأحباب، ولم ينفَعهم إلا ما قدَّموا، ولم يلازِمهم إلا ما عملوا، يتمنَّونَ استدراكَ ما فرط وفاتَ، وأنَّى للحياة الدنيا أن ترجِعَ للأموات؟!
وتفكَّروا في القرونِ الخالية العظام الشداد، الذين غرَسوا الأشجارَ، وأجرَوا الأنهار، واختَطّوا المدنَ والأمصار، وتمتَّعوا باللّذّات في طول أعمار، كيف نقِلوا إلى ظلُمات اللحود ومراتِع الدود، وإن ما أتى على الأوّلين سيأتي على الآخرين.
فأعِدّوا للحياةِ الطيّبة الأبديّة، ولا تركَنوا لحياةِ النّصَب والمكارِه والأذيّة، فليست السعادةُ في لبسِ الجديد ولا في أن تأتيَ الدنيا على ما يتمنَّى المرءُ ويريد، لكنّ السعادةَ والله في تقوى الله عز وجل والفوز بجنّة الخُلد التي لا يفنى نعيمُها ولا يبيد، والنجاة من نارٍ عذابها شديد، وقعرها بعيد، وطعامُ أهلِها الزقّوم والضّريع، وشَرابهم المهلُ والصّديد، ولِباسُهم القطِران والحديد.
عبادَ الله، اشكروا ربَّكم على ما منَّ الله به عَليكم في هذه البلادِ من الأمن والإيمان وعافِيةِ الأبدان وتيسُّر الأرزاقِ وتوفُّر مرافق الحياةِ وانطِفاء نارِ الفِتن المدمِّرة، واستديموا نعَمَ الله بشُكرِه وطاعته.
عباد الله، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين.
اللّهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كبيرًا. اللهمّ ارض عن الصحابة أجمعين...
[1] رواه مسلم في المساجد (532) عن جندب رضي الله عنه.
[2] عزاه الهيثمي في المجمع (4/18) للطبراني في الكبير، وقال: "فيه يحيى بن الحسن الخشني وهو ضعيف، وقد وثقه جماعة"، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (525).
[3] أخرجه الحاكم (4/222) من طريق عطية عن أبي سعيد، قال الذهبي: "عطية واه"، وعزاه المنذري في الترغيب (2/100) للبزار ولأبي الشيخ في الضحايا وقال: "في إسناده عطية بن قيس وثق وفيه كلام"، وكذا قال الهيثمي في المجمع (4/17)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2/15).
(1/3678)
سلام الاحتلال الإسرائيلي
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
11/12/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- السلام الموهوم. 2- السلام الذي تريده إسرائيل. 3- خذلان الأمة الإسلامية للقضية الفلسطينية. 4- سبب الذل والهوان. 5- عزة السلف الصالح. 6- تخطيط الاحتلال الإسرائيلي. 7- فخ محاربة الإرهاب. 8- خطر تقسيم العراق. 9- الخسائر الأمريكية في أرض الرافدين. 10- عيد المسلمين. 11- من أحكام الضحية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها المسلمون، من المؤلم أنّ شعبنا الفلسطيني المسلم والذي لا يزال يدفع ثمن صموده وتمسكه بأرضه ووطنه قوافل الشهداء من خيرة أبناء شعبنا، من المؤلم أنه لا يزال يتوهم بإمكانية تحقيق السلام الذي يعيد لهذا الشعب أرضه ويحفظ كرامته، ويسعى جاهدا للبرهنة على رغبته بالسلام من خلال تنفيذ خطوات تفرَض عليه من هنا وهناك.
وفي الوقت نفسه نرى الجانب الإسرائيلي يمعن برفضه أية مبادرات للتسوية أو وقف العدوان، سواء كانت هذه المبادرات من قبل حليفتها الإستراتيجية أمريكا، أو من قبل دول أوروبا أو دول عربية، لأنها على قناعة تامة بأن أمنها ونظرتها الاستيطانية التوسعية لن تخضع للمساومات أو التنازلات.
إن شعبنا الفلسطيني بكوادره وقياداته لا يعرف بعد حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي، فالفلسطينيون لا يزالون يتخبطون، رغم الأسر والمعاناة في الرؤيا المستقبلية، بل إنهم يعملون لخلاص من الواقع المر، نتيجة خذلان وتخاذل الأمة ونكوص الأمة العربية عن نصرة شعبنا الفلسطيني، فهو يسارع إلى إنقاذ نفسه، ولكن حاله كالمستجير بالرمضاء، ومن حال سيئ إلى حال أسوأ.
عباد الله، شعبنا يقتل كل يوم في أرضنا المباركة، قلنا في أنفسنا: لعل المسلمين على الأقل يظهرون بمظهر الحزن، ولو يوما واحدا، لعل دور اللهو وأماكن الفساد تغلق أبوابها، لعل الخمارات تستحي حدادا على الشهداء والجرحى، فما رأينا شيئا من ذلك، وللأسف أن موقف قادتكم صمت كصمت القبور، سلبية قاتلة، لا حراك، جثة هامدة لا حياة فيها، لم نر واحدا منهم يتكلم على ذلك.
عباد الله، المسلمون الأوائل كانت لهم عزة لأنهم عرفوا الله، وضربت علينا المهانة لأننا نسينا الله، كانت لهم عزة وكرامة، كانت لهم هيبة وصرخة، لأنهم عرفوا الله وعملوا لله وأخلصوا دينهم لله، فعرفهم الله ونصرهم وثبت أقدامهم، نحن تفرقنا وتبددنا وتشتتنا وهُنّا على الناس لأننا نسينا الله, لم نقرأ قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19].
عباد الله، تذكروا حقيقة واضحة أننا إذا تمسكنا بديننا فسوف تكون لنا العزة والكرامة، انظروا إلى عزة الإسلام ومجده زمن عمر بن عبد العزيز، فقد بلغ إلى مسامعه أن أسيرا مسلما أهين في بلاد الروم، فكتب إلى ملك الروم: "أما بعد، فقد بلغني أنك أهنت مسلما كتب الله له الكرامة والعزة، فإذا بلغك كتابي هذا فخل سبيله وإلا غزوتك بجنود أولها عندك وآخرها عندي".
انظروا ـ يا عباد الله ـ أيام الخلفاء الراشدين والأمراء الصالحين، أيام نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي، كانت أيام نصر وعز للإسلام والمسلمين، كلما وجدتم اقترابا من الإسلام وجدتم القوة والعزة والازدهار والنصر. أسرانا داخل السجون يعذبون، ليس لهم من نصير إلا الله، وكفى بالله هاديا، وكفى بالله نصيرا.
وبهذه المناسبة من هذه الرحاب الطاهرة نهنئ إخوتنا الأسرى الذين تم إطلاق سراحهم من سجون الاحتلال، ونسأل الله تعالى أن يفرج كرب الباقين، وأن يطلق سراحهم، وأن يؤيدهم بقوته، والله على كل شيء قدير.
أيها المسلمون، متى يدرك شعبنا بل متى تدرك أمتنا أن التخلي عن البعد الديني العقدي لحقيقة الصراع العربي الإسرائيلي أو العربي الأمريكي لن يحقق النصر لقضايانا المصيرية العادلة، ولن يتحقق السلام المسلوب، بل يعطي الأعداء فرصة التحكم بمقدرات الشعوب وإملاء الشروط؟
أيها المسلمون، إسرائيل تخطط حاليا لشق طريق القطار السريع من القدس إلى تل أبيب عبر أراضي الضفة الغربية، وأمس كان جدار الفصل العنصري قد ابتلع الأرض الفلسطينية وجزأها إلى مقاطع، فماذا بقي للفلسطينين من أراض؟! وغدا تقوم الاحتجاجات الفلسطينية على طريق القطار السريع كما قامت على الجدار العازل، فماذا كانت النتيجة؟! بل كيف ستكون؟!
إمعان في الغطرسة الإسرائيلية، ومزيد من القتل والتدمير وسفك الدماء. إسرائيل تعتزم إزالة ما تبقى من جدار المغاربة لتوسيع حائط البراق، ولم تكن هذه الفكرة وليدة اليوم، وإنما تحدثت عنها وسائل الإعلام الإسرائيلية في العام 1994م، وعلى لسان مهندس بلدية القدس آنذاك.
أمام هذه الغطرسة نسمع وللأسف تعليقات، وتتعالى الأصوات هنا وهناك لوقف ما يسمى عسكرة الانتفاضة، وكأن الأمر يظهر أن الفلسطينيين هم المعتدون وهم الجناة، والأعداء هم الضحية.
عباد الله، إن السقوط في فخ محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية هو طعن لقيمنا الإسلامية ولوجودنا في أرضنا المباركة. إن تكريس الاحتلال وإضفاء الشرعية عليه من خلال عملية المفاوضات والتي تسعى أمريكا إلى فرضها على طرف واحد هو الفلسطينيون استنادا إلى شرعية الانتخابات الفلسطينية هو المصير الأسود الذي ينتظر أمتنا، وهذا هو الإخفاق بعينه والتخبط بذاته.
إسرائيل ماضية وفق سياسة واضحة المعالم، لا سلام يعرض أمنها للخطر، ولا سلام يمنح الفلسطينيين حقوقهم المشروعة باستعادة أراضيهم المحتلة والمغتصبة، ولا سلام يؤمن عودة المهاجرين والنازحين إلى ديارهم. إسرائيل تتبنى سياسة "نعم لسلام الاستسلام"، نعم للسلام الذي يضفي الشرعية على إقامة المستوطنات وترسيم الحدود وفق مسار جدار الفصل العنصري.
أيها المسلمون، في العراق حرب ضد السنة، ضد الإسلام، أصحاب الأراضي وأصحاب الحق وأصحاب السيادة وأصحاب العقيدة الصحيحة، يحاربون علنا لاستبعادهم عن أية مناصب حكومية رسمية في بغداد.
تنبهوا إلى مخاطر التقسيم الطائفي في العراق، تنبهوا إلى مخاطر حرية الأديان التي تريدها الإدارة الأمريكية في العراق، إنها الحرب ضد الإسلام من خلال ضرب السنة وإقصائهم عن سدة الحكم وجعلهم أقلية ضعيفة، ثم يتحدثون عن وحدة العراق سنة وشيعة وأكرادا، والواقع يسير نحو الانفصال، ونحو الحكم الذاتي لكل من الشيعة في الجنوب والأكراد في الشمال.
إن تفتت وحدة العراق هو الهدف الرئيسي للعدوان الأمريكي، وإذا كان المسلمون السنة يواجهون هذا المخطط بالمقاومة الشرسة المشروعة فإن على الأمة الإسلامية التنبه إلى هذا الوضع الخطير.
غير أن بشائر النصر ستأتي من أرض الرافدين، فالخسائر الأمريكية الفادحة التي تمنى بها قوات الغزو الأمريكي كبيرة جدا، والخبراء العسكريون يتوقعون إطالة أمد الحرب والاحتلال، وأن أمريكا بحاجة إلى نصف مليون جندي لمواجهة المقاومة، وأنها لن تحقق ما خططت له من قبل، وستخرج من أرض الرافدين مدحورة إن شاء الله.
عباد الله، ما أحوجنا لرجل مثل خالد بن الوليد رضي الله عنه سيف الله المسلول، ما أحوجنا إليك يا خالد لتحرير المسجد الأقصى، خالد الذي دحر دولة الفرس في أحد عشر يوما.
اسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ لهذا البطل وهو على فراش الموت كان يقول، كان يبكي بدموع الأسى ويقول: (ها أنا أموت على فراشي كما يموت البعير، وقد خضت مائة معركة في سبيل الله، وليس في جسمي قيد شبر إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، وكنت أود أن أموت شهيدا في سبيل الله، فلا نامت أعين الجبناء).
فاتقوا الله يا عباد الله، وتذكروا قول رسول الله: ((تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
عباد الله، نحن اليوم في اليوم الثاني من أيام عيد الأضحى المبارك الذي هو من معالم الدين ومظاهر الابتهاج، شرعه الله إظهارا لشعائر الدين وإعلاء لذكره وابتهاجا بأداء طاعته عند البيت المحرم.
هذا هو أكبر عيد للمسلمين وأعظمه بينهم، شرع الله فيه التكبير من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، خمسة أيام متوالية، يكبر الحجاج في أرض الحرم، فيتردد الصدى في الآفاق، فيجيب العالم الإسلامي بالمثل، والكل يقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلا، الله أكبر، الله أكبر، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
واعلموا ـ يا عباد الله ـ أن الله قد شرع لكم في عيدكم هذا سنة الأضاحي، ووقتها بعد صلاة العيد إلى قبيل مغيب شمس اليوم الرابع من أيام العيد. ويسن أكل ثلثها، والتصدق بثلثها على الفقراء، وإهداء ثلثها إلى الأقارب والأصدقاء. ويسن للذابح أن يصلي ويسلم على النبي ويكبر ثلاثا ويقول بعد التسمية: اللهم هذا منك وإليك، فتقبل مني. وسن التوسعة في العيد على الأهل والإحسان إلى الفقراء وزيارة الأرحام والأقارب.
أيها المؤمنون، إليكم هذه التنبيهات بالنسبة لأضحية العيد:
أولا: لا يجوز ذبح الأضحية إلا بعد صلاة العيد لقول الرسول : ((من ذبح قبل الصلاة فليعد ذبيحته، ومن ذبح بعد الصلاة فقد أدى السنة)).
ثانيا: يستحب لك أن تقسم الأضحية إلى ثلاثة أقسام: قسم لك ولأهل بيتك، وقسم للفقراء والمساكين، وقسم تهدي منه أصدقاءك.
ثالثا: إذا أردت أن تعطي الفقراء من الأضحية فأعطهم أفضل الأقسام الثلاث، فالرسول جيء له بكبشين أملحين أقرنين فذبح أحدهما وقال: ((اللهم إن هذا عن محمد وآل محمد)) ، وذبح الثاني وقال: ((اللهم إن هذا عن فقراء المسلمين)).
فلا تحزن أيها الفقير، فقد ضحى عنك البشير النذير، ودخل النبيّ آخر النهار بيته، وسأل زوجته عائشة: ((يا عائشة، كم بقي من الأضحية؟)) فقالت: يا رسول الله، تصدقنا بها كلها، ولم يبق إلا ذراعها، أتدرون ماذا قال لها المصطفى؟ قال لها: ((بل كلها باقية إلا ذراعها يا عائشة)).
اليوم الحادي عشر من شهر ذي الحجة، وفيه يرمي الحجاج الجمار الثلاثة، بإحدى وعشرين حصاة توزع سبعا فسبعا فسبعا، ويقضون ليلة ثانية بمنى، وغدا يرمون الجمار الثلاثة بإحدى وعشرين حصاة أخرى، فيكون مجموع الحصيات تسعا وأربعين حصاة مع رمي اليوم الأول، وصدق المولى الكريم وهو يقول: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].
إبليس عدو الله يرجم، كلهم يحثون الجمار على رأسه، يبكي ويقول: ويلي، أضِلّهم طول العام ويغفر لهم هذا اليوم.
فاتقوا الله يا عباد الله، وأخلصوا نياتكم لله، تفوزوا برضاه.
فكن ـ أيها المسلم ـ مثل السلف الصالح رضوان الله عليهم: زاهدا في هذه الدنيا الفانية، وارغب في حياتك الباقية، واعمل الصالحات، واجتنب المنكرات، تفز برضوان رب الأرض والسماوات...
(1/3679)
افتتاح مسجد وآداب المساجد
فقه
المساجد
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
1/12/1424
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مسجد جديد. 2- فضل المساجد. 3- التوفيق لخدمة المساجد. 4- واجبنا نحو بيوت الله تعالى. 5- أهل المسجد وفد الله. 6- دور المسجد الاجتماعي. 7- وجوب احترام المساجد وصيانتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فهذا بيت من بيوت الله يُبنى وتُشرع أبوابه لعباد الله الصالحين، وهذه واحة من واحات الإيمان تفتح ذراعيها للمؤمنين الصادقين، وهذا ملجأ أمن للحائرين التائهين؛ ليعودوا إلى رحاب رب العالمين، وليؤموا بيته فيكونوا من المفلحين.
المساجد ـ عباد الله ـ أماكن رفعها الله وأعظم قدرها، فقال عز من قائل: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [النور:36-38]. قال القرطبي في أحكام القرآن عن هذه الآية: " أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ أي: تُعظّم"، وقال ابن كثير في تفسيره: " فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ أي: أمر الله بتعاهدها وتطهيرها من الدّنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها".
هذه هي المساجد، بيوت كرمها الله سبحانه، بل زاد في تكريمها بأن نسبها إلى نفسه سبحانه فقال: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، فأيّ رفعة أعظم من هذه الرفعة؟! وأي قدر أرفع من هذا القدر؟! ولقد كرم رسول الله بيوت الله فعلا وقولا، وأخبر بأنها أفضل البقاع في الأرض، يقول فيما أخرجه الطبراني والحاكم من حديث ابن عمر: ((خير البقاع المساجد، وشر البقاع الأسواق)). وما دام رب العالمين قد رفع المساجد وأعلى ذكرها وكذلك رسوله الكريم فلا بد لنا من منطلق الإيمان والطاعة لله ورسوله أن نعلي المساجد ونحترمها ونرفع قدرها؛ لنكون عبادا خاضعين خاشعين لربّ العالمين عاملين بسنة خير المرسلين. فما الواجب علينا تجاه المساجد؟
إن الموفق ـ عباد الله ـ هو من وفقه الله سبحانه لخدمة بيوت الله واحترامها وتعميرها، فذلك هو الموفق وذلك هو المؤمن الحق؛ لذلك حصر الله أمر عمارة مساجده في هذا الصنف من الناس الذين نالوا هذا الشرف العظيم، يقول سبحانه: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وأقام الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُولِئَكَ أَن يَّكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التوبة:18]. فالموفّق هو من اتجه إلى بيوت الله فعمرها بالصلاة والذكر والعمل الصالح، والمخذول هو من هجرها وابتعَد عنها؛ لذا فلنعلم جميعا أن تعميرنا لبيوت الله واحترامنا لها ليس منَّة منا، بل هو توفيق إلهي واصطفاء رباني يجب أن نشكر الله عليه ونحمده أن اختارنا من بين الناس لهذا الشرف العظيم، وهذا يدعونا جميعا أن نقوم بواجباتنا الشرعية نحو مساجدنا؛ لننال بحق هذا الشرف العظيم وهذه المنزلة الرفيعة.
ومن أهم هذه الواجبات نحو بيوت الله إعمار هذه البيوت وعبادة الله فيها؛ لأن المساجد لهذا بنيت وهذه أول وظائفها، ومن هذه الواجبات أن لا ترفع فيها الأصوات، وأن يُبتعد فيها عن الهرج والمرج والصخب؛ لأنها مكان لاطمئنان القلوب وسكينة الأنفس وخشوع الجوارح، وأن يُبتعد فيها أيضا عن كثير من الأمور والمشاغل الدنيوية التي ليس محلها المسجد كالبيع والشراء وغيرها، يقول فيما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة: ((إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا رد الله عليك ضالتك)).
ومن الواجبات نحو المساجد أن لا يُبالغ في تزيينها وزخرفتها والتعالي فيها لأجل التباهي، فهذا أمر ممقوت وهو من علامات الساعة، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن من أشراط الساعة أن يتباهى الناس بالمساجد)) أخرجه ابن خزيمة.
ومن واجباتنا نحو المساجد أن نتزيّن لها وأن نهتمّ بهندامنا ورائحتنا إذا أردنا الذهاب إليها، فلا يعقل أن يتهيّأ المسلم بأحسن ثيابٍ وأحسن مظهر إذا أراد مقابلة بشر من الخلق ويهمل نفسه إذا أراد الدخول إلى بيت خالق الخلق ومقابلة جبار السماوات والأرض، يقول سبحانه: يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31]، بل إن الإسلام يأمرنا إذا تلبَّسنا برائحة خبيثة كرائحة الثوم أو البصل أن نعتزل المساجد حتى لا نؤذي الملائكة ولا نؤذي المؤمنين، رغم أن أكل الثوم والبصل حلال في الأصل، يقول صلى الله عليه وآله وسلم فيما اتفق عليه الشيخان من حديث جابر رضي الله عنه: ((من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا وليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته)) ، وعلل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بأنه يؤذي الملائكة كما يؤذي البشر، ففي لفظ آخر للحديث يقول : ((من أكل من هذه الشجرة الخبيثة ـ أي: الثوم ـ فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)) متفق عليه.
ومن واجبنا نحو المسجد أن نحفظه من الأوساخ والفضلات والمخلّفات البشريّة كالبصاق وغيره، بينما في وقتنا هذا لا يحلو للمسلم أحيانا البصاق إلا في المسجد، ولا يحلو له نزع أظفاره إلا في المسجد، يقول : ((البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها)) رواه الشيخان عن أنس.
ويجب علينا أن لا نحقر في هذا المجال شيئا مهما صغر؛ لأننا مأجورون على ذلك، لا يضيع من أجورنا شيء، يقول فيما رواه أبو داود والترمذي من حديث أنس: ((عرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد)) ، والقذاة هي الأوساخ الصغيرة جدّا من تراب أو تبن أو غيره. فانظروا إلى شدّة صغر هذا الشيء وكيف حُفظ في ميزان الله الذي لا يضيع عنده شيء سبحانه، إلى غير ذلك من الأمور الواجبة على المسلم نحو المساجد.
ولا بد أن نعلم ـ عباد الله ـ أننا بتكريمنا للمساجد وابتعادنا عن هذه الإساءات والأعمال المشينة فيها إنما نتقرب إلى الله سبحانه، وننال بذلك أجرا عظيما.
وليعلم المسلم أنه عندما يكون في المسجد فهو ضيف على الله وزائر لله مستحق لتكريم الله له، فليستحضر هذا الأمر حتى ينال بركته ولا يُحرم أجره، أخرج الطبراني عن سلمان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من توضأ في بيته فأحسن الوضوء ثم أتى المسجد فهو زائر لله، وحق على المزور أن يكرم الزائر)) ، بل إن قاصد بيت الله للصلاة فيه بنية مخلصة هو في ضمان الله، لا يضيع أجره ولا يخيب سعيه بإذن الله، فيا لها من كرامة ينالها المسلم بمجرد توجهه إلى المسجد، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي هريرة: ((ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله عز وجل، ورجل خرج غازيا في سبيل الله تعالى ورجل خرج حاجا)) ، وها نحن نخطو في هذه الحياة ونكثر المشي إلى كثير من أماكن اللهو واللغو والغيبة والنميمة، وكلها خطوات محسوبة علينا ومسجلة في سجلاتنا يوم نلقى الله، ولكننا نغفل عن خطوات تزيد في حسناتنا وتكفر من خطايانا ألا وهي كثرة الخطى إلى المساجد، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟! إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)) أخرجه النسائي عن أبي هريرة.
ويجب أن نعلم ـ إخوة الإيمان ـ أن هذه المساجد كما أنها أماكن لذكر الله وعبادته والتقرب إليه، فهي أماكن لتعارف المسلمين وتحابّهم وتواصلهم، يلتقون فيها على محبة الله ورسوله وعلى مرضاة الله، ويتفقد فيها بعضهم بعضا، فلها دور ديني واجتماعي وتربوي وغير ذلك من أدوار، فلا ينبغي أن يُستهان بدورها في بناء مجتمع فاضل سليم من الآفات والأمراض، وفي بناء أمة قوية عزيزة بعزة الله سبحانه؛ لهذا رغب الإسلام في بناء المساجد وحثّ على أن تؤسّس على التقوى والخير، يقول سبحانه عن أول مسجد أسّسه رسول الله : لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]، وإذا أسّست المساجد على التقوى وعلى الخير وعلى التواضع وابتغاء مرضاة الله فإن لبانيها أو المساهم في بنائها فضلاً لا يعلم حقيقته إلا الله الذي يجزي الجزاءَ الأوفى، يقول فيما أخرجه الشيخان من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه: ((من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة)).
إنه ـ والله ـ فضل عظيم وكرامة لا توصف أن تبني أنت ـ أيها العبد الضعيف ـ بيتا لله في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض الفانية، فتكون المكافأة أن يبني لك مالك الملك وخالق الخلق بيتا في الجنة، فما ظنك ـ يا عبد الله ـ ببيت يبنيه الله؟! وليس هذا فحسب بل إن أجر من يبني بيتا لله سبحانه أن يُجرَى له الأجر حتى بعد موته، يقول فيما صح عنه: ((سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره: من علّم علما أو أجرى نهرا أو حفر بئرًا أو غرس نخلا أو بنى مسجدًا أو ورّث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته)) أخرجه البزار عن أنس.
هذه هي الخيرات التي ينبغي أن نحرصَ على أن نخلّفها خلفَنا إذا تركنا هذه الدار بحلوها ومرها إلى دار لا شك أننا نحتاج فيها إلى زاد من التقوى والعمل الصالح.
أسأل الله سبحانه أن يجعلنا من عمّار بيوته والمحسنين إليها والمساهمين فيها بكل خير، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وخير خلق الله أجمعين المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، إنّ دور العبادة عنوان الأمم، ومقياس حضارة أي أمة هو أماكن عبادتها بغضّ النظر عن صحة أديان هذه الأمم؛ لأن العبادة أقدس شيء في حياة الإنسان، فأماكنها هي أقدس الأماكن، ولا حياة ولا رفعة لأمة لا تحترم أماكن عبادتها، فإذا كان أصحاب الأديان الباطلة يقدّسون بيعهم ومعابدَهم وكنائسهم وهم على غير الحق وعلى غير الجادة فكيف نقصر في احترام أماكن عبادتنا ونحن أتباع الدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده؟! فهو القائل سبحانه: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران:19]، وهو القائل سبحانه وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]؛ لهذا وجب علينا أفرادا وجماعات صغارا وكبارا أن نعطي للمساجد حقها من الرعاية المادية بصيانتها والمحافظة على مرافقها وأثاثها، ومن الرعاية المعنوية بإجلالها وتقديرها وغض الأصوات فيها وتعميرها بذكر الله.
وأنا أتوجه من على هذا المنبر إلى أهل هذه القرية وأقول لهم: لقد فزتم بمسجدٍ نموذجي متكامل تصلون فيه أوقاتكم وجمعكم وأعيادكم رجالا ونساء، ويتعلم أبناؤكم فيه كتاب الله، ويكون مكانا لتعبدكم واجتماعكم، فقدروا هذه النعمة حقّ قدرها، واشكروا الله عليها، وأول شكر هذه النعمة هو المحافظة عليها وخدمتها كما تخدمون بيوتكم، بل أفضل مما تخدمون بيوتكم؛ لأنكم بخدمتكم للمسجد إنما تخدمون بيت الله الذي يقصده ضيوف الله سبحانه، وكما سخّر الله سبحانه عبادا من عباده وحبب إليهم بناء بيوت الله والإنفاق عليها ـ جزاهم الله خيرا ـ فلا بد أن يقوم كل منا بما يستطيعه في خدمة هذه البيوت والمحافظة عليها والعمل فيها بما يرضي الله سبحانه.
فاللهم يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين، وفقنا إلى خدمة بيوتك في الأرض وحبب إلينا عمارتها يا رب العالمين، اللهم واجعل هذا البيت منارة للعلم والنور ومهبطا للرحمات والخيرات، اللهم اجز من بنى هذا البيت خير الجزاء وأجزل له المثوبة والعطاء، اللهم وابن له بيتا في الجنة كما بنى هذا البيت لتعبد فيه وحدك لا شريك لك، اللهم وجازي بالإحسان كل من ساهم بأي جهد في هذا الصرح المبارك واجعله في موازين حسناته...
(1/3680)
العمل الصالح ويوم عرفة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
حقيقة الإيمان, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
8/12/1424
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العمل الصالح. 2- أهمية العمل الصالح. 3- ثواب العمل الصالح. 4- التوسل بالعمل الصالح. 5- فضل حسن الخلق. 6- فضل يوم عرفة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: إخوة الإيمان، العمل الصالح عُدة كل مؤمن، وسبيل كل مخلص، وذخيرة كل وجِل خائف من ربه عز وجل، وصلاح العمل معناه أن يكون العمل خالصا لله تعالى وأن يكون موافقا لما جاء به رسول الله ، والعمل الصالح هو العمل الذي يرضاه الله سبحانه ويحث عليه ويرغب فيه رسوله ، وهو في نفس الوقت كل عمل يعود على المسلمين بالنفع والبركة، هذا هو العمل الصالح الذي يحبه الله ويرضاه.
وكثيرا ما يستهين بعض الناس بالعمل الصالح ولا يعدونه أمرا مهمًّا، بل يقول قائلهم: العبرة بما في القلب، أي: إن كان قلبي سليما صافيا فأنا على خير، وما دمت مؤمنا بقلبي فهذا يكفي، ونسي هذا المسكين أن العمل الصالح دليل الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى ما ذكر الإيمان في أغلب آيات القرآن إلا ذكر معه العملَ الصالح، وفي هذا إشارة إلى أن الإيمانَ والعملَ الصالحَ متلازمان متّحدان لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فالله سبحانه يقرن في كثير من الآيات بين الإيمان والعمل الصالح ليبين لنا سبحانه أن الإيمان يقتضي العملَ الصالح، من ذلك قوله سبحانه عن الفائزين من عباده: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9]، كما يستثني سبحانه أهل الإيمان والعمل الصالح من الوعيد في أكثر من آية من آيات كتابه، من ذلك قوله سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمات التي يجمع فيها سبحانه بين الإيمان والعمل الصالح، والتي يبلغ عددها في القرآن أكثر من خمسين آية، فالعجب العجب ممن يريد أن يفصل بين شيئين جمعهما الله سبحانه وتعالى، فهل يُتصور إيمان بدون عمل صالح؟!
إذا كان إيمانك صحيحا ـ أيها المسلم ـ فلا بد أن يدفعك إلى العمل الصالح، أما إذا كان الإيمان ادعاءً أو كان ضعيفا هشا فإن الإنسان لا يجد رغبة في العمل الصالح، فالمداومة على العمل الصالح والتفاني فيه علامة على صلاح المرء في هذه الدنيا، فلا يختلف اثنان من الناس على تقدير العمل الصالح وتقدير أهله خاصة إذا كان هذا العمل متعلقا بمصالح الناس، صح عنه أنه قال كما في صحيح الجامع: ((أحب العباد إلى الله أنفعهم لعياله)) أي: لعباده.
وثواب العمل الصالح وبركته يناله الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، ففي الدنيا العمل الصالح سبب مباشر في الحياة الطيبة يقول سبحانه: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97]، وهو سبب في الأمن والتمكين في الأرض يقول سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا [النور:55]، إلى غير ذلك من ثمار في هذه الحياة.
أما في الآخرة ففضل الله أكبر وكرمه أوسع، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]، ويقول سبحانه: الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ [الرعد:29]، وطوبى ـ على قول المفسرين ـ شجرة في الجنة عظيم ظلها، ورد ذكرها في الحديث الذي أخرجه أحمد وابن حبان من حديث أبي سعيد حيث يقول : ((طوبى شجرة في الجنة مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)) ، وعن أنس قال: قال رسول الله : ((إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، إن شئتم فاقرؤوا: وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ )) أخرجه البخاري عن أنس. هذا قليل من كثير من الآيات والأحاديث التي تبين فضل العمل الصالح ومنزلة أهله في الحياة الدنيا وما أعد الله لهم في جناته من نعيم لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، جعلنا الله جميعا ممن يؤمنون به حق الإيمان ويعملون صالح الأعمال.
والعمل الصالح ـ عباد الله ـ من أفضل ما يتوسل به العبد إلى مولاه، ومن أفضل ما يقدم العبد بين يدي ربه عز وجل في قضاء حاجاته، فهو من أنواع التوسل الثلاثة المتفق عليها بين علماء الأمّة، وهي التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى والتوسل بدعاء الرجل الصالح والتوسل بالأعمال الصالحة، فللأعمال الصالحة بركة عظيمة على العبد إن هو فعلها لوجه الله رغبة فيما عند الله مخلصا فيها قدر الإمكان، وهذا ما سرده علينا رسول الله في حديث أصحاب الغار الثلاثة الذين أطبقت عليهم صخرة وحبستهم داخل الغار، فاتفقوا على أن يذكر كل واحد منهم عملا صالحا عمله لوجه الله لعل الله أن يفرج عنهم ما هم فيه، ففعلوا ففرج الله عنهم وخرجوا من الغار يمشون، والحديث أخرجه الشيخان عن ابن عمر، يقول : ((انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم; قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا ـ أي: لا أشرب أنا ولا أهلي لبن المساء حتى يشرب منه والدي، فالغبوق هو ما يُشرب في المساء، وعكسه الصبوح وهو ما يُشرب في الصباح ـ ، ثم يقول هذا الرجل: فنُئيَ بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما ـ أي: تأخرت عنهما في يوم من الأيام حتى ناما ـ ، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا ـ أي: كرهت أن أشرب أنا أو أهلي من اللبن قبلهما ـ ، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج. وقال الآخر: اللهم كانت لي ابنة عم كانت أحب الناس إلي، فأردتها على نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين ـ أي: تعرضت لسنة قحط وجدب ـ فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحلّ لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إليّ وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم استأجرت أجراء فأعطيتهم أجرهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله، أدّني أجري، فقلت له: كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال: يا عبد الله، لا تستهزئ بي! فقلت: إني لا أستهزئ بك، فأخذه كلّه فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون)).
فانظروا ـ عباد الله هداني الله وإياكم ـ إلى بركة العمل الصالح، انظروا إلى عظمة أثر بعض الأعمال الصالحة التي قد يستهين بها بعض الناس، انظروا ـ رحمكم الله ـ إلى سرعة استجابة الرحيم الرحمن لدعاء هؤلاء القوم المكروبين وكيف سمع مناجاتهم من فوق سبع سماوات وهم في داخل غار مظلم مغلق عليهم وأزال همهم، فلماذا لا نُنزل حاجاتنا بالله؟! ولماذا نلتجئ لغيره ولا نلتجئ إليه إذا عز الناصر وقل الظهير وضاقت علينا الأرض بما رحبت؟! ولماذا نحقر العمل الصالح ونهمله ونزهد فيه؟!
إن للعمل الصالح ـ عباد الله ـ أثرا كبيرا ولو كان هذا العمل صغيرا في ميزان البشر، يقول في الحديث الذي رواه أبو هريرة: ((الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) أخرجه مسلم وأبو داود. فهل نعجز عن عمل مثل إماطة الأذى عن الطريق؟! أم هل نعجز عن بسمة صادقة نتبسمها في وجوه إخواننا؟! يقول في الحديث الذي أخرجه مسلم من حديث أبي ذر: ((لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)).
فانظر ـ أيها المسلم ـ إلى سعة فضل الله سبحانه، فببسمة تطلقها في وجه الناس متسامحا معهم تنال فضل الله ورضوانه، وكثير من الناس يتفانى في العمل الصالح ويداوم عليه إذا كان بينه وبين ربه كالعبادات من صلاة وصوم وذكر وغيرها، ولكنه لا يسعى بالقدر نفسه في العمل الصالح المتعلق بالناس رغم أنه مهمّ أيضا، فعبادتك لك ولا يستفيد منها الناس بشيء في الغالب، أما معاملتك للناس فإنهم يتأثّرون بها إما نفعا وإما ضرّا، لهذا كانت الأعمال الصالحة التي توسّل بها أصحاب الغار الثلاثة كلّها متعلقة بالناس والإحسان إليهم، وهذا يدلنا على أن من العمل الصالح المتعلّق بالناس ومصالحهم ما هو أهم من العمل الصالح الذي بين الإنسان وربه، وهذا الفهم غائب عن كثير من المسلمين.
فينبغي علينا جميعا أن نجتهد في صالح الأعمال قبل انفراط سنين العمر واقتراب الآجال، وقبل أن نعض أصابع الندم إذا نزلت بنا المنايا ونحن في أسوأ حال، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة:7، 8].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، والصلاة والسلام على عبدك ورسولك محمد أفضل رسلك وأنبيائك، وعلى آله وصحبه الذين أثنيت عليهم في محكم كتابك.
إخوة الإيمان، تكلمنا عن العمل الصالح وعن منزلته من ديننا الخاتم وعن بركته على من يقوم به مخلصا فيه لوجه الله تعالى، ولله سبحانه وتعالى أوقات فضلها على سائر الأوقات، له فيها نفحات يتفضل فيها على العباد ويفتح أمامهم أبواب الرحمة ويبسط في طريقهم بساط القبول والعطاء، فينبغي للعبد أن يستثمر هذه الأوقات ولا يجعلها تخلو من عمل صالح يقدمه بين يدي مولاه، ويوم غد يوم عظيم مشهود هو يوم عرفة، قال عنه رسول الله كما في صحيح مسلم من حديث عائشة: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا أو أمة من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ماذا أراد هؤلاء؟)).
أفلا نتشوف ـ عباد الله ـ إلى أن نكون غدا من عتقاء الله من النار؟! ألا نخلص لله ونتوب إليه في هذا اليوم العظيم لعل أسماءنا تدرج في قائمة العتقاء فنكون من السعداء؟! إنه ـ والله ـ ليوم عظيم لمن عرف قدر الأيام العظيمة، يوم يجتمع فيه حجاج بيت الله على صعيد واحد، أتوا من كل فج عميق، يوم يتجلى الله فيه برحماته على عباده، ويؤتيهم من فضله العظيم وفيضه العميم، ويباهي بهم ملائكته وهو الغني عنهم سبحانه، لله في هذا اليوم نفحات، والسعيد السعيد من تعرض لهذه النفحات وأخذ منها بقسط وافر، هذا اليوم العظيم هو من الأيام التي يُستحب فيها العمل الصالح، ونحن نتكلم اليوم عن العمل الصالح، ويُضاعف فيها أجر هذه الأعمال الصالحة، وفيه من الفرص ما لا يوجد في غيره، يقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي سعيد: ((صوم يوم عرفة كفارة السنة الماضية والسنة المستقبلة)) ، وهذا فضل عظيم لمن يرجو رحمة الله ويتتبع مواطنها.
فتوبوا إلى الله في هذا اليوم، وتضرعوا إلى الله بالدعاء، واعرضوا عليه همومكم وحاجاتكم، وتيقنوا أنه لن يخيبكم ما دمتم تتوجهون إليه بقلوب مخلصة وأنفس منكسرة، وعمروا يومكم بالذكر والصلاة والتهليل والتكبير، يقول : ((خير الدعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) أخرجه الترمذي عن ابن عمر. فأكثروا ـ وفقني الله وإياكم ـ من الدعاء والتهليل، فلا ندري لعل أعمارنا تقصر عن بلوغ هذا اليوم في العام التالي.
فاللهم يا رب العالمين ويا أرحم الراحمين وفقنا إلى ذكرك وشكرك وحسن عبادتك في يوم عرفة وفي سائر الأيام، اللهم ووفقنا إلى الأعمال الصالحة واجعلها ذخرا لنا يوم نلقاك...
(1/3681)
عيد الأضحى 1424هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
10/12/1424
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل الهداية للإسلام. 2- صحة الإيمان. 3- حديث قدسي عظيم. 4- ذكرى الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل. 5- تقصير الإنسان في حق الله تعالى. 6- الحكمة من الخلق. 7- دعوة للمبادرة إلى الأعمال الصالحة. 8- أحكام الأضحية وآدابها. 9- تذكر المساكين والمضطهدين.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، لا شيء قبله ولا شيء بعده، ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
اللهم اغفر ذنبنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وتول أمرنا، وأزل غمنا، وأصلح بفضلك سرنا وجهرنا.
الحمد لله الذي هدانا لدينه وشريعة نبيه ، فبعد أن كانت هذه الأمة أمة ضالة تعبد الأوثان وتشرب الخمر وتهين النساء وتئد البنات وتتناحر فيما بينها لأتفه الأسباب أخرجها الله بمبعث خير الرسل وأفضل البرية من الظلمات إلى النور، وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وأحياها بلا إله إلا الله محمد رسول الله ، فلا إله إلا الله عنوان هذه الأمة، ولا إله إلا الله تاريخ هذه الأمة، ولا إله إلا الله عقيدة هذه الأمة التي علمها رسول الله بأنه لا نافع إلا الله، ولا ضار إلا الله، ولا معبود بحق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا قابض إلا الله، ولا باسط إلا الله، فلا إله إلا الله.
وإذا ترسخت هذه العقيدة في قلب المؤمن وعاش بها وعليها واستأنس بحب الله وبذكر الله وقصر طمعه على ما عند الله ولم يخش إلا الله فإن السماوات والأرضين لو كادته لجعل الله له من ذلك مخرجا، العيش مع "لا إله إلا الله" يورث التوكل واليقين والاطمئنان، والبعد عنها يورث الهلع والاضطراب والتوجس، قيل لحاتم الأصم: على ما بنيتَ أمرك في التوكل؟ قال: "على خصال أربعة: علمت أن رزقي لا يأكله غيري فاطمأنت نفسي، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به، وعلمت أن الموت يأتي بغتة فأنا أبادره، وعلمت أني لا أخلو من عين الله فأنا مستحي منه".
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ها نحن ـ أيها الأحبة الكرام ـ نجتمع في هذا اليوم يوم العيد، نجتمع في هذا البيت المبارك من بيوت الله إخوة متحابين، لا فضل لأحد فينا على أخيه إلا بالتقوى والعمل الصالح، كلنا مفتقرون إلى الله طامعون في رحمته فقراء إلى فضله وهو المتفضل علينا سبحانه، وها هو يخاطبنا خطاب الرب الكريم الرؤوف بعباده فيقول سبحانه في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا. يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاز يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)) أخرجه مسلم.
هكذا يخاطبنا الله سبحانه، هكذا ينادينا الباري عز وجل، هكذا يوقفنا على هذه الحقائق الدامغة وعلى هذه المعاني السامية حتى لا يتكبر أحد منا على أحد، وحتى لا يشمخ أحد منا بأنفه على أخيه، وحتى يعلم كل منا أنه لا حول ولا قوة له إلا بالله، كلنا ضالون فهدانا الله، وكلنا جائعون فأطعمنا الله، وكلنا عراة فكسانا الله، فعلام نتكبر؟! وفيم نتفاخر؟! وإلام تبقى البغضاء والشحناء بيننا ورسوله ينادينا: ((لا تباغضوا، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، وكونوا عباد الله إخوانا)) ؟!
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
هذا ـ عباد الله ـ عيد التضحية وعيد الفداء، هذا يوم استجاب فيه الخليل إلى نداء الجليل، فقام صادقا يريد ذبح ابنه وفلذة كبده إسماعيل، وهذا يوم امتثل فيه هذا الابن البار بوالديه امتثل فيه لأمر ربه ثم لرؤيا والده ولم يتلكّأ أو يتردّد، واضطجع طائعا وهو يعلم أن الأمر أمر ذبح، يُسال فيه دمه وتقطع رقبته، فهل طاعة بعد هذه الطاعة؟! وهل صدق بعد هذا الصدق؟! وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا [مريم:54]. هذه هي قمة الطاعة وقمة الامتثال الذي تعجز العقول عن تصوره، يطيع ممتثلا رغم أن الأمر أمر ذبح وموت.
ولننظر ـ أيها الناس ـ كم طاعة لله أضعنا، وكم أمر من أوامره عصينا رغم أنها دون الذبح بكثير كثير، وكم شهوة لأنفسنا اتبعنا رغم أن حبل الشهوات قصير قصير وعذابها في الآخرة كبير كبير.
النفس تطمع في الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فمن بناها بخير طاب مسكنه ومن بناها بشر خاب بانيها
والناس كالحبّ والدنيا رحى نصبت للعالمين وكف الموت يلهيها
فلا الإقامة تنجي النفس من تلف ولا الفرار من الأحداث ينجيها
تلك المنازل في الآفاق خاوية أضحت خرابا وذاق الموت بانيها
أين الملوك التي عن حظها غفلت حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
أفنى القرون وأفنى كل ذي عمر كذلك الموت يفني كل ما فيها
نلهو ونأمل آمالا نسر بها شريعة الموت تطوينا وتطويها
فاغرس أصول التقى ما دمت مقتدرا واعلم بأنك بعد الموت لاقيها
تجني الثمار غدا في دار مكرمة لا منّ فيها ولا التكدير يأتيها
الأذن والعين لم تسمع ولم تره ولم يجر في قلوب الخلق ما فيها
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
هذا ـ عباد الله ـ والله يوم سرور ونور، ويوم فرح وحبور، يوم توسعة على الأهل والأبناء، ويوم تسامح وتزاور وتعاون وتآزر، يوم يجب أن ننسى فيه أضغاننا وننسى فيه أحقادنا، يوم يجب أن نستحضر فيه أن عمر الحياة قصير وشأنها عند الله حقير، استعمرنا فيها ليعلم ما نعمل وكيف نتصرف، وليتبين المصلح من المفسد والصادق من الكاذب، وليبلونا أينا أحسن عملا، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ والْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]، فلا بد أن نري الله من أنفسنا خيرا، وأن نتنافس في الخيرات وفي إحراز الحسنات كما يتنافس بل أكثر مما يتنافس أهل الدنيا على دنياهم.
فنحن ـ عباد الله ـ لم نُخلق عبثا ولن نُترك سدى، بل خلقنا لغاية عظيمة هي عبادة الله وإقامة دينه في أنفسنا وأهلينا قبل أن يختطفنا الموت ونحن نسوف ونماطل وبساط العمر ينسحب من تحت أقدامنا دون أن نشعر، فالسعيد السعيد من اغتنم ساعات العمر فيما يجدي، السعيد السعيد من اغتنم ساعات القوة قبل أن يضعف، وساعات الصغر قبل أن يهرم، وساعات الصحة قبل أن يمرض، فمن ذا الذي يضمن لك القوة غدا؟! ومن ذا الذي يضمن لك الصحة غدا؟! بل من ذا الذي يضمن لك الحياة غدا؟!
فاسمع ـ يا رعاك الله ـ إلى الصادق المصدوق وإلى من هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، استمع إليه وهو يسدي مشفقا هذه النصيحة إلى الأمة، يقول فيما صح عنه من حديث ابن عباس: ((اغتنم خمسا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)).
هذه الأشياء المذكورة في هذا الحديث من حياة وصحة وفراغ وشباب وغنى هي عطايا إلهية، الذي أعطاها قد ينزعها، والذي أعارها قد يطلبها في أي وقت، فهل يعقل أن يستعير الإنسان شيئا ولا يتوقع أن يعيده إلى أهله؟!
فاحذروا عباد الله، وبادروا بالأعمال الصالحة فتنا قد تحيط بكم، لا ينجي منها إلا الإيمان الصادق والمسارعة في الخيرات، يقول سبحانه: سَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [آل عمران:133-136].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وجعلنا من صفوته وأحبابه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الكريم المنان، الرحيم الرحمن، أنزل على عبده القرآن، وعلمه الحكمة والبيان، أحمده سبحانه حمدا كثير طيبا مباركا فيه، وأصلي وأسلم على صفوته من ولد عدنان، نبينا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين.
للأضحية ـ عباد الله ـ أحكام لا شك أنكم سمعتموها أكثر من مرة وحفظتموها، ولكن لا بأس أن نذكر بشيء يسير منها في هذا اليوم المبارك.
فالأضحية سنة مؤكدة على رأي جمهور العلماء، ومنهم من يرى أنها واجبة مع السعة والاستطاعة، ووقتها بعد صلاة العيد، ولا تصح قبلها لقوله فيما اتفق عليه الشيخان من حديث البراء: ((من ضحى قبل الصلاة فإنما ذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)) ، أما آخر وقت الأضحية فهو غروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق.
ويستحب للمضحي أن يذبح أضحيته بنفسه، وأن يحد المدية وأن يريح الأضحية، ويضجعها على جنبها الأيسر مستقبلة القبلة، ويسم الله عليها فيقول: "بسم الله، الله أكبر، اللهم منك وإليك، اللهم تقبلها مني"، وإن اكتفى بـ"بسم الله" فلا بأس.
ويحرم بيع أي شيء من الأضحية حتى الجلد، ويشرع الأكل منها والإهداء والتصدق لقوله تعالى: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير [الحج:27]، إلى غير ذلك من أحكام، نسأل الله أن يوفقنا إلى إقامتها.
إخوة الإيمان، يوم العيد يوم إحسان وصدقات، يجب أن نتفقد فيه فقراءنا ومحتاجينا، يجب أن ننظر فيه بعين العطف إلى الأرامل والأيتام، ويجب أن نطعم فيه البائس والغريب وابن السبيل، هكذا يكون المجتمع المسلم، وهكذا يريده الله أن يكون حيث يقول سبحانه عن المؤمنين الصادقين: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:8-10].
ويجب أن نتذكر ونحن نذبح ضحايانا ونأكل من لحومها ونحيا حياة بحبوحة ورفاهية إخوانا لنا في فلسطين وفي مشارق الأرض ومغاربها يحيون حياة الجوع وحياة الخوف وحياة العوز والمشقة، فندعو لهم بظهر الغيب، ونتضامن معهم بقلوبنا ودعواتنا، يقول : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
فاللهم يا أرحم الراحمين ويا رب العالمين، فرج هموم أمة محمد خليلك وحبيبك، وانصرها على من عاداها يا أرحم الراحمين، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
(1/3682)
أفضل الأعمال الصالحة
الإيمان, الرقاق والأخلاق والآداب
خصال الإيمان, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
15/12/1424
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من اختلاف أجوبة النبي في أفضل الأعمال. 2- أهمية صحة الإيمان والعقيدة. 3- خطورة الشرك. 4- الصلاة لوقتها. 5- بر الوالدين. 6- الجهاد في سبيل الله. 7- حج بيت الله الحرام. 8- صلة الرحم. 9- ذكر الله تعالى. 10- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد تكلمنا في الجمعة الماضية عن الأعمال الصالحة وأثرها في حياة المسلم وثوابها عند ربّ العالمين عز وجل، ونتكّلم في هذه الجمعة بإذن الله عن أفضل الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان إذا عرف فضل العمل الصالح أحبّ أن يقوم به وأن ينال ثوابه، كما أنه يحبّ أن يعرف أيّ الأعمال الصالحة أفضل وأيّ الأعمال الصالحة أحبّ إلى الله وأجزل ثوابا.
وهذه مجموعة من أحاديث رسول الله يعرفنا فيها بأفضل الأعمال الصالحة:
يقول : ((أفضل العمل إيمان بالله وجهاد في سبيل الله)) أخرجه ابن حبان عن أبي ذر، ويقول أيضا كما في صحيح الجامع من حديث أنس: ((أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله)) ، ويقول فيما أخرجه الطبراني عن معاذ: ((أحب الأعمال إلى الله أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله)) ، ويقول كما في صحيح الجامع: ((أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله ثم صلة الرحم ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأبغض الأعمال إلى الله الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم)) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سأل رجل رسول الله : أي الأعمال أفضل؟ قال: ((إيمان بالله)) ، قال: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، قال: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) أخرجه النسائي.
نلاحظ ـ إخوة الإيمان ـ من هذه الأحاديث أن تحديد أفضل الأعمال الصالحة اختلف من حديث إلى آخر، فمنها ما يجعل الإيمان أفضل الأعمال، ومنها ما يجعل الصلاة أفضل الأعمال، ومنها ما يجعل الجهاد أفضل الأعمال إلى آخر الأحاديث، وردَّ العلماء هذا الاختلاف لاعتبارين رئيسين، الأول: أن التفضيل اختلف باختلاف أحوال الأشخاص المخاطبين والسائلين، والثاني: أن التفضيل اختلف باختلاف الأوقات وباختلاف أحوال وظروف المجتمع المسلم واحتياجه، فأحيانا يكون الجهاد أفضل الأعمال لهذا المجتمع، وأحيانا تكون صلة الرحم أفضل الأعمال وهكذا.
إخوة الإيمان، هذه الأحاديث النبوية الكريمة التي سردناها ذكر فيها رسول الله أفضل الأعمال ودلَّ الأمة عليها حتى يتجه إليها المسلمون ويقوموا بها، فبين لنا أن أفضل الأعمال الإيمان بالله والصلاة لوقتها وبر الوالدين والجهاد في سبيل الله والحج المبرور وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله، وغير ذلك من أعمال لها فضل وثواب عظيم.
فالإيمان بالله هو الأساس وهو الركيزة، فأساس الأعمال العقيدة السليمة المشتملة على توحيد الله سبحانه والتوكل عليه والثقة به وعدم الإشراك به سبحانه وعدم التقرب بالطاعات لغيره وخوفه وحده، هذه العقيدة إذا ضاعت من المسلم ضاع المسلم، وإذا ضعفت كان المسلم على خطر كبير؛ لأن الله قد يغفر الأخطاء في باقي الأعمال والعبادات إذا كان صاحبها مؤمنا موحدا، أما الخلل العظيم في الإيمان أو الإشراك بالله فإنه لا يغفره سبحانه، يقول تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]، فلا بد للمسلم أن يبني أعماله على إيمان سليم حتى لا تضيع هذه الأعمال هباء منثورا، فكلّ ما لم يُبنَ على قاعدة سليمة قوية لا بد أن ينهار، يقول سبحانه: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان:23].
فلا بد لنا ـ إخوة الإيمان ـ أن نقيم إيماننا على أسس لا تتزعزع؛ لأن الإيمان رأس مالنا، لا بد أن نوحد الله سبحانه في عبادتنا وفي طلبنا وفي دعائنا وفي خوفنا وفي رجائنا وفي نسكنا، فلا نشرك معه في هذه الأمور أحدا كائنا من كان، لا ملَك ولا نبيّ عليهم صلوات الله ولا غيرهم؛ لأن هذه الأمور كلها من العبادة، والله أمرنا أن لا نعبد إلا إياه، ونحن نردد في كل يوم أكثر من عشرين مرة: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وهذه الآية معناها: لا نعبد أحدا غيرك، ولا نستعين بأحد غيرك، فكيف يظنّ المسلم بعد ذلك أن هناك من يمكن أن ينفعه أو يضره أو يلبي حاجاته ويسمع دعواته دون الله سبحانه.
ولنستمع إلى هذه الآية التي تنفي النفع والضر عن أفضل خلق الله سبحانه وخير البرية نبينا محمد ، وتنفي عنه علم الغيب إلا ما علمه الله سبحانه، يقول الله تعالى على لسان نبيه: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِن ْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188]. لا بد إذًا من عبادة الله وحده، والتوكل عليه وحده، وخشيته وحده، وإقامة دينه في الأرض كما أمر سبحانه.
والصلاة لوقتها أيضا من أفضل الأعمال كما ورد في الأحاديث التي بدأنا بها، الصلاة هذه الشعيرة المباركة، هذه الصلة التي تصل الإنسان بربه وتجعل له مواعيد يومية وأوقات محددة يقف فيها بين يدي الله عز وجل، يمتثل لأمره، ويخضع له، ويناجيه ويسبحه ويدعوه. هذه الشعيرة من حافظ عليها فقد حفظ هذه الصلة بينه وبين الله، فلا بد أن يصله الله ولا يقطعه، ولا بد أن يوصِله إلى مرضاته وجنته، ومن تركها وتهاون فيها وضيّعها فقد ضيع الصلة بينه وبين الله، فإن الله سبحانه لا يصله، بل يقطعه كما قطع هذه الصلة، ويحرمه من الوصول إلى رحمته ومرضاته. هذه الصلاة ـ عباد الله ـ أمن وسكينة في الدنيا، وهي أساس صلاح الأعمال يوم القيامة بعد الإيمان، فلا بد للمسلم أن يعلم قدرها ومقدارها العظيم حتى لا يفرط فيها مهما كانت الأسباب، يقول فيما أخرجه النسائي من حديث ابن مسعود: ((أول ما يحاسب به العبد الصلاة، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء)). هذه هي منزلة الصلاة وفضلها، فكيف يلهو بعد هذا مسلم أو يسهو عن صلاته أو يؤخرها؟!
ومن الأعمال الفاضلة أيضا والتي يجب أن يركّز عليها المسلم وأن لا يحرم نفسه من فضلها وثوابها ولا يعرض نفسه لعقابِ وعذاب تضييعها برّ الوالدين اللّذيْن قال عنهما الله سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24]. فبر الوالدين أمر عظيم وأصل أصيل من أصول هذا الدين، عدَّه رسول الله في أكثر من حديث نبوي من أفضل الأعمال، فلماذا يحرم المسلم نفسه فضل هذه الطاعة العظيمة؟! ولماذا يبادر إلى نكران جميل من أنجبه وأطعمه ورباه؟! يقول في الحديث الذي أخرجه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((رضا الرب في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما)).
فأنت ـ أيها المسلم ـ عندما ترضي والديك فيما لا معصية فيه فإنك ترضي الله سبحانه، وإن أسخطهما فإنما تسخط الله سبحانه، فهل تعلم ماذا يعني سخط الله؟! أكبر المصائب ـ عباد الله ـ أن نعجز عن إحراز الحسنات وحجز مكان في جنة الخلد ونحن قد أدركنا آباءنا وأمهاتنا أحياء؛ لأن إدراك الآباء والأمهات على قيد الحياة فرصة ما بعدها فرصة في نيل رضوان الله سبحانه والدخول إلى جنته، وكم من مسلم أدرك والديه وضيع هذه الفرصة، يقول فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة)).
ومن الأعمال المفضلة العظيمة القدر في دين الله سبحانه الجهاد في سبيل الله سبحانه، الجهاد من أجل تبليغ دعوة الله وتعبيد العباد لرب العباد. والجهاد هو بذل النفس والمال والجهد حتى تكون كلمة الله هي العليا، والجهاد أيضا يكون بدفع الصائل والمعتدي عن ديار الإسلام، فهذا الأمر من دعائم هذا الدين، وله فضل عظيم عند الله سبحانه، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تكفل الله لمن جاهد في سبيله ـ لا يخرجه من بيته إلا الجهاد في سبيله وتصديق كلماته ـ بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة)) متفق عليه. بل إن الإسلام يحثنا على أن نكون مستعدين للدفاع عن حياض الدين والأمة محدِّثين أنفسنا بذلك، وينذرنا أن نركن للدنيا، يقول : ((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من نفاق)) أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
ومن الأعمال المفضلة التي ذُكرت في الأحاديث الحج المبرور، أي: الحج الذي لا رفث ولا فسوق ولا جدال فيه، الحج الذي أُريدَ به وجه الله سبحانه وكانت النية خالصة في أدائه، يقول : ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) أخرجه أحمد عن جابر. فلا بد أن يسعى كل مسلم إلى هذه الشعيرة المباركة، وأن يُعد نفسه لحجة مبرورة يمحو بها ما تقدم من ذنبه ويرجع منها كيوم ولدته أمه كما ورد في الأثر، ولا بد أيضا لمن عاد من حجه أن يحافظ على هذه المكرمة التي أكرمه الله بها وعلى هذه الصحيفة النظيفة التي تحصل عليها، ولا يعكرها ويلطخ بياضها بسواد المعاصي والآثام.
ومن هذه الأعمال المفضلة أيضا صلة الرحم، هذا الواجب الديني الذي نفرط فيه ولا نعطيه حقه، والرسول يعتبرها من أفضل الأعمال، فأين نحن من صلة الرحم التي تعهد الله بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها؟! وأين نحن من أهلنا وإخواننا وأقربائنا؟! لو سُئل أحدنا عباد الله: هل تحب أن يطيل الله في عمرك ويوسع لك في رزقك؟ لأجاب على الفور: أجل، ولكنه في الواقع يفعل عكس ذلك بقطعه لرحمه؛ لأن من دواعي طول العمر وسعة الرزق صلة الرحم، وأكثرنا إلا من رحم الله لا يقوم بصلة الرحم على الوجه المطلوب، يقول : ((من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه)) متفق عليه من حديث أنس. فلماذا لا نفي هذا الأمر حقه؟! ولماذا نحرم أنفسنا من البركة الدنيوية والأخروية التي رتبها الله عليه؟!
فاتقوا الله عباد الله، ولا تنسوا الفضل بينكم، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
لله رب العالمين، وصلاة وسلاما على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، ومن الأعمال المفضلة ذكر الله عز وجل، ومعنى ذكر الله أن تذكرَ الله عز وجل بأن يكون سبحانه حاضرا في ضمير الإنسان، ورقابته متمكنة من قلبه في كل عمل يقوم به، ومعناه أيضا ذكره باللسان أي: أن يكون لسان الإنسان رطبا بذكر الله عز وجل، فالله سبحانه حضّ على الذكر فهو القائل سبحانه: وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ [الأنفال:45] ، ورسوله كذلك حض على ذكر الله، أخرج أحمد عن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله)) ؛ لهذا وجب علينا أن نعمل بهذه النصيحة وهذا التوجيه النبوي، فلا ننسى الله سبحانه في غمرة حياتنا وظروفنا، ونداوم على ذكره سبحانه بألسنتنا، ونقتدي بهدي رسول الله في ذكره. ما هو ذكره ؟ ماذا كان يقول في ساعات يومه، في صبحه ومسائه، في صحوه ونومه، في صحته ومرضه، في سلمه وحربه؟ وكيف كان يذكر الله سبحانه؟ لأننا مأمورون بالاقتداء به في العبادات وكيفياتها، فلا ينبغي لنا أن نخترع أذكارا ما أنزل الله بها من سلطان، ولا كيفيات للذكر لم يأت بها رسول الله ، فهو القدوة وهو الأسوة وهو المبين للتنزيل.
ومن أفضل الأعمال كما ورد أيضا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا الأصل الذي كان الملمح الأساسي في خيرية هذه الأمة، والفارق الرئيس بيننا وبين غيرنا من الأمم، يقول تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه [آل عمران:110]. هذا الواجب الديني العظيم تكاسلت عنه الأمة وابتعدت عنه كثيرا، حتى أصبح من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر غريبا بين الناس، بل أصبح يوصف بأنه مثير للمشاكل ومتعصب، والواقع أن هذه الأمة لا صلاح لها إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا صلاح لها إلا بتشخيص الأدواء التي تحيط بها ومعالجتها بالأدوية الشرعية الناجعة، حتى تكون الأمة أمة معافاة أمة قوية تستطيع أن تحمي نفسها وأن تبلغ دين ربها سبحانه، أما إذا فرطت الأمة في هذا الأمر واعتبر كل مسلم أن الأمر لا يخصه فإن الأمة تصير مهددة بعذاب دنيوي قبل العذاب الأخروي؛ لأن المجتمع سفينة تقلّ الجميع الصالح والطالح، فإذا لم يتناصح الناس ويسعوا إلى ما فيه مرضاة ربهم وصلاح مجتمعهم غرقت السفينة بالجميع، تقول عائشة رضي الله عنها لرسول الله : أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) متفق عليه. فلا بد إذا من التناصح، لا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى لا نستحق غضب الله وعذابه.
هذه ـ عباد الله ـ جملة من الأعمال الصالحة التي ينبغي أن نشغل أنفسنا بها، وأن نداوم على فعلها وفعل غيرها من الأعمال الصالحة إن كنا نريد مرضاة الله حقا وصدقا، أما ترك الأعمال والطمع في رحمة الله دون عمل والاعتماد على الأماني دون سعي فهذا ما لا يرضاه الله سبحانه، يقول عز وجل: لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا [النساء:123، 124].
فاللهم يا أرحم الراحمين وفقنا إلى أفضل الأعمال وأحبها إليك، اللهم إنا نسألك حسن الاعتقاد وحسن العمل وحسن الثواب...
(1/3683)
معركة الإنسان مع الشيطان
الإيمان
الجن والشياطين
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
22/12/1424
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا دار امتحان. 2- تاريخ المعركة مع الشيطان. 3- تحذير الله تعالى عباده من الشيطان. 4- ضعف كيد الشيطان. 5- مداخل الشيطان. 6- الحرز من الشيطان. 7- أماكن الشياطين. 8- أصناف الناس من حيث علاقتهم بالشيطان. 9- المنتصرون على الشيطان.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فلقد اقتضت حكمة الله سبحانه أن يخلق الإنسان ويكلفه بمهام وشعائر وتكاليف، وجعل الله هذه الدنيا للإنسان دار امتحان يُمتحن فيها ويُختبر، وجعلها مزرعة للآخرة، فالبذر هنا والثمرة هناك، ووعد بإعطاء من أراد الدنيا شيئا منها، ووعد من أراد الآخرة بأن يزيد له في حرثه، يقول سبحانه: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى:20]. كما اقتضت حكمته سبحانه أن يوجد إبليس، وهو أحد مخلوقاته خرج عن طاعته واستكبر وأظهر عداوته لآدم الذي أمِرَ إبليس بالسجود له فرفض واستكبر، وتوعّد آدمَ وذريته بالإغواء والتضليل عبر الوسوسة وتزيين الشرور فقال: لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّه [النساء:118، 119].
لهذا كانت حياة الإنسان في هذه الدنيا في حقيقتها معركة وحربا ضارية بينه وبين الشيطان، لا تنتهي هذه الحرب إلا بموت الإنسان، فما دام في الإنسان عرق ينبض فهو هدف للشيطان وغاراته وقانا الله منها، ولا يمكن للإنسان أن ينتصر على هذا العدو إلا بمعرفته حق المعرفة ومعرفة ما يحب هذا العدو وما يكره ومعرفة طبيعته وطبيعة خلقه حتى يتخذ العدة الصالحة لمحاربته.
ولقد عرَّف الخالق عباده بهذا الشيطان، وحذرهم وساوسه وكيده، وأمرهم باتخاذه عدوا، يقول سبحانه: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]. فهذا تحذير من الله سبحانه حتى لا نستهين بهذه العداوة وهذا العدو، وحتى نعلم أن هذه الدنيا صراع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، يقف في معسكر الحق الأنبياء والصديقون والصالحون والمؤمنون، أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة:22]، وفي معسكر الباطل يقف الشياطين والسحرة والفجار والظالمون، أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ [المجادلة:19].
ورغم توعد الشيطان ومكره فقد بين لنا الرحمن عز وجل بأن كيد الشيطان ضعيف هزيل، فقال عز من قائل: فقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، ولكن هذا الضعف متوقف على إيمان الإنسان وتوكله واستجابته لأوامر الله عز وجل، فإذا اعتمد الإنسان على الله سبحانه واتبع أوامره لم يكن لسلطان الشيطان عليه سبيل، وهذا ما بينه الله سبحانه بقوله: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99]، أما إن سلم الإنسان نفسه للشيطان فاتبع الشهوات وأكل الحرام ومارس الفواحش فقد صار من جند إبليس: إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:100].
وينبغي للمسلم أن لا يستهين بالشيطان وكيده، ويكون منه على حذر، فلا تغلبه الثقة بالنفس؛ لأن للشيطان مداخل عديدة وحساسة، قد يدخل عليه منها دون أن يشعر، فقد يدخل عليه من باب الشبهات والتشكيك، وقد يدخل عليه من باب الرياء والإعجاب بالعمل، وقد يدخل عليه من باب تسهيل الصغائر حتى يوقعه في الكبائر وهكذا.. لهذا حذرنا الله خطره وأرشدنا إلى الاستعاذة به سبحانه من الشيطان الرجيم، لأنه خالق الشيطان والعالم بمكره والقادر على صرفه ودحره، كما حذرنا من اتباع خطوات الشيطان التي تفضي بنا في النهاية إلى الشرك والكفر، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [البقرة:208]، فهذا تحذير من اتباع خطوات الشيطان التي تبدأ باليسير الذي لا يشعر الإنسان به، وتنتهي بتلبس الإنسان بالعظيم من الأمور والخطير من المعاصي والآثام، فطلب منا سبحانه رد كيده بطاعة الله ومقاومته بذكر الله وتلاوة القرآن وغيرها من فضائل الأعمال، وبالابتعاد عن المعاصي وعدم الاكتفاء بهذا بل دلنا على سبيل عظيم في مقاومته وهو الاستعاذة بالله والاستعانة به على دحر الشيطان ورد كيده.
فقد بين سبحانه أن صاحب الطاعة محفوظ من كيد الشيطان، فقال وهو يخاطب إبليس عليه لعنة الله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، فعباد الله الذين يعبدون الله حق عبادته بإخلاص ويقين ويتبعون أوامر الله ورسوله لن يستطيع الشيطان أن يتسلط عليهم، أما صاحب المعصية فإن الشيطان يستزله بسبب معاصيه، وقد يهيمن عليه إذا كثرت هذه المعاصي، يقول سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ ماَ كَسَبُوا [آل عمران:155]، بل يقرر سبحانه أن أصحاب المعاصي قد قارنوا الشيطان وصاحبوه فأصبحوا له قرناء، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا [النساء:38].
فأول حرز يتحرز به المسلم من الشيطان هو طاعة الله وعدم معصيته، وأهم طاعة وأعلاها وأجدرها باهتمام المسلم في هذا الأمر وفي غيره من الأمور الإخلاص، فإن الشيطان بعيد عن كل مخلص، قريب من كل مشرك أو مراءٍ، لهذا فإن الشيطان نفسه صرح عن عجزه أمام المخلصين واعترف بأنه لا يستطيع غوايتهم فقال: رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39، 40].
الأمر الثاني الذي يُقاوم به الشيطان ذكر الله سبحانه، يذكر في الحديث الذي أخرجه الترمذي عن الحارث الأشعري أن زكريا عليه السلام أوصى قومه قائلا: وآمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذكر الله كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا، حتى إذا أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله. ويقول فيما أخرجه مسلم من حديث جابر: ((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء)). إذًا فذكر الله عز وجل حرز وحصن من الشيطان، ينبغي للمسلم أن يتحصن به حتى ينتصر في هذه المعركة مع الشيطان.
ومن أهم الأسلحة الفتاكة المقاومة للشيطان الاستعاذة بالله منه كما ذكرنا، فقد أمرنا بها الله سبحانه في كتابه في أكثر من آية من آيات كتابه، يقول سبحانه: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ هو السَمِيعُ العَلِيمُ [فصلت:200]، بل أنزل سبحانه في هذا الشأن سورتين عظيمتين سُميتا بالمعوذتين. كما وردت الاستعاذة بالله من الشيطان أيضا في أحاديث رسول الله ، أخرج الترمذي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا رسول الله، علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت، فقال ((يا أبا بكر، قل: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه، وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم)). فالاستعاذة بالله من شر الشيطان أمر عظيم، ينبغي للإنسان أن يلجأ إليه لرد كيد هذا العدو الذي يخفى عليه لكنه لا يخفى على الله.
وينبغي أن نعلم ـ إخوة الإيمان ـ أن للشيطان أماكن ومواطن يحضرها، بل لا بد أن يكون فيها، فينبغي أن نبتعد عنها حتى لا نمكنه من أن يلعب بنا أو يضلنا، فهذا أمر مهم في إحراز النصر عليه في معركتنا معه. من ذلك أماكن الخمر والميسر واللهو غير المباح، يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ [المائدة:90، 91]. ومن هذه الأماكن والظروف التي يحضرها الشيطان الخلوة بالمرأة الأجنبية، يقول فيما أخرجه أحمد عن جابر: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها، فإن ثالثهما الشيطان)) ، إلى غير ذلك من ظروف وأماكن ومواطن ينبغي للمسلم أن يحذرها ويبتعد عنها؛ لأن الشيطان يحضرها ليوقع بالإنسان فيما حرم الله.
والناس ـ عباد الله ـ في حالهم مع الشيطان وفي علاقتهم معه أنواع:
فمنهم الموفق في الابتعاد عنه وموفق في الانتصار عليه، يراقب نفسه في كل أمر، ولا يستهين بأي مدخل من مداخل الشيطان، فهؤلاء هم الخلص من عباد الله، نسأل الله أن يغلبنا على أنفسنا لنكون منهم.
ومن الناس من أسلم قياده للشيطان، يسير في ركابه، ويأتمر بأمره، حتى صار الشيطان يشاركهم في كل أمورهم، وهؤلاء هم الخاسرون الضائعون، وهم الذين قال الله عنه وعنهم: اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّغُرُورًا [الإسراء:63، 64].
أما النوع الثالث فهو الذي يتقلب بين الحالين، فأحيانا ينتصر على الشيطان، وأحيانا ينتصر الشيطان عليه، وهؤلاء تحت رحمة الله وعفوه إذا هم أخلصوا وبذلوا جهدهم في مقاومة غوايته وأخذوا بالأسباب الشرعية في ذلك.
فاحذروا ـ عباد الله ـ غواية الشيطان، ولا تهادنوه، واعلموا أن معركتكم معه قائمة، وعداوته لكم مستحكمة منذ أخرج أبويكم من الجنة، ولا تزال هذه العداوة وهذه المكائد إلى أن يفرق الموت بين الإنسان والشيطان أو تقوم الساعة فتنتهي أحداث هذه المعركة.
واعلموا أن طاعة الشيطان ذل وفقر في الدنيا وخزي وعذاب في الآخرة، وأن طاعة الرحمن فضل وعز في الدنيا وأمن ونعيم في الآخرة، فهل يختار عاقل الذل ويترك العز، ويختار العذاب ويترك النعيم؟! يقول سبحانه: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:268].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
إخوة الإيمان، للعبد إذا ما راقب نفسه وأرضى ربه كرامات وخيرات وإنعام من الرحمن ينعم به عليه، ومن أكبر هذا الإنعام أن ينصره في معركته مع الشيطان ويثبته ويسدده، وهذه أمور يمكن لأي مسلم أن يحصل عليها إذا اتبع أوامر الله وابتعد عن نواهيه، إذا أدمن على الطاعات وفارق المعاصي، إذا حفظ جوارحه مما حرم الله وأكل الحلال، ولقد كان الكثير من سلفنا الصالح موفقين في هذا الأمر منصورين في هذه المعركة ترتعد فرائص الشيطان إذا التقى بأحدهم، بل إنه لا يطيق حتى سماع أسمائهم، ومن أبرز هؤلاء وأعظمهم في تاريخ هذه الأمة فاروق الأمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان هذا الرجل شديدا على نفسه شديدا في أمر الله لا يخشى في الله لومة لائم، يبكي من خشية الله، ويقف عند أوامر الله، فكان الشيطان لا يطيق أن يمر من طريق فيها عمر رضي الله عنه، حتى إن رسول الله قال لعمر كما عند الشيخين من حديث سعد ((إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك)).
فانظروا ـ عباد الله ـ إلى هذه العظمة، وانظروا إلى هذا النور المستمد من مشكاة النبوة، وانظروا إلى من خاف الله فأخاف الله منه أخبث الشياطين وأعتى المردة إبليس عليه لعنة الله، وجعله يفر مدحورا مقهورا إذا رأى ابن الخطاب، فللَّه در هؤلاء الرجال.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن عمر بن الخطاب بشر من البشر، وإنما أكسبه هذه المزية ومنحه هذه الكرامة تقوى الله وخوفه ومعية الله سبحانه، إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ [النحل:128]، فكل مسلم يتقي الله ويخافه حق مخافته فإن الله يكون له ناصرا وظهيرا، فيهديه ويكفيه ويحميه وينصره في معركته مع الشيطان اللعين، أخرج أبو داود عن أنس أن رسول الله قال: ((إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله فيقال له: حسبك قد هديت وكفيت ووقيت، فيتنحى له الشيطان فيقول له شيطان آخر: كيف لك برجل قد هدي وكفي ووقي؟!)).
هكذا يكون العبد عزيزا بطاعة الله، وعزيزا بذكر الله، وعزيزا بالالتجاء إلى الله لا إلى سواه، ولما نسي المسلمون العودة إلى الله وطاعته وركنوا إلى الشهوات وارتكبوا الموبقات وأكلوا ما لا يحل لهم من أموال ومتاع واستمعوا ونظروا إلى ما حرم الله تسلط عليهم الشيطان، وقادهم إلى حيث يريد كما تقاد الدابة دون أن يكون لهم أدنى مقاومة أو امتناع؛ لأنهم فقدوا الصلة بالله، وأضعف ما يكون الإنسان أمام عدوه حين يفقد الصلة بربه.
فاللهم يا رب العالمين ردنا إليك ردا جميلا، ولا تجعل للشيطان علينا سبيلا، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه...
(1/3684)
الهجرة النبوية
سيرة وتاريخ
السيرة النبوية
عبد العزيز بن الطاهر بن غيث
طرابلس
29/12/1424
بلال بن رباح
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية حدث الهجرة. 2- انقضاء الأعمار. 3- الأمر بالهجرة. 4- خروج الرسول من مكة. 5- فضل الصديق أبي بكر رضي الله عنه. 6- فضل المهاجرين. 7- حفظ الله تعالى لنبيه في الغار. 8- انتشار الدعوة الإسلامية. 9- ضرورة استلهام الدروس والعبر من الهجرة النبوية.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: إخوة الإيمان، تظلّنا هذه الأيام ذكرى حادثة عظيمة من حوادث وأحداث تاريخنا الإسلامي، هذه الحادثة كانت إيذانا بعهد جديدٍ وتحوّل مهمّ في تاريخ الدعوة الإسلامية، تلكم هي هجرة رسول الله من مكة بيت الله الحرام إلى المدينة دار الهجرة، هذا الحدث يمثل أهمّ حدث من أحداث التاريخ الإسلامي، به بدأ بناء الدولة الإسلامية وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له وتبلّغ دينه الحنيف إلى كل الناس، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].
تجدُّد هذه الذكرى ـ عباد الله ـ يزيد في أعمارنا عامًا كلّما تكرر، ويذكرنا بانصرام الأيام ويبيَّن لكل مسلم أن حياته على هذه الأرض محدودة وأن كل يوم يمضي يقرب الإنسان من نهايته وأجله، فهذه أول عبرة من عبر مرور الأيام وتجدد ذكريات الأحداث، فما من مظهر من مظاهر الزمان والمكان إلا هو آية وعبرة للإنسان: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُِوْلِي الألْبَابِ [آل عمران:190].
جاءت هجرة رسول الله بعد الرسالة بثلاثة عشر عاما، بعد أن أمضى رسول الله هذه المدة وهو يجاهد من أجل إبلاغ دين الله سبحانه ومن أجل أن يهدي قومه والناس إلى طريق الله سبحانه صابرا محتسبا، يؤذى في سبيل الله ويرى أصحابه يؤذون ويعذَّبون ويقتلون ولا يزداد مع ذلك إلا صبرا ويقينا وطاعة لله سبحانه، وقد جاء الأمر بالهجرة إلى يثرب بعد أن بايع سكانها الأوس والخزرج رسول الله على الإيمان وعلى حمايته مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم وكان ذلك حين جاؤوا مكة حاجين فكانت هذه البيعة مقدمة للهجرة المباركة.
خرج رسول الله إلى المدينة مهاجرا إلى ربه وقد وعد الله من هاجر إليه أجرا عظيما، يقول سبحانه: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [النساء:100]. خرج إلى الهجرة بعد أن أعدت قريش العدة لقتله أو حبسه أو طرده، ولكن مكرهم عاد عليهم لأن هذا المكر لن يحيق بمن يرعاه الله ويؤيده ويسدده: إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُون [آل عمران:160]. أعدت قريش العدة لقتل رسول الله عن طريق عدد من شباب قبائلها حتى يتفرّق دمه بين القبائل، ولكن جبار السموات والأرض أبطل سحرهم ورد كيدهم إلى نحورهم، يقول سبحانه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
فتوجه الحبيب إلى حبيبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليخبره بأمر الهجرة، فما إن سمع الصديق بأمر الهجرة حتى كان همه الوحيد والكلمة الوحيدة التي قالها: (الصحبة يا رسول الله). عن عائشة أن رسول الله جاء إلى بيت أبي بكر في ذلك اليوم ظهرا على غير عادته، فلما دخل على أبي بكر قال: ((أخرج من عندك)) ، قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، يعني عائشة وأسماء، قال: ((أشعرت أنه قد أذن لي في الخروج؟)) قال: الصحبة يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة)) ، قال: يا رسول الله، إن عندي ناقتين أعددتهما للخروج، فخذ إحداهما، قال: ((قد أخذتها بالثمن)) أخرجه البخاري.
هكذا كان شغف الصديق بنصرة الدين: (الصحبة يا رسول الله)، وهذا هو طلبه: الصحبة، وهي ـ عباد الله ـ ليست صحبة رجل ذا ثراء وأموال، وليست صحبة رجل ذاهب في نزهة، وليست صحبة رجل يسافر إلى دولة يترفه فيها ويتنعم، وليست صحبة رجل له موكب وحاشية وخدم وحشم، إنها صحبة رجل مطارد مطلوب رأسه، فعلام يحرص الصديق على هذه الصحبة ويفرح ويفتخر بها؟! إنه الإيمان الذي تميز به صديق هذه الأمة رضي الله عنه، والذي جعله يُسخِّر نفسه وأهله وماله من أجل الدعوة ومن أجل الهجرة، فقد عرض نفسه لمصاحبة وخدمة وحماية رسول الله في الهجرة، وأنفق ماله في إعداد العدة لذلك وفي استئجار الدليل، وعرَّض ابنه عبد الله للخطر حيث كان يمسي عندهما عندما كانا في الغار ويصبح عند قريش يتسقط الأخبار، وكان مولاه عامر بن فهيرة يسرح بغنمه عند الغار ليسقيهم من لبنها، وكذلك فعلت أسماء التي حفظت السر والتي شقت نطاقها لتضع فيه طعامهما فسميت ذات النطاقين، فكانت عائلة الصديق كلها مجندة في سبيل الله وخادمة لرسول الله.
لقد هاجر رسول الله من أجل الدين لا من أجل الدنيا، فقد بقي في مكة طيلة هذه المدة رغم الأذى الذي يتعرض له هو وأصحابه، لأنه كان يسير بأمر الله سبحانه، وكان يريد أن يبلغ دين الله سبحانه وأن يهدي البشرية إلى طريق السعادة الأبدية، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا [الأحزاب:45، 46]. هاجر من أجل الله ومن أجل الدعوة إلى الله سبحانه، وكذلك هاجر أصحابه رضوان الله عليهم من أجل دينهم ومن أجل المحافظة على دينهم لا من أجل الدنيا، بل إنهم تركوا الدنيا في مكة، فمنهم من هاجر وترك ماله، ومنهم من هاجر وترك بيته ومتاعه؛ لأنهم لما نظروا إلى المال وإلى الدين وجدوا أن ضياع المال يُعوَّض، ولكن ضياع الدين لا يعوّض أبدا، وجدوا أن كسر المال والبيت والأهل يُجبر، أما كسر الدين فإنه لا يُجبر.
وكل كسر فإن الدين يجبره وما لكسر قناة الدين جبران
والهجرة إلى مكة تعتبر ثالث هجرة بالنسبة لأصحاب الرسول ، فقد هاجروا قبلها إلى الحبشة مرتين، وركبوا البحر وصارعوا الأمواج وتعرضوا للأخطار من أجل دينهم، وها هم يتركون مكة موطنهم وموطن آبائهم ومرتع طفولتهم وصباهم إلى المدينة استجابة لأمر الله سبحانه وأمر رسوله.
أمضى في غار ثور ثلاث ليال هو وصاحبه أبو بكر ينتظران أن يخفّ عنهما الطلب حتى يخرجا إلى المدينة، وكانت قريش تبحث عنهما في جنون وتبعث بعيونها في كل مكان وتجعل الأموال الطائلة لمن يأتيها بمحمد ، وقد وصل كفار قريش إلى الغار الذي يختبئ فيه رسول الله وصاحبه، ولكن الله سبحانه صرفهم عنه وردهم خائبين، يقول أبو بكر كما في صحيح البخاري: قلت للنبي وأنا في الغار: لو أنّ أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال: ((ما ظنك ـ يا أبا بكر ـ باثنين الله ثالثهما؟!)). إذا كان الإنسان في معية الله وفي عناية الله وإذا أيّد الله عبده ونصره فإن الكون كل الكون لن يضره بشيء إلا بشيء قد كتبه الله عليه، ((ما ظنك ـ يا أبا بكر ـ باثنين الله ثالثهما؟!)).
هكذا ـ عباد الله ـ لا يخاف العبد إذا أيقن أن الله معه، وهكذا يكون مسددا موفقا في كل ما يقدم عليه إذا كان مراعيا لمرضاة الله عز وجل، إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيم [التوبة:40].
لقد كانت الهجرة نتيجة صبر ثلاثة عشر عاما من الخوف والجوع والحصار والأذى، فكانت الثمرة على قدر التعب وعلى قدر الصبر، وهكذا هذا الدين لا يعطي ثمرته إلا لمن صبر وثابر، أما من استعجل النتائج فإنه يُحرَم وهذه سنّة كونية: "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه"، فدولة المدينة التي شعّ منها النور إلى كلّ الأرض كانت نتيجة لصبر مكّة، ورسول الله الذي خرج من مكة سرّا والناس يبحثون عنه دخل المدينة في احتفال عظيم يحفّ به الناس من كلّ جانب، كلّ منهم يطلب منه أن ينزل عنده، وتحقق للنبي ولأصحابه قول الله تعالى ووعده لعباده الصالحين: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55].
وها هي الدعوة التي انطلقت من رجل فقير من قريش هو رسول الله ، معه رهط يسير ممن سبقوا إلى التصديق والإيمان أكثرهم من الضعفاء والموالي، ها هي يحملها اليوم أكثر من مليار إنسان في كافة أنحاء الدنيا، وها هو الإسلام يدخل كل بيت، ونداء الحق يرتفع في كل مكان، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:8، 9]، يقول : ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو ذل ذليل، عزا يعز الله به الإسلام، وذلا يذل الله به الكفر)) أخرجه أحمد عن تميم الداري.
هذا وعد صادق من الله لرسوله، ووعد صادق من الله لأمة رسوله ولكل من سار على هدي رسوله سير السلف الصالح دون تبديل ولا تغيير ولا زيادة ولا نقصان، فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على أن تكونوا ممن ينصر الله بكم الدين في هذا الزمن الذي كثرت فيه الفتن، أسأل الله أن يوفقنا لمرضاته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، أحمده سبحانه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وأصلي وأسلم صلاة وسلاما دائمين متلازمين على أفضل خلقه وخيرة رسله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد كانت الهجرة النبوية كما أسلفنا حدَثا عظيما من أحداث تاريخ هذه الأمة، وكانت محطّة مهمّة من محطات مسيرة الدعوة الإسلامية، فلا بد للأمة التي تريد الرفعة في الدنيا والرفعة في الآخرة والتي تريد هداية الناس إلى الحق والخير، لا بد لها أن تستخلص من حادث الهجرة الدروس الكافية الكفيلة بأن تخرج الأمة من هذه الوهدة التي سقطت فيها وتعيدها إلى صدارة الأحداث، تعيدها إلى صناعة التاريخ، تعيدها إلى موقع الفعل، فتكون فاعلة منفعلة كما كانت أيام النبي وأيام الصحابة والسلف الصالح، بدل أن تكون مفعولا بها على الدوام مقهورة ومغلوبة على أمرها كما هي طيلة القرون المتأخرة.
في الهجرة دروس في الامتثال لأمر الله ودروس في الإيمان واليقين ودروس في التخطيط وعدم التسرع ودروس في التضحية والإيثار ودروس في الحكمة وحسن التصرف، كل هذا وغيره ينبغي أن نستنبطه من أحداث الهجرة؛ لأن كل جوانب سيرة رسول الله وسيرة أصحابه هي منار للأمة وعبرة وتوجيه على الأمة أن تعمل به، يقول سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21]، ويقول سبحانه موجّها الأمة إلى الاعتبار بقصص الأمم السابقة وقصص الأنبياء عليهم السلام: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُِوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون [يوسف:111]، فإذا سارت الأمة بهدي هذا النهج وهذه السيرة العطرة وبسيرة السابقين نالت العزّ في الدنيا والآخرة وإذا فرّطت انفرطت وضاعت.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنه كما هاجر الصحابة من أرض مكة إلى أرض المدينة امتثالا لأمر الله فإنهم هاجروا قبل ذلك هجرة لا تقلّ أهمية عن هذه الهجرة حيث هاجروا من الكفر إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة، فهذه أيضا هجرة مهمة ينبغي لكل مسلم أن يهاجرها إن كان صادقا في التوجه إلى الله، ينبغي أن يترك معاصي الله سبحانه ومساخطه ويسعى إلى حياض الطاعة والنور، ينبغي أن يهجر كل ما نهى الله عنه حتى يكون مهاجرا إلى الله سبحانه، أخرج ابن ماجة عن فضالة بن عبيد أن رسول الله قال: ((المؤمن من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)) ، فهل فكّرنا في هذه الهجرة التي لا تتطلب مالا ولا سفرا ولا تعرضا لخطر، بل تتطلب عزما وحزما، وتتطلب صدقا وإخلاصا في التوجه إلى الله سبحانه وفي نصرة دينه وإقامة شرعه؟!
أسأل الله سبحانه أن يوفقنا إلى صالح الأقوال والأفعال، وأن يجنبنا مواطن الزيغ والضلال، وأن ينصرنا بدينه وينصر بنا دينه...
(1/3685)
خطبة عرفة 1425هـ
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
عرفة
9/12/1425
نمرة
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحكمة من الخلق. 2- نور الإسلام. 3- أركان الإيمان. 4- أركان الإسلام. 5- العلاقات الاجتماعية في الإسلام. 6- تكريم الإسلام للمرأة. 7- المعاملات التجارية في الإسلام. 8- قانون الجنايات. 9- كلمة للشعوب والقادة. 10- التحذير من أعداء الإسلام. 11- ضرورة إحياء اقتصاد إسلامي. 12- حفظ الإسلام لحقوق الإنسان. 13- سبب تخلف المسلمين. 14- الحث على العدل والتحذير من الظلم. 15- الحملات على الإسلام وأهله. 16- نابتة التكفير. 17- فضل الصحابة. 18- أهمية الأخلاق الكريمة. 19- خطر دعاة الحرية والانحلال. 20- واجب العلماء والدعاة إلى الله. 21- نصيحة للأقليات الإسلامية. 22- كلمة لرجال الإعلام. 23- الإشادة بجهود رجال الأمن. 24- نصائح وتوجيهات للحجاج.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى، اتّقوا ربَّكم عباد الله، والزَموا التَّقوى إلى أتن توافوا الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. اتّقوا ربَّكم، فتقوى الله سببٌ لمحبَّةِ الله لكم والله يحبّ المتقين. اتّقوا اللهَ في سرِّكم وعلانيّتكم، في الرضا والغضب، في كلِّ الأحوال، فبتقوَى الله تصلح الأعمالُ وتغفَر الذنوب ويحصُل الثوابُ العظيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]. اتَّقوا ربَّكم، وتزوَّدوا لمعادِكم، فخير زادٍ للمعاد زادُ التّقوى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1].
أمّة الإسلام، خلَق الله أبانا أبا البَشر بيده، نفَخ فيه من روحه، أسجد له ملائكتَه، أسكنه جنَّتَه، حسدَهما إبليس، فزيّن لهما المعصيةَ، فأهبطهم الله من الجنّة، هبط آدم وزوجتُه من الجنّة وهما يحملان نورَ الإيمان والهداية، أهبطهما الله إلى الأرضِ تحقيقًا لوعدِه: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]؛ ليعمرَ الأرض بطاعةِ الله وتوحيدِه، ولتستضيءَ الأرض كما استضاءَت السّماء.
ظلَّ نور التوحيدِ والهداية يضيء للبشريّة قرونًا عديدة حتى اجتالت الشياطينُ بني آدم عن فِطرتهم، وزيَّنت لهم الشّركَ بالله، وأخرجَتهم من النورِ إلى الظّلُمات. نعم أيّها المسلم، ما مِن مولودٍ يولَد إلاّ وفي قلبه نورُ الهداية والإيمان، ولكنّ شياطينَ الإنس والجن تجتالُه عن تلكم الفطرة، تخرجه من النور إلى الظلمات، من نورِ التوحيد الحقِّ والهداية والأخلاقِ الكريمة إلى ظُلمة الشّرك والجهل والأخلاقِ الرّذيلة، وصدق الله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257].
كلّما أظلمتِ الأرض بالشرك والضلال والطّغيان والابتعاد عن الهدَى وكلّما غلب الشركُ وطغى وابتعدتِ البشريّة عن الهدايةِ الربانية بعَث الله الرسلَ، فأشرقت شمس الهداية بمبعَث الرسل، وتتابَعت الرّسل على العِباد بهدايةِ الله، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى [المؤمنون:44].
وفي آخرِ الزّمان عمَّ الأرضَ ظلامٌ دامس، وابتعَدَ النّاس عن الهدَى، وغلَب الشرك وطغى على البشرية، فأشرقَت شمس الهداية بمبعَث سيّد الأولين والآخرين سيّدِ ولَد آدم إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام، إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب:45، 46].
نظَر الله إلى أهلِ الأرض فمَقَتهم عرَبَهم وعجَمَهم إلاّ بقايا من أهلِ الكتاب، بعثَه الله بهذا الدّينِ العظيم، دينِ الإسلام الذي بدَّد الشركَ بكلّ أنواعه بنورِ التوحيد الحقِّ. أنار الله به القلوبَ، وحرّرها من عبادة المخلوقِ تحقيقًا للحكمة التي لأجلِها خلَق الله الثقلين، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وليطبِّقوا أمرَه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
بدَّد ظلماتِ مَن قالوا في معبوداتهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، ومَن زعموا أنّه لا يستطيع أن يدعوَ الله إلا بواسطةِ بعض البشر بِنورِ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة:186]، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فلا واسِطةَ بيننا وبين اللهِ في دعائِه، بَل نرفَع أكُفَّنا إليهِ في أيّ وقتٍ كانَ، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29].
بدَّد ظلماتِ مَن عظّموا قبورَ الأمواتِ وطافوا بها تعبُّدًا ودَعَوها من دونِ الله وزَعموا تعدُّد الآلهة بنورِ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163].
جاء بنورِ الإيمان الذي جلا الظلمَات عن القلوب، بِأركانِ الإيمان الحقّةِ حيث أمرَهم بالصلاة والزكاة والصوم والحجّ، وجعلها أركانَ الإسلام، وجعلها فرضًا على الأعيان. جاء بنورِ الإيمان، بالإيمانِ بالله وملائكتِه وكتبِه ورسلِه واليومِ الآخر وبالقضاءِ خيرِه وشرِّه.
فإيماننا بالله إيمانٌ بربوبيّته وإيمانٌ بكمال أسمائه وصفاتِه وإيمان بأنّه المعبودُ بحقٍّ وما سواه فمعبودٌ بباطل.
إيمانٌ بملائكة الرحمن، العباد المكرمون الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمَرون، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [الانفطار:10-12].
إيمانٌ بكتب الله التي أنزلها لهدايةِ البشر، وأنها حق وما فيها حقّ، جاءت بها المرسَلون من ربّ العالمين، نؤمِن بما سمّى الله لنا في كتابِه، فنؤمن بصحفِ موسى وإبراهيم وزبورِ داود والتوراة التي أنزلها الله على موسى والإنجيلِ الذي أنزله الله على عيسى، ونؤمِن بالقرآن وأنّه مهيمنٌ على الكتب كلِّها، مصدّقٌ لها، محِقّ للحقّ ومبطِل للباطل، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48].
نؤمن برسُل الله الذين أرسلَهم الله لهدايةِ البشر، فنؤمِن بمن سمَّى الله لنا، فآمنّا بنوحٍ وآدمَ وإبراهيم وموسى وعيسَى وغيرهم من أنبياء الله الذين سمَّى الله لنا، وأنَّ خاتَمهم وأكمَلهم وأفضَلهم سيّد ولد آدم محمد.
نؤمِن باليومِ الآخر وما أخبَر الله عنه ممّا خفِي علينا عِلمُه، فنؤمن بالجزاءِ والحساب والكُتُب وميزانِ الأعمال، وأنّ نهايةَ البشر إمّا إلى نعيمٍ مقيم وإمّا إلى عذابٍ أليم، نؤمِن بهذا كلِّه كما دلّ القرآن والسنّة عليه.
جاء الإسلام بنورِ العبادات ليبيِّن للعِبادِ كيفَ يعبُدون ربَّهم، ويُرِيَ لهم الطريق، فافترَض عليهم فرائضَ الإسلام من صلاةٍ وزكاة وصوم وحجّ، وجعلها أركانَ الإسلام وفرائضَ على الأعيان.
أمّة الإسلام، المجتمعاتُ قبل الإسلام الجاهليّة تعجّ بالمنكرات والأباطيل والضّلالات التي استحقَّ أهلها عقوبةَ الله، فجاء الإسلام بنورِ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
لقد كان للنّاس مع والدِيهم أحوال مزريَة وأمور مظلمة، فجاء الإسلام بنورِ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]. عاشت المجتمعاتُ في ظلماتِها قطيعةً بين الأرحام، فلا الأخ يعرِف أخاه، ولا القريب يصِل قريبَه، فجاء الله بنورِ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الرعد:21]، وبالوعيد على قطيعةِ الرحم فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]. كم عانى الجيرانُ من ظلمِ الجارِ بعضِهم لبعض، فجاء بنور وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [النساء:36]، وبقوله : ((من كانَ يؤمِن بالله واليومِ الآخر فليكرِم جارَه)) ، ((ولا إيمانَ لمن لم يأمَن جارُه بوائقَه)).
أيّها المسلم، المرأةُ في الجاهلية ـ وحدِّث ولا حرج ـ كم عانت، كم ظلَمها الظالمون، وجار عليها الجائِرون، سنينَ وقرونًا، فجاءَ الإسلام، جاء بالنور المبين، فأعطى المرأةَ حقَّها، فهي الأمّ الواجبُ بِرّها، والأخت الواجب صِلَتُها، والزوجةُ الواجِب حُسن معاشَرَتها، والبِنت الواجِبُ تربيَتها. جاء ليقولَ لهم: إنَّ للمرأة حقًّا في الميراث خلافَ أهلِ الجاهلية: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]. حجَبَها بنورِ الإيمان ليَمنَعَها من أعينِ الطّامعين المفسدين، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب:59].
كان في الجاهلية معاملاتٌ سيّئة مبنيّة على الظّلمِ والجهل والغرَر والخداع، فجاء الإسلام بتنظيمِ تِلكمُ المعاملات، فأمَر المتبايِعَين بالصّدق: ((فإن صدقا وبيّنا بورِك لهما في بيعهما)) ، ((ومن غشنا فليس منا)) ، وحرّم الربا والتعاملاتِ الخبيثة التي تشتمِل على ظلم وغُرم، وأمَر الجميعَ بالتزام العدلِ، فنهى البائعَ والمشتري جميعًا، ولم يجعل رِضاهما مُبيحًا للجَهالة والبيعِ الباطل.
أيّها المسلم، وفي النكاح في الجاهلية كم عانت المرأة من العضلِ وسوءِ العشرة وجحد الحقوق، فجاء نور الإسلام ليأمرَ بالعشرةِ الحسنة وينهَى عن العضلِ ويحفظ لها حقوقَها. كانت في الجاهلية لا يُسمَع صوت، ولا يقام لرَأيها وَزن، فيزوِّجها أبوها مَن شاءَ ويمنَعها ممّن شاء، فجاءَ الإسلام: ((لا تنكَح البكر حتى تُستَأذَن، ولا الأيمُ حتى تُستَأمر)). كانوا في جاهليّتِهم يطلِّقون المرأةَ، فإذا قارَبت انقضاءَ عِدّتها استرجَعها، وربما تكرَّر عليها ذلك مئاتِ المرّات، فجاء الإسلام ليحسم هذا الظلم: الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ [البقرة:229].
في الجناياتِ كانت الجاهليّة مبنيًّا انتقامها على الثارات، القتل أنفَى للقتل، فجاء الإسلام بالقِصاص أو الدّية أو العفو تحقيقًا لأمنِ المجتمع وسلامَتِه. جاء الإسلام بحدودٍ شرعية تردَع المجرمين وتوقِفهم عند حدِّهم، وتأخذ على أيدي المفسِد والمبطِل، وسبحان الحكيم العليم أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].
كانوا في جاهليّتهم يتحاكمون إلى الأعراف والعاداتِ الجاهلية بما فيها من ظلمٍ وعدوان، فجاء الإسلام بالخيرِ كلّه: وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ [المائدة:49]، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].
بعث الله محمّدًا بالنور المبين ليحرِقَ به ظلماتِ الجاهلية على اختلافِها، ويقيم المجتمَعَ العادل المنتظِم بوحيِ الله السّائر على منهج الله.
هذا دينكم دينُ السماحة واليُسر، دينُ الرحمةِ والخير، دينُ حفظ الحقوق، دين الرّحمةِ والصِّلة، دين مشتملٌ على خَيرَيِ الدّنيا والآخِرة.
إخوةَ العقيدة، إنّ الإسلام جاء بعلاجٍ كامِل شافي لمشاكل الأمّة؛ ليقيمَ لها المنهج القويم في حياتها. جاء بحِفظِ المصالح العُليا للأمة، جاء بتنميةِ اقتصادها، جاء بحِفظ الحقوق والاستفادة من كلِّ تقدّم نافع، جاء بالأمر بالعدلِ والتحذير من الظلم ومِن مَسالك التطرُّف غلوًّا وجفاء، جاء باحترامِ حَمَلة الدين وأهلِه من الصحابة ومن سار على نهجهم في الدّين، جاء بالأخلاق الكريمة وحذَّر من الأخلاق الرّذيلة.
أخي المسلم، في المَصالح للأمة فقد جاء الإسلام بالدعوة إلى الاعتناءِ بالمصالح وتكثيرِها ودرءِ المفاسد وتقلِيلِها، وتقديمِ المصالح المتعدِّية على المصالح القاصِرة، فالمصالح العليَا للأمة يجب إعمالُها، أمنُ الأمة وتماسُكُها وحماية مقدَّراتها أمورٌ هي سبَب لانتِشار الدّين وهيبةِ الأمّة وعزِّ الإسلام. إنَّ المصالح العُليا للأمّة يجب إعمالها، ولا يجوز التعدِّي عليها لأيِّ غرضٍ شخصّي أو هوًى بدعيّ أو مصالح حزبيّة أو مطالب إقليميّة أو نعراتٍ جاهلية أو عصبيّة قبليّة.
أيّها الشعوب والقادّة، إنّ أمّتَنا تمرّ بظروفٍ دقيقة خَطيرة، تستوجِب منّا وقفةً صادِقة نقدِّم فيها المصالحَ العامّة على المصالح القاصِرة، ونهتمّ بدَرء المفاسِد تقديمًا على جَلب المصالحِ حِفاظًا لكيان الأمّة.
أيّتها الشعوب المسلِمة، التفّوا حولَ قادَتِكم فيما توجَّهوا إليه من خَير، وتناصَحوا معهم فيما يعود على الأمّة بالخير، وإيّاكم ومنابذَتهم أو تكونوا ثغرَةً للأعداء عليهم. إنَّ مصالح الأمّة لا تُحَلّ إلا بالحكمة والبصيرة والتدبُّر والتعقّل، فاحذروا أن تكونوا يدًا لأعدائِكم على أمّتكم أو تسهِّلوا لهم مهِمَّةَ الاعتداء على أمّتكم، فذاك ممّا يخالف شرعَ الله.
أيّها القادة المسلِمون، إنّ أمنَ أمّتكم ودينَها أمانةٌ في أعناقِكم، فاتقوا الله في أمّتكم. إن حلَّ مشاكل الأمة لا يكون بالارتِماء في أحضان الأعداء، ولا بالزجِّ بالأمّة في أمورٍ لا تحمَد عُقباها، بل الحِكمة والتروِّي في الأمور ودراسةُ الأحوالِ قبل كلِّ شيء لتكونَ قراراتُ الأمّة قراراتٍ مصيبةً مبنيّة على الحكمة والتروِّي في الأمور كلِّها.
أمّةَ الإسلام، إنّ أعداءنا لا يألوننا خَبالاً، وَدّوا تفرُّق صفوفنا وتشتِيتَ كلِمَتنا. إنهم يسعَونَ في خَلخَلة أمنِنا، ويسعَونَ في إشغالِ بعضنا ببعض؛ لنكونَ لقمةً سائغة لهم، فلنحذر من مكائدِ أعدائنا.
أمّة الإسلام، ها هو العالم من حولِكم شَرقًا وغربًا قد انتظَموا في تكتُّلاتٍ اقتصادية عُظمى، قلوبهم متفرِّقة، اتِّجاهاتهم الفكريّة متغايرة، لكن جمعَتهم مصالحُ ديناهم وخوفُهم من عدوِّهم، وأين أنتم يا أهل الإسلام، يا من تربِطكم عَقيدةُ الإسلام ووحدة الإيمان؟! من أينَ تكونُ شكوانا؟! أنَشتَكي مِن قلّة الموارد؟! فبلادنا بلاد الخيراتِ على تنوُّعها. أيَشتَكي المسلمون من قلّة الأيدي؟! فالمسلمون من أكثرِ الأمَم. أيشتَكون من ضيقِ الأرض؟! فأرضُ الإسلام تحوِي القارّتين فأكثر. إنما يشكو المسلمون للأسَف الشديد من بُعد أبنائهم عن دينهم، مِن كَثرةِ التفرُّق، تفرُّق القلوب وغلَبة الأهواء، والأمّة إذا تفرَّقت قلوبها لم يمكِن جمعُ أبنائها. نشكو من عدوٍّ يؤصِّل فرقتَنا ويُذكي قطيعَتَنا ويحاول تشجيعَنا للبُعد عن ديننا. إنَّ دينَنا الحقّ ليس سببًا للتخلُّف، ألا ترَى الله يقول: فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15]؟!
إنّ المسلم يتساءل: لماذا لا يكون لأمّةِ الإسلام كيانٌ اقتصاديّ موحَّد خالٍ من التبعية؟ لماذا لا يكون لها كيان يستمدّ منهجَه من كتابِ ربِّنا وسنّة نبيّنا ، كيان خالٍ من الربا أخذًا وعَطاءً، كيان يجعَل أسواقَ الأمّة لتسويق منتجاتِها وصناعتها، كيان يعطينا قوَّتنا وتميُّزَنا، لستُ أنادي بنَبذ التعاوُن مع الآخرين، ولكن ليكُن للأمّة استقلاليّتها بأيّ وسيلةٍ يمكن، ولا يتمّ ذلك إلا بتعاوُن الجميع في إيجاد منظّمة اقتصاديّة إسلاميّة تعالج مشاكلَ العصر حتى تكونَ الأمة على استقلالِها كما أراد الله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110].
أمّةَ الإسلام، في مثلِ هذا اليوم وفي مثل غدٍ أعلن المصطفَى النداءَ العامّ للأمّة: ((إنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدِكم هذا)). نعم أيّها المسلم، إنه النداءُ الذي يحدِّد حقوقَ الإنسان الحقّة المبنيّة على العدلِ لا على الظلم والجور، حقوق الإنسان كما أرادها الإسلام، حفِظ للإنسان حقَّه في الحياة فحرَّم الاعتداءَ على النّفس، حفِظ حقَّه في التصرّف في المال فحرّم الاعتداءَ على الأموال، حفِظ حقَّه في تكوينِ الأسرة وتربيةِ الأولاد فحفِظ كرامَتَه وشرَفَه وحرَّم الاعتداءَ عَلَى عِرضِه. هذا دينُ الإسلام دينُكم الحقّ، السبَّاق لكلِّ خير، الذي جعل تعاليمَه ديانةً يجب الالتزام بها ويحرُمُ التعدّي عليها.
إنَّ أقوامًا رفعوا شعاراتٍ برّاقة ليخدَعوا بها الأمم، شعاراتٍ طالما تنادَوا بها باسمِ حقوقِ الإنسان، وإنما هي الشّعارات الزّائفة لاستِذلال الأمَم والسيطرةِ عليها، ثم نرَاهم من أوّلِ مَن خالفَها، ولا نجِد لها بينهم ذِكرا، فهل حقوقُ الإنسان حقٌّ لشَعبٍ دونَ شَعب أو لزمان دون زمان؟! إنَّ دينَنا حفِظ حقوقَ الإنسان من أوّل مبادئه، فحفِظ عرضَه ودينه وعقلَه وماله وعرضه، كلُّ هذه جاء بها الإسلام. تعاليمُ دينِنا ليست شعاراتٍ لاستِذلال الشعوب ولا لإشغالها عن مهمّاتها، ولكنّها المنهَج والعقيدة، لإصلاح الدين والدّنيا معًا.
أمّةَ الإسلام إنّ لربّنا سننًا كونيّة لا تتبدَّل ولا تتغيَّر، من أخذ بهذه الأسباب نال بتوفيقٍ من الله مسبّبَاتها مسلما كان أو غير مسلم، وإذا أعَدنا النظرَ للوراء لأمّتِنا وسلفنا الصالح حينَما استعانوا بربهم وأخذوا بزِمام الأمور وعُنُوا بالعِلم واستفادوا من تجاربِ الآخرين كان لهم في زَمَنهم القِدح المعلَّى، وكانوا أهلَ السيادة والرّئاسَةِ، وكانت بلادُهم قِبلةَ العلوم دينِيِّها ودُنياها، استضاءت بلادهم بأنوارِ المعرِفة، بينما كان غيرُهم يعيش ظلماتٍ وتقهقرًا وَرَجعيّة، فلا دينَ ولا عقيدة ولا شريعةَ ولا دنيَا يتميّزون بها، لكنّ القومَ استأطَروا أنفسَهم على العلم، وجدّوا واجتهدوا واستفادوا من تجارب الآخرين، وللأسَفِ الشديد كانت لهم الدّولة على المسلمين، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
إنّ دينَنا ليس السّبَب في تقهقُرنا، وليس انتسابُنا لديننا عيبًا علينا، فدينُنا يدعونا إلى العِلم وأن ننطلِق في آفاق العِلم والمعرفة ليعودَ لنا كياننا وقوّتُنا.
أيها المسلم، إنّ خِلافنا مع غيرنا لا يوجِب التقوقُعَ والانزواء وعدمَ الاستفادة مما لدَى الآخرين من تقنِيةٍ أو في الزراعةِ وفي السياسة وفي الاقتصاد وفي الطبِّ، فتلك أمورٌ جاءت لإصلاحِ دنيا الناس وتحقيق معاشِهِم، وإنّ استفادَتَنا من غيرِنا لا توجب الاغترارَ والانخداع، ولكنها الأمّة الوسطية تأخذ من كلّ شيءٍ خِيارَه.
أمّة الإسلام، العدلُ يحبّه الله، العدل أمرَ الله به وبه حكم، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل:90]. العدلُ كلّه صلاح وخيرٌ وهداية، العدلُ به أرسَل الله الرسلَ، وبه أنزلَ الكتب، وبه شرع الشرائعَ للحفاظ على كيانِ البشرية، لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ الآية [الحديد:25].
أمّةَ الإسلام، بالعدلِ تُحقَن الدماء، وبالعدل تُصان الأعراض، وبالعدل تحفَظ الأموال، وبالعدل تطمئنّ النّفوس ولو كان الحكم عليها. إنَّ العدلَ ينشده الشّرفاءُ والضّعفاء، وكلّ عاقلٍ ينشد العدلَ، إنّه خير ونِعمة، وبه صلاحُ الأمّة وقيامها. إنّه عدلٌ بين العبدِ وبين نفسِه في طاعتِه لربّه وقيامه بما أوجب الله عليه. عدلٌ في أبنائه بالعدلِ بينهم، ((واتّقوا الله واعدِلوا بين أبنائكم)). عدلٌ بين الزوجات، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً [النساء:3]. عدل في الأقوال والأفعال، قال الله جل وعلا: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8].
أمّةَ الإسلام، لقد عاشَ غيرُ المسلمين معَ المسلمين دُهورًا عَديدة، ما اشتَكَوا هَضمًا، ولا خشَوا ظلمًا، وإنما عاشوا تحت كيان الأمة المسلمة، رَضوا بعدلِ الإسلام، وقرّت به عيونهم، لم تكن الأمّة تفرض دينَها بالقوة على البشرية؛ لأنّ ذلك ينافي تعاليمَ الإسلام، ولكن الأمّة لما رأوا حمَلةَ هذا الدين وأنّ حمَلَتَه كانوا رجالاً صادقين مع ربهم، صادقين مع أنفسهم، صادقين مع غيرِهم، رأَوا رجالاً تسبِق الأعمال الأقوالَ، رأوا رجالاً على الحقِّ في سرِّهم وعلانيّتهم، رأوا العدلَ والإحسان والإسلام بصُورَتِه المضيئة، لا غلوَّ ولا جفاء، لا إفراطَ ولا تفريط، دخلوا في دينِ الله طائعين منقادِين راضينَ، فانتشَر الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجًا على أيدي أولئك الرعيل الأول الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وتحقيقًا لقوله جلّ وعلا: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33].
أيّتها الأمّة، إني أناشِد صنَّاع القرارِ في العالم أن يَعُوا ويعلَموا أنّ الظلمَ حرَّمه الله على نفسه، وجعله محرَّمًا على عباده. فيا مَن سُلِّطوا على الأمّةِ بمعاصيهم، ويا مَن ابتُلِيت بهم الأمّة، اعلَموا أنّ الظلمَ ظلماتٌ في الدنيا والآخرة، عاقبةُ الظلم ضَررٌ على البلادِ والعِباد والأموالِ، وقد قال الله في الحديثِ القدسيّ: ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعَلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا)).
أمّةَ الإسلام، إنّ هناك حملاتٍ تُشنّ على أهل الإسلام، حملات عسكريّة، حملات فكريّة، حملات اقتصاديّة، حملات إعلاميّة، كلُّها ضدّ هذا الدين، وصفوا هذه الأمةَ بأنهم الأمّة الإرهابيّة، وصفوهُم بأنهم الإرهابيون، وصفوهم بأنهم متخلِّفون، ووصفوهم بأنهم منتقِصو حقوقِ الإنسان، ووصفوهم بأنهم منتقصو الحريّة بانتقاص حريّات البشر، وأنهم اختَرَقوا حقوقَ الإنسان إلى غير ذلك، عقَدوا المؤتمراتِ، وحاكوا المؤامرات، ورَمَوا الأمّةَ عن قوسِ العداوة ظلمًا وجَورا، وإلاّ فالإسلام هو دين العدل والحقّ وحفظ الحقوقِ واحترام الحريّات لمن تدبَّر تعاليمَه ومبادئه وسبَر ذلك خيرًا.
أمّة الإسلام، لئن كان غيرُنا فرِح بانتسابِه لمناهجَ فلسفيّة شرقيّة أو غربية لا طائلَ تحتها، لا تزيدُ أهلَها من الله إلا بُعدًا، إن بحثتَ معهم في أسماءِ الله وصفاتِه وآثارِ ربوبيّته لم تجد عندهم شيئًا، إن بحثتَ معهم في توحيد الله وإخلاصِ الدين له وجدتَ ما يخالف ذلك، إن بحثتَ فيما بعث الله به الرّسلَ من الهدَى والحقّ لم تجِد عندَهم شيئًا من ذلك، فاحمَد الله أن جعَل منهجَ حضارتِك وأساسَ بِنائك كلامَ الله وكلام رسوله. إيّاك أن تنخدعَ بحضارةٍ علِمتَ هشاشةَ بنائِها وسوءَ تأسِيسِها، لا تمجِّد رموزَهم، ولا تنخدِع بهم ولا بآرائِهم، ولا تجعَلها عِوَضًا عن كلام الله وكلامِ رسوله.
أمّةَ الإسلام، إنّ مِن عظيمِ ما ابتُلِيت به أمّةُ الإسلام ما كان من بعضِ أبنائها الذين أغوَاهم شياطينُ الإنس والجنّ بسوء توجيههم وقُبحِ توجّهاتِهم، أطاعوهم وللأسَفِ الشديد، ركِبوا مركَبَ التكفير فأرداهم، كفَّروا الأمّةَ، استباحوا الدماءَ المعصومة، وخفروا الذّممَ، وسعَوا في الأرض فَسادًا، تفجيرًا وتدمِيرًا وقتلاً للأبرياء وترويعًا للآمنين وانتهاكًا لحرمةِ المسلمين وتنقُّصًا لولاةِ المسلمين.
هؤلاء أطاعوهُم كِبرًا وعُجبًا، تُلِي القرآن عليهم، وسمِعوا السنّة، ونُقل لهم إجماعُ علماءِ عصرهم وما عليه سلَفُ الأمّة، فأصرّوا كأنهم لم يسمَعوا ذلك تجاهلاً، أرهبوا أهلَ الإسلام، وفرَّحوا فيهم أهلَ الكفر والطغيان، وشمتوا بالمسلمين الحاقدين، فهذه صَفقَةٌ خاسرة والعياذ بالله.
أيّها الشابّ المسلم، يا من رتَع المرتَعَ الوّخيم، كيف تقابِلُ الله؟! أتقابِله بدماءٍ بريئة قَتَلتَها، أو ساعدتَ في قتلها؟! كيف تجيب إذا سألك المقتول يوم القيامة: يا ربِّ، سل عبدَك لم قتلني؟! أتُلاقي ربك بذمَمٍ خَفَرتها وعهودٍ غدرتها ومجتمعاتٍ إسلامية أقضَضتَ مضاجِعَها وعبثتَ بمقدَّراتها وانتهكتَ حرماتها وسلّطتَ الأعداءَ عليها؟! أتَلقَى ربَّك بأشلاء مزَّقتها حينما فجَّرتَ نفسَك إرضاءً للشيطان واتِّباعًا للهوى وطاعةً للأعداء الحاقدين أو هوًى للمتعَالمين الذين لا يزِنونَ الأمورَ ولا يعرفون قدرَ الأحداث والأمور؟!
أيّها الشباب المسلم في عالمنا الإسلاميّ، أوصيكم بتقوى الله، أوصيكم بالتثبّت في الأمور، احذَروا أن يتَّخذَكم أعداؤكم مطايا لتنفيذِ أغراضهم، تظنّون بهم خيرًا، وتحسنون الظنَّ بأولئك، وأولئك يريدون القضاءَ عليكم وعلى أمّتكم. فاحذروا أن تنقادوا لكلِّ دعاية، قِفوا عند كلِّ داعٍ وفكره، وزنوا هذا الفكرَ وماذا يُراد، ادرُسوا الأمورَ حقًّا، وانظُروا ما وراءَ السطور، فكم من عدوٍّ متلبِّس بالأمّة يظهِر لهم النصحَ والتوجيه، لكن يريدُهم حربَةً في نحورِ الأمّة، حتى إذا تمَّ له الأمر جعَل أولئك حَطبًا آخرَ. فاحذروا مكائدَ الأعداء، ولا تنقَادوا لكلِّ داعٍ، وزِنوا كلَّ قولٍ ومَن جاء به، وادرسوا الأمورَ على حقيقتها، والجؤُوا إلى الله في تبصير قلوبكم، ثم لعلماءِ أمّتِكم ليبصِّروكم ويهدوكم الطريقَ المستقيم.
أمّة الإسلام، إنّ الله اختارَ محمّدًا فجعله سيّدَ الأوّلين والآخرين، واختارَ لَه صحابتَه الكرامَ أبرّ الناس قلوبًا وأصدَقها أَلسنًا وأصبرها عِند اللقاء، قومٌ صحِبوا رسول الله، ونقلوا أقوالَه وأفعالَه، ونصروا سنّتَه، شهِدت لهم دموعٌ جرَت من خشية الله، ودماءٌ سالت في سبيلِ الله، وأموال أُنفِقَت في سبيلِ مرضاةِ الله، أثنى الله عليهم: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100]، لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:18].
همُ الذين نقَلوا لنا دينَ الله بكلِّ صدقٍ وأمانة، فهم الصّادِقون، همُ القانتون، هم المعدَّلون، هم المهديّون المرضيّ عنهم، حبُّهم إيمان، وبغضهم نفاق. إنّا نحبّهم ونحبّ آلَ بيت رسولِ الله المنتسِبين إلى شرعِ الله، نحبّهم لمحبَّتنا لله ورَسوله، نحبّ التابعين لهم بإحسانٍ الذين لهم قَدَم صدقٍ في العالَمين وحُسنُ بلاءٍ في هذا الدين، نحبّ علمَاءَ الأمّة الذين نصَروا هذا الدينَ ونشروا هذا الدين، من حَمَلة الحديثِ وحملة التّفسير والفقهِ وغيره من علوم الإسلام، الذين نقَلوا هذه الشريعةَ لنا، نحبّ كلَّ برٍّ تقيّ في أيّ زمان ومكان.
أمّة الإسلام، إنّ دينَنا دين الأخلاق الكريمة والبعدِ عن الأخلاقِ الرذيلة والخِلال الذميمة، الله جل وعلا قال في حقِّ نبيِّنا: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فلولا أنّ للأخلاقِ شأنًا لما مُدِح بها خيرُ الأنبياء في خير كتُب الله. إن أطرَ النفس على الأخلاق الكريمة سبَبٌ لنجاتها من عذاب الله، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10]. إنّ الخُلُق الكريمَ سببٌ للخيريّة، ((خيركم أحسنُكم أخلاقًا)) ، وقد ضمِن النبيّ بيتًا في الجنة لمن حَسنَ خُلُقه. إنَّ الاهتمامَ بالأخلاق الكريمة وتنميَتها سببٌ لسعادةِ الأفراد في الدّنيا والآخرة، حمايَةُ الفضيلة ومحارَبَة الرّذيلة سببٌ يقي وحِصن يقي الأمّةَ من الانهيار.
لنَعُد إلى أنفسِنا وأبنائنا وبناتِنا، لنربِّهم على الأخلاق الكريمة في هذا الزّمَن الذي كثر فيه أسباب الشرّ وقلّ المنكِرون وأعلنت كثيرٌ من القنوات الفضائية حربَها على العقيدة، وحربَها على الأخلاق والقِيَم، وحربَها على الفضائل، فلنحصِّن أبناءَنا بدين الله، فعسى الله أن يجعَلَ في ذلك خيرًا وبرَكَة.
أيّها المسلم، إنّ المسلِمَ ليهتمّ كيف أولئك الذين يفكِّرون دائمًا في الفساد والإفسادِ، ما همُّهم إلاّ إفساد الأمة، تارةً يخرِجون المرأةَ من بيتِها باسم العدالة، أو يمنعونها حجابَها باسم الحرية، مطايا لشياطين الإنس والجنِّ فيما يجلبون به على الأمّة المسلمة، وهمُّهم هدمُ الإسلام، معاوِل هدمٍ للأخلاق والقِيَم، فنسأل الله أن يردَّ الجميع إلى الهدايةِ والتوفيق، نسأل الله أن يردَّ الجميع إلى الهداية وصلاحِ القولِ والعمل.
يا علماءَ الأمة المسلمة، أنتم ورَثَة الأنبياء، وأنتم حَمَلة الرّسالة، وأنتم عليكم التّبِعة، فبصِّروا عبادَ الله، اهدُوهم سبيلَ الرشاد، تكلَّموا بالحقّ، فلا تكتموا الحقَّ، ولا تقولوا باطلاً، بصِّروا الناس، وأفتوهم بشرعِ الله من غيرِ تساهلٍ ولا تشدّد، بل دين الله وسَط بين من غلا وجفا.
أيّها الدعاة إلى الله، ادعوا إلى الله على علمٍ وبصيرة، وادعوا إلى الله بإخلاصٍ، وحاوِلوا إصلاح أوضاع أمّتكم، وبيِّنوا الحقّ بحكمةٍ وبصيرة، ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125].
يا شبابَ الإسلام، إنّ أمّتَكم بأمسِّ الحاجة إليكم علماءَ عاملين وجنودَ منضَبطين وحملةً للشريعة ودعاةً لكلّ خير، فاحذروا المسالكَ الرديئة غلوًّا أو تفريطًا، وكونوا على الخطِّ المستقيم، هدانا الله وإيّاكم لكلّ خير.
أيّها المسلمون، إني أناشِد أهلَ الإسلام في العالَم الخارجيّ، أناشد الأقليّات من إخواننا المسلمين في العالم الخارجيّ لأقول لهم: اتّقوا الله، والزَموا دينَ الله، اتّقوا الله، واعلَموا أنّكم قِلّة وصوتُكم ضعيف، فاحذروا ـ إخواني ـ المسالكَ الرّعناء والمصادمات الهوجاء التي لا تخدِم مصالحكم، احفَظوا إسلامَكم، وربّوا أبناءَكم على الخير، واحذَروا أن يستغِلَّكم عدوّكم لأغراضه الدنيئَة وآرائه السيّئة، استقيموا على دينِ الله لعلّكم تفلِحون.
يا رجالَ الإعلام، اتّقوا الله في أنفسكم، وسخِّروا إعلامَكم فيما يخدِم الأمة، احذَروا أن يكونَ الإعلام موجَّهًا ضِدَّ العقيدة أو ضدَّ ثوابتِ الأمة أو نشرِ الفواحش. ويا من يملِكون القنواتِ الفضائية وقد استرعاكم الله على ذلك، اتّقوا الله، بم تواجهون ربَّكم يومَ القيامة؟! أبِأفلامٍ هابطة وبأجسادٍ عارية وبأغانٍ فاحشة؟! إنّكم مسؤولون أمام الله، فسخِّروا هذه الأجهزةَ لخِدمة هذه الشريعة.
إننا ـ وللأسفِ الشديد ـ نعاني من بعضِ القنوات الظالمة التي أخذَت على عاتقِها الطعنَ في الأمّة وتفكيكَ كلِمَتِها والبَحثَ عن المعايِب والسّعيَ في تَضليل الأمة وإحداث الفوضَى بين صفوفها، تدَّعي الإصلاحَ أحيانًا، وتدّعي الخير أحيانًا، وإذا نظرتَ إلى هذه الأجهزةِ وهذا الإعلامِ الجائر وجدتَه مجانِبًا للصّواب فيما يقول ويفعل. فلنتَّق الله، وليحذَر كلٌّ أن يقول ما سيندَم عليه، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
وقفة أخيرةٌ: وقفةُ ثناءٍ واعترافٍ بالجميل، إنّني في هذا الموقفِ لأشكُر الله على نِعمَتِه أن يسَّر للحجيجِ أمرَهم وهيَّأ لهم أسبابَ الخير، وإنا لنشكر الله على هذه النعمةِ، ثم نشكر لكلِّ القوى المشارِكَة في أمنِ الحجيج، ومن أعظَمِهم رجالُ أمنِنا والمسؤولون عن لجان الحجّ واللّجنة المركزيّة ومن أعانهم ورِجال أمنِنا على اختلافهم، فلهم منّا التقدير والثناء، ونسأل الله لهم السدادَ في القول والعمل، فتلك مهمّةٌ عُظمَى، نسأل الله أن يعينَهم ويثبِّتَ أقدامهم ويجعلَ مساعيَهم مساعيَ خيرٍ وصلاح.
حجّاج بيتِ الله الحرام، ها أنتم قدِمتم إلى بلدِ الله الأمين، قد سُهِّلت لكم السبل، وذلِّلَت أمامَكم العَقَبات، فاشكروا الله على نِعمتِه، واسألوه المزيدَ من فضله. هذا بيتُ الله الحرام، آمِن بأمان الله، وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، هذا بيتُ الله الحرام، حرامٌ بتحريمِ الله، فاحذَروا الإخلالَ بأمنه، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [الحج:30]. احذَروا تكديرَ صفوِ شعائره ومشاعره، وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
حجّاجَ بيت الله الحرام، لقد مضى على سَلفِنا الماضي قرونٌ عديدة، الحجُّ مِن أشقّ الأمور، لا يستطيعه الإنسان إلاّ بشقّ الأنفس، يحجّ الحاجّ، فربما ماتَ في الطريق، وربما ضلَّ عن الطريق، وإذا وصَلوا إلى البيت ضاقَ بهم ذَرعًا مِن حمل الماء ووعورَة السبل، وربّما حصَل قِتال، وربما تأخَّر إقليمٌ من أقاليم الإسلام لم يحجّ منها أحد، أمّا اليوم وقد هيّأ الله لهذا البلدِ الأمين رجالاً أرجو لهم من الله التوفيق والصلاح، اهتمّوا بهذا البيتِ أعظمَ اهتمام، فوفَّروا أمنَه ومرافِقَه الصحيّة وموادّه الغذائية، وهوّنوا وذلّلوا كلَّ الصعاب، وشقّوا الطّرُق، وهيّئوا المشاعرَ، واستنفدوا وُسعَهم وأوقاتهم، وأنفقوا الأموالَ الطّائلةَ في ذلك، فجزاهم الله عن الإسلامِ والمسلمين خيرًا، وبارك في مساعيهم، وجعل ذلك في ميزان أعمالهم. والمسلم حينما يرَى هذه التسهيلاتِ وهذه المهمّات ليسأل الله لهذه القِيادةِ مزيدًا من التوفيقِ والصّلاح، وأن يجعَلَهم أئمّةَ هدى ودُعاة خيرٍ وصلاح، إنه على كل شيء قدير.
أيّها الحاجّ المسلم، اتَّق الله في حجِّك، وراقب سنّةَ نبيّك، قفوا بعرفةَ إلى غروب الشمس، فإنها الموقف العظيمُ لكم، والنبيّ يقول: ((الحجّ عرفة)). فقِفوا بهذا المشعَر، صلّوا به الظهر والعصرَ جمعًا وقصرًا، أفِيضوا إلى مزدلفةَ، وصلّوا بها المغرب والعشاءَ جمعًا وقصرًا. ارمُوا جمرةَ العقبة من بعدِ منتصَفِ ليلة النّحر إلى صباح اليوم الحادي عشر، أي: أنّ جمرةَ العقبة زمنُها ثلاثون ساعة، من رَمي في آخرِ الليل أو الضّحَى أو العصر أو بعدَ المغرب أو بعد العِشاء أو قُبيل الفجر فقَد أدّى النسكَ إن شاء الله. ارمُوا الجمارَ في أيّام التشريق، واعلَموا أن كلَّ الليل محَلّ لرميِ الجمار إلى طلوع الفجر، كلّ هذا من التيسير.
أيّها الحاجّ الكريم، جنِّب النساءَ العاجزات عن الرميِ في وقت الذِروة، واختر وقتًا مناسبًا، والعاجِزُ مِن الرّجال ينيب غيرَه، فارمُوا الجمرة عن العاجزينَ من الرّجال، وكذلك النساء، لا تعرّضوهن للزّحام الشديد، إما أن تختاروا وقتًا مناسبًا، أو جنِّبوهن وقتَ الذِّروة والزحام، فذاك من توفيق الله.
أيّها الحجّاج، اتَّقوا الله في حجِّكم، وتعاونوا على البرّ والتقوى.
أوجِّه خطابي لحملات الحجيج والمسؤولين عن حملات الحجّ عمومًا أن يتَّقوا الله ويتعاونوا مع السلطة في سبيل تفويجِ الحجّاج، وفي سبيل الراحة، وفي سبيل الانتظام، فراعوا الأنظمةَ واحترموها، وإيّاكم وانتهاكَها، فإنها وضِعَت لمصالح الحجيجِ عمومًا.
أيّها المسلم، إنّ نبيّك يقول: ((من حجَّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجَع من ذنوبه كيومِ ولَدته أمه، والحجّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنّة)) ، فاتّق الله في جوارحِك ولسانك، في أقوالك وأفعالِك، اتّق الله في حجِّك، وكن بعدَ الحج خيرًا منك قبلَ الحجّ بتوفيق من الله.
أيّها المسلم، تذكَّر وأنت تلبَس الإحرام، تذكَّر يومَ تدرَج في أكفانك وتحمَل إلى قبرك، تذكَّر يومَ وقوفِك بين يَدَيِ الله في ذلك الموقف العظيم، تذكَّر أهوالَ الآخرة، فعساها أن تكونَ حادِيةًَ لك إلى الخيرِ والتزوّد مِنَ الأعمال الصالحة.
اللهمّ وفِّق الأمّة الإسلاميّة إلى كلّ خير، اللهم اغفِر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وألّف بين قلوبهم، وأصلِح ذات بينهم، وانصرهم على عدوّك وعدوّهم، وجنّبهم الفواحش ما ظهرَ منها وما بطن، اللهمّ اجمَع قلوبهم على طاعتِك، واكفهِم شرَّ الأشرار وكيدَ الفجار...
_________
الخطبة الثانية
_________
(1/3686)
القدوة الصالحة والأسوة الحسنة
العلم والدعوة والجهاد
قضايا دعوية
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
28/10/1417
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية القدوة. 2- أسباب التأثير بالقدوة سواءً كانت حسنة أو سيئة. 3- عواقب غياب القدوة الحسنة وإبراز القدوة السيئة. 4- من أولى الناس بالقدوة الحسنة؟ 5- صفات القدوة الحسنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
القدوة الحسنة عنصر هامّ في كل مجتمع، فمهما كان أفراده صالحين فهم في أمس الحاجة لرؤية القدوات، وكما قيل: جالسوا من تذكّركم بالله رؤيتُهم، كيف لا وقد أمر اللهُ نبيَه بالاقتداء فقال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].
وتشتدّ الحاجة إلى القدوة كلما بَعُد الناس عن الالتزام بقيم الإسلام وأحكامه، وتتأكد الحاجة بل تصل إلى درجة الوجوب إذا وُجدت قدواتٌ سيئةٌ فاسدةٌ تُحْسِن عرضَ باطلها.
إن القدوةَ ـ سواءً أكانت حسنةً أو سيئة ـ أكثرُ أثرًا وإقناعًا من الكلام النظري مهما كان بليغًا ومؤثرًا، ولعل هذا هو السرُ في إرسالِ اللهِ رسلاً من البشر عبر التاريخ مع أنه تعالى قادر ـ وهو الذي لا يعجزه شيء ـ على أن يلهم الناس شرعه، خاصة أن بشرية الرسل تعلَّلَ بها الجاحدون لرفض الإيمان كما قال تعالى: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمْ الْهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولاً [الإسراء:94]، لكن الذي قال عن نفسه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] اقتضت حكمته إرسال الرسل من البشر؛ ليكونوا منارات هدى وقدوات حسنةً عبرالتاريخ، فهم التطبيق النموذجي لشرع الله في كل عصر، وتطبيقهم حجةٌ على العباد ودليلٌ على واقعيةِ الشرع.
وأوضح دليل على هذا الأثر ما وقع في يوم الحديبية، ففي صحيح البخاري قال عمر : فلما فَرغ من قضية الكتاب ـ أي: بنود الصلح ـ قال رسول الله لأصحابه: ((قوموا، فانحروا ثم احلقوا)) ، قال: فوالله، ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أم سلمة رضي الله عنها: يا نبيّ الله، أتحبّ ذلك؟ اخرُج لا تكلّم أحدًا منهم كلمةً حتى تنحر بُدْنك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج فلم يكلّم أحدًا منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضُهم يقتل بعضًا غمًّا.
إنّ هذا التأثيرَ القويَ والمباشرَ للقدوة يرجع إلى عدة أسباب منها:
أن الإنسان مفطور على حب التقليد، وكثيرًا ما يكتسب معارفَه وخبراته ومهاراته بالتقليد والمحاكاة، انظر إلى الطفل كيف يحاكي أباه ويتقمص شخصيته؛ لأن التعلم بالرؤية والمشاهدة أسهلُ وأيسر بل وأسرع، والنفس بطبعها تحبّ الحصولَ على الشيء بأسهل الطرق وأسرعها ولو كان محرّمًا، لكن الشرع والعقل يضبطها.
وقوعُ الإنسانِ ـ مهما كان كسولاً أو مقصرًا ـ أسيرًا للقدوة، فيحمله ذلك الإعجابُ على التقليد والمحاكاة، وهنا تكمن خطورةُ الموضوع؛ لأنّ القدوةَ إما أن تكون حسنةً لها بريقها الذاتي فتَنجذبُ إليها النفوسُ تلقائيًا وتتأثر بها إيجابيًا، وإمّا أن تكون قدوةً سيئةً زخرفت وزينت بالأصباغ والألوان الخادعة، وسُلّط عليها الأضواءُ الإعلاميةُ الباهرة، وأُضفيَ عليها عباراتُ الثناء والتمجيد الكاذبة لإثارة إعجاب المخدوعين، وحقًّا منهم من يقع في حبائلهم وشراكهم، حتى إذا فحصه عن قرب أدرك أنه كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، بل تبين له الوجهُ الحقيقيُّ، فما كان إلا إثارةً للغرائز والشهوات وتمجيدًا للكفرةِ والفساق والفجار باسم الفن والأناقة والرقص والغناء، وترويجًا للمنكرات والفواحش والرذائل باسم الترويح والسياحة، ومحاربةً للفضائل والحياء باسم الحرية والحضارة، وتنفيرًا من دين الله باسم التأخر والجمود، وتهجينًا لأحكامه باسم الكبت والقسوة، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، وتحقيرًا لدعاته باسم التطرف والإرهاب. نعم، هذا هو البديل عند غيابِ أو تغيّبِ القدواتِ الصالحة الحسنة.
وللأسف فإنّ دعاةَ الشر وشياطينَ الفساد استطاعوا أن يغزونا في عُقْرِ دارنا بهذه القدوات السيئة الفاسدة المفسدة عبر فضائياتهم، وبدأ المخطط ـ ولمّا يمضي عليه سنوات ـ يؤتي أكلَه الفاسد بمباركة الشيطان، فوُجد في فتيانِنا وفتياتنا من يقلّد الكفرةَ والساقطين في كل شيء، في مظهرهم وملبَسِهم، بل حتى في القضايا الجبلّية من أكل وشرب ومشي، تجد الواحدَ يتمايل كالمخبول! قالوا: هذه حضارة، بل حتى في تفاهاتهم الخاصة، وبلغ الأمر منتهاه حين ساغ لبعضهم عبادةَ الشيطانِ تقليدًا أعمى للكفرة، وإعجابًا بالحرية البهيمية، ومَلئًا للفراغ الروحي، لكن للأسف كالمستجير من الرمضاء بالنار، ففروا من الخواء الروحي إلى الشرك بالله في أقبح الصور وهو عبادة الشيطان، وعشنا لنرى قول الله متحقّقًا بنصه: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [يس:60].
إنّ هذه المظاهرَ الشاذةَ لهي دليلٌ قويٌ على الشعور بالنقص والانهزام النفسي، وصدق ابنُ خلدون في قوله: "المغلوب مولعٌ بتقليد الغالب أبدًا".
وإذا كنا قد عَجَزنا عن تحصين أبنائنا وشبابنا ضدّ هذه الفضائيات وبرامِجِها الفاجرةِ التي لا تعلّم إلا قلةَ الأدب ونزعَ الحشمة والحياء في الجملة، والتي يقوم عليها أناس لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمّة، فهل نحن عاجزون عن إيجاد البديل لتلك القدوات السيئةِ المنحرفةِ وهو القدوات الحسنة؟!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
إنّ القدوة ليس لقبًا خاصًا بأنواع محدّدة في المجتمع، كلا، بل هو وصف عام لكل مسلم. صحيح أن بعض الفئات يجب أن يكونوا قدوات صالحة في المجتمع؛ لأنّ عدم ذلك يعنى الفتنة والصدّ عن دين الله، لكنه لا يلغي التّبعة.
فالمسلمُ الذي يعيش بين ظهراني الكفرة ينبغي أن يكون قدوة لهم وممثّلاً للإسلام؛ لعله أن يكون سببًا في دخولهم الإسلام كما حصل في تاريخ الإسلام. وأهلُ الطاعة ينبغي أن يكونوا قدوة لأهل المعصية؛ بظهور أثر الطاعة وثمارها كالأمن النفسي وإثبات قوة الإرادة. والمدرسُ قدوةٌ لطلابه، فأيّ هدم للقيم يتسبّب فيه المدرس بانحيازه لبعض الطلاب؟! والأب لأبنائه، فأيّ هدم للقيم يباشره الأب حين يكذب أمام أبنائه مهما كان المبرّر كالتّلفون؟! والحاكم لشعبه، فأيّ مصيبة تقع عندما يظلم الحاكم شعبَه أو لا يقيم العدل بينهم؟! والرئيس لمرؤوسيه، فأي دعوة للتسيب يبثها الرئيس بين موظفيه بتأخره عن الدوام دائمًا؟! والداعية لمن يدعوه، فأي فتنة يحدثها الداعية للمدعو حين يعاهده ويخلف؟!
فهولاء الأصناف لا مندوحة لهم ولا خيار لهم أن لا يكونوا قدواتٍ صالحةً؛ لأنهم تحت المجهر والمراقبة شاؤوا أم أبَوا، فهل يكونون أهلاً للتحدي؟! وهل يستشعرون مسؤولياتهم؟! وهل يحسبون خطواتهم؟!
أيّها الإخوة، لكل دعوى دليل، فما دليل دعوانا؟ خمس خصال هي الحدّ الأدنى لصدق الدعوى:
1- الاستقامةُ على منهج الله؛ وذلك بسلامة المعتقد وأداء الفرائض والتخلق بأخلاق الإسلام واجتناب الكبائر.
2- موافقةُ الأفعالِ للأقوال، ويكفي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ [الصف:2، 3].
3- البعدُ عن مواطنِ الشبهات، قال رسول الله : ((فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) ، وإذا رُئي في موطن الشبهة بيَّن ذلك، فقد فعله من لا يشَكّ فيه البتّة سيدُ المرسلين، فقال: ((على رسلكما، فإنها صفية)) أي: زوجته رضي الله عنها.
4- التقليلُ من الترخّصِ وتغليبُ الأخذِ بالعزائم، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ [الأحقاف:35].
5- إتقانُ التخصّصِ ومتابعةُ التطويرِ والإبداعِ، ويكفي قولُ المصطفى : ((إن الله يحبّ إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)).
أيّها المقتدي، يجب أن تعلم أن القدوة مهما حرص على الكمال فهو بشر غير معصوم، وعملُه ليس حجة على الإسلام، بل الحجة قال الله قال رسوله، فالتمس لأخيك العذر عند التقصير، وإذا أبيتَ إلا اللوم فلُم نفسك أولاً، فقد قال الله تعالى: بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14، 15].
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكمو من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
والماء إذا بلغ القلّتين لم يحمل الخبث.
(1/3687)
أكل الحرام وأثره
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
5/11/1417
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- النصوص الدالة على الأمر بتحري أكل الحلال. 2- آثار مترتبة على أكل الحرام. 3- الأصل في المعاملات الإباحة. 4- أصول المكاسب الخبيثة. 5- المال الحرام ضرر على صاحبه في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يتميّز المسلم الحقّ عن الكافر والمنافق بأن حياته محكومة بالضوابط الشرعية في الحلال والحرام، فالحلال ما أحله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله وإن هوته نفسه، أما غير المسلم فالذي يحكم حياته أهواؤه وقوانينُ البشر القاصرة والجائرة في كثير من الأحيان.
ومن أهم المجالات التي يحرص المسلم على تحري الحلال فيها المطعومات، فلا يأكل إلا حلالاً بمال حلال اكتسبه من طريق حلال، والسبب في هذا التخصيص أن للأكل أثرًا واضحًا في سلوك الإنسان وتعامله، وفي قلبه وعبادته، بل إن أثره متعدٍ إلى ذريته وأبنائه، ولذلك تكرر في القرآن الأمر بأكل الطيبات، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172]، وقال تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي [طه:81]، ولاحظ قوله: وَلا تَطْغَوْا فِيهِ ، والطغيان: هو تجاوزُ الحد، وكل من تجاوز الحلالَ فقد طغى، ومن طغى فقد تعرض لغضب الله كما نصت الآية.
وجاء في وصف نبينا محمد في التوراة والإنجيل قوله تعالى في القرآن: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]. قال ابن كثير رحمه الله: "أي: يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم مما ضيقوا به على أنفسهم، ويحرم عليهم الخبائث كلحم الخنزير والربا وماكانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى".
وللتشجيع على تحري الحلال جاء في صحيح البخاري عن جندب : (إنّ أول ما ينتنُ من الإنسان بطنُه، فمن استطاع أن لا يأكل إلا طيبًا فليفعل).
وأعظمُ آثارِ أكلِ الحرامِ استحقاقُ النارِ، ففي سنن الترمذي بإسناد صحيح قال رسول : ((يا كعبَ بنَ عُجرةَ، إنه لا يربُو ـ أي لا ينمو ـ لحمٌ نبت من سُحت إلا كانت النارُ أولى به)) ، وفي رواية أحمد: ((لا يدخل الجنةَ لحمٌ نبت من السحت، وكل لحمٍ نبت من السحت كانت النار أولى به)). والله، إن هذا لحديث خطير، من أحاديث الوعيد التي يرتجف لها القلب الحيّ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:37]. وكثيرٌ منا يتلقى مثلَ هذا الحديث الصحيح ببرود بسبب برود الإيمان وضعف اليقين.
يا عبد الله، إذا كنت لا تبالي بمثل هذا الوعيد فهلا راعيت فلذات كبدك وتحرّيت الحلال من أجلهم؟! لقد كانت المرأة في السلف الصالح حريصة أن لا تأكل هي وأبناؤها إلا الحلال خوفًا من هذا الحديث، فكانت الواحدة منهن توصي زوجها وهو ذاهب إلى عمله قائلة: يا أبا فلان، إننا نصبر على ألم الجوع ولا نصبر على ألم عذاب الله، فاتق الله فينا. أين النساء اللاتي يذكّرن أزواجهن في هذا الزمان بتحري الحلال؟! هذا إن لم تكن هي السبب لكثرة طلباتها إلا ما رحم ربي.
إن أعجب تفاعل سمعته مع هذا الحديث ما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن زيد بن أرقم قال: كنت عند أبي بكر الصديق فأتاه غلام له بطعام، فأهوى إلى لقمة فأكلها، ثم سأله: من أين اكتسبته؟ قال: كنت قينًا لقوم في الجاهلية فتكهنت لهم فأعطوني، فقال: أف لك؛ كدت أن تهلكني، فأدخل يده في فيه وجعل يتقيأ حتى رمى به، فقيل له: كل هذا من أجل لقمة! قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها؛ سمعت رسول الله يقول: ((أيما لحم نبت من حرام فالنار أولى به)).
ومن آثار أكل الحرام خذلانُ الله لآكله؛ فلا يستجيب دعاءه مهما توفرت أسباب الاستجابة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا [المؤمنون:51]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172])) ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذّي بالحرام: ((فأنّى يستجاب له؟!)).
لقد أشار الحديث إلى ثلاث حالات هي مظنات لاستجابة الدعاء، بمعنى: كل حالة من هذه الثلاث هو موطن بذاته من مواطن استجابة الدعاء، وهي:
السفر: وقد ورد ما يؤكّد ذلك، قال رسول الله : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شكّ فيهن: دعوةُ المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده)).
حالة الشعث والتبذل: في صحيح مسلم قال : ((ربَّ أشعث أغبر ذي طمرين ـ ملابس بالية ـ مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبرَّه)) ، ولذلك كان يخرج للاستسقاء متبذّلاً متواضعًا منكسرًا.
رفع اليدين: في حديث سلمان قال: قال : ((إن الله تعالى حييٌّ كريمٌ يستحي إذا رفع الرجلُ إليه يديه أن يردّهما صفرًا خائبتين)).
فهذا الإنسان ـ آكلُ الحرامِ ـ قد اجتمعت له ثلاث مسوّغات لاستجابة دعائه، ومع ذلك يخذله الله فلا يستجب دعاءه؛ لأن تعاطيه الحرام أفسد كل هذه المسوّغات وألغاها، حيث قال باستفهام إنكاري تعجّبي: ((فأنّى يُستجابُ لذلك؟!)) أي: كيف يستجاب له؟!
ويؤيّد هذا أن سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلَني مستجاب الدعوة، فقال له النبيّ : ((يا سعد، أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)). وقد أخذ سعد بهذه الوصية الغالية، وأصبح من أكثر المتحرّين للحلال، فقد قيل له: يا سعد، تستجابُ دعوتك من بين أصحاب النبيّ ! فقال: ما رفعت إلى فمي لقمةً إلا وأنا عالمٌ من أين مجيؤها ومن أين خرجت.
أيّها الإخوة، وهناك آثار أخرى سيئة لأكل الحرام عُرفت بالاستقراء والاعتبار بأحوالهم، منها التكاسلُ عن العبادة؛ وأنّى لجسد غُذيّ بالحرام أن ينشط لطاعة الله؟! ومنها الاستهانةُ بالمعاصي والركونُ إلى الدنيا والغفلةُ عن المصير والدياثةُ وعدمُ المبالاة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيّها الإخوة، من فضل الله علينا أن دائرةَ الحرامِ ضيقة مقارنةً بالحلال، فالمطعومات وطرق الكسب كلّها تندرج تحت المعاملات، والأصل في المعاملات في الإسلام الإباحة حتى يأتي دليل حاظر ومانع من ذلك الأكل أو تلك المعاملة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا [البقرة:168]، وقال: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية:13].
لكن للأسف هناك طائفة من الناس لم تسعهم تلك المساحة الواسعة من الحلال فاعتدوا بتعاطي الحرام. والمحرمات في الأكل ثلاثة أنواع، وكلُ الصورِ تندرج تحتها، وهي:
1- أكلُ ما حرّمَ اللهُ؛ كالميتة والخنزير وشرب الخمر ونحوها.
2- أكلُ الحلالِ بمالِ حرام، كالسرقة والاختلاس والرشوة وأموال اليتامى وغيرها.
3- التكسّبُ بوسيلة محرّمة غيرِ مشروعة كالبيوع الفاسدة والربا وكسبِ البغي والمغنّي ونحوهم.
أيها الإخوة، إن أكلَ الحرامِ من الكبائر، والكبائر كما هو معلوم لا تكفّرها الصلوات ولا رمضان ولا العمرة، بل تحتاج إلى توبة خاصة، وإذا مات متعاطي الحرامِ وتركه خلفه كان زادًا له إلى النار، ولم ينفعه التصدّق به. روى أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله : ((لا يكسِبُ عبدٌ مالَ حرامٍ فيتصدقُ منه فيُقبلَ منه، ولا يُنفقُ منه فيُباركَ له فيه، ولا يتركه خلفَ ظهره إلا كان زادَه إلى النار. إن الله لا يمحو السيئَ بالسيئِ، ولكن يمحو السيئَ بالحسنِ، إن الخبيثَ لا يمحو الخبيثَ)).
ولقد أخبر الذي لا ينطق عن الهوى عن زمن نعوذ بالله أن ندركه أو أن نكون فيه، ففي صحيح البخاري قال رسول الله : ((يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمِنَ الحلال أم من الحرام)).
تذكر ـ يا عبد الله ـ دائمًا مع إعداد الجواب أن أحد الأسئلة الإجبارية يوم القيامة عن كسبك أمِن الحلال أم من الحرام، ففي الترمذي عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله : ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن علمه ما فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه؟)).
أسأل الله أن يعصمَني وإياكم من الحرام وطرقه ووسائله، اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، اللهم إنا نسألك رزقًا واسعًا وحلالاً طيبًا، اللهم ارزقنا صحة لا تلهينا وغنىً لا يطغينا.
(1/3688)
لماذا لا نلتزم بشرع الله؟! 1
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الكبائر والمعاصي, قضايا دعوية
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
12/11/1417
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقائق نتجاهلها كثيرًا. 2- أسباب عدم الالتزام بشرع الله تعالى: ضعفُ الإيمان، ضعفُ الشخصية، عدمُ القناعة العقلية، تتبع سقطات العلماء، التعلقُ بالأوهام، المفاهيمُ الخاطئة، الحياةُ سبهللا بلا هدف، الأمنُ من مكر الله، اليأسُ من رحمة الله، التعرضُ للفتن وأوكارها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها الإخوة، أليس اللهُ خالقنا ورازقنا؟! أليس بيده حياتُنا وموتُنا؟! ألسنا عبيدًا له وملكًا له؟! إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، أليس هو الذي اختار لنا الإسلامَ دينًا؟! الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، أليس أعداؤنا يرهبوننا فقط إذا تمسكنا بديننا؟! أليس اللهُ قد ربط نصرَنا بالتزامنا بديننا؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد:7]. الجواب على كل هذه الأسئلة بالإيجاب، فإذا كان الجواب: بلى فلماذا إذًا لا نلتزمُ بديننا؟! وما الذي يمنعنا ويعيقنا والثمرة نجدها في الدنيا قبل الآخرة؟! لا أجد لنا مثلاً أصدق من قول المعرّي:
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماءُ فوق ظهورها محمولُ
تأملت في نفسي وتساءلت ثم سألت إخوةً من الرجال والنساء ومن الأطفال والشباب: لماذا لا نلتزم بشرعنا مع أنه هو الأصل؟! فالأصل في المسلم أن يكون مسلمًا، أي: مستسلمًا لله ولأمره في منشطه ومكرهه، عَقَله أو لم يَعْقِلْه. أضف إلى ذلك أننا ـ معشرَ البشر ـ أضعفُ مخلوقات الله وأعقلُها، لكننا أكثرها تمرّدًا على الله، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18]، وقال تعالى: وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54]، وجدتُ أن الأسبابَ ثلاثةٌ إجمالاً وعشرون تفصيلاً.
أسبابٌ تعود إلى الفرد نفسه، وأخرى يشترك معه في المسؤولية المجتمعُ والبيئةُ، وثالثة تتحمل مسؤوليتها المؤسساتُ المتنوّعةُ. وهذه الأسبابُ متداخلة، لكن أهمّها وأخطرها ما يعود على الفرد نفسه، لماذا؟ لأن مسؤوليةَ إنقاذِ الإنسانِ نفسَه من النار مسؤوليةٌ فردية لن يُسألَ عنها ابتداءً المجتمعُ ولا المؤسّسات فضلاً عن الأعداء، بل: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]. ولو أن الإنسانَ حَصَّنَ نفسَه لكان أثرُ هذه الصوارفِ والأسباب خفيفًا أو منعدمًا، وكما سترونَ معي أن هذه الأسباب رغم أنها حقيقيةٌ لكنها ليست مبررًا مقبولاً، بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14، 15]. وما أجملَ هذه القاعدة: قبلَ أن تطالبَ الناسَ بحقوقك أدِّ واجباتك.
وإليك الأسبابُ مفصلة: ضعفُ الإيمان واليقين، ضعفُ الشخصية، عدمُ القناعة العقلية، التعلقُ بالأوهام، المفاهيمُ الخاطئة، الحياةُ سبهللا بلا هدف، الأمنُ من مكر الله، اليأسُ من رحمة الله، التعرضُ للفتن وأوكارها، خداع النفس بتتبع سقطات العلماء. تلك عشرة كاملة لمن كان مع نفسه صادقًا.
أيّها الإخوة، أما ضعفُ الإيمانِ فلا شك أنه سبب مباشرٌ، بل هو أبو الأسباب في عدم الالتزام، ولأهميّته بدأ القرآنُ التربيةَ به، ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت: (إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصّل وفيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أولُ شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا). فالعلاقة طردية بين قوة الإيمان والتزام شرع الله، لكن من المسؤول عن ذلك؟ أليست مسؤوليتك الفردية؟! أليس الناس يتفاوتون في الجنة على أساس الإيمان قوة وضعفًا أم أنك زاهد في المنافسة على درجات الجنة؟! وإذا ضعف الإيمانُ واليقينُ سهل الوقوعُ في المعصية، بل ألفها وأصبح عبدًا للشهوات الصادّة ولم يصبر عنها، وغدَا أسيرًا للشيطان يتلاعب به كيف يشاء. صحيح أن الشهواتِ مزينةٌ وتميلُ إليها النفس، لكن طريقَ الجنةِ محفوف بالمكاره؛ ليُعلَمَ الصادقُ من الكاذبِ، كما قال : ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) أخرجه البخاري.
وكذلك ضعفُ الشخصيةِ عائقٌ آخرُ؛ فهو يؤدّي بهذا الإنسانِ أن يكونَ إمّعة؛ إن أحسن الناسُ أحسنَ، وإن أساؤوا أساء، فهو أبدًا في التقليد الأعمى، وضعفُ شخصيته وذلتُه جعلت قرناء السوء يؤثرون عليه سلبًا، فأصبح مجاملاً على حساب دينه، وهذا الضعف يجعله ـ رغم قناعتِه بالاستقامة ـ مُحْجِمًا عنها وخائفًا من البشر أن ينسبوه إلى التزمُّت والتطرف والإرهاب.
كم من إنسان حدثته نفسه بالتزام شرع الله والتمسك بسنة المصطفى ، لكنه خاف أن ينسب إلى التطرف والتزمت، وكم من امرأة عرفت أن الإسلام وحده هو الذي أعزها ورد إليها كرامتها المسلوبة في كل الجاهليات القديمة والحديثة، فأرادت أن تلبس لباس الحشمة والحياء والعفة والوقار، لكنها خافت من كلام البشر وسخريتهم، فآثرت مشاقة الله على مخالفة رغبات البشر وشهوات النفس بسبب الذلة وضعف الشخصية.
يا عبد الله، ويا أمة الله، أليس لكم في رسول الله أسوة حسنة؟! فقد قيل عنه: مجنون وساحر.. فهل ضره ذلك أو انتقص من مكانته؟! ثم كيف تخشى من البشر وهم مساكين ولا تخشى من رب البشر؟! وهؤلاء الذين هِبتهم في الدنيا اعلم أنهم سيكونون أول المتبرئين منك وهم بين يدي الله أذلاء صاغرين، وصدق الله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ [البقرة:166].
وسببٌ آخرُ هو عدمُ القناعة العقلية ببعض الأحكام، من المكابرة وسوء الأدب مع خالقك أن تقول: أنا غير مقتنع بهذا الحكم، سواءً قلته بلسان الحال أو المقال. يجب أن تعلم ابتداءً أنه لا تعارض بين العقل والدين؛ لأن المصدرَ واحدٌ، فهو خالقُ العقلِ ومنزلُ الوحي، فمن أين يأتي التعارض؟! لكن العقلَ لقصوره قد تغيبُ عنه أشياء، لذلك فإن إقحامَ العقلِ المجردِ دون ضوابط شرعية سوّغ للبعض عدمَ الالتزامِ بحكم الله؛ لأن عقله هو المقياس، واستمع كلامَ من ألغوا العقل عند ورود النص، يقول علي بن أبي طالب : (لو كان الدينُ بالرأي ـ أي: العقل المجرد ـ لكان أسفل الخُف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله يمسحُ على ظاهر خُفيه) أخرجه أبو داود.
وفي الغالب إقحامُ العقل لردِ الحكم أو الفتوى سببه مخالفةُ الحكم للواقع، لكن غاب عن العقلانيين أن الواقع بيد الله يقلبه كيف يشاء ومتى شاء، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82].
تتبّعُ سقطاتِ العلماءِ: لا يخلو عالم من هفوة واجتهاد مرجوح لا يعتدّ به، فتجد غيرَ الجاد يتلمس هذه الهفوات والمرجوحات، يخادع نفسه باتخاذها عذرًا ومبررًا، زاعمًا أن له دليلاً، وقديمًا قال العلماء: "من تتبع الرخص تزندق"، أي: رخص العلماء وليس رخص الرسول ، فالأخذ بها فضيلة واتباع لمرضات الله، وفي الحديث: ((إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه)) أخرجه أحمد وابن حبان والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر.
ويقال لمتتبعي الرخص المرجوحة قول الرسول لوابصةَ بن معبد : ((استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفسُ واطمأن إليه القلبُ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن هذه الأسباب المفاهيمُ الخاطئةُ أيّها الإخوة، القرآن نزل بلسان عربي فهو يفهم من جهة كلام العرب، ومع كونه عربي فالحجة في فهم النبي وتطبيقه وأصحابه من بعده.
ومن المفاهيم التي يتلاعبُ بها من يريد تبريرَ عدمِ التزامه بحكم الله إلا على هواه دعوى الوسطية وأن الدين يسر، وهو كذلك لكن كثيرًا ما ينطبق عليه قول علي: (كلمة حق أريد بها باطل). فاستحلالُ المحرمات أو التفريطُ في الواجبات ـ وليس الكلام في المستحبات والمكروهات ـ بحجة أن الدين يسر لن يغير الحكم، وقد بوب البخاري رحمه الله: "باب: ما جاء فيمن يستحلُّ الخمر ويسميه بغير اسمه"، واستشهد بقول النبي : ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الْحِرَ ـ الفرجَ أي: الزنا ـ والحريرَ والخمرَ والمعازف)).
ومن هذه المغالطات يقول لك: الدين المعاملة، ولا أعلمه حديثًا بل هو قول، وعلى افتراض أنه حديث فالمعاملة الحسنة وهي مطلوبة لا تغني عن الالتزام، ومثله الحديث الصحيح: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
الأمن من مكر الله واليأس من رحمته خلقان مذمومان صدّ أناسًا عن التزام شرع الله، بعضهم غَلَّبَ جانبَ الرجاء دون أي عمل بدعوى أن الله غفور رحيم، ونسي أو تناسى أنه شديد العقاب، وهذا الأمن أدى به إلى تسويف التوبة، وزعم أن قلبه نظيف ونيته صادقة، لقد رد الحسن رحمه الله على مثل هذا فقال: "ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدَّقه العمل، وإن قومًا خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم قالوا: كنا نحسن الظن بالله، وكذبوا لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل".
ثم اعلم أن من الفِرَق المنحرفة عقديًا (المرجئة) كانت هذه دعواهم، العمل غير مهمّ، المهمّ النية الطيبة وحسن الظن بالله. ويقابل هؤلاء أهلُ اليأس بسبب إفراطهم في المعاصي، أين هم من قول رسول الله: ((ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من الجنة أحد)) رواه مسلم؟! أما سمعوا حوار اللّعين مع ربه؟! قال رسول الله : ((إن الشيطان قال: وعزتك ـ يا رب ـ لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني)) أخرجه الحاكم، أفبعد هذين الحديثين يكون يأس وقنوط؟!
ومنها اللامبالاة، فتجدُ الواحدَ يعيش سبهللا بلا هدف، في غفلة عن المصير، فأنىّ لمثله أن يفكر مجرد تفكير في الالتزام؟!
التعرضُ للفتن، يقود الإنسان نفسه طوعًا إلى مواطن الفتن، سفرًا أو مشاهدة، فيشغل قلبه بتلك الصور التي تجعله أسيرًا مكبلاً بلا قيد، صريعًا بلا ثمن، خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [ الحج:11]، وأنىّ لصريع الهوى أن يلتزم بشرع الله والهوى قد ملأ قلبه وفكره؟!
التعلق بالأوهام: ظن بعضهم أن الالتزام يحرمه الملذات ويجعله مكبوتًا، فآثر السلامة من الكبت. وما عرف أن المكبوت والمكبّل من استرقته الشهوات، أما أهل الطاعة فوالله لا يتحسّرون على شهوة فاتَتهم، بل يحمدون الله على السلامة وأنها لم تفتِنهم، وكما قال أسلافهم: "والله، إننا نعيش في سعادة لو علم بها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف".
ثم من الذي حرم الشهواتِ الحلالَ؟! قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأعراف:32]، أما تركُ الالتزام خوفًا من فوات الشهوة المحرمة بالالتزام فيا له من عذر أقبح من فعل.
أخي في الله، كن صادقًا مع نفسك وتجرد لله يوفقك، ادعُه أن يشرح صدرك للالتزام بدينه، ويثبّتك إن كنت مستقيمًا.
فوالله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
وصدق القائل:
ما لم يكن عون من الله للفتى فأوّل ما يجني عليه اجتهاده
(1/3689)
لماذا لا نلتزم بشرع الله؟! 2
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
19/11/1417
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غربة آخر الزمان. 2- البيت وأثره في التربية. 3- خطر الفساد الخلقي. 4- واجب الجميع تجاه المنكرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما زال الحديث موصولاً عن أسباب عدم الالتزام بشرع الله، وقد مضى الحديثُ عن الجزء الأول والأهمّ، وعرفنا الأسباب العشرة التي تعود مسؤوليتها إلى الفرد نفسه، لكن هذه الأسباب مهما تحصَّن الإنسان ضدها فإنه لن يستطيعَ الالتزام المطلوب؛ لأنه لا يعيش وحده بمعزل عن الناس، بل يعيش محاطًا بالناس أفرادًا ومؤسّسات، لا يستغني عنها، وتؤثر عليه بلا شك سلبًا أو إيجابًا، فمهما كان صادقًا ومخلصًا فإنه لن يسلم من آثارِها السلبية عليه، حتى لو لم يعرّض نفسه لهذه الفتن؛ لأننا نعيش في زمن لا يحتاج الإنسانُ أن يُعرِّضَ نفسه للفتن، بل هي تلاحقه في كل مكان حتى في بيته فضلاً عن السوق والملاهي، ولعل هذا هو الزمن الذي تنبأ الرسول به وأخبر عن صعوبة الالتزام بشرع الله فيه، روى البزار والطبراني عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله : ((إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين)) ، قالوا: منهم أو خمسين منا؟! قال: ((خمسين منكم)) ، وفي رواية الطبراني: ((للمتمسكِ فيه أجرُ خمسين شهيدًا منكم)).
لا أدري إن لم يكن هذا هو زمان الصبر كيف سيكون؟! رحماك ربنا أن يمرّ بنا زمن أسوأُ من هذا الزمان الذي خوِّن فيه الأمين وشهّر بالمتمسّك بدينك وأصبح الالتزام تهمة.
والله، إننا في زمن غُربة وكُربة، يعزّ فيه الالتزامُ بشرع الله تعالى، هكذا هو قدرنا، لكن الأجرَ على قدر المشقة، وقد خفّف الوطء على أهل ذلك الزمان بالأجر العظيم الذي رتَّبَه للمتمسّك بدينه فيه: ((أجر خمسين شهيدًا منكم)) ، فما لنا لا نصبر وهو قدرنا وهذا أجرنا.
فإذا تصبك مصيبةٌ فاصبر لها عَظُمت مصيبةُ مبتلًى لا يصبرُ
أيّها الإخوة، أول هذه المؤثرات هو البيت، وما أدراك ما البيت، دعونا اليوم نكن صادقين مع أنفسنا، ودعونا من المجاملات والتلهي عن مواجهة الحقيقة المرة، ما أحوالُ بيوتِنا بصراحة؟ هل هي مؤهلة لإخراج أجيال، لا أقوال: كجيل الصحابة؛ لأننا ـ معشرَ الأباءِ ـ لسنا كالصحابة رضي الله عنهم، بل أقول: كجيل آبائنا وأجدادنا؟! هل بيوتُنا معاولُ هدم أم بناء للشخصية الإسلامية؟! أقول كلامًا لا أعمّمه: للأسف كثير من بيوتنا ما عادت محاضن تربية، بل مطاعم تأكيل وتسمين، لقد تخلّينا عن رسالتنا وواجبنا تجاه أبنائنا الذي لخّصته آية في كتاب الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]. أليس كثير من بيوتنا تعمل على عكس هذه الآية؟! أليس في كثير من الأحيان نكون سببًا في تفريطهم بحقوق الله؟!
الذي يجلب إلى بيته المنكر ثم يقول: هو سلاح ذو حدين، أو يريد متابعة الأخبار العالمية والبرامج العلمية، كلام نظري جميل، ثم يترك الحبل على الغارب للمراهقين والمراهقات، لا رقابة ولا متابعة، أتراه أحسن أم أساء؟! أتراه نصح أم غش رعيته؟! لنعلم أن الله تعالى سائلٌ كلّ راعٍ عما استرعاهُ: أحفظ أم ضيعهُ؟ حتى يسألَ الرجل عن أهلِ بيته، هذا كلامُ رسول الله.
الوالدان اللذان يخالفان أمر الله بأيّ صورة كانت كذبًا أم غيبةً، تركًا للصلاة أم تبرجًا وسفورًا، أم عكوفًا على مشاهدة المحرمات، هل هذا قدوة حسنة أم سيئة؟! وصدق من قال:
إذا كان ربُّ البيت بالدُّفِّ ضاربًا فشيمةُ أهلِ البيت كلِّهِمُ الرقصُ
أنّى لهولاء الضحايا أن يستقيموا على شرع الله الذي لم يرَوه في بيوتهم بل رأوا خلافه وعكسه؟! وفي المثل: "لن تجني من الشوك العنب"، نحن مُسلِّمون بقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنْ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنْ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:19]، لكننا نتكلم عن (1+1=2) وليس عن قدرةِ الله.
إن كنت تزعم أن للدِّين وزنًا في نفسك وأنك تزاوِل التربية مع أبنائك فأجب عما يلي:
ما نسبةُ عتابك وتوجيهك لابنك على التقصير في حقوق الله مقابلَ عتابك بل ضربك عند تقصيره في حقوقك أو حقوق المدرسة؟ أمّا هدي رسول الله فكما وصفته أم المؤمنين عائشة : وما انتقم رسول الله لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى.
من هم أصدقاء أبنائك وبناتك؟ أمعرِضون أم مستقيمون؟ الله أعلم.
ماذا يقرؤون؟ قصصًا غرامية أم تربوية؟ لست متأكّدًا؟! ألست أنت الذي اشترى أو أذِن بشراء المجلات التي تقتل الحياء وتثير كوامن الشهوات؟!
أين وكيف يسمرون؟ وماذا يشاهدون؟ من يهاتفون؟ وماذا يقولون؟ صور من يقتنون؟ ولماذا يقتنونها؟
لست أقصد التجسّس وفقد الثّقة، ولكن أليست الوقايةُ خيرًا من العلاج؟!
مشكلة التربية في ثلاثة أنواع من الآباء: عنيفٌ يُكَرّه الأبناء في الدّين، ومايِع بالغ في حسن الظنّ يزعم الحضارة والديمقراطية فماعت الأمور، ومشغول بالدنيا لا يبالي بالتربية. نعم، قد وفّر كلَّ شيء مادّيّ وزيادة، لكنه ترك أبناءه أيتامًا وهو حيّ يرزَق، كما قال شوقي:
ليس اليتيمُ من انتهى أبواه من همّ الحياة وخلّفاه ذليلاً
إنّ اليتيمَ هو الذي تلقى له أمّا تخلّت أو أبًا مشغولاً
صدقتَ يا شوقي، فما أكثر الآباء المشغولين على حساب الأبناء، وما أكثر الأمهات اللاتي تخلّين لصالح الخادمات الجاهلات، والأدهى والأمر الكافرات، أو للإعلام.
أيها الإخوة، كما لا يخفى على أمثالكم فالتربية ليست وعظًا ولا عقابًا ولا حلاً للمشكلات فقط، ولا ردات فعل، وإن كان كل ذلك مطلوبٌ، لكنها منهجٌ متكاملٌ، فيه هدم وبناء، وتعليم وتزكية، وقدوة وممارسة، واستمرار وتكرار، وهذه التربية هي مسؤولية البيت قبل أيّ مؤسسة، والوالدان هما السبب الأول لاستقامة أبنائهم أو انحرافهم لا قدّر الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14، 15].
_________
الخطبة الثانية
_________
ومن المعيقاتِ عن الالتزام بشرع الله المجتمعُ، لكن هلا سألنا أنفسنا: من هو المجتمع؟ هل المجتمع هو البيوتُ والشوارعُ، أمِ الأيامُ والليالي، أم أنه عدوٌ غريبٌ مستعمر؟ أليس المجتمعُ أنا وأنت؟! بلى، فالمجتمع ما هو إلا مجموعُ أُسَرِنا، فإن مدحناه فقد مدحنا أنفسَنا، وإن ذممناه فقد ذممنا أنفسَنا، والمجتمعُ يُحكم عليه بالصلاحِ أو الفسادِ تبعًا لأهله التزامًا لحدود الله أو انتهاكًا لمحارم الله، وصدق القائل:
نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا وما لزماننا عيب سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنب ولو نطق الزمان لنا هجانا
أيّها الإخوة، وأبرزُ أنواعِ الفسادِ المؤثّر على المجتمعات والتي تعيق الالتزامَ بشرع الله في كل زمان ـ وخاصة هذا الزمان ـ الفساد الخلُقي، لذلك لم يكتفِ الإسلام في واقعيته بتحريم الزنا فحسب، بل حرّم سائرَ مقدّماته وأسبابه، فحرم سفر المرأة بلا محرم، وحرم الخلوة والاختلاط والتبرج والسفور، ورغم ذلك تجد بعض المسلمين ـ وربما من المحافظين على الصلاة ـ لا يعبأ بذلك، بل تساهله وصل إلى حدّ اللامبالاة.
أما تعلم ـ يا عبد الله ـ أنك عندما تأذن لنسائك وبناتك بالخروج للمجتمع سافرات متبرجات متزينات ومتعطرات أنك شريك لهن في إثارة غرائز الشباب وإشغال قلوبهم، وفي تحطيم قيم المجتمع وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا؟! أما تخشى أن تكون من الداخلين في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19]؟!
أضعفُ الإيمان ـ يا عبد الله ـ أن لا تكونَ معول هدم إن لم تستطع أن تكون لبنةَ بناء صالحة في المجتمع، ففي هذه الحالة تكون قد أحسنتَ وأُجرت إن شاء الله، ففي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله : ((على كل مسلم صدقة، فإن لم يجد فيعمل بيده، فينفعُ نفسه ويتصدَّق، فإن لم يستطع فيعينُ ذا الحاجة الملهوف، فإن لم يفعل فيأمرُ بالخير، فإن لم يفعل فيمسك عن الشرِّ؛ فإنه له صدقةٌ)).
وزاد الطين بلة سلبيةُ المجتمعِ تجاه المنكرات، اعلم ـ علمني الله وإيّاك ـ أن السلبي تجاه المنكر كالفاعل، كلاهما آثم، الفرق بينهما أن الأول شيطان ناطق والثاني شيطان أخرس كما قال ابن القيم، ولن يستحقَّ مجتمعٌ مسلمٌ العذابَ إلاّ إذا كَثُرَ السلبيون مع كثرةِ المنكرات، يقول رسول الله : ((ما مِن قوم يُعملُ فيهم بالمعاصي هم أعزُّ وأكثرُ ممن يعملُه ثم لم يغيرُوه إلا عَمَّهُم الله تعالى منه بعقاب)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي، وسألت أمُ المؤمنين زينبُ رسولَ الله : أَنَهْلَكُ وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كَثُرَ الخبثُ)) أخرجه البخاري.
أسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا تجاه دينه، وأن لا يؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا.
(1/3690)
لماذا لا نلتزم بشرع الله؟! 3
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, قضايا دعوية
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
26/11/1417
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أسباب عدم الالتزام المنفرون عن شرع الله. 2- أهمية التذكير بالله في حياة المسلم. 3- خطر وسائل الإعلام. 4- دور المؤسسات التعليمية في بناء الأجيال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها الإخوة، ما برحنا نتحدث عن الموضوع الهامّ: لماذا لا نلتزم بشرع الله؟ وهذه الأسباب كلها متكاملٌ وإن تفاوتت مراتبها وأهميتها، ولا ينبغي تهويلُ الأسباب الثانوية، ولا تهوينُ الأسبابُ الأصليةُ، وقد عرفنا أن الأسبابَ الأساس والخطيرةَ هي التي يتحمَّل الفردُ وحده مسؤوليتَها، وكانت عشرة هي: ضعفُ الإيمان واليقين، ضعفُ الشخصية، عدمُ القناعة العقلية، التعلقُ بالأوهام، المفاهيمُ الخاطئة، الحياةُ سبهللا بلا هدف، الأمنُ من مكر الله، اليأسُ من رحمة الله، التعرضُ للفتن، خداع النفس بتتبع سقطات العلماء. وهي تشكّل في اجتهادي 70 في المائة من الموانع، ثم عرضنا للأسباب المتوسطة في الأسبوع الماضي وهي: البيت والمجتمع. وبقي ما يشكّل 10 في المائة، هي الأسباب الثانوية وأهمها ثلاثة: المنفّرون، قلّةُ المذكّرين، الإعلامُ الفاسد.
النقطةُ المهمةُ في هذه الأسبابِ الثانويةِ مع أنها موانعُ هي أن تعلم أنها ليست مبررًا لأيّ أحدٍ في عدم التزام شرع الله، فضلاً عن أن تكون عذرًا عند الله، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الإسراء:15].
فأولاً: المنفّرون عن شرع الله، ينبغي أن نعلم أنه لا أحد يعدّ ممثلاً للإسلام أو ناطقًا رسميًا باسمه، بل صورة الإسلام هي ما جسّده رسول الله بقوله وفعله، وبناءً على ذلك لا أحدَ يُعدّ فعلُه حجةً على الإسلام إلا رسول الله ، ومن هنا قال مالك رحمه الله: "كلٌ يؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر" يعني رسولَ الله. ومن هنا قال العلماء رحمهم الله: "الرسول يحتجّ بكلامه، والعلماء يحتجّ لكلامهم"، ومن هنا يتميّز أهل السنة على أهل البدعة؛ بأنهم يقدّرون علماءهم ولا يقدّسونهم، والمنفرون ثلاث طوائف:
المنفّرون علميًّا وهم نوعان: الذين غلبوا الترهيب وبالغوا فيه، فكلّ شيء حرام وممنوع احتياطًا وسدًّا للذرائع، والآخرون الذين غلّبوا الترغيب وبالغوا فكلّ شيء حلال ومسموح، وأما سنّة رسول الله فقشور، وهل في كلام محمد قشور؟! كلا، فكلّه لبٌّ. ولا شك أن كلا الفريقين أساء؛ أولئك ضيّقوا واسعًا، وهؤلاء ميّعوا الدين، وصدَق الحسن رحمه الله: "ضاع هذا الدّين بين الغالي فيه والجافي عنه".
المنفّرون سلوكيًّا: وهم الذين منّ الله عليهم بالهداية وشرح الله صدورهم للالتزام بشرعه، لكنهم فشلوا في عرضه سلوكًا وأخلاقًا، فهموا بعضَ المفاهيم على غير حالها، فإذا الجديةُ عندهم تجهّم، وإذا السماحة تساهل، وإذا المداراة مداهنة، وإذا إنزال الناس منازلهم نفاق، وإذا الولاء والبراء هجر لأهل المنكر مطلقًا، وإذا التمسّك بالإسلام عندهم شعائر معيّنة، فأحدث ذلك نفورًا عند المفرّطين رفضًا لهذه الصورة المرسومة، وكلّنا يرفضها، لكن أليس هذا العرضُ المنفّرُ دافعًا لهم للالتزام بالإسلام حقًّا لإبرازِ صورةِ الإسلامِ الحسنةِ والمثلى المبنيةُ على الدليل لا الأهواء لوكانوا جادّين وصادقين؟! لأنّ الانتقادَ الباردَ وإلقاءَ اللومِ على الآخرين كلٌّ يحسنه، قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [النمل:64].
وبصراحةٍ ينبغي أن تنتهيَ الجفوة بين المتديّنين والمفرّطين، وواجب على أولئك أن يغشوا مجالسَ المفرّطين، ويحسنوا إظهارَ محاسنِ الإسلامِ وسماحتِه بالسلوك قبل الكلام، وعلى المفرّطين أن يبحثوا عن المذكّرين لهم ويحسنوا الظن بهم مهما أساؤوا غَيرةً واجتهادا، فذلك ـ والله ـ خير للفريقين لو كانوا يعلمون.
المنفّرون فكريًّا: وهم الذين التبس عليهم فهمُ الإسلام فكرًا، فسلكوا التكفير والتفجيرَ منهجًا، وترويعَ الآمنين واستباحةَ الدماءِ جهادًا، والعنف مع المخالف سبيلاً.
ولنا ضابطان هنا، الأول: أننا نقصد من يتبنّى هذا النهج صراحة لا من يُنسبُ إليه ذلك من أعدائه الذين ينطبق عليهم قول المتنبي:
يا أعدل الناس إلاّ في معاملتي فيك الخصامُ وأنت الخصمُ والحكَمُ
والضابطُ الآخرُ: أنّ من احتلت أرضه وانتُهك عرضه لا يدخل في كلامنا، فهو في حالة حَرب حتى يحصلَ على حقوقه، ولحالةِ الحربِ أحكامُها.
أمّا قِلّة المذكّرين فلا شكّ أنه سبب لبُعد الملتزم وغفلته، فكيف بغير المهتدي أصلاً؟! ولأهمية التذكير أمر الله رسولَه بالتذكير مع أنه جزء من رسالته ومهمته، فقال تعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذريات:55]، وكان الرعيل الأول بعد وفاة رسول الله يطالبون أصحابه بتذكيرهم ومضاعفة التذكير وهم في خير القرون، وليس عندهم من الفتن والصوارف ما عندنا، ففي البخاري عن أبي وائل قال: كان عبد الله يذكر الناس في كلّ خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، لودِدت أنك ذكّرتنا كلَّ يوم، فقال: (أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أُمِلَّكم، وإني أتخوّلكم بالموعظة كما كان النبيّ يتخولنا بها مخافة السآمة علينا).
انظر إلى هذه الرغبة رغم التذكير الأسبوعي المنتظم إضافة إلى الجمعة، أمّا اليوم فقد أصبح كثير منا زاهدًا في الموعظة، والبلية أن الزهدَ من المحتاجين إليها أكثر من غيرهم، فما أن يقومَ مذكر لدقائق حتى ينصرفوا، أما حضورهم لهذه المواعظ في مظانها فدونها خرط القتاد، والله المستعان.
إذًا كيف سيصقلُون قلوبَهم ويجلون غفلتهم؟! ولماذا يشتكون من قلّة المذكرين؟! لا أجد لها جوابًا إلا قول الله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].
أيّها الإخوة، طالما أن التذكيرَ مهم وضروريّ لتبقى قلوبنا حيّةً فينبغي لنا أن نوجد نحن المذكّرين، وأن نقيم من بيننا من يذكّرنا إن كان أهلاً، ولا يلزم أن يكون شيخًا وإمامًا، أليس من الغبن أن نجلس مجلسًا لساعات طويلة ثم نعجز أن نُذكِّر بعضنا بالله وبحقوقه ولو لدقائق، فنزيل الغفلة ونكفِّر الزلّة ونزيل الحسرة التي قالها رسول الله : ((ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان ذلك المجلسُ عليهم حسرة يوم القيامة)) أخرجه أبو داود والحاكم وهو صحيح؟! أقول: فكيف إذا كان مجلس أكل لحوم البشر؟!
أيها الإخوة، وخير مذكّر هو القدوة الصالحة، فلنحرِص أن نكونَ قدوات لنذكّر بعضنا بعضًا بلسان الحال دائمًا، وقال بعضهم: "جالسوا من تذكّركم بالله رؤيته"، كما كان حالُ بعضِ السلفِ الصالح.
_________
الخطبة الثانية
_________
السببُ الثالث: وسائلُ الإعلام عمومًا والفضائياتُ خصوصًا وخصوصًا.
أيّها الإخوة، صار الإعلام لا غِنى عنه اليوم، وأصبح أثَره أقوَى من كلّ أثر ماديّ، وهو سلاح ذو حدّين؛ إمّا للبناء أو للهدم، وللأسف تسلّط شياطينُ الإنسِ عليه، وبصفة خاصة أبناء القردة يهود فهم يملكون معظمَ وكالاتِ الأنباءِ العالمية، فسخّروه لممارسةِ هوايتِهم المفضلةِ؛ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]. سخّروه لمسخ القيَم وهدم الملل، وللأسف غَزَونا في عُقر دارنا عَبْر الفضائيات؛ مروّجين للمخدرات والشهوات، ومثيرين للشبهات، ومنفّرين من الإسلام، وملمّعين للفجرة والفسقة، ومحقّرين للدعاة الغيورين.
هذا كله صحيح، لكنه من العبث أن نلوم أعداءنا ونُحمِّلَهم تقصيرَنا تجاه دينِنا، أليس هذا واجبُهم؟! بلى، إنّ واجبهم أن يعمَلوا ما فيه مصلَحتُهم؛ ومصلحتُهم تقتضي أن يدمّروا أخلاقَنا وعقيدَتنا وينفّرونا من ديننا؛ لعلمهم أن أمّةً لن تُستذلَّ إلا إذا هُدِمت مبادئها وتخلّت عن قيمِها، إذًا هم منسجِمون تمامًا مع أنفسهم، لقد نجحوا نجاحًا كبيرًا، والدليل أننا أخذنا نولوِل كالثكالى ومَكتوفي الأيدي ومسلوبي الإرادة ومن لا حول لهم ولا قوة.
أين الصبر وأين التقوى اللذين أُمرنا بهما في هذا الموطن؟! ألم يقل الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]؟! هل من التقوى أن تدخله بيتَك ثم تتخلّى عن المراقبة والتوجيه، وتشتكي أن الأنباء قد فسدوا؟! وأين الصبرُ عن الشهوات وعلى مقاومة الأعداء؟! ثم أين تجّارُ المسلمين والدعاة من خلفهم؟! هل عقمت أيديهم وعقولهم عن إيجاد البديل الصالحِ النافعِ والمقاومِ لشرهم ومكرهم، أم أنه ليس هناك جدّية؟! ثم ليتّق الله كلُ راعٍ عما استرعاه الله، فإن الله يزعُ بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
ونختم هذه الأسبابَ بسبب مهمٍّ ملحَق بالمجتمع وهو دُورُ العلم، فهي تنافس البيتَ في أداء رسالته، فإن كانوا منسجمين انعكس ذلك على الأبناء إيجابًا، وإلا كانت الأخرى، وأصبح عمل إحدى الجهتين ناقضًا لعمل الأخرى، وعندها ينطبق قولهم:
متى يبلغ البنيان يومًا تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
إنّ التعليم ـ وخاصة في مراحله الأولى ـ من أهمّ المؤثرات على الأبناء التزامًا بالإسلام أو نفورًا، فالطالب يمكث يوميًا ما لا يقلّ عن ستّ ساعات يتلقّى توجيهات بطريق مباشر أو غير مباشر، في حين قد لا يتلقّى كلَ يوم توجيهًا واحدًا في البيت، لذلك كانت رسالةُ دُورِ العلمِ كبيرةً وخطيرةً. نحتاج إلى المعلم المدرك لعظم مسؤوليته تجاه دينه، فهو إما أن يحببهم للالتزام بشرع الله بسلوكه، وإما أن ينفِّرهم.
فالله اللهَ ـ يا ورثةَ الأنبياءِ ـ أن يؤتى من قبلكم، هلا استشعرتم أنكم تؤدون رسالةً وليس وظيفةً.
(1/3691)
نعيم الجنة
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
18/12/1417
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعيم الجنة. 2- مقارنة بين نعيم الدنيا ونعيم الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيّها الإخوة، في سنن أبي داود وابنِ ماجه أن النبي قال لرجل: ((كيف تقول في الصلاة؟)) قال: أتشهد وأقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، فقال النبي : ((حولها ندندن)). إي وربي، ونحن حولها ندندن، فلها ومن أجلها نصوم ونصلي ونتصدق ونبذل ونجاهد وندعو ونتحمل ونصبر، أليس كذلك؟! بلى.
إنها الجنة وما أدراك ما الجنة؟! ما صفاتها؟! ما نعيمها؟! ما أحوال أهلها؟! مهما قلنا عنها فلن نوفيها حقّها ولن نستطيعَ وصفها، ورغمَ ما وُصف لنا في القرآن وفُصّل في السنة فإن نعيمَها ما زال مبهمًا لنا؛ لأن فيها ما لا يوصف وما لا تستوعبه عقولنا، بل فيها ما لم يخطر على قلب بشر أصلاً، يقول تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17].
أخرج مسلم من حديث أبي هريرة أن النبيّ قال: ((قال الله تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ذخرًا، بلْهَ ما أطلعكم الله عليه)). معناه: دع عنك ما أطلعكم عليه، فالذي لم يطلِعكم عليه أعظم، وكأنه أضرب عنه استقلالاً له في جنب ما لم يُطلِع عليه، وحتى ما ذُكر لنا مما نعلمه فإن حقيقتَه ولذته ومتعته تختلف تمامًا عما نظن ونعتقد، يقول ابن عباس : (لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء).
أيها الإخوة، إنه لا وجه للمقارنةِ بين نعيمِ الدنيا ونعيم الآخرة، ولكن نعقد هذه المقارنة السريعة اقتداءً بالقرآن، ثم لنعلمَ ضآلةَ هذه الدنيا الفانية التي كثيرًا ما نؤثرها على النعيم الحقيقي:
أولها: إن متاع الدنيا قليل من حيث الكمّ، فكم من آية نوّهت بذلك كقوله: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ [النساء:77]، وقوله: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]. كم ننبهر عندما نسمعُ أو نرى ما يملكه ثريٌّ من الأثرياء، فضلاً عن ملك من ملوك الدنيا، فيسيل لعابُنا، فإن كان من أهل الدنيا كان لسان حاله بل مقاله كما قال الله: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص:79]، والعاقبة إمّا أن يحسده، وإما أن يتحسر. أما إن كان من أهل العلم بالآخرة قال: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، وتمثّل قول الله في الرد على أولئك المنبهرين بقارون: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ [القصص:80].
وإذا أردت ـ يا عبد الله ـ أن تدركَ حقارةَ الدنيا ونعيمها فتذكر حديث رسول الله الذي ذكر أن أدنى أهل الجنة نعيمًا من يملِك عشرةَ أمثالِ مُلكِ مَلِكٍ من مُلوكِ الدنيا، أخرج مسلم عن المغيرة أن رسول الله قال: ((سأل موسى عليه السلام ربه: ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ، فيقال له: ادخل الجنة، فيقول: أي رب، وكيف وقد نزل الناسُ منازلهم وأخذوا أَخَذَاتِهِم؟! فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلكِ ملِكٍ من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت رب، فيقول: لك هذا وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب، قال ـ أي: موسى ـ ربّ: فأعلاهم منزلة؟! قال: أولئك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] )).
الله أكبر، هذا أدنى أهلِ الجنة، ما أجد قولاً أتمثّله إلا قول علي يوم خاطب الدنيا الفانية وهو خليفة يملكها: (يا دنيا، غُري غيري، أليَ تزيّنتِ أم إليّ تَشوّفتِ، طلّقتُك ثلاثًا).
أمّا الكيف والنوعية فمهما اتّفقت الأسماءُ فشتان بين الثّرى والثريا، قارن على سبيل المثال بين خمر الدنيا والآخرة لتعلم ذلك، فقد ذكر الله الخمر ونزّهها من عيوب خمر الدنيا وما تسبّبه من أمراض وصداع وهذيان فقال: وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ [محمد:15]، وقال: لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ [الصافات:47]، وقال: لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ [الواقعة:19]، يقول ابن عباس : (في الخمر أربعُ خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فذكر الله خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال).
أيها الإخوة، نعيم الدنيا مهما فيه من متعة فهو مشوب بالمكدّرات والمنغّصات التي تقلّل من قيمته، فكم من صاحب ملايين شقِيَ ويتمنّى لو يأكل كِسرةَ خبز كما يأكل الفقير المعدم بلذة ومتعة.
الهَمُ والحُزنُ من أعظم المنغصات، لذلك كان الرسول يتعوّذ منه: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحُزن)) ، إذا كان كذلك فكم من الناس يُظن أنهم يعيشون في سعادة وهم يعيشون في كدر، فكم من مَلِك أو رئيس يعيش في همّ وغمّ يخشى على ملكه أن يزول، وكم من صاحب منصب مهموم يعيش في هلع وخوف يخشى أن يزول منصبُه، وكم من تاجر غنيّ يخشى الخسارة، فالهواجسُ وشبحُ الإفلاسِ تكدِّر عليه حياته، وكم من امرأة جميلة تخشى أن تذبلَ وتذهبَ نضارتُها فتلفظ لفظ النواة، وكم من فتًى صحيح البدن معافى يخشى الموتَ أو المرضَ، وكم وكم من أصناف الناس هم كذلك، يظَنّ أنهم سعداء في الظاهر وهم تعساء في الباطن.
أما نعيم الآخرة فهو منزهٌ ومطهّرٌ من جميع المكدرات والمنغصات الحسية والمعنوية، فليس في الجنة أحقادٌ ولا ضغائنُ ولا حسدُ ولا مؤمرات بعكس الدنيا، فما من صاحب نعمة إلا وهو محسود أو محقود عليه، أما في الجنة فكلٌ راض وقانع بنصيبه، قال تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، وفي الحديث قال رسول الله : ((إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا بقنطرة بين الجنة والنار، فيتقاصُّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذن لهم بدخول الجنة)) ، وجاء في الصحيحين في صفة أهل الجنة: ((لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم قلب رجل واحد)).
وكذلك نُقُّوا من الشوائب الحسية فلا بول ولاغائط، ولا بصاق ولا مخاط، ولا عرق ولا روائح كريهة، أما الفضلات فقد أجاب عنها الرسول لمّا سئل عنها، ففي مسلم عن جابر قال: قال رسوالله : ((إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون ولا يتغوطون ولا يمتخطون)) ، قالوا: فما بال الطعام؟ سؤال بريء، فالإدخال يقتضي الإخراج، نعم هناك إخراج لكن ما هو؟ أجاب : ((جشاء كجشاء المسك)). لا إله إلا الله، تحوَّل الجُشاءُ المكروه في الدنيا إلى روائح عطريةٍ عبقةٍ كالمسك.
ونُقّوا من الحيضِ والنفاسِ، وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25]، قالوا: من الحيض ونحوه.
ونُزّهوا من النوم والنعاس، قال رسول الله : ((النوم أخو الموت، ولا ينام أهل الجنة)) ، والنوم دليل التعَب والحاجة للراحة، وأيّ تعب هذا في الجنة؟! اعلم أن الجنة ليس فيها إلا الراحة والمتعة، أما التعبُ والنّصبُ فقد ولّى زمانُه في الدنيا، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6].
وكذلك زالَ الخوفُ من الهَرم والدمامة، فالجنة ليس فيها عجايز ولا دِمام، ما فيها إلا فِتيان جمال، يزدادون كلَ أسبوع نضارةً وجمالاً على جَمالهم الأصليِ الذي قال عنه الرسول في الحديث الصحيح عند أحمد والترمذي: ((يدخل أهل الجنة جردًا مردًا، كأنهم مكحّلون، أبناءَ ثلاث وثلاثين)).
أما الزيادة فقد روى مسلم عن أنس قال: قال رسول الله : ((إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب ريح الشَمال فتحثو في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حسنًا وجمالاً، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فيقول لهم أهلوهم: والله، لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً، فيقولون: وأنتم ـ والله ـ لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالاً)).
أعوذ بالله بالله من الشيطان الرجيم، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة، أما الفرقُ الرابعُ بين النعيمين فإن متاع الدنيا زيادةً على أنه قليلٌ فهو زائلٌ وفانٍ، وإن لم يَزُل زُلتَ أنت عنه إذ لا خلودَ لأحد، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء:34]. نظر ابن مطيع رحمه الله ذات يوم إلى داره فأعجبَه حُسنُها، ثم بكى فقال: "والله، لولا الموت لكنت بكِ مسرورًا، ولولا ما نصير إليه من ضيق القبور لقرَّت بالدنيا أعينُنَا".
أما متاع الآخرة فهو دائم وخالد، فكم من آية قال الله فيها وهو يتكلم عن الجنة: خَالِدِينَ فِيهَا ، بل كثيرًا ما يزيد التأكيدَ بقوله: أَبَدًا ، كما أخبرنا بأنه لا أهل الجنة يموتون ولا أهل النار، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:51-57]، وقال عن الآخرين: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36].
وما يزال أهل الجنة يخافون أن يَحُولَ الموتُ بينهم وبين هذا النعيم، وما يزالُ عند أهل النار أملٌ في الخروج من عذاب الجحيم، حتى يقعَ حدثٌ عظيمٌ، فيزادُ أهلُ الجنةِ غبطة وأمانًا، ويزادُ أهلُ النارِ حَسرةً وندامةً، أتدري ما هو؟ اسمع كلامَ المعصوم في الصحيحين عن أبي سعيد قال: قال رسول الله : ((إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهلُ النارِ النارَ يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الحنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، ويقولون: هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادى: يا أهل النار، هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون فينظرون، فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيؤمر به فيذبحُ، ويقال: يا أهلَ الجنة خلود ولا موت، ويا أهلَ النارِ خلودٌ ولا موت)).
أيها الإخوة، الحديثُ عن الجنة حديثٌ طويلٌ وذو شجون، فليس هو حديثٌ عن جنة واحدة بل عن جنان، كما قال رسول الله : ((يا أم حارثة، إنها ليست بجنة واحدة، ولكنها جنان كثيرة، وإن حارثةَ لفي الفردوس الأعلى)) أخرجه البخاري.
ونعيمُها ليس نعيمًا واحدًا، بل أنواع كثيرةٌ ومتعددةٌ ومتشعبة، مختلفةٌ ومتشابهة: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا [البقرة:25]، فمنه المنظور ومنه المشموم، ومنه المأكول ومنه المشروب، ومنه المنكوح ومنه الملبوس ومنه المفروش، ومنه ومنه..
والناس في هذا النعيم متفاوتون كما بين السماء والأرض نوعًا وكمًا، ففي البخاري: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة)) ، وفي الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي قال: ((إن أهل الجنة يتراءون أهل الغرف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدريّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم)).
(1/3692)
فضل الذكر
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
11/12/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم نفع الذكر. 2- الأمر بالإكثار من ذكر الله تعالى. 3- فضائل الذكر وفوائده. 4- الأيام المعدودات موسم الذكر. 5- أنواع الذكر في أيام التشريق.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله الذي خلَقَكم ورزَقَكم منَ الطيّبات، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20]، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34].
أيّها المسلمون، إنّه لمّا كان ذكرُ المحبوبِ سَببًا لدوام محبَّته وسبيلاً إلى استِدامةِ مودَّته وطريقًا إلى نيلِ مَرضاته والظفَر بكريم معيّتِه، ولما كان الله تعالى أولَى وأحقَّ بكمال الحبِّ والعبودية تعظيمًا وإِجلالاً له وشَوقًا إليه ورجاءً له واعتِمادًا وتوكُّلاً عليه كان ذِكرُه سبحانه بالقلوبِ والألسِنة من أعظم ما ينتفِع به العبدُ من أعمالٍ يرجو بِرَّها وذُخرها ويحتَسِب أجرَها ويأمل حُسنَ المآب بها.
وقد جاء في كتابِ الله الأمرُ بذكرِ الله كثيرًا والثناءُ الجميل على الذّاكرين اللهَ كثيرًا والذاكرات، فقال عزّ اسمه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الأحزاب:41، 42]، وقال تعَالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:10]، وقال جلّ شأنُه: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:35].
وإنّه لشَرَفِ مقامِ الذّكر وعلوِّ منزلته وجميلِ العُقبى فيه وكرِيم الجزاءِ عليه كان خيرَ الأعمال وأزكاها عند اللهِ كما جاء في الحديث الذي أخرجه مالكٌ في الموطّأ وأحمد في مسندِه والترمذيّ وابن ماجه في سنَنِهما بإسنادٍ صحيح عن معاذِ بن جبل رضي الله عنه أنه قال: قال رسولُ الله : ((ألا أنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم وأزكاها عند مليكِكِم وأرفعِها في درجاتِكم وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذهب والفضّة ومِن أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم؟)) قالوا: بلى يا رسولَ الله، قال: ((ذكرُ الله)) [1].
وكفى بذكرِ الله شَرفًا أن جعلَه الله سببًا لذكرِ الله عبدَه الذاكرَ له، كما جاء في الحديثِ الذي أخرجَه الشيخان في صحيحَيهما عن أبي هريرةَ رضي الله أنه قال: قال رسول الله : ((يقول الله تعالى: أنا عِند ظنِّ عبدي بي، وأنا معَه إذا ذكرني، فإن ذكرَني في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرتُه في ملأ خيرٍ منهم)) الحديث [2].
ولو لم يكن لذكرِ الله تعالى إلا هذه الفائدة لكفَى بها شرفًا وفضلاً، كيف ومِن فضائلِه أنه يطرُد الشيطانَ ويقمعه، ويزيل الغمَّ ويجلِب السرور، ويقوِّي القلبَ ويثبّته، وينوّر القلب والوجهَ، ويكون سببًا لجلبِ الرّزق، ويُكسِب الذاكرَ مهابةً وحلاوة ونضرَة، ويورث المعرفة والمراقبةَ حتى يدخلَ الذاكرَ في باب الإحسان فيعبد الله كأنه يراه، ويورثه الإنابةَ وهي العودةُ إلى الله عزّ وجَلّ، فإذا أكثَر الرجوعَ إليه بذِكرِه أورَثَه ذلك رجوعَه بقلبِه إليه في كلِّ أحواله، فيبقَى الله مفزَعَه وملجَأَه وملاذَه ومعَاذَه وقِبلةَ قَلبِه ومَهربَه عند النوازل والبلايا، ويورثه الهيبةَ لربِّه سبحانه وإجلالَه له لشدّةِ تمكُّنه من قلبِه، بخلافِ الغافل فإنّ حجابَ الهيبةِ رقيقٌ في قلبه، ويورِثه حياةَ القَلبِ؛ لأنّ الذكرَ قوتُ القلبِ وغِذاء الروحِ، قال العلامة الإمامُ ابن القيّم رحمه الله: "وسمعت شيخَ الإسلام ابن تيمية يقول: الذكرُ للقلب كالماءِ للسّمك، فكيف يكون حالُ السمك إن فارَقَ الماء؟!" [3] ، ويورِث جلاءَ القلبِ مِن صَدَئِه، فإنَّ لكلِّ شيءٍ صدَأً، وصدأُ القلب الغفلةُ والذنوب، وجِلاؤه الذكرُ والاستغفار، وهو يحطّ الخطايا ويذهِبها؛ لأنّه من أعظَمِ الحسنات، والله تعالى يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ الآية [هود:114]، وهو سَببٌ للنّجاة من عذابِ الله، وسببٌ لتنزّل السكينةِ وغِشيان الرّحمة وحُفوفِ الملائكة، كما أخبَر بذلك رسولُ الهدى في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحِه [4] ، وهو أيضًا سبَبٌ لاشتغالِ القلب عن الغيبةِ والنميمة والفُحش والباطل، ويؤمِّن العبدَ من الحَسرةِ يومَ القيامة، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((ما مِن قومٍ يقومون من مجلسٍ لا يذكُرون اللهَ فيه إلاّ قاموا عن مثلِ جيفةِ حمار وكان لهم حَسرة)) [5] أي: يوم القيامة كما ثبت في بعض طرق الحديث عند الطبراني وغيره بإسناد جيد، وهو مع البكاء في الخَلوة سبب لإظلال الله العبدَ في ظلّ عرشه والناس في حرّ الشمسِ يوم القيامة، كما جاء في الحديثِ الذي أخرجه الشيخان في صحيحَيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسولِ الله أنه قالَ: ((سبعةٌ يظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلّه)) ، فذكر الحديث وفيه: ((ورجلٌ ذكرَ اللهَ خاليًا ففاضَت عيناه)) [6] ، إلى غير ذلك من فوائدِ الذّكرِ ومنافعِه التي ذكرَ بعضُ أهلِ العلم منها أكثرَ من مائةِ فائدة.
أيّها المسلمون، إنّه قد أظلَّكم زمانٌ ندَبَكم ربّكم إلى ذكرِه سبحانه فيه، ألا وهي الأيّام المعدوداتُ المباركَات، أيّامُ التشريق التي تستقبِلون بيومِكم هذا أوّلَ أيامِها الثلاثة، وقد وصفَها رسول الهدى بقوله: ((أيامُ منى أيّام أكلٍ وشرب وذكرٍ لله عزّ وجلّ)) أخرجه مسلم في صحيحه من حديث نبيشَة الهذلي [7].
وفي هذا البيانِ النبويِّ الكريم إشارَةٌ ـ كما قال الإمامُ ابن رجبٍ رحمه الله ـ إلى أنَّ الأكلَ في أيّام الأعيادِ وأنّ الشربَ فيها إنما يُستعان به على ذكرِ الله تعالى وطاعته، وذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على الطاعات، وقد أمر اله تعالى في كتابه بالأكلِ منَ الطيّبات والشكرِ له، فمن استعان بنِعَم الله على معاصيهِ فقد كفَرَ بنعمةِ الله وبدَّلها كفرًا، فهو جديرٌ أن يُسلَبَها، خصوصًا نَعمَة الأكل من لحوم بهيمةِ الأنعام كما هي في أيّام التشريق، فإنَّ هذه البهائمَ مطيعةٌ لله لا تعصيه، وهي مسبِّحة بحمدِه قانِتةٌ له كما قال تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وأنها تسجُد له كما أخبرَ بذلك في قولِه: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ الآية [النحل:49]، وأباحَ الله ذبحَها حتى تتقوَّى بها أبدانُهم وتكمُلَ لذّاتهم، فيكون ذلك عونًا لهم على علوم نافعةٍ وأعمال صالحةٍ، يمتاز بها بَنو آدمَ على البَهائم، ولتكونَ عونًا على ذكرِ الله وهو أكبرُ مِن ذكرِ البَهائم، فلا يليقُ بالمؤمِنِ مع هذا إلاّ مقابلَة هذه النّعَم بالشّكر عليها والاستعانةِ بها على طاعةِ الله عزّ وجلّ وذكره؛ حيث فضَّل سبحانه بني آدَمَ على كثيرٍ ممّن خلق، وسخَّر له هذه الحيوانات كما قال سبحانه: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج:36]، فأمّا من قتل هذه المخلوقاتِ المطيعَةَ الذاكرة لله عزّ وجلّ ثم استعان بأكلِ لحومِها على معاصِي الله عز وجلّ ونسِيَ ذكرَ الله فقد قلَبَ الأمر وكَفَر النّعمة. انتهى كلامه يرحمه الله [8].
ألا وإنّ الإقرارَ بالنِّعم والشهادةَ بالمنَن واللّهَجَ بالفضائل والبيانَ للمحامد كلُّ أولئك مما يقَع به الشكر ويرتفِع به الثناء ويصحّ به الحمد لله ربِّ العالمين، فإنه مسدي هذه النعم ومجزِلُ هذا العطاء ومفيضُ هذا الخير؛ ولذا كان الإعراضُ عن شكرِ الناس على ما قدَّموه من صالحاتِ الأعمال التي يعُمّ نفعها ويعظُم أثرُها كان هذا إعراضًا في الحقيقة عن شكرِ الله تعالى، كما جاء في الحديثِ الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وابن حبانَ في صحيحه بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن رسولِ الله أنه قال: ((لا يشكُرُ اللهَ من لا يشكُرُ الناس)) [9].
وإنَّ مما امتنَّ الله به على هذه البلادِ المباركة ما وفَّق إليه سبحانَه ولاةَ أمرها إلى بذلِ كلِّ الممكنِ في خدمةِ حرمِه وحرَمِ رسوله عليه الصلاة والسلام ورِعايةِ حجّاج بيتِ الله الحرام، ممّا ليس في الإمكانِ جَحده ولا إنكارُه، فحمدًا لك اللهمّ حمدًا على هذا الفضلِ الكبير، ونسألك أن تجزِيَهم من لدُنك الجزاءَ الضافيَ الكريمَ، وتكتُبَ لهم به الأجرَ العظيم بمنّك وكرمِك إنّك أكرم مسؤول.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].
نفعَني الله وإيّاكم بهَديِ كتابِه وبِسنّةِ نبيّه محمدٍ ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجَليلَ لي ولَكم ولسائر المسلِمين من كلّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] موطأ مالك (490)، مسند أحمد (5/195)، سنن الترمذي: كتاب الدعوات (3377)، سنن ابن ماجه: كتاب الأدب (3790)، من حديث أبي الدرداء مرفوعا، إلا الموطأ فقد جاء فيه من كلامه رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1/496)، وقال الهيثمي في المجمع (10/73): "رواه أحمد وإسناده حسن"، وحسنه الألباني في تعليقه على الكلم الطيب (1).
[2] صحيح البخاري: كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ (7405)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: الحث على ذكر الله تعالى (2675).
[3] انظر: الوابل الصيب (ص63).
[4] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] مسند أحمد (2/389، 515، 527)، سنن أبي داود: كتاب الأدب (4855) ، وأخرجه أيضا البيهقي (6/108)، وصححه الحاكم (1808)، والنووي في الأذكار وفي الرياض، وهو في صحيح سنن أبي داود (4064).
[6] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6479)، صحيح مسلم: كتاب الزكاة (1031).
[7] صحيح مسلم: كتاب الصيام (1141).
[8] لطائف المعارف ().
[9] مسند أحمد (2/295)، سنن أبي داود: كتاب الأدب (4811)، صحيح ابن حبان (3407)، وأخرجه أيضا البخاري في الأدب المفرد (218)، والترمذي في البر (1954)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وهو في صحيح سنن الترمذي (1592). وفي الباب عن أبي سعيد الخدري والأشعث بن قيس والنعمان بن بشير رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وليِّ الصالحين، أحمده سبحانه يحبُّ من عبادِه الذاكرين الشاكرين، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله خاتم النبيِّين وإمام المتقين ورحمةُ الله للعالمين، اللّهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبِه صلاةً نرجو أجرَها يومَ الدين.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إنّ ذكرَ الله الذي أمِرنَا به في قوله عزّ اسمه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] هو أنواعٌ متعدِّدة:
منها ذكرُ الله تعالى عقِبَ الصلوات المكتوبات، وذلك بالتكبيرِ في أدبارها، وهو ـ أي: هذا التكبيرُ ـ مشروعٌ إلى آخرِ أيّام التشريق عند جمهورِ أهلِ العلم.
ومنها ذكر الله بالتّسميةِ والتكبيرِ عند ذبحِ النّسُك من الهديِ والأضاحي، وجمهور أهلِ العلم من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم على أنّ الذبحَ يختصّ بيومَين من أيّامِ التّشريق، وهو قول أبي حنيفةَ ومالكٍ والمشهورُ عن أحمد رحمهم الله أجمعين، وقال الإمام الشافعيّ رحمه الله: "إنّ وقتَ الذبح ممتدٌّ إلى آخرِ أيّام التشريق"، واختاره شيخُ الإسلام ابن تيميةَ وتلميذه الإمامُ العلاّمة ابن القيّم رحمه الله لأدلّةٍ مبسوطة في موضعِها.
ومنها ذِكرُ الله عندَ الأكلِ والشّربِ، فإنّ السنّةَ أن يُسمّيَ الله في أوّلهِ ويحمدَه في آخرِه، ففي صحيحِ مسلمٍ رحمه الله عن أنسِ بن مالكٍ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((إنَّ اللهَ تعالى ليَرضَى عنِ العبد أن يأكلَ الأكلَةَ فيحمَدَه عليها، أو يشربَ الشربةَ فيحمَده عليها)) [1] ، وفي الصّحيحين عن عمرَ بن أبي سلمةَ رضي الله عنه وكانَ غُلامًا تطيش يده في الصَّحفَة فقال له النبيّ عليه الصلاة والسلام: ((يا غلام، سمِّ الله، وكُل بيمينِك، وكُل ممّا يليك)) [2].
ومنها ذكرُه سبحانه بالتكبيرِ عند رميِ الجمارِ في أيّام التشريق، وهو نوعٌ من الذّكر خاصّ بأهلِ الموسم.
ومنها الذكرُ المطلَق لله تعالى، فإنّه يُستحَبّ الإكثارُ مِنه في أيّامِ التشريق، وكان عمَر رضي الله عنه يكبِّر في مِنى في قبَّتِه، فيسمعه الناس فيكبِّرون، فترتجّ منى تكبيرًا [3] ، وقد قال سبحانه: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة:200-202]؛ ولذا استَحبَّ جمهرةٌ من السّلَف الإكثارَ من هذا الدعاءِ والتضرّعَ به في أيّام التشريقِ، فهو ـ كما قال العلاّمة ابن رجَبٍ رحمه الله ـ من أجمع الأدعية للخير، وكان النبيُّ يكثِر منه، وكان إذا دعا بدعاءٍ جعله منه، فإنّه يجمع خيرَيِ الدنيا والآخرة، وفي الأمرِ بالذِّكر عندَ انقضاءِ معنى، وهو أن سائرَ العبادات تنقضِي ويُفرَغ منها، وذكر الله باق لا ينقضِي ولا يفرَغ منه، بل هو مستمِرّ للمؤمنين في الدنيا والآخرة. انتهى كلامه رحمه الله [4].
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واختِموا مناسكَكم بخير خِتام، واذكُروا على الدّوَام أنَّ الله تعالى قَد أمَرَكم بالصّلاة والسّلام على خيرِ الأنامِ، فقال في أصدقِ حديثٍ وأحسَن كلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الأربعة...
[1] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2734).
[2] صحيح البخاري: كتاب الأطعمة (5376)، صحيح مسلم: كتاب الأشربة (2022).
[3] علقه البخاري عن عمر رضي الله عنه مجزوما به في كتاب العيدين، باب: التّكبير أيّام منى، وقال ابن حجر في الفتح (): "وصله سعيد بن منصور من رواية عبيد بن عمير قال: كان عمر يكبّر في قبّته بمنى, ويكبّر أهل المسجد ويكبّر أهل السّوق, حتّى ترتجّ منى تكبيرا، ووصله أبو عبيد من وجه آخر بلفظ التّعليق, ومن طريقه البيهقيّ".
[4] لطائف المعارف ().
(1/3693)
وينقضي الحج
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الحج والعمرة, فضائل الأعمال
صالح بن محمد آل طالب
مكة المكرمة
18/12/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- انقضاء أيام الحج. 2- التحذير من الغرور بالعمل. 3- مقصد التقوى في الحج. 4- الثبات على الطاعة. 5- لزوم الاستغفار.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: فاتقوا الله تعالى ـ أيها المسلمون ـ بفعلِ أوامرِه واجتنابِ نواهيه والحَذَر من سخَطِه وعِقابه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أمّا بعد: أيّها المؤمنون، حجّاجَ بيتِ الله الحرام، أيّامٌ معدودة مرَّت وليالٍ كالأحلام فرّت، تزاحَمت فيها الجموع، وسكِبَت فيها الدموع، كم فيها من توبةٍ ورجوع وإنابة وخضوع، يجلِّل ذلك كرمُ الله بمغفرةِ الذنوب وإجابة الدعاء وكشفِ الكروب، في الصحيحين أنّ النبي قال: ((من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفث ولم يفسق رجَعَ كيومِ ولَدته أمُّه)) [1] ، أي: نقِيًّا من الخطايا، وفي الصحيحين أيضًا أنّ النبيَّ قال: ((العمرةُ إلى العمرة كفّارة لما بينَهما، والحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)) [2]. فيا ليتَ شِعري، مَنِ المُجاب مِنّا؟ ومَن المقبولُ فيُهنَّا؟
أيّها المسلِمون، ومعَ الثّقةِ بكرَمِ الله وعفوِه ورجائه وعطفِه إلاّ أنّ المسلم يسأل الله القبولَ ولا يغترّ بعمَله، بل يرجو ويخاف ويأمَل ويخشَى، وفي صِفات المؤمنين: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61].
سألت عائشةُ رضي الله عنها رسولَ الله عن هذهِ الآية: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ : أهُم الذين يشرَبون الخمرَ ويسرِقون؟ قال: ((لا يا بنتَ الصديق، ولكنّهم الذين يصومون ويصلّون ويتصدّقون وهم يخافون أن لا يُقبَل منهم، أولئك الذين يسارِعون في الخيراتِ)) رواه الترمذي بسند صحيح [3].
وهذه حقيقةُ التقوى أيها المسلمون، والتي ذكرَها الله تعالى في آخرِ آياتِ الحجِّ، حيث قال سبحانه: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، كما قال سبحانَه في الصّيام: كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. فهل نحقِّق التقوَى في حياتنا مستقبَلاً كنتيجةٍ تحصَّلنها مِنَ الحجِّ؟ عندما يؤدِّي الحاجّ نُسُكه بنظامٍ وانضباط، ملتزِمًا الحدودَ والمواقيت، ملتزِمًا بمكانِ وزمان كلِّ منسَك مِن مناسك الحجّ، مجتنِبًا المحظورات، صابرًا محتسِبًا وإن لحِقَته مشقة، راجِيًا بذلك ما عند الله، مدرِكًا أنّه يستطيع الاستغناءَ عن كثيرٍ من تَرَف الدّنيا، والتي رأى أنها غيرُ ضروريّة في الحجّ، وأنه يمكِن الاستغناءُ عنها. ومِن هذا الالتزامِ بالأماكِنِ والأوقات يعلَم أنّ الهوَى يُقيَّد بالشرع، وأنّ أحوالَ الحياة كأحوال الحج، يُسَار بها على مرادِ الله وليس العكس، وأنَّ التساهلَ في تجاوزِ هذه الحدود يُذهِب أثرَ هذا الالتزام.
فهذه هي التقوى التي يتربَّى عليها الحاجّ ويسير عليها في حياتِه حتى يلقَى اللهَ متعامِلاً بمقتَضاها مع أوامِرِ الله ونواهيه. وكما أنّ الحجَّ لا رفثَ فيه ولا فسوقَ ولا جدال، فإنّه تربِيَة وتهذيبٌ للسّلوك ليصبِحَ ذلك خلُقَه دائمًا، وليكونَ كما وصَفَ النبيّ : ((ليس المسلِم باللّعان ولا الطّعان ولا الفاحش البذيء)) [4]. هذه بعض معالمِ التقوى في الحجّ، فليستَحضِرها المسلمُ مع قولِ الله عزّ وجلّ: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، وليضَع نفسَه في الميزان.
أيّها المسلمون، حجاجَّ بيت الله العتيق، أما وقد وفَّقكم الله تعالى لمرضاته، ويسَّر لكم التعرّضَ لنفحاته، فاستقيموا على أمره، وليحذَرِ المسلم أن يلوِّثَ صحيفتَه البيضاء، وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]. وإنّ مِن أولى ما يوصَى به المسلم بعد التّقوى ما أوصَى به النبيّ سفيانَ رضي الله حينما قال: يا رسولَ الله، قل لي في الإسلامِ قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدَك، قال: ((قل: آمنتُ بالله، ثمّ استقم)) رواه مسلم [5].
ومَع استقامةِ العبدِ فإنّه معرَّض للخَطَأ والتّقصير؛ لِذا قال الله عزّ وجلّ: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6]، وإلى ذلك أشار الحديثُ الصحيح الذي رواه أحمد وابن ماجَه عن ثوبان رضي الله عنه أنّ النبيَّ قال: ((استقِيموا ولن تحصُوا، واعلَموا أنّ خيرَ أعمالكم الصلاة، ولا يحافِظ على الوضوءِ إلا مؤمِن)) [6] ، وفي رواية لأحمد: ((سدِّدوا وقاربوا، ولا يحافظ على الوضوءِ إلا مؤمِن)) [7] ، وفي الصحيحَين أنّ النبيّ قال: ((سدِّدوا وقارِبوا)) [8]. فالمطلوبُ مِنَ العبد الاستقامة وهي السّدادُ، فإن لم يحصُل سدادٌ ولا مقارَبَة، فهو مفرِّط مضيِّع.
أيّها الحاجّ الكرِيم، ما أجملَ أن تعودَ لأهلك ووطنِك بعدَ الحجّ بالخلُق الأكمَل والشِّيَم المرضيّة والسجايا الكريمة، حسَنَ التعامُل مع زوجِك وأولادك وأهلِ بيتك، طاهرَ الفؤاد، ناهِجًا الحقِّ والعدل والسّداد. إنَّ الحجَّ بكلِّ مناسكه قد زادَك معرفةً بالله، وذكَّرك بحقوقِه وخصائِصِ أُلوهيّتِه جلّ في علاه، وأنّه لا يستحقّ العبادةّ سواه، فهو الواحد الأحَد الذي تسلِم النّفسُ إليه ويوجِّه المؤمِن إليه، إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79]، فكيف يهون أن تصرِفَ حقًّا من حقوقِ الله إلى غيره كالدعاءِ والاستعانةِ والقَصد والنّذرِ؟! أين أثرُ الحجّ فيمن عاد بعد حجِّه مضيِّعًا للصّلاة مانعًا للزّكاة آكلاً للرِّبا والرّشا لا يبالي بأمرٍ أو نهي؟!
أيّها الحاجّ، الزَم طريقَ الاستقامة، وداوِم العملَ فلستَ بدارِ إقامة، واحذَرِ الرياءَ، فرُبَّ عملٍ كبير تصغِّره النية، وربَّ عملٍ صغير تكبِّره النية. ليَكُن حجُّك أوّلَ فتوحِك وتباشيرَ فجرِك وإشراقَ صُبحك وبدايةَ مولدك، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].
تقبَّلَ الله حجَّك وسعيك، وأعاد عليك وعلينا هذه الأيامَ المباركة أعوامًا عديدة وأزمنةً مديدة والأمّةُ المسلمة في عزّةٍ وكرامة وصلاحٍ واستقامة.
بارَك الله لي ولكُم في القرآن العظيم وسنة سيد المرسلين، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والهدى، وجنبنا مواطن الردى، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولكم ولسائرِ المسلمين والمسلِماتِ من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الحج (1521، 1819، 1820)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الحج (1773)، صحيح مسلم: كتاب الحج (1349) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] سنن الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب: ومن سورة المؤمنون (3175)، وأخرجه أيضا أحمد (6/205)، وابن ماجه في الزهد (4198)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2537).
[4] أخرجه ابن أبي شيبة (6/162)، وأحمد (1/404)، والبخاري في الأدب المفرد (312)، والترمذي في كتاب البر (1977)، وأبو يعلى (5088)، والبيهقي في الكبرى (10/193) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (192)، والحاكم (29)، ورجح الدارقطني في العلل (5/92) وقفه، وهو في السلسلة الصحيحة (320).
[5] صحيح مسلم: كتاب الإيمان (38).
[6] مسند أحمد (5/276-277، 282)، سنن ابن ماجه: كتاب الطهارة (277)، وأخرجه أيضا الدارمي في الطهارة (655)، والطبراني في الأوسط (7019)، والبيهقي في الكبرى (1/82، 457)، والخطيب في تاريخه (1/293)، وصححه ابن حبان (1037)، والحاكم (448، 449)، والمنذري في الترغيب (1/97)، وابن حجر في الفتح (4/108)، وهو مخرج في إرواء الغليل (412). وفي الباب عن غيره من الصحابة.
[7] مسند أحمد (5/282).
[8] صحيح البخاري: كتاب الرقاق (6464، 6467)، صحيح مسلم: كتاب صفة القيامة (2818) عن عائشة رضي الله عنها.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحدَه، نَصَر عبدَه، وأعزَّ جندَه، وهزَم الأحزابَ وحدَه، فلا شيءَ بعدَه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، جلّ عن النِّدّ وعن النظيرِ، وتنزَّه عن الصاحبةِ والولد، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحابتِه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى أيّها المسلمون، واعلموا أنّ أصدقَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثةٍ بدعة، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضَلالة في النّار، وعليكم بالجماعة، فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار، أعاذَنا الله وإيّاكم منها.
أيّها المؤمنون، بالاستغفارِ تُختَم الأعمال الكبار، وطوبى لمن وجَدَ في صحيفتِه استغفارًا كثيرًا، ومِن علامةِ قَبول الحسنة إتباعُها بالحسنة، لأن مَن قَبِلَه الله وقرَّبه وفَّقه للصّالحاتِ ووقَاه السيّئات، فاحرِص ـ رعاك الله ـ على حِفظِ عَمَلك وصيانة نفسِك، وسدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا وأمّلوا، والإخلاصُ والصوابُ عليهما مدارُ القبول.
جعَلَك الله بالجنّة فائزًا، ولأعلَى الدّرَجات حائزًا، وجَعَلنا وإيّاك ممّن تدعو لهم الملائكةُ بقولِ الله عزّ وجلّ: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [غافر:7-9].
هذا وصلّوا وسلِّموا على خير البرية وأزكى البشريّة وأفضل الرسل محمّدِ بنِ عبد الله، فمن صلى عليه صلاة صلّى الله عليه بها عشرًا.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلَى آل محمّد، كما صلّيتَ على إبراهيم وعلَى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيمَ في العالمين إنّك حميد مجيد...
(1/3694)
القدوة بين الأمس واليوم
العلم والدعوة والجهاد
التربية والتزكية, قضايا دعوية
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
18/12/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية القدوة الحسنة في حياة الفرد والمجتمع. 2- النبي هو قدوتنا الأولى. 3- من جوانب القدوة في شخص النبي. 4- الاقتداء بالصحابة والسلف الصالح. 5- القدوات السيئة في العصر الحاضر. 6- وقفات مع الحجيج بعد أداء الحج. 7- استمرار الإجراءات الإسرائيلية التعسّفية في حق القدس وسكّانه.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب:21].
أيها المسلمون، في هذه الأيام وفي هذه الظروف المحيطة بنا ما أحوجنا إلى الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة، فهي محطّ آمال العقلاء وغاية أمانيهم؛ لأنها نهج راشد وطريق مستقيم لا اعوجاج فيه ولا التواء.
وإن في طليعة من يجب أخذ الأسوة الحسنة منهم والاقتداء بأفعالهم وأقوالهم وكريم شمائلهم رسلَ الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فهم الصفوة من خلق الله، المهتدون بهداية الله، المسارعون إلى فعل الخير والحرص عليه، قال الله تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]. وقد أمر الله تعالى رسوله الكريم بالاقتداء بهم والسير على نهجهم حيث قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ [الأنعام:90].
أيها المسلمون، وإذا كان الحبيب محمد مأمورًا بأخذ الأسوة والقدوة من سلفه رسل الله فنحن أحرى أن نأخذها منه ، كما وجهنا إلى ذلك ربّ العزة. وفي هذا التوجيه الرباني دعوة إلى كل ذي عقل رشيد أن يضع نصب عينه أخذ الأسوة والقدوة من سيد الخلق أجمعين، في أقواله وأفعاله، وفي مناهجه وشمائله وأخلاقه وسلوكيّاته، فهو المثل الكامل للإنسانية، وهو المخاطب من قبل ربه بهذا القول: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُور [الشورى:52، 53]، وقال عن كريم شمائله ورِفْعة خُلُقه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]. فكان عليه الصلاة والسلام مثلاً أعلى في الخوف من الله تعالى ـ وما أحوجنا إليه ـ فقال: ((إني لأعلمكم بالله وأشدّكم له خشية)) ، وقال مخاطبًا أصحابه: ((إني أرى ما لا ترون، أطّت السماء وحُقّ لها أن تئِطّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله تعالى، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا، وما تلذّذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)).
كما كان عليه السلام مثلاً أعلى في المسارعة إلى فعل الخير، فعن أبي سروعة قال: صليت وراء النبي بالمدينة العصر فسلّم، ثم قام مسرعًا، فتخطّى رقاب الناس إلى حُجَر نسائه، ففزع الناس من سرعته، قال: ((ذكرت شيئًا من تِبْر عندنا، فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته)). وكان عليه السلام مثلاً أعلى في الصبر والشجاعة والحلم والرفق.
وقد سار أصحابه رضوان الله عليهم على نهجه، فلم يحجموا عن مكرمة أو يقصروا عن شيء من فعل الخير، فكانوا يتسابقون إلى الموت في سبيل الله راضين بالشهادة، ويأتي رجلٌ النبيَّ يوم أحد ويسأله: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟ قال: ((في الجنة)) ، فألقى تمرات كنّ في يده، ثم قاتل حتى قتل.
أيها المسلمون، ويأتي بعد ذلك أخذ الأسوة والقدوة الحسنة من خيار الأمة، وفي طليعتهم أهل القرون المفضّلة المشهود لهم بالهداية، قال : ((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)).
وهكذا في كل زمان يجب أخذ الأسوة الحسنة من أهل الفضل، ومن العلماء العاملين بعلمهم، المخلصين لدينهم، الذين يتقون الله في سرهم وعلانيتهم، الذين يقولون كلمة الحق بدون خوف أو وجل، لا تأخذهم في الله لومة لائم، الذين لا يلحدون في آيات الله، ولا يحرّفون الكلم عن مواضعه، الذين لا ينافقون ولا يجاملون. فهؤلاء العلماء ممن هدى الله وشرح صدورهم للإيمان، ففي السير على هدايتهم والاقتداء بأفعالهم فلاح وفوز في الدنيا والآخرة.
أيها المسلمون، أما الأسوة السيئة التي تَبَنّتْها المجتمعات الإسلامية في العصر الحاضر وفي كل مجالات الحياة فهي في الواقع وفي الحقيقة نكسة في الظاهرة الدينية والأخلاقية، يجب أن يترفّع عنها المسلم حفاظًا على دينه وإيمانه، وصونًا لأخلاقه، حتى ولو انتشرت هذه الأسوة السيئة بين الناس، وشملت جميع الطبقات والفئات، حيث أصبح العلماء الذين لا يعملون بعلمهم، ولكن يقصدون به المنصب والجاه والسلطان، وأصبح يمثلها أيضًا الوعّاظ والمرشدون الذين لا يأتمرون بما يأمرون به، والذين يصفون الدواء للأمراض التي هم بها مصابون، فمخبَرهم لا يطابق مظهرهم، فبئست الأسوة والقدوة بهم، قال الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُون [البقرة:44].
أيها المسلمون، ويمثلها أيضًا المسؤولون الذين لا يقدّرون مسؤولياتهم، تراهم يتلاعبون، بل يعبثون بمصالح الناس وأوراقهم، ويهملون الواجب نحوهم، يظهرون لهم من ألوان العظمة الكاذبة ككثرة الخدم والحراس وإغلاق الأبواب أمامهم والنظر إليهم بعين الاحتقار بما يستر ضعفهم وعجزهم وفشلهم، وفي الناس من هو خير منهم دينًا وخلقًا وعلمًا وفضلاً ونسبًا وكفاءةً وخبرةً، فليبتعد المخلصون عن هؤلاء وعن الدعاية لهم والترويج لأفكارهم.
وتمثّلها أيضًا وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، هذه الوسائل أصبحت تعمل جاهدة على نشر الرذيلة بمختلف صورها وأشكالها بين الناس، وبخاصة طبقة الشباب، وذلك من أجل إنشاء جيل منحرف عن تعاليم الدين وعن الأخلاق الفاضلة.
ويمثلها أيضًا النساء المتبرّجات، المائلات المميلات، المنتشرات في الشوارع والأسواق وفي وسائل الإعلام، وقد أخبرنا الرسول عن هذا الصنف من النساء بقوله: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)).
ويمثلها أيضًا احتكار التجّار وغشّ الصناع وجشع البائعين واليمين الفاجرة من شاهدي الزور.
أيها المسلمون، كل ذلك وغيره من أمثال الأسوة السيئة يجب على كل مسلم يغار على دينه ويعتزّ به أن يبتعد عنها، وإن الواعي ليتوقّع من وراء تفشّي أمثال هذه الرذائل والسيئات مستقبلاً مظلمًا مرعبًا مخيفًا، يُنذِر بحلول النقمة وسوء المصير، قال الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25]، وقال أيضًا: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11].
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وتداركوا أمركم، واجتنبوا الرذائل، وأصلحوا ذات بينكم، وخذوا الأسوة الحسنة من هدي الرسول الكريم وهدي خلفائه الراشدين وأصحابه الغرّ الميامين، ومن حملة الفقه والدين، ومن العلماء العاملين، ولا تكونوا من الذين تمادوا في الغي والضلال، وسقطوا في الرذائل والمنكرات، فذلك شأن من نسي الله فأنساه العمل على ما فيه صلاح نفسه وسعادة دنياه وآخرته، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون، في ربوع الأمن تحققت الأماني، وفي البلد الأمين ارتفعت نفوس الصالحين إلى منازل القرب والرضوان، ونعمت بصفو الأيام والليالي، فيا لسعادة الصالحين.
وها هم حجاج بيت الله الحرام عادوا إلى بلادهم بعد أن أدوا مناسك الحج والعمرة، بعد أن لهجت ألسنتهم بالذكر وكبّرت لرؤية البيت العتيق، وسكبت عيونهم دموع الفرحة لما شاهدوه، ولما قاموا به أثناء الحج، إذ تجرّدوا بإحرامهم من كل ما يُغضب الله، ووقفوا بعرفة محرمين، شعثًا غبرًا، خاشعين متذللين، داعين مهلّلين، ومكبّرين لله، وتذكّروا بموقفهم هذا موقف العرض يوم القيامة، وتعالت منهم أصوات التلبية استجابة لداعي الله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. فغفر الله لهم الذنوب، وباهى بهم ملائكته، وباتوا في المزدلفة، وازدلفوا إلى الله صباحًا بالذكر عند المشعر الحرام، ثم بلغوا مِنى، فتمّ لهم بذلك بلوغ المُنى، ورموا الجمار، فانحطّت عنهم الأوزار والآثام، وحلقوا الرؤوس أو قصّروا، ونحروا الهَدْي، والتمسوا من الله الرشد والهُدَى، وأتوا البيت الحرام لطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة، فأتموا بذلك الحج، وخرجوا من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، فهذا العمل المبرور، ونعم السعي المشكور. فعلى مثل هذا النهج فليعمل الوافدون، وفي بذل الجهد لطاعة الله فليتنافس المتنافسون.
وعليكم ـ يا حجاج بيت الله الحرام ـ باقتفاء أثر الصالحين الذين ساروا على نهج المصطفى ، وذلك بالمحافظة على حجتكم والثبات عليها وعدم إضاعتها، وتذكروا وتأكدوا أنكم عدتم طاهرين مطهّرين كيوم ولدتكم أمهاتكم، وادعوا الله بهذا الدعاء: ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
أيها المسلمون، بالنسبة لما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية مؤخرًا حول اعتزام السلطات الإسرائيلية منع دخول المقدسيّين المناطق الفلسطينية المصنفة (أ) دون تصاريح ابتداء من منتصف شهر تموز المقبل أقول: إن مجرد التفكير في هذا الإجراء يُعدّ انتهاكًا صارخًا لحقوق مدينة القدس وسكّانها الشرعيين، ويضاف إلى سلسلة الانتهاكات الإسرائيلية والممارسات التعسّفية للأراضي الفلسطينية، وفي مقدّمتها مدينة القدس. هذه الانتهاكات متمثّلة بالاستيلاء على الأرض ومصادرتها وتجريفها، وقلع أشجارها وهدم المنازل المقامة عليها، وتقطيع الأوصال بين المدن والقرى الفلسطينية بسبب جدار الفصل العنصري، وغيره من الحواجز المقامة هنا وهناك.
إن هذا الإجراء تجاوز واضح للمواثيق الدولية، ومن شأنه إحكام الطوق حول المدينة المقدّسة، والتي هي جزء لا يتجزّأ من الأراضي الفلسطينية.
كما أن قرار تطبيق قانون أملاك الغائبين على أراضيها أو ما تبقى منها بعد المصادرات المتلاحقة، كل هذه الأعمال تعتبر عدوانًا صارخًا يستوجب تحرّكًا عربيًا وإسلاميًا من أجل وقفها ومنعها، ومن أجل المحافظة على مكانة المسجد الأقصى المبارك أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تشدّ إليها الرحال.
(1/3695)
أهمية الإخلاص
التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الألوهية
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
18/12/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غنى الله تعالى عن خلقه. 2- بيان الله تعالى للعبادة الحقة. 3- حقيقة العبادة. 4- الإخلاص روح العبادة وأساسها. 5- أمر الله تعالى بالإخلاص. 6- معنى الإخلاص. 7- تفاوت الأعمال بحسب النية. 8- وعيد من فسدت نيته. 9- الإخلاص حرز من الشيطان. 10- الإخلاص في المباحات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله معشرَ المسلمين، فتقوَى الله عدّتُكُم وزادُكم لأخرَاكم وصلاحُ دنياكم.
عِبادَ الله، اعلَموا أنَّ الله غنيٌّ عن العالمينَ، لا تنفعُه طاعة الطائعِين، ولا تضرّه معصيةُ العاصينَ، وإنما نَفعُ الطّاعةِ لفاعلِها، وضرَرُ المعصيَةِ لصاحبِها، قال الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [الجاثية:15].
ولمّا كانَ العبدُ مخلوقًا لعِبادةِ الله تعالى ولاَ صَلاحَ له ولا فَلاحَ في الدّارَين إلاّ بتحقيقِ هذهِ العبوديّة بَيَّن الله له أنواعَ العِبادة، وفصّلها للخَلق في الكتابِ والسنّة، وبيَّن ما يُضادّ هذه العِبادةِ؛ ليتقرّبَ المسلِم إلى ربِّه بفعلِ كلِّ أمرٍ أمرَه الله به، وبِتركِ كلِّ نهيٍ نهاه الله عنه، قالَ الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، وقال تَعالى: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، وقال : ((مَا نهيتُكم عَنه فاجتنِبوه، وما أَمرتكم بِه فأتوا مِنه ما استَطَعتم، فإنما أَهلَك مَن كان قبلَكم كَثرةُ مسائِلهم واختلافُهم على أنبيائِهم)) رواه البخاريّ ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه [1].
والعِبادةُ تقرُّبٌ إلى الله عزّ وجلّ بما شرَع بحبٍّ وخُضوعٍ تامّ واستسلامٍ لربّ العالمين، قالَ الله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54]، وقال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران:31]، فلا يتَقرّب أحَدٌ إلى الله تعَالى ولا ينالُ رضوانَه إلاّ بأن يعمَلَ الطاعةَ على نورٍ مِنَ الله، ويترك المعصية على نور من الله، فلا يَبتدِعُ في دينِ الله، ولا ينحرِف عن شرعِ رسول الله ، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله : ((مَن عمِل عملاً ليس عَليه أمرُنا فهو ردّ)) رواه مسلم [2] ، و((من أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ)) رواه البخاري ومسلم من حديثها [3].
وروحُ العبادةِ والقُرُبات وشرط قَبولها هو الإخلاص، فالإخلاص هو عمَلُ القلبِ الذي يحبّه الله ويرضاه، والإخلاص هو الذي يزكِّي الأعمال ويطهِّرها وينمِّيها، فيبارك الله فيها وينفَع بها، ويجزِل الله به الثوابَ، والإخلاص هو الذي كلَّف الله بالتزامِه العباد، وهو الذي ابتَلاهم الله به ليحقِّقوه فيثابوا، أو يضيِّعوه فيعَاقَبوا، قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2]، قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7]، وقال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7]، قال ابن كثيرٍ رحمه الله تعالى في تفسيره: "ولم يقل: أكثر عملاً بل أحسن عملاً، ولا يكون العمَلُ حسنًا حتى يكون خالصًا لله عز وجلّ على شريعةِ رسول الله ، فمتى فقَد العمل واحدًا من هذين الشّرطين حبط وبطل"اهـ [4] ، وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه في تفسير لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً : "أَخلَصُه وأصوَبُه، فإذا كان العمل خالصًا ولم يكُن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يُقبَل، فلا بدّ أن يكون خالصًا صوابًا" [5].
وقد أمر الله بالإخلاص في الطاعاتِ والفرائض وفي كلِّ ما يأتي المسلم ويذَر مما أمر الله به أو نهى عنه، فقال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5]، وقال تعالى: فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:2، 3]، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمِعت رسولَ الله يقول: ((إنما الأعمالُ بالنيات، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هِجرتُه لدنيا يصيبُها أو امرأةٍ ينكِحها فهِجرته إلى ما هاجَر إليه)) رواه البخاري ومسلم [6].
ومعنى الإخلاص نَقاءُ النيّة والعَمَل وتصفيَتُهما من كلِّ خَلط وشائبة تُبطِل النيّة أو تبطِل العملَ أو تقدَح في كمالِ النية أو العمَل من الإرادات الفاسدَةِ كالرياء والسُّمعة والعُجب وكالبِدَع المحدثة، فالنّيةُ الصادِقة والعمَل المخلصُ كاللّبن الخالص الذي لم يختلِط بالفرثِ والدّم المذكور في قوله الله تعالى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [النحل:66].
والعمَلُ يكونُ بصورةٍ واحدة، ويختلِف حكمه بحسَب النية الصادقة والإخلاصِ أو نيةِ السوء والمخادَعَة فيه، فالمخلِص في عَمَله من المقرَّبين، والمخادِع المدخولُ النية من المبعَدين المعذَّبين، فهؤلاء قومٌ يصلّون مع رسول الله ويجاهِدون معه بإخلاصٍ فهم بأفضلِ المنازل رضي الله عنهم ورَضوا عنه، قال تعالى: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9-11]، وقال الله عن هؤلاء الصحابةِ رضي الله عنهم: لَكِنْ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:88، 89].
وقَومٌ آخرون مِنَ المنافقين يُصلّون مع رسول الله ويجاهِدون، لكنّهم فقَدوا الإخلاصَ والإيمانَ، فهم بشَرِّ المنازل، قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145]، فصورةُ العملِ واحدة، ولكنّ المخلِصين مقرَّبون فائزون، والمرائِين مبعَدون خاسرون.
وهذا قتيلُ معركةِ الجِهاد في سبيلِ الله وقارِئ القرآن ومنفِقُ المال في سبيل الخير، جعَلهم الله تعالى فَريقَين: فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير، فمن أخلَصَ لله في عمَلِه رَفعَه الله درجات، ومن عمِل قُربةً رياءً وسمعة، وضَعَه الله دَرَكات، عن أنس رضي الله عنه أنَّ أمَّ حارثة بن سُراقة أتَت رسولَ الله فقالت: يا رسولَ الله، ألا تحدِّثني عن حارثَةَ؟ ـ وكان قُتل يوم بدر ـ فإن كان في الجنّة صَبرت، وإن كان في غَير ذلك اجتهَدتُ في البكاءِ عليه، فقال: (( يا أمَّ حارثة، إنها جِنَان في الجنّة، وإنّ ابنَك أصابَ الفردوسَ الأعلى)) رواه البخاري [7] ، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبيِّ قال: ((يقال لصاحب القرآن: اقرَأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ ترتِّل في الدنيا؛ فإنَّ منزلَتَك عند آخِرِ آيةٍ تقرؤها)) رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [8] ، وعن أبي كبشة عمرو بن سعدٍ الأنماريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنما الدّنيا لأربعة نفَر: عبدٍ رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتّقي اللهَ ويصِل فيه رَحِمه ويَعلَم لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رَزَقه الله علمًا ولم يرزُقه مالاً، فهو صادِق النية يقول: لو أنَّ لي مالاً لعمِلتُ بعمَل فلان، فهو نيّته فأجرهما سواء، وعبدٍ رزَقَه الله مالا ولم يرزقه عِلمًا، فهو يخبِط في ماله بغيرِ عِلم، لا يتّقي فيه ربَّه ولا يصِل فيه رحِمه ولا يعلَم لله فيه حقًّا، فهذا بأخبَثِ المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعمِلت فيه بعمل فلان، فهو نيّتُه فوِزرُهما سواء)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح" [9].
فتدبَّر ـ أيها المسلم ـ هذه الأعمالَ الصالحة التي أريد بها وجهُ الله والدار الآخرة وكان الإخلاص روحَها ومبناها كيف صارَ صاحبُها منَ الفائزين المقرَّبين، ثم تدبَّر هذه الأعمالَ نفسَها لمّا تجرَّدت من الإخلاص وخالَطَها الرّياء كيف صار صاحبُها من المطرودِينَ الخاسرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((إنّ أوّلَ الناس يُقضَى يومَ القيامة عليه رجلٌ استُشهِد، فأتِيَ به فعرَّفَه الله نعمَتَه فعَرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: قاتَلتُ فيك يا ربِّ حتى استُشهِدتُ، قال: كذبتَ، ولكنّك قاتلتَ لأن يقال: جريء فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهه حتى أُلقِيَ في النار، ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه وقرَأَ القرآنَ، فأتِيَ به فعرَّفَه نعَمَه فعَرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلم وعلَّمتُه، وقرأتَ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنّك تعلَّمتَ ليقال: عالم، وقرأتَ القرآنَ ليقال: قارئ فقد قيل، ثم أمِرَ به فسُحِب على وجهه في النار، ورجلٌ وسَّع الله عليه وأعطاه من أصنافِ المال، فأتِيَ به فعرّفه نِعَمَه فعَرَفها، قال: فما عمِلتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحبّ أن تنفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبتَ، ولكنّك فعلت ليقال: جواد فقد قيل، ثم أُمِر به فسُحِب على وجهِهِ حتى أُلقِيَ في النار)) رواه مسلم [10] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، من أسعَد بشفاعتِك؟ قال: ((من قال: لا إلهَ إلا الله خالِصًا من قلبه)) رواه البخاري [11].
فأينَ هذا الذي يقولها عالمًا بمعناها عاملاً بمقتَضاها مخلصًا مجتهدًا ممن يقولها رياءً أو يقولها عادَةً وتقلِيدًا لا يعرفُ معناها ولا يعمَل بمقتضاها؟! ولو ذكَرنا أنواعَ الأقوال والأفعال التي تتَّفِق في الصورةِ وتختلِف في الحقيقةِ والجزاءِ بالإخلاص أو عدَمه لطال الكلام.
فكونوا ـ عبادَ الله ـ من المخلِصين؛ فإنهم في كنَفِ الله وحِفظِه ورِعايتِه وعِصمتِه، قد نجّاهم الله من مكائِدِ الشيطانِ وحَسرَة الخسران، وآواهم إلى حِزبِه المفلِحين، قال الله تعالى عن إبليس: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ [الحجر:39، 40]، وقال تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص:82، 83]، وقد قرأها ابنُ كثير وأبو عمرو البصرِي وابن عامر بكسر اللام إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلِصِينَ ، ومَن قَرَأها بفتح اللام وهم نافع والكوفيّون فمعناه: مَن اختارَهم الله لاتِّصافهم بالإخلاصِ. وشرَط الله تعالى لتوبَةِ التائبين تحقيقَ الإخلاص في أعمالهم فقال تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:146].
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ: (من خلُصت نيّته كفاه الله ما بينه وما بين الناس) [12] ، وقال عليّ رضي الله عنه: (لا تهتمّوا لقِلّة العمل، واهتمّوا للقَبول) [13] ، وقال بعض العُبّاد: "إنَّ لله عبادًا عَقَلوا، فلمّا عَقَلوا عمِلوا، فلمّا عمِلوا أخلَصوا، فاستدعاهم الإخلاصُ إلى أبوابِ البرِّ جميعًا" [14].
أيّها المسلمون، تمسَّكوا بهذا الركنِ العظيم، تمسَّكوا بالإخلاص، فابتَغُوا بأعمالِكم وجهَ الله والدار الآخرة، وأخلِصوا لله نيّاتكم وإراداتكم، وتقرَّبوا إلى الله بما شرَعَه الله عزّ وجلّ، وإيّاكم والبدَعَ في القُربات فكلّ بدعةٍ ضلالة.
ويُستَحَبّ للمسلم أن يفعلَ المباحَ بنيّة ثوابِ الله عليه، فإذا فعَل المباحَ بنيّة الأجرِ من الله ضاعفَ الله له الثوابَ، عن سعد بنِ أبي وقّاص رضي الله قال: قال رسول الله : ((وإنّك لن تنفِقَ نفقةً تبتغي بها وجهَ الله إلا أُجِرت عليها حتى ما تجعَل في في امرأتِك)) رواه البخاري ومسلم [15].
قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
بارك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، ونفعنا بهديِ سيّد المرسلين وبقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام (7288)، صحيح مسلم: كتاب الفضائل (1337).
[2] صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).
[3] صحيح البخاري: كتاب الصلح (2697)، صحيح مسلم: كتاب الأقضية (1718).
[4] تفسير القرآن العظيم (2/439).
[5] أخرجه أبو نعيم في الحلية (8/95).
[6] صحيح البخاري: كتاب بدء الوحي (1)، صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1907).
[7] صحيح البخاري: كتاب الجهاد (2809).
[8] سنن أبي داود: كتاب الصلاة (1464)، سنن الترمذي: كتاب فضائل القرآن (2914)، وأخرجه أيضا أحمد (2/192)، والنسائي في الكبرى (8056)، والحاكم (2030)، والبيهقي في الكبرى (2/53)، وصححه ابن حبان (766)، وقواه الألباني في السلسلة الصحيحة (2240).
[9] سنن الترمذي: كتاب الزهد (2325)، وأخرجه أيضا أحمد (4/231)، وابن ماجه في الزهد (4228)، وصححه ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/537)، والألباني في صحيح الترغيب (16، 869).
[10] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1905).
[11] صحيح البخاري: كتاب العلم (99).
[12] رواه هناد في الزهد (859)، ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (1/50) عن عامر الشعبي قال كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري وذكره.
[13] انظر: إحياء علوم الدين (4/376).
[14] انظر: إحياء علوم الدين (4/379).
[15] صحيح البخاري: كتاب الإيمان (56)، صحيح مسلم: كتاب الوصية (1628).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله العزيزِ الغفورِ، العليمِ بذات الصدور، أحمد ربي سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له الحليم الشّكور، وأشهد أنّ نبيَّنا وسيّدَنا محمّدًا عبده ورسوله، أرسَلَه الله رحمةً للعالمين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أمّا بعد: فاتقوا الله ـ عبادَ الله ـ في السرِّ والعلانية؛ فإنه يعلَم ما في قلوبكم ويرى أعمالَكم.
أيّها المسلمون، اصدُقوا اللهَ في طلبِ مرضاته، واحذَروا غضَبَه ونِقمته بالبُعد عن محرَّماته، وألزِموا قلوبَكم الإخلاصَ في دينكم؛ فإنّه منهجُ نبيّكم، وبه تزكو أعمالكم وتُرفَع درجاتُكم وتستنير سرائركم، قال الله تعالى: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:11-14]، وعن جُبير بن مطعِم رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((ثلاثٌ لا يغِلّ عليهنّ قلبُ امرئٍ مسلم: إخلاص العمَلِ لله، ومناصَحَة ولاةِ الأمر، ولزوم جماعةِ المسلمين)) رواه أحمد [1] ، ومعناه أن هذه الثلاثَ الخلال تصلِح القلوبَ، فمن تمسَّك بها طهُر قلبُه من الخيانة والغلِّ والشرّ والدّغَل والفُرقة والنّفاق.
عباد الله، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم...
[1] مسند أحمد (4/80، 82)، وأخرجه أيضا ابن ماجه في المناسك (3056)، الدارمي في المقدمة (229)، والبزار (3417)، وأبو يعلى (7413)، والطبراني في الكبير (2/126، 127)، وصححه الحاكم (294، 295، 296)، وقال الهيثمي في المجمع (1/139): "في إسناده ابن إسحق عن الزهري وهو مدلس، وله طريق عن صالح بن كيسان عن الزهري ورجالها موثقون"، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2480)، وانظر: السلسلة الصحيحة (404). قال الحاكم: "وفي الباب عن جماعة من الصحابة منهم: عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم وغيرهم عدة"، ومنهم: أبو سعيد الخدري وأبو الدرداء والنعمان بن بشير وأبوه بشير وأبو قرصافة وجابر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، انظر: مجمع الزوائد (1/137-140). وقد ذكر السيوطي هذا الحديث في الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة.
(1/3696)
عيد الأضحى 1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الآداب والحقوق العامة, الذبائح والأطعمة, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
10/12/1425
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوصية بتقوى الله. 2- شكر الله على نعمه. 3- حِكم ومقاصد العيد. 4- الوصية بصلة الأرحام. 5- وصايا عامة. 6- الوصية بالوفاء وسداد الدّيون. 7- بعض ما يحاك للأمة الإسلام. 8- وصايا عامة لكل من الآباء والمعلمين ونساء المسلمين. 9- من أحكام الأضحية. 10- من أحكام التكبير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى حق التقوى، فإن التقوى هي زمام الأمور، وهي وقاية للإنسان من الوقوع في المهالك والشرور، هي سبيل النجاة من النار دار الخزي والعار دار الجحيم والبوار, هي تكفير للسيئات ورفع للدرجات ومرضاة لمالك الأرض والسماوات، قال الله سبحانه في كتابه الفرقان: يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الأنفال:29 ].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، اشكروا الله جل وعلا أن بلّغكم هذا اليوم العظيم وهذا الموسم الكريم، واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن يومكم هذا يوم مبارك، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وسماه يوم الحج الأكبر، وجعله عيدًا للمسلمين حجاجًا ومقيمين، فيه ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى بعد أن وقفوا بعرفة وباتوا بمزدلفة، في هذا اليوم المبارك يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم اتباعًا لسنة الخليلين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وقد أمر الله خليله بذبح ابنه وفلذة كبده فامتثل وسلّم، ولكن الله سبحانه بفضله ورحمته افتداه بذبح عظيم، فكانت ملة إبراهيمية جارية وسنة محمدية سارية عملها المصطفى ورغّب فيها، في الصحيحين أنه ضحّى بكبشين أقرنين أملحين ذبحهما بيده وسمّى وكبر.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد
أيها المسلمون، إن العيد من شعائر الإسلام العظيمة الظاهرة، والعيد يتضمن معاني سامية جليلة ومقاصد عظيمة فضيلة وحِكمًا بديعة، فنحن نعيش الآن الساعات الأولى من يوم عيد النحر المبارك، يوم العيد الأكبر، الذي يلتقي فيه المسلمون على صعيد الحب والإخاء، يتبادلون أحاديث الود والصفاء، فتقوى صلاتهم وتتوثق أخوتهم، فيحمدون الله عز وجل على نعمة الشريعة الإسلامية التي جمعتهم برباطها، وألفت بين قلوبهم، وشدت بعضهم إلى بعض بعرى العقيدة والإيمان، فأصبح مثلهم في المودة والتراحم كمثل الجسد الواحد والبنيان المرصوص، فالتواصل بين المسلمين والتزاور وتقارب القلوب وارتفاع الوحشة وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد، فهذه حكمة من حكم العيد ومنافعه العظمى، فاقتدار الإسلام على جمع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد آية على اقتداره على أن يجمعهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم على التقوى، فلا شيء يؤلف بين المسلمين سوى الحق؛ لأنه واحد، ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم،كما روى البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات الإسلام، فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى. فاجعل نفسك ممن يستحق التهنئة بفرحة هذا العيد السعيد، وإن من يستحق التّهنِئَةَ بالعيد الموسِر الذي يزرَع البسمةَ على شِفاه المحتاجين، والشَّفيقُ الذي يعطِف على الأرامِلِ واليتامى والمساكين، والصحيحُ الذي يتفقَّد المرضى والمقعَدين، والطّليق الذي يرعَى السجناءَ والمأسورين.
وفي المقابِلِ أيّها المسلمون، ليس العيدُ لمن عقَّ والدَيه فحُرِم الرّضَا في هذا اليومِ المبارَك السعيد، وليس العيدُ لمن يحسُد الناسَ على ما آتاهم الله من فَضله، وليس العيدُ لخائنٍ غشّاش كذّاب يسعى بالأذَى والفسادِ والنميمةِ بين الأنام. كيف يسعَد بالعيد من تجمَّلَ بالجديد وقلبُه على أخيهِ أسود؟! كيف يفرح بالعيدِ من أضاع أموالَه في الملاهِي المحرَّمة والفسوقِ والفجور، يمنَع حقَّ الفقراء والضعفاء ولا يخشى البعثَ والنشور؟! لا يعرِف من العيدِ إلا المآكلَ والثوبَ الجديد، ولا يفقَه مِن معانيه إلاّ ما اعتاده من العاداتِ والتقاليد، ليس لهم منَ العيد إلا مظاهرُه، وليس لهم من الحظِّ إلى عواثِرُه.
فيا عباد الله، يا من آمنوا بالله ورسوله، انظروا في حالكم، انظروا في أقاربكم، هل قمتم بما يجب لهم عليكم من صلة؟! هل ألنتم لهم الجانب؟! هل أطلقتم الوجه لهم؟! هل شرحتم الصدور عند لقائهم؟! هل قمتم بما يجب لهم من محبة وتكريم واحترام؟! هل زرتموهم في صحتهم توددا؟! هل عدتموهم في مرضهم احتفاء وسؤالا؟! هل بذلتم لهم ما يجب من نفقة وسداد حاجة؟!
أيها المسلمون، هذه الاستفهامات وغيرها من الاستفهامات التي تقتضيها صلة الرحم يجب على الإنسان أن يحاسب نفسه عليها، فلينظر هل قام بما يجب عليه في هذا الأمر أم هو مفرط فيه، فالصلة أمارة على كرم النفس وسعة الأفق وطيب المنبت وحسن الوفاء، ومعاداة الأقارب شر وبلاء، الرابح فيها خاسر، والمنتصر مهزوم، وكل رحم آتية يوم القيامة أمام صاحبها تشهد له بصلة إن كان وصلها، وتشهد عليه بقطيعة إن كان قطعها. فاجعل عيد هذا اليوم منطلقا لوأد القطيعة وطيّ صحيفة الشقاق والنزاع، لوأدها مجالات واسعة يسيرة، فمن بشاشة عند اللقاء ولين في المعاملة إلى طيب في القول وطلاقة في الوجه، زيارات وصلات، تفقد واستفسار، مهاتفة ومراسلة، والرأي الذي يجمع القلوب على المودة، كفّ مبذول وبر جميل، وإذا أحسنت القول فأحسن الفعل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واهنَؤوا بعيدكم، والزموا الصلاحَ وأصلحوا، فالعيد يومُ فرَح وسرورٍ لمن قبِل الله منه أعماله وصحّت لله نيته، ويومُ ابتهاجٍ وتهانٍ لمن حسُن خُلُقه وطابَت سَرِيرتُه، يومُ عفوٍ وإحسان لمن عفَا عمّن هفا وأحسَن لمن أسَاء، يومُ عيدٍ لمن شَغَله عيبُه عن عيوبِ النّاس. والزَموا حدودَ ربِّكم، وصوموا عن المحارِمِ كلَّ دَهركم، تكُن لكم أعيادٌ في الأرض وأعيادٌ في السماء.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، اللهَ اللهَ في الصلاةِ مع الجماعةِ، فإنها نعمتِ الطاعة والبضاعَة، ومُروا بالمعروف أمرًا رفيقًا، وانهوا عن المنكر نهيًا حليمًا حكيمًا رقيقًا، فالحِسبة قِوام الدين، وبها نالت الأمّة الخيرية على العالمين، هي صمام الأمان في الأمة، فكونوا لها أوفياء، وبأهلها أحفياء، حتى لا تغرقَ سفينة الأمة. احفَظوا أقدارَ العلماء، وصونوا أعراضَ أهلِ الحسبة والدعاة الفُضَلاء، أطيعوا أمرَ من ولاّه الله من أموركم أمرًا، وحذار أن تقربوا من الفتنة شرَرًا ولا جمرًا، ولا تقحِموا في الخلافِ المعتبر إلا العلماء الثقات، لا زيدًا ولا عمرًا.
عليكم بالصدق والوفاء بالعهد والأمانة والحشمة والصيانة وبرِّ الوالدين وصلةِ الأرحام، تراحموا تلاحموا تسامحوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا. احذَروا الغشّ وقولَ الزور والكذب والخيانةَ، ولا تقرَبوا الزنا، واحذروا الربَا والرشوةَ، واجتنبوا المسكِرات والمخدّرات، فإنها من الكبائرِ وسببُ البلايا والجرائر، وإياكم والنميمةَ والغيبةَ والظلم والبهتان والشائعات والتساهلَ في حقوق العباد؛ فإنها مجلبةٌ لغَضَب الجبار والذلّةِ والصغار وحَطِّ الأقدار، بل هي الآثام والأوزار، أجارنا الله وإياكم من ذلك كلِّه. فاجتنبوا في جمعكم للأموالِ المسالكَ المعوجَّة والطرقَ الملتوِية والمخالفةَ للأحكام القرآنيّة والتوجيهاتِ النبويّة والقواعدِ الشرعية.
فيا أخي، إن كنتَ تحِبّ نجاتَك وترجو سعادتك فأطِب كسبَك ونقِّ مالَك وتخلَّص من حقوق غيرك، فرسول الله يقول: ((من كانت عندَه مظلمةٌ لأخيه من مالٍ أو عِرض فليأته فليستَحلِله من قبلِ أن يؤخَذَ منه وليسَ ثَمّ دينارٌ ولا دِرهم، فإن كانَت له حسناتٌ أخِذَ من حسناتِه لصاحِبِه، وإلاّ أخِذ من سيّئات صاحبه فطُرِحت عليه فطرِح في النار)) رواه البخاريّ. فما موقِفُك ـ يا عبد الله ـ من الأموالِ العامّة التي لك النفوذ فيها؟! هل اتقيتَ الله فيها ووضعتَ كلَّ شيء موضعَه، أم غلَلت ونهبتَ وتلاعبتَ؟! والله يقول: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].
احذر ـ يا عبد الله ـ مماطلة الناس حقوقهم، لقد انتشر في الآونة الأخيرة بين كثير من المقترضين والمستدينين ظاهرة عدم وفاء القرض أو وفاء الدين، فتجد الشخص يأتي إلى أخيه في بداية الأمر ليطلب منه سلفةً نقدية أو سلعة يشتريها بالدَّين، ويظهِر له حسنَ النية بكلام معسول وعبارات مُنَمَّقَة، وأنه سيسدّده في الوقت الذي يحدّده المقرِض، وهو في الحقيقة يضمر خلافَ ذلك، ثم يأخذ المال وتمر عليه شهورٌ وربما سنوات دون أن يعتذِر منه، أو يطلب فسحة في الأجل، وهذا ليس من خلق المسلم، وليس من الأدب الإسلامي في شيء، فإن ديننا يحثّ على رد الجميل والمكافأة للمعروف بمثله أو أحسن منه والدعاء لصاحبه، وقال : ((خير الناس أحسنهم قضاء)) متفق عليه، وأن لا ينوي استغلاله ومماطلته وأكل ماله، فإنه إن نوى ذلك فقد عرض نفسه للعقوبة، قال رسول الله : ((من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) رواه البخاري. فعلى المسلم أن يتقي الله تعالى في ذلك، ويخشى عقوبته ووعيده الذي أخبر به ، وليبادر إلى رد القرض وأداء الدين عند حلوله دون تسويف أو مماطلة.
ما موقفك وحالُك من المسؤوليّة التي أُنيطَت بك؟! هل أدّيتَها حقَّ الأداء وأدّيت الأمانةَ فيها بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى؟! ما هي معاملاتك؟! تفكَّر فيها وتدبَّر، والتَزمِ الشرعَ، فالله سائِلُك عن مالك: من أين أتاك؟ وفيم أنفَقتَه؟
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المؤمنين، إنَّ المسلمين اليومَ تتقاذفُ بهم أمواجُ الفتَن، وتحيطُ بهم أسبابُ التفرُّق والشرور والإحن، يسعى الأعداءُ لتفريق صفوفهم، ويبذُلون كلَّ جهدٍ لبذرِ أسبابِ العداء بين أبنائهم، يفرَحون بخرقِ صفِّ المسلمين وتفريق كلِمتهم، ويسعَدون ببثِّ روح التباغُض في مجتمعاتهم وفُشوِّ الكراهيَّة بين شبابهم. وحينئذٍ فما أحوجَ المسلمين اليومَ للالتزام بالمنهجِ الذي تصفو به قلوبُهم، وتسلَم معه صدورُهم، وتُنشَر من خلاله مبادئُ المحبَّة والوئام في مجتمعاتهم، فاحذَروا دعاةَ السوء والفساد وإن تظاهروا بالإصلاح، فالله يعلم إنهم مفسِدون، إنهم يسعَونَ في الأرض فسادًا، ولا يريدون لكم خيرًا ولا صلاحًا. فاتَّقوا الله في أنفسكم، واحذروا الدعاياتِ المضلِّلة والإعلامَ الجائِر الذي يحاوِل أن يصوِّرَ أنّه مصلِحٌ وأنّه ينصَح ويوجِّه، والله يعلم أنه مفسِد وأنّ هدفَه السوء، ولكن كما قال الله: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43].
واعلموا أن لكم أعداء ـ يا أمة الإسلام ـ يعملون ويخططون ليل نهار، ويحبّون إشعالَ الفتن واستطار شرِّها، يحبون ذلك ويكرَهون للأمة أن تعيشَ في أمنٍ واستقرار وراحةِ بال، لا يرضيهم ذلك بل يحبّون أن تكونَ بلادُ الإسلام دائمًا بلادَ فِتَن واضطراباتٍ وانقسامات، فهم يُذكون كلَّ بلاء، ويشعِلون النزاعَ الطائفي والنزاعَ القَبلي إلى غير ذلك مِن كلّ ما يمكِنهم من تفريقِ الأمّةِ وضربِ بعضِها ببعض. وإعلانهم المعادي للإسلام وأهله وأعمالهم المشينة الخطيرة من تكفيرٍ وتفجير وتبديعٍ وتضليلٍ وإحداثِ فوضى في الأمّة وراءَها أعداءُ الإسلام، يذكون نارَها، وإنَّ أهلَ هذه البلادِ ـ بلادِ الحرمين ـ وهم يعيشون نِعَمًا عُظمى وخيراتٍ جُلَّى فهم محسودُون من أعداء الإسلام والمسلمين، لذا حَريٌّ بأهلها وحريٌّ بأهل الإسلام في كلِّ مكان الاجتماعُ على السنّة والهدى والتعاونُ على البرّ والتقوى، وواجبٌ على المسلمين في هذه البلاد أن يكونوا يدًا واحدةً مع ولاةِ أمورهم ومع علمائهم لتحقيقِ المنافعِ الخيِّرة والمصالح المرجوَّة، وأن يحذَر الجميع أسبابَ التدابرُ والتباغض وطرقَ التنازع والتفرُّق؛ حتى يسلمَ للناسِ دينهم، وتسلمَ لهم دنياهم، ويعيشوا في ظلِّ أمن وأمان ورغدٍ ورَخاء. فكونوا على حَذَر من أعدائكم، فهم ـ والله ـ الأعداءُ وإن أظهَروا لكم المحبّةَ والنصيحة.
أيها الآباءُ والأمهات، واجبُكم تقوى الله في أبنائكم، رَبّوهم التربيةَ الصالحة، راقبوا سلوكَهم وتصرّفاتهم، حذِّروهم من مجالسِ السّوء ومن دعاةِ الباطل والضلال الذين يسعَونَ لتَلويثِ أفكارهم وإدخالِ أمور في أفكارهم هي بعيدةٌ كلَّ البُعد عن دينهم وعن مصالحِ دُنياهم.
أيّها المربّون، رجالَ التربية والتعليم، واجبُ الجميعِ الأخذُ على أيدي أبنائنا، وتوجيهُهم التوجيهَ السليم، وتحذيرهم من كلِّ أمر فيه ضررٌ عليهم في دينهم ودنياهم، فهم أمانةٌ في أعناقِكم، فعلِّموهم الخيرَ ووجِّهوهم للخير، وحذِّروهم من مبادئ الشرِّ على اختلافها وتلوُّن عباراتها.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يا نساءَ المسلمين، إنّ الله رفعكنَّ وشرّفكنّ، وأعلى قدركنّ ومكانتَكنّ، وحفِظ حقوقكنّ، فاشكُرنَ النعمة، واذكُرن المنَّة، فما ضُرِب الحجابُ ولا فُرِض الجِلباب ولا شُرع النقاب إلاّ حمايةً لأغراضِكن وصيانةً لنفوسِكن وطهارةً لقلوبكنّ، وعصمةً لكنّ من دواعي الفتنة وسُبُل التحلُّل والانحِدار. فعليكنّ بالاختِمار والاستِتار، واغضُضنَ من أبصاركنّ واحفظن فروجَكنّ، واحذَرن ما يلفِت الأنظارَ ويُغري مرضَى القلوبِ والأشرار، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]. استُرن وجوهكنّ وزينتكنّ ومحاسنكنّ عن الرّجال الأجانب عنكنّ. ولتحذَر المرأةُ المسلمة الرقيقَ من الثيابِ الذي يصِف ويشفّ، والضيِّقَ الذي يبين عن مفاتِنها وتقاطيعِ بدنها وحجمِ عظامها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((المرأةُ عورةٌ، فإذا خرجت استشرَفها الشيطان، وأقرَب ما تكون من ربِّها إذا هِي في قعرِ بيتِها)) أخرجه ابن حبان.
أيّها المسلمون، تقبَّل الله طاعاتِكم وصالحَ أعمالكم، وقبِل صيامَكم في الأيام العشر وصدقاتكم ودعاءَكم، وضاعف لكم الأجر، وجعل عيدَكم مباركًا وأيّامَكم أيامَ سعادةٍ وهناء وفضلٍ وإحسان وعمل.
العيدُ المبارك لمن عمَر الله قلبَه بالهدى والتُّقى، في خُلُقٍ كريم وقلبٍ سليم، غنيٌّ محسن وفقير قانِع ومبتلًى صابِر، تعرِفهم بسيماهُم، رجالٌ صدَقوا ما عاهَدوا الله عليه. توبوا إلى الله ـ يا عباد الله ـ من جميع ذنوبكم وابدؤوا صفحة جديدة ملؤها الأعمال الصالحة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، مَنْ عَمِلَ صَـ?لِحًا مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى? وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَو?ةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل:97].
اللهم اجعل عيدنا سعيدًا، اللهم أعده علينا أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، اللهم أعده على الأمة الإسلامية جمعاء وقد تحقق لها ما تصبو إليه من عز وكرامة وغلبة على الأعداء. أقول قولي هذا، وأسأل الله أن يبارك لي ولكم في القرآن، وينفعنا بما فيه من الآيات والهدى والبيان، وأن يرزقنا السير على سنة المصطفى من ولد عدنان.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إنك أنت الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله يمنّ على من يشاء من عباده بالقبول والتوفيق، أحمده تبارك وتعالى وأشكره على أن منّ علينا بحلول عيد الأضحى وقرب أيام التشريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدانا لأكمل شريعة وأقوم طريق، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله ذو المحْتِد الشريف والنسب العريق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والتصديق، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما توافد الحجيج من كل فج عميق، آمِّين البيت العتيق، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، زينوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى : ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)). وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته، ولا تنفقوا أموالكم أيام العيد فيما حرم الله، يقول علي : (كل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد).
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، إن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر، ومن أعظم ما يتقرب به إلى الله في هذه الأيام الأضاحي، يقول عز وجل: لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ كَذ?لِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَبَشّرِ ?لْمُحْسِنِينَ [الحج:37]، والتي ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وهي سنة أبينا إبراهيم المؤكدة، ويكره تركها لمن قدر عليها، كما أن ذبحها أفضل من التصدق بثمنها، وتجزئ الشاة عن واحد، والبدنة والبقرة عن سبعة.
ثم اعلموا أن للأضحية شروطًا ثلاثة، أولها: أن تبلغ السن المعتبر شرعًا، وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة كاملة في المعز، وستة أشهر في الضأن.
والشرط الثاني: أن تكون سالمة من العيوب التي نهى عنها الشارع، وهي أربعة عيوب: العرجاء التي لا تعانق الصحيحة في الممشى، والمريضة البين مرضها، والعوراء البين عورها، والعجفاء وهي الهزيلة التي لا مخ فيها، وكلما كانت أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
والشرط الثالث: أن تقع الأضحية في الوقت المحدد، وهو الفراغ من صلاة العيد وينتهي بغروب الشمس من اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيام أربعة.
ومن كان منكم يحسن الذبح فليذبحها بنفسه، ومن لا يحسنه فليوكل غيره ممن يحسنه، وليرفق الجميع بالبهيمة، وليرح أحدكم ذبيحته، وليحد شفرته، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء، حتى في ذبح البهيمة، ثم ليسمّ أحدكم عند ذبحها ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، اللهم هذه عن فلان أو فلانة، ويسمي صاحبها. والسنة نحر الإبل قائمة معقولة اليد اليسرى، والبقر والغنم على جنبها الأيسر متوجهة إلى القبلة، ويقول عند الذبح: بسم الله وجوبًا، والله أكبر استحبابًا، اللهم هذا منك ولك، ويستحب أن يأكل ثلثًا ويهدي ثلثًا ويتصدق بثلث، لقوله تعالى: فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ?لْقَـ?نِعَ وَ?لْمُعْتَرَّ [الحج:36]. ولا يعطي الجزار أجرته منها.
فكلوا من الأضاحي واهدوا وتصدقوا، وانبذوا عن أنفسكم الشح والبخل، وإذا عجزت عن الأضحية فاعلم أن رسول الهدى قد ضحى بكبشين أملحين أقرنين، أحدهما عن نفسه وأهل بيته، والآخر عن أمته.
وإنني أدعوكم ونفسي إلى اتباع السنة لا إلى اتباع العاطفة، أدعوكم ونفسي إلى أن نترسم خطى إمامنا وقدوتنا وأسوتنا محمد وأن لا نتجاوز ما فعل، وأن لا نسرف فإن الله لا يحب المسرفين. إن بعض الناس يعتمدون على حديث ضعيف وهو أن الأضحية في كل شعرة منها حسنة، وهذا لا يصح عن النبي. أهم شيء في الأضحية أن نظهر الدم ابتغاء وجه الله وتعظيما لله عز وجل، هذا هو المهم، لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? [الحج:37]، هذا الذي يناله الله أن نتقي الله عز وجل في التقرب إلى الله تعالى بذبحها وذكر اسم الله عليها، وأن نتمتع بالأكل منها نحن وأولادنا وجيراننا وإخواننا وفقراؤنا. واحذروا الإسراف في الأضاحي، فالأضحية الواحدة تكون للرجل عنه وعن أهل بيته كافية، ومن كان عنده فضل مال وأراد أن ينفع أمواته فليتصدق به على من كانوا في بلاد أخرى محتاجين للصدقة أكثر ممن كانوا في بلادنا. تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال وجعلها خالصة لوجهه الكريم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
واعلموا ـ عباد الله ـ أن التكبير المقيد لغير الحاج يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر عصر أيام التشريق، وأما الحاج فيبدأ من ظهر يوم النحر، وأما التكبير المطلق فيكون في عشر ذي الحجة.
اللهم إنّا خرجنا في هذا المكان نرجو رحمتَك وثوابَك، فتقبّل مساعيَنا وزكِّها، وارفع درجاتِنا وأعلها. اللهمّ آتنا من الآمالِ منتهاها، ومن الخيرات أقصاها. اللهم تقبّل ضحايانا وصدقاتنا. اللهمّ تقبّل دعاءنا يا أرحم الراحمين.
اللهم أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد...
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [هود:88]، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
(1/3697)
التقصير في تربية الأولاد
الأسرة والمجتمع
الأبناء, قضايا الأسرة, قضايا المجتمع
خالد بن عبد الله المصلح
عنيزة
جامع العليا
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مسؤولية الآباء تجاه أولادهم. 2- عامة فساد الأبناء من قِبل آبائهم. 3- مظاهر التقصير في تربية الأولاد. 4- ظاهرة الاجتماع في الأحواش والاستراحات على ما يغضب الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
ألا وإن من تقوى الله جل وعلا أداء الأمانة والقيام بها، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، ألا وإن من أجل الأمانات وأعظمها ـ يا عبد الله ـ ولدك الذي هو بضعة منك.
فيا أيها الذين آمنوا، قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، وإنما تكون تلك الوقاية بالقيام عليهم وتربيتهم، وحفظهم في دينهم وأخلاقهم ودنياهم, فإن الله حملكم مسؤولية ذلك، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعًا : ((كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) [1].
فولدك ـ يا عبد الله ـ نتاج جهدك وبذلك، فإن وجدت خيرًا فاحمد الله، وإن وجدت غير ذلك فلا تلومن إلا نفسك، فعلى نفسها جنت براقش.
عباد الله، إن مما يحزن له القلب ويتفتت له الفؤاد أن ترى كثيرًا من الناس قد أهملوا تربية أولادهم، واستهانوا بها وأضاعوها، فلا حفظوا أولادهم ولا ربوهم على البر والتقوى، بل وللأسف الشديد إن كثيرًا من الآباء ـ أصلح الله أحوالهم ـ يكونون سببًا لشقاء أولادهم وفسادهم.
قال ابن القيم رحمه الله: "وكم ممن أشقى ولده وفلذة كبده في الدنيا والآخرة؛ بإهماله وترك تأديبه وإعانته على شهواته، وهو بذلك يزعم أنه يكرمه وقد أهانه، ويرحمه وقد ظلمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوت على ولده حظه في الدنيا والآخرة"، ثم قال رحمه الله: "وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد رأيت عامته من قبل الآباء" انتهى كلامه رحمه الله، فلله دره ما أعجب كلامه وأصدقه.
أيها المسلمون، إن المسلم الحق يهمه ويكرثه مسلك بنيه نحو ربهم وإخوانهم، وليست وظيفته ومهمته أن يزحم المجتمع بأولاد حبلهم على غاربهم.
وهذا هو هدي الأولين من المؤمنين، فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام يقول: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، وهذا نبي الله نوح يدعو ابنه ويلح عليه، فيقول: يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ [هود:42]، وهذا يعقوب يتعهد أولاده في الرمق الأخير كما قص الله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133]، وهذا ركب المؤمنين الصادقين المتبعين، ركب عباد الرحمن يلهجون قائلين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
فاتقوا الله أيها المؤمنون، وسيروا على هدي أولئك المتقين، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
عباد الله، أيها الآباء الأفاضل، إن من المشكلات الكبرى والنوازل العظمى التي أصيبت بها كثير من المجتمعات الإسلامية تقصير الوالدين في رعاية أولادهما وتربيتهم على البر والتقوى، ومعالم هذا التقصير كثيرة عديدة.
فمن مظاهر التقصير في تربية الأولاد الانشغال عن الأولاد بمشاغل الدنيا الفانية التي لا تعدل عند الله جناح بعوضة، فكم هم الآباء الذين هجروا بيوتهم فلم يجلسوا فيها إلا قليلاً لأكل أو شرب أو نوم، أما سائر أوقاتهم فبين بيع وشراء، وبين جلسات ودوائر، ضاعت بسببها الواجبات وضاعت الحقوق، ولو سمع هذا بصفقة أو تجارة لترك الأصدقاء وقلل اللقاء، أَمَا عَلِم هذا أن خير ما يتركه بعده ولد صالح يدعو له؟!
أيها المؤمنون، إن من صور التقصير الشائعة في تربية الأولاد تهوين الوالدين المعصية على الأولاد، وتجرئتهم على مواقعة الخطايا والسيئات، وذلك بموافقة الوالدين لهذه الخطايا ومجاهرتهم بها، فإن من الآباء من يكون قد ابتلي ببعض الذنوب، فتجده لا يتورع عن الوقوع فيها أمام أولاده، فكم هم الآباء الذين ابتلوا بسماع الأغاني مثلاً أو النظر إلى المحرمات أو غير ذلك من السيئات، وهم يفعلونها أمام أولادهم فيأخذها عنهم أولادهم، فكل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوّده أبوه
أيها المؤمنون، إن من أعظم الخيانة للأولاد تيسير سبل المعصية وأسبابها لهم، وذلك بإدخال المجلات الخليعة التي تظهر فيها صور النساء، أو بإدخال أجهزة الإفساد والتدمير، كالدشوش وما شابهها مما تفسد به القلوب وتخرب الأخلاق وتعمى البصائر ويصد بها عن سبيل الله.
فليتق الله هؤلاء، فإنهم ـ والله ـ ممن أشقى أولاده، وفوت عليهم الخير والاستقامة، فويل له، ويل له، ويل له، وضع في كل غرفة شيطانًا يصد عن سبيل الله ويبغيها عوجًا.
فبالله أيها المؤمنون، أي خيانة أعظم من هذه الخيانة؟! أيظن من سعى في إفساد أولاده أنه ناج من قوله : ((ما من عبد يسترعيه الله رعية فيموت وهو غاش لها إلا لم يجد رائحة الجنة)) رواه البخاري ومسلم [2] ؟!
فليتق الله هؤلاء، وليذكروا يومًا يرجعون فيه إلى الله، فيسألهم: ماذا أجبتم المرسلين؟ وماذا فعلتم بقولي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]؟
[1] أخرجه البخاري في الجنائز (1358)، ومسلم في القدر (2658).
[2] أخرجه البخاري في الأحكام (7150)، ومسلم في الإيمان (142) واللفظ له من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: فاتقوا الله أيها المؤمنون، فإن من الخيانة لهذه الأمانة العظمى ـ أمانة تربية الأولاد ـ إضاعتهم وإهمالهم، وترك حبلهم على غاربهم، يخرجون في أي وقت يشاؤون، ويصاحبون من يريدون، ويسهرون الليل وينامون النهار، فهذا كله تضييع للأمانة.
ولقد ظهرت في هذه الآونة الأخيرة بسبب هذا التفريط ظاهرة الجلوس في الأحواش والاستراحات، يستأجرها مجموعة من الشباب فيجلسون فيها ساعات طوالاً، يجتمعون في غالب الأحيان على ألوان من الذنوب والمعاصي الصغار والكبار، بعيدًا عن نظر آبائهم وأولياء أمورهم, ولا يشك عالم بما يجري في هذه الأحواش بأن هذه الاجتماعات مخالفة لأمر الله ورسوله, ولو لم يكن فيها إلا مخالفة هدي النبي حيث كان يكره الحديث بعد صلاة العشاء لما يفضي إليه من ضياع الأوقات وتفويت الواجبات ومخالفة ما فطر الله عليه البريات من نوم الليل والقيام في النهار، قال الله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا [النبأ:10-11]، وقال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا [يونس:67].
هذا كله فيما لو كان السهر على أمر مباح، فكيف يكون الأمر ونحن نعلم أن غالب هذه الاجتماعات يلتقي فيها حدثاء الأسنان وسفهاء العقول والأحلام على سماع الغناء الماجن أو الكلام القبيح، أو يجتمعون على مشاهدة الساقط من المناظر والمرئيات التي لا تقوم لها الجبال، تثير الغرائز، وتبعث الكوامن، وتهيج الشهوات، وتورث القلب البلابل، فيصطلي هؤلاء الأحداث بنار تلك المشاهد ولا يجدون لها مصرفًا إلا عادة قبيحة أو علاقة محرمة، فيتلطّخون بكبائر الذنوب وقبيح الفواحش. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فاتقوا ـ أيها الشباب ـ يومًا ترجعون فيه إلى الله، يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه. واحذروا ـ أيها الشباب ـ هذه الاجتماعات فهي من الشر الذي لا خير فيه.
واتقوا الله أيها الآباء، فصونوا أولادكم عن مثل هذه الاجتماعات، واحفظوهم منها؛ فإنها من أهم أسباب فسادهم.
أيها المؤمنون، إن الله أمركم بالتعاون على البر والتقوى، فقال : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]. فعلى أصحاب هذه الأحواش والاستراحات أن يتقوا الله ربهم، ولا يؤجروها على من يُظن جلوسه فيها على هذه المنكرات، فإن تأجير هذه الأحواش والاستراحات في هذه الحالة محرم، وأخذ الأجرة على ذلك حرام.
فاتقوا الله عباد الله، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة.
(1/3698)
عوائق في طريق الجنة
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار, الفتن
عبد الرحمن بن عبد الجبار هوساوي
الظهران
25/12/1417
جامع جامعة الملك فهد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات. 2- وصف الجنة. 3- بيان الأمثلة على معنى قوله عليه السلام: ((وحفت النار بالشهوات)). 4- وصف النار. 5- التذكير بسرعة انقضاء المكاره والشهوات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، تحدّثنا عن الفروق بين نعيم الدنيا والآخرة، وعرفنا أنه لا وجه للمقارنة بين النعيمين؛ لأن الفرق كما بين الثرى والثريا، وكما بين السماء والأرض، لكن السؤال: كيف السبيل للوصول إلى ذلك النعيم؟ وهل الطريق معبد مفروش، أم أن فيه عوائقَ وعقبات تحتاج إلى تخطّي وتجاوز؟
لقد أجاب رسول الله عن ذلك بجوامع الكلم، فقال كما في الصحيحين من حديث أنس قال: ((حفت الجنةُ بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)).
إن الحياة كلها ابتلاء وامتحان كما قال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وقال: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف:7]، والنجاح في هذا الابتلاء يكون بتحمل المكاره ومقاومة الشهوات.
أيها الإخوة، لقد قدر الله ـ وهو أحكم الحاكمين ـ في الأزل أن يكون طريق الجنة محفوفًا بالمكاره، وطريق النار مفروشًا بالشهوات؛ ليعلم ـ وهوعلام الغيوب ـ من المخلص الصادق ومن الدعيّ الكاذب، من يؤثر مرضاة الله ومحابه، ومن يؤثر أهواء نفسه وشهواته.
ولقد أطلع الله جبرائيل عليه السلام على هذه المكاره والشهوات يوم خلق الجنة والنار، روى الترمذي وأبو داود والنسائي وابنُ حبان والحاكم عن أبي هريرة عن رسول الله قال: ((لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال له: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه، قال: فوعزتك، لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها، فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه فقال: وعزتك، لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فإذا هي يركب بعضها بعضا، فرجع إليه فقال: وعزتك، لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها فقال: وعزتك، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)).
أيها الإخوة، لقد قام جبريل عليه السلام بأربع رحلات، اثنتان إلى الجنة ومثلها إلى النار، وفي كل مرة يقدم تقريرًا إلى ربه وهو أعلم به. بدأ بزيارة الجنة بتكليف من رب العالمين، وكانت مهمته الاطلاعَ على النعيم الذي أُعد لأهل الجنة. فماذا رأى؟ وكيف كان تفاعله؟ لقد رأى ذلك النعيم الذي أخبرنا الله ببعضه في كتابه وسنة رسوله، لقد رأى قصورًا ليست كقصور الدنيا القاصرة المبنية من الوحل والطين، كلا، قصورًا بنيت من ذهب وفضة، قال عنها رسول الله لما سألوه: الجنة ما بناؤها؟ قال: ((لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها ـ ما بين اللبنتين ـ المسك الأذفر ـ أجودُه ـ، وحصباؤها الدر والياقوت، وترابها الزعفران)). ومن أمثلة قصورها ما قال رسول الله : ((إن في الجنة غرفًا يُرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها)).
وفيها خيام عجيبة يعجز العقل عن تصورها، يقول : ((إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلاً، فيها أهلون يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضًا)).
أما نساؤها فالحور العين، وما أدراك ما الحور، والحور هي التي يكون بياضُ عينها شديدًا وسوادُه شديدًا، والعِين جمع عيناء، وهي واسعة العين. وإليك وصفهن في القرآن، قال تعالى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:48، 49]، وقوله تعالى: وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ [الواقعة:22، 23]، والمكنون هو المخفي الذي لم يغير الضوء صفاءه، ولم تعبث به الأيادي، وشبههن فقال: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:58]، ووصفهن بقوله: وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ:33] وهي الناهد، وحسبك بشهادة الله بحسنهن وجمالهن في قوله: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [الرحمن:70]، ويقرب لك رسول الله صورتهن فيقول: ((ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحًا)) ، ومع جمال الصورة والمنظر جمال الصوت والغنج، عن أنس قال رسول الله : ((إن الحور العين لتغنين في الجنة ـ في رواية: بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط ـ ، يقلن: نحن الحور الحسان، خبئنا لأزواج كرام)).
ماذا تريد أن أذكر لك مما رأى جبريل عليه السلام؟ لو رحت أسرد لك أنواع الأنهار والأشجار والعيون والثمار والفواكه والرَيحان والحلي والزينة والملابس والمفارش لطال بنا المقام، وهو بعض ما رآه، وما لم يره أكثر؛ لأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومع ذلك فقد انبهر جبريل عليه السلام بما رأى وتفاعل مع هذا النعيم، فبدأ تقريره بالقسم بعزّة الله قائلاً: ((وعزتك، لا يسمع بها أحدٌ إلا دخلها)) ، ويعني: أحدٌ عاقل راشد، وإلا فما أكثرَ من سمع بها لكنه عزف عنها ولم يعمل لها، بل آثر الدنيا الفانيةَ عليها.
أما رحلته الثانية فكانت إلى الجنة أيضًا، لكن هدفها مختلف، فهو للاطلاع على الطريق المؤدي إلى هذا النعيم، أهو مُعبّد أم وعر؟ يقول في الحديث: ((فأمر الله بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره)).
نعم ـ يا عباد الله ـ حفت بالمكاره وحجبت، بمعنى: أحيطت، فلا يتوصل أحدٌ إليها إلا بتخطي تلك المكاره والحواجز، وهذه الحواجز ليست حسية، لكن من بلاغته حيث جسد لنا المعنويات في ثوب حسيّ؛ فقرب لنا الصورة.
والمكاره هي ما تكرهه النفس، وهي التكاليف الشرعية من فعل وترك والمصائب والابتلاءات، وعبّر عنها بالمكاره لأنها لا تخلو من مشقة، فتوحيد الله وتحقيق مقتضياته وتنزيه الله عمليًا خاصة في هذا الزمان فيه مشقة، أما نظريًا فسهل، وإخلاص العمل بعيدًا عن السمعة والرياء من المكاره فتحتاج إلى المجاهدة، والمحافظة على الصلوات في أوقاتها حيث ينادى بهن وخاصة الفجر من المكاره، ((إن أثقل صلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوًا)) ، والإنفاق في سبيل الله من المكاره، وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100]، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمن الحرية الشخصية الخرقاء من المكاره، ومن أعظم المكاره في هذا الزمن الاستقامة على دين الله، فمصطلحات التشهير والتنفير والطعن والتشويه جاهزة، فالمستقيم أصولي أو إرهابي، متطرف أو متخلف، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
إنها الجنة تبغي ثمنًا، وإنها الحور تبغي مهرًا، لمّا رأى جبريل عليه السلام المكاره دون الجنة قدّم تقريره مشفقًا علينا: ((وعزتك، لقد خفت أن لا يدخلها أحدٌ)) ، والله المستعان.
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة، أما رحلته الثالثة فوِجهتا النار أجارنا الله منها، وهدفها الاطلاع على ما أعد لأهلها، فماذا رأى؟ رأى النار يركب بعضها بعضًا، كما وصفها ربها: تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنْ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك:8]، أي: تكاد جهنم ينفصل بعضها من بعض من شدة غيظها وحنقها على الكفار والمجرمين، رأى نارًا وقودها الناس والحجارة، رأى عليها ملائكة غلاظا شدادا، لا يعصون الله ما أمرهم، لا يتكلمون، وإن تكلموا فزجرًا وتبكيتًا وتهكمًا وتوبيخًا.
أما شدتها فيكفي أن تعلم أنها اشتكت من نفسها لشدتها، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضًا، فجعل لها نفسين: نفسًا في الشتاء ونفسًا في الصيف، فأما نفسها في الشتاء فهو زمهرير، وأما نفسها في الصيف فسموم)). رحماك ربنا، إنّ أجسادنا على النار لا تقوى. وفي الحديث: ((أبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)). لا إله إلا الله، كلُ هذا فيح فقط، نعم، لماذا تستغرب؟ ألم يقل المعصوم: ((أهونُ أهلِ النار عذابًا يوم القيامة رجل يوضع في أخمصِ قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه)) مسلم.
أما طعام أهلها فالضريع والزقوم، لا يسمن ولا يغني من جوع. وأما شرابهم فالغساق والغسلين والقيح والصديد، أما أثر شرابهم فهو: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15].
ماذا كان رد فعله عليه السلام تجاه هذا الجحيم؟ أقسم: ((وعزتك، لا يسمع بها أحد فيدخلها)) ، أي: أحد عاقل، أما غير العاقلين فما زالوا يحجزون فيها الأماكن صباحًا ومساءً.
أما الرحلة الأخيرة فكانت إلى النار بعدما حفت بالشهوات، والمقصود المحرمة حسيّة كانت أو معنوية، كالخمر والزنا واللواط والربا والظلم والرشوة والتبرج والسفور، وكالكذب والخيانة والغيبة والنميمة والمعاصي والدياثة. إن هذه الشهوات محببة إلى النفوس، ولها جاذبية تشدّ إلى نار جهنم شدًا، وإبليس قائم لا يفتر يكثر أعوانه في النار، إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]. لما رأى ذلك جبريل أقسم: ((وعزتك، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها)). نسأل الله السلامة منها.
أيها الإخوة، إن الشهوات التي تؤدي النار كثيرة، كما أن المكاره دون الجنة كثيرة، وكلما تخطى واحدة واجهته أخرى، وصاحب الشهوات المحرمة لا يفتر ولا يشبع كذلك، بل كلما ظفر بشهوة رغب في أخرى، فلا الشهوات تنتهي ولا المكاره تتوقف، حتى يحين الأجل وهو قريب، وكل ما هو آت قريب.
لكن العاقل يوازن ويقارن، فيؤثر ما يبقى على ما يفنى، فلذةُ الشهوة المحرمة مؤقتة سرعان ما تنقضي، ويبقى ألمها حسرة وندامة، ومشقةُ الطاعةِ وألمُها مؤقت كذلك، وسرعان ما يزول ويبقى أجرها ذخرًا عند الله. ومن رحمة الله أنه ما من شهوة محرمة إلا وعوضنا الله في الحلال مثلَها، بل خيرا منها، وأين الحرام من الحلال؟! فله الحمد والمنة.
وتذكّر ـ أخيرًا ـ كيف أن غمسة في الجنة أو النار تنسي هذا الشهوات وذاك المكاره كلَّها، ففي مسلم عن أنس قال: قال : ((يؤتى بأنعمَ أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في جهنم صبغةً، ثم يقال له: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ في الجنة صبغةً، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط)).
(1/3699)