أصناف الناس بعد رمضان
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
علي بن عبد الرحمن الحذيفي
المدينة المنورة
7/10/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الموفق في رمضان. 2- وجوب شكر الله تعالى على نعمه. 3- الحث على الاستمرار في الطاعة. 4- واجب المقصرين في رمضان. 5- صيام الست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالَى وأطيعوه، فتقوَى الله وسيلتُكم إلى جنّته، ووِقاية لكم من نارِ الله وعقوبَتِه.
أيّها المسلمون، إنَّ الناسَ بعد انقضاءِ موسمِ الخيرات والبَركات أحدُ اثنين:
أوَّلهما: من وفَّقه الله في شهر القرآن والبرِّ والإحسان لعبادتِه وأداء فرائضه، وجنَّبه معاصِيه وشرورَ نفسَه فأحسن عمَله، فمن هذا حالُه فعليهِ أن يشكرَ ربَّه ويذكرَ نعمتَه عليه ويفرَحَ بفضل مولاه عليه ويثبتَ على طاعة الله ويبتعِدَ عن المحَرَّماتِ أبدًا، قال الله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وقال تعالى : وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ [النحل:53]، وقال تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة:231]، وأمَر الله بالثّبات على الصّراط المستقيم حتى الموت، قال الله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، وقال عز وجل: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [النور:21]، وقال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83]، فالمؤمن يحسِن العملَ ويحسِن الظنَّ بالله، والمسيءُ يسيء العمَلَ ويتمنّى على الله الأمانِي.
يا مَن زَكَت له الأعمَالُ الصّالحات في الأيّامِ الخالياتِ المبارَكات، ويا مَن صفَت له الساعات النيّرات، ويا مَن استنار قلبُه بالآياتِ في الصّلوات، ويا من زَكا لسانُه وجوارحه بتلاوةِ كتابِ ربّه والعمل بما يقربّه بخالقه وابتعَد عمّا حرّمه ربُّه عليه، لا تبدِّل الطاعةَ بالمعصية، ولا تبدِّل نورَ البصائر والقلوبِ بظلُمات الشهواتِ والشبُهات، ولا تبدِّل صفاءَ الأوقات بكَدَر الدنيا وغَفلةِ القلب، ولا تُتبِع الحسناتِ السيّئات، فما أحسَنَ الحسنة بعدَ الحسنة، وما أقبحَ السيّئة بعد الحسنةِ، فكما أن الحسناتِ يذهِبن السيّئات في قوله تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114] كذلك السيّئاتُ بعد الحسناتِ تنقِص ثوابَ العمَل، وقد تبطِل العمَلَ الصالحَ بالكلية والعياذُ بالله، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28].
عبادَ الله، إنّ إبليسَ كان في شهرِ صومِكم مدحورًا، وإنّ الشياطينَ كانوا مسلسلين لئلاّ يفسِدوا على أمّة محمد عملَهم، وإنهم قد أُطلِقوا من السلاسِلِ فرُدّوهم على أعقابِهم خائِبين وأرجِعوهم عنكم خاسئين بالاستعاذة بالله منهم دائمًا والثباتِ على الإسلام في كلِّ حال والاستعانة بالله على طاعتِه والبُعد عن معصيتِه والصّبر على العبادة وعلى فعلِ الخيرات والصبرِ على القضاء والقدر والصبر عن المعاصي والشّهوات، قال الله تعالى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، فالرّبُّ تبارك وتعالى يُعبَد ويرجَى ويخاف ويخشَى ويتَّقى في كلّ الشهور والأعوام، قيل لبِشر الحافي: إنّ قومًا لا يعبُدون الله إلاّ في رمضان، فإذا ذهَب رمضان ترَكوا، فقال: بِئسَ القومُ لا يَعرِفون اللهَ إلاّ في رمضان.
لا ينقطع المؤمِن عن العمل الصالِح في كلِّ زمان، ولا يتجرَّأ على محارمِ الله أبدًا، يرجو ربَّه ويخاف ذنبَه، ولن يدخل الجنّة أحدٌ بعمله، قال رسول الله : ((لن يدخلَ الجنةَ أحَد منكم بعمله)) ، قالوا: ولا أنتَ يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمَّدنيَ الله برحمته)) رواه البخاري ومسلم [1] ، ولو عِلم الإنسان علمَ اليقين ما في الجنّة مِنَ النعيم المقيمِ والبَهجَة والسرور وقرَّةِ العيون وما تشتهيهِ الأنفس وتلَذّ الأعين لعَلِم أنّ الأعمال الصالحةَ ليست ثمَنًا للجنة ولو ساعةً من نهار، ولكن الربَّ تعالى هو المحسِن المتفضِّل، يدخل المؤمنين الجنّةَ برحمته ويدخلهم دارَ كرامَته خالدين فيها أبدًا، قد جعَل هذه الأعمالَ الصالحة ومتابَعَة الرسول سَببًا لرضوانِ الله ودخول جنّته، ولو علِم الإنسان شدّة عذاب النار لفرَّ من الذنوبِ فِرارَه من الأسودِ الضارية ولكرِه المعاصِي كراهةَ الجِيَف المنتِنة، وقد جعل الله نارَ الدنيا تذكرةً للمعتَبرين، فهل يقدِر أحدٌ على الصّبر عليها ساعةً فضلاً عن الشهورِ والسنين، وفي الحديث عن النبيّ قال: ((نارُكم هذه جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جنهم)) [2] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
وثاني الاثنين: مَن قصَّر فيما مضَى من الأيام وفرّط فيما فات من الأعوام، فمن هذا حالُه فعليه أن يبادِرَ إلى ربّه بالتوبة النصوح، وأن ينقِذَ نفسَه من عذاب شديدٍ ونار لا يموتُ داخلُها فيسترِيح، ولا يحيَا فيُنَعَّم، بل يعذَّب بأنواعِ العذاب والعقاب، قال الله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [الفجر:23-26]. فإلى متى يغترُّ الغافل بالأجَل المَمدود والصحَّة والعافية من سهام المنايَا لكلّ مولود؟! هل يظنّ أنّ الأجلَ غيرُ معدود وأنه مكتوب له في هذه الدّنيا الخلود؟! كلا، فلو تفكَّرَ فيما بينه وبين آدَم عليه الصلاة والسلام مِنَ الأموات لكَفاه ذلك في الاعتِبار، ولزجره عن الإسرَارِ على عِصيان الجبّار، فلا تيأس أيّها الآبِق مِن مولاه، ولا يدخل عليكَ الشيطان بالقنوطِ من رحمة الله، فقد فتَح الله أبوابَ رحمتِه للعباد في كلّ زمان، ووعدهم وعدَ صدق بأن يتفضَّل عليهم بالغُفران إِن هم تابوا وأنابوا فقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى:25]، وقال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه قال: قال رسُول الله : ((إنَّ اللهَ يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل حتى تطلعَ الشمس من مغربها)) رواه مسلم [3].
فيا من فرَّط فيما سلَف من الزمان، هل تحبّ أن تلقى اللهَ آبِقًا بلا توبة وهو مُدرِكك أو تحبّ أن تلقى الله راغِبًا راهبًا مقبِلاً تائبًا والله مُكرِمك؟!
بسم الله الرحمن الرحيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني وإيّاكم بما فيه منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بِهديِ سيّد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولِي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب المرضى (5349)، صحيح مسلم: كتاب صفات المنافقين (2816) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وثبت عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم.
[2] رواه البخاري في بدء الخلق (3265)، ومسلم في كتاب الجنة (2843) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2759).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرّحمن الرحيم، مالك يوم الدين، أحمدُ ربِّي وأشكُره، وأتوبُ إليه وأستغفِره، وأثني عليه الخير كلَّه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له القوي المتين، وأشهَد أنَّ نبيّنا وسيّدَنا محمَّدًا عبده ورسوله، بعثه الله بشيرًا للمؤمنين ونذيرًا للكافرين، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أمّا بعد: فاتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، اشكُروا نِعَم الله عليكم الظاهرةَ والباطنة، احمَدوا الله واشكروه على الإيمان، فلولا الإيمان لكان الإنسان أحطَّ من البهائم؛ لا يعرِف حلالاً ولا حرامًا، ولا يعبُد الربَّ الذي خلق كلَّ شيء، وإنما يعبد هواه، قال الله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55].
واحمَدوا ربُّكم واشكُروه على نعمَةِ المعونة على الصيام والقيام، وألِحّوا في الدعاء أن يتقبّلَ منكم ومن المسلمين، فمَن تقبَّل الله منه فهو من المتّقين، والله تعالى مع المتقين. واشكروا الله واحمَدوه على نِعمة الأمن التي منَّ الله به عليكم، فلولا مِنّةُ الله عليكم بالأمن ما أمِنت السبُل ولا انتظَمَت مصالِح الدّين والدنيا ولا اطمأنَّت الجنوبُ في المضاجع ولما نامت الأعيُن ولما زالَ الخوفُ من القلوب، فاشكروا الله على نِعَمه الظاهرة والباطنة التي أسبَغها عليكم، وقد وعدَكم الله المزيدَ من النعم بالشكر له فقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، ودَوَام الشكر لنِعَم الله الظاهرةِ والباطنة يحفَظ النعم ويزيدها، والشكر هو بالثّبات على الطّاعات وتركِ المحرَّمات والأمر بالمعروفِ والنهي عن المنكر وتحقيقِ التوحيد لربِّ العالمين ومحاربة أنواع الشرك بالله تعالى.
عبادَ الله، إنّ فعلَ الحسنة بعدَ الحسنة زيادَةٌ في ثوابِ الله، وإنّ رسولَكم قد شرَع لكم صيامَ ستٍّ من شوال، فقال : ((مَن صام رمَضان وأتبَعه ستًّا من شوّال فكأنّما صام الدهرَ كلَّه)) رواه مسلم، وذلك أنّ الحسنةَ بعشر أمثالها، فصِيام رمضان يعدِل صيام عشرَة أشهر، وصيام الستِّ يعدِل شهرَين، فلِلّه الفضلُ والمنّة.
عبادَ الله، إنّ الله أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه فقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاةً واحدة صلّى الله عليه بها عشرًا)).
فصلُّوا وسلِّموا على سيّد الأولين والآخرين وإمام المرسَلين.
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارِك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرا...
(1/3490)
توديع رمضان وحال الأمة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
إسماعيل الحاج أمين نواهضة
القدس
7/10/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- وجوب شكر الله تعالى. 3- فضل صيام الست من شوال. 4- الحث على الإحسان بعد شهر القرآن. 5- عاقبة الكافرين وعاقبة المؤمنين. 6- حال المسلمين اليوم. 7- العدوان الأمريكي السافر. 8- الفرح بكثرة الوافدين للمسجد الأقصى. 9- فضل القرآن ووجوب العمل به.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً [الكهف: 107، 108].
قبل أيام انتهى شهر رمضان المبارك، شهر القرآن، شهر الرضا والغفران والعتق من النار، وكان هذا الشهر مجالا للقرب واستباق الفضائل والتنافس في أعمال الخير، ارتفعت فيه نفوس الصالحين إلى أعالي درجات القرب والرضوان، ونالت به وفيه الكثير من نفحات الله عز وجل وكرم العظيم المنان.
أيها المسلمون، ومن حق هذه النعم الكثيرة والعظيمة القيام بشكر المنعم، وذلك بمتابعة الإحسان والقيام بإتباع الحسنة بمثلها، فثواب الحسنة الحسنة بعدها. فهنيئا لكم يا من صمتم شهر رمضان ووقفتم عند حدود الله وامتثلتم أوامره، حيث أمركم بالصيام فصمتم، ثم أمركم بالإفطار فأفطرتم. وهنيئا لكم يا من غلبتم في صومكم جانب التسامح والصفح الجميل والعفو والمغفرة لزلات الجاهلين، امتثالا لأمر الله عز وجل وطمعا في الحصول على درجات وأجر المحسنين، فبلغتم مراقي السالكين وارتفعتم إلى درجات المتقين الذين عناهم الله بقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133، 134].
ومن أفضل الإحسان استحباب إتباع صيام رمضان بصيام الست من شوال، فقد صح عن رسول الله أنه قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)) أي: كصيام السنة، وذلك لأن الله تعالى يجزي على الحسنة بعشر أمثالها، فيكون صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام الست من شوال يعدل صيام شهرين فتلك السنة كاملة.
ثم في معاودة الصوم بعد رمضان ـ إلى جانب شكر المنعم ـ دليل على شعور المسلم بأن وسائل القرب والطاعة للمولى عز وجل لا تتحدد بزمان، بل هي متصلة برمضان وفي غير رمضان، ولهذا صح عن رسول الله أنه قال: ((أحب العمل إلى الله أدومه)) ، وقال الإمام الحسن البصري رضي الله عنه: "إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت"، ثم قرأ قوله تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99].
وسواء كان صوم هذه الأيام متتابعا من أول الشهر أو مفرقا في خلاله، فهو بر وعمل صالح، والجواز على كلا الأمرين وارد عن الأئمة الفقهاء، فداوموا على عمل البر والإحسان وعقد النية على المسلك الراشد الذي التزمتموه في شهر رمضان في الترفع عن الآثام ومجانبة الذنوب، مصداقا لقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [هود: 23].
وقد نقل عن بعض السلف أنه قال: "من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد ذلك لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا أفطر بعد رمضان عصى الله فصيامه مردود".
فاحذروا ـ أيها المسلمون ـ من المعصية بعد الطاعة، ومن البعد بعد الوصال، ومن القطيعة بعد فيض العطاء، ومن الفرقة بعد الوحدة. واعلموا أن ما في أيديكم زائل وفان، مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل: 96]. وتذكروا أنكم ستوقفون بين يدي العزيز الجبار للمحاسبة والمساءلة عن كل شيء، يوم يتجلى الله على عباده ويقول: ((أنا ملك الملوك، أنا رب الأرباب، أين ملوك الدنيا؟)).
فاستجيبوا ـ أيها المؤمنون ـ لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، وأنه إليه تحشرون. واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا؛ يصلح شأنكم وتكونوا قذى في عيون أعدائكم وسهاما في نحورهم. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [الأنفال: 36].
أيها المسلمون، إن الفشل والخذلان وسوء المنقلب هو حليف الكافرين جميعا في كل زمان ومكان مهما أجلبوا على المسلمين وتوعدوا، ومهما أبرقوا وأرعدوا، ومهما تحالفوا وتحزبوا. وإن النصر والفلاح وحسن العاقبة هو حليف أولياء الرحمن وجنوده، أولئك الذين آمنوا بالله ورسوله وتنافسوا في الأعمال الصالحة، وفي طليعتها جهاد أعداء الله والوقوف أمام الطغاة الفاسقين المتجبرين، بذلوا فيه النفس والمال لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى. إنهم أتباع الحق وأنصار دين الله. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ [الحجرات: 15].
إنهم الصادقون في إيمانهم وجهادهم، فكان أحدهم يستعذب الموت في سبيل الله، بل وكان فيهم من استبطأ بضع ثوان يأكل فيها تمرات يسد بها رمقه، فرمى بها، واندفع يضرب الأعداء حتى نال الشهادة.
أيها المؤمنون، إن المسلمين اليوم أصبحوا أمام فتنة عمياء وشدائد مظلمة، أوقد نارها أعداء الإسلام، وما أكثرهم، يريدون بذلك إضعاف المسلمين وغزو بلادهم والانتصار عليهم، ولكن هيهات هيهات. فأنى لباغ أن ينتصر؟! فقد قطع الله الوعد بالنصر والتمكين لأهل الإسلام، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم: 47].
إن الشعوب العربية والإسلامية تواجه اليوم بغيا مكشوفا وعدوانا سافرا وقتلا متعمدا، لا يستند إلى برهان أو حجة يمكن أن يقال: إنها تسوغ وتجيز لهذا العدو بغيه وضلاله ومجاوزه.
فأمريكا وحلفاؤها اليوم يضربون أرض العراق ويقومون بارتكاب المجازر المتعمدة في العديد من مدنه كما هو حاصل في مدينة الفلوجة وغيرها، من هدم البيوت وترويع الآمنين واقتحام بيوت الله لقتل الركع السجود والإجهاز على الجرحى والمصابين بصورة تقشعر منها الجلود ويشيب لها الأطفال.
إن العراقيين يواجهون اليوم غزوا جديدا وذبحا منظما كغزو المغول والتتار لبلده ولبلاد المسلمين، وكمجازر الصليبيين في باحات المسجد الأقصى المبارك.
إن ما يشاهده العالم على الفضائيات من الصور المروعة والمشاهد البشعة التي تلتقط من الفلوجة وغيرها هو أكبر دليل على كشف السياسية الأمريكية وبيان زيف شعاراتهم المرفوعة، لقد سقط القناع وأزيل اللثام عن وجوه هؤلاء المحتلين الغزاة.
إن إخواننا في العراق وأفغانستان والشيشان وفلسطين يواجهون اليوم، ويذبحون كما تذبح النعاج، وتسلب أموالهم، وتنتهك أعراضهم، على مرأى وسمع العالم، ولا أحد يحرك ساكنا. حقا إنه الإرهاب بعينه، والقتل الواضح لمعاني الإنسانية المكرمة على هذه الأرض، فاللهم لا حول ولا قوة إلا بك.
قال تعالى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32].
_________
الخطبة الثانية
_________
وبعد: أيها المسلمون، أيها المرابطون، فإن جموع المصلين التي أمت المسجد الأقصى المبارك في شهر رمضان هذا العام من جميع المدن الفلسطينية وبأعداد كبيرة بالرغم من الحواجز والقيود قد أبهجت النفوس وأثلجت الصدور وبعثت الأمل في القلوب وأثبتت للعالم أن المسجد الأقصى المبارك يعيش في قلب كل مسلم وأن له مكانة عظمى في النفوس؛ لأنه أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وأحد المساجد التي تشد إليها الرحال، كما أنه رمز عقيدة المسلمين وتاج مدينة القدس، بنته الأنبياء وانتسب إليه كثير من العلماء والأولياء وسقط على أرضه كثير من الشهداء. فتحه الإسلام، وحرره الإسلام، وسيعيده الإسلام، وهو عش العلماء، وهو دار الإسلام في نهاية الزمان، وأهله مرابطون إلى يوم القيامة. وعلى أرضه الطاهرة المقدسة تعيش الطائفة الظاهرة المنصورة.
أيها المسلمون، ومن هذا المنطلق فإننا نوجه الدعوة إلى جماهير شعبنا الفلسطيني باستمرارية القيام بزيارته والصلاة فيه على مدار السنة، فثواب الركعة فيه بخمسمائة ركعة، كما أن الحديث عن احتمال تعرضه للاعتداء من قبل المتطرفين الحاقدين أخذ بالازدياد هذه الأيام، ومسلسل العدوان عليه ماثل في الأذهان، وليعلم هؤلاء أن كل مساس به هو مساس بمشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ لأنه شريان القلوب ومهوى الأفئدة ومحط أنظار المسلمين وسر وجودهم عى هذه الأرض المباركة.
فالثبات الثبات في هذه البلاد التي تتعرض للمصادرة والنهب وتغيير للمعالم بشى الوسائل. واعلموا أن الحق أقوى من الواقع، ووعد الله ماض لا محالة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200].
إن المسجد الأقصى المبارك ومدينة القدس وأرض الإسراء والمعراج ليست من الثوابت الفلسطينية فحسب، بل هي من الثوابت العربية الإسلامية.
أيها المسلمون، ومن الأمور الجديرة بالتنويه مسابقات حفظ القرآن الكريم التي أقيمت في شهر رمضان المبارك في بعض الدول العربية والإسلامية، والتي شارك فيها الكثير من أبناء العالم الإسلامي، أقول: إنها خطوة في الطريق الصحيح وسنة حسنة يستحب اتباعها، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26]
ولكن كم أتمنى إلى جانب ذلك أن تكون هناك دعوة صريحة لاتباع منهج القرآن الكريم والسير على نهجه عقيدة وعملا وسلوكا، والعمل بأحكامه وتطبيق تشريعاته والتخلق بأخلاقه، اقتداء برسول الله وأصحابه الغر الميامين، فقد حرصوا رضوان الله عليهم على تلقي القرآن الكريم من رسول الله وحفظه وفهمه، وكان ذلك شرفا لهم، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان الرجل منا إذا قرأ البقرة وآل عمران جد فينا، أي: عظم.
وحرصوا كذلك على العمل والوقوف عند أحكامه، فقد روي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهم أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل معا.
إن القرآن الكريم يعالج المشكلات الإنسانية في شتى مرافق الحياة الروحية والعقلية والبدنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية علاجا حكيما، لأنه تنزيل الحكيم الحميد. ويضع لكل مشكلة بلسمها الشافي في أسس عامة تترسم الإنسانية خطاها وتبني عليها في كل عصر ما يلائمها، فاكتسب بذلك الصلاحية لكل زمان ومكان، فهو دين الخلود، والمسلمون هم وحدهم الذين يحملون المشعل وسط النظم والمبادئ الأخرى، فحري بهم أن ينفقوا أيديهم من كل بهرج زائف، وأن يقودوا الإنسانية الحائرة المعذبة اليوم في ضميرها المضطربة في أنظمتها المتداعية في أخلاقها، أن يقودوها بالقرآن الكريم حتى يأخذوا بيدها إلى شاطئ السلام، وكما كانت لهم الدولة في الماضي بالقرآن فإنها كذلك لن تكون لهم إلا به في الوقت الحاضر.
أيها المسلمون، أما فيما يتعلق بموضوع صحة إفطارنا هذا العام أو عدمه فقد أكد سماحة مفتي القدس الشيخ الدكتور عكرمة صبري صحة الصيام لهذا العام للذين ابتدؤوا صيامهم الجمعة وأفطروا السبت، حيث ثبتت رؤية هلال شهر شوال مساء الجمعة، مما يؤكد صحة الإفطار وفي نفس الوقت عدم دقة حسابات الفلكين التي تقول خلاف ذلك. وعليه فإن يوم السبت هو الأول من شهر شوال لهذا العام، فاطمئنوا على صيامكم وإفطاركم.
(1/3491)
الاستقامة على الطاعة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
7/10/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حياة المؤمن كلّها لله. 2- تفاوت العباد. 3- الحث على الاستقامة ومواصلة العمل الصالح. 4- حقيقة الاستقامة. 5- نوافل الصلاة والصدقة والصيام.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، حياةُ المؤمِنِ كلُّها لله وفي سبيلِ الله، حياةُ المؤمنِ كلُّها سعيٌ فيما يقرِّبه إلى اللهِ، حياةُ المؤمِن كلُّها مَعمورَة بطاعةِ الله بأقوالِه وأعمالِه، حياةُ المؤمنِ كلّها حياةُ خيرٍ وهدى، لا انفصالَ بينها وبين العمَل، بل العمَل دؤوب ومستمرّ ومتواصِل ما دامتِ الروحُ في الجسَد.
إنّ المؤمنَ حقًّا أيقَن بأنّ اللهَ خلَقَه لعبادتِه واستَعمَره في الأرضِ ليقومَ بما أوجَبَ الله عليه، لذا فَهو يغتَنِم حياتَه فيما يقرِّبه إلى الله، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163].
حقًّا أخِي المسلِم، فحياةُ المؤمنِ للهِ وفي سبيلِ الله، حياةٌ لا تنفصِل عنِ الخيرِ أبَدًا، ما بَينَ أقوالٍ يقولها، ذِكرٌ لله وتسبيح وتكبير وتحميدٌ وثناء على الله بما هو أهلُه، ويتذكّر قولَ الله في ملائكَتِه: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء:20]، إذًا فاللِّسان مَعمور بذِكر الله والثناءِ عليه، استغفارًا وتوبَةً وتعظيمًا لله، وأعمال ببقية الجوارح من صلاة، من صدقةٍ، من صوم، من حجٍّ، من برّ وصِلَة، من أمرٍ بخير ونهي عن شرّ، من دعوةٍ إلى الخير وتحذير من الشرّ، من نصيحَة وتوجيهٍ، من أخلاقٍ كريمة وسِيرة عظيمة.
أيّها المسلم، إنّ المؤمنَ حقًّا يعلَم أنّ حياته حياةُ العمَل واكتسابِ الفَضَائل، وأنّ هذا العمَل سينقضِي إذا فارقت الروح الجسد، ينقضي العمل ويبقى الإنسانُ يجني كلَّ ما مضى، إما خيرًا وإما شرًّا، نعوذ بالله من سوء الحال. أعمالُنا في حَياتنا، وبعدَ موتِنا تُطوَى صحائف أعمالِنا، ويبقَى العبد مرتهنًا في لحدّه بما قدّم مِن خيرٍ أو ضدِّه، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].
أيّها المسلم، في هذِه الدّنيا يتفاوَت العِباد، فمِن ساعٍ في زَكاةِ نفسِه وتخليصِها من عذابِ الله وإسعَادِها في دارِ القَرار، ومِن سَاعٍ في إِباقِها وإِذلالها وإلقائِها في عذابِ الله، في الحديثِ: ((كلّ الناسِ يغدو؛ فبائعٌ نَفسَه فمُعتِقُها أو موبِقها)) [1].
أيّها المسلم، إنَّ ربَّنا جلّ وعلا قال لنبيّنَا : وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، فمُحَمّد أَكملُ الخلقِ خَشيةً لله، وأكمَل الخَلق معرفةً بِالله، وأكمَلُ الخلقِ خَوفًا من الله، وأَكمَل الخلقِ رجاءً لله، ولذا قال الله له: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ، استَمِرَّ على العِبادَة واستقِم على الطاعة ولا تَدَعها إلى أن يوافِيَك الأجَل المحتوم، فليَكن المسلمُ كذلك، يعمُر حياتَه بطاعَةِ الله؛ لتَكونَ حياته لله وفي سبيل الله.
أيّها المسلم، إنَّ الله يقول لنبيّنا في آياتٍ من كتابِه: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [هود:112]، وقال له في آية أخرى: وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ [الشورى:15]، وأثنى على المستقيمين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الأحقاف:13]، وقال فيهم أيضًا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30، 32].
أيّها المسلم، فما معنى الاستقامة في هذه الآياتِ؟ إنّ الاستقامةَ الحقّة لزومُ المؤمِن للطّريق المستقيم، استمرارُه على الطريق الواضِح. إنّ المؤمن عرف الحقَّ، واستبان له الرشدُ والهدى، وميَّز بين الحقّ والباطل والهدى والضّلال، عرف الطريقَ المستقيم الموصِل إلى الله وإلى جنّتِه ومغفرته ورضوانِه، فلمّا عرَف الحقَّ واستبان له الهدَى ووضَح له السبيل استقَام على هذا ولازَمه ملازمةً دائمة؛ لأنّ هذا دليلٌ على رسوخِ الإيمان في قلبه، فالمستقيمُ على الطريق المستقيم يدلّ على أنّ في القلب إيمانًا حقًّا، أمّا المتذَبذِب يستقيم يومًا وينحرف يومًا، ويصلح يومًا ويفسدُ يومًا، إنّ هذا دليلٌ على أنّ الإيمانَ غير مستقرٍّ وثابت في القلب، أما الإيمان الثابت الإيمانُ القويّ الإيمان الذي استنار به القلبُ فصاحبُه يستقيم على العمَل ولا يهمِل ولا يُضيِّع، كلّما تقدَّم به العمُر ازداد في العمَل ورغِب في الخير.
أيّها المسلم، والله يقول لنا محذِّرًا من الانحراف: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا [النحل:92]. امرأةٌ بمكّة تبرم غزلَها أوَّلَ النهار وتنقضُه آخرَ النهار، إذًا الذي يستقيمُ يومًا أو شَهرًا ثم ينحرِف عن الحقّ قد هدَم صالحَ عمله، وقضى على صالح عمَله، وأحرقَ أوراقَه، فأصبح شبيهًا بتلكمُ المرأة.
أخي المسلم، لا أشكُّ ولا تشكّ أيضًا أنّ هناك مواسمَ خيرٍ يتضاعَف فيها الجهدُ ويعظم فيها الأجر، وهذا لا إشكالَ فيه، لكن هذا الجهدُ والثوابُ في ذلك الموسِم هل معناه أنّه إذا مضَى الموسِمُ انقضَى الخير وطُوِيت صحائِفُ الخير وعادَ الإنسان إلى سَفَهه، وعاد إلى غيِّه، ونسِي ما قدَّم من عملٍ صالح؟! هذا تصوُّر خاطِئ لا يليق بالمسلم. المسلمُ في مواسِم الخير يضاعِف الجهدَ ويزيد في الخير وتَقوَى رغبتُه في الخير، لكن هذا الجهدُ لا ينقطِع منه، تبقَى آثارُه عليه؛ لأنّ هذا ترويض للنّفس في المستقبل، ولذا يقول : ((الصلواتُ الخمس والجمعةُ إلى الجمعة ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لما بينهنّ ما اجتُنِبت الكبائر)) [2].
أيّها المسلم، فما بَين رمضانَ هذا ورمضانَ الآتي ـ إن شاء الله ـ صغائرُ أعمالِك يكفِّرها ما بين الرمَضانين، كلُّ هذا فضلٌ منَ الله عليك، فإيّاك ـ يا أخي ـ وأن تنتكسَ على عقبك، إيّاك أن تهجرَ الطاعة، إياك أن تزهدَ في الأعمال الصالحة، إيّاك عَنِ التقاعُس عن الخير. واصِلِ الجدَّ بالجدّ، واستقِم على الهدَى، وما فعلتَ من خيرٍ فإيّاك ونسيانَه.
كنت ـ يا أخي ـ في رمضانَ تؤمُّ المسجدَ في الأوقاتِ الخمسة وترغَب في صلاةِ الجماعة: فجرًا ظهرًا عصرًا مغربًا عِشاءً، فهل هذا العمَل الصالح بقيتَ عليه أم أردتَ أن تهجرَ المسجدَ وتهمِل الصلاةَ وتضيِّعها وتهمِل الجماعةَ بعدما ذُقتَ لذّة الطاعة؟! تلوتَ كتابَ الله، وتصفَّحته، ووقفتَ على الآيات وما فيها من وعدٍ ووعيد وترغيبٍ وترهيب وقصَص وغير ذلك، فهل زهِدتَ في القرآن وأعرضتَ عنه؟! كنتَ تحافِظ على النوافلِ في رمضان، فإياك وهجرانها، تخلَّقتَ بالحِلم والصفحِ والإعراض عن الجاهلين، وتحمَّلت مساوئَ أخلاق الآخرين فليَكُن ذلك خلُقًا لك على الدّوام.
أخي المسلم، جادَت يدُك بالخير وسحّت يدُك بالخير والعطاء، فهل تكون بعدَ رمضان قابضًا لها عن الخير؟! لا، كن على ما أنتَ عليه من خيرٍ وإن قلّ، فأحبُّ الأعمال إلى الله ما داوَم العبدُ عليه وإن قلَّ.
لتكُن آثارُ رمضان مصاحبةً لنا، ولتكن دروس رمضان تذكِرةً لنا ويَقظةً لنا من غفلتنا وسِنَتنا، ولنتذكَّر رمضانَ في بقيّة شهورنا إلى أن يأتيَ رمضانُ ـ إن شاء الله ـ ونحن نزدَادُ خيرًا إلى خير وعملاً صالحًا لعمَل صالح.
أسأل الله أن يتقبَّل منّا أعمالنا، وأن يوفِّقنا في مستقبَل أمرنا لكلّ عملٍ يحبّه ويرضاه، وأن يجعلنا ممن ذاقَ حلاوةَ الإيمان واستقرَّ الخيرُ في نفسه واستمرَّ على صالح العمَل، إنّه على كلّ شيءٍ قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الطهارة (223) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الطهارة (233) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إذا كانَ صِيام رمضانَ مُكفِّرًا لما مضَى من الذّنوب وقيامُ رمضان مكفِّرًا لما مضى من الذّنوب وهذا من فضلِ الله ورحمته فاعلم ـ أيها المسلم ـ أنّ نبيَّك شرعَ لك أنواعًا من الطّاعات مِن نوافلِ الطاعات تستمرّ عليها لتكونَ تلك النّوافلُ جابرةً لنقصِ فرائضك مكمِّلةً لنقصِها، تعود عليك بالخير في عَاجِل أمرِك.
يا أخي المسلم، انظر إلى نوافلِ الصلاة، فنبيُّنا كان يحافِظ على الرّواتب التي قَبل الصلاةِ وبَعدها، هذا عبدُ الله بن عمَرَ بنِ الخطاب رضي الله عنهما يقول لنا: حفِظت عن رسولِ الله رَكعتين قبلَ الظهر وركعَتين بعد الظهر ورَكعتين بعدَ المغرب وركعتين بعد العشاء، قال: وأمّا الفجرُ فأخبرتني حفصة أنّ النبي كان إذا ختَم المؤذِّن أذانَه صلّى ركعتين قبلَ أن يخرجَ إلى المسجد، وكانت ساعةً لا أدخلُ على النبي فيها [1].
فانظر إلى هذه الرواتب: ركعتين قبلَ الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرِب وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر، يسمّيها العلماءُ الرواتبَ القبليّة والبعدية، ويوم القيامَةِ إذا حوسِبنا عن أعمالنا ووجِد في فريضتنا نقص كمَّلَها الله ـ فضلاً منه ـ مِن نوافلِ العباد.
وجاء في حديثِ أمّ حبيبة: ((من حافظ على ثِنتي عشرة ركعة في يومه وليتِه حرَّمَه الله على النّار: أربعًا قبل الظّهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل الفجر)) [2] ، وجاء في اللفظ الآخر: ((من حافَظ على أربعٍ قبل الظهر وأربعٍ بعدها بنى الله له بيتًا في الجنة)) [3]. وكان نبيّكم يحافظ على الوتر حضرًا وسفرًا، ما كان يدَع الوترَ ولا ركعتَي الفجر لا حضرًا ولا سفراً، ويقول في ركعتي الفجر: ((هي خيرٌ من الدنيا وما عليها)) [4] ، ويحافظ على الوترِ دائمًا وأبدًا حضرًا وسفرًا. وكان نبيّكم إذا دخَل بيتَه بعد العشاء لم ينَم حتى يصليَ إمّا أربعَ ركعات أو ستَّ ركعات [5] ؛ ليكونَ نومه عقِبَ طاعةٍ وعبادة.
أيّها المسلم، وكان نبيّكم يحثّ على الإحسانِ العامّ والصدقةِ العامّة، ويرغّب فيها ويقول: ((من تصدَّقَ صدقةً مِن كسبٍ طيّب بعدلِ تمرة فإنّ الله يتقبَّلها بيمينه، ويربّيها لصاحِبِها كما يربِّي أحدُكم فلُوَّه حتى تكونَ مثلَ الجبل العظيم)) [6].
وشرَع لكم نبيُّكم نوافلَ الصيام، فيقول أبو هريرةَ رضي الله عنه: أوصاني خليلي بثلاث: أن أوترَ قبل أن أنام، وأن أصليَ ركعتَي الضحَى، وأن أصومَ من كلّ شهر ثلاثةَ أيام [7] ، وقال في صيامِ يومِ الاثنين: ((ذاك يومٌ ولِدتُ فيه، وذاك يومٌ أوحِيَ إليّ فيه)) [8] ، واستحبَّ لنا صيامَ الاثنين مع الخميس، وأخبرَ أنّ أعمالَنا تعرَض على ربِّنا في هذين اليومين، فكان يحبّ أن يُعرَض عملُه وهو صائم [9]. واستُحِبَّ لنا صيام تِسع ذي الحجة، وأُكِّد يومُ عرفة ويوم عاشوراء، كلّ هذا ممّا يدل على أنّ نوافلَ الطاعات لا ينقطِع منها المسلم أبدًا، فأعمال الخير والقُرُبات المسلمُ يسعى فيها جاهدًا، ويعمُر حياتَه بها، وسيجد ذلك مدَّخرًا له أوفرَ ما يكون، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران:30]، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7].
أعمالٌ صالحة يسيرة لمن يسَّرَها الله عليه، وسيَجِد لذَّتها وراحتَها عند قُرب انتقالِه ومفارقةِ الروح للجَسَد، عندما يمثَّل له مقعَدُه منَ الجنة، فيشتاق ويحِبّ لقاءَ الله ويحبّ الله لقاءه، وعندما يوضَع في لحدِه فيُبشَّر بالبشرَى الخيِّرة ويستأنس بصالحِ عمله، وعندما يقوم يومَ القيامة للعَرض بين يدَيِ الله، قال بعض الصحابة: (تصدَّقوا بصدقةِ السّرّ ليومٍ عسير، صلُّوا في ظلمَة الله لظلمَةِ القبور، صوموا يَومًا شديدًا حرُّه ليومِ النّشور).
هذه الأعمالُ الصالحة يعمُر بها المسلِم حياتَه؛ لتكونَ حياةَ خير وحياةَ بركةٍ وحياةً طيبة، إنها الحياةُ الطيّبة التي يقول فيها الله: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
أسأل الله أن يعينني وإيّاكم على شكرِه وعلى ذكرِه وعلى حسنِ عبادته، وأن يجعلَنا ممن عمَر أوقاته بالخَير وتقرَّب إلى الله بما يُرضيه، إنّه ولي ذلك والقادِر عليه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسولِه سيّدِ ولد آدم محمّد امتثالاً لأمرِ ربّكم القائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين والأئمّة المهديّين...
[1] أخرجه البخاري في الجمعة، باب: الركعتين قبل الظهر (1181).
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل السنن الراتبة (728).
[3] أخرجه أحمد (6/325، 326، 426)، وأبو داود في الصلاة، باب: الأربع قبل الظهر وبعدها (1269)، والترمذي في الصلاة، باب منه آخر (427، 428)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار، باب: الاختلاف على إسماعيل بن خالد (1812، 1813، 1814، 1815، 1816، 1817)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب: ما جاء فيمن صلى قبل الظهر أربعا وبعدها (1160)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب", وصححه ابن خزيمة (1190، 1191، 1192)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1130).
[4] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب ركعتي الفجر (725) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[5] أخرجه أحمد (6/58)، وأبو داود في الصلاة، باب: الصلاة بعد العشاء (1303)، والبيهقي في الكبرى (2/477) عن عائشة رضي الله عنها بمعناه، وفي إسناده مقاتل بن بشير، قال عنه الحافظ في التقريب: "مقبول"، والحديث في ضعيف سنن أبي داود (285).
[6] أخرجه البخاري في الزكاة، باب: الصدقة من كسب طيب (1410)، ومسلم في الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1014) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[7] أخرجه البخاري في الصوم، باب: صيام أيام البيض (1981)، ومسلم في صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى (721).
[8] أخرجه مسلم في الصيام (1162) في حديث طويل عن أبي قتادة رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (2/329)، والترمذي في الصوم (747)، وابن ماجه في الصيام (1740) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وقال البوصيري في الزوائد: "إسناده صحيح رجاله ثقات، روى الترمذي بعضه"، وصححه الألباني في الإرواء (949).
(1/3492)
العيد يوم الجائزة
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
محمد محمود كالو
المنطقة الصناعية
1/10/1424
أبو بكر الصديق
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- الفرح بالعيد. 3- جائزة الصائمين. 4- آداب العيد. 5- العيد الحقيقي. 6- الحكمة من زكاة الفطر. 7- صيام ست من شوال. 8- التحذير من هجران الطاعة بعد رمضان. 9- مشروعية التهنئة بالعيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا خير أمة أخرجت للناس، بالأمس كنا نستعد لاستقبال شهر رمضان المبارك، ونعدّ العدة فرحين بنعمة الله، وها نحن اليوم نلوّح بأيدينا مودّعين رمضان، وكلنا حزن على فراقه؛ لأنه شهر الخير، شهر البركة، شهر الصبر، شهر المواساة، شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار.
من منا لا تؤلم نفسَه لحظاتُ الفراق؟! ومن منا لا تجرح مشاعرَه ساعات الغياب؟! بدموع الفرح استقبلنا رمضان، وكأنني بك تطلق العبرات لسماع أول موعظة في رمضان، وها أنت بدموع الأثر والتأثّر تودّعه، بالأمس كان الإفطار حرامًا، فأصبح اليوم الصيام حرامًا، وليس بين اليومين حاجز زماني، الذي حرّم إفطار ذاك هو الذي حرّم صيام هذا، إنها أيام أكل وشرب وذكر لله تبارك وتعالى.
قَدِمَ رسولُ الله المَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلعَبُونَ فيهِمَا فقال: ((مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟)) قالُوا: كُنّا نَلْعَبُ فِيهِمَا في الْجَاهِليّةِ، فقال رسولُ الله : ((إنّ الله قَدْ أبْدَلَكُم بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْر)) رواه أبو داود. وفيه نهاية من اللطف وأمر بالعبادة؛ لأن السرور الحقيقي فيها، قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58]، حيث كل عيد منهما بعد أداء فريضة وقربة إلى الله سبحانه وتعالى، فعيد الفطر السعيد بعد أداء فريضة الصيام، وعيد الأضحى بعد أداء فريضة الحج، فالعيد بمثابة استراحة من سفر أو ري بعد ظمأ، فيزداد العبد بالعيد قربًا من الله تبارك وتعالى.
أمة الحبيب الأعظم، بعد أن صام المسلمون وتخرجوا من رمضان بأرواح لطيفة وشفافة طهروا أنفسهم وأرواحهم، وها هم يقبلون على يوم العيد هذا مهنّئين متودّدين، يمسحون رأس اليتيم، ويمدون يد العون والمساعدة للفقراء والمساكين بالبر والعطاء.
ماذا جنى الصائمون بعد صيامهم؟ وبم أثابهم الله عز وجل؟ إن الصائمين حينما يخرجون من صلاة العيد سوف يقبضون جوائزهم، فقد نجحوا في هذا الامتحان وتخرجوا من مدرسة رمضان قال رسول الله : ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطريق فنادوا: اغدوا ـ يا معشر المسلمين ـ إلى رب كريم، يمن بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، وأطعتم ربكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلّوا نادى مناد: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة)) رواه الطبراني في الكبير.
ولكي تستلم جائزتك ماذا عليك أن تعمل؟ يندب لك أن تلبس أحسن الثياب وتتطيب بأجود الأطياب في يوم العيد لما أخرجه الحاكم من حديث الحسن السبط قال: أمرنا رسول الله في العيدين أن نلبس أجود ما نجد، وأن نتطيب بأجود ما نجد. وكان النبي يلبس بُرْدًا حَبرَة في كل عيد. رواه البيهقي. والحَبرَة: الموشى والمخطط. فلنلبس أجمل وأحسن الأخلاق وأكمل الشمائل، ولنتطيب بأطيب الخصال.
ويسن للمسلم أن يذهب من طريق ويرجع من آخر لتشهد عليه الملائكة، لحديث جابر رضي الله عنه قال: كان النبي إذا كان يوم عيد خالف الطريق. رواه البخاري.
والعيد الحقيقي هو يوم لا نعصي الله تعالى، ولقد قيل لأحد الصالحين: متى عيدكم؟ فقال: يوم لا نعصي الله سبحانه وتعالى، وقال آخر: ليس العيد لمن لبس الجديد وأكل المزيد، بل العيد لمن أمن الوعيد وكانت طاعاته تزيد. وليس العيد لمن لبس الملابس الفاخرة، إنما العيد لمن أمن عذاب الآخرة.
العيد أقبل يا أخيَّ فلا تكن فرحا به فما هو عيد
ما العيد إلا أن نعود لديننا حتى يعود نعيمنا المفقود
ما العيد إلا أن نكوِّن أمة فيها محمد لا سواه عميد
ما العيد إلا أن يُرى قرآننا بين الأنام لواؤه معقود
أمة الحبيب الأعظم، ولئن عاق سير الصائم أخطاء وزلات وذنوب وشهوات، فقد عالج الشرع الحنيف هذه النواقص وهذه الآثار المرَضية العالقة بالروح لا بالجسد، عن ابنِ عَبّاسٍ رضي الله عنهما قال: فَرَضَ رَسُولُ الله زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصّيَامِ مِنَ اللّغْوِ وَالرّفَثِ وَطُعْمَةً للْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدّاهَا قَبْلَ الصّلاَةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدّاهَا بَعْدَ الصّلاَةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصّدَقَاتِ. رواه أبو داود.
فزكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة، تجبر نقصان الصوم كما يجبر سجود السهو النقصان والخلل في الصلاة، وزكاة الفطر سبب لقبول الصيام، قال رسول الله : ((صوم رمضان معلق بين السماء والأرض، ولا يرفع إلا بزكاة الفطر)) رواه أبو حفص ابن شاهين.
أمة الحبيب الأعظم، جاء رمضان ومضى، وكأنه برق خاطف، حاملاً حصيلة أعمالنا من صوم وصلاة وصدقة وبر وإحسان وقراءة للقرآن، فطوبى لعبد اغتنم الأداء وأحسن الانتهاء، فحصل على النجاة عند اللقاء، وحل العيد بنا ضيفًا عزيزًا على قلوبنا، فهل لنا من وقفة وفاء لرمضان؟! إن الوفاء من شيمة الإسلام، ومن لا وفاء له لا خلاق له، عن أبي أيوب رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ أن رَسُول اللَّهِ قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)) رَوَاهُ مُسلِم.
والأفضل أن تصام الستة متوالية عقب يوم الفطر، فإن فرقها أو أخرها عن أوائل شوال إلى أواخره حصلت فضيلة المتابعة؛ لأنه يصدق أنه أتبعه ستًا من شوال، قال العلماء: وإنما كان ذلك كصيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها، فرمضان بعشرة أشهر والستة بشهرين.
أمة الحبيب الأعظم، إن كثيرًا من الناس يهتم في رمضان بمختلف صنوف الطاعات والقربات، فإذا ودع الشهر هجر هذه الطاعات، وكأنه لا يعرف الله إلا في رمضان، وكأن رب رمضان ليس ربًا لسائر أشهر العام. فهناك من يقبل على كتاب الله في رمضان ويختمه مرارًا وقد هجره طوال العام، وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]. وهناك من كان أخًا للمسجد فإذا انتهى رمضان فإنه لا يعرف إلى المسجد سبيلاً، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كتب إلى سلمان رضي الله عنه: يا أخي، ليكن المسجد بيتك فإني سمعت رسول الله يقول: ((المسجد بيت كل تقي، وقد ضمن الله لمن كانت المساجد بيوتهم بالروح والراحة والجواز على الصراط إلى رضوان الرب)) رواه البيهقي.
ليقف كل واحد منا مع نفسه ويسأل: كيف استقبل ضيفه العزيز رمضان؟ هل أطعمت جارًا؟ هل زرت أخا في الله؟ هل نصرت مظلومًا؟ هل آويت يتيمًا؟ هل بررت والديك؟ هل قمت بصلة الأرحام؟ هل عدت مريضًا؟ هل فطرت صائمًا؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها ونحن نودع هذا الشهر الكريم، ليتبين الفائز من العاثر والرابح من الخاسر.
أتمنى من الله تعالى أن نكون قد تخرجنا من مدرسة رمضان وقد غسلنا قلوبنا من كل غل وحقد وحسد وبغضاء وشحناء، وطهرنا ألسنتنا من الكذب والغيبة والنميمة وشهادة الزور.
ويسن للمسلم ـ أيها الإخوة ـ أن يُظهِر الفرح والبشاشة لمن لقيه في يوم العيد لما روي عن حبيب بن عمر الأنصاري قال: حدثني أبي قال: لقيت واثلة يوم عيد فقلت: تقبّل اللّه منا ومنك، فقال: تقبل اللّه منا ومنك. رواه البيهقي.
فأسأل الله العلي الكبير أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وكل عام وأمتنا الإسلامية بألف خير.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3493)
أسباب انشراح الصدر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
19/1/1422
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا طبعها الكدر والعنت. 2- انشراح الصدر من نعم الله وأفضاله. 3- أمور تشرح الصدر وتزيل الكرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ الله خلق الإنسانَ، وجعله في هذه الدنيا محلَّ ابتلاء واختبار، يكدح فيها كدحًا حتى يُلاقِيَ ربَّه، ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـ?قِيهِ [الانشقاق:6]، يُسَر بها حينًا، ويُساءُ بها أحيانًا.
تنفرج أمامه أبوابُ السَّعادة حتى لا تستطيع أرضٌ أن تقله ولا سماءٌ أن تظلَّه، فهو فرِحٌ مسرورٌ في غبطة وحبور، حتى إذا ما تقلبت عليه أمور وتنادت حوله حوادث الدهور ضاقت عليه الأرض بما رحبت وانغلقت عليه أبوابٌ قد انفرجت ابتلاءً من الله وتمحيصًا.
درسٌ عَمَلِيٌّ مِن الله تعالى يُعَلِّم به عباده أنَّ الدنيا هكذا خلقت، فرَحٌ وسرور، وأحزانٌ وشرورٌ: لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى كَبَدٍ [البلد:4]. فكيف يطمئنُّ العاقل إلى هذه الدنيا؟! أو كيف يستغني بها عن الأخرى؟!
جُبِلت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأقذاءِ والأكدار
ومكلف الأيام ضدَّ طباعها متطلب في الماء جذوة نار
ليس الزمان وإن حرَصت مسالمًا خلُق الزمانِ عداوة الأحرار
ولكن من رحمة الله بعباده ولطفه بأوليائه أنه لم يَكِلْهُم إلى أنفسهم، ولم يجعلهم في هذه الحياة بلا هادٍ يعينهم، فجعل لانشراح الصدر رغم المنغصات أسبابًا، ولانبساط النفس وطيب الحياة أبوابًا، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ [الزمر:22]، فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ [الأنعام:125].
ولما كان نبينا محمد أعرفَ الخلقِ بربه وأعلَمهم بمراده من خلقه كان أشرحَ الخلق صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنْعَمَهُم قَلْبًا، امتنَّ الله عليه بِشْرحِ الصدر فقال تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] أي: نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى الله، والاتصاف بمكارم الأخلاقِ، والإقبالِ على الآخرة، وتسهيل الخيراتِ. فمن كان للنبي أتبع كان له من سعة الصدر المقامُ الأرفع.
ألا وإنَّ من أعظم أسبابِ شرح الصدر وبه تطرد الأحزان والهموم وتزال بسببه الوحشة والغموم توحيد الله تعالى، فتعمُرُ ـ يا عبد الله ـ قلبك ثقة بالله، فلا مانع لما أعطاه، ولا معطي لما منعه، ولا رادَ لما قضاه، ولا معقب لحكمه. وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107].
حينئذ تطيبُ نفسُ العَبْدِ بما قُدِّر له، وتَنْقَشِعُ عن عَيْنَيه غشاوة الهمِّ والحزْنِ، وينشرحُ صدرُ المسلم بمثل هذه الاعتقادات، توحيدٌ وتسليم، وإذعانٌ وتعظيم.
فتوحيد الله ومعرفته وتفويض الأمر إليه هو جنَّة الدُّنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيمٌ، وهو قُرَّةُ عين المحبينَ ولذَّةُ حياةِ المؤمنين. ومن فاته شيء من توحيد الله أو خَلَطَه بشيء مما يغضب الله ضاق صدره واستوحش في قلبه، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا [الأنعام:125].
ومن أسبابِ انشراح الصدر ترك المعاصي والهروب إلى الله ومحاسبة النفس، وإنَّ الهمومَ والأحْزَان عقوباتٌ عاجلة ونارٌ دنيوية حاضرة، فكيف يطلب انشراح الصدر من ضيَّع صلاته ومنع زكاته؟! وكيف يَطْلب انشراح الصدر من ظلم مسلمًا في مالٍ أو عرضٍ؟! وكيف يطلبُ انشراحَ الصَّدْرِ مَن أكل الربا وغشَّ المسلمين في بيعٍ أو شراء؟! كيف يطلب انشراح الصدر مَن عقَّ والديه وقطع أقربَ الناسِ إليه؟! بل كيف يطلب انشراح الصدر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن منكرٍ تعيَّن إنكاره عليه؟! ألا ما أبعد طيبَ العيش عن هؤلاء وأمثالِهم، وما أضيق صدور هؤلاء، وتعسًا لحالهم.
فجاهد نفسك ـ يا عبد الله ـ في طاعة الله، وألزمها تقوى الله، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? [الليل:5-7].
ومِن أسباب انشراح الصدر التزود من الطاعات والإقبالُ على ربِّ الأرض والسمواتِ، فالطاعة فرضُها ونفلها زادُك في الآخرة ولذتك في الدنيا، والإكثار منها سببٌ في محبَّة الله. قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إلى بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يَسْمَعُ به، وبصره الذي يُبْصِرُ به، ويدَه التي يَبْطِش بها، ولئن سَألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه)).
ومن أعظم الطَّاعَاتِ ذكر الله، ومن أعظم الذكر قراءة القرآن تدبرًا وتأمَّلاً، فقراءة القرآن تورثُ العبدَ طمأنينةً في القلب وانشراحًا في الصدر، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].
ومن ذكر الله الأورادُ الصباحية والمسائية وأذكار النوم والمناسبات، فهي حصن حصين وقوة وانبساطٌ من رب العالمين. وكان النبي يقول عند الكربِ: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)).
ومن أسباب انشراح الصدر نفعُ المؤمنين وإعانة المحتاجين بالمال والبدن، فهو باذل نفسه وماله ووقته لقضاء حوائجهم وتنفيس كرباتهم، وقد قال النبي : ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)).
فهو إن كان عاملاً لأحد أخلص في عمله، أو كان بائعًا نصح في بيعه، وإن كان معلمًا صار معلمًا مربيًا يحب لأبناء الناس كما يحب لأبنائه، وإن كان موظفًا حرص على إنجاز مهمات مراجعيه وتيسير أمورهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. فمن كانت هذه طريقته فهو من أشرح الناس صدرًا، ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
ويخص من نفع الناس هنا بذل المعروف بالصدقة على محتاجهم، قال ابن القيم رحمه الله: "إنَّ للصدقة وفعل المعروف تأثيرًا عجيبًا في شرح الصدر".
ومن أسباب انشراح الصدر الدعاء والإلحاح على الله بأن يشرح صدرك وييسر لك أمرك، فيا من ضاق صدره وتكدر أمره، ارفع يديك إلى ربك، وبث شكواك إلى خالقك، واذرف دموع عينك، علَّ الله أن يجيب دعوتك ويزيل كربك، وهاك دعاء من أنفس ما عنيت به، ومن أعظم ما دعوت به، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي : ((ما أصاب عبدًا همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب غمي، إلا أذهب الله حزنه، وهمه، وأبدله مكانه فرحًا)) رواه الإمام أحمد وغيره.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3494)
أسباب انشراح الصدر
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدنيا طبعها الكدر والعنت. 2- انشراح الصدر من نعم الله وأفضاله. 3- أمور تشرح الصدر وتزيل الكرب.
_________
الخطبة الأولى
_________
بعد: فإنَّ الله خلق الإنسانَ، وجعله في هذه الدنيا محلَّ ابتلاء واختبار، يكدح فيها كدحًا حتى يُلاقِيَ ربَّه، ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـ?قِيهِ [الانشقاق:6]، يُسَر بها حينًا، ويُساءُ بها أحيانًا.
تنفرج أمامه أبوابُ السَّعادة حتى لا تستطيع أرضٌ أن تقله ولا سماءٌ أن تظلَّه، فهو فرِحٌ مسرورٌ في غبطة وحبور، حتى إذا ما تقلبت عليه أمور وتنادت حوله حوادث الدهور ضاقت عليه الأرض بما رحبت وانغلقت عليه أبوابٌ قد انفرجت ابتلاءً من الله وتمحيصًا.
درسٌ عَمَلِيٌّ مِن الله تعالى يُعَلِّم به عباده أنَّ الدنيا هكذا خلقت، فرَحٌ وسرور، وأحزانٌ وشرورٌ: لَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ فِى كَبَدٍ [البلد:4]. فكيف يطمئنُّ العاقل إلى هذه الدنيا؟! أو كيف يستغني بها عن الأخرى؟!
جُبِلت على كدر وأنت تريدها صفوًا من الأقذاءِ والأكدار
ومكلف الأيام ضدَّ طباعها متطلب في الماء جذوة نار
ليس الزمان وإن حرَصت مسالمًا خلُق الزمانِ عداوة الأحرار
ولكن من رحمة الله بعباده ولطفه بأوليائه أنه لم يَكِلْهُم إلى أنفسهم، ولم يجعلهم في هذه الحياة بلا هادٍ يعينهم، فجعل لانشراح الصدر رغم المنغصات أسبابًا، ولانبساط النفس وطيب الحياة أبوابًا، أَفَمَن شَرَحَ ?للَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ فَهُوَ عَلَى? نُورٍ مّن رَّبّهِ [الزمر:22]، فَمَن يُرِدِ ?للَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـ?مِ [الأنعام:125].
ولما كان نبينا محمد أعرفَ الخلقِ بربه وأعلَمهم بمراده من خلقه كان أشرحَ الخلق صدرًا، وأطيبهم نفسًا، وأنْعَمَهُم قَلْبًا، امتنَّ الله عليه بِشْرحِ الصدر فقال تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح:1] أي: نوسعه لشرائع الدين والدعوة إلى الله، والاتصاف بمكارم الأخلاقِ، والإقبالِ على الآخرة، وتسهيل الخيراتِ. فمن كان للنبي أتبع كان له من سعة الصدر المقامُ الأرفع.
ألا وإنَّ من أعظم أسبابِ شرح الصدر وبه تطرد الأحزان والهموم وتزال بسببه الوحشة والغموم توحيد الله تعالى، فتعمُرُ ـ يا عبد الله ـ قلبك ثقة بالله، فلا مانع لما أعطاه، ولا معطي لما منعه، ولا رادَ لما قضاه، ولا معقب لحكمه. وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107].
حينئذ تطيبُ نفسُ العَبْدِ بما قُدِّر له، وتَنْقَشِعُ عن عَيْنَيه غشاوة الهمِّ والحزْنِ، وينشرحُ صدرُ المسلم بمثل هذه الاعتقادات، توحيدٌ وتسليم، وإذعانٌ وتعظيم.
فتوحيد الله ومعرفته وتفويض الأمر إليه هو جنَّة الدُّنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيمٌ، وهو قُرَّةُ عين المحبينَ ولذَّةُ حياةِ المؤمنين. ومن فاته شيء من توحيد الله أو خَلَطَه بشيء مما يغضب الله ضاق صدره واستوحش في قلبه، وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقًا حَرَجًا [الأنعام:125].
ومن أسبابِ انشراح الصدر ترك المعاصي والهروب إلى الله ومحاسبة النفس، وإنَّ الهمومَ والأحْزَان عقوباتٌ عاجلة ونارٌ دنيوية حاضرة، فكيف يطلب انشراح الصدر من ضيَّع صلاته ومنع زكاته؟! وكيف يَطْلب انشراح الصدر من ظلم مسلمًا في مالٍ أو عرضٍ؟! وكيف يطلبُ انشراحَ الصَّدْرِ مَن أكل الربا وغشَّ المسلمين في بيعٍ أو شراء؟! كيف يطلب انشراح الصدر مَن عقَّ والديه وقطع أقربَ الناسِ إليه؟! بل كيف يطلب انشراح الصدر من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن منكرٍ تعيَّن إنكاره عليه؟! ألا ما أبعد طيبَ العيش عن هؤلاء وأمثالِهم، وما أضيق صدور هؤلاء، وتعسًا لحالهم.
فجاهد نفسك ـ يا عبد الله ـ في طاعة الله، وألزمها تقوى الله، وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [الطلاق:2]، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى? وَ?تَّقَى? وَصَدَّقَ بِ?لْحُسْنَى? فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَى? [الليل:5-7].
ومِن أسباب انشراح الصدر التزود من الطاعات والإقبالُ على ربِّ الأرض والسمواتِ، فالطاعة فرضُها ونفلها زادُك في الآخرة ولذتك في الدنيا، والإكثار منها سببٌ في محبَّة الله. قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إلى بالنوافلِ حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يَسْمَعُ به، وبصره الذي يُبْصِرُ به، ويدَه التي يَبْطِش بها، ولئن سَألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه)).
ومن أعظم الطَّاعَاتِ ذكر الله، ومن أعظم الذكر قراءة القرآن تدبرًا وتأمَّلاً، فقراءة القرآن تورثُ العبدَ طمأنينةً في القلب وانشراحًا في الصدر، ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ ?للَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28]، وَنُنَزّلُ مِنَ ?لْقُرْءانِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82].
ومن ذكر الله الأورادُ الصباحية والمسائية وأذكار النوم والمناسبات، فهي حصن حصين وقوة وانبساطٌ من رب العالمين. وكان النبي يقول عند الكربِ: ((لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم)).
ومن أسباب انشراح الصدر نفعُ المؤمنين وإعانة المحتاجين بالمال والبدن، فهو باذل نفسه وماله ووقته لقضاء حوائجهم وتنفيس كرباتهم، وقد قال النبي : ((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)).
فهو إن كان عاملاً لأحد أخلص في عمله، أو كان بائعًا نصح في بيعه، وإن كان معلمًا صار معلمًا مربيًا يحب لأبناء الناس كما يحب لأبنائه، وإن كان موظفًا حرص على إنجاز مهمات مراجعيه وتيسير أمورهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. فمن كانت هذه طريقته فهو من أشرح الناس صدرًا، ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)).
ويخص من نفع الناس هنا بذل المعروف بالصدقة على محتاجهم، قال ابن القيم رحمه الله: "إنَّ للصدقة وفعل المعروف تأثيرًا عجيبًا في شرح الصدر".
ومن أسباب انشراح الصدر الدعاء والإلحاح على الله بأن يشرح صدرك وييسر لك أمرك، فيا من ضاق صدره وتكدر أمره، ارفع يديك إلى ربك، وبث شكواك إلى خالقك، واذرف دموع عينك، علَّ الله أن يجيب دعوتك ويزيل كربك، وهاك دعاء من أنفس ما عنيت به، ومن أعظم ما دعوت به، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي : ((ما أصاب عبدًا همٌّ ولا حزنٌ، فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب غمي، إلا أذهب الله حزنه، وهمه، وأبدله مكانه فرحًا)) رواه الإمام أحمد وغيره.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3495)
اغتنم خمسًا قبل خمس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, اغتنام الأوقات
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التواصي بالحق. 2- بعض الوصايا النبوية للصحابة الكرام. 3- حديث: ((اغتنم خمسًا قبل خمس)) وغنائمه العظيمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ من أسباب نجاة العبد من الخسارة العظمى والنكبة الكبرى التواصي بالحق والتواصي بالصبر، يقول الله تعالى: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر].
فلم يجعل الله سبيلاً للخروج من هذه الخسارة إلا بالإيمان والعمل الصالح، وبهما يكمل الإنسان نفسه، ثم بالتواصي، التواصي بالحق، وهو ما أحقه الله أي: أثبته مما به صلاحُ الدِّين أو صلاحُ الدنيا المعينُ على صلاحِ الدِّين. ثم التواصي بالصبر، الصبرِ على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة، وما أعطي أحدٌ خيرًا وأوسع من الصبر.
ولقد كان من هدي النبي أن يوصي أصحابه، وهم خير الناس بعد الأنبياء وأقرب الأجيال إلى تقوى الله رب الأرض والسماء، كان يوصيهم وصايا عامة ووصايا خاصةً فرديةً.
فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ رجلٌ فقال: يا رسول الله، إنَّ شرائعَ الإسلام قد كثرت علينا، فبابٌ نتمسك به جامع؟ قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله عز وجلَّ)) رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ. وأوصى أحد الصحابة يومًا فقال له: ((لا تغضب)) ، فردد مرارًا فقال: ((لا تغضب)) رواه البخاري.
فحاجتنا ـ عباد الله ـ إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر أشد حاجة، ونحن في زمنٍ نسي فيه كثيرٌ من الناس حظًا مما ذكِّروا به ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فقست قلوبٌ، وجفت من أزمنة دموعٌ، ولا تكاد ترى فيمن ترى مخبتًا أو صاحبَ خشوعٍ.
فواجب علينا التناصح بيننا، فلينصح الأب ابنه، والجارُ جاره، والمدير والمسؤول من تحت يده، فكلكم راع، وكلُّكم مسؤول عن رعيته.
وثق ـ أيها الناصح ـ أنه متى كان قصدك إرضاء الخالق ونفع المخلوق فلا بدَّ أن ينفع الله بنصحك نفعًا تشاهده في الدنيا، أو نفعًا يدَّخر لك في الأخرى.
وإنَّ من خير ما نتذاكر به ما أوصى به النبي ابن عمه عبد الله بن عباس في أمور خمسة جعلها النبي غنائم تغتنم ومكاسب تكتسب، فقد روى الحاكم والبيهقي وغيرها عن ابن عباس أن النبي قال له: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)). فهذه خمسة مغانم، إن فرطت فيها فيوشك أن تفقدها إلى ضدها.
فأولها الحياة، العمر الذي جعله الله زمنًا للعمل، الإنسان قبل هذا الزمن لم يكن شيئًا مذكورًا، قال تعالى: هَلْ أَتَى? عَلَى ?لإِنسَـ?نِ حِينٌ مّنَ ?لدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا [الإنسان:1]. فيا من بلغ العشرين أو الستين أو المائة، لم تكن شيئًا مذكورًا، ثم وُجدتَ فابتدأ عمرك إلى مدّةٍ اللهُ أعلم بنهايتها، فهذه حياتك، كنت مجهولاً قبل بدايتها، ثم لم تحط علمًا بمقدار عدتها.
فاغتنم ـ يا عبد الله ـ هذه الحياة في عمل صالح ينفعك بعد الممات، فإن لحظة تمر عليك، لم تزدد فيها علمًا نافعًا أو عملاً صالحًا هي خسارة عليك، وما من ميت يموت إلا ندم، فإن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب وأقلع عمَّا هو عليه. كيف وأنت ترى السائرين إلى ربهم في جنائز تترى زرافات ووحدانًا؟!
ثم الغنيمة الثانية الصحة، ((صحتك قبل سقمك)) ، إنها نعمة الصحة، فلا مرض يؤلم، ولا علة تثقل، قد أسبغ عليه ربه لباس الصحة والعافية، فبالصحة ينشط الموفق لعبادة ربه، فهو يذكر الله ذكرًا كثيرًا، لا يقطعه عن ذلك سقم يدافعه، إن صلَّى صلَّى بقوته قائمًا راكعًا ساجدًا على أتم وجه وأكمله، وإن أراد صيامًا يتقرب به إلى ربه لم يَعُق عن ذلك تعب ينتابه أو علاج من أجله يقطع صيامه، فهو يتفيأ من العبادات ألوانًا، ويأخذ من جملتها أفنانًا، فهذه حال مغتنم الصحة قبل السقم، إذ بالسقم تثقل العبادات وتفتر الهمم، وإن كان سقمه مع احتسابه يكفر به السيئات ويرفع به الدرجات، ولكن تبقى الصحة مغنمًا قبل السقم.
وأما الغنيمة الثالثة فهي الفراغ قبل الشغل، وأعظم الفراغ وأهمه فراغ القلب من همّ المستقبل والحزن على الماضي، فحينئذ يعيش العبد مطمئنًا في قلبه منشرحًا في صدره، لا يرى في الدنيا من هو أسعد منه، فيقبل على مصالح دينه ودنياه على أحسن حال وأتم استعداد.
فالفراغ بهذه الصورة غنيمة يغتنمها المؤمن قبل أن يفاجئه ما يشغل قلبه ويشتت همته، فيصبح مشغولاً بمدافعة ما نزل به، من مرضٍ نزل به، أو بحبيب إليه، أو بانتظار غائب لا يدري ما صنع الله به، أو بتطلعِ أمر مجهولٍ لديه يحتاجه لا يدري ما وراءه. ومشاغل القلب لا تحصى، وصوارف البال تتجدد.
وأما الغنيمة الرابعة فهي الشباب قبل الهرم، الشباب زمن الفتوة والقوة والنشاط والحيوية في الذهن والبدن، فهو فرصة ومغنم لمن اغتنمه، ولذا كان أحد الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شاب نشأ في طاعة الله.
فيا أيها الشاب، أنت تعيش فرصة بل غنيمة، أترى استغلالها في الذهاب والمجيء والجلسات الطويلة والاتكالية المذمومة وبذل المال فيما لا تحمد عاقبته؟! أترى ذلك يحصل به اغتنام هذه الفرصة وشكر هذه النعمة؟! فتِّش في نفسك، ونقِّب في رفاقك.
وأما آخر المغانم المذكورة في الحديث فهي غنيمة الغنى قبل الفقر، وهي الجِدَة والسعة في الرزق لمن بسط الله له رزقه، فهي غنيمة لمن عرف قدرها، ينفق على أهله بسخاء نفسه، يزكي ماله، ويتصدق على الفقراء، يعين حاجًا، ينشر كتابًا، يوزع شريطًا، ومجالات الخير كثيرة، وقد سبق أهل الدُّثور بالأجور.
فاعرف ـ يا عبد الله ـ هذه المغانم، وانظر في نفسك، واستعن بالله، ولا تعجز.
أقول قول هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3496)
اغتنم خمسًا قبل خمس
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, اغتنام الأوقات
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
22/11/1421
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية التواصي بالحق. 2- بعض الوصايا النبوية للصحابة الكرام. 3- حديث: ((اغتنم خمسًا قبل خمس)) وغنائمه العظيمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ من أسباب نجاة العبد من الخسارة العظمى والنكبة الكبرى التواصي بالحق والتواصي بالصبر، يقول الله تعالى: وَ?لْعَصْرِ إِنَّ ?لإِنسَـ?نَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لْحَقّ وَتَوَاصَوْاْ بِ?لصَّبْرِ [سورة العصر].
فلم يجعل الله سبيلاً للخروج من هذه الخسارة إلا بالإيمان والعمل الصالح، وبهما يكمل الإنسان نفسه، ثم بالتواصي، التواصي بالحق، وهو ما أحقه الله أي: أثبته مما به صلاحُ الدِّين أو صلاحُ الدنيا المعينُ على صلاحِ الدِّين. ثم التواصي بالصبر، الصبرِ على طاعة الله، وعن معصية الله، وعلى أقدار الله المؤلمة، وما أعطي أحدٌ خيرًا وأوسع من الصبر.
ولقد كان من هدي النبي أن يوصي أصحابه، وهم خير الناس بعد الأنبياء وأقرب الأجيال إلى تقوى الله رب الأرض والسماء، كان يوصيهم وصايا عامة ووصايا خاصةً فرديةً.
فعن عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ رجلٌ فقال: يا رسول الله، إنَّ شرائعَ الإسلام قد كثرت علينا، فبابٌ نتمسك به جامع؟ قال: ((لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله عز وجلَّ)) رواه الإمام أحمد بهذا اللفظ. وأوصى أحد الصحابة يومًا فقال له: ((لا تغضب)) ، فردد مرارًا فقال: ((لا تغضب)) رواه البخاري.
فحاجتنا ـ عباد الله ـ إلى التواصي بالحق والتواصي بالصبر أشد حاجة، ونحن في زمنٍ نسي فيه كثيرٌ من الناس حظًا مما ذكِّروا به ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فقست قلوبٌ، وجفت من أزمنة دموعٌ، ولا تكاد ترى فيمن ترى مخبتًا أو صاحبَ خشوعٍ.
فواجب علينا التناصح بيننا، فلينصح الأب ابنه، والجارُ جاره، والمدير والمسؤول من تحت يده، فكلكم راع، وكلُّكم مسؤول عن رعيته.
وثق ـ أيها الناصح ـ أنه متى كان قصدك إرضاء الخالق ونفع المخلوق فلا بدَّ أن ينفع الله بنصحك نفعًا تشاهده في الدنيا، أو نفعًا يدَّخر لك في الأخرى.
وإنَّ من خير ما نتذاكر به ما أوصى به النبي ابن عمه عبد الله بن عباس في أمور خمسة جعلها النبي غنائم تغتنم ومكاسب تكتسب، فقد روى الحاكم والبيهقي وغيرها عن ابن عباس أن النبي قال له: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك)). فهذه خمسة مغانم، إن فرطت فيها فيوشك أن تفقدها إلى ضدها.
فأولها الحياة، العمر الذي جعله الله زمنًا للعمل، الإنسان قبل هذا الزمن لم يكن شيئًا مذكورًا، قال تعالى: هَلْ أَتَى? عَلَى ?لإِنسَـ?نِ حِينٌ مّنَ ?لدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا [الإنسان:1]. فيا من بلغ العشرين أو الستين أو المائة، لم تكن شيئًا مذكورًا، ثم وُجدتَ فابتدأ عمرك إلى مدّةٍ اللهُ أعلم بنهايتها، فهذه حياتك، كنت مجهولاً قبل بدايتها، ثم لم تحط علمًا بمقدار عدتها.
فاغتنم ـ يا عبد الله ـ هذه الحياة في عمل صالح ينفعك بعد الممات، فإن لحظة تمر عليك، لم تزدد فيها علمًا نافعًا أو عملاً صالحًا هي خسارة عليك، وما من ميت يموت إلا ندم، فإن كان محسنًا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا ندم أن لا يكون استعتب وأقلع عمَّا هو عليه. كيف وأنت ترى السائرين إلى ربهم في جنائز تترى زرافات ووحدانًا؟!
ثم الغنيمة الثانية الصحة، ((صحتك قبل سقمك)) ، إنها نعمة الصحة، فلا مرض يؤلم، ولا علة تثقل، قد أسبغ عليه ربه لباس الصحة والعافية، فبالصحة ينشط الموفق لعبادة ربه، فهو يذكر الله ذكرًا كثيرًا، لا يقطعه عن ذلك سقم يدافعه، إن صلَّى صلَّى بقوته قائمًا راكعًا ساجدًا على أتم وجه وأكمله، وإن أراد صيامًا يتقرب به إلى ربه لم يَعُق عن ذلك تعب ينتابه أو علاج من أجله يقطع صيامه، فهو يتفيأ من العبادات ألوانًا، ويأخذ من جملتها أفنانًا، فهذه حال مغتنم الصحة قبل السقم، إذ بالسقم تثقل العبادات وتفتر الهمم، وإن كان سقمه مع احتسابه يكفر به السيئات ويرفع به الدرجات، ولكن تبقى الصحة مغنمًا قبل السقم.
وأما الغنيمة الثالثة فهي الفراغ قبل الشغل، وأعظم الفراغ وأهمه فراغ القلب من همّ المستقبل والحزن على الماضي، فحينئذ يعيش العبد مطمئنًا في قلبه منشرحًا في صدره، لا يرى في الدنيا من هو أسعد منه، فيقبل على مصالح دينه ودنياه على أحسن حال وأتم استعداد.
فالفراغ بهذه الصورة غنيمة يغتنمها المؤمن قبل أن يفاجئه ما يشغل قلبه ويشتت همته، فيصبح مشغولاً بمدافعة ما نزل به، من مرضٍ نزل به، أو بحبيب إليه، أو بانتظار غائب لا يدري ما صنع الله به، أو بتطلعِ أمر مجهولٍ لديه يحتاجه لا يدري ما وراءه. ومشاغل القلب لا تحصى، وصوارف البال تتجدد.
وأما الغنيمة الرابعة فهي الشباب قبل الهرم، الشباب زمن الفتوة والقوة والنشاط والحيوية في الذهن والبدن، فهو فرصة ومغنم لمن اغتنمه، ولذا كان أحد الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله شاب نشأ في طاعة الله.
فيا أيها الشاب، أنت تعيش فرصة بل غنيمة، أترى استغلالها في الذهاب والمجيء والجلسات الطويلة والاتكالية المذمومة وبذل المال فيما لا تحمد عاقبته؟! أترى ذلك يحصل به اغتنام هذه الفرصة وشكر هذه النعمة؟! فتِّش في نفسك، ونقِّب في رفاقك.
وأما آخر المغانم المذكورة في الحديث فهي غنيمة الغنى قبل الفقر، وهي الجِدَة والسعة في الرزق لمن بسط الله له رزقه، فهي غنيمة لمن عرف قدرها، ينفق على أهله بسخاء نفسه، يزكي ماله، ويتصدق على الفقراء، يعين حاجًا، ينشر كتابًا، يوزع شريطًا، ومجالات الخير كثيرة، وقد سبق أهل الدُّثور بالأجور.
فاعرف ـ يا عبد الله ـ هذه المغانم، وانظر في نفسك، واستعن بالله، ولا تعجز.
أقول قول هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3497)
الحرز الصحيح
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, الدعاء والذكر
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
19/3/1423
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل التوكل. 2- حقيقة التوكل. 3- صور من التوكل الصحيح. 4- فضل الذكر والطاعة في حفظ العبد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ في القلوب حاجة لا يسدها إلا القرب من الله والتلذذ بمناجاته، وإنَّ في النفوس وحشة لا يزيلها إلا الأنس بكتابه، وإنَّ فيها قلقًا وخوفًا لا يؤمِّنها إلا السكون إلى ما بشَّر به عباده، وإنَّ فيها فاقةً لا يغنيها إلا التزود من حِكَم القرآن وأحكامه.
وقد أمر الله في كتابه بالتوكل عليه: وَعَلَى ?للَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [إبراهيم:11]. فالتوكل شعارُ أهلِ الإيمان، وتعظمُ بسببه صلتهم بالرحمن، وبه يتميزون، إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ?للَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءايَـ?تُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَـ?نًا وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال:2].
ولقد ضمن الله تعالى لمن توكل عليه القيامَ بأمره وكفاية همه فقال: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ?للَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:3]. وبالتوكل ينال العبد محبة الله تعالى، إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَوَكّلِينَ [آل عمران:159].
أما حقيقة التوكل فأن يعلم العبدُ أنَّ الأمرَ كلَّه لله، وأنَّ ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه هو النافع الضار المعطي المانع، وأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فبعد هذا العلم يعتمدُ بقلبه على ربه في جلب مصالح دينه ودنياه وفي دفع المضارِ، ويثق غاية الوثوقِ بربه في حصول مطلوبه، وهو مع هذا باذلٌ جهده في فعلِ الأسبابِ النافعة. فالتوكل اعتماد وعمل، فلا مجال للبَطَّالين وإن ادعوا التوكل بألسنتهم فهم متواكلون.
فعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي فقال: أعقل ناقتي وأتوكلُ، أو أطلقها وأتوكل؟ فقال النبي : ((اعقلها وتوكل)) إسناده حسن.
إنَّ التوكل على الله مطلب يشغل به الإنسانُ قلبه في كلِّ وقتٍ، فهو باذل قدرته، مقدم ما يستطيعه من أسباب مادية، ثم بعد ذلك يكل أمره إلى ربِّه، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [القصص:68]، فإن تم ما خطط له ووافق رغبته فهذا تيسير الله وفضله، وإن كان غيرُ ذلك علم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ ?للَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَـ?نَا وَعَلَى ?للَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ?لْمُؤْمِنُونَ [التوبة:51].
ومع كون التوكل مطلبًا لا يفارق الإنسان إلا أنه يظهر في مجالاتٍ كثيرة وميادين واسعة. فمن أوسع ما يظهر فيه التوكل أن يعتقد الإنسان بقلبه أنَّه لا يجري في هذا الكون شيء إلا قد قدَّره الله، فلا تسلط لأحد على أحد إلا بإذن الله، وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ?للَّهِ [البقرة:102]، وبهذا تزول الأوهام التي ركبت عقول كثير من الناس لا سيما عامتهم من النساء والصغار، فاستوحشوا من كل أحد، وتشاءموا من كل حدث، فعاد ضعفُ توكلهم قلقًا في حياتهم وحَيْرة في أفعالهم، فهم خائفون من لا شيء، يحذرون من كل شيء، فما أن يطرأ أي عارض في حياتهم إلا نسبوه إلى عين حاسد أو تلبس جنٍّ أو سحر ساحر. وإنَّ هذه كلَّها حق، ومنكرها مكذّبٌ لما يجب تصديقه مما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله ، ولكنَّ إعطاءها أكبر من حجمها دليل على ضعف علاقة الإنسان بربه وعدم ثقته بحفظه، والله تعالى يقول: لَهُ مُعَقّبَـ?تٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ?للَّهِ [الرعد:11] أي: للإنسان ملائكة يحفظونه بأمر الله من الجن والإنس والهوام ومن كل سوء، ويحفظون عليه أعماله.
فاطلبوا الحفظ ـ رحمكم الله ـ من الله بالأسباب الشرعية والوسائل المرعية، وقد قال النبي لابن عمه عبد الله بن عباس: ((احفظ الله يحفظك)) ، وقال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38]. فمن طلب حفظ الله ومدافعته فليلزم الإيمان بالله، وليحافظ على تقواه في السرِّ والعلانية.
وقال النبي : ((من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فانظر ـ يا ابن آدم ـ لا يطلبنك الله من ذمته بشيء)) رواه مسلم. ((في ذمة الله)) أي: في حفظه وتسديده في خاصة نفسه وولده وأهله وماله.
ثم هو مواظب على ذكر الله في شأنه كله، فعن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله تعالى عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال الشيطانُ: أدركتم المبيت والعشاء)) رواه مسلم.
ومما يشرع للإنسان أن يقولَه عند خروجه من منْزله: ((بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بَالله)) ، قال النبي : ((مَنْ قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ : بسم الله، توكلت على الله، لا حولَ ولا قوَّة إلا بالله يقال له: هديت وكفيت ووُقيت، وتَنَحَّى عنْه الشيطان)).
وإن الشيطانَ أبعدُ ما يكون من المتوكلين، فلا سلطانَ له عليهم، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى? ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى? رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:99].
رزقنا الله وإياكم التوكل عليه، والثقة بما عنده.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3498)
الغيرة على المحارم
الرقاق والأخلاق والآداب
أعمال القلوب, مكارم الأخلاق
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
27/5/1422
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الغيرة صفة حسن وكمال. 2- مسئولية أولياء الأمور. 3- مظاهر ضعف الغيرة وصورها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا ربكم، واعرفوا الأمانة التي حملكم، وغاروا على محارمكم، فالغيرة صفة إلهية تمدَّح الله بها، وكمّل بها نبيه وعباده الأسوياء، فهي فطرة قبل أن تكون شرعة، والتفريط بها عارٌ ومذمة قبل أن يكون معصية، غارت البهائم على إناثها، فكيف لا تغار الرجال على نسائها؟! ففي صحيح البخاري عن عمرو بن ميمون أنَّ قِرْدَة زنت فاجتمع عليها قردةٌ فرجموها، وفي الصحيحين أنَّ سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيفِ غير مصفح، فبلغ ذلك النبي فقال: ((أتعجبون من غيرة سعدٍ؟ واللهِ، لأنا أغير منه، والله أغير مني)).
فالغَيْرَةُ هي تَغَيُّرُ القَلْبِ وهَيجانُ الغضبِ لانتهاك حرمة من محارم الله، وأشدُّ الغيرة فيما يتعلق بحفظ النساء وصيانتهن. ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أيها الآباء، أيها الأولياء، إنَّ المشاكل النسوية في اجتماعاتهن إنما نشأت لما أضعنا معنى قول النبي : ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)). فلو قام الأولياء بولايتهم، فراقب الأب بناته، والزوج زوجه، والولي من تحت يده، لو قام هؤلاء بحقِّ الرعاية عليهم لاندفع كثيرٌ من الشر، ولأوصدت أبواب الضرر، ولم يجد العابثون إلى بناتنا ونسائنا سبيلاً.
إن بعض الأولياء لا يقرُّ قراره حتى تعيَّن بنته أو تقبَل في كلية ما أو تنقل وظيفتها من مكانٍ إلى مكان يريده، وهو جادٌ في متابعة موضوعها وتحقيقِ رغبتها، فلِمَ لا يصرف هذا الجهد ـ بل بعضه ـ في متابعة ما فيه حفظها وصيانةُ عرضها؟! وشتان بين الغرضين.
إن مما نعانيه ويعانيه كلُّ صاحبِ غيرة أننا نخشى أن يكثر الخبث، فنهلك وفينا الصالحون كما قال ذلك النبي ، فالقضية قضية الجميع، لا يخاطب بها رجال الهيئة ولا الدعاة ولا طلاب العلم فقط، ولكنها قضية السلامة في هذا الدنيا والنجاة يوم القيامة، إنها قضية تساهل بها رجال أفاضل ومن المسابقين في الخيرات وممن هم من أصحابِ الصف الأول في الصلاة، تساهلوا في أمور نسائهم فوكلوا أمرَهن إليهن خروجًا ودخولاً، وربما سفرًا وإقامة.
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يُستأمرون وهم شهود
إنَّ من المظاهر المزعجة أن ترى النساء في الأسواق إلى وقتٍ متأخرٍ من الليل، ثم تراهن متجمعاتٍ بعد هذا كله على عتباتِ الأسواق ينتظرن من يوصلهن بيوتهن، والله أعلم أينتظرن محْرمًا أو سائقًا أجنبيًا.
إنَّ مما أستحثُّ به الغيرة وأنادي به الرعاية الواجبة الشرعية، أن أذكر لك بعض أمور تواتر النقلُ فيها وضاقت بها صدور الغيورين فتحدَّثوا عنها، ولا أقول ـ إن شاء الله ـ: إنها أصبحت ظواهر ولكنها بوادر، وبوادر الشر إن لم يتفطن لها الناس ويؤخذ فيها على يد السفيه تصبح أمورًا مألوفة، ولا يزالون كذلك حتى يأتي زمانٌ يُنكر فيه على من يستنكرها، فتنقلب الموازين، ويتجرأ الناس على حرمات الدين، ويُغضبوا رب العالمين.
من ذلك: ذكر من لهن اطلاعٌ على قصور الأفراح وأماكنِ تجمعات النساء في المنتزهات وغيرها أمورًا محزنة في تساهل بعض النساء في لباس الحشمة، فلم تعد المرأة هي المرأة في لباسها الساتر يعلوها الحياء ويبطنها الحشمة. تتابع النساء في ألبسة متبرجة تظهر ما يستحى في الفطرة إبداؤه، فأبدَيْن من أجسامهن ما أوجب الله عليهن ستره، قلدن نساءً رأينها في القنوات الهابطة والدعايات الفاتنة.
ومن شر البلية أن تخرج المرأة من بيتها على مرأى من وليها بلباس، وقد أعدَّت لمكان وجهتها لباسًا آخر، تخادع وليها، فهي عنده الفتاة المحتشمة ذاتُ الألبسة الساترة، وإذا خرجت هتكت ستر الله عليها، وأضاعت وقارها، وقلَّت في تلك الأماكن خشيتها لله وحياؤها من عباد الله، خيانةً من المرأة لوليها من زوجٍ أحسن الظن أو أبٍ ركبته غفلة الصالحين أو أخٍ قلّت حيطته وضعفت سلطته.
أرأيت ـ أيُّها الوَلِيُّ المبارك ـ كيف يتلاعبُ الشيطان بعقولِ بعض السفيهاتِ، وكيف يسعين للفتنة سعيًا؟! فما أعظمها من فتنة، وما أشدَّها على الولي الغافل من مصيبة. والله المستعان.
ومما ينبه عليه في المقام أيضًا ما تساهلت فيه بعض الأمهات على إقرار من الآباء من إلباس بناتهن الألبسة القصيرة أو الضيقة بحجة أنهن صغيرات، فكيف تكون بنت الثامنة والتاسعة بل إلى أكثر من ذلك أحيانًا، كيف تكون صغيرة؟! بأي عُرفٍ أو بأي شرع إلا في عرف من يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؟! أمَا علم هؤلاء الآباء وهؤلاء الأمهات أيضًا أن البنات إذا نشأن على ذلك اعتدنه وصعب تغيير ما نشأن عليه؟!
ثم إنك ـ أيها الأب ـ إذا نظرت إلى بنتك ذاتِ التسع سنين والعشر ونحوها وقد لبست بنطالاً ضيقًا أو قصيرًا، إذا نظرت إليها وحالها كذلك فأنت تنظر إليها بعين الأبوة البريئة، فاعلم أن غيرك قد ينظر إليها بعين الفتنة المريبة، أعاذنا الله من الفتن، وحفظنا بديننا، وحفظ ديننا لنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3499)
مسؤولية البنات
الأسرة والمجتمع, فقه
الأبناء, المرأة, النكاح
عبد الرحمن بن صالح الدهش
عنيزة
26/1/1422
علي بن أبي طالب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من التشاؤم بالبنات. 2- ذكر بعض مسئوليات الفتاة على أهلها. 3- حقوق البنت في مسألة زواجها. 4- عرض الرجل موليته على الرجل الكفء. 5- كلمة في غلاء المهور.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ مما يختبر به العبدُ ويبتلى ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن نبينا المصطفى أنه قال: ((من ابتلي من هذه البناتِ بشيء فأحسن إليهن كنَّ له سترًا من النار)). فقد جعل النبي أمر البناتِ ابتلاء يبتلى به العبد، فإن أحسن إليهن تربيةً وتعليمًا ونفقة وستَرَهن وألبسهن لباس التقوى حِسًا ومعنى فإنَّهن يكن له سِتْرًا يَقِينه دخولَ النَّارِ.
فلا تشاؤمَ جاهلي بولادة البنات أو كثرتهن، كيف وقد كان نبينا محمد أبًا لأربعِ بناتٍ: زينبَ ورقيةَ وأمِّ كلثوم وقد توفين في حياته، ثم فاطمة تأخرت بعده بستةِ أشهر، وهي سيدة نساء أهل الجنَّة.
وعلى قدر ما ورد في فضل رعايةِ البناتِ تعظم المسؤوليةُ في التفريط في حقهن والتساهل في أداء الأمانةِ تجاههنَّ، ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ألا وإن مِن أعظم ما يتعلق بالمسؤولية تجاه البناتِ، بل وغيرهن من الأخواتِ وسائر القريباتِ اللاتي لك عليهن ولاية أو وصاية، إنها مسؤولية التزويجِ والنظر في حال الخطابِ والسؤالِ عن الكفء. ولا تعجب إذا علمت أنَّ من أكبرِ أسبابِ فشل الزواج وتفريق البيتِ بعد الاجتماعِ التساهل في أمرِ التزويجِ والتقصير في أمر البحث والتدقيقِ، فما أن يعقد القِرانُ ويتمّ النكاحُ إلا وتتبين خفايا عظام وأمورٌ لا يمكنُ معها البقاءُ والدوامُ، فيسعى الولي في فكاك موليته واستنقاذ مزوجتك.
إن من حق الله عليك بعد أن بلَّغت موليتك سنَّ الزواجِ وطرق بابك إليها الخطاب أن تختار لها الكفء الذي يكونُ به حفظها وتحصل به سعادتها، وهذه المرحلة من أحرج المراحلِ وأشدها خطرًا، ولكن من يستعينُ بالله يعينُه الله.
فواجبٌ على الولي إن لم يكن يعرِفُ الخاطبَ أن يسألَ عنه، وأن يعدد الجهاتِ المسؤولة حتى تكتمل لديه الصورة. وأهم ما يسأل عنه ما يتعلق بأمر دينه واستقامة خلقه.
فلا يزوج من لا يُصَلي وإن حَسنت معاملته ولم تفارق شفتيه ابتسامته، ولا يزوجُ من اشتهر فسقه أو ساءت عِشرتُه ولو كثر تردده وكثُر المتوسِطون له أو رضيت به مخطوبته، فهؤلاء لا يزوجونَ ولا كرامة، ولا إثمَ على الولي لو بقيت موليته طول عمرها بلا زواجٍ.
ثم على الولي بعد سؤاله عن الخاطب وتحريه عنه أن ينقل ما عرفه وقيل عنه إلى المخطوبة من بنت أو غيرها بلا مبالغةٍ أو تقصيرٍ، وأن يشير بما يرى، فلا إكراه في الزواجِ، قال النبي : ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)) ، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)).
وإنَّ على من استشير في تزويجِ أحدٍ من الناس أن يتقي الله في مشورته، فلا يمدح الخاطب ويضع فيه ما ليس فيه من الصفاتِ الحسنة حتى يزَوّجَ، ولا يَعيبه وينتقِصه حتى يردَّ، ((فلا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)).
فإن عجز عن قولِ الحقِّ أو جهل الخاطبَ فالواجب أن يعتذرَ عن المشورة وإبداء الرأي، فمن عجز عن المشورة بالحقِّ فلا يسعه أن يقولَ الباطلَ، سواءٌ كان المسؤولُ قريبًا للخاطِب أو زميلاً أو صديقًا له أو إمامًا أو مؤذنًا لمسجده، يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِ?لْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ?لْو?لِدَيْنِ وَ?لأقْرَبِينَ [النساء:135].
وإنَّ بعض المسؤولين عن الخطابِ يصفون الخاطب بما ليس فيه، أو يُغْفِلون ما يقدحُ فيه، ويعتذرون لأنفسهم: لعله يُزوَّجُ فتصلحَ حاله. فيا سبحان الله! هل ترضى أن تُغشَّ بخاطب لبنتك بهذه الحجة؟! فاتق الله، وقل الحقَّ، وقد يكون ردُّه هو سببَ صَلاحِه، وليس تزويجَه.
معاشر الأولياءِ من الآباء والإخوة وغيرهم، ها هنا أمرٌ لعلكم لا تستعجلون في رده واستنكاره، بل تفهّموه وفكِّروا فيه، وقبل أن أذكره أذكر دليله وأصله الشرعي، فقد حكى الله عن صاحب مدين الرجل الصالح أنه قال لنبي الله موسى : قَالَ إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ?بْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى? أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ [القصص:27]، وفي صحيح البخاري وغيره قال عمر رضي الله عنه: لقيت عثمان بن عفان فقلت له: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبثتُ ليالي ثمَّ لقيته فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج. قال عمر: فلقيت أبا بكر، فعرضتُ عليه حفصة، فلم يجب أبو بكر ولم يتكلم، فما هي إلا ليالٍ حتَّى خطبها رسول الله ثمَّ تزوجها.
وفي أخبارِ سعيد بن المسيبِ من أفاضل التابعين وعلمائِهم أنَّه ردَّ خطوبة الخليفة الوليد بن عبد الملك لبنته، وأبى أن يزوج بنته ابن الخليفة، ثم خطب هو لبنته أحد تلاميذه، وزوجها إياه بدرهمين، وبادر في زفها إليه على فقره وقلة يده.
إنَّ ما أعنيه ـ أيُّها الولي ـ أن تبحث لبنتك أو غيرها ممن لك ولاية عليها، أن تبحث لها عن الزوجِ الكفء، أن تبحثَ بنفسك أو بواسطة رجلٍ صالحٍ مؤتمن، فتطرق بابه قبل أن يطرقَ بابك، وتختاره قبل أن يختارك. ألست تختارُ لبنتك وموليتك أو تعهد بذلك إلى من يختار لها اللباس المناسب والحوائج المناسبة؟! إنَّ اختيار الزوجَ المناسب أولى وأولى، وهو من أفضل إحسانٍ تبذله لموليتك، ويبقى بعد توفيق الله معروفًا لا ينسى وجميلاً لا ينكرَ من موليتك، بل ومن زوجها المختارِ. وليس في ذلك نقيصةٌ عليك، ولا على من أنت وليُّها، وقد عرفتَ أصلَه، ومن سبقك إلى فعله.
وإن عَرضَ المرأة على الكفءِ لها ـ سواءً عرضتها بنفسك أو بغيرك ـ متأكِّدٌ في هذا الزمن قبل أن يفجأك خاطِبٌ لا تريده، أو مجهولٌ يعسر البحث عنه، ومتأكّدٌ أيضًا في موليتك المطلّقة التي لم يكتب الله لها توفيق في زواج سابقٍ، وفي موليتك التي تقدَّم سنُّها أو قلَّ جمالُها ورُغِب عنها. فعرض هؤلاء على الأكفاء متأكدٌ، ولو أن تعرضها على من تكونُ عنده زوجة ثانية أو ثالثة. فاحتسب هذا، ودافع العقبات الوهمية والموانع العاطفية.
أعانني الله وإياكم على أداء الأمانة، وجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن مما لا يغفل الكلامُ عنه ما توسع فيه كثيرٌ من الناس وتفاخر فيه آخرون وصار عقبة أمام المتزوجين قضية المهور. أوَما عَلِم هؤلاء ما قاله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لا تُغْلوا صُدُق النساء، فإنها لو كانت مكرمَةً في الدنيا أو تقوى في الآخرة كان أولاكم بها النبي )، وجاء عَن النَّبي : ((إنَّ أعْظَمَ النكاح بركة أيسره مؤونة)) رواه الإمام أحمد وله طرق، وقال النبي : ((من أَعْطى في صداقٍ ملء كفيه سويقًا أو تمرًا فقد استحلَّ)) ، وأجاز النبي نكاح امرأة على نعلين، وقال لآخر: ((التمس ولو خاتمًا من حديد)) ، فلمَّا لم يجد زوجه بما معه من القرآن. فنعم الصداق، وبورك هذا الزواج.
قال شيخ الإسلام: "ويكره للرجلِ أن يصدق المرأة صداقًا يُضِرُّ به إنْ نَقَدَه، ويعجُزُ عَن أدائه إن كانَ دَينًا"، وقال: "فمن دعته نفسه إلى أن يزيدَ صداق ابنته على صداقِ بناتِ رسول الله اللواتي هُنَّ خيرُ خلقِ الله في كلِّ فضيلةٍ وهنَّ أفضلُ نساء العالمين في كلِّ صفةٍ فهو جاهل أحمقُ" [مجموع الفتاوى (32/194)].
إنَّ قضيةَ مغالاةِ المهور والتباهي بها قضيةُ كلِّ غيور على شباب المسلمين وشاباتهم، لأنه ما بعد المغالاة في المهور إلا الإعْراض عنْ الزَّواجِ، في زَمَن يُدْرِكُ كُلُّ عاقِل حاجَةَ الشَّابِ المتأكِدَةَ إلى إحصانه بزوجة يغض بها بصرَه ويحفظ بها فرجه، فالفتن مستشرفةٌ، ووسائل الإغواء منتشرة، ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.
إنَّ هذه القضيةَ يجِب أن يَسْعى في حلّها كلُّ مشفِقٍ على شبابِ وشاباتِ المسلمين، فما بالنا نشتكى غلاء المهور في مجالسنا وصعوبة النكاح على شبابنا؟! والأمر كلُّه ـ بعد الله ـ بأيدينا، أوَننتظر فيها قرارًا دوليًا أو نظامًا قانونيًا؟! أيعجَز أحدُنا إذا تَقَدم إليه مَن يرضى دينه وخلقه أن يزوجه بما لا يشقُّ عليه، ولو كان دون مهر المثل إذا رضيته الزوجة؟! ولا يلجئه إلى دينٍ يثقله، يذهب به ماء وجهه.
والعِوَضُ عما يفوت من المهرِ إحْصانُ مولِيَّتك، وحفظها من الحرام وأسبابه، والمساهَمَةُ في فتحِ بيتٍ مسلِمٍ يكثرُ به نسلهم وتزداد به قوتهم. ورَحَم الله امْرأ زوجَ موليته مِنْ كفئها، فلم يُغالِ في مهرها، فأحيا بذلك سنةً حسنةً، وصارت موليته قُدْوَةً لِغَيْرِها.
اللهم وفقنا للقيام بالأمانة، وأعذنا من التفريط والخيانة...
(1/3500)
الاختلاط: شرور وآثام
الأسرة والمجتمع
المرأة, قضايا المجتمع
عبد الحي يوسف
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياء صفة المؤمنين والمؤمنات. 2- درس الحياء من قصة موسى مع الفتاتين من مدين. 3- الفصل بين الجنسين في العصر النبوي. 4- الشرائع الإسلامية تقرر الفصل وتمنع الاختلاط. 5- فشوّ الاختلاط في بلاد المسلمين. 6- مسئولية الأب والدولة والمجتمع في إزالة الاختلاط ومنعه. 7- التشبه بين الجنسين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد , وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار, وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى, وإنّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: فإنّ شريعة الإسلام جاءت بتقرير الأحكام وتعيين الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة، لينشأ المجتمع المسلم طاهرًا نظيفًا طاهرًا عفيفًا، لا أثر فيه لفاحشة ولا دعوة فيه لخنى، ولا أمر فيه بمنكر.
جاء الإسلام يقرر أن الحياء مطلوب من الرجال والنساء، لكنه في حق النساء ألزم، ومن حياء النساء أن لا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وأن لا يتبرجنَ تبرج الجاهلية الأولى، وأن لا يبدينَ زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها, وأن يضربنَ بخمُرهنّ على جيوبهنّ, ولا يبدينَ زينتهنّ إلاّ للأصناف التي ذكرها الله عز وجل في كتابه.
ومن حياء النساء كذلك أن لا يخالطنَ الرجال ولا يزاحمنهم، بل الواجب على النساء أن يأخذنَ حافّات الطريق، وأن يكون لهنّ مجتمعاتهنّ الخاصة بهنّ, ولا يخالط النساء الرجال في حفلات عامة ولا خاصة ولا مؤتمرات ولا ندوات ولا تعليم ولا عمل ولا غير ذلك من نواحي الحياة.
في القرآن الكريم يثني ربنا جلّ جلاله على رجلٍ صالح أنه ربّى ابنتين فاضلتين علمهما مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وبين لهم الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة, يقول الله عزّ وجلّ في خبر كليمه موسى عليه السلام: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ ?لنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ?مْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى? يُصْدِرَ ?لرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]. موسى عليه السلام وجد جماعة من الناس طائفة من الرجال يسقون بهائمهم أنعامهم، ووجد امرأتين بعيدتين نائيتين، لا تزاحمان الرجال ولا تخالطانهم، سألهما: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقى حتى يصدر الرعاء، لا نزاحم هؤلاء الرعاة، ولا نخالطهم في سقي الماء، بل نصبر وننتظر حتى إذا سقوا أنعامهم وقضوا حوائجهم وانصرفوا من عند ذلك الماء جئنا نحن فسقينا.
موسى عليه السلام تصرف تصرّف الرجل ذي المروءة والشهامة، الرجل الكريم الذي يعرف ما أوجب الله عليه وما يحبّ الله له، فَسَقَى? لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى? إِلَى ?لظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، يقول الله عزّ وجلّ: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء [القصص:25]، تمشي مشية فيها حياء، ليس فيها تبذُّل ولا تبرُّج ولا إغواء ولا تهييج، وإنما مشية الحياء، تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ، في أقصر لفظ وأوضحه وجهت الدعوة إلى موسى، ما أكثرت من الكلام ولا أطالت في الحديث، وإنما لفظ مختصر، لكنه واضح في غيرما اضطراب ولا تلجلج يغري أو يهيج، قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، هكذا دعوة ترفع اللّبس والغموض، ما قالت له: هيا معنا إلى البيت، ولا قالت: إني أدعوك، ولا قالت: اذهب معي، وإنما أسندت الدعوة إلى أبيها ليطمئن قلبه صلوات ربى وسلامه عليه، إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25].
هكذا ثناء ربنا عزّ وجلّ في القرآن على هتين الفتاتين وعلى أبيهما الصالح القانت الذي أحسن تربيتهما وتوجيههما وتعليمهما، حتى كانتا على مثل هذا الخلق القويم.
وهكذا ـ أيها المسلمون عباد الله ـ شريعة محمد ، جاءت بمثل هذا الخلق الكريم، تأمر النساء أن لا يخالطنَ الرجال، وتأمر بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء، تسدُّ كل ذريعة مفضيةٍ إلى الاختلاط.
في المسجد، رسول يجعل للرجال بابًا وللنساء بابًا يقول: ((لو تركتم هذا الباب للنساء)) ، يقول نافع رحمه الله: فوالله، ما دخل منه عبد الله بن عمر ولا خرج حتى قبضه الله إليه. للنساء في المسجد بابٌ خاص، وكذلك في الصلاة للرجال صفوفهم وللنساء صفوفهنّ، يقول رسول الله : ((خيرُ صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) ، مباعدة بين الرجال والنساء في أقدس مكان، في أطهر بقعة، عند أعظم شعيرة، هي شعيرة الصلاة.
بل أكثر من ذلك لو ناب الإمام شيء في صلاته، لو أنه سها، لو أنه أخطأ، شريعة الإسلام تجعل للرجال التسبيح وللنساء التصفيق، إذا ناب الإمام شيء في صلاته سبح الرجال ينبِّهونه، أما النساء فإنهنّ يصفقنّ بأصابعهنّ على ظهور أكفهنّ، لا يرفعنّ أصواتهنّ في المسجد. ويقول رسول موجهًا الخطاب للنساء: ((ليس لكنّ أن تحققن الطريق)) : ليس لكنّ أن تأخذن حُقّة الطريق ووسطه، عليكن بحافات الطريق, يمشي النساء على جنبات الطريق، لا يزاحمن الرجال في الشوارع والطرقات، ولا في الأسواق والتجمعات، بل للمرأة خصائصها وللرجل خصائصه، كل ما يؤدّي إلى الاختلاط شريعة الإسلام تمنعه؛ لأن الاختلاط شرٌّ محض يؤدي إلى شيوع البغاء وقلة الحياء واسترجال النساء وخنوثة الرجال وضياع الأعراض وشيوع المنكرات وفشوِّ الزنا وغير ذلك من الموبقات العظيمة.
نهت شريعة الإسلام من دخول الرجال على النساء: ((إياكم والدخول على النساء)) ، قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ ـ الذي هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه ونحو ذلك ـ؛ قال رسول الله : ((الحمو الموت)) ، هذا أشد خطرًا من غيره، لأن النفوس لا تنفر من دخوله، ولا تستريب من ولوجه, ((الحمو الموت)).
شريعة الإسلام تحرم نظر أحد الجنسين إلى الآخر نظرة عمد: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرةَ، فإنما لك الأولى وعليك الثانية)). شريعة الإسلام تمنع مُمَاسّة الرجال للنساء والعكس، حتى لو كان مصافحة. تمنع اختلاطهم، بل لو خرجت المرأة إلى المسجد، لو خرجت تريد بيت الله، تريد الصلاة، فلا بد من شروط معتبرة، لا بد من أمورٍ مرعية فرضتها الشريعة الإسلامية, لا تخرج المرأة متبرجة، بل متحجبة، لا تخرج متطيبةً متزينة، بل تخرج تَفِلَة، لا تخرج المرأة مزاحِمَةً للرجال في الطريق ولا في المسجد، لا بد أن تُؤمَنَ الفتنة منها وعليها، لا تَفتِِن ولا تُفتَن، ثم بعد ذلك إذا جاءت إلى المسجد لا ترفع صوتًا حتى لو كان مجلس علم. كان رسول الله يجعل للرجال مجلسًا وللنساء مجلسًا, الرجال قريبون منه، والنساء نائيات عن الرجال، بعيدات عنهم، كل هذا لأن شريعة الإسلام المنزلة من رب حكيم خبير يعلمُ ما يصلح الناس وما يفسدهم.
أيها المسلمون، عباد الله، هذه المصيبة العظيمة مصيبة الاختلاط, اختلاط الرجال بالنساء في التعليم، في مؤسسات العمل، في المحافل والمؤتمرات، في الأفراح والأتراح، ما عادَ كثير من الناس ينكِرها، بل أكثرهم لا يجد في صدره حرجًا، عادت أمرًا طبيعيًا، أكثر الناس لا يُنكرونه ولا يعملون على تغييره, نبتة شيطانية غربية جاءت من عند غير المسلمين, بدؤوا برياض الأطفال، ثم بعد ذلك ما زالوا يتدرجون شيئًا فشيئًا حتى عمموها.
في بعض بلاد الله، في المدارس منذ أن يدخل الأطفال المدرسة وهم في مرحلة الأساس، في بعض بلاد الله مختلطون، ثم إذا ذهبوا إلى الثانوية اختلطوا، ثم في الجامعة، ثم في وسائل المواصلات، ثم بعد ذلك في أماكن العمل، وفي كل مكان أنفاس الرجال والنساء متقاربة، ليس هناك كلفة ولا حاجزٌ ولا مانع، بل الرجال مع النساء في كل مكان.
ماذا كانت النتيجة؟ الآن في بلاد الغرب، في أُوربا وأمريكا، المصلحون وعلماء الأخلاق ورجال التربية الكل ينادي بمنع الاختلاط، الكل يذكر أن الاختلاط ما أتى بخير، لا في علم، ولا عمل، لا في تحصيل، ولا تدريب، بل متى ما وجدت المرأة بجوار الرجل فهي به مشغولة وهو بها مشغول، قال رسول الله : ((ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء)). المرأة إذا وجدت بجوار الرجل فهى ضررٌ عليه، وهو ضررٌ عليها، كلاهما يضرّ الآخر, ما أمرت شريعة الإسلام بالفصل، ما أمرت شريعة الإسلام بمنع الاختلاط إلاّ لأنها تعلم أنّ الاختلاط ينتج عنه عواقب وخيمة تعود على الأفراد والمجتمعات وعلى الأسر والجماعات، الكل يعاني، لا أحد يأمنُ على عرضه، لا أحد يأمن على دينه؛ لأن الخطر بجواره ظاهرٌ غير كامن.
الآن في أوربا وأمريكا يدعون إلى منع الاختلاط، إلى منع اختلاط الرجال بالنساء، لأنهم عانوا من ثماره المُرَّة كثرة اللقطاء، كثرة حوادث الاغتصاب، كثرة الجريمة، فُشوّ الفاحشة، انتشار الأمراض، قال رسول الله : ((ما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى يعلنوا بها إلاّ ابتلاهم الله عزّ وجلّ بالأسقام والأوجاع التى لم تكن في أسلافهم)) ، أسقامٌ وأوجاعٌ يضج منها البشر، ولا يجدون لها علاجًا، لا يعرفون لها دواءً حتى الساعة، حتى اللحظة لا يجدون لها علاجًا، والجزاء من جنس العمل.
أيها المسلمون، عباد الله، إذا أردنا لهذا المجتمع أن يكون نظيفًا طاهرًا عفيفًا معافًى سالمًا من الآفات، حتى لو كانت هناك فاحشة مرةً أو مرتين تكونُ مستترةً مختفيةً بعيدةً عن الأنظار، يفعلها أهلها في حياء. إذا أردنا للمجتمع أن يكونَ كذلك، فالدَرَجَة الأولى والخطوة الأولى هي منع الاختلاط، منع الاختلاط في الجامعات وفي مؤسسات العمل وفي دواوين الحكومة وفي وسائل المواصلات وفي سائر المرافق والخدمات، يكون للرجال مجتمعهم وللنساء مجتمعهن، ولا يتوقف هذا على الحاكم وحده، بل الصراحة والنصيحة تقتضي أن نقول في هذا المقام: إننا ـ معشر المسلمين ـ في هذه البلاد الآفة في كثير منا, كثير منا في بيته لا يمنع الاختلاط، قد يكون في بيته حفلة عرس، أو يكونُ في بيته مأتم، أو غير ذلك من العوارض والمناسبات، فيختلطُ الرجال بالنساء، ولا نغيِّر، بل لا تتمَعّرُ وجوهنا، دلالة على أن الناس قد انتكس فهمهم للدين.
ولا نريد أن نقول ـ أيها المسلمون عباد الله ـ كما يقول بعض من لا خلاق لهم بأن الاختلاط لا بأس منه ولا حرجَ فيه!! أيكون مجتمعنا أطهر من مجتمع رسول الله ؟! هل قلوبنا أسلم من قلوب الصحابة؟! الصحابة أطهر الناس قلوبًا، رسول الله منعهم من الاختلاط، عمر بن الخطاب رضى الله عنه في أيام خلافته كان يمنع النساء من أن يسِرن في وسط الطريق، بل يُعيِّن محتسبين في الطرقات ينصحون النساء بأن يأخذن الحواف والجنبات. بعض الناس الآن يقولون: إن المجتمع ناضج وفاهم وواعٍ!! الطالب والطالبة في الجامعة كلاهما يدرك مسؤوليته!! سبحان الله!! أيدركون المسؤولية أعظم من إدراك الصحابة؟! معاذ الله أن يقول هذا عاقل.
أيها المسلمون عباد الله، واجب علينا أن نسعى جميعًا وأن نتكاتف جميعًا لإنكار هذا المنكر والحيلولة دون امتداده بعدما رأى الناس آثاره. الآن المدارس مفصولة والحمد لله, للبنين مدارس وللبنات مدارس، ولكن أغلب الجامعات اختلط فيها الحابل بالنابل, يتزين الفتيات، يتجملنّ ويلبسن أحسن ما يجدن، وكذلك الشباب يتعرضون لهنّ، تجد الشاب مع الشابة يجلسان مثنى مثنى في أكثر الجامعات، ولا يغير هذا المنكر أحد ولا يتكلم معهم أحد.
ماذا كانت النتيجة؟ النتيجة كما تعلمون ـ أيها الإخوة الكرام ـ من انتشار الزواج العرفي ومن كثرة الزنا، كثرة اللقطاء وشيوع ذلك المرض الفتاك، ذلك المرض الخطير الذي لا علاج له حتى الآن، والذي من أعظم أسبابه الفساد الذي يكون بين الرجال والنساء، هذه هي النتائج المُرة.
رئاسة الجمهورية أصدرت قرارًا بتشكيل لجنة لمعالجة هذه المظاهر، وأوكلت رئاستها إلى بعض أهل العلم جزاهم الله خيرًا، خرجت هذه اللجنة بتوصية هي من باب النصيحة ووضع اليد على مكمن الداء ومكان الخطر, وأول ما أوصت بأن يكون للذكور جامعات وللإناث جامعات.
هذه التوصية ـ أيها الإخوة الكرام ـ علاج ناجع ودواء فعّال، لو أخذت طريقها إلى التنفيذ, لكنني أقول: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لن يسكتوا، سيُجلبون بخيلهم ورجلهم، ستصدرُ كتابات، وتدون مقالات، وتلقى خُطَب، ويتكلم كل ناعِق: لم تمنعون؟ لم تفصلون؟ سياسة الفصل ما عادت نافعة، بل لا بد من التحام الرجال بالنساء، فالمرأة نصف المجتمع، إلى غير ذلك من كلام بارد، تعودنا سماعه من أولئك الذين لا يريدون للمجتمع طهرًا ولا نظافة ولا عفافًا ولا استقامة.
نقول: لا أيها المسلمون عباد الله، القول ما قاله الله وما قاله رسول الله ، ليس هناك مجالُ للتنظير ولا للشقشقة، ولا لدغدغة العواطف بمثل هذه الشعارات، المرأة نافعة، لكن ليس بالضرورة أن يكون نفعها قرينًا باتصالها بالرجل والتصاقها به في وسائل المواصلات وفي الجامعات وفي مؤسسات العمل وفي كل مكان الرجل مع المرأة، حتى أدى ذلك إلى شرٍ عظيم, أقول هذه اللجنة جزاهم الله خيرًا قد قامت بما عليها, وواجب على من ولاهم الله الأمر، وواجب على كل جهة منفذة أن تسعى في إحقاق الحق وإبطال الباطل والحيلولة دون الفساد، من أجل أن نأمن على أعراضنا وعلى أبنائنا وبناتنا، ومن أجل أن يسلم ذكورنا وإناثنا من كل تحريضٍ على باطل أو أمر بمنكر.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه ردًا جميلاً وأن يصرف عنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين, وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي الأمين, بعثه الله بالهدى واليقين, لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين, اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين, وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله حق تقاته، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
واعلموا أن من الأسباب المفضية إلى الاختلاط والتي منعتها شريعة الإسلام تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، مما تُرى آثاره وتسمع أخباره في كثير من دور التعليم، وقد قال رسول الله : ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء, والمتشبهات من النساء بالرجال)) ، وأخبر أن ثلاثةً حرّم الله عليهم الجنة ومن هؤلاء الثلاثة رَجُلَة النساء ـ المرأة المسترجلة ـ التي ترتدي قميصًا وبنطالاً، وتقصُّ شعرها، وتتشبه بالرجال في المشية والهيئة، في السمت والصوت، وفي الكلام والسلام، التى تخالطهم، لا تتحاشاهم، ولا ترى حرجًا في الحديث الطويل معهم، مثل هذا الصنف ملعون على لسان رسول الله.
واجب علينا ـ معشر الآباء ـ أن ننشِّئ بناتنا على أنّ لهن مواهب وخصائص، لهن شخصيات وقدرات، للبنات وظيفةُ كلفهنّ الله عزّ وجلّ بها, ومن المنكر الشائع في مجتمعنا والذي درج عليه الناس سنينَ عددًا أن يكون البنون والبنات في المرحلة الثانوية لباسهم متشابها، كأننا نقول للبنات: لا فرق بينكنّ وبين الذكور! الدراسة واحدة والتخصص واحدٌ، اللباس واحدٌ، والمرأة كالرجل!! لا والله، ينبغي أن يكون للبنات لباسهن، وأن يكون لهنّ زيهنّ وَلَيْسَ ?لذَّكَرُ كَ?لأنثَى? [آل عمران:36]، هكذا قانون القرآن، القانون العادل القانون الأبدي، لا يمكن أن تكون المرأة رجلاً، ولا يمكن أن يصبح الرجل امرأة, ما يمكن أن يختلط الحابل بالنابل إلى هذا الحد.
واجب علينا ـ معشر الآباء معشر الأمهات ـ أن ننشِّئ بناتنا على أن تعتزّ الواحدة وتحمد ربها على أن جعلها أنثى، قال الله عزّ وجل: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ?للَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ [النساء:32]، ما ينبغي للمرأة أن تتمنى لو كانت رجلاً، ولا ينبغي للرجل أن يتمنى لو كان امرأة, لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبْنَ وَ?سْأَلُواْ ?للَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمًا [النساء:32]، هذه التربية هي التي نشّأ عليها محمد الرجال والنساء ومَنع الاختلاط.
أيها الإخوة المسلمون، لا يقعدُ بالمرأة عن بلوغ أمل ولا عن تحصيل علم ولا تفاضل في عمل, فقد كان نساء من المؤمنات يشهدن صلاة الصبح مع رسول الله متلفعات بمروطهن ما يُعرفنَ من الغلس، كانت المرأة تشهد صلاة الصبح مع رسول الله ، وكنَّ يشهدن الجمعة والجماعة والغزو والجهاد، وكنّ يتلقّين العلم، ويسابقنَ في مضامير العمل, ما قعد بهن منع الاختلاط عن تحصيل ثواب أو التفوق في الحصول على أجر، لكن أعداء الله عزّ وجلّ يريدون أن يصوِّروا لنا أن منع الاختلاط معناه أن تحرم المرأة من العلم والعمل، يقولون لنا: أتريدون أن نعود إلى عصر الحريم؟! أتريدون لنا أنْ نرجع إلى القرون الوسطى، إلى العصور المظلمة؟! ونحو ذلك من كلام يهوِّلون به، ويخوّفون كل مُصْلِح, كل من يدعو إلى إصلاح، وكل من يدعو إلى منع الفساد، يهولون عليه بمثل تلك الشعارات الباطلة, لكن يبقى الحق حقًا، ويبقى الباطل باطلاً، وإن دان به أكثر الناس, وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
أيها المسلون عباد الله، في أوائل هذا الأسبوع حملت إلينا الأخبار نبأ مشروع لاتفاقية سلام بين الحكومة وحركة التمرد، لكن لما كانت هذه الاتفاقية بنودها ليست واضحة، وما نُشِرَت نشرًا يستفادُ منه فائدة يترتب عليها موقفٌ شرعيٌ يتكلم به الدعاة وأهل العلم، فإنني أُرْجِئُ الكلام عنها إلى أن يتبين أمرها، وتتضح غاياتها، وتستبينَ معالمها، ليكون الكلام مبنيًا على يقين لا على ظن.
ونسأل الله عزّ وجلّ أن يصرف عنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار إلاّ طارقًا يطرق بخير يا رحمن.
(1/3501)
الزواج العرفي
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الكبائر والمعاصي, النكاح, قضايا الأسرة
عبد الحي يوسف
الخرطوم
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الشريعة معناها تحقيق مصالح العباد. 2- إباحة النكاح والحث على تسهيل وسائله. 3- الأنكحة المحرمة والفاسدة. 4- انتشار النكاح العرفي. 5- أدلة تحريمه والفرق بينه وبين النكاح الشرعي. 6- دواعي انتشار هذا النكاح وأسبابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد , وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار, وما قلّ وكفى خيرٌ مما كَثُر وألهى, وإنّ ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فإنّ شريعة الإسلام قد جاءت بإباحة كل حلالٍ طيب, وتحريم كل ضارٍ خبيث؛ كما قال رسول : ((بُعثت بالحنيفية السّمحة)).
كان دينه صلوات ربي وسلامه عليه قائمًا على الحنيفية في العقائد ملّة إبراهيم عليه السلام، وعلى السّماحة في الشرائع، فليس في شريعة الإسلام ما هو في غير نطاق طاقة العبد, لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، وليس في شريعة الإسلام حرج ولا تكليفٌ بما لا يُطاق, بل شريعة الإسلام مبناها على اليسر, مبناها على السهولة, مبناها على الحكمة، ما أباح الله شيئًا من المطاعمِ والمشارب والملابس والمراكب والمناكح وغير ذلك إلا لأنّه نافعٌ طيّب, ولا حرّم علينا شيئًا إلا لأنّه ضارٌ خبيث.
ومما أباحته شريعة الإسلام ورغّبت فيه وحثّت عليه وأمرت بتيسير السُّبل الموصلة إليه الزواج الشرعي الذي يحصل به غضُّ البصر وإحصان الفرج وحفظ النسل وإغناء النفس وقضاء الوَطَر وغير ذلك من المنافع العظيمة، قال الله عز وجل: وَأَنْكِحُواْ ?لأيَـ?مَى? مِنْكُمْ وَ?لصَّـ?لِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَاء يُغْنِهِمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَ?للَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32], وقال رسول الله : ((تناكحوا تناسلوا، فإني مكاثرٌ بكم الأنبياء يوم القيامة)) , وصحّ عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنّه قال لتلميذه سعيد بن جُبير رحمه الله: تزوّج فإنّ خير هذه الأمة أكثرها نساءً، يعني بذلك رسول الله والذي قال: ((النكاح من سنتي, فمن رغب عن سنتي فليس مني)).
هذا الزواج الشرعي مطلوبٌ منّا ـ أيها المسلمون عبادَ الله ـ أنْ يحثّ بعضنا بعضًا عليه, وأنْ يأمر بعضنا بعضًا به, لأنّ الله تعالى أمرنا, ولأنّ نبينا حثّنا وبيّن أنّ هذا النكاح سببٌ للإغناء: ((ثلاثةٌ حقٌ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله, والناكح يريد العفاف, والمكاتب يريد الأداء)). هذا النكاح تقوى به الأواصر, وتعظم به العلاقات بين المؤمنين والمؤمنات, وتنتُج منه الذرية الصّالحة التي تعمُر الأرض بطاعة الله, تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
لمّا كان هذا النكاح بهذه المنزلة العظيمة وبهذه المكانة الجليلة فإنّ شريعة الإسلام قد سنت فيه أحكامًا ووضعت له ضوابط وحدّت له حدودًا، فليس كلُّ نكاحٍ صحيحًا, وليس كلُّ زواجٍ يُعدّ شرعيًا, بل لا بدّ من أركان, لا بدّ من شروط, إذا اختلت فإنه يقعُ فاسدًا, يقعُ باطلاً, لا تترتب عليه آثاره, ولا يحل الإقامة عليه.
أيها المسلمون، عباد الله، مما أجمع عليه أهل الإسلام أنّ نكاح التحليل حرام, وأنّ نكاح المُتعة حرام, وأنّ نكاح الشِّغار حرام, إلى غير ذلك من أنكحة باطلة اتفق على حرمتها أهل الإسلام، قد تأخذ صورة الزواج الشرعي لكنها في حقيقتها تحايل على شرع الله, مسافحةٌ، سفحٌ لماء الحياة في غير ما أحل الله.
أما نِكاح التحليل فهو ما وقع فيه كثيرٌ من الناس إذا ما طلق الرجل امرأته ثلاثا وعلم يقينًا أنها قد صارت عليه حرامًا لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره, فإنّ هذا الإنسان يعمد إلى رجلٍ آخر يتّفق معه على أنْ يتزوج هذه المرأة المطلّقة حينًا من الدهر، يمكث معها يومين أو ثلاثة أو أسبوعًا أو شهرًا, ثم بعد ذلك يطلّقها, لترجع إلى زوجها الأول الذي طلّقها ثلاثًا بعدما تنقضي عدتها من الثاني, هذا النكاح حرام, وهو باطل، قال رسول الله : ((ألا أنبئكم بالتيس المستعار: هو المحلل, لعن الله المحلِّل والمحلَّل له)).
وكذلك نكاح المتعة, وهو الذي أجمع أهل الإسلام على بُطْلانِهِ, ولا يُجيزه ولا يمارسه إلا الروافض الذين شاقوا الله ورسوله, وفارقوا جماعة المسلمين في كثير من الأصول والفروع. نكاح المتعة هو النكاح المؤقت لمدّة, أنْ يتزوج الرجل المرأة لمدّة معلومة ينصّ عليها في العقد, أنْ ينكحها أسبوعًا أو شهرًا أو سنةً ونحو ذلك, هذا النكاح قد حرمه رسول الله فأمر مناديًا ينادي يوم خيبر: ((إنّ الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهلية, وإنّ نكاح المتعة حرام إلى يوم القيامة)) ، نكاح المتعة محرمٌ تأبيدًا، لا يُمارسُه من له نصيبٌ من دينٍ أو حظٌّ من عقل.
أما نكاح الشّغار فهو أنْ يُنكحَ الرجلُ الرجلَ بنته على أنْ ينكحه الآخرُ بنته، والنكاح خالٍ من المهر, شاغرٌ مِنْ الصَدَاق, يقول له: زوجني ابنتك على أنْ أزوجك ابنتي, أو زوجني أختك على أنْ أزوجك أختي, ثم يسقطان المهر، فيكون كل بُضعٍ مهرًا للبُضع الآخر, هذا أيضًا حرام باتفاق أهل الإسلام، قال رسول الله : ((لا شِغار في الإسلام)).
أيها المسلمون، عباد الله، ظاهرةٌ تفشّت, نابِتةٌ نبتت, أقوالٌ حُكِيَت في الآونة الأخيرة, ممارسةٌ فظيعة وقع فيها بعض الناس, شبّانٌ وشابّات, فتيانٌ وفتيات, في الجامعات وغير الجامعات, وهو ما اصطُلح على تسميته بالنكاح العُرفي, كثُر سؤال الناس عنه واستفتاؤهم حوله, كلٌ يسأل: أحلالٌ هو أم حرام؟ ما صورته؟ ما حقيقته؟
صورته أنْ يذهب الفتى إلى الفتاة, الشابُّ إلى الشابّة, ويريد أنْ يُخادِنها في الحرام, يُريد أنْ يُواقِعها في غير ما أحل الله, في غير الزواج الشرعي الذي أباحه الله, لكنه لا يريد أنْ يُسمّيَه زنا, بل يريد أنْ يتحايل, يريد أنْ يُخادِع, فيقول لها: زوجيني نفسك، فتقول له: زوجتك, فيقدم لها مهرًا شيئًا يسيرًا من نقود، أو خاتمًا من فضةٍ أو ذهب, ثم بعد ذلك تُكتب ورقة يشهد عليها اثنان من أصحابهما، زملائهما، ممن كانوا على شاكلتهما. تُكتب ورقةٌ من نسختين تكون إحداهما عند الشاب, والأخرى عند الفتاة، ثم بعد ذلك يواقِعها حتى يُرضيَ نزْوته ويُشبع شهوته ويَقضيَ وَطَره, ثم بعد ذلك يقول لها: أنت طالق. هل هذا نكاحٌ شرعي؟ هل هذا زواجٌ إسلامي؟
الجواب: أيها المسلمون، عباد الله، إنّ هذه المعاملة وتلك الفعلَة هي من جنس ما أخبرنا عنه رسول الله : ((يأتي علي الناس زمان يشربون الخمر يُسمّونها بغير اسمها. يأتي على الناس زمان يأكلون الربا يُسمّونه بغير اسمه)) , هذا هو الواقع الحاصل الآن, كثير من الأمور المحرمة مُورِست بأسماء موهمة, فيسمون الخمر: شراب الراحة أو مشروبات روحية, ويسمون الرّبا: فوائد أو عائدًا استثماريًا, ويُسمون الحكم بغير ما أنزل الله وتبديل الشريعة: سياسة, إلى غير ذلك من الأباطيل, الجهاد في سبيل الله جعلوه إرهابًا, التزام الشرع في النفس جعلوه تطرفًا, وقل مثل ذلك في أمورٍ كثير.
وهكذا أيها المسلمون عباد الله، ينبغي أن يُعلم أنّ هذا الذي يُمارسُ في أيّامنا هذه باسم النكاح العُرفِي أو الزواج العُرفِي هو زِنًا حَرّمه الله ورسوله، لا يحل لمسلم ولا مسلمة أنْ يقع فيه ولا أنْ يُمارسَه, لِمَ أيها المسلمون عباد الله؟ لسببين رئيسين:
السبب الأول: أنّ هذا الذي سموه زواجًا تمّ بغير علم الولي, بغير علم وليّ الفتاة, وقد صحَّ عن رسول الله أنّه اشترط الوليّ في صحّة النكاح, وجمهور العلماء على أنّ كلّ زواجٍ خلي من الوليّ فهو باطلٌ باطلٌ باطل. ما الدليل على ذلك؟ الدليل من القرآن أنّ الله عز وجل خاطب بالنكاح الأولياء، يقول سُبحانه: وَإِذَا طَلَّقْتُمُ ?لنّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ إِذَا تَر?ضَوْاْ بَيْنَهُم بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، هذا الخطاب لك أيها الأب أيها الأخ أيها الجد أيها العم, يا من ولاك الله أمر فتاةٍ مِنْ المؤمنين, إذا طُلّقت هذه الفتاة التي ولِيت أمرها ثم بعد ذلك بعد بلوغ أجلها وانقضاء عدّتها رغب زوجها الذي طلّقها في أنْ يراجعها وكانت هي كذلك راغبةً فلا يحل لك أنْ تمنعها الله عز وجل، يُخاطبك أنت، لأنّ عُقدة النكاح بيدك، أنْت الذي تملك أنْ تُزوِّج, وأنت الذي تَمنع فلا ينعقد الزواج إلا برضاك, يَدلُّ على ذلك سبب نزول هذه الآية وهو ما رواه الإمام البخاري عن معقِل بن يسار رضيَ الله عنه أنّه زوّج أختًا له مِن رجلٍ, فعاش معها ما كتب الله له أنْ يَعيش ثم طلقها، فلما انقضت عِدتُها جاء يَخطِبُها ثانيةً، فقال له معقل: يا لُكَع ـ أي: يا لئيم ـ، أكرمتُك وأفرشتك وزوّجتُك، فلم تصبر عليها حتى طلّقتها ثم جئت تخطبُها! لا والله لا تعود إليك أبدا، يقول رضي الله عنه وكان الرجل لا بأس به، مرْضيٌ في دينه وخُلُقه, وكانت المرأة تُريد أنْ ترجع إليه, فلمّا بلغ ذلك رسول الله نزلت الآية: فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْو?جَهُنَّ إِذَا تَر?ضَوْاْ بَيْنَهُم بِ?لْمَعْرُوفِ [البقرة:232]، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله. رجع إلى حكم الله, خضع لشرع الله, زوّج أخته ممن طلّقها رغم أنّ ذلك كان يُخالف رغبته.
ثم من السنة في حديث أبي موسى رضي الله عنه قال رسول الله : ((لا نكاح إلا بوليٍّ وشاهدي عدل)) رواه أصحابُ السنن، ومن حديث أمّنا عائشة رضي الله عنها قال رسول الله : ((أيُما امرأةٍ نكحت نفسها بغير إذن وليِّها فنِكاحُها باطل, فنِكاحُها باطل, فنِكاحُها باطل, فإنْ دخل بها فله المهر بما استحل من فرْجها, فإنْ اشتجروا فالسلطانُ وليُّ مَنْ لا وليَّ له)) ، ومِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله : ((لا تُزوّجِ المرأة المرأة, ولا تزوجِ المرأة نفسها, فإنّ التي تزوج نفسها هي الزانية)). ما بقي مقالٌ لأحد بعد ما قاله رسول الله , يُخبر أنّ النكاح بغير إذن الولي نكاحٌ باطل, وأنّ المرأة التي تُباشر العقد لنفسها زانية.
وكلٌّ منّا ينبغي أنْ يسأل نفسه أيها المسلمون عباد الله: أيرضى هذا لابنته؟ أيرضى هذا لأخته؟ أنْ تكون في الجامعة، أو أنْ تكون في المصلحة، أو في الوزارة, ثم بعد ذلك تتفق مع رجلٍ آخر فتتزوجه، والوليُّ لا علم له, هذا والله حرام.
ثم سبب ثانٍ يُقضى به بفساد هذا النكاح, إنّه نكاح سرٍّ, نِكاحٌ يتواطأ مَنْ حضره على كتمانه, هذا الفتى يلقى تلك الفتاة على غير مرأى من الناس, الشهود الذين حضروه يكتمونه, ويتواصون بأن لا يخبروا أحدًا, يلتقون كما تلتقي اللصوص في خفيةٍ مِنْ الناس, لِمَ؟ لأنّهم يعلمون أنهم يُمارسُون إثمًا, ويقترفون ذنبًا, ويحتقبون وزرًا، الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطّلع عليه الناس.
أما النّكاح الشرعي, النّكاح الطيب, النّكاح المباح, فكما قال رسول الله : ((أعلنوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف)) , يُعلن في المسجد بمشهد مِنْ المسلمين وحضورٍ مِنْ المؤمنين أنّ فلان بن فلان قد نكح فلانة بنت فلان, ثم بعد ذلك يُضرب بالدفوف, ويعلم الناس كلهم أجمعون أنّ فلانًا تزوّج مِنْ فلانة. أما هذا فإنّه يكون سرًّا مَنْ غير إشهارٍ ولا إعلانٍ, ولا يَعرِف به إلا منْ حضروه.
ثم إنّه ـ أيها المسلمون عباد الله ـ يُمكن أنْ يُضاف لهذين السببين سببٌ ثالث: وهو أنّ النّكاح لا يصحُّ إلا بشهودٍ عدولٍ, لا بد أنْ يكون الشهود عدولاً, موصوفين بالعدالة, ما عُرِف عنهم سببُ منْ أسباب الفسق, ولا خارمٌ مِنْ خوارم المروءة, أما هؤلاء الذين يشهدون على هذا النوع مِنْ النكاح فإنّهم في الأعم الغالب يكونون فسقةً فجرةً، لا يرجون لله وقارًا, لا يعرفون شرعًا ولا دينًا, لا يحلُّون حلالاً, ولا يُحرمون حرامًا, ولا يَنضبطون بضابطٍ مِنْ الكتاب ولا مِنْ السنة.
أيها المسلمون، عباد الله، الوليُّ شرطٌ في صِحّة النّكاح, مَنْ الوليّ؟ الأبُ هو ولي المرأة, فإنْ لم يكن فأبوه وإنْ علا، فإن لم يكن فابنها, ثم ابنه وإنْ نزل, ثم الأخُ الشقيق وابنه, ثم يأتي بعد ذلك العُمومة, فإنْ كانت امرأةٌ ليس لها أبٌ ولا أخٌ لا عمٌّ, لا يوجد لها وليٌ قط فالسلطان وليُّ مَنْ لا وليّ له, كما أخبر رسول الله. والسؤال الذي يطرح نفسه أيها المسلمون عباد الله: ما الذي أوصلنا إلى هذا الدّرْك؟ وما الذي دفع بطائفة مِنْ شبابنا وفتياتنا إلى هذه الممارسات القبيحة الشنيعة الفظيعة التي ما عَرفها أسلافنا ولا كانت في أجدادنا، وإنّما هي نابتةٌ نبتت, وظاهرةٌ تفشت؟ ما الذي حَمَلَ عليها؟ الذي حمل عليها ـ أيها المسلمون عباد الله ـ جُملة أسباب:
أولها: أنّ كثيرًا من الشباب فقد الأمل, فإنه يرى أنّ الزواج الشرعي الزّواج المعروف دونه عقباتٌ كؤود, دونه قيودٌ وسدود, لا بدّ أنْ يتخطاها, لا بد من مالٍ يُبذل, لا بد مِن ملابسَ تُجلَب, لا بد من حفلاتٍ تُقام, لا بد مِن طعام يُوزّع, لا بد مِن نفقاتٍ باهظة, وهذا كلّه مما خالفنا فيه سُنة رسول الله الذي علّمنا أنّ أكثرهنّ بركةً أيسرهنّ مؤونةً. إنّ رسول الله كان ينكح نساءه رضوان الله عليهن في مظاهر خفيفة، في طعام يسير, ربّما أولمَ في بعض زيجاته بخبزٍ ولحم, ربّما أولم في بعض زيجاته بسويقٍ وتمر, السويق شراب الشعير وتمرٌ يُوزع على الناس, ربّما في بعض زيجاته أمر بالأنطاع فبُسطت, وأمر الصحابة بأنْ يأتي كل منهم بما يستطيع, فيأتي هذا بقبضةٍ مِنْ تمر, وذاك بشيءٍ مِنْ أقِط, وهذا بقليلٍ مِنْ خبز, يوضع هذا على النطْع ـ الجِلد ـ ثم يأكلون جميعًا، ويُعلم بذلك أنّ رسول الله محمدًا قد تزوّج فلانة بنت فلان.
هكذا كانت أمورهم يسيرة, مظاهر خفيفة, يحصُل بها الإعفاف والإعلان وتحليل الحلال وتقوية الروابط وتوثِقَة الأواصر, ويعم الخير بإذن الله. لكنّ الحال غيرُ الحال، على ما بِنا مِنْ فاقةٍ وجهل, على ما بنا مِن شدةٍ وعُسر, زدنا الأمر تعسيرًا بهذه المظاهر المتكلفة.
ثم سببٌ ثانٍ أيها المسلمون عباد الله: أنّ كثيرًا مِنْ الأولياء لا يتّقي الله في بناتهِ, كثيرٌ من الآباء لا يتّقي الله في بناتهِ, قد تبلغ البنت مِنْ الكِبَر عِتيّا ويشتعل رأسها شيبًا وتتخطى الثلاثين وتُعاني ما تُعاني, ثم بعد ذلك يشترطُ شروطًا ويضع قيودًا, لا بدّ أنْ يأتيها رجل يخطبها بمنزلة كذا, ومكانة كذا, مِن قبيلة كذا, على أنْ يأتي مِن الملابس بكذا وكذا, وبالذهب بكذا وكذا, وكثيرٌ مِن الرجال الزوجة ـ أمُّ الفتاة ـ هي التي تتحكم فيه, وهي التي توجّه قراره، وهي التي تضبط أمره، فإذا كان أغنياؤُكم بخلاءَكم وأمراؤُكم شرارَكم وأمرُكم إلى نسائكم فبطن الأرض خيرٌ لكم مِن ظهرها، إذا كان الرجل سيُسلم أمر بناته إلى الأم, هي التي تقبل وهي التي ترفض, هي التي تضع وهي التي تفرض فبطن الأرض خيرٌ مِن ظهرها.
الله عز وجل ما جعل الولاية بيد المرأة، جعلها بيدك أنت أيها الرجل, واجبٌ عليك أنْ تسعى في تزويج بناتك, واجبٌ عليك أنْ تسعى في إحصانهنّ, في إعفافهنّ, وإلا كثيرٌ من الناس يقول: ما تزال صغيرة, ويبلغ قلّة الدين ببعض الرجال أنْ يتقدم إلى بنته رجلٌ ذو دينٍ وخُلُق, وربما يكون ذا وظيفةٍ ومالٍ يتقدم لخطبتها, يقول له: لا مانع عندنا، ولكن بشرط أنْ تنتظر إلى تُكمل دراستها الجامعية. وقد تكون دراستها الجامعية بقيت عليها أربع سنوات أو خمس سنوات, لِمَ يا عباد الله؟ حرامٌ والله أنْ نؤخِّر، قال رسول الله : ((إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخُلقهُ فزوّجوه, إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير)).
سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لمّا مات زوج ابنته حفصة وهو السكران بن عمرٍ رضي الله عنه, فانقضت عدتها ما مكث عمر بن الخطاب في بيته يقول: أنا الشريف القرشي, أنا الأميرُ العدوي, أنا عمر بن الخطاب, فليأتِ الخاطب متى يأتي. لا والله، سعى في تزويج ابنته, سعى إلى الرجال الصالحين, سعى إلى المؤمنين الطيبين, ذهب إلى أبي بكر قال: يا أبا بكر، إنْ شئت زوّجتك حفصة، فسكت أبو بكر. ذهب إلى عثمان فقال له: يا عثمان، إن ْشئت زوجتُك حفصة، قال عثمان: لا حاجة لي فيها. يأتي عمر رضي الله عنه مهمومًا مغمومًا, وهكذا الرجل الصالح يكون مهمومًا مغمومًا بأمر ابنته, يُريد تزويجها, يريد لها أنْ تعيش في كنف رجلٍ صالح, في بيتٍ طيّب, يريد لها الإحصان والعفاف, يريد لها الاستقامة والصلاح, جاء عمر مهمومًا مغمومًا, فلقيه الرؤوف الرحيم الرسول الكريم عليه مِن الله أفضل الصلاة وأتم التسليم فقال له: ((ما شأنُك يا عمر؟)) قال: يا رسول الله، عَرضتُ حفصة على عثمان فأبى, وعرضتها على أبي بكر فسكت، فكنت على أبي بكر أوجد مني على عثمان، فقال له رسول الله : ((يتزوج حفصة مَنْ هو خيرٌ مِنْ عثمان ـ يعني نفسه عليه الصلاة والسلام ـ، ويتزوج عثمانُ مَنْ هي خيرٌ مِنْ حفصة)) يعني ابنته أمُّ كلثوم رضي الله عنها, فتزوج النبي عليه الصلاة والسلام حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وصارت أمًّا للمؤمنين وزوجة للنبي الكريم عليه الصلاة والسلام.
أيها المسلمون عباد الله، هؤلاء قدوتنا, أسوتنا, ما ينبغي أنْ نُعسّر الأمر, وأنْ نضع الشروط, وأنْ نتشدد ونتنطّع لأننا إنْ لم نفعل, إنْ لم نُيسّر هذا الزواج تكون فتنة في الأرضِ وفسادٌ كبير, مِنْ جنس ما نرى, فتنة في الأرض وفساد كبير، زواجٌ عُرفي, زنًا صريح, كثرة لُقطاء.
يُحدثني بعض من يقوم على دار الأيتام أنّه في الشهر الذي مضى وحده ثمانية وخمسون من الأطفال اللُقطاء في دار رعاية الأيتام ماتوا نتيجة سوء التغذية وقلّة الرعاية, مِنْ أين هؤلاء الأطفال اللُقطاء؟ مِنْ أين أتوا؟ مِنْ جهة أنّ رجلاً فاجرًا لقي امرأة فاجرة, فوضع فيها بذرة حرامًا وأراق ماء الحياة على غير وجهه, فكانت هذه الثمرة التي ستشكو إلى ربها ظلم العباد.
نسأل الله أنْ يردّنا إلى دينه ردًا جميلاً, نسأل الله أن يردّنا إلى دينه ردًّا جميلاً، وأنْ يُحصّن فروجنا, وأنْ يستر عوراتنا, وأن يحفظ بناتنا, وأن يصون أعراضنا, وأنْ يصرف عنا شرّ كلّ ذي شرّ هو آخذ بناصيته, والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العلمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلاّ الله إله الأولين والآخرين, وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمدًا عبدُ لله ورسوله النبي الأمين, بعثه الله بالهدى واليقين, لينذر من كان حيًّا ويحق القولُ على الكافرين, اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين وآل كلٍ وصحب كلٍ أجمعين, وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، عباد الله، فاتقوا الله حقّ تُقاته، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31].
واعلموا ـ أيها الإخوة في الله ـ أنّ مِن الأسباب التي أدت إلى شيوع هذه الظاهرة وتفشي هذا الأمر الخطير ما هو حاصلٌ من اختلاطٍ للذكور بالإناث في الجامعات, في المؤسسات, في الوزارات, في الشّركات, في وسائل المواصلات, في غير ذلك مِن المرافق والخدمات، الرجال مع النساء، ترتفع الكُلفة ويزول الحجاب, ويحصل ما حرّم الله عز وجل مِن أصنافٍ كثيرة وأنواعٍ شهيرة مِن زنا أو زواجٍ عُرفيٍ أو غير ذلك, فالاختلاط درجة أُولى في سُلّم الفساد, ينبغي أنْ يُمنع وأنْ يُحال بين الناس وبينه، كما فعل سيّدنا رسول الله ؛ جعل للنساء في الصلاة صفوفًا, وللرجال صفوفًا, جعل للنساءِ بابًا، وللرجال بابًا, وأمر بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء.
أيضًا مِنْ الأسباب التي أدت إلى هذا المنكر هذه المسلسلات وهاتيك الأفلام وتلك المسرحيات والتمثيليات التي تُعرض على الناس فتُزيّنُ الفاحشة وتُشيعها في الذين آمنوا, هذا سببٌ عظيمٌ من أسباب الفساد.
ثم مِن الأسباب كذلك أنّ الناس قد أماتوا سُننًا عظيمةً سنّها رسول الله , أماتها الناس وضيّعوها. مِنْ سنّة رسول الله تيسير الزواج, من سنّة رسول الله أنّه لا مانع مِنْ أنْ يعرض الرجل ابنته على الرجل الصالح الذي يرجو برّه ويرجو خيره ورِفدَه. ومن سنن رسول الله أن يتزوج الرجل اثنتين وثلاثًا وأربعًا, حارب الناس ذلك عن طريق المسلسلات والقَصَصِ والحكايات والكتب والمجلات والنّكات التي تتداولها الألسُن, حاربوا سنّة التعدّد التي أمر بها رسول الله ، بل أمر الله بها في كتابه: فَ?نكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ?لنّسَاء مَثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَو?حِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـ?نُكُمْ [النساء:3], حارب الناس هذه الشريعة فأبدلهم الله عز وجل بهذه الأحوال الوضيعة, هذه الأحوال التي يضجّ مِنها الناس ويتألمّون منها, لكنهم لا يستطيعون لها علاجًا, العلاج في شرع الله, العلاج في دين الله.
وإيّاك يا عبد الله، وإيّاك أيها الشاب أنْ تبدأ حياتك الزوجيّة بمعصية الله عزّ وجل. كثير مِن الناس إذا بدأ حياته الزوجيّة يبدأ باختلاط وغناءٍ فاحشٍ وموسيقى يتأذى مِنها الجيران والخلان والأصحاب. كثيرٌ مِن الناس يبدأ حياته الزوجية بمصاريفَ باهظة ونفقاتٍ عالية وديونٍ قاتلة, ثم بعد ذلك يبدأ في الشكوى حيث لا تنفعه الشكوى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ?لْقِيـ?مَةِ أَعْمَى? قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى? وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذ?لِكَ أَتَتْكَ ايَـ?تُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذ?لِكَ ?لْيَوْمَ تُنْسَى? [طه:124-126]. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أيها الناس، لا تغالوا في المهور, فإنها لو كانت مكرمةً في الدنيا أو منزلةً في الآخرة, لكان أولى الناس بها نبيكم , ما تزوج إحدى نسائه على أكثر مِن ثنتي عشرة وقيّة)، أكثر نسائه أم حبيبة رضي الله عنها، كان مهرها اثنتي عشرة وقية, وكانت البساطة والزهد السمة الغالبة, يخطب رسول الله أمّ سلمة فتقول له: يا رسول الله، ليس أحدٌ مِن أوليائي شاهد، يقول لها: ((ليس مِن أوليائك شاهدٌ ولا غائبٌ إلا ويرضى هذا الزواج)) ، لن يرفضه أحد ولن يأباه أحد، ماذا تقول أم سلمة رضي الله عنها؟ تقول لولدها، لصغيرها عمر: قم ـ يا عمر ـ زوّج رسول الله. ما باشرت العقد بنفسها رضي الله عنها, وفي الوقت نفسه ما تنطعت وقالت: لا حتى يحضر العمّ مِن السفر وحتى يأتي الأب مِن كذا، قم ـ يا عمر ـ زوج رسول الله.
لمّا خطب أبو طلحة الأنصاري أم سليم رضي الله عنهما قالت أم سليم: يا أنس، قم زوج أبا طلحة، تقول لولدها أنس: يا أنس، قم زوّج أبا طلحة. هكذا كانت أمورًا يسيرة, حياةً مضبوطة بضوابط الشرع, فأثمرت خيرًا كثيرًا في العاجل والآجل, وما زلنا نتفيأ تلك الظلال الوارفة, ظلال أصحاب محمدٍ الذين اتبعوا سنته, وعظّموا شريعته, فكانوا أبرّ هذه الأمة قلوبًا, وأعمقها هديًا, وأقلها تكلُّفًا, فاتّبعوهم ـ أيها المسلمون ـ لعلكم تفلحون.
(1/3502)
عيد الفطر 1425هـ: حديث الإصلاح
العلم والدعوة والجهاد
الإعلام, قضايا دعوية
صالح بن عبد الله بن حميد
مكة المكرمة
1/10/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهل العيد. 2- الفرح بالعيد. 3- سبب ازدهار المشاريع الإصلاحية لدى المسلمين. 4- منطلق الإصلاح. 5- ضرورة بيان الغاية من خلق الإنسان. 6- سبيل الإصلاح الوحي. 7- مطلب حب الديار والأوطان. 8- أهمية عدالة الحكم ونزاهة القضاء في تحقيق الإصلاح. 9- فضل الفكر الحر. 10- دور الإعلام في البناء والهدم. 11- إعلام الفتنة. 12- الإعلام المطلوب. 13- السعداء بالعيد. 14- الحثّ على استدامة الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبرُ كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحانَ الله بكرة وأصيلاً.
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله، فاتقوا الله رحمَكم الله، وتأمَّلوا في الأحوال، وانظروا في العواقِب، فالسعيد من لازَم الطّاعةَ وجدَّ في المحاسبة ورفع أكُفَّ الضراعة، والعاجِزُ مَن ركِب سفينة التّسويف والتفريطِ والإضاعة، فالزَموا التقوَى والعملَ الصالح، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:235].
أيّها المسلمون، تقبَّل الله طاعاتِكم وصالحَ أعمالكم، وقبِل صيامَكم وقيامكم وصدقاتكم ودعاءَكم، وضاعف حسناتِكم، وجعل عيدَكم مباركًا وأيّامَكم أيامَ سعادةٍ وهناء وفضلٍ وإحسان وعمل. العيدُ المبارك لمن عمَر الله قلبَه بالهدى والتُّقى، في خُلُقٍ كريم وقلبٍ سليم، غنيٌّ محسن وفقير قانِع ومبتلًى صابِر، تعرِفهم بسيماهُم، رجالٌ صدَقوا ما عاهَدوا الله عليه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشرَ المسلمين، حقٌّ لأهلِ الإسلام أن يفرَحوا بعيدِهم، فلهم في هذا فرحتان: فرحةُ الفطرِ وامتثال الأمر، وفرحةُ الأملِ بُحسن الجزاء وعظيم الأجر. ومع كلِّ دواعي الفرَح وبواعِث الآمَال والاستبشار وحسنِ الظنّ بربّ العالمين غيرَ أنه لا بدَّ من كلمةٍ تقال في هذه الأيام وأحوالُ المسلمِ وأمّتِه في عيدها على ما يَرَى المبصرون ويتفكَّر المتفكِّرون.
أيّها المسلمون، لقد ازدَهَرت صناعةُ المشاريع الإصلاحيّة في أغلبِ الأقطارِ الإسلامية بسبَب الأزَمات المتتالية والابتلاءات النازِلة والأحوالِ المتقلِّبَة، وبسبب طروحاتٍ من الدّاخل والخارج، ومِن المُسلَّم به لدَى كل عاقلٍ أنّ الإصلاحَ إن لم يكُن منَ الداخلِ فهو مسخٌ للهويّة وذوبانٌ للشخصية وارتماء في أحضان الآخرين، ليس من العقلِ ولا من الأمانةِ ولا من الديانةِ أن يخطِّط مخطّطٌ أو يرسُمَ راسم منهَجًا إصلاحيًا مغفِلاً طبيعةَ أمته ومركزَها ومكانتها، بل لا يمكِن أن ينجحَ إصلاحٌ ما لم ينسجِم مع مبادئ الأمّة وثوابِتها وأصالتها.
الإصلاحُ يجب أن ينطلِقَ مِن رؤيةٍ واضحَة للحاضِر والمستقبَل وفهمٍ عميق للواقِع المتغيِّر لتنشأَ الأجيال منسجِمةً مع متطلَّبات عصرِها، متماشيةً مع المتغيِّرات، محافظةً على مقوِّمات الأمّة وقِيَمها.
يجِب الحذَر أن يكونَ هناك انفصام بين الإصلاحِ والحياة، أو انفصالٌ بين مطالبِ الحياة ومحتوَى الإصلاح. لقد أخفَقت كثيرٌ من الأجيالِ حين تعرَّضت لإصلاحاتٍ مخفِقَة فاشِلة قام بها فاشِلون أو متطِّفلون كانوا في وادٍ وطبيعةُ الأمّة وطموحَاتها ورَغَباتها وآمالها ووحدتها في وادٍ آخر، فلا على الأصيل حافَظوا، ولا مِنَ الجديد استفادوا وأنتَجوا، ملؤوا العقولَ بثقافاتٍ دخيلة، وخدَّروا الضمائرَ بأماني مضلِّلَة، وثُبِّطت العزائمُ بخَيبات أملٍ متتالِية، حتى بدأ الشّعور لدى الأجيالِ بالإحباط، وحتى صاروا يشكُّون في قُدُراتهم ومواهِبِهم، وضعُفت ثقتُهم في أنفسِهم، وولَّوا وجوهَهم شطرَ من تفوَّق عليهم وغَلَبهم وأذلَّهم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، وحتى لا يكونَ الكلامُ نقدًا مُجرَّدًا أو تَلاوُمًا غيرَ مُفيد لعلَّ مِنَ المناسِبِ الإشارةَ إلى بعض الخطوطِ الكبرَى في سبيلِ الإصلاحِ كما يرسمُها بعضُ أولي العلمِ والرأي.
إنَّ أوّلَ ما يجب التوجُّه إليه وتأكيدُ ثباته وضرورة الاستمساك به ورسوخه وترسيخه بيانُ غايةِ الإنسان في هذه الحياةِ وحقيقة وجوده، ونحن أهلَ الإسلام الصورةُ عندنا في ذلك واضحةٌ، لا لبسَ فيها ولا مساوَمَةَ عليها، وهي واضحةٌ في هذه الآيات الكريمات، قولِ الله عز وجل: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وقول الله عز وجل: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]، وقول الله عز وجل: هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا [هود:61] أي: طلب منكم عِمارَتها، وقول الله عز وجل: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام:161، 162].
الناسُ هم الناس، والدّيار هي الدِّيار في كلِّ أصقاع الدنيا، ولكنّ سبيلَ الإصلاح والحضارة وطريق النّورِ والبناء هو وحيُ الله عزّ وجلّ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
إنّ أمّةَ الإسلام بماضيها وحاضِرها ومستقبَلها وسلَفِها وخلفها وكلِّ أجيالها قائمةٌ على الدِّين، فإذا استُبعِدَ من الإصلاحِ فلن يبقى لها شيء ولن تقوم لها قائمة، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10].
معاشِرَ المسلمين، ومِن خطوطِ الإصلاح الكبرى النظرُ في الدّيار والأوطان وحبّها والانتماء إليها والدِّفاع عنها، وهذا أمرٌ مقرَّر في ديننا بصورةٍ لا لبسَ فيها ولا غموض، وتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ هذه الآياتِ في كتاب الله: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا [البقرة:246]، فالقِتالُ من أجلِ الدّيار هو قتالٌ في سبيل الله، وقولَه سبحانه: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ [النساء:66]، فانظر كيفَ جعَل الإخراجَ من الديار قرينَ قتلِ النفوس، بل إنّ العلاقةَ بين المسلمين وغيرِهم مرتَبِطةٌ بهذين الأمرين الأساسِيَين: الدّينِ والدّيار ، فهما محوَر تحديدِ العَلاقة سلبًا وإيجابًا، اقرؤوا ـ رحمكم الله ـ هاتين الآيَتَين وتأمّلوها: الأولى في جانب العلاقَةِ الإيجابية: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8]، والآية الثانية في جانب العلاقة السَّلبية والمفاصَلة: إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ [الممتحنة:9].
الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
معاشرَ الأحِبّة، ومن خطوطِ الإصلاح الكبرى عدالةُ الحُكم وحمايَةُ الحقوق وسيادَة النظام وكَفّ الظلم ورَفع المظالم ونَزاهة القضاء؛ لأنّ ترسيخَ العَدل بنُظُمِه ومبادِئِه هو تجسيدٌ لمبادِئِ المجتمَع في الحقوق والواجباتِ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58]، أمّا حينما تكونُ الأنظِمَة خادِمَةً لبَعضِ أصحاب المصالح والكُبَراء فهذا من أكبرِ أسبابِ الفساد والانهيارِ وهلاكِ الأمَم، وتأمَّلوا هذا الحديثَ العظيم، يقول نبيّنا محمّد : ((إنما أهلَكَ الذين كانوا قبلَكم أنهم كانوا إذا سَرَق فيهم الشّريف تركوه، وإذا سَرَق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحد. وايمُ الله، لو أنّ فاطمةَ بنت محمّد سَرَقت لقطعتُ يدَها)) [1].
إنَّ منهجَ الإصلاحِ لا يكونُ إلا في قوّةِ الحكم واستقامةِ العَدل ونزاهة القَضاء والصّرامَةِ والحَزم في إيصالِ الحقِّ لمستحِقِّه وكفِّ المتطاولين على العدالَةِ ورَدعهم وزَجرهم ومجازَاتهم، فذلك من أكبرِ الضروريَات وأَولاهَا لتحقيق الإِصلاح الحقّ وحمايةِ المجتمَع واستقرارِه في كافّةِ ديارِ الإسلام، ومن أحقُّ بهذا الحَزم من أهلِ الإسلام؟!
عبادَ الله، ومِن حقوقِ الإصلاح الكبرى الفِكرُ الحرّ والتّفكير الحرّ. إنّ العقلاءَ والحكماء يؤكِّدون على أنّه لا خوفَ من الفِكر الحرّ والتّفكير الحرّ؛ لأنّ كلَّ تفكيرٍ حرّ سوفَ يصِل إلى الحقيقة، إن لم يدرِكِ الحقَّ فهو في طريقِهِ إليه، والسّلامَةُ مكتوبَةٌ له، والنّجاة مضمونَة له، ودينُنا أعطى المجتهدَ المصيب أجرين، والمجتهدَ المخطِئ أجرًا واحدًا.
إنّ حريّةَ الفكر هي إعمالُ العقلِ المخلِص المتجرِّد في البَحثِ والنّظر واستخلاص النّتائج وفهمِ النصِّ في استكمالِ أدواتِ العِلم والمعرفة، وحينما يصِحّ التوجُّه وتصدُق النوايا ويتحقَّق التجرُّد والإخلاصُ والحِيَادِية فسوف يتِمّ التّفريقُ بين الطَّرحِ الأمينِ الناتج عن تفكيرٍ حرٍّ نزيه ولو صاحَبَه خطأ وبين الطَّرحِ الملتَبِس بالهوى والارتِزاق بالمبادِئِ والمثالِيَات بانتهازيّةٍ ووصولية.
إنّ رسوخ التفكير الحرّ والشخصية المستقِلّة يتِمّ به البناء القويُّ للفرد والمجتمع، والمسلِم يستمدّ حرّيتَه الفِكريّة من هوِيتِه المسلمة. على أنّه ينبغِي في المُطارحاتِ الفِكرية والنّقاشاتِ والحوارات أن يُدرَك أنّ كثيرًا من الخلاف بين المختَلِفين ليس خِلافًا بين حقٍّ وباطل، ولكنّه خِلاف بين حقٍّ وحقّ، وتأمّلوا كلامَ شيخِ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله حين يقول: "وكثيرٌ من أربابِ العِبادة والتصوّف يأمرون بملازَمَةِ الذّكر ويجعَلون ذلكَ هو بابَ الوصول إلى الحق، ـ قال رحمه الله: ـ وهذا حسَن، إذا ضمّوا إليه تدبُّرَ القرآن والسنّةِ واتّباعَ ذلك"، قال: "وكثيرٌ مِن أربابِ النّظَر والكلامِ يأمرون بالتّفكُّر والنّظَر ويجعَلون ذلك هوَ الطريقَ إلى معرفةِ الحقّ والنظر الصحيح، ـ قال رحمه الله: ـ فكلٌّ منَ الطّريقين فيها حقّ، لكنّه يحتاج إلى الحقّ الذي في الأخرَى، ويجب تنزيهُ كلٍّ منهما عمَّا دخَل فيهما من الباطل"، ثم إنّه رحمه الله يعلِّل هذا السلوكَ الإنسانيّ فيقول: "وسَبَب ذلك أنّ الإنسانَ فيه ظلمٌ وجهل، فإذا غلَبَه رأيٌ وخُلُق استعمَلَه في الحقِّ والباطل جميعًا" [2].
وإذا كان الأمرُ كذلك ـ يا عبادَ الله ـ فإنّ منَ العسير أن يُرجَى الحقّ ويُطلب وتُبتَغَى الحِيادِية والمِصدَاقية النزيهَة ممن يغيِّر ولاءاتِه كما يغيِّر لباسَه، الغايةُ عنده تبرِّر الوسيلة، والمبادِئ والأخلاقُ عنده تحتَ إِمرَة السّياسة، يسير في رِكاب الأغنى والأقوَى توفيرًا للأَمنِ الوظيفِي على حسابِ دينه ومصلحة وطَنِه ومصيرِ أمّته والولاءِ لولاةِ أمرِه، كما جسَّد ذلك التنزيلُ العزيز: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52]. ومن كان على هذه الشّاكِلَةِ سوف يردِّدُ ما يردِّدُه الأقوى، وسوف يتبنَّى ما يطلُبُه الغُزاة.
وبعد: أيّها المسلمون، فهذه بعضُ الرّؤَى، وهذا بعضُ التّشخيص، وتِلك بعض الأحوال، فاتَّقوا الله ربَّكم، ولْيقِف أهل العلم والرأيِ والثقافة والإعلامِ موقفَ صِدقٍ ضدَّ الهَجمَةِ الشّرِسَة على الأمّةِ في دينها ودِيَارِها ومبادئها، إنهم إن لم يفعَلوا ذلك فإنّ البلاءَ محيط والمصيبةَ كبرى، ولن تنفَعَ المواقِفُ المتأرجِحَة والرُّؤى الباهتة، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا [النساء:45]، إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد. الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
[1] أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3475)، ومسلم في الحدود (1688) عن عائشة رضي الله عنها.
[2] مجموع الفتاوى (4/40).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مُعظِم الثّواب ومُجزِل الأجر، لا إلهَ إلا هو له الحمدُ في الأولى والآخرة ويعلَم ما في البر والبحر، أحمده سبحانه وأشكره، أتمَّ علينا صيامَنا وبلَّغنا عيد الفطر، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له شهادةَ مخلصٍ في معتَقَده، وأشهد أنّ سيّدَنا ونبيّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله نبَع الماء مِن أصابِع يدِه، صلى الله وسلّم وبارك عليه، أتقى البريّة وأزكَاها، وعلى آلِه وأصحابِه أفضلِ الأمّة بعدَ نبيها وأتقاها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان، صلواتٍ وسلامًا وبركاتٍ لا تتناهى.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، لا يكتمِل الحديث عن الإصلاح وخطوطِه الكبرَى مِن غيرِ الإشارةِ إلى دَور الإعلامِ بصُحُفه وقنواتِه وإذاعاته وشبَكات معلوماتِه. العَصرُ عصرُ إعلام، والدَّولةُ دولةُ الإعلام. وللإعلامِ في حديثِ الإصلاح وزمَن الفتَن والابتلاء دورٌ عظيم متعاظِم في البناءِ وفي الهدمِ على حدٍّ سواء، بلى مِن غيرِ المبالَغ فيه إذا قيل: إنّ هناك إعلامَ فِتنة، ينهل من فِكرٍ متطرِّف بل مسلَكٍ متطرِّف، يضربُ في ركائزِ انتماء الأمّة، ويتبنَّى دعوةَ الارتماءِ في أحضانِ الأعداء. إعلامُ فِتنة تُساق فيه الأخبار والمعلومات إلى مذابِحِ المقالاتِ والتّحليلات المشبوهَة التي تصنَع من رائِحَة الخَبَر وليمةَ تعليقاتٍ وتحقيقات وحِوارات ومُقابلات، تختار مشارِكِيها بانتقائيّة فجَّة لتحاكِمَ خصومَها مِن رجالاتِ الأمّة وساسَتِها وعُلَمائها وقياداتها، من أجلِ حادِثَةٍ هنا أو اشتِباهٍ بِوجودِ مسلمٍ عند الحدَث هناك. إعلامُ فِتنة يتبنَّى الترويجَ المثير للأكاذيبِ الخبرية وتلفيق التّصريحات المثيرة. إعلامُ فِتنة يُزيِّف الوعيَ ويُفسِد الأخلاق ويوقِظُ الفِتَن. لقد وُجِد في إعلامِ الفِتنة من يستعدِي الأعداءَ على أمّته، ومن يسخَر من دينها وتديُّنها ومحافظتها، ويسخَر من شعائر الإسلام الظاهِرَة من الأذانِ والحِجاب واللّباس واللِّحى.
ومع ما يجِب من محارَبَةِ التطرّف والإرهابِ وكشفِ أهلِه والتحذيرِ منهم ومحاسَبَتهم ومعاقَبَتهم إلا أنه وُجِد في إعلامِ الفِتنة من يصِف كلَّ مُتدَيِّن وصالحٍ بأنه متطرِّف وأصوليّ وإرهابيّ، بل يزعم أن عمومَ الصالحين والمتديِّنين أخطَرُ منَ المتطَرِّفين والإرهابِيّين المعروفين؛ لأنّ المتطرّفين على حدِّ زَعمه قد عُرِفوا وكُشِف حالهم، أما عمومُ الصالحِين والمتديّنِين فهم أصوليّون ومتطرِّفون تحت ثِيابهم. وهذا من أعظَمِ الطوامِّ وأخطَرِ مسالك الفساد والتمزيق حين يكون التعامُلُ مع النّيات والتوقُّعات والاحتمالات في دعوَى المسالِكِ الخَفيّة والمناهِج الخفية، ولسوفَ تكون الحصيلةُ تطرّفًا يقابلُه تطرّف، ويضيع الاعتدالُ والوَسَط، ويهلك المجتمَع، ويُفقَد الإصلاح، ويَقطِف الثمرةَ العدوّ المتربّص.
أيّها المسلمون، إنَّ الإعلامَ المطلوب إعلامٌ يرسِّخ الثوابِتَ، ويصحِّح المفاهيمَ، ويُثري المعرِفَة، ويوفِّر المتعَةَ المباحة، ويُشكِّل وَعيًا سليمًا، ليس بهلوانيَّ الإثارَةِ، ولا استفزازيَّ الغاية، ولا فاضحَ الأخلاق، ولا قاطعًا للأعناق بالمدِيح.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واهنَؤوا بعيدكم، والزموا الصلاحَ، وأصلحوا، فالعيد يومُ فرَح وسرورٍ لمن قبِل الله صيامَه وقيامَه وصحّت لله نيته، ويومُ ابتهاجٍ وتهانٍ لمن حسُن خُلُقه وطابَت سَرِيرتُه، يومُ عفوٍ وإحسان لمن عفَا عمّن هفا وأحسَن لمن أسَاء، يومُ عيدٍ لمن شَغَله عيبُه عن عيوبِ النّاس.
يستحق التّهنِئَةَ بالعيد الموسِر الذي يزرَع البسمةَ على شِفاه المحتاجين، والشَّفوقُ الذي يعطِف على الأرامِلِ واليتامى والمساكين، والصحيحُ الذي يتفقَّد المرضى والمقعَدين، والطّليق الذي يرعَى السجناءَ والمأسورين.
وفي المقابِلِ ـ أيّها المسلمون ـ ليس العيدُ لمن عقَّ والدَيه فحُرِم الرّضَا في هذا اليومِ المبارَك السعيد، وليس العيدُ لمن يحسُد الناسَ على ما آتاهم الله من فَضله، وليس العيدُ لخائنٍ غشّاش كذّاب يسعى بالأذَى والفسادِ والنميمةِ بين الأنام. كيف يسعَد بالعيد من تجمَّلَ بالجديد وقلبُه على أخيهِ أسود؟! كيف يفرح بالعيدِ من أضاع أموالَه في الملاهِي المحرَّمة والفسوقِ والفجور؟! يمنَع حقَّ الفقراء والضعفاء ولا يخشى البعثَ والنشور، لا يعرِف من العيدِ إلا المآكلَ والثوبَ الجديد، ولا يفقَه مِن معانيه إلاّ ما اعتاده من العاداتِ والتقاليد، ليس لهم منَ العيد إلا مظاهرُه، وليس لهم من الحظِّ إلى عواثِرُه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
واهنؤوا ـ رحمكم الله ـ بعيدِكم، والزَموا حدودَ ربِّكم، وصوموا عن المحارِمِ كلَّ دَهركم؛ تكُن لكم أعيادٌ في الأرض وأعيادٌ في السماء. واعلَموا أنّ من أعمالِ هذا اليومِ إخراجَ زكاة الفطر، فأخرِجوها طيّبةً بها نفوسُكم ومقدارُها صاعٌ من طعام في غالِبِ قوتِ البَلَد كالأرزّ والتّمر والبرّ عن كلّ مسلم، ووقت إخراجِها الفاضِل يوم العيد قبلَ الصلاة.
ومِن مظاهرِ الإحسانِ بعد رمضان استدامةُ العبد على النّهج المستقيم ومداومَةُ الطّاعة وإتباع الحسنَة الحسنة، فذلك دليلٌ على قَبول الطاعات، وقد نَدَبكم نبيّكم محمّد بأن تتبِعوا رمَضان بستٍّ من شوّال، فمن فعل ذلك فكأنَّما صام الدّهرَ كلّه. تقبّل الله منّا ومنكم الصيامَ والقيام وسائرَ الطاعات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
ثمّ صلّوا وسلِّموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلكم ربّكم فقال عزّ قائلاً عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وأزواجه وذريّته، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوِك وجودِك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين...
(1/3503)
عيد الفطر 1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأعمال
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
1/10/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التهنئة بالعيد. 2- فضل الإسلام. 3- ذم الفرقة والاختلاف. 4- التحذير من الجدال والمراء. 5- دعوة للتآلف والتكاتف. 6- فضل التقوى. 7- الترغيب في فضائل الأعمال. 8- التذكير بحال إخواننا في فلسطين والعراق. 9- نصائح للمسلمات. 10- كلمة للآباء والأولياء. 11- الحث على الاستمرار على الطاعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أَكبر، الله أَكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، الله أَكبر، الله أَكبر، الله أَكبر، الله أَكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.
الله أكبرُ ما طلَع صباح وأسفَر، الله أكبر ما هلَّ هلال وأنوَر، الله أكبر ما لاحَ ظرفٌ وأزهر، الله أكبر كلّما أرعَد سحاب وأمطَر، الله أكبر ما نبَتَ نبات وأثمَر، الله أكبر ما ذَكَر اللهَ ذاكر وكبَّر، الله أكبر ما صامَ صائم وأفطَر، الله أكبر ما طافَ طائِف واعتمَر، أفاض علينا من خزائنِ جودِه التي لا تحصَر، وسهَّل لنا صومَ رمضانَ ويسَّر، وجعل لنا عيدًا يعودُ كلَّ يوم ويتكرَّر.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله خالقِ الخلق وفالِق الإصباح، فرَّق وجمَع ووصَل وقطَع وحرَّم وأباح، رفع السماء وأنزَل الماء وذرَأ الرّياح، علِم ما كان وما يكون وعليه التّكلان والرّكونُ في الغدوّ والرّواح ، اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35]، أحمده على مواسِمِ التكريم والأعيادِ والأفراح، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةً نرجو بها الفوز والفلاح والسعادة والنجاح، وأشهد أن نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله قائدُ ركبِ الدعوة والإصلاح، صلى الله عليه وعلى رفيقِه أبي بكر في الغار، وعلى عمر فاتح الأمصار، وعلى عثمان شهيدِ الدار، وعلى عليّ المبشَّر بالقرار في دار الأبرار، وعلى جميع الآل والصّحب الأخيار.
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، هنيئًا لكم هذا اليومُ البهيج، هنيئًا لكم هذا اليومُ المجيد، هنيئًا لكم يومُ العيد السعيد، هنيئًا لكم عيدُ الإفطار ويومُ الأفراحِ والمسارّ والبهجة والأنوار، جعَلَه الله مقرونًا بالقَبول ودَركِ البُغيةِ ونُجح المأمول، وعاودتكم السُّعود ما عاد عيد واخضرّ عود، صبحٌ أزهر ويوم أغرّ وسعادة كبرى ومِنّة عظمى، فلك الحمد ـ يا ربي ـ على إكمال عِدّة الصيامِ، ولك الحمد ـ يا ربي ـ على إدراك رمضان حتى التمام وحضوره حتى الختام، جعَلَنا الله ممن أُعتق فيه من النار وأُنزل منازلَ الصادقين الأبرار.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، لقد بعَث الله نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا بدينٍ كامل وشرعٍ شامل، غايةٍ في الإحكام، عدلٍ في الأحكام، لا أَمتَ فيه ولا عِوَج، ولا ضيقَ فيه ولا حَرَج، هدَى الله به النفوسَ بعد ضلاله، وجمع به القلوبَ بعد فُرقة، وألَّف به بين الناسِ بعدَ عَداوة، فأصبحوا بنِعمتِه إخوانًا، وصاروا باتِّباعه أنصارًا وأعوانًا، جماعةٌ واحدة فلا تجزُّؤَ ولا انقِسام، ولا تميُّز ولا انفِصامَ، رِباطُها رابطةُ العقيدة وآصِرة الدين وأخوّة الإسلام. رابطةٌ تنكسِر تحتَها جميعُ الولاءات الجاهليّة والانتماءات الحزبيّة والنّعرَات الطائفيّة والدعاوى العصبية والصيحاتِ العنصرية والشعاراتِ القومية، يقول رسول الهدى : ((المسلمون تتكافأ دِماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يدٌ على مَن سواهم)) أخرجه أبو داود [1]. دينٌ اختاره الله لنا وارتضاه، وشرعه لنا واصطفاه، لا يجوز لنا الخروجُ عن دعواه، ولا ابتغاء دينٍ سواه، ولا الزّهادة في مسَمّاه، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، إنّ تعدّدَ الاتجاهات وتغايرَ المناهج واختلافَ المشارِب والتعصّبَ للمذاهب والتحزّبَ للأشخاص والفِرَق والجماعات ليس من الصّراط المستقيم ولا منَ الهدي القويم.
إنَّ الهدَى ما هَدَى الهَادِي إليه وما بهِ الكِتاب كتابُ الله قد أَمَرَا [2]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159].
فاحذَروا التعصّبَ والتحزُّب والتفرُّق والتمزّق، وإياكم وما أحدَثَه المحدِثون وابتدعه المبتدعون، واعلموا أنه لا ولاءَ إلا على كتابِ الله وسنّة رسوله ، ومن استبانَت له سنّة عن رسولِ الله لم يكن له أن يدَعها لقول أحدٍ من الناس، ومن عارضَ النّصوصَ برأيه ورامَ أن يردَّها إلى مبلَغِ عِلمه فقد رام الهلاكَ واختَرَط الأشواك.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، الجدالُ والمِراء رأسُ الفِتنة وحبائِل الفُرقة، أذكاهما الجاهلون بمقاصِدِ الشريعة ومدارِك الأحكام، المتخرِّصون على معانيها بالظنّ، المتعالمون بلا رسوخ، الخائضون في مظانّ الاشتباه بلا تميِيز، المتقحِّمون غمارَ الفتوى بلا علمٍ ولا عدّة ولا تأهيل، الذين يقيسون الأمورَ بالآراء الكاسدة والأقيِسَة الفاسدة، فاحذَروا الخوضَ والجدَل، فما ضلَّ قومٌ بعد هدًى كانوا عليهِ إلا أوتُوا الجدَل. ولا ضيرَ في المسائل الفقهيّة بمدارَسة بلا تعنيف ونقاشٍ بلا تسفيه وتبادلٍ للرّأي والنّظَر بلا عيب، مع وجوبِ مراعاة أدبِ الحِوار والمناظَرَة وأسُسِ الاستدلال والمعارضة، وتقَع مُعضلات ونوازِل وتستجدّ صُوَر ومسائل لا يجوز أن يتجاسَرَ على البتِّ فيها قاصِرون على مقامِ الفتوى، ويخوضَ في غمارها منكَرون في مقامِ الدّراية والاجتهاد، ويتصدَّى لها مجهولون في مقامِ النّظَر والترجيح، وفي الأمّةِ علماءُ متمكِّنون من دَركِ أحكام الوقائع النازلة، بصيرون بمسالكِ النظر والاستنباط، راسِخون في التخريج والاقتباس. فاتقوا الله أيها المسلمون، وأرجِعوا الأمرَ إلى أهله، وردّوه إلى أصله، ترشُد مسالِكُكم، وتهتدِ قلوبُكم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحَمد.
أيّها المسلمون، لا خيرَ يرجَى من الخُلفِ والتنازع، ولا صلاحَ يؤمَّل من التشاحنِ والتقاطع، ولا فائدةَ تحصَّل من التصارُم والتصارع. فيا مَن نسِي الصفاء وألِفَ القطيعةَ والجفاء، يا من اجتَهَد في المنابَذَة ولجَّ في المبايَنَة ونأى عن الصِّلَة ونبَا من المودّةِ وأظهَر الشناءةَ والمناوَأة، هذا يومُ التّسامح، هذا يومُ التّصافح، هذا يوم التلاحُم، هذا يوم التراحُم، فتصافَحوا بذهبِ الغلّ، وتسامحوا تذهَبِ الشّحناء، وخُذوا بأيدِي بعضِكم، وطهِّروا قلوبكم من الأحقادِ والضغائن، وأقيلوا العَثراتِ، واقبلوا المعذرةَ من الزلاّت، تقاربوا ولا تباعَدوا، تآلفوا ولا تنافَروا، ولا تقاطعوا ولا تدابَروا، ولا تباغضوا ولا تنافَسوا ولا تتحاسَدوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا. ومتى حصَل بين مسلِمَين عَتبٌ وموجدةٌ أو نبوَة ومَغضبة لم يجُز لأحدِهما هجرُ أخيه أكثرَ مِن ثلاث، فعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يحلّ لمسلمٍ أن يهجرَ أخاه فوقَ ثلاث ليال، يلتَقيان فيُعرِض هذا ويعرِض، وخيرُهما الذي يبدَأ بالسلام)) متفق عليه [3] ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يحلّ لمسلم أن يهجرَ أخاه فوقَ ثلاث، فمن هجَر فوقَ ثلاث فماتَ دخل النار)) أخرجه أبو داود [4].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
يا مَن يروم عِزًّا ويبتغي فخرًا ويرنو رِفعةً وقدرًا، التقوى هي العزُّ الفاخر والمجد الزاخر، والشرَف الظاهر. وإن النسبَ وحدَه لا يوجِب كرمًا ولا يثبِت شرفًا ولا يقتضي فضلاً، وأيّ فضلٍ لرفيعٍ في الحسَب وشريفٍ في النسَب إذا كان هابطًا في أخسِّ الرتَب وساقطًا في مستنقَع الرّذائل والرِّيَب؟! أصِخِ السمعَ ـ أيها الجمع ـ لقول رسول الهدَى : ((يا أيّها الناس، ألا إنّ ربَّكم واحد وأباكم واحِد، ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ ولا لعجمي على عربيّ ولا لأحمر على أسود ولا لأسودَ على أحمر إلا بالتقوى، أبلّغتُ؟)) قالوا: بلّغ رسول الله. أخرجه أحمد [5].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، الحياة تجرّ إلى الموت، والغفلةُ تقود إلى الفَوت، والآمال خادِعَة، كالسّراب غرَّ من رآه وأخلَف من رَجاه، فاتّقوا الله وانتَهوا إلى ما يقرِّب مِن رحمته وينجي من سخَطه. أقيموا الصلاةَ فإنها الملّة، وآتوا الزكاةَ فإنها الجُنّة، وحُجّوا فالحجُّ مَنفاة، واصدُقوا فالصّدق مَنجاة، وصِلوا أرحامَكم فالصّلَة منسأةٌ ومثرَاة، ولا تقرَبوا المعاصيَ فالمعصيةُ ذلٌّ ومَهواة. الغالب بالشر مغلوب، والسالِب حقَّ غيرِه مسلوب، والمحتجِب عن الحقّ محجوب، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [البقرة:188]، ومن اقترَضَ قَرضًا فليؤدِّ ولا يماطل، وإيّاكم والكذِب فإنه العورةُ التي لا تُوارَى والسّوأَة التي لا تُدارَى. أعينوا المظلومَ والمهضومَ، وأعطوا السائلَ والمحروم، وواسُوا المحزونَ والمكلوم، وقدِّموا بَعضًا يكن لكم قَرضًا، ولا تخلِّفوا كُلاًّ يكون عليكم كلاًّ، ولا تجمَعوا حرامًا، ولا تنفِقوا إسرافًا، وإن لم تُرزَقوا غِنى فلا تُحرَموا من تُقى، والمرءُ موسومٌ بسيماءِ من قارب، منسوبٌ إليه أفعالُ مَن صاحب، فاحترِزوا من صحبَةِ الأشرار ومرافقة الفجار، فإنّ صحبتَهم تورِث العارَ والخسَار، وما مِن قوم يُعمَل فيهم بالمعاصِي ثم يقدرون أن يغيِّروا ثم لا يغيروا إلاّ أن يوشِكُ أن يعمَّهم الله منه بعِقابٍ، ومن رأَى منكم منكَرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع بلسانِه، فإن لم يستطِع فبقلبِه، وذلك أضعف الإيمان. ومن لم ينفعه الحقُّ يضرّه الباطل، ومَن لا يستقيم به الهدَى يجري به الضّلال، ومن ترك العلمَ عذّبه الجهل، وتذكَّروا أنكم تستقبِلون أهوالاً، سكراتُ الموت بواكِر حِسابها وعتَبُ أبوابها. والمرءُ إذا هَلك قال الناس: ما ترَك؟ وقالت الملائكة: ما قدّم؟ فيا مَن رَضِي عن الصّفَا بالأكدار، يا مَن أورد نفسه مشارِعَ البوار وأسامَها في مسارِح الخسار وأقامَها في مهواةِ المعاصي والخسار ودنَّسها بالخزيِ والشنار وجعلها على شفا جرفٍ هار، بادِر لحظاتِ الأعمار، واحذَر رقداتِ الأغمار، وتُب ما دمتَ في زمن الإنظَار، واستدرك فائتًا قبل أن لا تُقالَ العِثار، وأقلع عن الذنوبِ والأوزار، وأظهِرِ الندمَ والاستغفار، فإنّ الله يبسط يدَه بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويبسط يدَه بالليل ليتوب مسيء النهار.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، لا عيشَ لمن يضاجِع الخوفَ، ولا حياةَ لمن يبدِّدُه الهلَع، ولا قرارَ لمن يلفّه والفزع، ولا تزال العين عبرَى والكبِد حرَّى والنفس ثكلى والأقصى الشريفُ أُولى القِبلتَين وثالثُ المسجدين ومسرَى سيِّد الثّقَلين يُدنَّس على يدِ عُصبة الضّلال ويهودِ البغي والاحتلال، ولا تزال فلسطينُ المجاهدة الصامدة تصبِح وتمسي تحتَ مرارةِ الفادِحة وألم الفاجِعة وصوَرِ المأساة ومشاهِدِ المعاناة وصَرَخات الصّغار وصيحاتِ التعذيب والحصار ولوعاتِ الثكالى وآهات اليتامى وصوف الأكفان المتتالية وتشييعِ الجنائز المحمَّلة والبيوتاتِ المهدَّمَة، مشاهدُ تتفطَّر الأكبادُ عن وصفِها وتذوب النفوس عن تصويرها. وإن ننسَى فلن ننسَى الحقائقَ المرّة والفظائعَ المستمرّة في العراقِ الجريح، عالَمٌ يرصُف في قيودِ الظلمِ والاستبداد، ويرزَحُ تحت وطأةِ العُدوان والطغيان والاستعباد، ويئِنُّ تحت إرهابِ زُمرة من اللّئام وحَفنة من محترِفي الإجرام.
أيّها المسلمون، لا تكونوا أغفالاً من حُسن الاعتبار وصحيح الادِّكار، تلمَّسوا مكامِنَ الداء وأسباب هذا البلاء، وأصلِحوا المسار، وكونوا مع الواحِدِ القهار؛ يدفعْ عنكم كيدَ الكفّار ومكرَ الأشرار، ومن يكنِ الله معه فمعَه الجندُ الذي لا يُغلَب، والملك الذي لا يُسلَب، والنصر الذي لا يُحجَب، والعِزّ الذي لا يُرهَب، والقوّة التي لا تَذهَب، وبالعَزَمات الصّحاح يُشرق صباحُ الفلاح، وما حصَلَتِ الأماني بالتّواني، ولا ظفَر بالأمَلِ من استوطَنَ الكسل.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
[1] سنن أبي داود: كتاب الجهاد، باب: في السرية (2751) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا أحمد (2/215)، وابن ماجه في الديات (2685)، وصححه ابن الجارود (771، 1073)، وكذا الألباني في الإرواء (2208).
[2] هذا البيت للشاعر أحمد بن علي ابن مشرف الوهيبي التميمي، فقيه مالكي توفي سنة 1285هـ، وديوانه مطبوع.
[3] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6077)، صحيح مسلم: كتاب البر (2560).
[4] سنن أبي داود: كتاب الأدب (4914)، وأخرجه أيضا أحمد (2/392)، وصححه على شرطهما النووي في رياض الصالحين (514)، والمنذري في الترغيب (3/304)، وهو في صحيح الترغيب (2757).
[5] مسند أحمد (5/411) عن إسماعيل، عن الجريري، عن أبي نضرة، قال: حدثني من سمع خطبة النبي في وسط أيام التشريق.. قال الهيثمي في المجمع (3/266): "رجاله رجال الصحيح"، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (3/100)، والبيهقي في الشعب (4/289) من طريق أبي قلابة القيسي، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن جابر رضي الله عنه، قال البيهقي: "في إسناده بعض من يجهّل"، وصححه ابن تيمية في الاقتضاء (ص69)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2700).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد.
الحمدُ لله الكريمِ الوهّاب، الغفور التوّاب، أجزلَ للطائعين الثّوابَ، وأنذر العاصينَ شديدَ العقاب، يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13]، أحمده على نعمَه التي فاضَت على ذرّات التراب وقطرات السّحَاب، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً تنجِي من العذاب، وتدخِل قائلَها دارَ السلام بغير حساب، وأشهد أنّ نبيَّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله أرسله بأسمَحِ دينٍ وأفصَحِ كتاب، فرَض الفرائضَ وسنَّ السّنَنَ وبيَّن الآداب، صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه خيرِ آلٍ وأكرَمِ أصحاب.
أما بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، فإنّ تقواه أفضلُ زادٍ وأحسن عاقبة في معادٍ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود:49].
يا نساءَ المسلمين، إنّ الله رفعكنّ وشرّفكنّ وأعلى قدرَكنّ ومكانتَكنّ وحفظ حقوقَكنّ، فاشكرنَ النعمةَ، واذكرن المِنّة، فما ضرِبَ الحجاب ولا فرِضَ الجِلباب ولا شرِعَ النّقاب إلاّ حمايةً لأعراضِكنّ وصيانةً لنفوسِكنّ وطهارةً لقلوبكنّ وعصمةً لكنّ من دواعِي الفتنةِ وسُبُل التحلّلِ والانحدَارِ، فعليكنّ بالاختِمار والاستِتار، واغضُضن من أبصاركنّ، واحفَظنَ فروجكنّ، واحذَرنَ ما يلفِت الأنظار ويُغرِي مرضَى القلوبِ والأشرار، واتّقين النار، فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((صنفان من أهلِ النار لم أرهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عارِيات، مميلات مائلات، رؤوسُهنّ كأسنِمَة البُختِ المائلة، لا يدخُلنَ الجنّةَ ولا يجِدن ريحها، وإنّ ريحَها لتوجد من مسيرةِ كذا وكذا)) أخرجه مسلم [1].
أيّها الآباء والأولياء، صونوا نساءَكم، واحفَظوا أعراضَكم، وحاذِروا التقصيرَ والتساهل، واجتنِبوا التفريطَ والتشاغل الذي لا تؤمَن لواحِقُه وتوابعه وتواليه وعواقِبه، بيدَ أنّ عاقبتَه بوار وخاتمتَه خسار، كونوا أُباةَ العار وحماةَ العرين؛ تعيشوا كرماءَ وتموتوا أوفياء.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيّها المسلمون، ابتهِجوا بعيدكم، ولا تكدِّروا جمالَه وجلالَه وصفاءَه وبهاءَه بالمعاصِي والآثام واللهوِ الحرام، واستقيموا على الطاعة والإحسان بعد رمضان، فما أحسنَ الإحسانَ يتبعُه الإحسان، وما أقبَح العصيانَ بعد الإحسان، ومن صام رمضانَ ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر، ومن لم يخرِج زكاةَ فِطره فليبادِر إلى إخراجِها فورًا، ومن أتى مِنكم من طريقٍ فليرجِع من طريقٍ آخر إن تيسَّر له ذلك اقتداءً بسنّة رسول الله.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
بشراكم يا من قُمتم وصُمتم، بُشراكم يا مَن تصدَّقتُم واجتهَدتم وأحسنَتم، هذا يومُ الفرح والسرور والفوز والحبور، ذهب التّعَب، وزال النصب، وثبت الأجرُ إن شاء الله تعالى. تقبَّل الله صومَكم وشهرَكم، وأعاد الله علينا وعليكم هذه الأيّامَ المباركة أعوامًا عديدة وأزمِنة مديدة والأمّة الإسلاميّة في عزّة وكرامة ونصرٍ وتمكين ورِفعَة وسُؤدَد.
اللهم إنّا خرجنا في هذا المكان نرجو رحمتَك وثوابَك، فتقبّل مساعيَنا وزكِّها، وأعلِ درجاتِنا وأعلها. اللهمّ آتنا من الآمالِ منتهاها، ومن الخيرات أقصاها. اللهم تقبّل صيامنا وقيامنا. اللهمّ تقبّل دعاءنا يا أرحم الراحمين.
اللهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين...
[1] صحيح مسلم: كتاب اللباس وكتاب الجنة (2128).
(1/3504)
دعوة للحسنى
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
مكة المكرمة
14/10/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أثر رمضان على النفوس. 2- ظاهرة التدابر والتقاطع وتتبع العورات وتلمّس العثرات. 3- ضرورة إعلاء رايات المنهج الأخلاقي المستقيم. 4- الأدب قبل الطلب. 5- مبدأ حسن الظن بالآخرين. 6- فضل الذب عن عرض المسلم. 7- أهمية الاجتماع والائتلاف. 8- دعوة لإسناد الأمر لأهله. 9- فضل العدل والإنصاف. 10- ضرورة ترويض النفس على الصبر والتحمّل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإنَّ خير ما وصّى به الموصون ووعظ به الواعِظون تقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر:18].
أيها المسلمون، نسائم الطاعاتِ وعَبَق العبادات وشذَى القُرُبات يترك أثرًا زاكيًا في حياة المسلمين والمسلمات، ولعلّ من أهمِّ ما يتركه شهرُ الصيام المبارَك من نفحاتٍ وتجلِّيات ومناسباتُ العيد السعيدِ من إشراقات وجماليات في حياةِ الأمّة هو ذلك الأثر الإيجابيّ المتمثِّلُ في شيوع مظاهر المودّة والإخاءِ والمحبة والصفَاء والتواصُل والهناء، في تجافٍ عن مسالِك النُّفرة والجفاءِ بين أبناءِ المجتمع، مما ينبغي أن يتجاوزَ الحدود الزمانيّة والآنيّة، ويسلكَ مَسلك الديمومةِ والاستمرارية، ذلكم ـ يا رعاكم الله ـ لأنّ قمّةَ التعامل الإنساني وسمو العلاقات الاجتماعية ركيزةٌ من ركائز بناءِ المجتمع الإسلاميّ المتميّز بالقوّة والتماسك، لا سيما أمام نزعةِ المادّيات وفي عصرِ الأزمات والمتغيِّرات.
معاشرَ المسلمين، إنّ المتأمّلَ في حلائبِ العلاقات الاجتماعيّة وميادين التعامُل بين الناس يهُوله ما يرَى من تفشِّي مظاهرِ التقاطع والتدابر والنُّفرة والتهاجُر وانتشار لوثات التعالي والجفاءِ والتباغُض والشّحناء في هوًى مُطاع وشُحٍّ متَّبع وإعجابِ كلِّ ذي رأيٍ برأيه ورفعٍ لراية الشائِعات المغرِضة والأخبار المكذوبةِ الملفَّقة وتلمُّس العيوبِ للبرَآء وتضخيم الهِنات للعُلماء وتتبُّع المثالِب للصّلَحاء وانتقاص مقامَات الفضَلاء النّبلاء، حتى إنّ الغيورَ لينتابه شعورٌ بالإحباط وهو يرَى هذه المظاهرَ السوداويّة القاتمة تنتشِر في دنيا الناسِ انتشارَ النار في الهشيم، فلا يستطيع لها تفسيرًا، ولا يجدُ لها مساغًا أو تبريرًا.
يكون شمعةً يُحرق نفسَه ليضيء للآخرين، ومع ذلك يجِد أنّ هناك لصوصًا يتمسّحون بالأجواخ ويتسلّقون على الأكتاف للوصول إلى مآربهم الشخصيّة ومصالحهم الذاتيّة ومطامعهم المادّية، دونَ وازعٍ من دينٍ أو خُلق أو ضمير، مَرَدوا على الأحابيلِ والدنايا، ودأبوا على المكرِ وسوء النوايا، لا يتلذّذون إلا بالنيل من الطامحين والإساءةِ للناجحين والثّلبِ في الصالحين والتقليل من شأنِ العاملين وتنفير الناس منهم والعمَل على الإساءة إليهم والوقيعة بهم، بتلفيق الطعونِ والاتهامات ونشرِ الأراجيف والشائعاتِ، في حروبٍ اجتماعية طاحِنة وضغوطٍ نفسيّة قاتلة، ومِن نكدِ الدنيا على المرءِ أن يرَى أمثالَ هؤلاء النّشاز في أسرتِه ومجتمَعه وأهلِه وأقارِبه وجيرانه وزملاءِ عمله، مطيّتُهم سوءُ الظنّ، وقاموسهم الأذَى والمنّ، بل يصِل الأمر إلى ذِروة خطورتِه حينما تُستغلّ الأبواق الناعِقة في بعضِ وسائل الإعلام وقنَوات الفضاء وشبكاتِ المعلومات لنشر الأكاذيبِ المغرضة والدعايات المضلِّلة، لتصطبِغ مع كثرةِ اللَّسَن والأطروحات وتَكرار العَرض في المجالِس والمندَياتِ على أنها حقائقُ ثابتةٌ لا تقبَل الجدَل ولا المساومةَ، وما هي إلا شائعاتٌ مغرِضة، كسرابٍ بقِيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.
ومِن عجيبِ الأمر ـ يا رَعاكم الله ـ مسارعةُ كثيرٍ من الدهماء إلى تصديقِ هؤلاء كضَربة لازِب، بل إنّك تستغرِب حالَ كثيرٍ ممّن يروِّجون فتنةَ القول على عواهنه، ولا ينتهي عجبُك وأنت ترَى أنّ بعضَهم قد يُشار إليه بعلمٍ أو فضلٍ أو صَلاح أو مَكانة، وكأنها لم تطرُق أسماعَهم آيةُ الحُجرات المدوِّية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]، وفي قراءة حمزة والكسائي: فَتَثَبَّتُوا ، وقوله في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: ((كفى بالمرء كذِبًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع)) [1] ، ورحِم الله شيخَ الإسلام ابن تيمية حيث يقول: "حتى إنَّ الرجل ليُشار إليه بالزّهد والدينِ والعِبادة ولسانُه يفري في لحومِ الأحياءِ والأموات، وهو لا يبالي بما يقول"، بل إنّ منهم من لا يتورَّع عن التدخُّل في خصوصيّات الآخرين؛ في أموالهم وأولادهم ومواقفهم، والاستماتة في استمالتهم إلى ما يريدون من حيثُ لا يريدون، وإلاّ فسيوضَعون تحت مِطرقة الشائعات وسِندان الاتهامات وعلى مِشرحةِ الطعون والافتراءات، حتى إنّك لتحسُّ أنك بقيتَ في خلَفٍ يزيِّن بعضهم بعضًا ليدفَعَ مُعوِرٌ عن مُعوِرِ. فيا هذا، دعِ الخلقَ للخلاّق تسلَم وتغنم، والله المستعان.
إخوةَ الإيمان، وفي أَتون هذه المظاهرِ القاتمة ينبغي أن تُعلَى راياتُ المنهَج الأخلاقي المتميّز الذي ينضح بنُبل الشمائل والخِلال وعريقِ السجايا والخِصال، إنصافٌ لا اعتِساف، ائتلاف لا اختِلاف، تناصحٌ لا تفاضُح، تسامح لا تناطُح، صفاءٌ لا جفاء، تناصُر لا تنافر، تجاوُر لا تناحر، تناظُم لا تصادم، اتِّفاق لا افتِراق، اعتصامٌ لا خِصام، اجتماع لا نِزاع.
ولتحقيقِ تلك الشمائلِ المثلى والسجايا العُليا يجِب أن يتربّى الناسُ لا سيما الأجيال على قَرن العلم بالأدَب، فالعِلم ما لم تكتنِفه شمائل تُعليه صارَ مطيّة الإخفاق، يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: كان الناس يتعلَّمون الأدبَ قبل العلم، أمّا اليوم فقد جحَد الناس الأدبَ، ويقول بعض السلف: "نحن إلى قليل من الأدَب أحوجُ منا إلى كثيرٍ من العلم" [2] ، ويقول عبد الله بن وهب رحمه الله: "ما تعلَّمنا من أدبِ مالكٍ أكثرُ مما تعلّمنا من علمه" [3].
كما يجب أن يتربَّى الناسُ على حسنِ الظنّ بالمسلمين، لا سيما خاصتُهم من أهل العلم وحمَلة الشريعة؛ لأنّ الطعن فيهم أمرٌ خطير جَللٌ، وصاحبه معرَّضٌ للخطَل والزّلل، حيث لا يراعِي إلا موضعَ العِلَل، ولما فيه من ذهاب هيبةِ العلماء والإزراءِ بعظيم حرمَتهم وجليلِ قدرهم وعلوِّ مكانتهم وتجرُّؤ السفهاء على مقاماتهم وفتح البابِ للمغرضين والمتربِّصين بالعلم وأهلِه، لذلك ربَّى الإسلام أتباعه على حُسن الظنّ والتحذير من الظنون السيِّئة بالمسلمين، يقول الحقّ تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وفي الصحيح أنّ رسول الله قال: ((إيّاكم والظنّ، فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديث)) [4] ، وعند البيهقيّ وغيره: ((إنّ الله حرّم دمَ المسلمِ وعِرضَه وأن يُظَنَّ به ظنّ السّوء)) [5] ، ويقول الشافعيّ رحمه الله: "من أراد أن يقضيَ الله له بخيرٍ فليحسِن ظنَّه بالناس".
إذًا فالأصل ـ يا رعاكم الله ـ حسنُ الظنّ بالمسلمين وحملُ أقوالهم وأفعالهم وتصرّفاتهم على أحسنِ المحامل، بل ينبغِي التماسُ العذر لهم وإن أخطؤوا باجتهادٍ أو تأويل سائِغ، يقول عمر رضي الله عنه: (لا تظنَّن بكلمةٍ خرجت من أخيك المؤمِن شرًّا وأنت تجِد لها في الخير محملاً) [6] ، ويقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: "المؤِمن يلتمِس المعاذير، والمنافِق يتتبّع الزلاتِ" [7]. والأخطر من ذلك حينما ينصِّب المرءُ نفسه رقيبًا على نيات الآخرين حاكمًا على قلوبهم ومقاصدهم، غيرَ متورِّع عن رميهم بالفواقر والعظائم وطعنِهم في الغلاصم بالقواصِم دونَ أعذارٍ أو عواصِم، يلغ في أعراضِهم وَلغًا، ويفري فيهم فريًا، وإنك لواجدٌ ذلك في حياةِ الناس عجبًا. فسبحان الله عباد الله! ماذا يبقى للأمّة إذا طُعِن في علمائها وصلَحائها وإذا نيل من فضلائها ونبَلائها؟!
وإنّ من بالغِ الخطورة أن تُعقَدَ المجالس والمنتدياتُ، يحضُرها العشراتُ والمئات، وينبرِي فيها دعيٌّ متحذلِق مأفون، فيُطلِق لسانَه في أهل العلم والصّلاح ذمًّا وثَلمًا، والناس منصِتون ساكتون، خشَّعًا أبصارهم، يأخذونَ ذلك مأخذَ القَبول والرضا، بل والفرحِ والتشفِّي، بل وسلَّموا تسليمًا.
أهكذا ربى الإسلامُ أتباعَه؟! أينَ الذبُّ عن أعراضِ المسلمين والحِفاظُ على سمعةِ الفضلاء الصّالحين؟! إنّ الذبَّ عن أعراضِ المسلمين ـ لا سيّما علماؤهم وصُلحاؤهم ـ فريضةٌ باتت مطويّةً غيرَ مرويّة، وسنّةٌ أصبحت مهجورةً منسيّة، ألم يقلِ المصطفى فيما أخرجه أحمد والترمذيّ من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: ((من ردَّ عن عِرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة)) [8] ، وفي رواية ابن أبي شيبة: ((وقاه الله لفحَ النار يومَ القيامة)) [9] ؟!
فيا لله، كم يزهد في هذا كثيرٌ من الناس ممّن يتلذَّذون بالتفكُّه في الأعراضِ ويشتهون، بل ويتشفَّون في ذلك، فالله حسبهم وطليبهم.
إنّ من الشجاعةِ الأدبية أن يأخذَ المسلمون أنفسَهم بمنهَج الذبّ عن أعراض إخوانهم أمامَ خناجر المتربِّصين وسِهام المتشفِّين المغرِضين، حينذاك لا يجِد هذا الورم الخبيثُ انتشارًا في جسَد أبناء هذه الأمة، ولا يقيم هذا الداء العُضال له فُسطاطًا في مجتمع المسلمين.
أمّةَ الإسلام، تلك الملامِح المهمَّة للحفاظ على سفينةِ الأمّة من تيّارات الفِتن وأعاصير المحَن، فما جوبهَت تلك النوازلُ والمستجدّات وعولِجَت تلك التقلّبات والمتغيِّرات بمثل الاجتماعِ والائتلاف، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أنواعِ الفساد التي يسبِّبها التفرُّق والاختلافُ المخالفُ للاجتماع والائتلاف: "حتى يصيرَ بعضهم يبغِض بعضًا ويعاديه ويحبّ بعضًا ويواليه على غير ذات الله، وحتى يفضيَ الأمر ببعضِهم إلى الطّعن واللعن والهمزِ واللّمز، وببعضهم إلى الاقتتالِ بالأيدي والسلاح، وببعضهم إلى المجاهدةِ والمقاطعة، حتى لا يصلّي بعضهم خَلف بعض، وهذا كلُّه من أعظمِ الأمور التي حرَّمها الله ورسوله" [10] ، وقال رحمه الله: "وبلادُ المشرق من سبَب تسليطِ الله التَّتر عليها كثرةُ التفرّق والفتَن بينهم في المذاهبِ وغيرها، وكلُّ هؤلاء المتعصّبين بالباطل المتّبعين للظنّ وما تهوى الأنفس والمتّعبين لأهوائهم بغيرِ هدًى من الله مستحقّون للذمّ والعقاب، فإنّ الاعتصامَ بالجماعة والائتلاف من أصول الدين" انتهى كلامه رحمه الله [11].
يقال ذلك ـ أيها المسلمون ـ في الوقت الذي تكتوِي فيه أمّتنا بجراحاتٍ ونكبات تتبايَن من خلالها المواقفُ والتحليلات، وينتُج من ذلك خلافاتٌ بل وخصومات، وأمّة الإسلام في هذا المنعطَف الخطير أحوجُ ما تكون إلى اتِّحادِ المواقف واجتماع الكلِمة ووحدة الصّفوف وتضييعِ الفرَص على الطّامعين والمتربِّصين. إنّ كلَّ غيورٍ يؤلِمه ما آل إليه الحالُ على ثرَى فلسطين والأقصى، وما تعيشه أرضُ العراق وبلادُ الرافدين من مآسٍ وفواجع لم تسلَم منها حتى بيوتُ الله وأماكِن العبادة، فبأيّ حقٍّ يُقتَل الآلاف من الرّجال، بل النساء والأطفال، وتحدث المجازرُ، وتُدمَّر المساكن، وتُداس الأرض، ويُنتهك العِرض؟! ألا فسلامُ الله على فلّوجةِ الصمود والعِِزِّ والشموخ التي ستنفلِج دونها بإذن الله ثم بصمودِ أبطالها فُلولُ الاحتلال مهما تشدَّقت بالحرّية ومراعاةِ حقوق الإنسان. فصبرًا صبرًا إخوانَنا في العراق، ولكم الله يا أحبّتنا في بلاد الرافدين، فهو سبحانه المؤمَّل لكشف كربَتكم وتفريجِ غمّتكم في زمنٍ قلّ فيه النّاصر والمعين، وطال فيه ليلُ الغاشمين المحتلِّين، ولن يفلتَ هؤلاء من سجِلِّ التأريخ، ولن يفرزَ ذلك إلا كراهية الشعوبِ وسَخط علاّم الغيوب، غيرَ أنّ ذلك كلَّه ليس تأجيجًا للعواطف، ولا انسياقًا وراءَ حماسةٍ وعواصف، وإنما هي دعوةٌ لاتِّحاد البيانات والمواقِف، والحذر ـ أيّها المحبّون ـ من فتنة القول والعمَل، واتِّهام النفوس وإلجامها أن تقول على الله بغير عِلم، أو تخوضَ في النوازلِ بالتوقيع عن ربّ العالمين ببيانٍ أو فتوى لم يُنظَر في آثارها ومآلاتها ومصالحها وأولويّاتها، أو تُقحَم فريضةٌ هي ذِروة سنام الإسلام بلا رايةٍ ولا إمام في مواقِفَ عاطفيةٍ دونَ فقهٍ لمقاصدِها ورعايةٍ لضوابطها وتحقُّق لشروطها وانتفاءٍ لموانعها.
ألا ما أحوجَ طلاّبَ العلم في النوازلِ أن يوَلّوا حارّها من تولّى قارَّها، وأن يحذَروا من المنافذِ التي يتسلَّل منها المتربِّصون وينفذ منها الانتهازيّون النفعيّون المغرِضون، مع احترامِ رأي المجتهدِين وحسنِ الظنِّ بهم والتماس العذرِ لهم والذبِّ عن أعراضهم، ردًّا للعجُز إلى الصّدر، وبناءً للنتائِج على المقدِّمات، غيرَ أنّ مصالحَ المسلمين العامّة ـ يا محبّ ـ واجتماعَ قلوبهم وتوحيدَ مرجعيّتهم في النوازل وعدمَ الافتياتِ عليها هو الأولى بالرّعاية والعنايةِ والاهتمام، وبه تتحقَّق أعلى المصلحَتَين وتُدرَأ أعظمُ المفسدتين.
واللهُ المسؤول بمنِّه وكرمه أن ينصرَ دينَه ويُعليَ كلمته ويجمَعَ كلمة المسلمين على الحقّ ويُصلحَ أحوالهم، إنه خير مسؤول وأكرَم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه كان حليمًا غفورًا.
[1] صحيح مسلم في المقدمة (5) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد اختلف في وصله وإرساله، وصححه ابن حبان (30)، والحاكم (381)، ووافقه الذهبي، والحافظ في الفتح (10/407)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2025).
[2] انظر: مدارج السالكين (2/376).
[3] انظر: سير أعلام النبلاء (8/113).
[4] أخرجه البخاري في الأدب (6064، 6066)، ومسلم في البر (2563) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] شعب الإيمان (5/296-297) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3420).
[6] أخرجه ابن حبان في روضة العقلاء (ص89،90) مطوّلاً من طريق يحيى الأنصاري عن ابن المسيب عن عمر، وفي سنده إبراهيم بن موسى المكي وهو الدمشقي، لم يرو عنه غير هشام بن عمار مجهول كما في الميزان، ورواه المحاملي في أماليه (1/395).
[7] انظر: إحياء علوم الدين (2/177).
[8] مسند أحمد (6/450)، سنن الترمذي: كتاب البر (1931)، وأخرجه أيضا البيهقي في الشعب (7635)، وقال الترمذي: "حديث حسن"، وهو في صحيح سنن الترمذي (1575).
[9] لفظ حديث أبي الدرداء في المصنف (8/414 ـ ط الرشد ـ): ((من ذب عن عرض أخيه كان له حجابا من النار)). وروى ابن أبي شيبة عقبه قول أم الدرداء رضي الله عنها: (إنه من ذب عن عرض أخيه وقاه الله نفح ـ أو لفح ـ النار).
[10] مجموع الفتاوى (22/357).
[11] مجموع الفتاوى (22/254).
_________
الخطبة الثانية
_________
المحمودُ الله جلّ جلاله، والمصلَّى والمسلَّم عليه محمّد وصحبُه وآله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ نبيّنا محمّدًا عبده ومصطفاه، صلّى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدَى بهداه.
أمّا بعد: فاتقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هدي محمّد رسول الله، وشر الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإنّ يد الله مع الجماعة، ومن شذّ شذَّ في النار.
أيّها الإخوة في الله، إنّ من الوسائل المهمّةِ في الحفاظ على صفاءِ المجتمع واجتماعِ وتآلف ذويهِ وانتظام عِقدِ أنبائه أن تتربَّى النفوسُ على العَدل في المواقِفِ والإنصاف من المخالف، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8].
فالأمّة أحوجُ ما تكون إلى إبرازِ هذه الخلَّة القويمة، حفظًا لبيضةِ الدّيانة، وإقامةً لأَودِ الشريعة، وذبًّا عن حرماتِ المسلمين خاصّتهم وعامّتِهم، وأخذًا بحُجَز الإخوةِ والمحبِّين، وسدًّا لباب الشانِئين المغرضين. ومِنَ المعلوم أنَّ الإنصافَ نفيس وعَزيز، حتى ليكادُ نجمُه أن يأفلَ في دنيا الناس، فهذا الإمام الذهبيّ رحمه الله يشكو قلّةَ الإنصافِ في زمانه فيقول: "لقد صِرنا في وقتٍ لا يكاد الشّخصُ يقدر على النّطق بالإنصاف، نسأل الله السلامة، ولم تزَل قلّة الإنصاف قاطعةً بين الرجال وإن كانوا ذوي رحِم، وإن طُوي بِساط النَّصف وتطاوَل أهلُ السّفهِ والصَّلف استوى المحسِن والمسيء، والمحِقُّ والمبِطل، والظالم والمظلومُ، والبشَر مجبولون على الانسياقِ وراء رغباتِ نفوسهم والسّعي إلى مصالحها ولو على حسابِ النّصَف من الآخرين، يقول داود بن يزيد: سمعت الشعبيَّ رحمه الله يقول: والله، لو أصبتُ تسعًا وتسعين مرّةً وأخطأتُ مرّة لعدّوا عليَّ تلك الواحدة".
وطريقُ السلامة من ذلك هو التمسّك بالكتاب والسنّة وعِفّة اللسان وسلامةُ الصدور ولزومُ الجماعة وفقهُ أدَبِ الخلاف والدّعاء الدّعاء.
أمّا من تعرّضوا للنّيل والشّائعات واكتوَوا بنار الأكاذيبِ والافتراءات فليهنَؤوا بذلك ولا يضجَروا، وليعلَموا أنّ ذلك طريق المرسَلين والأنبياء، وأنّ المسلمَ عرضةٌ للامتحان والابتلاء، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11]، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور:12]. مع أخذِ النفوس بالصّلاح والإصلاحِ والدّفع بالتي هي أحسن، يقول ابن الحنفيّة رحمه الله: "ليس بحكيمٍ من لم يعاشِر بمعروفٍ مَن لا يجِد من معاشرتِه بدّ، حتى يجعلَ الله له فرَجًا ومخرجًا".
وإن بُليتَ بقومٍ لا خلاقَ لهم إلى مداراتهم تدعو الضروراتُ
فقل يا ربِّ لطفَك قد مال الزّمان بنا مِن كلِّ وجهٍ وأبلتنا البليَّاتُ
ثم لا بدَّ من ترويضِ النفوسِ على الصّبر والتحمُّل مع الثقةِ بالله وتغليبِ مشاعر التفاؤل، فلا تُرمَى بالحجارةِ إلا الشجرةُ المثمِرة.
ألا ما أحوجَ المحبَّ إلى الثقةِ بالنفس والاعتدالِ في الرأي وتنسيقِ المواقف مع الحذَر من اليأسِ والقنوط، فلا يبقى في النّهايةِ إلا الحقّ، ولا يصحّ إلا الصّحيح، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]، وكم من أمثالِ هذه النوابِتِ والنتوءات واصَلت إضرارها بالبُرآء، فكانت نهايتُها سقوطًا مدوِّيًا وفشَلا ذريعًا، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43].
ولنحذَر من تعميمِ الأحكام وإطلاقِها جُزافًا على الأنام، فلا يزال الخيرُ في هذه الأمة إلى قيامِ الساعة، فلهذا كُن دائمًا إيجابيًّا متفائلاً وإن ذُقتَ المواقفَ المحرِقة، فالعاقبَة جميلة ومشرِقة، والعاقبة الماتعة في المواقفِ اللاّمعة.
احذَر ـ يا رعاكَ الله ـ أن تبادرَ بسوء ظنٍّ أو ندِّ فَهم، واحمِل أخاك ـ يا رعاك الله ـ أخيرًا على أحسنِ المحامِل، ومن ذبَّ عن عِرض أخيه ذبَّ الله عن عِرضه النارَ يومَ القيامة، وتلك رسالةُ الإسلام في المحبّةِ والمودَّة والسّلام والتّسامُح والصّفاء والوِئام، وهي رسالةٌ إلى العَالم بأسرِه ليعيَ الوجهَ المشرِق في هذا الدِّين، وما يحمِله للإنسانيّة من خيرٍ وأمان، وما يدعو إليه من أمنٍ واطمئنان، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على النبيِّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيبِ المرتضى، كما أمركم بذلك ربّكم جلّ وعلا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيِّد الأوّلين والآخرين وأشرفِ الأنبياء والمرسلين نبيِّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين...
(1/3505)
هلاك المكذبين والمستكبرين
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
خالد بن محمد بابطين
جدة
12/2/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإصلاح والإفساد. 2- أعظم الفساد في الأرض. 3- قصص الأمم التي أهلكها الله تعالى. 4- قصة قارون. 5- اغترار الغرب بقوته. 6- توفر أسباب الهلاك في القوى الطاغية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، إن الإصلاح والإفساد خلقان متضادان، حث الإسلام على الأول ونهى عن الآخر، بل واعتبره من الآثام العظيمة، وقد ورد لفظ الفساد والإفساد وما اشتق منهما في القرآن الكريم في نحوٍ من أربعين موضعًا، منها قوله تعالى في وصف المنافقين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
وإن من أعظم الفساد في الأرض الكفر بالله تعالى والتكذيب بآياته ورسله، ولقد قص الله علينا أنباء القرى الظالمة المفسدة وما حل بهم من الدمار والهلاك، وإن المتأمل بل الناظر في كتاب الله تعالى ليرى ذلك واضحًا جليًا، فهؤلاء قوم نوح عُمِّرُوا ما لم يُعَمَّرْ غيرهم، ولبث فيهم نوحٌ ألف سنة إلا خمسين عامًا، ودعاهم ليلاً ونهارًا وسرًا وجهارًا، ولكنهم ضَجِروا به وبدعوته وقالوا: قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ [هود:32]، حتى بلغ بهم الصدود والجحود والكفر أن جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُم، كل ذلك إمعانًا في الكفر والتكذيب، وأخذوا يستهزئون به ويسخرون، بل توعدوه بالقتل: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ [الشعراء:116]، فلجأ نوح إلى ربه بعد أن يئس من قومه فقال: رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:17، 18]، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، فانتصر له ناصر الحق وأهله وحاقت بهم دعوة نوح: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح:26]، فكان هلاكهم قال تعالى: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [القمر:11، 12].
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ [هود:59]، عادٌ التِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاد، عاد ذوو القوة والشدة والبأس، ذَكَّرَهم هود عليه السلام فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً [الأعراف:69]، قال ابن كثير رحمه الله: "كانوا في غاية من قوةِ التركيبِ والقوة والبطش الشديد والطول المديد والأرزاق الدارة والأموال والجنات والأنهار والأبناء والزروع والثمار"، وقد اغتروا بقوتهم وشدتهم فقال لهم هود: أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ [الشعراء:128-130]، قال ابن كثير: "اختلف المفسرون في الريع بما حاصله أنه المكان المرتفع عند جَوادِ الطرق المشهورة، يبنون هناك بنيانًا محكمًا هائلاً باهرًا"، حتى وصل بهم الأمر أن قَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّة، ونسوا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّة، فكيف كانت العاقبة؟! فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ [فصلت:16]، إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:19، 20]، وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ [هود:60]. قام أبو الدرداء يومًا خطيبًا في الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (إنه قد كانت قبلكم قرون يَجمعون فيُوعون ويَبنون فيُوثقون ويُأمِّلون فيُطيلون، فأصبحَ أملُهم غرورًا، وأصبح جمعُهم بورًا، وأصبحت مساكنُهم قبورًا، ألا إن عادًا ملكت ما بين عدن وعَمَّان خيلاً وركابًا فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟!).
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى [هود:17]، خاطبهم صالح فقال: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، فقالوا: إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ [الشعراء:153، 154]، فلما جاءهم بما طلبوا قال لهم: هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأعراف:73]، وقد أوتوا قوة وشدة وبأسًا فذكرهم صالح فقال: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا [الأعراف:74]، وحين ذكِّروا أتُراهم تذكّروا؟! لا، بل كفروا واستكبروا وعَدَوا على الناقة فقتلوها فقال لهم صالح: تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [هود:65]، وقد تولى كِبْرَ هذا الجُرم تسعة منهم قال الله فيهم: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48]، قال ابن كثير: "وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح وقالوا: إن كان صادقًا عجلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا ألحقناه بناقته"، قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:49-51]، قال ابن كثير: "فلما عزموا على ذلك وتواطؤوا عليه وجاؤوا من الليل ليفتكوا بنبي الله أرسل الله سبحانه وتعالى ـ وله العزة ولرسوله ـ عليهم حجارة، فرضختهم سلفًا وتعجيلاً قبل قومهم، وأصبح ثمود يوم الخميس وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل وهو يوم الجمعة ووجوههم محمرة، وأصبحوا في الثالث من أيام المتاع وهو يوم السبت ووجوههم مسودة، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه عياذًا بالله من ذلك لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب وأشرقت الشمس جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ففاضت أرواحهم وزهقت النفوس في ساعة واحدة، فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ [العنكبوت:37]، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52]، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ [هود:68]".
أيها الإخوة، من أعظم أسباب الهلاك الكبر والبغي بالفساد في الأرض، وإمام هؤلاء قارون صاحب الأموال والكنوز والفخر والخيلاء، اسمع قصته كما ذكرها الله تعالى: إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنْ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمْ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنْ المُنْتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [القصص:76-82].
بارك لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عم امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في السر والعلن، واجتهدوا في تدبر آياته والاتعاظ بعظاته.
أيها الإخوة، ونحن حين ننظر في واقع العالم اليوم الذي بات يحكمه قانون الغاب نرى تجبر اليهود والنصارى واغترارهم بقوتهم وأنهم قد امتلكوا أسباب القوة والهيمنة على العالم وأنه لن تستطيع أيُّ قوة مهما كانت أن تقف في طريقهم، وأنه يجب على الناس أن يسيروا في ركابهم فيوالوا من والوا ويعادوا من عادوا ويحاربوا من حاربوا ويسالموا من سالموا، وأنه من ليس معهم فهو مع الإرهاب، ولا يتورعون عن انتهاك الأعراف والقوانين الدولية البشرية الوضعية فضلاً عن الشرائع السماوية، فقتلوا الشيوخ والأطفال، ودمروا البيوت والبلاد ونهبوا خيراتها، إلى غير ذلك مما يطول ذكره مما هو معروف ومشاهد في الواقع. إن ذلك كله ليذكرنا بأولئك المكذبين السابقين وكيف حقت عليهم كلمة العذاب والهلاك لما طغوا وعتوا وتجبروا وظلموا، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا [العنكبوت:40]، وإننا لنتربص بخَلَفِهم ما حل بأسلافهم وما ذلك على الله بعزيز. فليُبشر كل متكبر ومتجبر بالبوار والهلاك، ولْيُبَشَّرْ بنقمة الله جل وعلا وعذابه ولو ظن أنه بما يملك من أسباب القوة سيمنع نفسه أو غيره من عذاب الله، ولو نفعت القوةُ أحدًا لنفعت من قبلهم ممن قال الله فيهم: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [الأنعام:6].
وحين نتأمل واقعهم الذين يعيشونه نراهم قد استوجبوا عذاب الله ونقمته بما يفعلون؛ أليسوا قد ادعوا دعاوي الألوهية وتغطرسوا كثيرًا ومارسوا طريقة فرعون: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]؟! ولكن ماذا كانت النتيجة؟ دَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]. أليسوا قد تألوا على الله وزعموا أنه أخرجهم لقيادة العالم، وكذبوا على الله وزعموا أنه اختارهم ليخلصوا البشرية وينقذوها وقالوا: فليباركنا الرب؟! أليسوا قد انغمسوا في الذنوب والمعاصي حتى صاروا قادة العالم في الموبقات: في الجنس والقذارة، في أنواع الفواحش، في الآراء الضالة التي فرضوها، في السياسة، في الاقتصاد وعالم السينما والإعلام والثقافة وغير ذلك؟! أليس قد وقعوا في الترف والإسراف وصناعة الترفيه والسياحة؟! وإن ذلك مؤذن بتدمير دولتهم، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا [الإسراء:16]. ألم يغتروا بقوتهم ويقولوا مقالة عادٍ الأولى: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]؟! وهم أصحاب مكر وخطط وحيل ودهاء وأساليبَ لضرب أهل الإسلام، وكل ذلك لا شك سيكون وبالاً عليهم، وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، فكل هذه الأسباب للهلاك اجتمعت في حقهم، فكيف ستكون عاقبتهم؟!
أيها الإخوة المؤمنون، إنها سنة كونية من سنن الله تعالى في حق الظالمين والمجرمين، وهي واقعة لا محالة، ولكن حين يشاء الله تعالى بحكمته وعلمه، يقول تعالى: فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
(1/3506)
الصلاة الصلاة
فقه
الصلاة
خالد بن محمد بابطين
جدة
9/3/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فرض الصلاة. 2- مكانة الصلاة ومنزلتها. 3- فضائل الصلاة. 4- أحوال السلف مع الصلاة. 5- خطورة ترك الصلاة. 6- ظاهرة التهاون بالصلاة.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يحدث أن رسول الله قال: ((فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل عليه السلام ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطِسْتٍ من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا؟ قال: جبريل، قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد ، فقال: أرسل إليه؟ قال: نعم، فلما فتح علَونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبَل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: قلت لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى. ثم عُرِجَ بي إلى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها مثل ما قاله الأول ففتح، قال أنس: فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السادسة، قال أنس: فلما مر جبريل والنبي بإدريس قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت: من هذا؟ قال: إدريس. ثم مررت بموسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت: من هذا؟ قال: هذا موسى. ثم مررت بعيسى فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا عيسى. ثم مررت بإبراهيم فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت: من هذا؟ قال: هذا إبراهيم. قال النبي : ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام، ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام فقال: ما فرض الله على أمتك؟ قلت: فرض خمسين صلاة، قال موسى: فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى قلت: وضع شطرها، فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فرجعت فوضع شطرها، فرجعت إليه فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون لا يبدّل القول لديّ، فرجعت إلى موسى فقال: ارجع إلى ربك، قلت: قد استحييت من ربي. ثم انْطُلِقَ بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي. ثم أُدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها من المسك)) رواه البخاري في صحيحه.
في هذا المقام الشريف وفوق تلك السموات وبين أولئك الكرام من الأنبياء والملائكة عليهم السلام فرضت هذه الشعيرةُ العظيمة التي اختصها الله من دون غيرها بذلك، فلم ينزل بفرضيتها ملك من السماء، بل عرج بالنبي إلى السماء ليتلقى الأمر بها من الله تعالى مباشرة، فأي منزلة تلك؟! وأي شأن ذاك لهذه الصلاة؟! ولذا كانت أولَ عمل يحاسب عليه العبد يوم القيامة، ولا غرابة حينئذ أن يقول عنها: ((وجعلت قرة عيني في الصلاة)).
أيها الإخوة المؤمنون، إن مما يبين عن مكانة الصلاة ومنزلتها أنها ذكرت في القرآن الكريم في خمسة وستين موضعًا، منها قوله تعالى في وصف المتقين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة [البقرة:3]، وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29].
وفي السنة قد تضافرت الأحاديث في شأنها، فقد ذكرت في مائة وثمانية وسبعين حديثًا، منها قوله : ((اعلم أنك لا تسجد لله سجدة إلا رفع الله لك بها درجة وحط عنك بها خطيئة))، وقال : ((إن العبد إذا قام يصلي أتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقه، فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه))، بل تأمل قوله : ((تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود؛ حرّم الله على النار أن تأكل أثر السجود)). والصلاة من أحب الأعمال إلى الله عز وجل وأثقلها في موازيين العبد يوم القيامة، قال : ((صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين)).
أيها المؤمنون، كم نقع في الذنوب، كم نقارف من الآثام، كم نضيع من الطاعات، ولكن من رحمة الله تعالى أن الصلاة تغسلها وتمحوها، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((تحترقون تحترقون ـ أي: تقعون في الهلاك بسبب الذنوب الكثيرة ـ فإذا صليتم الصبح غسَلَتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا))، وذات يوم خرج النبي في الشتاء وورق الأشجار يتهافت، فأخذ بغصن من شجرة وقال: ((يا أبا ذر، إن العبد المسلم ليصلي الصلاة يريد بها وجه الله فتهافت عنه ذنوبه كما يتهافت هذا الورق عن هذه الشجرة)).
أيها المؤمنون، إن دقائق العمر وساعات الحياة ثمينة، والرابح فيها من عمرها بالطاعة قبل عدم الاستطاعة، ووالله إن أعظم ما يفقده أهل القبور ويتمنونه هذه الصلاة، مرّ النبي يومًا بقبر فقال: ((من صاحب هذا القبر؟)) فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحب إلى هذا من بقية دنياكم)).
إن مَن فقه هذا الأمر عَلِم شأن الصلاة وعظَّم قدرَها عند الله وعظُم عنده أمر الآخرة فسعى إليها ووصل ليله بنهاره في طلب مبتغاه، وتأمل أحوال السلف الذين قدروا هذا الأمر حق قدره:
فهذا عدي بن حاتم رضي الله عنه يقول: "ما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا متوضئ"، ومسروق بن الأجدع يقول: "ما بقي شيء يرغب فيه إلا أن تعفر وجوهنا في التراب، وما آسى على شيء إلا على السجود لله تعالى"، وكان زين العابدين علي بن الحسين يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات، بل كان حرصهم على الصلاة يفوق الوصف، يقول سعيد بن المسيب: "ما فاتتني الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة"، بل يقول: "ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد"، ولقد قال إبراهيم بن يزيد: "إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه"، بل بلغ من حرصهم على شهود الجماعة أن أحدهم وهو في سياق الموت يذهب به إلى المسجد، سمع عامر بن عبد الله بن الزبير المؤذن وهو يجود بنفسه فقال: "خذوا بيدي"، فقيل: إنك عليل فقال: "أسمع داعي الله فلا أجيبه؟! فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في المغرب فركع ركعة ثم مات.
فاتقوا الله عباد الله، واعرفوا عِظَمَ قدر الصلاة، واحرصوا عليها رحمني الله وإياكم، وأكثروا من التوبة والاستغفار، فإن الله يحب التوابين والمستغفرين والمنيبين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، عَظُمَ شأنه، ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عم امتنانه، وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن من أخطر الأمور التي تساهل فيها طائفة من الناس ترك الصلاة والتهاون فيها وتأخيرها عن وقتها، وتلك عياذًا بالله دلالة الخسران والبوار وتشبه بالمنافقين الفجار الذين قال الله عنهم: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [النساء:142]، وقال: وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى [التوبة:54]، وقال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59]، ولما ذكر الله تعالى أهل النار أخبر عن سبب عذابهم فقال: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر:42، 43].
وقال عبادة بن الصامت : أوصاني خليلي رسول الله بسبع خصال، وذكر منها: ((ولا تتركوا الصلاة، فمن تركها متعمدًا فقد خرج من الملة)) ، وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله : ((بين الرجل والكفر أو الشرك ترك الصلاة))، وعن عبد الله بن عباس قال: لما قام بصري ـ أي: ذهب ـ قيل: نداويك وتدع الصلاة أيامًا، قال: لا، إن رسول الله قال: ((من ترك الصلاة لقي الله وهو عليه غضبان)).
ولقد هم النبي أن يحرّق بيوت المتخلّفين عن الصلاة لولا ما فيها من النساء والذرية، وجاء في حديث الرؤيا الطويل من رواية سمرة بن جندب أن رسول الله قال: ((وإنا أتينا على رجل مضطجع وآخر قائم عليه بالصخرة فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إليه حتى يصحّ رأسه كما كان، ثم يعود فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى، وحين سئل عن هذا قيل له: هو الرجل يأخذ بالقرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة)).
وقال علي بن أبي طالب : (من ترك صلاة واحدة متعمدًا فقد برئ من الله وبرئ الله منه)، وقال ابن مسعود : (من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف).
قال ابن القيم رحمه الله: "لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة، وقد كان عمر بن الخطاب يكتب إلى الآفاق: إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن حفظها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ولا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، والصلاة أول فروض الإسلام، وهي آخر ما يفقد من الدين، فهي أول الإسلام وآخره، فإذا ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه" اهـ.
وكم يأسى ويحزن المؤمن حين يرى فئامًا من المسلمين تضيق بهم أماكن اللهو واللعب وتغصُّ بكثرة من يفد إليها من كل حدب وصوب، بينما تهجر بيوت الله التي قال الله فيها: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [النور:36]، ولو أعطي هؤلاء شيئًا من حطام هذه الدنيا ليشهدوا الصلاة لما تخلّف عنها أحد ولم تكد تسعهم المساجد والجوامع على كثرتها، وفي الحديث: ((والذي نفسي بيده، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم. والذي نفسي بيده، لو يعلم أحدهم أنه يجد عِرقًا سمينًا أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)).
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب. اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة...
(1/3507)
حديث الأولياء
قضايا في الاعتقاد
الأولياء
خالد بن محمد بابطين
جدة
22/3/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص الحديث. 2- صفة أولياء الله تعالى وأعمالهم. 3- الواجب تجاه أولياء الله تعالى. 4- خطورة إيذاء أولياء الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله تعالى قال: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنه)) رواه البخاري، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا أشرف حديث روي في الأولياء، يقول الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62، 63]، فكل مؤمن تقي فهو لله ولي".
أولياء الله تعالى هم الذين حققوا التوحيد، فعظموا الله تعالى في قلوبهم، فلم يخافوا غيره، ولم يرجوا سواه، فتعلقت قلوبهم به، يعلمون أنه لا رادّ لأمره ولا معقبّ لحكمه، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وأنه لا مذلّ لمن أعزّ ولا معز لمن أذل.
أولياء الله في مقام التوكل هم أعظم الناس توكلاً، يعلمون أن أمر الرزق والحياة والنفع والضر بيد الله تعالى وحده، في حديث ابن عباس عند الترمذي وغيره: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك))، وحدّث عمر يومًا فقالك أمرنا رسول الله أن نتصدق ووافق ذلك عندي مالاً فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا، فجئتُ بنصف مالي، فقال : ((ما أبقيتَ لأهلك؟)) فقلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده فقال: ((يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟)) فقال: أبقيت لهم الله ورسوله.
أولياء الله أرسخ الناس قدمًا في مقام الإيمان بالقضاء والقدر، يعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، فحين يُقْدِمون في المعارك يعلمون أن الشجاعة والإقدام لن تُنْقِصَ الأعمار، وأن الجبن والتأخر لن يزيد في الأعمار، كان علي يقول:
أيُّ يوميَّ من الموت أفرّ: يوم لم يقدَر أو يوم قدِر
يوم لم يقدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجِي الحذَر
أيها المؤمنون، إنّ أولى من يدخل في عداد أولياء الله أولئك المؤمنون المجاهدون؛ فإنهم يعلمون علم اليقين أن كل قِوى العالم لن تستطيع أن تضرهم بشيء إلا بما هو مقدر عليهم، فتجد الواحد منهم مقداما لا يخاف، همه متجه إلى الله تعالى، لا يسأل غيره ولا يستعين بسواه.
أولياء الله أعلم الناس وأفقههم في أسماء الله وصفاته، آمنوا بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل اعتقدوا أنه تعالى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. صح عنه أنه قال: ((أولياء الله تعالى الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى))، ولذا فكَم ترى من الصالحين من تزيدك رؤيتهم نشاطًا في الطاعة ومسابقة إلى الخير وشوقًا إلى الجنة، ناهيك عن صحبتهم ومخالطتهم.
أولياء الله لا يأكلون الربا، ولا يستحلون الرشا، ولا يستمعون الغناء، ولا يتنكبون عن طريق الهدى، وهم أيضًا يفشون السلام، ويطعمون الطعام، ويصِلون الأرحام، ويصَلّون بالليل والناس نيام، طمعًا في دخول الجنة دار السلام بسلام، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويخلصون النصيحة، ويتواصون بالحق والمرحمة، ويحبون لإخوانهم في الله من الخير ما يحبون لأنفسهم، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، ويؤثرون طاعة الله وطاعة رسوله على طاعة أيّ أحد من الخلق، وهم أيضًا كما وصفهم الله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ [المائدة:54].
وأولياء الله لا يستهينون بصغيرة من المعاصي، ولا يجترئون على كبيرة، ولا يصرون على خطيئة، وهم يعلمون ويعتقدون معنى قوله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) وشبّك بين أصابعه، ويأمرون بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء والرضا بمُرّ القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله : ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا))، ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمّن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام وحسن الجوار والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحقّ أو بغير حقّ، ويأمرون بمعالي الأخلاق، وينهون عن سفسافها.
وأولياء الله يتبعون آثار رسول الله باطنًا وظاهرًا، ويتبعون سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار اتِّباعًا لوصية رسول الله حيث قال: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة))، ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، ويؤثرون كلام الله على غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدى محمد على هدى كل أحد. انتهى من كلام شيخ الإسلام في الواسطية.
أيها الإخوة، ينبغي أن يَعلم كل مؤمن أن من الواجب عليه موالاة أولياء الله ومناصرتهم والذب عن أعراضهم، وذلك مقتضى قوله تبارك وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، وروى البخاري ومسلم من طريق الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن النبي قال: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يُسلمه)) ، وقال : ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا))، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيتَ إن كان ظالمًا كيف أنصره؟! قال: ((تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره)) رواه البخاري ومسلم.
أيها الإخوة، هذه النصرة من محاسن الإسلام وباب من أبواب الجهاد، قال تعالى: وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ [الأنفال:72]، وفي ذلك تقوية لعرى المحبة وتثبيت للذين آمنوا، فلا مجال للتخاذل والبطالة والقعود مع الخالفين، ولذلك فما يتناقله الفاسقون والمنافقون من الطعن في أولياء الله الصالحين والثلب فيهم بما ليس فيهم أو بما ليس مجالاً للثلب ـ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8] ـ كل ذلك يعكس ما في نفوسهم، قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118].
ومن الواجب علينا أن نذبّ عن أعراض الصالحين، روى الإمام أحمد في مسنده بسند حسن من حديث جابر رضي الله عنه قال : ((ما من امرئ يخذل امرأً مسلمًا في موطن يُنْتَقَصُ فيه من عرضه ويُنْتَهَكُ فيه من حرمته إلا خذله الله تعالى في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من أحد ينصر مسلمًا في موطن يُنْتَقَصُ فيه من عرضه ويُنْتَهَكُ فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته)).
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، عَظُمَ شأنه، ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عم امتنانه، وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمّا بعد: أيها الإخوة، مما يؤسَف له ما تطالعنا به بعض الصحف المحلية من مقالات سخيفة ومغرضة في نفس الوقت، تهدف إلى استعداء كثير من أبناء هذا المجتمع المحافظ، وتراهم يُنَصِّبون أنفسهم محققين وقضاة لاتهام طرف وتبرئة آخر، في حين أن كبار المسؤولين في هذه البلاد المباركة لم يصرّحوا بهوية مرتكبي تلك الأحداث، بل يؤكدون أن التحقيقات ما زالت مستمرة، لكن بعض أولئك الكتاب يصرّون على السخرية بالدين والمتديّنين عبر مقالاتهم ورسومهم الكاركاتيرية، على نحو لا يخدم قضية المجتمع في مقاومة تلك الأفكار الغالية المنحرفة، بل ترى هؤلاء الكتاب يمارسون دور طابور خامس يسعى لبثّ الفرقة وافتعال المعارك الوهمية بين فئات المجتمع بطريقة لا تصبّ إلا في مصلحة أعداء الأمة والمتربّصين بها الدوائر.
أيها الإخوة الكرام، يقول الله تعالى في الحديث القدسي الذي صدرنا به الخطبة: ((من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب))، وجاء في حديث عائشة: ((فقد استحلّ محاربتي))، وفي رواية: ((فقد بارزني بالمحاربة))، قال الحسن البصري: "ابنَ آدم، هل لك بمحاربة الله من طاقة؟!"، قال أبو رجاء العطاردي: كان لنا جار فقال: ما ترونَ هذا الفاسق بن الفاسق قتله الله يعني الحسين رضي الله عنه، فرماه الله بكوكبين فطمس بصره، وقال السدي: أتيت كربلاء تاجرًا، فعمل لنا شيخ من طيء طعامًا، فتعشينا عنده، فذكرنا قتل الحسين، فقلت: ما شارك أحد في قتله إلا مات ميتة سوء، فقال: ما أكذبكم، أنا ممن شارك في ذلك، قال: فلم نبرح حتى دنا من السراج وهو يتّقد بنفط، فذهب يخرج الفتيلة بإصبعه، فأخذت النار فيها، فذهب يطفئها بريقه، فعلقت بلحيته، فعدا فألقى نفسه في الماء، فرأيته كأنه حممة. وأخبار أهل التأريخ كثيرة في هذا الباب.
ولذلك فإننا نقول: فليحذر من يقع في أعراض الصالحين من عقوبة الله تعالى التي لا قِبل له بها، وليحذر أولئك المنافقون أن تنالهم دعوة في ساعة من ليل أو نهار، فتصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحلّ قريبًا من دارهم، فدعوة أولياء الله مجابة، وفي الحديث: ((ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)). كان سعد بن أبي وقاص مجابَ الدعوة، فكذب عليه رجل فقال: اللهم إن كان كاذبًا فأعم بصره وأطل عمره وعرّضه للفتن، فأصاب الرجلَ ذلك كلُّه، فعمي بصره، وطال عمره، وكان يتعرّض للجواري في السكَك ويقول: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. ودعا على رجل سمِعه يشتم عليًا، فما برح مكانَه حتى جاء بعير ناد فخبطه بيديه ورجليه حتى قتله. ونازعت امرأة سعيد بن زيد في أرض له فادّعت أنه أخذ منها أرضها فقال: اللهم إن كانت كاذبة فأعم بصرها واقتلها في أرضها، فعميت وبينا هي ذات ليلة تمشي في أرضها إذ وقعت في بئر فيها فماتت.
نسأل الله أن يصلح أحوالنا ويهدي ضالنا، إنه على كل شيء قدير...
(1/3508)
الاختبارات والتربية
الأسرة والمجتمع
الأبناء
خالد بن محمد بابطين
جدة
6/4/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الاستعداد للاختبارات. 2- مدى عناية الآباء بأبنائهم. 3- اختبار القبر واختبار الآخرة. 4- صعوبة تربية الأبناء. 5- مشكلة التربية في العصر الحاضر. 6- علاج مشكلة التربية. 7- أهمية الدعاء بصلاح الأولاد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، في هذه الأيام يستعد الطلاب والطالبات ويتهيّئون لدخول الاختبارات بعد أن أمضوا شهورًا من العمل والجد والاجتهاد، فتجد الكل ينشطون بأنواع النشاط والاستعداد، فالاختبار فيه شيء من الرهبة، وهو يحدد مصير صاحبه ومستقبله الدنيوي، فتغمره الفرحة بالنجاح فيسرّ ويبتهج، أو يسودّ وجهه ويعلوه الاكتئاب بالفشل، ولذا فقد أصبحت قلوب الآباء والأولاد وجلة وأذهانهم قلقة، وقد أُعلنت في كثير من البيوت حالة الطوارئ، فالأب ينتظر بفارغ الصبر نتيجة ولده، وتراه يعِده ويمنِّيه ويتوعّده ويحذّره، وقد بذل من ماله وراحته وأعصابه من أجل ولده ونجاحه وشهادته، وهذا الأمر لا تثريب فيه لأنه من الأحاسيس الطبيعية التي فطر عليها الإنسان.
ولكن أيها الأبُ المشفقُ على ولده الخائفُ من إخفاقه وفشله، وأنت قد اهتممت بولدك هذا الاهتمام بشأن الاختبار تعالَ معِي ننظر إلى جانب آخر مما يحتاجه هذا الولد؛ هل كان اهتمامك به بالقدر الذي أوليتَه لدراستِه واختباره؟! ولك أن تقارن وتستخرج النتيجة.
هب أن ولدك تأخّر في نومه عن وقت الاختبار ما هي حالك؟ ما هو شعورك؟ كيف ستصنع؟ ألستَ ستسابق الزّمن ليدرك الاختبار؟! ولكن أرأيتَ إن نام يومًا أو أيامًا عن صلاته كيف سيكون موقفك يا تُرى؟ وأنت ـ أيها الأب ـ المشفق في كل يوم تسأله عما قدّمه في اختباره وهل وُفّق للجواب الصواب؟ ولكن هل تسأله كلّ يوم عن أمر صلاته؟ وهل أداها في وقتها وحافظ عليها حيث ينادى بها؟
أيها الأب المشفق، هب أن ولدك قصر في أداء ذلك الاختبار ولم يسدَّد للجواب الصحيح ألا يضيق صدرك ويشتدّ همّك وغمّك ويأخذ بك الغضب كل مأخذ؟! وقد تنزِل به أشدّ أنواع العقوبة، ولكن أين ذلك كله حين تعلم بل وترى ولدك يرتكب معصية أو يضيّع واجبًا شرعيًا؟!
وها أنت ـ أيها الأب ـ تمنعه أيام الاختبارات مما بين يديه من ملذّات ومُتَع كالتّلفاز والإنترنت والسهر مع الأصحاب والأصدقاء لئلا يُشغل عن اختباره بأي شاغل، وهذا أمر حسن ولا شك، ولكن أين أنت عنه طوال العام حين يغلق عليه بابه ويشاهد ما يعرض عبر الشاشة مما هو معروف؟! وأين أنت عنه حين يخلو بنفسه أو يرتاد تلك المقاهي ويتنقّل بين مواقع الإنترنت السيّئة؟! وكم ليلة أمضاها ونهارٍ قطعه خارج البيت مع أصحابه وأصدقائه وأنت تعلم جيدًا ما يفعل كثير من الشباب حين يجتمعون، فماذا كان موقفك؟!
أيها الأب الحنون، ماذا فعلت لإعداد ولدك لاختبار مهمّ جدًا؛ اختبارٍ من فصلين لا ثالث لهما: فصلٍ في القبر، وآخرَ يوم القيامة، وليس هناك دورٌ ثانٍ ولا إعادة ولا حمل للمواد، ما هو إلا نجاحٌ لا رسوبَ بعده أو رسوبٌ قد لا يكون بعده نجاح، ما هي إلاّ جنةٌ أو نار، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185].
اختبارُ القبر سيسأل عنه كلّ إنسان: من ربك؟ ما دينك؟ ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ وهو اختبار مكشوف ليس فيه شيء من السّرِّية، وقد يبدو سهلاً يسيرًا، ولكن من الناس من إذا سئِل فيه أجاب، ومنهم من إذا سئل قال: هاه هاه لا أدري سمعت الناس يقولون ذاك، فيقال له: لا دريت ولا تليت، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]. وأما الاختبار الآخر فيوم القيامة حين لا تزولُ قدما عبدٍ حتى يسأَل عن خمس: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟
أيها الأب الفاضل، ماذا تغني عنه شهادته أو تفوّقه؟! ماذا يغني عنه مركزه ومكانته إذا أوتي كتابه بشماله وقال: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29]؟!
أيها المؤمنون، إن قضية التربية قضية مؤرقة وشائكة جدًا؛ حيث إن العوامل التي تدخل فيها وتؤثّر في مخرجاتها كثيرة ومعقّدة، بل ومتناقضة في كثير من الأحيان، وبالتالي فكما جاء في الحديث: ((لا يجنَى من الشوك العنب))، وتأمل في واقع المجتمع وانظر حولك ترى كلّ ما يهدم القيم والأخلاق، فكيف ترجَى ثمراتٌ طيبة للتربية في واقع لا يساعد على نجاحها بل هو يهدمها ويناقضها؟!
فذاك أب مشغول بتجارته، وآخر غارق في عقاراته وعماراته، وثالث مستهلك بوظيفته صباح مساء، ورابع لا يكاد يضع عصا الترحال عن عاتقه، وخامس يقطع ليله مع أصدقائه ونهاره في عمله، وسادس مشغول بزوجه الجديدة التي أخذت عقلَه ولبَّه وقلبَه ووقته حتى أضحى كثير من الأولاد أيتامًا وآباؤهم على قيدِ الحياة.
وليست المشكلة فحسب أن هؤلاء الأولاد لم يجدوا من يربيهم، بل المشكلة أيضًا أن هناك وسائل بديلة قامت بتربيتهم، فالإعلام بوسائله المتنوّعة المؤثرة يستلم الطفل أو الشاب أو الزوجة منذ دخوله المنزل إلى أن ينام بكل برامجه وصوره ومُسَلْسَلاته، وإن شئت فقل: ومُسَلْسِلاته، حتى أصبح الإنسان يستطيع أن يشاهد مئات القنوات التي تصوّر له أوضاع الشعوب الأخرى وكيف يعيشون وما هي أنماط أخلاقهم وسلوكهم في النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لذلك فهذا الإعلام بصورةٍ واضحة صريحة يقدّم للناس هديًا وشريعة بديلَين عن شريعة الله تعالى وهدي محمد ، بل بلغ من انتشاره وخطورته أن أصبح يبذل بالمجان لكل من أراد، فإعلاناتٌ في الطرق وعبر رسائل الجوال لتسهيل وصول هذه الوسيلة لكل بيت، بل لكل غرفة، وهي في حقيقتها نشر للفاحشة بين الناس، ولا أظن أصحابها إلا ممن قال الله فيهم: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النور:19].
وحدّث ولا حرج عن الإنترنت، ذلك البحر الذي لا ساحل له، وثمة عامل مؤثر وهو الشارع بكل ما فيه مما أقلّ ما نقول فيه: إنه ليس مكانا للتّلقي والتربية والتوجيه حيث تغيب فيه الرقابة من الوالدين ومن غيرهم. إضافةً إلى العناصر الدخيلة على المجتمع، فالسائق مثلا حين يذهب بالبنات إلى المدرسة وإلى السوق أو إلى أماكن الترفيه دون أن يكون هناك أيّ قدر من التوجيه أو الرقابة بحجّة أن الثقة في ظنّ الكثيرين موجودة، وكل أب يثق ببناته وأولاده تلقائيا لأنه يذكرهم منذ الصغر ويذكر ما فيهم من البراءة والبعد عن هذه المعاني، ويرى أيضًا ما عندهم من الحياء والخجل الذي يجعلهم لا يتكلّمون أمامه بشيء، فيظن الأب أنّ أبناءه وبناته أبرار أطهار، ولا يتوقع أن المشاعر المتأجّجة التي قد تثور في نفس أيّ شاب قد تثور عند ابنه أو ابنته، فيتساهل في شأن السائق والخادمة واختلاطهم مع أبنائه وبناته، وكم جرّ هذا التساهل من ويلاتٍ تشيب لها مفارق الولدان.
نسأل الله أن يصلح أولادنا، وأن يحفظهم من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة الكرام، أعتذِر لكم عن هذا الإسهاب في وصف الواقع السيّئ، لكنه واقع ملموس لا بدّ من التعرّف عليه بكل صدق ووضوح، ولا بد من معالجته بكلّ أمانة وإخلاص، ولست أزعم أني سآتي في هذه الخطبة على كلّ ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع، فليست الخطبة مجالاً للإسهاب في هذه الموضوعات، وليس علاج هذه المشكلة يكون بخطبة أو كلمة أو محاضرة أو كتاب، بل لا بدّ من أن تترجم كل هذه الأقوال إلى أفعال، وما لا يدرك كله لا يترك جلّه، ولعلي أن أجمِل شيئًا العلاج في النقاط التالية، وحسبي أن يصبح هذا الأمر همًا يستدعي العنايةَ والاهتمام من كل مسؤول عن التربية.
أولاً: لا بد أن تقوم مؤسسات التربية والتعليم بدورها المطلوب، ولا بد أن توفّر لها الإمكانات اللازمة لتواكب وسائلُها تقنياتِ العصر وتفيد منها في بناء الإنسان المسلم بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، ولا بد أن يختار لها الأكفاء المؤهّلون لحمل هذه الأمانة، لا أن تكون التربية والتعليم وظيفة من لا وظيفة له.
ثانيًا: إحياء دور المسجد ورسالته، فهو منطلق التربية الأول ومصدرها الأساس، وهو الجو الطبيعي للتربية على مكارم الأخلاق ومعاليها، ولقد كان النبي يعيش معظم وقته مع أصحابه في المسجد، ففيه حلْقات التعليم، ويرتاده السائلون والمستفتون، حتى إن الرجل الجاهل يأتي فيدخل المسجد، فيجد الرسول مع أصحابه، فيقف بينهم فيقول: أيكم محمد؟ فيشيرون إليه ويقولون: هو هذا، فيسأله عمّا أشكل عليه من أمر دينه أو دنياه.
ثالثًا: القرناء الصالحون، وهم بحمد الله كُثر، فينبغي الحرص عليهم، وأن يضع الأب ولده في دائرتهم، فهو مسؤول عن وصله بهذه الوسائل المفيدة ومنعه وإبعاده عن تلك الوسائل الضارة، وينبغي أن نعلم أن الشر خفيف على النفس، وأن التكاليف ثقيلة، والشيطان مسلّط، فيحتاج الإنسان إلى مراقبة ورعاية وحثّ وتشجيع.
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على حب الرضاعة وإن تفطمه ينفطم
رابعًا: الحلقات والدروس العلمية كحلقات تحفيظ القرآن الكريم أو حلقات تعليم العلم الشرعي أو مجالس للذكر يؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر وترقَّق فيها القلوب وتحرَّك فيها المشاعر.
خامسًا: الوسائل الإعلامية النافعة مثل الكتب والأشرطة والمجلات الإسلامية المفيدة وغيرها، وكذلك المواقع المفيدة في الإنترنت.
سادسًا: المعايشة والمخالطة والتعاهد بالنصح والتوجيه والقدوة الحسنة في الأقوال والأفعال ومحاولة تلمّس حاجاتهم ومشكلاتهم وتذليل ما يواجهون من عقبات وصعوبات.
أيّها الإخوة، إنّ التربية تحتاج إلى صبر ومصابرة ودعاء ومتابعة، فربما استجاب الولد بعد حين وادّكر بعد أمة.
أيها الإخوة، ومع كل ما سبق فثمّة أمرُ الدعاء، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ [إبراهيم:40]، وزكريا عليه السلام دعا ربه فقال: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ [آل عمران:38]، وحين وهب الله له يحيا قال: وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا [مريم:6]، ومن دعاء المؤمنين: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
فما أحرانا أن نخصَّهم بدعوة خالصة في ساعة من ليل أو نهار، لعل الله أن يفتح لها باب القبول.
(1/3509)
من الوصايا النبوية
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أحاديث مشروحة, الآداب والحقوق العامة
خالد بن محمد بابطين
جدة
27/4/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من جوامع كلمه. 2- الوصية باتقاء المحارم. 3- الوصية بالرضا بقسم الله تعالى. 4- الوصية بالجار. 5- الوصية بحب الخير للناس. 6- الوصية بالإقلال من الضحك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله ـ عباد الله ـ حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واعلموا أن أجسادكم على النار لا تقوى.
روى الإمام الترمذي رحمه الله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يُعَلِّمُ من يعملُ بهن؟)) فقال أبو هريرة فقلت: أنا يا رسول الله، فأخذ بيدي فعد خمسًا وقال: ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب)).
أيها الإخوة، لقد جمع النبي في هذه الكلمات أمورًا عظيمة، وأوصى بوصايا جليلة جديرة منا بوقفات تأمل وتدبر وسعي دؤوب للاستجابة والامتثال.
((اتق المحارم تكن أعبد الناس))، هذه المحارم هي حِمى الله تعالى في أرضه، يجب أن تصان وتعظّم وتحترم كما يصان حمى ملوك أرض ويمنع، في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير أن رسول قال: ((ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه)).
ونحن حين ننظر في واقع كثير من الناس في هذه الأيام نرى تساهلاً عظيمًا وتفريطًا كبيرًا في مواقعة هذه المحارم وعدم الاكتراث بكثير منها، فها أنت ترى من الناس من يستحل ما وقع في يديه من المال أو وصل إليه بأي طريق كان حَلَّ أو حَرُمَ، بل منهم من يقاضي غيره ويخاصمه وهو مبطل لكنه أوتي من الفصاحة والقوة في إظهار حجته ما يستطيع به غلبة خصمه، وكم تمتلئ المحاكم بقضايا من هذا النوع، وتلك معصية ما أعظمها!! عن أم سلمة عن النبي قال: ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار)).
قال ابن كثير: "اعلم ـ يا ابن آدم ـ أن قضاء القاضي لا يُحِلُّ لك حرامًا ولا يُحِقُّ لك باطلاً، وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرى وتشهد به الشهود، والقاضي بشر يخطئ ويصيب. واعلموا أن من قُضِيَ له بباطل أن خصومته لم تنقضِ حتى يجمع الله بينهما يوم القيامة فيقضي على المبطل للمحقّ بأجود مما قُضِيَ به للمبطل على المحقّ في الدنيا".
فأمرُ حقوق الناس وأموالهم من أعظم ما ينبغي العناية به، ولو كان الرجل على درجة من الصلاح والتقوى والمحافظة الصلوات ولزوم المساجد ما نفعه ذلك شيئًا حتى يؤدّيَ الحقوق إلى أهلها. قال وهب بن الورد: "لو قمت مقام هذه السارية لم ينفعك شيءٌ حتى تنظر ما يدخل في بطنك حلال أو حرام".
أيها المؤمنون، إن المحارم التي ينبغي أن تتَّقَى كثيرة في السمع والبصر واللسان والجوارح جميعًا، ولسوف يسأل الإنسان عن ذلك كلّه، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً [الإسراء:36].
عباد الله، إنّ مَن عَظَّمَ الله تعالى في نفسه كان أبعدَ الناس عن المحارم، قال بلال بن سعد رحمه الله: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيتَ"، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله"، وقال ابن عباس : (يا صاحب الذنب، لا تأمن سوء عاقبته، ولَمَا يتبع الذنب أعظم من الذنب إذا عملته، قلة حيائك ممن على اليمين وعلى الشمال وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا ظفرتَ به أعظم من الذنب، وحزنك على الذنب إذا فاتك أعظم من الذنب، وخوفك من الريح إذا حركت سترَ بابك وأنت على الذنب ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب إذا عملته).
أيها المؤمنون، أما الوصية الثانية فهي قوله: ((وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس))، فالغنى في الحقيقة هو غنى النفس، فليس الغنى بكثرة ما جمع الإنسان من حطام الدنيا.
وهذه القضية على بداهتها وقع فيها خلل كبير عند كثير من الناس، فتراهم يسعون في الاستكثار من هذا الحطام ولو كانوا لا يملكون من المال ما يوصلهم إليه، فلجؤوا إلى الدَّين حتى غرقوا في بحاره، وتحمّل كثير من الناس من الدَّين والأقساط ما يعجز عن سداده، ونسي هؤلاء أو جهلوا ما ورد في شأن الدَّين وخطره، وإليك هذه الأحاديث:
عن أبي قتادة أن رسول الله قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت إن قتِلتُ في سبيل الله تكفَّر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله : ((نعم، إن قتِلتَ في سبيل الله وأنت صابر محتسِب غير مدبِر))، ثم قال رسول الله : ((كيف قلت؟)) قال: أرأيتَ إن قتِلت في سبيل الله أتكفَّر عني خطاياي؟ فقال رسول الله : ((نعم، وأنت صابر محتسب غير مدبر إلا الدّين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك)) رواه الإمام مسلم.
عن جابر قال: توفي رجل فغسّلناه وكفناه وحنطناه، ثم أتينا به رسول الله يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا خطوة ثم قال: ((أعليه دين؟)) قلت: ديناران، فانصرف فتحمّلها أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله : ((قد أوفى الله حقَّ الغريم وبرئ منها الميت؟)) قال: نعم، فصلى عليه ثم قال بعد ذلك بيوم: ((ما فعل الديناران؟)) قلت: إنما مات من الأمس، قال: فعاد إليه من الغد قال: قد قضيتهما، فقال رسول الله : ((الآن بردت عليه جلدته)) رواه أبو داود وغيره.
فشأن الدّين عظيم أيها الإخوة، فليت شعري لِمَ يحمِّل الإنسان نفسه ما لا يحتمل ثم يؤول به الأمر أن يصير مرتهنًا بدينه؟! وقد كان يكفيه أن يرضى بما قسم الله له فيكون أغنى الناس.
وتأمّل حاله وكيف رضي من هذه الفانية بالقليل وهو الذي لو شاء أن تكون له جبال الأرض ذهبًا وفضة لكانت، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لعروة بن الزبير: ابنَ أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله نار، فقلت: ما كان يُعيشُكُم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. وعنها رضي الله عنها قالت: كان فراش رسول الله من أدم حشوه ليف. وعنها رضي الله عنها قالت: لقد مات رسول الله وما شبع من خبز وزيت في يوم مرتين. ولذلك كان من دعائه : ((اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف علي كل غائبة لي بخير)).
أما الوصية الثالثة ـ أيها الإخوة ـ فهي: ((وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا))، وقد جاءت هذه الوصية في كتاب الله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36]، بل قد أكد الله تعالى حقَّ الجار، فكان جبريل يوصي الرسول بالجار حتى ظنّ النبي أن الجار سيرث جارَه مثل أهلِه وقرابته. وحقوق الجار التي جاء بها الشرع كثيرة، فينبغي للمؤمن المحافظة عليها لما يترتّب على ذلك من الألفة والمودة، وهي مقصد من مقاصد الشرع.
عن أبي هريرة أن النبي قال: ((والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن)) قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((الذي لا يأمن جاره بوائقه)) متفق عليه. والبوائق هي الغوائل والشرور. وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رجل لرسول الله :كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ قال النبي : ((إذا سمعت جيرانك يقولون أن قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت)) رواه ابن ماجه وهو حديث صحيح.
ومن أعظم حقوقه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر والتعاون معه على البر والتقوى. وليحذر الجيران من أمور قد تكون يسيرة توقع بينهما الشقاق والخلاف، فقد يقع بين الأولاد إشكالات وأمور، فيجب أن لا يسبب هذا الأمر تنافرًا وتباغضًا بين الآباء والأمهات، فتقع القطيعة والهجران بين الكبار، وقد تعود المياه إلى مجاريها بين الصغار ونفوس الكبار ما زالت مشحونة وفيها ما فيها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَظُمَ شأنه ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره عمّ امتنانه وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : أيها الإخوة المؤمنون، الوصية الرابعة: ((وأحِبَّ للناس ما تحبّ لنفسك تكن مسلمًا))، وهذا خلق عظيم ومنزلة رفيعة يرتقي إليها المسلم حين يحبّ الخير لجميع المسلمين، فيسعى في هدايتهم وإيصال الخير لهم، فيتعاهدهم بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن المسلم لا يقدّم لمجتمعه إلا الخير، فإن لم يفعل أحجم عن الشرّ وأمسك عن الأذى. والمسلم الحق هو الذي يفعل الخير دومًا، ولا يصدر عنه شرّ؛ ذلك أنه ينطلق من قول الرسول : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه مل يحب لنفسه))، وحب المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه يعني الحرص على نفعهم ودفع الأذى عنهم، ويعني شيئًا آخر يميّز الفرد في المجتمع الإسلامي، وهو فاعليته ونشاطه ودأبه في خدمة إخوانه المسلمين، صحّ عنه أنه قال: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)). وما أجمله من مجتمع حين تسوده هذه الروح الجماعية في وقت غلبت فيه الروح الفردية على كثير من الناس، حتى أصبح لا يهتمّ إلا بخاصة نفسه ومصالحه الشخصية.
أما الوصية الخامسة فهي: ((ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب))، فالإسلام لا يريد من المسلم أن يصبح مهذارًا كثير الضحك ميّت القلب، فحين يحصل ما يستدعي التبسّم أو الضحك فله ذلك بالقدر الذي لا يكون فيه مبالغة أو امتهان لنفسه أو غيره.
ولقد كان هدي النبي في ذلك أكملَ الهدي وأفضله، عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله مستجمعًا قطُّ ضاحكًا حتى ترى منه لهواته، إنما كان يتبسم. متفق عليه. واللهوات جمع لهاة وهي اللحمة التي في أقصى سقف الفم.
وعن عبد الله بن الحارث بن جَزْء أنه قال: ما رأيت أحدًا أكثر تبسمًا من رسول الله ، وعن جرير بن عبد الله قال: ما حجبني رسول الله منذ أسلمت ولا رآني إلا ضحك، وفي رواية: إلا تبسم. رواها الترمذي في الشمائل.
(1/3510)
بر الوالدين
الأسرة والمجتمع
الوالدان
خالد بن محمد بابطين
جدة
24/6/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أنموذج من البر بالوالدين. 2- وصية الله تعالى ببر الوالدين. 3- بر الوالدين من صفات الأنبياء. 4- عظم منزلة بر الوالدين. 5- فضل بر الوالدين. 6- نماذج من بر السلف الصالح. 7- صور من العقوق. 8- جريمة العقوق. 9- الأم أحق بالبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
حدث رسول الله أصحابه يومًا عن رجل من بني إسرائيل أنه قال: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وفي رواية: أبوان ضعيفان فقيران ليس لهما خادم ولا راع ولا ولي غيري، فكنت أرعى لهما بالنهار وآوي إليهما بالليل، وكنت لا أُغْبقُ قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي في طلب شيءٍ يومًا فلم أُرِحْ عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أُغْبِقَ قبلهما أهلاً أو مالاً، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما وفي رواية: وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، وفي رواية أخرى: والصبية يتضاغون عند قدمي حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما.
أنموذج من البر عجيب، يكاد المرء يظنه ضربًا من الخيال لولا أن المخبر به هو الصادق المصدوق.
أيها الإخوة، بر الوالدين وصية الله ربّ العالمين للإنسان: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14]، وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [العنكبوت:8].
بر الوالدين من صفات الأنبياء، فهذا عيسى عليه السلام قال عن نفسه: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [مريم:32]، وأثنى الله على يحيا بن زكريا عليهما السلام فقال: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا [مريم:14]، وهذا إسماعيل عليه السلام وما كان من شأنه مع أبيه في قصة الذبح: قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ [الصافات:102].
بل انظر إلى شيخ الأنبياء وأبيهم خليل الرحمن في قصته مع أبيه آزر عابد الأوثان، بل صانعها وناحتها، انظر كيف تلطف معه أيما تلطف، وكيف خاطبه بأرق عبارة تفيض برًا وإحسانًا: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا [مريم:42-45].
وهذا سيد الأنبياء وخاتمهم كان من خبره ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: زار النبي قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: ((استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي)) ، وقال أبو الطفيل : رأيت رسول الله يقسم لحمًا بالجعرانة وأنا غلام شاب، فأقبلت امرأة، فلما رآها رسول الله بسط لها رداءه فقعدت عليه فقلت: من هذه؟ قالوا: أمّه التي أرضعته.
أيها المؤمنون، بر الوالدين قرنه الله بأعظم وأول واجب على المكلف: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]، وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء:36]، وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23].
بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله الذي هو ذروة سنام الإسلام، عن معاوية بن جاهمة السلمي قال: أتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحيّة أمك؟)) قلت: نعم، قال: ((ارجع فبرّها)) ، قال: ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((فارجع إليها فبرها)) ، ثم أتيته من أمامه فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، قال: ((ويحك، أحية أمك؟)) قلت: نعم يا رسول الله، قال: ((ويحك، الزم رجلَها فثَمَّ الجنة)).
واعلم ـ رحمك الله ـ أن بر الوالدين لا ينتهي بموتهما، فعن أبي أسيد الساعدي قال: فيما نحن عند رسول إذ جاءه رجل من بني سلِمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبويّ شيء أبرّهما بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاةُ عليهما والاستغفارُ لهما وانفاذُ عهدهما من بعدهما وصلة الرحِم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما)).
وبر الوالدين يستمرّ في ذرية الإنسان وعقبِه من بعده، عن ابن عمر قال رسول الله : ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعِفّوا تعِف نساؤكم)). كذلك بر الوالدين يزيد في العمر، عن سهل بن معاذ أن رسول قال: ((من بر والديه طوبى له، زاد الله في عمره)).
كتب أحد السلف إلى أبيه رسالة كتب في آخرها: (جُعِلت فداك)، فبكى الوالد وردّ عليه وقال: (لا تكتب هكذا بعد اليوم، فأنت على يومي أصبر مني على يومِك). هكذا الأبوان المستحقّان للبر والصلة. وذكروا أن رجلاً ضرب بمال لم يؤده فلم يعطه، فأتي بولده فضرِب، فجعل الرجل يبكي بكاء الطفل فقالوا له: ما لك؟! فقال: ضرِب جلدي فصبرت، وضرِبَت كبدي فلم أصبر.
هكذا الأب أيها المسلم، يجوع لتشبع، ويعرى لتَلْبَس، ويشقى لتسعد، ويتعب لترتاح، إذا مرضت داواك، وإذا بكيت أرضاك، وإذا ضحكت فرح، وإذا نهضت أتبعك النظر، وإذا جلست أتبعك الدعاء.
أيها الإخوة، لقد فقه الصالحون هذا الأمر فضربوا أروع الأمثلة في بر الوالدين والإحسان إليهما، فهذا ابن عمر يلقى رجلاً من الأعراب بطريق مكة فيسلّم عليه عبد الله ويحمله على حمار كان يركبه ويعطيه عمامة كانت على رأسه، فقال ابن دينار: فقلنا له: أصلحك الله إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير! فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وِدًا لعمر بن الخطاب، وإني سمعت رسول الله يقول: ((إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه)). وهذا زين العابدين علي بن الحسين قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمّك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة! فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها. وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر بيت وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا. وكان الفضل بن يحيا يُدِْفئ الماء لأبيه وهما في السّجن، فيضع الدلو عند المصباح ويمسكه طوال الليل، فعرف السجان ذلك فأخذ المصباح في الليلة التي بعدها، فجعل الفضل يضمّ الوعاء إلى جلده وبطنه طوال الليل فإذا طلع الفجر كان الماء فاترًا فأعطاه أباه ليتوضأ به. وقال عامر بن عبد الله بن الزبير: لما مات أبي عبد الله ما سألت الله حولاً كاملاً إلا العفو عنه. وهذا ابن عون نادته أمه فأجابها فَعَلا صوته صوتَها فأعتق رقبتين يرى أنهما كفارة لما فعل. وبكى إياس بن معاوية حين ماتت أمه بكاء شديدًا، فقيل له في ذلك فقال: كان لي بابان مفتوحان إلى الجنة فأغلق أحدهما، وحُقّ لعين بكاها. وقال محمد بن المنكدر بات أخي عمر يصلي وبتّ أغمز قدم أمي وما أحبّ أن ليلته بليلتي.
أين هذا ـ عباد الله ـ من شابّ عاق أودع أمّه دار العجزة ولم يزرها حتى تردّت حالتها فطلبت من مسؤول الدار أن يتّصل بولدها لتراه وتقبِّله قبل موتها، فسبقتها دموعها قبل أن تسمع جواب ولدها بالرّفض والاعتذار بضيق الوقت وكثرة الأعمال والأشغال، فلما توفّيت الأم اتصلوا بذلك الابن لإخباره فقال: أكملوا إجراءاتكم الرسمية وادفنوها في قبرها. نعوذ بالله من الحرمان ومن سخط الملك الديان. هكذا صغيرًا بكت عليه إشفاقًا وحذرًا، وكبيرًا بكت منه فرقًا وخوفًا، فهي حليفة همّ وحزن وغم.
يتباكيان ويشكوان جواهما بمدامعٍ تنهل من برحائه
يتجاوبان إذا الرياح تناوحت على الرياح هببن من تلقائه
أيها الإخوة، إن شأن الوالدين عظيم، فمهما اجتهد الإنسان في برهما فلن يبلغ جزاءهما، قال أبو موسى الأشعري : شهد ابن عمر رجلاً يطوف بالبيت قد حمل أمه وراء ظهره يقول:
أني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا وبزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يثيبك على الإحسان. وعن زرعة بن إبراهيم أن رجلاً جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إن لي أمًا بلغت الكبر ولا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأنا أقوم بتوضئتها وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها وشكرها؟ فبكى عمر ثم قال: إنها صنعت بك ذلك وهي ترجو بقاءك، وأنت تفعله متمنّيًا فراقها بعد حين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، عَظُمَ شأنه، ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عم امتنانه، وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن العقوق للوالدين من أقبح ما يقع من الإنسان، ولننظر في كلام السلف لنرى كيف كانوا يرون العقوق. فهذا مجاهد يقول: ما بر والديه من أحدَّ النظر إليهما. وقال كعب: أجد في كتاب الله أن الابن إذا دعاه أبوه فلم يجبه فقد عقّه، وإذا ألجأه أن يدعو عليه فقد عقه، وإذا ائتمنه فخانه فقد عقه، وإذا سأله ما لا يقدر عليه فقد عقه. وسئل الحسن عن العقوق فقال: أن يحرمهما ويهجرهما ويحدّ النظر إليهما، ولو علم الله شيئًا من العقوق أدنى من أفّ لحرمه.
ومن أعظم العقوق ما يحصل من بعض الناس من تفضيل زوجه على أمه وإرضائها بإسخاط أمه، وهذا الأمر قُطبُ كثير من المشكلات الاجتماعية وعمود رحى كثير من الخلافات الزوجية، مع أن المسألة محسومة شرعًا، ومن أراد الله به خيرًا فقهه في الدين، ومن يتق الله يجعل له مخرجًا، فالأم لها حقوق على ولدها، والزوجة لها حقوق على زوجها كفلها لها الشارع، لكنها ـ وربي ـ لا تداني حقوقَ الأم ولا تزاحمها، فافهم هذا ـ يا عبد الله ـ وحذار حذار أن تبعد من أوصاك رسولك بها وجعلها أحقّ الناس بحسن الصحبة، يقول له الصحابي: ثم من؟ فيقول: ((أمك)) ، فيقول له: ثم من؟ فيقول: ((أمك)).
وما أحسن ما قيل:
فلا تطع زوجةً في قطع والدة عليك يا ابن أخي قد أفنت العمرا
فكيف تنكر أمًا ثقلَك احتملت وقد تمرغت في أحشائها عسرا
وعالجت بك أوجاع النفاس وكم سرت لما ولدت مولودها ذكرا
وأرضعتك إلى الحولين مكملة في حجرها تستقي من ثديه الدررا
ومنك ينجسها ما أنت راضعه منها ولا تشتكي نتنا ولا قذرا
و"قل هو الله" بالآلاف تقرؤها خوفًا عليك وترخي دونك السُتُرا
وعاملتك بإحسان وتربية حتى استويت وحتى صرت كيف ترى
فلا تفضل عليها زوجة أبدًا ولا تدع قلبها بالقهر منكسرًا
والوالد الأصل لا تنكر لتربية واحفظه لا سيما إن أدرك الكبرا
فما تؤدي له حقا عليك ولو على عيونك حج البيت واعتمرا
عباد الله، إن عقوق الوالدين مما تعجّل عقوبته في الدنيا مع ما يكون لصاحبه من نكال وعذاب يوم القيامة. ذُكر عن رجل من السابقين كان له ولد يقال له: منازل، وكان كثير العقوق، وكان أبوه كثيرًا ما ينصحه ويوجهه، ولكنه كان يأبى ذلك كله، حتى كان ذات يوم أن نصحه أبوه فغضب الولد وعلا غضب، فرفع يده ولطم أباه، فغضب الأب من ذلك وأقسم ليأتين البيت العتيق وليتعلقن بأستار الكعبة وليدعوَنَّ على ولده، فخرج الرجل حتى انتهى إلى مكة ودخل البيت الحرام وتعلّق بأستار الكعبة وأنشأ يقول:
يا من إليه أتى الحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قرب ومن بُعُدِ
إني أتيتك يا من لا يُخَيَّب مَنْ يدعوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا منازل لا يرتد عن عَقَقِيْ فخذ بحقي يا رحمن من ولدي
و شلّ منه بحول منك جانبه يا من تقدس لم يولد ولم يلد
قال الراوي: فما انتهى الأب من دعائه حتى يَبس شق ولده هناك.
وفي عصرنا نماذج متعددة لأنواع من العقوق، وكم نسمع عن قضايا في المحاكم من أب يشكو ابنه في تلاعبه بمال أبيه وحرمانه منه وإخوانه إلى غير ذلك.
ومن أعجب القصص ما ذكر عن شابٍ كانت تعيش معه أمه العجوز وقد طعنت في السن حتى ضجر منها، فأخذها ذات يوم معه في السيارة وذهب بها إلى شاطئ البحر، ووضعها هنالك، وقال لها: إنه سيأتيها بعد حين، وأعطاها ورقة صغيرة وقال لها: انتظري حتى آتيك، فمكثت تلك المسكينة ساعات وهي ما زالت تمني نفسها بأن ولدها سيأتيها، حتى أدركها الليل وبدأ الناس يرحلون من ذلك المكان، فجاءها رجل وقد استغرب بقاءها حتى هذا الوقت، فسألها عن شأنها وعن جلوسها في هذا المكان وحدها فقالت: لقد أتى بي ولدي إلى هنا وقال: إنه سيذهب لقضاء بعض أموره وسوف يأتي، ولكنه تأخر وعسى أن يكون خيرًا، فحاول معها ذلك الرجل ليوصلها إلى بيتها فأبت وقالت: إنه سيأتي وقد أعطاني هذه الورقة، فنظر الرجل في تلك الورقة، وتصوروا ماذا قرأ فيها: "يرجى ممن يقرأ هذه الورقة أخذ هذه العجوز إلى دار العجزة". نعوذ بالله من العقوق والحرمان.
(1/3511)
التبرك المشروع والتبرك الممنوع
التوحيد, قضايا في الاعتقاد
البدع والمحدثات, الشرك ووسائله
خالد بن محمد بابطين
جدة
1/7/1424
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شروط قبول العمل. 2- التبرك بالنبي في حياته. 3- امتناع التبرك بآثاره بعد وفاته. 4- عدم مشروعية التبرك بالصالحين وآثارهم. 5- التبرك بالأماكن. 6- بدع ومخالفات عند قبر النبي. 7- بدعة التبرك بليلة المولد وليلة الإسراء والمعراج. 8- التبرك المشروع. 9- الأماكن والبقاع المباركة. 10- الأزمنة المباركة. 11- الأطعمة المباركة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة، إن من القواعد المقررة في الشريعة والتي ينبغي للمسلم معرفتها أن أي قربة أو عبادة لا تقبل إلا بشرطين أساسين: أولهما الإخلاص لله تعالى، والثاني المتابعة للنبي ، يقول الله تبارك وتعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110].
وثمة قاعدة أخرى وهي أن العبادات الأصل فيها المنع حتى تثبت مشروعيتها بالدليل الصحيح، فعن عائشة قالت: قال رسول الله : ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ)).
إذا تقررت هاتان القاعدتان واتضحتا فنقول: إن من المسائل التي أخطأ فيها كثير من الناس مسألةَ التبرك بالأشخاص أو الجمادات أو الأمكنة أو الأزمنة، وقد ترتب على ذلك بدع ومحدثات ما أنزل الله بها من سلطان، بل لقد ترسخت وتجذرت عندهم حتى غدت من الدين الذي يدينون لله به، وذلك لعمرو الله من تلاعب الشيطان بهم وإيقاعه إياهم في حبائله وشراكه، يقول تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104].
أيها الإخوة، إن التبرك بذوات الأشخاص لا يجوز إلا بما ورد في الشرع الإذن فيه، والمأذون فيه شرعًا في هذا الباب هو التبرك بالنبي في حياته، وقد ثبتت بذلك الروايات الكثيرة أن الصحابة تبركوا بشعره وببصاقه وسؤره ووَضوئه وعرقه وما استعمله من آنية أو ملابس؛ لما جعل الله فيه من البركة مما يستشفى به ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة مع الاعتقاد أن واهب هذا الخير ومعطيه هو رب السماوات والأرض وأن هذا لا ينفع إلا المؤمنين بالله المتبعين لرسوله.
وهذا النوع من التبرك قد انتهى بوفاته أو كاد حيث بقي شيءٌ من ثيابه وشعره عند بعض الصحابة والتابعين فترة من الزمن، ثم كما هو معلوم مرت سنوات وقرون وجرى ما جرى فيها من تغير الأحوال وتبدل الأمور فأصبح من المستحيل إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين، ناهيك عن فشو الكذب في نسبة الأحاديث إليه عند كثير من الناس فضلاً عن نسبة الآثار والبقايا.
وثمة أمر مهم متعلق بما سبق، فقد يقال: هل يقاس غيره من الصالحين عليه في التبرك بذاته أو آثاره؟ قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "التبرك بآثار الصالحين غير جائز، وإنما يجوز ذلك بالنبي خاصة لما جعل الله في جسده وما مسه من البركة، وأما غيره فلا يقاس عليه لوجهين: 1- لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك مع غير النبي ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، 2- لسد ذريعة الشرك لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله فوجب المنع من ذلك" اهـ.
لكن يجوز التبرك بالصالحين بمجالستهم حيث تحصل فيه أنواع من البركة كالانتفاع بعلمهم والاستماع إلى وعظهم ونصحهم والانتفاع بدعائهم وتحصيل فضل مجالس الذكر لمن جالسهم وإن لم يكن منهم، وهذا من أعظم ما ينبغي الحرص عليه من البركة.
أما التبرك بالأماكن التي مشى فيها النبي أو جلس فيها أو أمسكها بيده أو صلى فيها اتفاقًا أو تحنث فيها قبل البعثة فلم يثبت مشروعية التبرك بها أو الصلاة فيها قصدًا أو زيارتها لا في عهد النبي ولا في عهد خلفائه الراشدين، وبعد نزول الوحي على النبي لم يصعد إلى غار حراء ولم يطلب من أصحابه فعل ذلك، وقد جاء إلى مكة فاتحًا ولم يقل لأصحابه: انظروا إلى المكان الذي كنت أتحنث فيه أو اذهبوا إلى غار ثور لتروا أين اختبأت ليلة الهجرة، ولم يفعل ذلك الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، بل لقد قطع عمر بن الخطاب الشجرة التي في الحديبية التي تمت البيعة تحتها حينما رأى الناس يتبركون بها، ونهى الناس عن تحري الصلاة في مكان صلى به النبي وهو عائد إلى المدينة وقال : (إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا؛ يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيعًا. من أدركته الصلاة في هذا المسجد ـ أي: المكان الذي صلى فيه النبي ـ فليصل، ومن لا فليمض ولا يعتمدها).
أيها الإخوة، ومن الأخطاء الواقعة في هذا الباب التبرك بقبر النبي وشد الرحال إليه، وكم تحصل من أمور منكرة كمن يطلب الدعاء أو الشفاعة منه أو يؤدي بعض العبادات عند قبره كالدعاء وقراءة القرآن أو يتمسح بالقبر أو يقبله أو يتعمد استقباله في الصلاة ونحو ذلك، قال النووي رحمه الله: "يكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يُبعد منه كما يبعد منه لو حضر في حياته ، هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه، وينبغي أن لا يُغتر بكثير من العوام في مخالفتهم ذلك، فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بأقوال العلماء ولا يلتفت إلى محدثات العوام وجهالاتهم، ولقد أحسن السيد الجليل الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله: اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين، ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال العلماء، وكيف يبتغى الفضل في مخالفة الصواب؟!" اهـ.
وفي النهي عن هذه الأمور وما شابهها وردت أحاديث كثيرة، منها عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، ولا تجعلوا قبري عيدًا، وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)) ، وعن عطاء بن يسار أن رسول الله قال: ((اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، وعن عائشة قالت: قال رسول الله في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، قالت: لولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خَشي أو خُشي أن يتخذ مسجدًا.
ومن التبرك الممنوع التبرك بليلة مولد الرسول حيث يعتقد فيها طائفة من الناس البركة، بل بلغ الأمر بأحدهم أن قال: ما من مسلم قرئ في بيته مولد النبي إلا دفع الله عنه القحط والبلاء والحزن والغرق والآفات والعاهات والبليات والنكبات والبغضاء والحسد واللصوص، فإذا مات هون الله عليه جواب منكر ونكير وكان في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وذكر هذا الهراء كاف في بيان بطلانه، ناهيك عما يحصل من أهل البدع وأرباب الطرق الصوفية من التبرك بليلة الإسراء والمعراج وذكرى الهجرة وغير ذلك، وكل ذلك من التبرك الممنوع ولا شك.
أيها الإخوة، لقد انصرف كثير من الناس إلى التبرك الممنوع وتركوا أبوابًا من التبرك المشروع والتي منها التبرك بذكر الله تعالى كالتسمية في ابتداء الأقوال والأفعال كما ورد، والصلاة على النبي إلى غير ذلك من أنواع الذكر الأخرى المقيدة والمطلقة المبثوثة في كتب السنة والصحاح، وهي من أعظم ما ترجى بركته ويحظى قائلها بغفران الذنوب ودخول الجنة وتفريج الكربات وكثرة الرزق والذرية والشفاء من الأسقام والأمراض إلى غير ذلك من البركات لمن وُفق للقيام بذكر الله على الوجه الشرعي الثابت، فما كان منه مطلقًا في كل وقت فنقوله مطلقًا في أي وقت، وما كان منه مخصوصًا بعدد معين أو مكان معين أو زمان معين فيبقى كما قيد دون زيادة ولا نقص.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا للطاعة والاتباع ويجنبنا المعصية والابتداع.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، عَظُمَ شأنه، ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عم امتنانه، وجَزَلَ إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة، إن التبرك بالأماكن التي ثبتت بركتها بالقرآن والسنة لا يكون إلا بالكيفية الثابتة الصحيحة، فثمة أماكن مباركة كالمسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى ثم سائر المساجد المبنية بما يوافق الشرع، ولا يكون التبرك بها إلا بما هو مشروع وثابت، فيكون بالصلاة فيها والطواف بالكعبة وحضور مجالس الذكر فيها وحفظ القرآن ومدارسته وطلب العلم الشرعي، وليس بالتمسح بالأحجار أو التراب أو تقبيل الشبابيك والأبواب، والتبرك بالكعبة يكون بالطواف حولها والاتجاه إليها في الصلاة والدعاء، وليس بالتمسح بثوبها أو بشيء منها، ولا يستلم غير الركنين اليمانيين كما ثبت في السنة الصحيحة.
ومن البقاع المباركة مكة والمدينة والشام، وتحصل البركة لمن سكنها إذا قام بحقوقها ورعاية حدود الله وشرعه في تعامله مع ساكنيها، أما من تعدى وطلب التبرك بها كأن يتمسح بترابها وأحجارها وأشجارها فإنه مأزور غير مأجور؛ لأنه سلك في التبرك مسلكًا لم يفعله النبي ولا الخلفاء الراشدون ولا الصحابة رضي الله عنهم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ليس في شريعة الإسلام بقعة تقصد لعبادة الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين ومشاعر الحج"، وقال ابن القيم رحمه الله: "ليس على وجه الأرض موضع يشرع تقبيله واستلامه وتحط الخطايا والأوزار فيه غير الحجر الأسود والركن اليماني"، وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: "التمسح بالمقام أو بجدران الكعبة أو بالكسوة كل هذا أمر لا يجوز ولا أصل له في الشريعة ولم يفعله النبي ، وإنما قبل الحجر الأسود واستلمه واستلم جدران الكعبة من الداخل لما دخل الكعبة وألصق صدره وذراعيه وخده في جدارها وكبر في نواحيها ودعا، أما في الخارج فلم يفعل شيئًا من ذلك فيما ثبت عنه... ثم قال: أما كونه يتعلق بكسوة الكعبة أو بجدرانها أو يلتصق بها فهذا شيء لا أصل له ولا ينبغي فعله لعدم نقله عن النبي ولا عن الصحابة رضي الله عنهم، وكذلك التمسح بمقام إبراهيم أو تقبيله كل هذا لا أصل له ولا يجوز فعله؛ لأنه من البدع التي أحدثها الناس. أما سؤال الكعبة أو دعاؤها أو طلب البركة منها فهذا لا يجوز، وهو دعاء لغير الله، فالذي يطلب من الكعبة أن تشفي مريضه أو يتمسح بالمقام يرجو الشفاء منه فهذا لا يجوز بل هو شرك نسأل الله السلامة" انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
أيها الإخوة، وثمة أزمنة مباركة خصها الله تعالى بزيادة فضل وبركة، فمن تحرى الخير فيها وقام بما شرع له فيها من عبادة ناله الخير والبركات العظيمة، ومنها شهر رمضان وليلة القدر والثلث الأخير من الليل ويوم الجمعة ويوما الاثنين والخميس والأشهر الحرم وعشر ذي الحجة ويوم عرفة، وأما من خصص شيئًا من الأزمنة بزيادة عبادة أو قربة بدون دليل شرعي فهو مبتدع ضال عياذًا بالله.
أيها الإخوة، أختم خطبتي بذكر بعض الأطعمة المباركة، ومنها زيت الزيتون قال النبي : ((كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة))، واللبن فإنه طعام وشراب مبارك لقول النبي : ((من أطعمه الله طعامًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيرًا منه، ومن سقاه الله لبنًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن))، وكذلك تمرة عجوة المدينة، صح في الحديث عن النبي أنه قال: ((من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر))، وكذلك العسل شراب فيه شفاء للناس، وماء زمزم ماء مبارك وطعام طعم وشفاء سقم وهو لما شرب له وفي الحديث: ((خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم))، وماء المطر ماء مبارك قال الله تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا [ق:9]، وكان النبي والصحابة يتعرضون بأجسامهم وثيابهم وآنيتهم للمطر لأنه ماء مبارك حديث عهد بربه.
أيها الإخوة، وحتى يحصل المسلم على البركة من هذه المشروبات والمأكولات عليه التقيد بما ثبت عن النبي وعن صحابته قولا وعملاً، وأن يكون معتقدًا أن كل ذلك بفضل الله ورحمته، فيحمده تعالى على ما أنعم به عليه ويسأله أن يبارك فيه.
(1/3512)
رؤيا نبوية عظيمة
الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الرؤى والمنامات, الكبائر والمعاصي
خالد بن محمد بابطين
جدة
14/1/1425
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نص الرؤيا. 2- خطورة هجر القرآن. 3- التحذير من تأخير الصلاة عن وقتها. 4- ذم الكذب. 5- كبيرة الزنا. 6- سدّ الإسلام لجميع أبواب الفاحشة.
_________
الخطبة الأولى
_________
حدث سمرة بن جُنْدُبٍ أن رسول اللَّهِ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ: (( إِنَّهُ أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالا لِي: انْطَلِقْ، وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الْحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ فَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى، ـ قَالَ: ـ قُلْتُ لهما: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا هَذَانِ؟! ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ، ـ قَالَ: ـ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ـ قَالَ: ـ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فما يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى، ـ قَالَ: ـ قُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، مَا هَذَانِ؟! ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاهُ ضَيِّق وَأَسْفَله وَاسِع، يُوقَد تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، ـ قَالَ: ـ فَاطَّلَعْنَا فِيهِ فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أتَاهُمْ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا، ـ قَالَ: ـ قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَؤُلاءِ؟ ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ، ـ قَالَ: ـ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا، فَيَنْطَلِقُ يَسْبَح ثمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا، ـ قَالَ: ـ قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَانِ؟! ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ، ـ قَالَ: ـ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاَء رجُلاً مَرْآةً، وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا، ـ قَالَ: ـ قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟! ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ لَوْنِ الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْري الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ لا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولاً فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ، ـ قَالَ: ـ قُلْتُ لَهُمَا: مَا هَذَا؟! مَا هَؤُلاءِ؟! ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: انْطَلِقْ انْطَلِقْ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلا أَحْسَنَ، ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: ارْقَ فِيهَا، ـ قَالَ: ـ فَارْتَقَيْنَا فِيهَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ، فَأَتَيْنَا باب المَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا فَفُتِحَ لَنَا، فَدَخَلْنَاهَا فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، ـ قَالَ: ـ قَالا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَر، ـ قَال: ـ وإذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِي الْبَيَاضِ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ، فَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ وَهَذَاكَ مَنْزلك، ـ قَالَ: ـ فَسَمَا بَصَرِي صُعُدًا، فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ، ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: هَذَاكَ مَنْزِلُكَ، ـ قَالَ: ـ قُلْتُ لَهُمَا: بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا، ذَرَانِي فَأَدْخُلَهُ، قَالا: أَمَّا الآنَ فَلا وَأَنْتَ دَاخِلهُ، ـ قَالَ: ـ قُلْتُ لَهما: فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ؟! ـ قَالَ: ـ قَالا لِي: أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ، أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنََ فيرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنْ الصَّلاةِ الْمَكْتُوبَةِ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكذب الكذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ، وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّور فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي، وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحجر فإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا، وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ، وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ ، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ))، قالَ: فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ: (( وَأَوْلادُ الْمُشْرِكِينَ، وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيحًا فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ)) رواه البخاري في صحيحه.
أيها المؤمنون، في هذا الحديث الجليل قصَّ النبي على أصحابه خبر هذه الرؤيا العجيبة العظيمة، وفيها من العبر والتأملات ما ينبغي أن يقف معه كل مسلم وينظر في شأنه وحاله، ويتأمل ما ورد ذكره من عقوبات بعض الكبائر التي انتشرت في هذا الزمان.
فذاك الهاجر للقرآن التارك للعمل به الذي يسمع آيات الله تتلى عليه صباح مساء ثم يصر مستكبرًا كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرًا، ذاك المعرض عن القرآن لا يتعلمه ولا يعمل به، ذاك الذي أنعم الله عليه فحفظ القرآن أو جزءا منه ثم أهمله فتركه ونسيه، هؤلاء جميعًا متوعدون بذلك العذاب المذكور في الحديث.
أيها المؤمنون، وينال هذا النوعَ من العذاب صنف آخر وهم كثر في هذه الأيام، وهم الذين يتعمدون النوم عن الصلاة المكتوبة، وتلك كبيرة من أعظم الكبائر، وكم نسمع عمن ينام عن صلاة الفجر ولا يستيقظ إلا لوقت عمله فيصليها حينئذٍ، وكم نسمع عمن يأتي بيته بعد انتهاء دوامه فينام عن صلاة العصر وربما نام عن غيرِها ولا يستيقظ إلا عند العشاء، وإنك لترى في هؤلاء من الجلد والنشاط والاهتمام بشأن دنياهم ما لا تراه منهم في شأن الصلاة، فلو كان لأحدهم عمل يستدعي منه الاستيقاظ قبل الفجر لاستيقظ، بل لربما لم ينم ليلته تلك خشية أن يفوته ذلك العمل.
أيها الإخوة، إن من تعمد تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها بدون عذر فإنها لا تصح منه ولو صلاها ألف مرة لأن الله تعالى يقول: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] أي: لها وقت محدد، قال الفقهاء: وكما لا يصح أداؤها قبل وقتها فلا يصح أداؤها بعده، وقد قال النبي : ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، والذي يؤخر الصلاة عن وقتها عمدًا بلا عذر قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردودًا عليه.
وسئل الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله عمن يضع توقيت الساعة لموعد الدوام الرسمي ويصلي الفجر في هذا الوقت سواء السابعة أو السادسة والنصف هل هو آثم في ذلك؟ وما حكم صلاته؟ فأجاب رحمه الله بقوله: هو آثم في ذلك بلا شك، وهو ممن آثر الدنيا على الآخرة، وقد أنكر الله ذلك في قوله تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17]، وصلاته هذه ليست مقبولة منه ولا تبرأ بها ذمته، وسوف يحاسب عنها يوم القيامة، وعليه أن يتوب إلى الله وأن يصليها مع المسلمين ثم ينام بعد ذلك إلى وقت الدوام إن شاء، ويجب على المسلم أن يقوم بعبادة الله على الوجه الذي يرضي الله عز وجل؛ لأنه في هذه الحياة الدنيا إنما خلق لعبادة الله ولا يدري متى يفجؤه الموت فينتقل إلى عالم الآخرة إلى دار الجزاء التي ليس فيها عمل كما قال الرسول : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
أيها الإخوة المؤمنون، ومن الكبائر التي ورد ذكر عقوبتها في هذا الحديث الكذب الذي يذاع فينشر في الناس فيبلغ الآفاق، ولعل من أوضح ما يندرج في ذلك تلك الأخبار المكذوبة التي تشيعها بعض وسائل الإعلام لتوهين عزائم المسلمين وإضعاف قوتهم وتضخيم قوة أعدائهم، ناهيك عما تسطره أقلام بعض الصحفيين وكتاب الأعمدة في الصحف من الكذب والافتراء على العلماء والصالحين والسعي لاستعداء المجتمع عليهم بقصص باطلة ومستهجنة يُهدف من ورائها إلى زعزعة ثقة المجتمع في أهل الخير والدعاة وإسقاط منزلتهم في المجتمع، وإنك حين تقلب صفحات كثير من الصحف والمجلات فلن تخطئ عينيك مقالات وأخبارًا لا تساوي قيمة المداد الذي كتبت به، إضافة إلى ما تهدف إليه مما أشرت إليه آنفًا.
فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه في جميع أعمالكم، وتوبوا إلى الله جميعًا ـ أيها المؤمنون ـ لعلكم تفلحون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فمن الكبائر التي جاء التحذير منها في هذا الحديث وبيان شيءٍ من عقوبتها في الآخرة فاحشة الزنا، إنه قرينٌ لأعظم موبقتين: الشرك بالله وقتل النفس، وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا [الفرقان:68-71]، قال الإمام أحمد: "لا أعلم بعد القتل ذنبًا أعظمُ من الزنا". والله سبحانه قد نهى في محكم تنزيله عن قربه والدنو منه مما يعني البعد عن بواعثه ومقدماته ودواعيه ومثيراته، قال سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32].
أيها الإخوة، إن الإسلام يقف من هذه الجريمة موقف حزم وحسمٍ وصراحةٍ وصرامة، إنه يمتدح الشهمَ الكريمَ الذي يغار على نفسه وحرماته، ويندد بالديوث الذميم الذي يقر الخبث في أهله، فتبقى الأعراض مصونة والشرف موفورًا عزيزًا.
والإسلام يكبح هذه الجريمة ويضيق دائرتها بأحكامه وآدابه وعقائده بدءًا من الإيمان بالله وخشيته وتقواه ثم تنقية المجتمع من بواعث الفتن ومواطن الريب، فالتزامُ الملابس السابغة المحتشمة التي تكرم ابن آدم وتحميه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]، وغض البصر وكف العيون الخائنة من البحث عن العورات: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]، وتحريم الخلوة بين الرجل والمرأة غير ذات المحرم طهارة لقلوبهم وقلوبهن: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزاب:53]، ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) ، ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم)) ، والمباعدة بين مجالس الرجال ومجالس النساء حتى في المساجد دور العبادة، فللرجال صفوفهم وللنساء صفوفهن، ومنع الاختلاط المحرم في التعليم والعمل وكل مجال يقود إلى الفتنة، وتيسير سبل الزواج: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، والتزام الاستئذان والاستئناس حتى لا تقع العين على عورات أو تلتقي بمفاتن.
ومن أعظم الآداب في هذا الباب الكف عن إشاعة الفاحشة بين المؤمنين ومحبة ذلك والرغبة فيه عياذًا بالله، خلافا لما تفعله كثيرٌ من وسائل الإعلام في الناس والنفوس والذين يصدق فيهم قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ [النور:19].
أيها الإخوة، بقيت جوانب في هذا الحديث لعلنا نستكملها في خطبة قادمة إن شاء الله...
(1/3513)
الفوز الحقيقي
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
خالد بن محمد بابطين
جدة
28/1/1425
مسجد الراجحي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مجالات استعمال كلمة الفوز في العصر الحاضر. 2- انتكاس المعايير. 3- الفوز والفائزون في القرآن الكريم. 4- صفات الفائزين أصحاب الجنة.
_________
الخطبة الأولى
_________
كلمة تتكرر وتعاد مرات ومرات، تتوالى على أسماعنا في الأوساط الرياضية والتجارية والاجتماعية، وقَلَّ أن يمر يوم دون سماع هذه الكلمة في صباح أو مساء، فها أنت تسمع أن فريق كذا فاز على فريق آخر، وتطالعك الأخبار الاقتصادية أن الشركة الفلانية قد فازت بعقد تجاري مغرٍ يدر عليها ملايين الريالات والدولارات، وتسمع أو تقرأ وقد تشاهد أن فلانًا نال حظه الذي يسعى إليه فتزوج امرأة حسناء ففاز بها دون غيره، وذاك موظف نال ترقية وفاز بثقة مديريه فأصبح ذا شأن بين مرؤوسيه وأقرانه، إلى غير ذلك مما ينافس الناس فيه ويتسابقون إليه، وإذا حصل لهم ما سعوا إليه فظفروا به سموه فوزًا عظيمًا وحظًا وفيرًا.
عباد الله، إن مدلولات المصطلحات والكلمات تغيرت، بل انقلب في هذا الزمن زمن المتغيرات والفتن حتى أصبح منكرًا ما كان معروفًا، وغدا معروفًا ما كان منكرًا، وأضحى الحق باطلاً والباطل حقًا، وصار السفه رشدًا والرشد والعقل سفهًا وطيشًا، بل أصبح الكذب شطارة والغدر حذقًا ومهارة والتهتك والانحلال فنًا وحضارة، وهذا الأمر لم يأت هكذا مصادفة أو عفوَ الخاطر، بل نتيجة السعي الدؤوب والجهد المتوالي لتقرير المصطلحات المغلوطة ونشرها بين الناس حتى تغدو هي عين الصواب.
عباد الله، لقد جاءت لفظة (الفوز) وما اشتق منها في الكتاب العزيز في واحدٍ وثلاثين موضعًا، وجاءت كلمة (الفائزون) في أربعة مواضع، فلنتأملها لنستخلص منها حقيقة الفوز ومعناه ومن هم الفائزون على الحقيقة.
الموضع الأول هو قوله تعالى في سورة التوبة: الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التوبة:20-22]، فهؤلاء قدموا النفس والنفيس وبذلوا الغالي والرخيص ابتغاء مرضاة الله، إنهم من أعظم الفائزين في هذه الدنيا. حين تسمو النفوس إلى هذا المعنى ندرك حقيقة ما قاله حرام بن ملحان حين طعن من خلفه يوم بئر معونة فأخذ ينضح الدم على وجهه ورأسه ويقول: (فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة). هذه النفوس العالية تزهد في حطام الدنيا فتقدمه لله وهو أحب شيء إليها، لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ [الحديد:11] قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله، وإن الله عز وجل ليريد منا القرض؟! قال: ((نعم يا أبا الدحداح)) ، قال: أرني يدك يا رسول الله، فناوله يده فقال: فإني قد أقرضت ربي عز وجل حائطي ـ قال ابن مسعود: وله حائط فيه ستمائة نخلة ـ وأم الدحداح فيه وعياله، قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل. الله أكبر، ما أعظم هذه النفوس وما أكبرها عن أن تكون أسيرة حطام الدنيا ومتاعها.
أيها المؤمنون، أما الموضع الثاني فهو قوله تعالى عن المؤمنين: إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111]، فما أعظم عاقبة الصبر الذي يبلغ بالإنسان أسمى المراتب وأعلاها، وفي الجنة يسمع أهلها الملائكة وهم يقولون: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]، صبرتم على الطاعة فنعم الصبر، قمتم بها وراغمتم النفوس لأجلها فنعم الصبر، صبرتم عن معصية الله وغالبتم النفوس لتركها مع شدة حبكم لها وتعلق قلوبكم بها فنعم الصبر، صبرتم على ما يحل بكم من أقدار الله وما ينزل بكم من مصائب هذه الحياة، نهيتم النفس عن تسخطها وجزعها، أيقنتم أن ما أخطأكم لم يكن ليصيبكم وما أصابكم لم يكن ليخطئكم فنعم الصبر. ولما كانت القلوب على هذا المستوى من الإيمان والصبر واليقين كان أولئك الصنف من الناس هم الفائزون، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90].
عباد الله، أما الموضع الثالث فهو قوله تبارك وتعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:51، 52]، وهذه الآيات جاء قبلها في السياق الحديث عن المنافقين في قوله تعالى: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمْ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمْ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [النور:48-50].
فما أعظم الفرق بين هؤلاء وهؤلاء: المستجيبون لله ولرسوله الذين لا يبغون دينا سوى كتاب الله وسنة رسوله، وأولئك الذين في قلوبهم مرض النفاق يظنون أن حكم الله ظلم وحيف، فيستبدلون به أحكام البشر وقوانينهم التي هي مظنة الظلم والحيف، أولئك البشر الذين لا يملكون أنفسهم وهم يشرعون ويحكمون أن يميلوا إلى مصالحهم وأهوائهم، ولكنَّ العدالة المطلقة هي في حكم الله فلا تجدها في تشريع غير تشريعه ولا يحققها حكم غير حكمه، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50]، ولذا قال: وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِيهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ [النور:52]، أولئك هم الناجون في دنياهم وأخراهم، هم للفوز أهل، ولديهم أسبابه من واقع حياتهم، فالطاعة لله ولرسوله تقتضي السير على النهج القويم، وهو بطبيعته يؤدي إلى الفوز في الدنيا والآخرة، فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:123-126].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله، عَظُمَ شأنه، ودام سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، عم امتنانه، وجَزَلَ إحسانه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإسلام وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، أوصيكم بتقوى الله عز وجل، فإن تقوى الله خَلَفٌ من كل شيءٍ، وليس من تقوى الله خلفٌ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
أما الموضع الرابع فهو قوله تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ [الحشر:20]، نعم لعمرو الله، وأيُّ فوز أعظم من ذاك؟! فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. نعم، إنها الجنة التي يُحل عليهم فيها رضوانه فلا يسخط عليهم أبدًا، وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:72]، إنها الجنة التي يخلدون فيها فلا يموتون، خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [النساء:13]، خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. نعم، إنها الجنة هي محض فضل وامتنان من الكريم المنان، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الدخان:57]، وفي صحيح مسلم أن رسول الله قال عن الجنة: ((ينادي مناد: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا)). إنها الجنة بناؤها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ملاطها المسك الأذفر، حصباؤها الدر والياقوت، تربتها الزعفران، فهي كما قال تعالى: وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [الصف:12]. إنها الجنة التي فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنها من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى، فهي كما قال الله: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:11]، إي وربي إنه الفوز الكبير.
أيها الأخ الحبيب، هؤلاء هم أصحاب الجنة، هؤلاء هم أصحاب الحسنى وزيادة، هل تريد أن تكون منهم؟ فاعرف أوصافهم واتصف بها، كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:17-19]، يصومون وغيرهم يأكل، وينفقون وغيرهم يبخل، يقاتلون وغيرهم يتقاعس ويجبن، هم عباد الله حفظوا وصية الله ورعوا عهده، هم بربهم يؤمنون، وهم بربهم لا يشركون، هم من خشيته مشفقون، استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، يجتنبون كبائر الإثم والفواحش، إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون، في صلاتهم خاشعون، عن اللغو معرضون، للزكاة فاعلون، لفروجهم حافظون، لأماناتهم وعهدهم راعون، طالما تعبت أجسادهم من الجوع والسهر، استعدوا من الزاد بما يكفي لطويل السفر، كثر استغفارهم فحطت خطاياهم وكل ما طلبوا من ربهم أعطاهم، فسبحان من اختارهم واصطفاهم، إنهم عباد الله المخلَصون، فيهم الشهيد المحتسب والعفيف المتعفف والضعيف المتواضع ذو الطمرين مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأبره، أقوام يقطرون نزاهة، أفئدتهم مثل أفئدة الطير، فيهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون، متحابون في جلال الله، فيهم صاحب القرآن يقرأ ويرتل ويرتقي، وفيهم تارك المراء ولو كان محقًا وتارك الكذب ولو كان مازحًا، فيهم من أطعم الطعام وأفشى السلام وصلى بالليل والناس نيام وخاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، هي لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ينال نعيمها عيون تبكي من خشية الله وعيون تحرس في سبيل الله.
(1/3514)
مفسدات الأخوة 1
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحاديث وآثار في الحب في الله. 2- مفسدات الأخوة: أ- الطمع في الدنيا. ب: المعاصي وتضييع الطاعات. ج- عدم التزام الآداب الشرعية في الدنيا. د- عدم الإصغاء للمتحدث. هـ- المبالغة في المزاح. و: المراء والجدال. ز- النجوى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فكم تصبح الحياة قاسية حين ينضب معين الأخوة، وتجف ينابيع الحب في الله، والملاحظ أنه مع هذه المدَنِيَّة المادية التي طغت على الناس بدأت الأوصار تضعف والألفة تتقطع، بل تفقد في بعض الأحيان، وشتان بين مجتمع تسوده الألفة والمودة والإخاء والحب، ومجتمع يشعر بالفردية، يشعر بالأنانية، فالفرد بقربه من الآخرين وقربهم منه دون انقباض ولا تكلف يعيش حياة نفسية سوية، وإذا حلِّت الأنانية وحب الذات محل الأخوة عند ذلك يعيش الفرد حياة نكدة ويشعر بعزلة ـ قاسية ـ عن مجتمعه.
كثير من الناس يمارس ألوانًا من مفسدات الأخوة، فيتفنن في إبعاد الآخرين عنه، تارة يشعر بذلك، وتارة لا يشعر بذلك، فيعيش عزلة نفسية يتجرعها في الدنيا.
انطلاقًا من هذا نحاول في هذه الخطبة والتي تليها إن شاء الله أن نتكلم عن مفسدات الأخوة في الله، ولكن قبل ذلك لا بد أن نقوم بجولة في رياض السنة لنقتطف بعض الأحاديث النبوية الثابتة عن النبي في مقام الأخوة في الله، والحب في الله، والإخاء في الله، ونزينها ببعض أقاويل سلف الأمة.
يقول سبحانه وتعالى ـ قبل كلام النبي عليه الصلاة والسلام ـ: إِنَّمَا ?لْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الفتح:10].
ووصف نعيم أهل الجنة المعنوي أو ذكر جانباً منه: وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ [الحجر:47].
فإن الذي ينغص ويفسد جو الإخوة أن يكون في القلوب غلٌ وحقدٌ وحسدٌ، ينكد على الإنسان عيشته في الدنيا.
قال ـ والحديث ثابت في الصحيحين، بل هو من أشهر الأحاديث، حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ: ((رجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) ، وفي الحديث القدسي يقول فيما يرويه عن ربه: ((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور، يغبطهم النبيون والشهداء)) يغبطهم من؟ يتمنى منزلتهم من؟ النبيون والشهداء، والحديث رواه أحمد وهو حديث صحيح.
وفي الحديث القدسي الآخر يقول : ((حقت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ)) رواه أحمد كذلك، وهو حديث صحيح.
وقال ـ والحديث رواه مسلم، وهو حديث عظيم ـ برواية أبي هريرة: ((أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرسل له سبحانه وتعالى ملكًا من الملائكة في مدرجته، فلقاه في الطريق وقال: إلى أين؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها عليه، قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) رواه مسلم.
أحبه الله بحبه لفلان؛ لأنه يحبه لله سبحانه وتعالى، ولا يخفى على أمثالكم قول النبي في الحديث المتفق عليه: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)) وذكر منها ((أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) نقول هذا في وقت طغت فيه المادة، وأصبحت العلائق في أغلب الناس تقاس بالمناصب والمصالح، لعلنا أن نفكر في هذه الفضائل فنسموا بأنفسنا أن تكون علائقنا مثل علائق البهائم.
أما أقوال السلف: يقول محمد بن المنكدر ـ رحمه الله تعالى ـ كما ذكره ابن كثير في البداية، قال: لما سئل ما بقي من لذته في هذه الحياة؟ قال: "التقاء الإخوان وإدخال السرور عليهم"، وقال الحسن: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا؛ إخواننا يذكرونا بالآخرة، وأهلونا يذكرونا بالدنيا".
وسئل سفيان: ما ماء العيش؟ قال: "لقاء الإخوان".
وقيل: حلية المرء كثرة إخوانه، وقال خالد بن صفوان: "إن أعجز الناس من يقصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر بهم". يضيعهم، يبدد إخوانه بسبب جهله بأصول المودة والعشرة.
تأمل هذه الأقوال الجميلة، آيات الله، وأحاديث رسول الله، أقوال سلف الأمة، وانظر إلى الواقع يعطيك دليلاً على واقعيتها ومصداقيتها.
من الذي أعانك على الالتزام والدخول في عالم الهداية؟ من الذي يثبتك على طريق الاستقامة في خضم هذه الفتن؟ من الذي تبث إليه همومك؟ من الذي يقف معك عند النكبات والأزمات؟ لذلك قال عمر: (لقاء الإخوان جلاء الأحزان).
إذاً كيف يطيب لعاقل أن يقطع أواصر الأخوة ليعيش حياة الهموم والغموم بعيدًا عن فضائل الأخوة في الله ونتائجها العظيمة، هناك مفاسد كثيرة نذكر منها في هذه الخطبة:-
أولاً: الطمع في الدنيا بما في أيدي إخوانك، قال ـ والحديث ثابت عنه ـ: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد في ما عند الناس يحبك الناس)) سبحان ربي العظيم، أحاديث نبوية يتكلم بها النبي عن ربه وَمَا يَنطِقُ عَنِ ?لْهَوَى? إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى? [النجم:3، 4] يتكلم عن نفوس بشرية، لا شك أن الذي يتطلع لما في يدك لا تحبه، والذي يشعرك بالزهد في ما بين يديك تكنه وتجله، وتجعل له تقديرًا لائقًا به، لذلك لا ينبغي للعاقل أن يتطلع لما في أيدي الناس، وقلت مرة بقول الله, أن النبي عليه الصلاة والسلام احتاج لتوجيه من هذا النوع، يقول سبحانه وتعالى لنبيه ، ونحن من باب أولى؛ ففي علم الأصول إذا نزل الخطاب بأقل الناس استحقاقًا فأكثر الناس استحقاقًا من باب أولى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تتطلع لما عند الناس وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جاً مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? [طه:131]ولكن إذا ألمت بالإنسان مصيبة، كما قال عمر: (لقاء الإخوان جلاء الأحزان)، أقول إذا ألمت بك مصيبة، ونزلت به نازلة فاطلب مشورة إخوانك من أقرب الناس إليك، ممن تعزهم وتجلهم، وتشعر بأنهم يبادلونك نفس الشعور، فإن كان مؤمنًا أحب لأخيه ما يحب لنفسه، كما قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
والله سبحانه وتعالى امتدح الأنصار بقوله سبحانه وتعالى: وَ?لَّذِينَ تَبَوَّءوا ?لدَّارَ وَ?لإيمَـ?نَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ ?لْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] تبوءا الدار أي المدينة، الذين استقبلوا المهاجرين المسلمين من صحابة النبي تَبَوَّءوا ?لدَّارَ وَ?لإيمَـ?نَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مّمَّا أُوتُواْ أي مما أوتي المهاجرون من الفضائل فهم أول الناس إسلامًا، وأولهم ذكرًا في الآيات ?لْمُهَـ?جِرِينَ وَ?لاْنصَـ?رِ [التوبة:117] فلهم فضائل معروفة، وإن كان الأنصار فضلهم معروف، فلا يتضايقون من فضل المهاجرين عليهم، لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا.
وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ نزلت في أنصاري، قصته أنّ النبي يأتيه رجل يعاني من اللأواء وضيق العيش ويطلب ولو طعامًا يسد جوعته، فيستنفر الأنصار من يؤويه، فينبري أحد الأنصار رضي الله تعالى عنه وكان فقيرًا، ويأتي إلى أهله ويطلب منهم أن يصنعوا طعامًا لضيفه الذي دفعه إليه النبي عليه الصلاة والسلام، فالمرأة تقول: البيت ليس فيه إلا طعام الصبية، طعام الصبية فقط لهذه الليلة، فقال: اطبخوه وكان قليلاً، وأشغل الأطفال حتى ناموا ولم يتعشوا، وبدأ الضيف يأكل والطعام قليل، وأطفأ النور ليأكل الضيف ليشعر الضيف بأنه يأكل معه، فاستحق بهذا الصنيع أن ينزل فيه قرآن وَيُؤْثِرُونَ عَلَى? أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.
اسأله سبحانه وتعالى أن يربينا وإياكم على معاني الإسلام من إيثار وغيره، أصبح الإسلام مجرد مفاهيم، عاريةعن تطبيق إلا من رحم الله وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ [ص:24].
إذاً إذا ألمت بك مصيبة فاطلب مشورة أخيك، لا تطلب منه حاجتك، اطلب منه المشورة، فهو إن كان يعزك ويعرف قدرك فسينبري لمساعدتك، لا حاجة للطلب وإراقة ماء الوجه, لذلك فرق العلماء بين الطمع فيما بين أيدي الناس وعرض المشكلات، عرض المشكلات، قد تشير عليه بمشورة ولا تقدم له شيئاً، وتكون هذه المشورة من أعظم ما يقدم للإنسان، تأمره بالصبر, بالاستعفاف، بأشياء كثيرة وكلها مأثورة في ديننا العظيم.
ومن الأمور التي تقدح في الأخوة وتبعثر الأصدقاء: المعاصي، المعاصي وتضييع الطاعات والقربات، والتنافس في المعاصي عياذاً بالله، سبحان الله إذا نضبت ساعة الصحبة من الذكر والعبادة، أو التناصح والتذكير والتعليم فإن الجفاف ينزل في هذه الصحبة والعلاقة بسبب قسوة القلب والملل؛ حيث ينفتح باب الشر، بل أبواب الشر، فينشغل كل واحد بأخيه، وصدق رسول الله عندما قال: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله)) في روايتين قال : ((والذي نفس محمد بيده ما توادّ اثنان فيُفرق بينهما إلا بذنب يحدثه أحدهم)) حديث صحيح رواه أحمد.
سبحان الله، الذنوب هذه تمحق الشركات، ((فإن صدقا بورك لهما في بيعها، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما)) ، والشريكان في بركة إذا صدقا، وإذا تسربت المعاصي والنيات تبعثرت الأوراق، وهكذا العلائق والإخوة.
لذلك ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه القيم "الجواب الكافي" قال: "من آثار المعصية وحشة يجدها العاصي مع إخوانه" لذلك تجد المنتكسين الذين بدأوا في مسلسل الضعف يتحاشون لقاء الإخوان، سبحان الله المعاصي قطعت العلائق؛ لأنه قطع الصلة بالله فانقطعت الصلة مع أحبته في الله، سبحان الله العظيم.
وانظر وتفقد قلبك هل تشعر براحة وانشراح صدر حين تلقى إخوانك الجادين، أم تتوارى وتشعر بالحرج، راقب نفسك، حاسب نفسك.
أما فرسان المعاصي ورجالات المنكرات فعلائقهم مادية تراهم في يوم من الأيام في ضحكات وجلسات وسفرات ثم تنقلب إلى عداوة؛ لأنها ما بنيت على تقوى، سبحان الله العظيم.
ثم يكون لهم الخزي والعار يوم القيامة ?لأَخِلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ?لْمُتَّقِينَ [الزخرف:67] الله أكبر، إخوة في الله في الدنيا وتواصل في الجنان عَلَى? سُرُرٍ مُّتَقَـ?بِلِينَ [الحجر:47].
أسأله سبحانه أن يرزقنا وإياكم حبًا في الله، ويزكي نفوسنا ويرفع همومنا.
كذلك من مفسدات الأخوة عدم التزام الآداب الشرعية في الحديث، فقد ترك لنا النبي منهجًا رائعًا راقيًا يبني علاقاتنا ويزكي نفوسنا، ويهذب مشاعرنا ويصفي علاقاتنا، من ذلك اختيار أطايب الكلام في محادثة الإخوان، قال سبحانه وتعالى: وَقُل لّعِبَادِى يَقُولُواْ ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ ?لشَّيْطَـ?نَ كَانَ لِلإِنْسَـ?نِ عَدُوّا مُّبِينًا [الأسراء:53] يسميه الناس الآن الاصطياد في الماء العكر، يلقي كلمة ما قصد بها شراً، لكن تحتمل معاني، هذه فرصة الشيطان، يقصدك, تنقصك, يرمي إلى كذا، هل يقصد كذا؟ لذلك وجب على المتحابين أن ينتقوا أطايب الكلام كما ينتقون أطايب الطعام، وقديمًا قال النبي : ((الكلمة الطيبة صدقة)) ، وقال سبحانه وتعالى موجهًا إلى خفض الصوت مع الإخوان: وَ?غْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ?لاْصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ [لقمان:19]. سبحان الله، كيف الشارع يبشع التصرفات الرعناء والهوجاء يلعن ويسب ويرفع صوته على إخوانه إِنَّ أَنكَرَ ?لاْصْو?تِ لَصَوْتُ ?لْحَمِيرِ.
تكلم بالكلمة التي تسمع أخيك، أما أن تتطاول بالكلام وترفع صوتك فأنت تقطع علاقاتك من حيث تشعر أو لا تشعر.
لذلك عبد الله بن عمرو بن العاص يصف النبي بقوله: (لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا) لم يكن فاحشًا يعني لم يكن قبيحًا في قوله أو فعله ولا متفحشًا ولا يتعمد ذلك، سجية فيه الكلام الطيب، ولكن بعض الناس عياذاً بالله حتى ولو لم يكن مثاراً ولم يكن في حالة غضب ينثر القيءَ والصديد يمينًا وشمالاً لم يتعود على الكلام المهذب، ديدنه أعوذ بالله رفع الصوت والسباب والشتم والاحتقار والسخرية، فيزرع العداوات ويقضي على العلاقات.
كذلك من الآداب التي نحتاجها في بناء علاقاتنا وتصفية علائقنا الإصغاء إلى المتحدث والإقبال إليه بالوجه في الكلام والسلام؛ لذلك قال أحد السلف "إن الرجل ليحدثني بالحديث ـ يعني من حديث النبي وربما بمسألة علمية ـ أعرفه قبل أن تلده أمه فيحملني حسن الأدب على الاستماع إليه حتى يفرغ" ذكر هذا الذهبي في السير في المجلد الخامس عن عطاء رحمه الله تعالى.
وقال الشاعر:
وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به
أدرى بفقه الحديث وسنده ومراميه ومع ذلك يعطي أدبًا في فن الاستماع.
بينما بعض الناس بمجرد أن يسمع كلمة، تراه يقول أنا أفهم هذا، أنا مر عليّ هذا كأنه يقول: أنت جاهل فقدرك أن تكون مستمعًا، سبحان الله العظيم.
والنبي يجلس يستمع لمن؟ لأحد رؤوس الكفر عتبة بن الربيعة يتكلم ويتكلم حتى سكت، ولما سكت لم يتكلم النبي إلا بعد هذه الجملة ((هل فرغت يا أبا الوليد)) تريد إكمال؟ تريد حلقة تكملها؟ تريد استدراكاً؟ قال: لا، قال: ((الآن اسمع)) أدب، سبحان الله العظيم، يدعو إلى الكفر والباطل والزندقة، والنبي يدعو إلى الحق بكتاب الله ومعجزة ظاهرة، ومع ذلك يعطيه درسًا في أدب الاستماع.
كذلك من مفسدات الأخوة ـ مما يتعلق بالأدب ـ المبالغة في المزاح إلى حد الجرأة خاصة مع أهل الفضل، لذلك قالوا: "كثرة المزاح تجرأ السفهاء وتسقط الهيبة" مزاح، نكتة سخيفة، تعليقة لا قيمة لها، لها معاني، لا يا أخي، لم يكن النبي بهذا الشكل، كان مزحه خفيفًا ومدروسًا ملائمًا، كثير من الناس تقطعت علاقاتهم بسبب مزحة ثقيلة أو تعليقه سخيفة، أليس كذلك؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراء والجدال، قد تنقطع العلاقة المتينة الضاربة في الزمن بسبب جدال عقيم، داخلته حظوظ النفس، وبتغريرٍ من الشيطان يدافع عن عقيدته ووطنه، وهو في الحقيقة يدافع عن ذاته وكبريائه، بسبب بروز طبائع العناد والمكابرة فلا يبقى معها مكان للأخوة، ولا تقدير للعِشرة. عياذاً بالله سبحانه وتعالى، يضرب بالعشرة والمودة لما تصل إلى ملامسة ذاته وكبريائه؛ بسبب أنه لم ينصهر بعد في بوتقة الإيمان، وفي بحبوحة العقيدة.
وصدق رسول الله ، والحديث في البخاري في كتاب الأدب، يقول: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)) كثير الخصومة، افتعال المعارك الكلامية، وحب الجدال والمناظرة وإظهار الرأي، هذا أبغض الناس إلى الله.
وقال ، والحديث ثابت كما ذكره أحمد والترمذي، ورمز الألباني إلى ثبوته في صحيح الجامع، قال: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل)).
إذن من علامات الخذلان وضياع الهداية أن يؤتى الإنسان الجدل، يورث الجدل، سبحان الله العظيم، والجدال والمجادلة وردت كثيرًا في القرآن في أغلب سياقتها مذمومة، وارجع إلى المعجم المفهرس، يقول سبحانه وتعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ يُجَـ?دِلُونَ فِى ءايَـ?تِ ?للَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَـ?نٍ أَتَـ?هُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَـ?لِغِيهِ فَ?سْتَعِذْ بِ?للَّهِ إِنَّهُ هُوَ ?لسَّمِيعُ ?لْبَصِيرُ [غافر:56]. مجادل، كأنه ينتصر لقضية وهو ينتصر لنفسه، وكل هذه الأدوات، وهذه الحجج موظفة لنفسه, نسأل الله السلامة، ولذلك فاستعذ بالله.
أما الجدال بالتي هي أحسن لبيان الحق للجاهل والمبتدع لا بأس به، لكن إذا خرج الجدال عن إطاره المشروع، وبدأت حظوظ النفس تتسلل وظهر لك أن الخصم جدلي مقيت لا يريد حقاً، إنما يرد مشاغبة فانسحب بلطف وبطريقة جميلة تدل على حكمة، قال سبحانه وتعالى: وَلاَ تُجَـ?دِلُواْ أَهْلَ ?لْكِتَـ?بِ إِلاَّ بِ?لَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [العنكبوت:46] لا بأس، لكن الجدال بمعناه العام لا شك أنه مذموم، لذلك قال في الحج تربية فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ?لْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ?لْحَجّ [البقرة:197]. سبحان الله، تخصيص بعد تعميم، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال، جدال تخصيص بعد تعميم يدل على العناية، مخصوص، الجدال الذي من أجل إظهار النفس ولا طائل من ورائه لا شك أنه دليل على ضعف الإيمان، وقلة التربية.
وقال سبحانه وتعالى: وَكَانَ ?لإِنْسَـ?نُ أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً [الكهف:54] ووصف الكفار بأنهم قوم لدٌّ، كثيرو اللدد والخصومة، قالوا للنبي : شُق القمر، شَق القمر هل أسلموا؟ لا، ?قْتَرَبَتِ ?لسَّاعَةُ وَ?نشَقَّ ?لْقَمَرُ وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ [القمر:1، 2]، أما صاحب الحق فيحتاج فقط إلى بيان بسيط وجلي ويقبل بدون مجادلة.
نسأله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن لا يجادلون إلا بحق ولأجل الحق، أقول: هذا الجدال قد يذهب بالأخوة يرتفع صوته ويشق على أخيه، لماذا؟ يريد أن يثبت أمام الناس أنه أقوى حجة فيقطع علاقة متينة لأنه أورث الجدل عياذاً بالله.
كذلك من مفسدات الأخوة: النجوى، أشياء بسيطة في ظاهرها لكن لها معاني عميقة لمن يفكرون في بناء العلاقات الصحيحة المؤسسة على كتاب الله وسنة رسوله إِنَّمَا ?لنَّجْوَى? مِنَ ?لشَّيْطَـ?نِ لِيَحْزُنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [المجادلة:10].
ما معنى النجوى؟
يفصلها النبي في الحديث الثابت في الصحيحين، يقول: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه)) ، قال العلماء: إن الشيطان يوسوس له ويقول له: إنهم يتكلمون فيك، ويستهدفونك في كلامهم، فاشترط العلماء كما أشار ابن كثير رحمه الله إلى طلب الإذن قبل المناجاة إن كان هناك حاجة، وليس طلبه الإذن كعادة بعض الناس يأخذه بيده ويقول: عن إذنك، لا، لا بد أن تطيب نفسه قبل الشروع في الابتعاد، كأن يقول: تسمح لنا يا أخي بحديث في موضوع خاص سري بيني وبينه يتعلق بموضوع لو كان لك به علاقة لما أخفيناه عن مثلك، ليس لك به علاقة، لكن ثمة سر نكتمه كما أمر الله وأمر رسوله، فإن طابت نفسه وقال: لكم ما أردتما فلا بأس، أماأن يقول: عن إذنك وينصرف فهذا لا ينبغي, الله يقول: لِيَحْزُنَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ والنبي يقول: ((فإن ذلك يحزنه)).
بل قال بعضهم: إذا ظهرت على الأخ إمارات الريبة فأبن له أطراف الموضوع إن كان سائغًا، حتى تطيب نفسه بأنه ليس له علاقة بالحديث وأنه لن يذكر من بعيد ولا من قريب.
آداب نبوية مرعية لمن أراد أن يبني الأخوة على أسس صحيحة، وهكذا الأخ ينبغي عليه إذا ظن به ظناً أن يستعيذ بالله من الظنون السيئة.
(1/3515)
مفسدات الأخوة 2
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ((الأرواح جنود مجندة)). 2- من مفسدات الأخوة. 3- من أسباب زيادة المحبة. 4- الأسباب المعينة على إزالة ما يفسد الأخوة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: إخوة الإسلام، قال كما ثبت في صحيح مسلم: ((الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) أخذ منه البغوي رحمه الله أن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، والذي يعنينا أن الألفة تدوم وتنشأ وتستمر إذا فعلت الأسباب الموجبة لذلك، وتنقطع العلاقات وتنفصم العرى إذا لم يستشعر الإخوان أهمية المودة والإخاء.
لذلك حديثنا موصول عن أسباب قطع المودة ومفسدات الأخوة.
نقول غير ما سبق من أسبابها كثرة المعاتبة، وعدم التسامح، لذلك قالوا: السيد هو من يتغافل وليس المغفل، الذي يتغافل ويتجاهل العثرات ويسكت عن الزلات هو السيد والمربي، وهو الذي يشعر بقدر الأخوة.
هذا على افتراض أنها هفوات وزلات وليست أخطاء متكررة توجب النصيحة وربما الصدود المؤقت حتى يستشعر المخطأ أنه أخطأ، لذلك النبي وجه النساء لكثرة الصدقة؛ لأنه رآهن أكثر أهل النار، ما السر؟ يكفرن العشير، بمجرد زلة وغلطة تنقلب الحسنات إلى سيئات وتنسى تلك المناقب العظيمات.
فالمؤمن يعدل وينصف ويعطي كل ذي حق حقه وينسى الزلات، لذلك الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز يقول: فَ?صْفَحِ ?لصَّفْحَ ?لْجَمِيلَ [الحجر:85] قال علي في تفسير هذه الآية: (الرضا بغير عتاب) لو أخطأ في حقه يرضى، يرضى ولا يعاتب، يبلعها ويهضمها ويدخلها في نسيج خبراته.
وقال الفضيل: "الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان؛ لأن كثرة المعاتبة تقطع حبال المودة" ليت المربين يدركون هذه الخاصية العظيمة وهم يخوضون غمار التربية لأنفسهم ولإخوانهم، ولكن كما قلت إذا كثرت الأخطاء لا بد من التوجيه والعتاب، فقد يكون الخطأ متكررًا وقد يكون قبيحًا وقد لا يدرك المخطئ أن الخطأ جسيم، فلا بد من العتاب ولو بالصدود ولو بالهجران.
من القضايا المهمة التي تفسد الأخوة: الخلط بين الحب في الله والإعجاب الذي ضرب بجرانه في واقع فتياتنا وشبابنا بسبب إعجابهم بالكافرين والفاسقين، فأصبح عندهم خلط، فمن أصبحت نفسه تميل إليه بهندامه وشكله ونكاته أصبح يظهر شيئًا من الحب بدعوى الحب في الله، وقديمًا قال الشاعر:
لا تركنن إلى ذي منظر حسن فربما رائعة قد ساء مخبرها
ما كل أصفر دينا لصفرته صفر العقارب أرداها وأنكرها
إذن ليست القضية منظر, القضية مخبر، وقد وجد في واقعنا إعجاب، إعجاب بعض الطالبات بالمعلمات، إعجاب بشكلها، بقصتها، بآخر التقليعات التي تقلد بها أحفاد القردة والخنازير، فأصبحت تتقمص هذه الشخصية، بسبب غياب مفهوم الحب في الله المبني على الإيمان والصدق في ذلك.
لذلك النبي يقول كما مر علينا في حديث سابق رواه البخاري وغيره، يذكر من الثلاث العظيمات ((وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) لله وفي الله، حبه لدينه لخلقه وقربه من الله، والنبي عليه الصلاة والسلام سما بهذه الرابطة إلى درجة أنه إثر غزوة أحد، -والحديث في صحيح البخاري-، كان يدفن الرجلين والثلاثة في القبر الواحد، لوعورة الأرض ولجراحات الصحابة كان يلفهم في كفن واحد وكان يقدم أكثرهم أخذًا للقرآن في اللحد، ثم يضع صاحبه معه لحبه في الله، فقد دفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام في قبر واحد لمحبتهما في الله واشتهار ذلك عند صحابة النبي عليه الصلاة والسلام. فدفنهما في قبر واحد لأنه سيكون حميماً له يوم القيامة، بينما الحب الذي بني على مصالح وشهوات فَمَا لَنَا مِن شَـ?فِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100، 101].
كذلك من مفسدات الأخوة الإصغاء للنمامين والحاسدين والحاقدين، والله قد وضع لنا دستورًا لضبط علاقتنا واستقبال الأخبار والوشايا، فقال: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ [الحجرات:6] الله أكبر، إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ ، نزلت هذه الآية في صدر الإسلام في وجود صحابة النبي الكرام رضي الله عنهم وأرضاهم، إذن نحن أحرى أن نأخذ بهذا المنهج، أن نغربل الأخبار وأن ندرس مصادرها وأن نتأكد من منابعها، حتى لا نصيب قوماً بجهالة فنظلم أنفسنا، ونظلم إخواننا، خاصة في هذا الوقت الذي ضعف فيه الإيمان، ورق الدين وتعددت المصالح، فوجب المصير إلى هذا المنهج بشكل أظهر وأكبر.
من المفاسد كذلك: إذاعة السر، قال : ((إن الرجل إذا حدث أخاه بحديث ثم التفت فهو أمانة)) إذا حدثك أخاك بحديث فهو أمانة، والحديث ثابت عن رسول الله كما أشار إلى ذلك الألباني في صحيح الجامع.
تأتي تحدث بعض الناس بخصوصياتك, تبث له مشاكلك لعلك تجد منه رأيًا حصيفًا، لعلك تجد منه شعورًا بمشكلتك، فتفاجأ بأن هذه الخصوصيات والدقائق قد سارت بها الركبان، وانتقلت هذه المشكلة إلى الآفاق بسبب عدم حفظ السر، وتأتي لشخص تحذره من شخص آخر لأنك تعلم بأنه طريقه للهلاك، فيذهب قليل الدين إلى هذا الشخص ويخبره بأن فلاناً قال فيك كذا وكذا، وهو قصد نصحه, وهذا جزاؤه!!
فنسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يكتمون أسرار المسلمين.
وأهل المروءة فضلاً عن الديانة لا ينشرون الأسرار، ولو بدون وصية لأنه يعلم أهمية الخبر فيدفنه في أغوار نفسه. لذلك قال الشاعر:
إذا ما المرء أخطأه ثلاث فبعه ولو بكف من رماد
سلامة صدره والصدق منه وكتمان السرائر في الفؤاد
إذا لم يلتزم بهذه الثلاث فبعه ولو بكف من تراب.
ومن أسباب قطع المودة: اتباع الظن؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وقال : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)) رواه البخاري ومسلم. الظن، أن يُحمِّل التصرف ما لا يتحمل، وأن يطير بالكلام فيحمله ما لا يحتمله, بسبب ضعف نفسه وحقده وحسده، لا يبحث عن المحامد الطيبة، إن يسارع شيطانه إلى تحميل الكلام ما لا يتحمل، وقد روي في بعض الآثار: "التمس لإخيك ولو سبعين عذرًا"، ولو لم تجد واحداً من السبعين، فصارحه بارك الله فيك: سمعت كذا، رأيت كذا، لعلك تقصد شيئًا لا أدري عنه، الله أكبر على المكاشفة والمصارحة بدلاً من ملء القلوب بمخزون الحقد والحسد والرواسب، لذلك صاحب حسن الظن لا يظلم أخاه أبدًا، ولو صار بينهم سوء تفاهم، لا يظلمه ولا يلقي عليه أسوأ الكلام لذلك قال جعفر بن محمد لابنه: "يا بني من غضب من إخوانك ثلاث مرات فلم يقل فيك سوءًا فاتخذه لنفسك خليلاً". غضب، لكنه احتفظ برباطة الجأش ولم يلقِ عليك قبيح الكلام ولم يلق عليك بالعظائم, فاعلم أنه رجل كريم، شهم، ليس ذو لؤم, عند أدنى خصومة يلقي عليك بالعفونات والنتن بما لا تتصور أن يقال.
لكن اللئيم صاحب سوء الظن، بمجرد سوء التفاهم يستخرج من جعبته أسوأ التهم وأفظع الألفاظ وأفظع الكلام, يلقيه ذات اليمين وذات الشمال، فمخالطة هذا الصنف سم زعاف، عياذاً بالله سبحانه وتعالى.
من أسباب قطع المودات كذلك التدخل في الخصوصيات وإقحام النفس في ميادين لا علاقة له بها، مما يسمه الناس في هذا الزمن التطفل والفضولية، وقد وضع لنا النبي عليه الصلاة والسلام معلمًا آخر من معالم حفظ الإخوان فقال: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) ، عندما يسألك شخص عن أحوالك المادية، راتبك، رصيدك، ممتلكاتك، تطلعاتك، تصرفاتك الخصوصية الخاصة بك، هل تحبه؟ تشعر بأنه ضيف ثقيل، وأنه متطفل أيما تطفل فيسقط من عينيك، أليس كذلك؟ تذكر حديث النبي : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
والعجيب أن هذا الصنف لا يسأل عن الأشياء التي تعنيه في دينه، أخرس، أما في القضايا التي لا تعنيه متكلم جيد، يملك ثقافة واسعة في صياغة الأسئلة، عجبًا!
أسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم لأحسن الأخلاق وأقوم الفضائل.
كذلك تجد من يكلمك عن بعض الأمور الخاصة، بل ربما في خاصة الخاصة، حتى إنك تجلس فترة تستغرب كيف دفعه الفضول لطرح هذا السؤال، ولا تدري هل تجيب؟ إن أجبت مشكلة، وإن كذبت مشكلة، يوقعك في حرج لا يعلمه إلا الله، سبحان الله العظيم.
لذلك قال في الحديث الصحيح المشهور: ((لا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)).
انظر، عطف التباغض والتدابر على ماذا؟ على التجسس والتحسس، قال الأوزاعي رحمه الله في شرح هذا الحديث: "التحسس الاستماع إلى حديث القوم وهم له كارهون" يصغي، ويلقي بوجهه نحو المتحدث وهو لا يريد أن يسمع حديثه، ومع ذلك يطل بطلعته البهية من أجل استماع حديث لا يعنيه، فهذا جنى على نفسه وسبَّب التدابر والبغضاء، وكتب على نفسه العزلة من حيث يشعر أو لا يشعر.
من أسباب عدم الألفة بين المسلمين عدم الشعور بمشاكلهم والوقوف معهم في ظروفهم، قد يحتاج أخوك ديناً، مساعدة، شفاعة، تَدَخُّلاً، وأبخل الناس من يبخل بجاهه، ولكن البخل والشح فنون ودروب وعلوم، قال : ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) متفق عليه.
وقال : ((أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كرباً أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولأن أمشي مع أخي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهرًا)) ذكره الألباني في السلسلة الصحيحة.
في مسجده عليه الصلاة والسلام، الصلاة تعدل ألف صلاة مما سواه، ومن يمشي في حاجة أخيه خير من أن يعتكف شهرًا في هذا المسجد، وقد أخبر النبي كما ثبت في البخاري عن رجل يبعث بعماله لأخذ أمواله من المديونين ويقول: انظروا إلى المعسر فتجاوزوا عنه, فتجاوز الله عنه.
الله أكبر، ليس الطريق إلى الجنة باللحية والصلاة فقط، وهي من الدين بل من مظاهر الدين العظام، وفي القرآن: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى? مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:280] أبلغ من الإنذار أن تتركها إلى وجه الله، ما أحوجنا لمراجعة الأسباب الموجبة للجنة والنجاة من النار.
وكل هذا يزرع الأخوة، أخ في كربة ومصيبة تقف معه، وتشعره بأن قضيته قضيتك، لا شك أنك تسكب في القلب من معان الأخوة والود ما لا يعلمه إلا الله، لكن هذا الشخص الذي لا يعرف إلا الدينار والدرهم، لا يعرف إلا كم دخل عليه، أهلك الناس، نعوذ بالله، بينما النبي يقول: ((تجاوزوا عنه)) ويفتخر بأنه لا يتسامح، وأنه يضع الشروط العظام حتى لا أحد يفلت من بأسه وشدته.
أسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعيذنا وإياكم من حب الدنيا وأن يرزقنا العيش في جو الآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الأمور التي يحسن أن نقف عندها أن لا نفرِّط في زيادة رصيد المحبة والإخاء، وأن نكون فعلاً إخوان متحابين، يُرى حبنا في الله من خلال تعاملنا وتصرفاتنا، هناك أمور كثيرة شرعها لنا نبينا تزيد من حبنا في الله، فيقع لنا الفضائل ما أخبر عنه نبينا من أن المتحابين يغبطهم النبيون والشهداء.
من المعاني الجميلة التي تزيد الحب، أن تخبر أخاك بأنك تحبه في الله، يقوله النبي : ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)) ليقل له: أحبك في الله، وليقل الآخر: أحبك الله الذي أحببتنا فيه، وليتنا نطبق هذا الأمر ونحييه في حياتنا، لماذا تجعل هذا الشعور مدفوناً، لماذا لا تقوله لأخيك كما قال النبي؟! أخبره أنك تحبه في الله.
كذلك من موجبات الأخوة الهدية، وليست الهدية عبارة عن مكافئة وعادة كما يصنع الناس الآن، لا، الهدية قيمتها المعنوية، ولو بسواك، أشعره بأنك تحبه ((تهادوا تحابوا)) كلمتان، يقولها النبي عليه الصلاة والسلام.
كذلك الشكر للناس، والاعتراف بالفضل لهم والمعروف، يقول النبي : ((من لم يشكر الناس لم يشكر الله)) ، وقال : ((من صُنع له معروفٌ فقال لصاحبه: جزاك الله خيرًا فقد أبلغ في الثناء)) حديث صحيح. كافئوه، اشكروه، كل ذلك يزيد معدل الحب في الله.
كذلك الثناء والمدح في وجهه إذا لم يخشَ عليه مفسدة، فقد قال النبي لأشج عبد القيس: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله)) ، وقال في محضر من الصحابة: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم عمر ـ يعني في الدين ـ وأصدقهم حياءً عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ، وأفرضهم زيد)) ، ذكر مناقب وفضائل لهؤلاء الصحب الأجلاء لأنه يعلم بأنهم ليسوا ممن يتأثرون بمثل هذا، وإنما يحمدون الله عز وجل، وهذه عاجل بشرى المؤمن كما قال.
التبسم، هذا الشعور النبيل، الذي يدل على صلاح القلب، التبسم النابع من القلب، وليس تبسم التماسيح، تبسم المنافقين، تلك الابتسامات الصفراء، الابتسامات العريضة التي تشعر بالحقد، قال : ((تبسمك في وجه أخيك صدقة)) صدقة، لا إله إلا الله، عمل تؤجر عليه، ابتسامة تلقى بها أخاك، تشرح صدره وتشعره بمخزون الحب صدقة في ميزان حسناتك.
السلام، وقد تعود الكثير من الأبناء والبنات ترك السلام، يمر في السوق ولا يسلم بسبب هجمة المسلسلات التي لا تقيم للقضايا الكبار فضلاً عن هذه القضايا أي قيمة.
النبي يقول: ((ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) أفشوا السلام، السلام عليكم، عليكم السلام, في السوق, في الشارع، في السيارة، في أي مكان، أفشوا السلام بينكم فإنه رسالة إلى القلوب.
الدعاء بظهر الغيب، كرامة للداعين، والدعاء بظهر الغيب من أظهر علامات الحب في الله، الدعاء بحضور المدعو له طيب لا بأس به، لكن قد يخالطه نوع رياء، لكن لما تدعو لأخيك وأنت في سجودك وأخوك لا يدري، وتدعو له في سجودك بالثبات والتسديد والتوفيق، أي حب أجل من هذا، لا يدري عنك إلا الله، من كان هذا حاله، فاسمع الجائزة والبشرى له، يقول ـ والحديث في مسلم ـ: ((من دعا لأخيه بظهر الغيب له ملك موكل عند رأسه يقول آمين ولك بالمثل)) لك مثل ما تدعو لأخيك، فأنت في الحقيقة تدعو لنفسك فاستشعر هذا الأمر.
كذلك من أسباب زيادة الحب الذب عن عرضه في غيبته، يأتي شخص فاسق، شخص متسرع، شخص حقود، شخص حسود، يبث الأراجيف والشكوك والأوهام، وأنت تسمع لأخيك غيبة وكلامًا وأنت بارد الشعور متبلد، لا، تذب عن عرضه، دافع، أسكته باللطف والحسنى، وإن بالغ فأطلب منه الدليل والبينة حتى لا ينخدع بكلامه الطغام والرعاع والجهال فيظنون بأفاضل الأمة سوءًا، وما أكثر الهجمات على الصالحين في هذا الزمان، فنحن في حاجة إلى أن نذب عن رجال الحسبة ورجال الدعوة حتى تبقى صورتهم بيضاء تتعلق بها القلوب فتكون سبيلاً للاهتداء بها، ومن ثم إن شاء الله تكون الأمة في خير عميم.
المسائل التي قلناها كلها من المسائل المُعِينة في زيادة المحبة، نعود مرة أخرى لبعض المفسدات، كثرة الحديث عن الذات، فعلت أنا وقمت بواجبي، وفعلت، وأتيت، ويظهر الأستاذية والقيادة والريادة، ويسفه آراء الآخرين، ويشعر السامعين بأنه هو صاحب الفضل وصاحب المعروف، وما درى بأنه يترك انطباعاً سيئاً عند العقلاء فضلاً عن النابهين والعلماء.
ما الحل إذن أمام هذه المفسدات، والتفريط في تلك الوسائل المُعِينة على زيادة المحبة؟
لا بد أن نأخذ بالأسباب الشرعية لإزالة القطيعة والوحشة والجفاء فيما بيننا، وقديمًا قال النبي : ((كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون)) فوجب على من عنده سلسلة من العداوات ورصيد من كره المجتمع وأفراده له أن يتراجع وأن يرجع إلى صوابه، وهذا لا ينقص من قدره، هذا علامة لجديته وصدق توبته.
أولاً: لا بد أن نستشعر الفضل بسلامة القلوب، النبي كما تعلمون جميعًا أخبر عن صحابي من صحابته رضي الله عنهم أنه من أهل الجنة، فراقبه عبد الله بن عمرو، النبي يخبر أنه من أهل الجنة، والنبي لا ينطق عن الهوى، إذاً هو إخبار صادق، وهذه عقيدة، فنظر في حياته فلم يجد كثير قيام ولا صيام يذكر -عندما طلب الضيافة عنده ليرى صيامه وقيامه- فأخبره بعد ثلاثة أيام بأنه جلس معه ليس من أجل الضيافة, إنما من أجل أن يرى كيف يعيش هذا الرجل، لعله يلتقط أعماله فيبني بها جنته، فقال: (إنني أنام كل ليلة وليس في قلبي على مسلم شيء)، قلب طاهر كما قال النبي وأخبر عن أناس من أمته، أفئدتهم كالطير لا حقد ولا غل، لا يقر له عين ولا ينام حتى يتسامح مع إخوانه.
وبالمقابل إذا لم يستشعر الفضل فليخف من التحريم ((لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)) في أمور دنيوية، لا يجوز، حرام، آثم، في أمور دينية لا بأس، شهر شهران، هجر النبي بعض الصحابة مدداً طويلة، وهجر زوجاته في قضايا دينية، هجر المبتدع، هجر الفاسق لاشيء فيه، إذا كان يرجى من هجره خير.
(1/3516)
حرمة دماء المسلمين وأعراضهم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
محمد أحمد حسين
القدس
14/10/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- جريمة قتل الأبرياء. 2- تحريم الأنفس المعصومة. 3- غطرسة أمريكا. 4- مسؤولية الأمة الإسلامية. 5- تحريم أذية المسلم في عرضه ونفسه وماله ودينه.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، في ظل أية شريعة يقتل الأبرياء من أبناء الشعوب الإسلامية في العراق وفلسطين وأفغانستان والفلبين وغيرها من بقاع المعمورة؟! فكل الشرائع السماوية حرمت ومنعت قتل النفس إلا في حالات ثلاث: المرتدين عن الدين، والنفس بالنفس، والثيب الزاني.
وقد أكدت الآيات القرآنية والسنة النبوية هذه الأحكام، من ذلك قول الرسول : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
إنه قانون الغاب وغطرسة القوة والحقد الأسود على الإسلام والمسلمين والطمع في نهب ثرواتهم والسيطرة على ديارهم هي الدوافع الحقيقية لقتل المسلمين دون تفريق بين مقاتل أو طفل أو شيخ أو امرأة ما دامت المحصلة والنتيجة هي القتل بسبب أو بدون سبب.
ألم تهدم أمريكا والمتعاونون معها منازل المواطنين على رؤوسهم في الفلوجة التي حوصر فيها المؤمنون بلا ماء ولا كهرباء ولا غذاء، وقصفت طائرات العالم الحر أكثر من مرة حفلات الأعراس ومواكب الجنائز في العراق وفي أفغانستان؟! ثم يكون التبرير بأنهم لاحظوا إرهابيين أو كانت المعلومات الاستخبارية التي وصلتهم ليست دقيقة! فأي إرهاب أكثر من إرهابهم؟! إنهم يريدون شعوبا لا تغار على أرضها وعرضها وتقبل بمخططات الاحتلال والاستعمار والاستيطان. هذا ما ترفضه الشعوب الإسلامية التي ما زالت تحركها العقيدة وتدفعها العزة إلى ميادين الكرامة ذودا عن الإنسان والحضارة والدين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإسلام في كل مكان، لما كان هدف الغزاة والمحتلين ذبح الشعوب الإسلامية وإطفاء جذور مقاومتها لتسهيل السيطرة على مقدراتها ونهب أراضها وخيراتها فلا عذر لمن يعاون المحتل من أبناء الأمة على تنفيذ أهدافه مرورا فوق جسور أجساد الأبرياء من أبناء الشعوب التي تتعرض للغزو والاحتلال.
فالأمة الإسلامية بدولها وحكوماتها وشعوبها وحكامها مسؤولة أمام الله ثم أمام التاريخ عن نصرة هذه الشعوب التي تتعرض للقتل والسجن والتشريد فوق أرضها وخارج أوطانها، ولن يقبل عذر المعتذرين بالسكوت عن هذه الجرائم بحالة الضعف التي تمر بها الأمة وقلة الإمكانيات لرد العدوان.
فأمتنا تملك من عوامل القوة والوحدة لو صدقت النوايا ما يكفي لحماية شعوبها ودفع العدوان عن ديارها، فعقيدتها واحدة، وأرضها متجاورة، وموقعها بين قارات العالم يؤهلها لدور ريادي في زمان تحكمه المصالح وتسوده القوة في ظل شعارات ثبت زيفها وبان عوارها، كالدعوة إلى حرية الشعوب والمحافظة على حقوق الإنسان. فأي حرية في ظل العدوان والاحتلال؟! وأين حقوق الإنسان حينما تسلب الحياة من أطفال لم تفارقهم براءة الفطرة والطفولة؟!
نقول هذا للمخدوعين من أبناء الأمة بالمستقبل الواعد تحت حراب المحتل، وللشعوب التي لم تكتو بعد بنار الغزاة، وللساسة والمسؤولين في دنيا المسلمين الذين شغلتهم الدنيا عن الآخرة وأقعدتهم الشهوات عن بلوغ الغايات، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة:87].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الهادي إلى صراط مستقيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اقتدى واهتدى وسار بهداه إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، يا أبناء الإسراء والمعراج، كما حرم الإسلام دم المسلم إلا بالحق حرم إيذاء المسلم في عرضه ونفسه وماله ودينه ونسله أو ترويعه بسلاح أو بغيره، فالله يقول: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58].
وقد خاطب الرسول المسلمين في حجة الوداع بقوله: ((أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟! اللهم فاشهد)) ، ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله)). فجرائم القتل بسبب نزعة الجاهلية أو دعوة عصبية وإطلاق الجوارح للخوض في أعراض المسلمين والاعتداء على أموالهم أو أبنائهم كما يفعل عصابات خطف الأطفال، كلها جرائم تقود إلى فقدان الأمن بين الناس وتثير الخصومة والعداوة والبغضاء وتفرق الجماعة وتمزق الألفة وتقضي على بنيان المجتمع وتفرق كلمته وتبعث الفتنة، والفتنة نائمة ملعون من يوقظها.
فماذا يصنع الخارجون عن صف المؤمنين بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة تحاجج عن أصحابها الذين يروعون في بيوتهم وتسفك دماؤهم وتنهب أموالهم ويخطف أبناؤهم؟!
كما أن المجرمين لن يسلموا من عقاب الدنيا الذي يجب على كل مسؤول أن ينهض بمسؤوليته لحفظ أمن ودم وأعراض المواطنين وردع المجرمين عن جرائمهم. كما يجب على أهل الإصلاح والصلاح في المجتمع أن ينهضوا بواجبهم لوأد الشر ومنع الفتن والقضاء على كل الظواهر السلبية التي تهدد أمن المجتمع وتبعث الرعب في النفوس، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) ، ومن أقوال السلف الصالح: "ليكن حظ الؤمن منك ثلاثة: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه.
فكونوا ـ عباد الله ـ إخوانا، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان.
(1/3517)
القوّة في الإسلام
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة, مكارم الأخلاق
عبد الباري بن عوض الثبيتي
المدينة المنورة
14/10/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- مذاهب الناس في معنى القوة. 2- القوة الحقيقية. 3- قوة العقيدة ورسوخ الإيمان. 4- القوة في العبادة. 5- القوة في الأخلاق. 6- القوة في الإرادة والعزيمة. 7- ضبط النفس وكظم الغيظ. 8- القوة البدنية. 9- ذم الكسل والخمول. 10- ضرورة التوكل على الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنَّ أصدقَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمّد.
قال رسولُ الله : ((المؤمن القويّ خيرٌ وأحبّ إلى الله منَ المؤمِن الضعيف، وفي كلٍّ خير)) رواه مسلم [1].
ينطلِق كثيرٌ منَ الناس في مفهومِ القوة والضعفِ من منظورٍ مادّي واعتباراتٍ أرضيّة، فهذا يقدِّر القوةَ والضعف بحسَب إقبالِ الدنيا وإدبارها، وآخرُ يقدِّر القوّةَ بممارسةِ الجبَروت والقهرِ والبغيِ والطغيان، وثالث يظنّ القوةَ لمن كان له جاهٌ أو حَظوة من سلطان، ورابعٌ يركَن في قوّته إلى ماله أو ولدِه أو مَنصبِه، وخامِسٌ يستمدّ قوّتَه من إجادةِ فنون المكرِ والكيد والخِداع والقدرةِ على التلوّن حسَب المواقف والأحوال.
والقوّة ليست ذلك، ولكنَّها قوّة العقيدةِ والخلُق، القوّةُ في العبادةِ والسّلوكِ والجِسم والعِلم والصّناعة والتّجارة. تلك القوّةُ التي تتَّجه بجهد الإنسانِ إلى الخير وتقودُه إلى الرَّحمة، وتجعَل منه أداةً يحِقّ الله بها الحقَّ ويبطِل الباطِل.
ومِن أهمِّ عناصر القوةِ قوّةُ العقيدة ورسوخُ الإيمان، فصاحِبُ العقيدة القويّة يؤمن بالله، يتوكَّل عليه، يعتقد أنّه معه حيث كان، تراه تاليًا للقرآنِ ذاكرًا لله تعالى. ومِن أسرار قوّةِ العقيدة أنّه لا يستطيعُ إنسانٌ كائنًا من كان أن يمنعَك من رِزق كتبه الله لك، ولا أن يعطيَكَ رِزقًا لم يَكتُبه الله إليك، بهذا ينقطِع حبلُ اللجوءِ إلى أغنياءِ الأرض وأقويَائِها، ويتَّصِل العبد بحبلِ الله المتينِ، فهو المعطِي المانع والرَّزّاق ذو القوّة المتين، يقول رسول الله لابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما: ((يا غلام، إني أعلِّمُك كلمات: احفظِ اللهَ يحفظْك، احفَظِ الله تجِدْه تجاهَكَ، إذا سألتَ فاسْألِ اللهَ، وإذا استعنتَ فاستعِن بالله، واعلم أنّ الأمةَ لو اجتمَعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمَعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلامُ وجفَتِ الصحف)) رواه الترمذي [2]. ولِقوّةِ العقيدةِ قال رسول الله لعمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه: ((والذي نفسي بِيَده، ما لقِيَك الشيطان سالِكًا فجًّا قطُّ إلاّ سلَك فجًّا غيرَ فجِّك)) رواه البخاري [3]. وهذه فضيلة عظيمةٌ لعمرَ رضي الله عنه تقتضِي أنّ الشيطانَ لا سبيلَ له عليه لقوّةِ إيمانه، لا أنّ ذلك يقتضي وجودَ العِصمة.
وبقوّة العقيدةِ والإيمان جعلَ الله لرسوله من الضعفِ قوّةً، والقِلّة كثرةً، ومنَ الفقر غِنى، لقد كان فَردًا فصار أمّةً، وكان أمّيًّا فعلَّم الملايين، وكان قليلَ المال فصار بالله أغنى الأغنياءِ، قال الله تعالى: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى [الضحى:6ـ8].
المؤمِنُ القوِيّ يتماسَك أمامَ المصائبِ ويثبُت بين يدَيِ البلاء راضيًا بقضاء الله وقدَره، وقد صوَّر هذا رسولُنا بقوله: ((عجبًا لأمر المؤمن، إنَّ أمرَه كلَّه خير، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن؛ إن أصابته سرّاءُ شكَر فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرّاء صبرَ فكان خيرًا له)) رواه مسلم [4].
والقوّةُ في العبادةِ بالمحافظة على الفرائِض والاجتهادِ في الطاعات والتّنافس في الخيرات والتقرُّب إلى الله، فلا يمدّ يدَه إلاّ إلى الحلال، ولا يعيشُ إلا في الطاعَةِ والرّضوان، لقد كان رسولُ الله يقوم حتى تفطَّرت قدَماه، لا يتركُ قيامَ الليل، وكان يتصدَّق بكلِّ ما عِنده.
والقوّة في الأخلاقِ، لقد فتحَ المسلمون الأوائِل بعضَ البلدان بقوّةِ الأخلاق دون أن تتحرَّك جيوشٌ أو تزَلزَل عُروش، وبعضُ المسلمين اليومَ جمَع من العلمِ فأوعَى وخلاَ من الخُلُق الأوفى.
القوّةُ في الأخلاق دليلُ رسوخِ الإيمان، فإلقاءُ السلام عبادةٌ، وعِيادة المريض عِبادة، وزِيارة الأخِ في الله عِبادة، وتبسُّمك في وجهِ أخيك صدقة. ومن القوّة ثَبات الأخلاقِ ورُسوخ القِيَم في الفرَح والشِدّة والحزن والألم، مع الصّديقِ والعدوِّ والغنيِّ والفقير، قال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8]. ومن وصايَا رسول الله لمن أراد الغزوَ أن لا يقتُلوا طِفلاً ولا امرأةً ولا شَيخًا كبيرًا. رواه أبو داود [5].
لقد فعَل مشرِكو مكّةَ برسولِ الله ما فعلوا، آذَوه وحاصَروه، واتَّهموه وكذَّبوه، أخرجوه ثم شهَروا سيوفَهم ليقتلوه. وتمرّ السّنون، ويعود رسولُ الله إلى مكّةَ فاتحًا متواضِعًا لله متذلِّلاً، ويقول لأولئكَ الذين فعَلوا ما فعلوا: ((ما تظنّون أني فاعلٌ بكم؟)) قالوا: أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، قال: ((اذهبوا فأنتم الطّلَقاء)) [6].
إنّه انتصارِ المبادِئ ورسوخُ القِيَم والقوّة في الأخلاق، وحاشا رسولَ الله أن ينتقِمَ لنفسِه أو يثأرَ لشخصِه، وفي الحديث: وما انتقَمَ رسول الله لنفسِهِ إلاّ أن تنتَهَك حرمةُ الله فينتقمَ لله بها. رواه البخاري [7]. وفي عالمنا اليومَ من تنتفِخ أوداجُه وتحمرّ عيناه ويصيبه الأرَق والقلَق ولا يهدَأ روعُه حتى يثأرَ لنفسِه وينتقِمَ لشخصِه المبجَّل، لكنّه لا يحرِّك ساكنًا ولا يشعُر قلبه امتِعاظًا إذا انتُهِكت محارمُ الله.
والقوّةُ في الإرادَةِ بمغالبة الهوَى والاستعلاءِ على الشهوات، قال تعالى: وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26]. وفي سيرةِ نوحٍ عليه السلام ترى قوّةَ العزيمة والإرادَةِ وهو يسير في دعوتِه ليلاً ونهارًا، سِرًّا وجهارًا، يمرّ عليه قومُه وهو يصنَع السفينة، فيُلقُون على سمعه عباراتِ التهكّم والسّخريةِ، فلم تهن عزيمتُه ولم تضعُف إرادَته؛ لأنه كان واثِقًا بنَصر الله، مطمئنًّا إلى وعدِه سبحانه، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [هود:38، 39].
قالَ ابن القيِّم رحمه الله: "اعلَم أنَّ العبد إنما يقطَع منازلَ السيرِ إلى الله بقلبه وهمّتِه لا ببدنِه، والتقوى في الحقيقةِ تقوَى القلوب لا تقوَى الجوارح، قال تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]، وقال تعالى: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج:37]، قال النبي : ((التقوى ها هنا)) وأشار إلى صدره [8].
فالكيِّسُ يقطَع من المسافَةِ بصحَّةِ العزيمة وعلُوِّ الهِمّة وتجريدِ القصد وصحّةِ النية مع العملِ القليل أضعافَ أضعافِ ما يقطعه الفارغُ من ذلك مع التّعَب الكثير والسّفَر الشاقّ، فإنّ العزيمةَ والمحبّة تذهِب المشقّةَ وتُطيِّب السير، والسّبقُ إلى الله سبحانه إنما هو بالهِمَم وصِدقِ الرّغبة، فيتقدّم صاحبُ الهِمّة مع سكونِه صاحبَ العمل الكثيرِ بمراحل، فإن ساواه في همّته تقدّمَ عليه بعَمَلِه" انتهَى كلامه رحمه الله [9].
الذلُّ قبيح، وفي قَبوله هَلاك، وحينَ يوضَعُ في موضِعِه الصحيحِ يُعتَبر قوّةً وعِزًّا، قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:24].
القوّة في ضبطِ النفسِ والسّيطرة عليها، قال : ((ليس الشّديدُ بالصّرعَة، إنما الشديد الذي يملك نفسَه عند الغضب)) رواه البخاري [10].
كظمُ الغيظِ قوّةٌ، قال تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ [آل عمران:134].
تحصيلُ القوّةِ البدنيّة من أهدافِ الشارع الكريم، وفي سبيلِها كان تحريمُ الخبائث من الطّعام والشراب، كالخمرِ والميتة ولحمِ الخنزير، وفي سبيلها كانت عِناية الإسلام برياضةِ البدَن، ومن أجلِ العافية حثَّ الإسلام على التداوِي وأمر بابتغاءِ العِلاج: ((تداووا فإنَّ الله لم يضَع داءً إلاّ وضع له شفاءً ـ أو قال: دواءً ـ إلاّ داءً واحدًا)) ، قالوا: يا رسول الله، وما هو؟ قال: ((الهرَم)) رواه الترمذي [11]. وقد صارَع رسول الله ركانةَ فصَرَعه [12] ، وكان ذلك سببَ إسلامه، وثبَتَ أنه رمَى بالقوسِ وطَعَن بالرّمح وتقلَّد السيفَ وركِب الخيل. كلُّ ذلك لتُسخَّر هذِه الأجسامُ في طاعةِ الله وتُشغَل بالخيرِ وتُبعَد عن كلِّ ما هو محرَّم.
ومع قوّةِ الإيمان والأخلاقِ والجِسم تكون القوّةُ في العلم والمعارِفِ والمِهَن، والقوةُ في الجدِّ في مباشرةِ العمَل، وذلك باطِّراح الكَسَل جانِبًا والخمول ظِهرِيًّا، ذلك العمَل الذي ينمِّي الإنتاجَ ويزيد الثّروَة ويحفظ كراماتِ الأفراد ويصِل بالأمة إلى غايتِها من السّيادَةِ والقيادة.
وأقوامٌ غفَلوا عن هذه النّصوص الكثيرة لتعسُّفٍ في تأويلِها وتحريفٍ عن مواضِعها، حتى قعَدوا عن النّهوض، فأصيبَ العقل بالتبلُّد والفكرُ بالجمود والحياةُ بالتوقّف، وقام من ينادي بأنّ التديّنَ من أسباب التخلُّف وأنّ الشريعةَ عامِل من عوامِلِ التأخُّر، وهذا جهلٌ بالدين وغَفلَة عن تعاليمه، ولقد كان رسولُ الله يستعيذ من كلِّ أسباب ومظاهرِ الضّعف فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجزِ والكسَل)) رواه البخاري [13] ، ((المؤمن القويّ خير وأحبُّ إلى الله من المؤمِن الضعيف، وفي كلٍّ خير)) [14] ، في كلٍّ منَ القويّ والضعيف خيرٌ لاشتراكهما في الإيمانِ، وقد يكون المؤمِن ضعيفًا في بدَنه قويًّا في إيمانه وماله، وقد يكون نحيلَ الجِسم ولكنّه قويّ الفِكر والقلَم، وإلى هذا تشير الكلمة النبويّة: ((وفي كلٍّ خير)).
إنّ قوّةَ المسلم ضرورةٌ لا بدّ أن تتحقَّق؛ ليصدُق عليه وصفُ الإسلام وتكتمِل فيه دعائِم الإيمان، وحتى لا يصبِح المسلمون بضعفِهم وهوانهم فتنةً للناس، يصدّونهم عن السبيل، وتتداعى عليهِمُ الأكلَةُ كما تداعَى الأكلَة إلى قصعَتها.
بارَك الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله العظيم لي ولَكم، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] صحيح مسلم: كتب القدر (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] سنن الترمذي: كتاب صفة القيامة ( 2516 ) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج أيضا أحمد (1/293)، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الضياء المقدسي في المخارة (10/25)، وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/460-461): "روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة... وأصح الطرق الطريق التي خرجها الترمذي"، وهو في صحيح سنن الترمذي (2043).
[3] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3683) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في فضائل الصحابة (2397).
[4] صحيح مسلم: كتب الزهد (2999) عن صهيب رضي الله عنه.
[5] سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2624) عن أنس رضي الله عنه، وضعفه الألباني في ضعيف سنن أبي داود (561).
[6] أخرجه ابن إسحاق كما في السيرة النبوية (4/412) فقال : "حدثني بعض أهل العلم أن رسول الله قام على باب الكعبة فقال: "فذكره في حديث طويل، وهذا سند معضل، وروي عن قتادة السدوسي مرسلاً، أخرجه الطبري في تاريخه (2/161) من طريق ابن إسحاق.
[7] صحيح البخاري: كتاب المناقب (3560) عن عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أيضا مسلم في الفضائل (2327).
[8] أخرجه مسلم في البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] الفوائد (ص141-142).
[10] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6114) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في البر (2609).
[11] سنن الترمذي: كتاب الطب (2038) عن أسامة بن شريك رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (4/278)، والبخاري في الأدب المفرد (291)، وأبو داود في الطب (3855)، وابن ماجه في الطب (3436)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة كما في الفتح (10/135)، والحاكم (7430، 8206)، والنووي في الخلاصة (2/921)، وهو في صحيح سنن الترمذي (1660).
[12] أخرجه أبو داود في كتاب اللباس (4078)، والترمذي في أبواب اللباس (1784)، وقال: "هذا حديث غريب، وإسناده ليس بالقائم، ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة"، وأخرجه الحاكم (3/452) وسكت عنه، وكذا الذهبي، وحسنه الألباني لشواهده في الإرواء (1503)، وانظر: المسارعة إلى المصارعة للسيوطي بتقديم وتخريج مشهور حسن.
[13] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6763) عن أنس رضي الله عنه، وأخرجه أيضا مسلم في الذكر (2706).
[14] أخرجه مسلم في القدر (2664) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله عَلَى إحسانِه، والشّكرُ لَه على توفِيقِه وامتِنانِه، وأشهد أن لاَ إلهَ إلاّ الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنِه، وأشهد أنَّ سيّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عَبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.
إنّه ينبغي أن لا يَنسَى العبد ربَّه مع مباشرةِ هذه الأسباب، فإنّ العوائقَ جمّة، والحاجة إلى عونِ الله وتوفيقِه في كلِّ لحظةٍ وآن، وفي محكمِ التنزيل: لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ [الكهف:39]، قال عزّ وجلّ في دعاء نوحٍ بعد أن كذّبه قومه وبذلَ جميع الأسباب: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر:10]، وقال تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام في وصيّته لقومه بعد أن هدَّدَهم فرعونُ بقتلِ أولادهم: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وقال أيضًا عن وصية أخرى من موسَى لقومه: وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس:84]، وقال تعالى عن يوسفَ عليه الصلاة والسلام عندما تعرَّض لفتنةِ النساء: قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:33، 34].
من الفوائدِ المستنبَطَة من سورةِ يوسفَ عند هذه الآية ـ كما قال بعض العلماء ـ أنه ينبغي للعبدِ أن يلتجِئ إلى الله عند وجود أسباب المعصيَة ويتبرّأ من حولِه وقوّته؛ لقول يوسف عليه السلام: وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ أي: إن وكلتني إلى نفسي فليس لي من نفسي قدرةٌ، ولا أملِكُ لها ضرًّا ولا نفعًا إلا بحولِك وقوّتك، أنت المستعان، وعليك التّكلان، فلا تكلني إلى نفسي.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...
(1/3518)
حقوق الطفل في الإسلام 1
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقوق الطفل قبل الحمل. 2- حقوق الطفل أثناء الحمل. 3- حقوق الطفل بعد الولادة: حق الحياة، حق الاعتبار والكرامة، حق الاسم الحسن، حق الرضاع، حق الملاعبة والمداعبة، حق المراقبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
يتحدث الناس في هذه الأيام ـ أيها الإخوة ـ عن الطفل وحقوقه، وتعقد الأمم المتحدة دورة خاصة لمناقشة حقوق الأطفال في العالم. وإن الحدث في حد ذاته يثير الاستغراب؛ لأن الناظر الذي يرى ويتأمل أحوال الأطفال في العالم كله يجدهم قد وصلوا حالة من الضياع والضلال والاضطهاد والظلم لم يسبق أن عرفها الإنسان في التاريخ. وأنا هنا أتحدث عن الأطفال كلهم، بما في ذلك أطفال ما يسمى بالدول المتحضرة, أطفال أوربا وأمريكا؛ لأن أحوال أولائك لا تعدو أن تكون أحوال إنسان ضال تائه معذب, أطفال لا يعرفون حنان الأمومة ولا عطف الأبوة, أطفال محرومون من هداية الله تبارك وتعالى, ينشؤون ويكبرون على عبادة غير الله، أما أطفال العالم الثالث أطفال المسلمين فإنهم يشهدون في الديار المقدسة حالة رهيبة من الإبادة لكونهم مشروع مقاومة كما ذكرنا أكثر من مرة.
وكل هذا الذي يحصل من ضلال أولائك وتشريد هؤلاء ترعاه ما يسمى بالأمم المتحدة، ترعاه سياسيا وتوجيهيا وفكريا؛ لأن هذه المؤسسات ـ إخوتي الكرام ـ لها هدف واضح، هو أن يعيش العالم تحت سيطرتها وتوجيهها وهيمنتها، عن طريق المواثيق والمؤتمرات والتوجيهات. إنها مشاريع هيمنة حضارة مادية صرفة.
ونقف ـ إخوتي الأعزاء ـ لأُذَكِّر فحسب, وإن كان عدد من إخوتنا وأخواتنا ينبهون على أن هذه الأمور التي نذكر بها هي أمور للأسف غائبة في صفوفنا، بمعنى أن هذا الذي نسميه تذكيرا أصبح تعليما أساسيا. قلت: أقف لأذكر بمجموعة من الحقوق الكبرى التي ضمنها الحق سبحانه لهؤلاء الأطفال في العالم كله:
أما مرحلة ما قبل الحمل فمن الأمور العظيمة في هذا الدين أنه اهتم بالأطفال قبل الحمل, قبل أن يوجدوا. ولعل أبرز حق وأعظمه ضمنه الله للطفل في هذه المرحلة هو اختيار والديه بعضهما لبعض, أن تختار المرأة الرجل وأن يختار الرجل المرأة, ولا أحد يكره على الزواج. هذا الدين العظيم جعل الرجل لا يكره, ولا أحد يمكنه أن يلزمه بالزواج، سواء كان أباه أو أمه أو الحاكم. كذلك الأمر بالنسبة للبنت, لا تلزم, ولا يمكن أن يلزمها أحد. لذلك قال الرسول : ((والبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وإذْنُهَا صُمَاتُهَا)) رواه الترمذي وصححه. فتستأذن لأنها بحيائها ورقتها قد لا تصرح، لكن حالها وصمتها وأسارير وجهها تبين لولي أمرها أنها راضية وراغبة في الزواج.
فمن حق الطفل على أبيه أن يختار أمه. روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أَبي هُرَيْرَةَ عن النّبيّ قال: ((تُنْكَحُ النّسَاءُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)). وروي عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول قال: ((تَخَيَّروا لِنُطَفِكُم)) رواه ابن ماجة والحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن والسيوطي في الجامع الصغير وصححه.
ومما يزيد هذا الكلام نفاسة وقيمة بيان ربنا في القرآن الكريم أن الذرية لها تأثر كبير بآبائها، فيقول الحق سبحانه: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْض وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34]. فعندما تُسأل: من أين هذه الثمرة؟ تقول: من هذه الشجرة. فلا تظنن الإنسان مقطوع الصلة بوالديه وأجداده وتاريخه.
وهل يرجى لأطفال كمال إذا رضعوا ثدي الناقصات
كما أن من حقه على أمه وذويها اختيار الأب الفاضل. أخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه عن أبي هُرَيرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إذا خطبَ إليكُمْ من ترضونَ دينهُ وخلقهُ فزوِّجوهُ، إلاَّ تفعلوا تكنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ)). فلا تُزوج لمشرك أو ملحد لا يعطي وزنا للدين، قال تعالى: وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يومِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّومِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَو أعْجَبَكُم [البقرة:122]. كما لا تزوج لفاسق غارق في المعاصي والمنكرات، صح عن الإمام الشعبي قوله: "من زوج كريمته من فاسق فقد قطع رحمها".
وأما أثناء الحمل فقد تحدث الحق سبحانه عن جملة من الحقوق المرتبطة بالطفل حال كون أمه حاملا به:
على رأس ذلك أن تكون حاملا في بيت زوجها، وأن ينفق عليها، وأن يعتني بها مهما كانت الظروف حتى تضع حملها، وَأُوْلاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنّ [الطلاق:4]. فالطفل في بطن أمه شديد التأثر بحالها، فإذا كانت قلقة ومضطربة ومتعبة فإن نصيبا من ذلك يناله، لذلك كان الغالب على أبناء الأسر المضطربة الاضطراب وعدم الاستقرار والانحراف. والعكس بالعكس.
ومن أعظم ما ضمنه الله تعالى للطفل وهو في بطن أمه حق الحياة، فمنذ أن تبدأ نبتته في الأحشاء فهو إنسان لا يجوز للدنيا كلها أن تسقطه. فمما بايع عليه الرسول النساء عدم الاعتداء على حياة أجنتهن، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيء إِذَا جَاءكَ الْمُؤمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْن بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلَدَهُنَّ [الممتحنة:12].
ويتعزز هذا الحق ولو كان الجنين من الزنا، روى الإمام مالك في الموطأ عن عبد اللّه بن أبي مُلَيْكة أن امرأةً أتت النبي فأخبرته أنها زنت وهي حامِلٌ، فقال لها رسول اللّه : ((اذهبي حتى تَضَعِي)). لماذا لم يطبق عليها الحد فورا؟ لأنها ليست وحدها، إن هناك إنسانا آخر في أحشائها. فلما وضعَتْ أتته، فقال لها: ((اذهبي حتى تُرضعي)) ، فلما أرضَعَتْ أتته فقال لها: ((اذهبي حتى تَسْتَودِعيْه)) ، فاستودَعَتْه، بمعنى جعلته عند من يحفظه ويرعاه، ثم جاءته فأمر بها فأُقيم عليها الحدّ.
ويستغرب الإنسان من سؤال الكثير من إخوتنا المسلمين عن الإجهاض، فيقول السائل: إن رزقي لا يكفي فهل يجوز لي الإجهاض؟! سبحان الله! هل اطلعت على رزقك؟! وإذا كان رزقك كذلك، فهل اطلعت على رزق الجنين وما أعده الله له؟! ألم تقرأ قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّن إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُم [الأنعام:152]. فالفقر حاصل واقع، رغم ذلك لا يجوز الإجهاض، وقوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطئًا كَبِيرًا [الإسراء:31]. فالإملاق متوقع رغم ذلك لا يجوز الإجهاض. فلا في حالة الفقر الواقع ولا في حالة الفقر المتوقع يجوز إجهاز الجنين والاعتداء على حياته. فما الحل إذًا؟ إنه الصبر والتوكل على الله تعالى والتفكير في توسيع أبواب الرزق، عوض الوقوع في أحابيل الشيطان.
وللطفل في الإسلام حقوق بعد ولادته، منها:
أ- حق الحياة: فمن أبرز حقوق الأطفال التي تحدث عنها القرآن الكريم بعد ولادتهم حق الحياة، يقول الحق سبحانه: وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8، 9]. كما حفظ الإسلام هذا الحق للأطفال ولو كانوا أبناء الكافرين المحاربين، قال تعالى: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِين [البقرة:189]، فلا يقاتَل ولا يُقْتَل الأطفال لأنهم لا يُقاتِلون. في صحيح مسلم عن بريدة رضي اللّه عنه قال: كان رسول اللّه إذا أمّرَ أميرًا على جيشٍ أو سريةٍ أوصاه في خاصّتِه بتقوى اللّه تعالى ومَنْ معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: ((اغزوا باسْمِ اللّه في سَبِيلِ اللَّهِ، قاتِلُوا مَنْ كَفَرَ باللّه، اغْزُوا وَلا تَغُلُّوا ولا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلوا وَلا تَقْتُلُوا وَلِيدًا)). إن الإسلام دين هداية لا دين إبادة، والأطفال رغم كونهم أبناءَ كفارٍ إلا أنهم مشروعُ هداية.
ب- حق الاعتبار والكرامة: فيفرح به عند ولادته سواء كان ذكرا أو أنثى، ويذكر الله تعالى ويشكر، ويعبر عن ذلك بعقيقة في يوم سابعه، ويكرم بكرم الله تعالى.
ج- حق الاسم الحسن: فيسمى اسما حسنا، وذلك لأن الاسم جزء من شخصية الإنسان، وقد كان النبي يحب الأسماء الجميلة، ويكره القبيحة ويبدلها. ففي صحيح مسلم والترمذي وغيرهما عن ابن عمر رضي اللّه عنهما أن النبيّ غيَّرَ اسم عاصية، وقال: ((أنت جميلة)). وفي رواية لمسلم أيضًا أن ابنةً لعمرَ كان يُقال لها: عاصية، فسمَّاها رسول اللّه جميلة. وفي صحيح مسلم كذلك عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ قَالَ: سَمّيْتُ ابْنَتِي بَرّةَ، فَقَالَتْ لِي زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ نَهَىَ عَنْ هَذَا الاِسْمِ، وَسُمّيتُ بَرّةَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((لاَ تُزَكّوا أَنْفُسَكُمُ، اللّهُ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْبِرّ مِنْكُمْ)) ، فَقَالُوا: بِمَ نُسَمّيهَا؟ قَالَ: ((سَمّوهَا زَيْنَبَ)).
فيسمى المولود محمدا أو أحمد أو حميدة أو ما اشتق من ذلك، أو يسمى عبد مع إضافة اسم من أسماء الله تعالى، مثل عبد الله وعبد الرحمان وعبد الرحيم وعبد الرزاق، ففي صحيح مسلم عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه : ((إنَّ أحَبَّ أسْمائكُمْ إلى اللّه عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللّه وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ)). أو يسمى اسما يرمز إلى خير، من مثل عمر ومصعب وصلاح الدين وخالد وسعد وفاطمة وزينب وعائشة وأسماء، مما يحمل معنى سليما ويرمز إلى شخصية عظيمة. كما ينبغي تجنب الأسماء القبيحة من مثل الخمار وحادة وعبد النبي.
ومن السنة ـ معشر الإخوة ـ أن نبدل أمثال هذه الأسماء القبيحة، ففي سنن أبي داود بإِسناد جيد وابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه : ((إنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيامَةِ بأسْمائكُمْ وأسماءِ آبائِكُمْ، فأحْسِنُوا أسْماءَكُمْ)).
د- حقه في الرضاع: فالأفضل أن ترضعه والدته بما فيه الكفاية، قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:231]. فالرضاع الطبيعي هو أجود أنواع الرضاع للطفل وللأم، فلا حليب يناسب الطفل كحليب أمه، كما أن زهد الأمهات في ذلك خلاف الطبيعة مما يسبب أمراضا يعلمها المتخصصون، علاوة على ذلك لا يخفى أن رضاع الأم يكون ممزوجا بعطفها وحنانها ودفء أحضانها، وفي ذلك غذاء عاطفي رفيع، الحاجة إليه ليست أقل من الحاجة إلى الطعام والشراب.
هـ- حقهم في الملاعبة والمداعبة: فقد كان محمد بالرغم من مسؤولياته وأثقاله يداعب ويلاعب أبناءه وأبناء المسلمين. روى البخاري ومسلم والترمذي وغيرهما رحمهم الله عن أَنَس بن مَالِكٍ قال: كَانَ رَسُولُ الله يُخَالِطُنَا حَتَّى كَانَ يقُولُ لأَخٍ لي صَغيرٍ: ((يَا أَبَا عُمَيرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيرُ؟)) ، وقد بوب البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب الانبساط إلى الناس". ورُوي عن جابر قال: دخلت على النبي وهو حامل الحسن والحسين على ظهره وهو يمشي بهما فقلت: نعم الجمل جملكما، فقال رسول الله : ((ونعم الراكبان هما)). فليس من الديانة ولا الرجولة دوام الانقباض والسكينة مع الأطفال، لما يخلفه ذلك من الانطواء على ذواتهم وعدم كشفهم لنواياهم وانشغالاتهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
ز- حق المراقبة: نعم، إن مراقبة الطفل وحسن متابعته من حقه على أبويه؛ لأن في ذلك صلاحه ونجاته، فإنه لا يعقل أن يترك للطفل الحبل على الغارب بدعوى الحرية والتفتح. لا بد قبل ذلك من أن يكون مزودا بشيء من العلم والخبرة مما يمكنه من معرفة منفعته ومضرته، أما أن يُلقى منذ نعومة أظفاره في يم الفتن والشهوات والأمواج العاتية فيُنتظر منه السداد، فهذا من قبيل العبث والحماقة.
لا يخفى على الإخوة أن المؤتمرات الدولية للطفولة لا تفتأ تدندن حول إتاحة الحرية للأطفال دون ضوابط، مما ينشئ أجيالا متحررة من الدين ومن الأخلاق ومن كل خير؛ لأن كل ذلك يحول دون انطلاقهم نحو الرغبات والملاهي. وليس غريبا أن تنحو المؤتمرات الدولية برعاية الأمم المتحدة هذا المنحى ما دمنا نعرف أنها خادمة لما تريده الصهيونية من إخراج أجيال لا تعرف الصلة بالله.
وإنه لا يضرنا أن يكون هذا دأبهم؛ لأن طريقة حياتنا ومنهج التعامل مع أنفسنا وأبنائنا لا نأخذه منهم، وإنما نستقيه من كتاب الله وسنة رسوله ، ومن حقنا على العالم كله أن يحترم اختيارنا وأن يراعي خصوصياتنا.
إنه ـ معشر المؤمنين ـ لازم علينا أن نراقب أبناءنا في مدخلهم ومخرجهم، في جدهم وهزلهم، في واجباتهم المدرسية والتعبدية، ولا بد من معرفة أصدقائهم ومرافقيهم، فالنبي يخبر أن هذا مما سنسأل عنه يوم القيامة، ففي الحديث المتفق عليه عَنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ أنّ رَسُولَ الله قال: ((كُلّكُم رَاعٍ، وكُلّكُم مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيّتِهِ)).
أيها الإخوة الأعزاء، يحول الوقت دون استرسالنا في قضايا الموضوع، فنكتفي بما ذكر على أمل أن نتابع في الجمعة المقبلة بحول الله تعالى.
فنسأله سبحانه أن يصلح أحوالنا وأحوال أبنائنا، والحمد لله رب العالمين.
(1/3519)
حقوق الطفل في الإسلام 2
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية القرآن الكريم بالقضايا الأسرية والأخلاقية. 2- مسؤولية التربية تعم الجميع. 3- إبطال مبدأ الحريات الشخصية. 4- أهمية حقوق الطفل لمعنوية. 5- وجوب العناية بالأطفال المحرومين والمشردين.
_________
الخطبة الأولى
_________
معلوم ـ أيها الإخوة الكرام ـ أن تناول القرآن لقضية ما يكون على حسب قيمتها وخطورتها، فكلما كانت القضية كبيرة وعظيمة وكان أثرها على حياة المسلم أثرا بليغا فإن هذا الدين ولله الحمد يوليها اعتبارا أكبر ويتحدث عنها بشكل مستفيض. من ذلك ما يتعلق بالقضايا الأسرية والقضايا الأخلاقية. ومن ذلك ما يتعلق بالطفل, ما يتعلق بحقوقه, ما يتعلق بحياته, ما يتعلق بتربيته, ما يتعلق بتوجيهه. وقد بينت فيما مضى جملة من الحقوق تحدث عنها الحق سبحانه وتحدثت عنها سنة النبي.
من ذلك أن هذا الدين العظيم اهتم بالطفل قبل أن يوجد، وأكرر هذه القضية لأهميتها البالغة؛ لأن الكثير من المفاسد التي نتخبط فيها ناشئ من تلك المرحلة، فكان من الممكن أن يفطن لها الإنسان منذ مدة, ولكن نظرا لتهاونه في البدايات كانت النهايات سيئة, وكانت النهايات صعبة في المعالجة, لماذا؟ لأن الأساس كان خربا, والبناء لم يؤسس على أساس صلب قوي, وإذا كان الأساس غير سليم فمن الصعب أن تصلح البناء أو ترقعه. وتحدثت كذلك عن حقوق هذا الطفل وهو في بطن أمه, ثم عن حقوقه بعد أن يخرج إلى هذه الحياة.
قبل المتابعة أحب أن أنبه على أمرين لهما من القيمة ما لهما:
أولهما: ما قد يفهمه المستمع من أن كلامي موجه للوالدين؛ لأنني لما تكلمت عن اختيار الزوجة واختيار الزوج والاهتمام بالطفل وهو في بطن أمه وكأن الأمر يتعلق بالوالدين فحسب.
فأقول: أيها الإخوة, إن القضية أعظم من ذلك, وأكبر من ذلك. نعم, الأبوان لهما مسؤولية كبيرة وخطيرة, فاحتكاكهم بأبنائهم كبير, وسلطانهم على أبنائهم قوي، ولهذا اعتبر النبي فعل الوالدين أعظم عامل محدد لمسار الأطفال، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاّ يُولَدُ عَلَىَ الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوّدَانِهِ وَيُنَصّرَانِهِ وَيُمَجّسَانِهِ. كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟!)) ثُمّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: واقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ [الروم:30]. وكأن هذا الحديث الشريف العظيم يرد على كثير من الآباء الذين إذا كلمتهم يقولون: إنهم مغلوبون وليست بيدهم حيلة تجاه أبنائهم, والمجتمع هو الذي له الدور الأكبر, والشارع يفسد والمدرسة تفسد, فماذا يمكننا أن نفعل؟! وكأن هذا الحديث الشريف يرد عليهم ويبرز لهم قيمتهم ومكانتهم في هذا الإطار، فليس لهم أن يستسلموا ويفشلوا, وليس لهم أن يحتقروا وظيفتهم, وليس لهم على كل حال أن يسقطوا الموضوع من أيديهم، وإنما يجب عليهم أن يتشجعوا ويقوموا بمسؤولياتهم كما يجب.
رغم ذلك ـ أيها الإخوة ـ فإن المسؤولية لا تظل مرتبطة بالوالدين فحسب, وإنما هي مسؤولية المجتمع كله, كل من موقعه, كل من جهته، فربنا سبحانه وتعالى لما تكلم عن المؤمنين لم يتكلم عنهم منفصلين, لم يتكلم عنهم مبعثرين, وإنما تكلم عنهم كتكتل وتجمع, فلاحظوا في خطاب كتاب الله تبارك وتعالى لا نجده موجها لمؤمن وحده, وإنما الخطاب في الأصل موجه للمؤمنين كافة, موجه للمجتمع والأمة ككل. لذلك نجد في القرآن الكريم مرارا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ؛ لأن المؤمن لا يمكن فصله عن مجتمعه, وعن شارعه ومدرسته, وعن مؤسسات مجتمعه كلها, فبعضها يؤثر في بعض.
وأجمل تشبيه لهذه القضية تشبيه السفينة الذي شبه النبي به المجتمع, فيبين أن المجتمع هو مجموعة ذات مصير واحد, فلا يمكن أن أقول: إنني لوحدي يمكنني النجاة, وإنما المجتمع مصيره واحد, وعواقبه واحدة, فالنتائج التي يمكن أن يستفيد منها هي كذلك مشتركة. ففي صحيح البخاري وجامع الترمذي عن النّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ قال: قال رسولُ الله : ((مثل القائم في حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا. فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)).
فلاحظوا ـ إخوتي الأعزاء ـ هذا التشبيه العظيم، فالسفينة هي المجتمع، والذين كانوا في أسفل السفينة هم من مكونات هذا المجتمع. لاحظوا ماذا يحدث لو أنهم حفروا حفرة في الطابق السفلي لهذه السفينة, فإن الماء سيغمر الطابق السفلي, وسيغمر الطابق العلوي، وسيهلك المجتمع كله، ((فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)). فهذا ـ إخوتي الأعزاء ـ تصور عظيم لحدود حرية الإنسان.
أما يسمى اليوم بالحرية الشخصية فهو شعار مزخرف لمقاصد خطيرة جدا، أن يفعل كل فرد ما يشاء, ولا أحد من حقه أن يتدخل في شؤونه الخاصة، فديننا العظيم لا يعرف هذا المنطق, ولا يعرف هذا الأسلوب، فأي سلوك يمكن أن تفعله أو يفعله غيرك فهو يهمّ المجتمع كلَّه ويؤثر في المجتمع بالسلب أو بالإيجاب. فحتى الكثير من القضايا التي يسميها الغربيون شخصية, هذا الدين العظيم لا يعتبرها كذلك. مثلا: عندهم في أوربا وغيرها أن المرأة إذا زنت برضا زوجها لم ترتكب جرما؛ لأن هذا يدخل في حريتهم الشخصية، بينما في الإسلام إذا زنت المرأة ـ أراد زوجها أو لم يرد, أحب ذلك المجتمع أو لا ـ فقد ارتكبت جرما، وحكمها الجلد إذا كانت غير متزوجة, والرجم حتى الموت إذا كانت متزوجة. وهذا الحكم لا يقدر أحد على إسقاطه، لماذا؟ لأنه قضية حق المجتمع بأكمله.
من هذا المنطلق بالطبع كان من مسؤولية المجتمع في تربية الأبناء أن يوفر البيئة الصالحة، من مسؤولية المجتمع في تربية الأبناء أن يكون الشارع نظيفا، أن يتطهر من مقرات الفساد, وأن يخلو من مراكز اللهو والمجون المحرم، وتلك المتخصصة في تضييع أوقات الأبناء وأكل أعمارهم.
إن الملاحظ في واقعنا ـ أيها الإخوة ـ أن هناك تيارا من الفجور والفساد يجرف ما بقي من أخلاق الشباب والشياب وأوقاتهم، ومن مسؤولية المجتمع أن يوفر مؤسسات الصلاح والإصلاح, لا مؤسسات الفساد والإفساد، فإنه لا يعقل أن ننشد الصلاح والإصلاح ومؤسسات الخمر والقمار والفاحشة والمسخ حيثما وليت وجهك.
متى يبلغ البنيان يوما تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم
وأما الأمر الثاني الذي يستحب ذكره في هذه العجالة وهو حدود هذه المسؤولية، لا شك ـ إخوتي الأعزاء ـ أن الفرق الجوهري بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية البعيدة عن الله تعالى هو كون الحضارة الإسلامية حضارة لا تقف عند حدود هذه الدنيا, وإنما هي حضارة تعدّ الإنسان وتصلح أحواله كي يكون من السعداء في الدنيا والآخرة. فمن ثَمَّ لا نتحدث عن حقوق الأطفال المادية فحسب, فهناك حق يسبق كل الحقوق، يسبق الأكل والصحة والتعليم, وهو حق تربيتهم تربية يحبها الله. لاحظوا الصورة البغيضة البليدة التي نلاحظها في الكثير من الأوساط: يوفر للأطفال المأكل والملبس والملاهي, ولكن لا دين ولا إيمان ولا أخلاق، فما الفائدة؟! فهل تسمنه وتجهزه لنار جهنم؟! فالأمر ـ إخوتي الأعزاء ـ خطير فعلا، فلذلك كانت المسألة التي يجب أن تطغى هي تحسين صلة الأطفال بربهم سبحانه وتعالى, فمن الصغر تبدأ هذه القضايا تترسخ, فهي الهدف الأسمى الذي يؤطر الحياة الأسرية وحياة المجتمع.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها الإخوة، إذا كان الإسلام قد ضمن للأطفال جميعا جملة من الحقوق فإنه نبه المجتمع على واجبه نحو المحرومين منهم والمشردين والأيتام. وللأسف فإن هذا النوع كثير في مجتمعنا، لماذا؟ لأن صلة مجتمعاتنا بالله ضعفت، ففشو الزنا وسوء التصرف في الثروات واضطراب الأسر كل ذلك يسهم في إنتاج آلاف الأطفال المشردين والمحرومين. وهؤلاء ـ إخوتي الأعزاء ـ يحتاجون لعناية متميزة.
ولعل أول مسألة يثيرها هذا الدين العظيم هي أن وجود الضعفاء والمحرومين ليس بمشكل في المجتمعات عادة, وإنما المشكل في كيفية التعامل معهم, وفي كيفية النظر إليهم، فإنه لا يخلو مجتمع مسلم من ثلاث فئات: الفئة الأولى: فئة العاملين، الفئة الثانية: فئة الذين يقاتلون في سبيل الله، الفئة الثالثة: فئة المرضى والمحرومين. قال تعالى: عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل:20]. والمفروض أن المجتمع كله من الناحية الاقتصادية يعتمد على العاملين، المقاتلون في حاجة إليهم، والمرضى والضعفاء في حاجة إليهم أيضا.
إن القرآن الكريم ـ معشر الإخوة الكرام ـ يقرر أن لهؤلاء المحرومين حقا، ليس إحسانا ولا تطوعا، وإنما هو حق معلوم، قال تعالى: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24، 25]. فالفرق بين الحق المعلوم الذي يتحدث عنه القرآن الكريم وبين غيره معلوم، فالحق المعلوم حق محدد للسائل والمحروم، ليس لأحد أن يأخذه منه، أو يحرمه منه، فهو ملك له. فكان على المجتمع كله أن يتعاون لكي يصل إليه، فإذا أخذته وأكلته فقد أكلت أموال الناس بالباطل. وأبرز هذا الحق المعلوم الزكاة، إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، فهؤلاء لهم حق مضبوط وحق لا يناقش. المجتمع ما دام لا يهتم به ولا يجمع مال الزكاة ولا يوصله إليهم فهو مجتمع آثم، فهو مجتمع لا يستحق رحمة الله، وهذا للأسف من الواجبات العظيمة التي ضيعتها المجتمعات المسلمة. الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، لمن تركناه؟ تركناه للناس، تركناه للأغنياء، في حين أن الأمر ليس هكذا، فهذا ليس من حقهم، وإنما ينبغي أن يجمع منهم، وأن يؤخذ رغما عنهم إذا امتنعوا، ويعاقبون بأخذ شطر من أموالهم. فهذا حقهم المعلوم على مجتمعهم، أن يسخر مال الزكاة لرعايتهم والقيام بشؤونهم، من مطعم مشرب وتعليم وتربية..
كما رغب هذا الدين العظيم في التنافس في الإحسان إلى المحرومين من الناس عموما، وإلى الصغار منهم بالخصوص، فإنه لا يجوز قهر اليتيم ولا القسوة عليه، قال تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَر [الضحى:9]. وكافله من مرافقي النبي في الجنة. أخرج البخاري وغيره عن سَهْلٍ أَنّ النّبيّ قالَ: ((أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ كَهَاتَيْنِ في الْجَنّةِ)) وَقَرَنَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ: الْوُسْطَى وَالّتي تَلِي الإبْهَامَ.
إن المطلوب في مجتمعات المسلمين أن يؤدَّى هذا الحق في أحسن أحواله، وأن لا يبقى موكولا للأفراد، وذلك بتأسيس مؤسسات الرعاية والتربية والإيواء، وأن ينفق عليها بسخاء، وأن تهتم بالتربية الشاملة الصحية والإيمانية والعلمية والخلقية، وأن لا يقتصر فحسب على توفير بعض الحاجيات المادية وإهمال التربية الخلقية والإيمانية، كما هو سائد للأسف في الخيريات ودور الطالب.
فنسأله سبحانه وتعالى أن يصلح أحوالنا ويتولى أمرنا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.
(1/3520)
تربية الأبناء
الأسرة والمجتمع, العلم والدعوة والجهاد
الأبناء, التربية والتزكية
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان مكانة تربية الأبناء وفضلها. 2- التربية الإيمانية. 3- التربية على العبادة. 4- التربية الخلقية.
_________
الخطبة الأولى
_________
قال تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
يخبر الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية أن من صفات عباده المتقين أنهم يسألون الله أن يرزقهم ذرية صالحة، ويرزقهم زوجات صالحات. هذه الرغبة الملحة من طبيعتها أن يتبعها عمل، أن يتبعها اجتهاد. وقد وضع الحق سبحانه وتعالى العلامات والمعالم والطريق التي يتبعها الإنسان الذي يريد أن يحقق الله سبحانه له هذا الخير.
فتعالوا بنا ـ معشر الإخوة ـ نلقي نظرة على أبرز التوجيهات التي وجه إليها سبحانه وتعالى المؤمن لينعم على الإنسان بأبناء صالحين.
قبل ذلك أقول: إن انحراف الأبناء وفسادهم من أخطر المصائب التي تصاب بها المجتمعات، فانحراف الشباب أخطر من انحراف الشيوخ، فالشباب إذا انحرف دل ذلك على أن الحاضر في خطر، وعلى أن المستقبل في خطر أكبر منه؛ لأن الذي سيتولى التوجيه وسيتحكم في مستقبل المجتمع هم شباب اليوم، فإذا كان هؤلاء فاسدين فإن غد الأمة سيكون أسوأ من يومها.
وهذا الانحراف ـ أيها الإخوة ـ له أسباب كثيرة، ليس المجال مجال سردها، لكن أهمها عجز الأسرة عن تخريج الصالحين المصلحين، فمستوى الأسرة ومستوى الوالدين هو الذي يحدّد لنا وضعية الأبناء، فلذلك ليس بغريب أن ينبّه ديننا على هذه القضية، وأن يبيّن أن المسؤوليةَ الكبرى يتحمّلها الوالدان، يقول الله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُومَرُون [التحريم:6]. فالمخاطبون بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار هم الآباء؛ لأن نصيبهم في هذه الوقاية نصيب الأسد، فمسؤوليتهم في هذا الباب أثقل وأخطر، ففي صحيح البخاري وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله قال: ((ألا كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، بل الأبلغ من ذلك بيان النبي أن الوالدين محدِّدان لمسار ولدهما، عن أبي هُرَيرَةَ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((كلُّ مولودٍ يُولدُ على الفطرة، فأبواهُ يُهوِّدانِهِ أَََو يُنصِّرانِهِ أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟!)).
وصدق من قال:
مَشَى الطاووسُ يومًا باعْوجاجٍ فقلّدَ شكلَ مشيتهِ بنوهُ
فقالَ: علامَ تختالونَ؟ فقالوا: بدأْتَ به ونحنُ مقلِدوهُ
فخالِفْ سيركَ المعوجَّ واعدلْ فإنا إن عدلْتَ مُعَدِّلُوه
أمَا تدري أبانا كلُّ فرعٍ يجاري بالخُطى من أدّبوه؟
وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ منا على ما كان عوَّدَه أبوه
وإن من أعظم ما يربى عليه الولد ويؤدّب ـ أيها الإخوة الأعزاء ـ معرفة الله والإيمان به، فالتربية الإيمانية هي أساس كل خير، ومجتمعنا الآن لا يعاني من قلة الأقوياء وإنما من قلة الأمناء، ففيه تبارك الله من العباقرة والأقوياء والمثقفين الكثير، ولكنه مفتقر إلى الأمناء الذين يخشون الله تعالى ويطيعونه في السر والعلن، مما جعل الكثيرين يؤثرون مصالحهم الخاصة، ويرتكبون في سبيلها ما لا يرضي الخالق ولا يسعد الخلق، فكثرة الغش وسواد التلاعب بأموال المجتمع وأخلاقه، كل ذلك سببه ضعف الإيمان وقلة الأمانة.
ونعني بالتربية الإيمانية تربية الإنسان على معرفة الله ورسوله وطاعتهما، أن يكون إيمانه عميقا لا ريب فيه بأن الله واحد لا شريك له، وبأن الله هو الذي يعطي، وأنه هو الذي يمنع، وأنه هو الذي ينفع، وأنه هو الذي يضر، وأنه سبحانه وتعالى مطلع على خلقه، لا يخفى عليه شيء من أمرهم، وأنه سبحانه جامع الناس ليوم لا ريب فيه، لتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. تكون هذه القضايا واضحة يفهمها جيدا.
وقد كان من دأب الصالحين أن ينشئوا أبناءهم على هذه المفاهيم، فهذا لقمان الحكيم يخلد الله ذكره في كتابه لما كان عليه من اجتهاد في الاستقامة والتأديب لابنه، يقول الله سبحانه وتعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَن اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم [لقمان:11، 12]. فمن تجليات الحكمة التي أكرمه الله بها حرصه على تأديب ولده. فالواو في قوله تعالى: وَهُوَ يَعِظُهُ تسمى عند أهل العربية واو الحال، فقد كان من حال لقمان أن ينصح ابنه ويعلمه ويوجهه إلى الخير بشكل مستمر ومتواصل؛ وذلك لأن الأمور المهمة في الحياة لا مفر من تكرارها والصبر على ذلك.
ومن الحكمة أن يبدأ لقمان في تربية ابنه من تحسين علاقته بالله تعالى: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم. فمعرفة الله وعدم الإشراك به رأس الخير كله، وعليها تؤسس كل العلاقات، كما أن مراقبة الله وعلم الإنسان أنه لا يخفى على الله شيء أهم عاصم من تيارات الشيطان؛ لذلك نبه لقمان على ذلك في قوله لابنه: يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:15].
إذا كان هذا حال الصالحين فإن من شأن الطالحين كما هو سائد اليوم أن ينشئوا بَنِيهم على الدنيا والتكالب عليها منذ نعومة أظفارهم، فيغضب الوالد على ولده إذا فرط في واجباته المدرسية، وربما عاقبه بقسوة، وتقام عليه الدنيا إذا ضيع أباه في مال من أمواله، لكنه إذا ترك الصلاة وأساء الأدب مع ربه فلا حرج عليه، ولا لائم يلومه. فتجد الوالد فرحا بابنه مثنيا عليه لأنه حصل على ميزة في الدراسة، أو نال منصبا مرموقا، فإذا سألت عن الصلاة قيل لك: لا يصلي! فأي خير يرجى منه والحالة هذه؟! وأي فرح هذا يا ترى؟! واحد من هؤلاء تعلم حتى بلغ أعلى المراتب، ونال أعلى الدرجات، وكان مديرا كبيرا، وجاءه أبوه من البادية زائرا، فأراد الشاويش أن يستأذن له على ابنه الذي كان في مكتبه مع جملة من أصحابه، فقال له الأب: دعني أفاجئه، فلما دخل الأب البدوي تغيّر وجه ابنه، فقال لأصدقائه: أقدّم لكم "خَمَّاس دْيَالي" أي: خادم حقولي! لم يستطع أن يعترف أنه أبوه. فهذا الابن رغم مستواه الدراسي فهو ما تعلّم سوى علم الدنيا وثقافة اليهود والنصارى، لم يتعلم قوله تعالى: وبِالْوالَدَيْن إحْسانًا [البقرة:82]، وما شمّ رائحة قول الرسول في صحيح البخاري وغيره عن عبدِ الرَّحمَنِ بنِ أبي بكرةَ عن أبيهِ قال: ((ألا أحدِّثكُمْ بأكبرِ الكبائر؟)) قالوا: بَلى يا رسولَ الله. قال: ((الإشراكُ باللهِ وعُقوقُ الوالدين)).
ومن التربية الإيمانية التربية على محبة الرسول ، فمحبته من الإيمان، ففي الصحيحين عن أنس قال: قال النبي : ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتّى أَكُونَ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعِين)). وإنه لا يمكن أن يحب الولد رسول الله وهو لا يعرفه، فمن ثَمَّ كان لزاما على والديه أن يعرّفاه على رسول الله ، وذلك عن طريق تعليمه سيرةَ الرسول وغزواته وتعريفه بأصحابه، وبما يجب عليه نحوه من إيمان واتباع ومحبة.
وقد كان الصالحون أحرص على هذا، فقد روي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قوله: كنا نعلم أبناءنا غزواتِ الرسول كما نعلمهم السورة من القرآن.
إن من أكبر المصائب التي حلّت بأبنائنا جهلهم بدينهم وبعدهم عن معرفة نبيهم ، في حين دأبوا على معرفة التافهين من الخلق من ممثلين ومغنين ولاعبين، فلا عجب أن نجدهم مقلدين لهؤلاء الشياطين، في حين لو عرفوا محمدا وأصحابه رضي الله عنهم لاتبعوهم ولساروا على نهجهم.
مع تربيتهم على الإيمان فإن تعليم العبادة للأطفال وتدريبهم عليها من أهم ما يهتم به المربون، وعلى رأس هذه العبادات الصلوات الخمس. روى أبو داود والحاكم عن عَمْرِو بنِ شُعَيْبٍ عن أَبِيهِ عن جَدّهِ قال: قال رسولُ الله : ((مُرُوا أَوْلاَدَكُم بالصّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْع سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ سِنينَ، وَفَرّقُوا بَيْنَهُمْ في المَضَاجِعِ)). فقبل سبع سنين واجبك نحوه أن يراك مصلّيا، فإذا بلغ سبع سنين تبدأ في تعليمه وتوجيهه، أما إذا بلغ عشر سنوات فلا بد من إظهار شيء من الحزم إذا ترك صلاته وتهاون في أدائها، ولو اقتضى ذلك ضربه ضربا مناسبا. وتبقى عملية التعليم مستمرة ولو بعد عشر سنين بمختلف الوسائل وبمختلف الأساليب وفي مختلف المناسبات، فتبين له مزايا الصلاة وقيمتها وفضلها وحكمتها وأثرها الطيب على الذين يحافظون عليها وما يعانيه الذين لا يحافظون عليها والأحداث التي تقع في المجتمع من المصائب والانحرافات وأن السبب هو عدم عبادة الله سبحانه وتعالى. ويقاس على الصلاة الصيام، فيحبب إليه الصيام، وإذا أراد أن يصوم لا تمنعه ولا تكرهه عليه، وإنما تعوده وتدربه.
ربنا يقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
سبحان بربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله المصطفى الأمين، وعلى اله وصحابته الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان وعمل صالحا إلى يوم الدين.
ومما يُنَشَّأ عليه الطفل الأخلاق والآداب الحسنة، فيعلم آداب الحديث، وآداب معاشرة الناس، وأخلاق السير في الأرض، قال تعالى: وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ [لقمان:17، 18].
كما يدرّب على آداب الطعام، ففي الحديث المتفق عليه عن عمر بن أبي سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قال: كنت غلامًا في حجر رَسُول اللَّهِ وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رَسُول اللَّهِ : ((يا غلام، سم اللَّه، وكل بيمينك، وكل مما يليك)). فهذا التأديب في الصغر هو التأديب؛ لليونة شخصية الأطفال وقابليتها الجيدة للتشكل خلافا للكبار.
قد يبلغُ الأدبُ الأطفالَ في صغرٍ وليس ينفعهُم من بعدِه أدبُ
إن الغُصُونَ إِذا قَوَّمْتَها اعتدلْت ولا يلينُ إِذا قَوَّمْتَهُ الخَشَبُ
ومن أعظم الأخلاق التي يجب أن يتعلمها الأطفال منذ الصغر الصدق، وأعظم وسيلة لتحقيق ذلك القدوة الصادقة. يأتي طارق يسأل عن الأب في البيت، فيقول الأب لابنه: اذهب وقل له: إن أبي ليس في البيت! فيفتح الابن الباب فيقول للطارق: إن أبي يقول لك: إنه غير موجود في البيت! فيعمل الأب بهذا الفعل على غرس بذور الكذب في شخصية ابنه، فإذا نمت تلك البذرة الخبيثة كان أول ضحاياها هذا الأب التعس، فإذا سأل ابنه: أين كان؟ قال: كنت في المدرسة، بينما الحقيقة أنه كان في الشارع.
هذه ـ إخواني الكرام ـ كلمات قليلة بخصوص هذا الموضوع الكبير.
نسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يتيح لنا فرصا أخرى لمزيد الحديث عنه.
إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيَّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلَيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. ورضي الله عن الخلفاء الراشدين، وعن التابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين. اللهم احشرنا في زمرتهم، وأحينا على سنتهم، ولا تخالف بنا عن نهجهم وطريقتهم...
(1/3521)
أهمية العلم والعلماء
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
مصطفى بن سعيد إيتيم
مكة المكرمة
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضل العلم والعلماء. 2- ضلال من خرج عن هدي العلماء. 3- الذكر الحسن للعلماء. 4- رفع العلم من أمارات الساعة. 5- المصيبة بفقد العلماء. 6- شيء من أوصاف الشيخ ابن عثيمين. 7- دروس وعبر من وفاة الشيخ.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن مكانة العلم النافع غالية، ودرجة أهله عند الله عالية، يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11]. ومَن يرفع الله فلا خافضَ له من بعده.
فالعلماء العاملون نجوم يهتدي بها الإنسان، يهتدي بها إلى شاطئ النجاة ومستقرّ الأمان، ولذا أشهدهم الله تعالى على نفسه، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكة قدسه، ونصبهم حجّةً على جِنِّه وإِنسه، فقال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].
فالعلماء الربانيون هم شهداء الله المرضيّون، أشهدهم على أعظم مشهود: عبادة الله وتوحيده، ومعرفته وتمجيده.
العلماء المخلصون من ولاة الأمر الذين أمر الله تعالى بإطاعتهم، وحذر النبيُّ من إضاعتهم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]. فمن اقتدى بهم اهتدَى، ومن ضلّ عنهم اعتلّ وزلّ.
ولكم ـ أيها المسلمون ـ العبرُ العظيمة والعِظات البليغة فيمن تنكّب طريقَهم وترك سبيلهم، والعاقل من وعَظته الشهورُ والأيام، وعلَّمته الدهور والأعوام.
وانظروا ـ أيها المسلمون ـ حالَ الأمة اليوم لما خرجت عن هدي علمائها، وجعلت نجومَها أحفادَ القِردَة والخنازير، وصارت مراكز النفوذ والقوة فيها لأذناب القردة والخنازير، انظروا كيف تردّت فانتشرت فيها المنكرات، وأُنكِر فيها المعروف، واتُّهم الدِّين وأهلُه، وحُورب فيها الإسلام باسم الإسلام، وضيّعت حدود الله وأحكامه، ونخر اليهود والنصارى والمنافقون في جسم الأمّة نخرًا، ثم أغاروا عليها بخيول الإعلام الهدّام وسلاح العَولمة الفتّاك، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله.
أيها المسلمون، العلماء الأجلاّء هم ورثة الأنبياء، ورِثوا أعظمَ إِرثٍ مِن أعظم موروث، قال الصادق المصدوق : ((العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظٍّ وافر)) [1].
العلماء المعلِّمون، العلماء الدعاة إلى الله، العلماء الربانيون هم خير الناس، قال : ((خيركم من تعلّم القرآن وعلمه)) [2].
إن الناس يشتركون في الموت على حدّ سواء، لكن بينهم في الذكر بعد الموت كما بين الأرض والسماء، فلِلعلماء الربانيين بعد وفاتهم أحسنُ الذكر وأطيبُه. إننا نذكرهم أكثرَ من ذكر الآباء والأجداد، نذكرهم فنترحَّم عليهم وندعو لهم، وما ذلك إلا لما كان لهم من الفضل وما خلّفوه من العلم؛ قال المصطفى : ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) [3]. الناس بآجالهم يموتون، والعلماء عند وفاتهم يولَدون من جديد.
العلماء الربانيون فضائلهم كثيرة ومحاسنهم جمّة غفيرة، هم صمام الأمان ومركب النجاة، هم أساس الأمة وأعمدة المجتمع، هم السيف الصقيل على أرباب الكفر والعناد وأهل الأهواء والبدع.
ما أحسن أثرهم في الناس وهم عنهم أغنياء، وما أسوأ أثر الناس فيهم وهم إليهم فقراء. فلله درّهم، وعنده أجرهم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (21208)، وأبو داود في العلم (3641)، والترمذي في العلم (2682)، وابن ماجه في المقدمة (223) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3096).
[2] أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5027، 5028) من حديث عثمان رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الوصية (1631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على ما قضى وقدّر، والشكر له على ما حكم ودبّر. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في التقدير والتدبير، فالكل له قانتون، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله البشير النذير، قال له ربه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]. صلى الله وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغرّ الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها المسلمون، إن من أمارات الساعة أن يرفع العلم ويفشو الجهل وتظهر الفتن ويكثرَ الهرج، وما رفْعُ العلم بانتزاعه من صدور أهله وإنما بموتهم، قال : ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) [1] ، وقال عبد الله بن مسعود : (عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله) [2].
وإن من عرف للعلماء عظيمَ قدرهم أدركَ عِظَم المصيبةِ بفَقدهم، قال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة ـ أي: صدع ـ في الإسلام لا يسدّها شيء ما طرد الليل النهار" [3].
ولقد نقص من أطراف الأرض بالأمس قدرٌ كبير، ودُفن ببلد الله الحرام علمٌ كثير، فقد توفي الشيخ الفاضل والعلامة العامل، ثالثة الأثافي الشيخ محمد الصالح العثيمين بعد مرض طويل، نسأل الله تعالى أن يكتبَ له به الشهادة كما كان يتمناها ويحدّث نفسَه بها، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة.
إن الشيخ ابن عثيمين علمٌ من أعلام هذه الأمة، آتاه الله علمًا غزيرًا وفهمًا سليمًا وفقهًا دقيقًا ونظرًا سديدًا، وقف حياته للتربية والتعليم، ونذر نفسه للدعوة إلى الله على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، دعا إلى الكتاب والسنة وحارب البدَع، وحذّر من التقليد الأعمى والتعصّب المشين، كانت كلماته على أهل الباطل وأعداء الدين جنودًا مجنّدة، وردوده على أهل الأهواء والبدع سيوفًا مهنّدة، نصر الله به الدينَ وأقام به السنة، جمع بين العلم والحِلم، والرحمة والحزم، قاد المعارك من بيته، وشارك المجاهدين بنيته الصالحة وصدقِ عَزمه، عمل على جمع كلمة المسلمين ولمّ شملهم ونبذ الخلافات التي بينهم بالرجوع إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه الأمة.
هو شيخ الشباب لعنايته بهم ورعايته لهم، وشاب الشيوخ لقوته فيهم ونشاطه بينهم، أحبه الموافق والمخالف؛ أحبه الموافق لعلمه وفضله، وأحبه المخالف لنصحه وعدله.
فرحم الله الشيخ رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله وأفسح مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنّا بعده، وارحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه، وآجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا منها.
أيها المسلمون، إن لنا في هذا الحدث الجلل وقفات ووقفات:
1- فهو تذكير لنا بالموت الذي لا مفرّ منه، مات الأنبياء وماتَ الصالحون، ومات الأولياء ومات العالمون، فاستعدَّ ـ أخي المسلم ـ للموت، استعدّ له بفعل الطاعات وترك المنكرات والتوبة النصوح، استعدّ له فإنه يدخل بلا استئذان، وإذا دخل أنجز وأجهز، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
2- وهو حث لنا على طلب العلم، وعلى مبادرة أهله قبل رحيلهم وفقدهم. فالبدار البدار إلى مجاثاة العلماء بالركب، والجدّ الجدّ في طلب العلم. قال أبو الدرداء : (تعلّموا العلم قبل أن يقبض العلم، وقبضه أن يُذهب بأصحابه) [4] ، وقال كعب رحمه الله: "عليكم بالعلم قبل أن يرفع، ورفعه أن تذهب رواته" [5].
3- وهو تنبيه لنا على أهمية العلماء وفضلهم ومكانتهم في الأمة؛ فإن أمة بلا علماء كجسد بلا روح، ومركب بلا شراع؛ أمة بلا علماء كجيش بلا قائد، ومقاتل بلا سلاح. فاعرفوا ـ أيها المسلمون ـ للعلماء قدرهم، وأدوا حقهم، وإياكم من منابذتهم أو إساءة الظن بهم، فإن ذلك باب الهلاك وعتبة الخسران، والعياذ بالله. عليكم باتباعهم من غير تقليد، واحترامهم من غير تقديس.
4- وهو تذكير لنا أن الأمر لله من قبل ومن بعد، فالأمر أمره، والخلق خلقه، أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]. يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد، لا معقّب لحكمه، ولا رادّ لقضائه، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ليس بينه وبين أحد نسب، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:3]، قال لخليله محمد وهو أفضل الخلق: لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]. فالأمر كله لله، فاستجب ـ يا عبد الله ـ لأمر الله الشرعي، وارض ـ يا عبد الله ـ بأمر الله الكوني، تكن مسلمًا لله حنيفًا، فإن مدار الدين على إتيان المأمور واجتناب المحظور والرضا بالمقدور.
اللهم رضينا بك ربًّا، ورضينا بما قضيتَ وقدّرت، وإنا لله وإنا إليه راجعون، إنا لله وإنا إليه راجعون.
وإن عزاءنا في الشيخ أن الله تعالى بفضله وكرمه يُبقي في الناس أقوامًا ـ وإن قلوا ـ يحفظون على الأمة دينها، يبيّنون أصوله، ويميّزون فروعه، يردّون عنه هجمات اليهود والنصارى وأذنابهم، وينفون عنه شبهات الزنادقة والمبتدعين وأتباعهم.
فأملنا في الله كبير، إنه رحيم بعباده لطيف خبير، ولا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم منه الآخر.
هذا وصلى الله وسلمَ وبارك على نبينا محمد الذي هوّن موتُه كلَّ موت، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجه البخاري في العلم (100)، ومسلم في العلم (2673) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/592) [1017].
[3] أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/595) [1021].
[4] رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم (1/602) [1036].
[5] رواه ابن عبد البر في جامع العلم (1/596) [1024].
(1/3522)
فضل التواضع وذم الكبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, مساوئ الأخلاق, مكارم الأخلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
14/10/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تواضع المؤمن لله تعالى. 2- تواضع المؤمن لعباد الله. 3- داء الكبر. 4- كبر إبليس وأعداء الرسل. 5- أسباب الكبر. 6- وجوب قبول النصح. 7- ذم الفخر والخيلاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ مِن خُلُق المؤمِنِ التّواضعَ لله ثم التواضُعَ لعباد اللهِ.
تواضُعُ المؤمن لربِّه لما قام من قلبِه حقًّا من أنّه فقير بذاتِه إلى ربِّه، وأنّ الله جلّ وعلا هو الغنيّ الحميد عنه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر:15-17]. فاعتقاده الحقُّ أنه الفقير بالذّات لله، وأنه عبدٌ مخلوق مربوب، وأن اللهَ جل وعلا هو الذي خلقه، وهو المتكفِّل برزقه، المالك لسمعِه وبصره وعقله، المتصرّف فيه كيفَ يشاء بكمالِ حِكمتِه ورحمته وعِلمه وعدله، وأنّه لا يملِك لنفسه نَفعًا ولا ضرًّا، ولا مَوتًا ولا حياةً ولا نشورًا، لا يستطيعُ أن يجلِبَ لنفسه نَفعًا، ولا أن يدفع عنها ضَررًا، الكلُّ بيد الله وقدرَتِه، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17].
فلمّا عظُم الله في قلبِه دعاه ذلك إلى التواضُعِ لله والاستكانة لله والذلّ لله وكمال الافتقارِ لله، دعاه ذلك إلى عبادةِ اللهِ وإخلاصِ الدين لله، إلى قَبول أوامر الله بالامتثالِ، وإلى نواهيه بالانزجارِ والانكفاف.
تواضعٌ لعبادِ الله، دعاه هذا التواضعُ لهم إلى أن يكونَ محِبًّا لهم، لا يحتقرهم، يحبّهم ويُجِلّهم ويعرف لهم حقوقَهم ويعاملهم بمثلِ ما يحبّ أن يعاملوه به. يعرف لهم حقوقَهم، ويعرف لهم واجباتِهم، فيلتزِم ذلك. تواضعٌ يبعِده عن السخريةِ بهم والاحتقارِ لهم والاستهانةِ بحقِّهم، تواضعٌ يدعوه إلى أن يكونَ بعيدًا عن عيبهم وهمزِهِم ولمزهِم وحُبِّ الشر والفساد لهم، تواضُعٌ يدعوه إلى حبِّ الخير لهم، فهو يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه.
هذا التواضُعُ الذي تخلَّق به المؤمن يبعِدُه عن الداءِ الرَّذِيل، ألا وهو داء الكِبر والتعاظُم، والنبي يقول: ((لا يدخُلُ الجنةَ مَن في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كبر)) ، قالوا: يا رسولَ الله، الرجلُ يحبّ أن يكون ثوبُه حسَنًا ونعلُه حسنًا! قال : ((إنّ الله جميل يحبّ الجمال، الكبرُ بَطر الحقّ وغَمط الناس)) [1]. فبيَّن حقيقةَ الكبر الذي تُوُعِّد صاحبُه بهذا الوعيد الشديد: ((لا يدخل الجنّةَ من في قلبه مثقالُ ذرّةٍ من كبر))، قال الصحابة: الرجلُ يحبّ أن يكونَ ثوبه ونعلُه حسنًا، أهذا من الكبر؟! قال: لا، ليس هذا من الكبر، إنّ اللهَ جميلٌ يحبّ الجمال، والله يحبّ أن يرى أثرَ نِعَمه على عبده، لكنِ الكبرُ الحقيقيّ ما بيَّنه من قوله: ((بَطرُ الحقِّ وغَمط الناس)) ، ومعنى ((بطر الحقّ)) ردُّ الحق وعدَمُ قَبول الحقّ والاستكبار والاستعلاء على الحقّ، وهذا شأنُ أعداء الرسُل كلِّهم، فما الذي أوقَعَ إبليس فيما أوقعه فيه سوى تكبره على الله؟! أمر الله الملائكةَ أن يسجدوا لآدمَ، فسجدوا كلُّهم إلاّ إبليس أبى واستكبَر وكان من الكافرين، واعترض على الله بقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]. فتكبُّره على الله أدَّى إلى إِهباطه من ملكوتِ السّمواتِ وإلى تخليدِه في عذابِ الله، فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنْ الصَّاغِرِينَ [الأعراف:13]، وقال: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ [ص: 78]. فتكبُّره على الله أحبَط كلَّ عملٍ صالح له وأوقَعه فيما أوقعه فيه.
وهكذا أعداءُ الرّسل، إنما حملهم على تكذيب الرّسل ما في قلوبهم من الكِبر والتعاظم على اللهِ، حيث كذَّبوا رسلَ الله وقالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن:6]. فكلُّ أعداءِ الرسل إنما مَنَعهم من الإيمان ما في قلوبهم من كبرٍ، قال الله جل وعلا في هؤلاء: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، قال جل وعلا: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ [غافر:56].
أيّها المسلمون، إنّ أعداءَ الرسل إنما حالَ بينهم وبين الحقّ الكبرُ في النفوس الذي ملأ قلوبهم حتى تكبَّروا على رسُلِ وكذَّبوهم. محمّد دعا إلى الله وإلى دينِه فكذَّبَه من كذّبَه من قومه، لا اتهامًا له بالكَذِب ولا اتهامًا له بالخيانة، ولكن كِبرٌ في نفوسهم، قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، وقال جلّ وعلا عن فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14].
أيّها المسلِم، إنَّ للكبر أسبابًا، فمن أسبابِ الكبر ـ والعياذ بالله ـ ما يقوم بقَلبِ العبد من تَعاظمٍ في نفسه وعدَمِ انقيادٍ للحقّ، ذلك أن الذي حمَلَه على الكِبر والطغيان نظرُه لنفسه وعدَم قَبوله لمن دعاه إلى الحقِّ والهدى، مع أنَّ واجِبَ المسلِم إذا دُعِي لحقٍّ أن يقبَله وإذا حُذِّر من باطلٍ أن يجتنِبَه، ولذا قال الله: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146]. هكذا حالُ من أزاغ الله قلبَه وأعمى بصيرته، يتكبَّر على الهدى، ولا ينقاد للحقّ، ولا يقبَل الحقّ، ولا يرضى به.
أيّها المسلم، يدعو إلى الكبر أمورٌ:
فأوّلاً: قد يكون علمُ الإنسان الذي يحمِله يدعوه إلى التكبّر والتعاظُم في نفسه، ينظُر إلى نفسِه وأنّه ذو علمٍ ومعرفَة وفَهم وإدراك، وينظُر للآخرين بعَين الاحتقار، أنهم أهلُ جهلٍ وقصورٍ وقلةِ معرفةٍ وعلم، فيدعوه ذلك إلى التكبّرِ عليهم والتّعالي عليهم واحتقارِهم وازدرائهم والنّظَر إليهم نظرَ الاحتقار والاستخفاف والاستهانة. فإنّ هذا عِلمٌ ضارّ؛ إذِ العلمُ النافع يدعو العبدَ إلى التواضع لله، ثمّ التواضع لعباد الله، شكر الله على نعمتِه بهذا العلمِ؛ ليكون ذلك العلمُ سببًا لاستقامةِ الإنسان وتواضُعه، لا سببًا لكبريائه وتعاظُمه في نفسه.
وقد يدعوه إلى الكبر مالُه الذي منّ الله عليه به، فينظُر إلى أموالِه وثرواتِه، وينظر إلى فَقر الفقراء ومَسكنةِ المساكين، فيدعوه ذلك إلى التعاظُم في نفسِه واحتقارِ مَن هو دونَه مالاً ومنصبًا، وتلك البليَّة العظمَى أن يكونَ هذا المالُ سببًا للأشَر والطغيان، قال تعالى: كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ثم قال: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق:6-8].
وقد يدعوه إلى الكبرِ والتعاظُم ما يؤدِّيه من عباداتٍ وطاعات، وينظر إلى أهلِ المعاصي والمقصِّرين في العبادةِ نظرَ الاحتقارِ والازدراء، فيتعاظَم عليهم، ويرى لنفسِه عليهم فضلاً ومكانَة، وهذا ـ والعياذُ بالله ـ قد يؤدِّي بالإنسان إلى الانحرافِ عن الهُدى.
وأنت ـ يا مَن منَّ الله عليك بالمال ـ تذكَّر أنّ هذا المال لم تنَله بحولك ولا بقوّتك، ولكن بفضل الله عليك الذي وسَّع عليك وأعطاك، وقد حُرِمه غيرُك ممّن هو يماثِلُك أو أَقوى منك عَقلاً ورَأيًا، قال تعالى عن قارون أنه قال لما ذُكِّر ووُعظ: إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي قال الله: أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنْ القُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعً ا [القصص:78].
ويا مَن منَّ الله عليه بالعلم، تذكَّر أنّ هذا العلمَ لا يكون نَافعًا إلاّ إذا تواضع صاحبُه لله، وبذَل علمَه لله، وكان علمُه سببًا لتواضعِه في نفسِه وتواضعِه لربّه ثم لعبادِه المؤمنين.
أيّها المسلم، وقد يدعو إلى الكِبر أحيانًا ما يَناله العبدُ من مناصبِ الدنيا ومراكِز الدنيا، فيرى نفسَه ذا شأنٍ وأنّ الآخرين أقلُّ منزلةً منه، فيتعالى ويتكبَّر عليهم، وهذا كلُّه مِنَ المصائِبِ، فإنَّ المؤمنَ كلّما زيدَ في جاهِهِ ومكانتِه زاد ذلك في تواضُعِه لربِّه ثمّ لعباده.
وقد يدعو الإنسانَ إلى الكبر ما [يرى في] نفسِه من صحّةِ بَدَنه وكمال قواه، ويرَى مَن هو دونه في الصحّة والعافية، فيحتَقِره ويزدَريه، وكلُّ هذا من الجهلِ والضّلال.
وقد يدعوه إلى الكبرِ جاهُه وحسَبه ومكانتُه الاجتماعية، فينظر للآخرين بعكسِ ذلك، فيحتقِر من ليس مثلَه أو في مرتبته، ولا يعلم المسكينُ أنّ الله جلّ وعلا إنما يقربُ العبادُ منه بطاعَتِهم له، ولا يقرُبون إليه بأيِّ وسيلةٍ كانت، إنما هوَ التقوى، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13].
أيّها المسلم، عندما تُنصَح في باطلٍ وقعتَ فيه وعندما يُلفَت نظرُك في بلاءٍ ابتُلِيتَ به ومعصيةٍ اقترفتَها ومنكرٍ ارتكبتَه فاقبَل ممّن يدعوك إلى الحقّ، وأحمد الله أن وُجِد لك من ينصَحُك ويوجِّهك ويحذِّرك من سَخَط الله، وإيّاك أن تتكبَّر وتقول لمن نصحَكَ: أمِثلِي ينصَحُه مثلُك؟! أمِثلي ينبِّهُه مثلك؟! لا يا أخي، أنت بحاجةٍ إلى مَن يعِظُك وينصحُك مهما بلَغَت منزلتُك العلميّة أو العِباديّة، فإنّك بحاجةٍ إلى نُصح ناصحٍ وتوجيهِ موجه، فلا تتكامَل في نفسك، ولا تتعاظَم عن قَبول أيّ حقٍّ هُدِيتَ له، ولا عن قَبول أيِّ نصيحةٍ نُصحت بها، فاقبَل الحقَّ ممّن جاء به لتكونَ مؤمنًا حقًّا.
أيّها المسلم، إيّاك وردَّ الحقِّ احتقارًا لمن جاء به، إياك أن تردَّ الحقَّ احتقارًا لمن جاءَ به وتقليلاً لشأنِ من جاء به، فالحقّ هو الأعلَى، فالحق هو العالي وله القَبول، والمخالف للحقِّ هو الهابِط مهما تكنِ الحال.
أيّها المسلم، إنّ النبيَّ قال لرجلٍ أكَل عنده بشماله: ((كُل بيمينك)) ، قال: لا أستطيع، قال: ((لا استطعتَ)) ما مَنَعه إلا الكبرُ، فما رفَعَ يدَه إلى فيه بعد ذلك [2]. ردَّ السنّةَ معلِّلاً أنّه لا يستطيع مع أنه مستطيع، لكن رأى أنفةً أن يأكلَ بيمينِه ويدَعَ أكلتَه بالشِّمال تكبُّرًا على الحقّ، فأدَّى إلى عقوبتِه الدنيويّة أنّه شُلَّت يمينه فما رفَعَها إلى فيه.
أيّها المسلم، احذَرِ الكبرَ في نفسك والتعاظمَ في نفسك، فالله يقول: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:37، 38].
أخبرنا عن رجلٍ ممن قبلَنا، خرج مفتخِرًا بنفسِه [مُعجَبًا بحلَّته] التي يلبسُها، ينظر في عِطفَيه، مرجِّلاً رأسه، يتعاظَم في نفسِه، فخسَف الله به الأرضَ، فهو يتجَلجَل فيها إلى يومِ القيامة [3].
فامش على الأرض مشيَ الهوان، واحذَرِ الكبرَ والتعاظمَ في نفسك، ولا تغترَّ بصحَّتِك وعافيتك. تواضَع لربِّك واشكرِ الله على كلِّ نعمةٍ أنت فيها، واعلم أنّ الفضلَ لله عليك، فأكثِر من الثناءِ والذكر لله، واحذَرِ من الكبرِ والخيَلاء، احذر أن يخدَعَك علمٌ أو مال أو عبادة، قد يكون العبدُ عابدًا لله، مصلِّيًا صائمًا تاليًا، لكن يأتيه العُجب من حيث عمله، فيرى من دونَه ويحتقِرهم ويزدريهم، وقد يعاقَب والعياذ بالله. فإنَّ مَن منَّ الله عليه بالطاعة ومَنَّ عليه بالهداية فليعلَم أنها نِعمة من الله وفضلٌ عليه، والله قادِر أن يسلبَه نعمتَه منه، فلا يحتقِر الآخرين، وإنما يسأل الله للآخرين أن يهديَهم ربهم كما هداه، وأن يمنَّ عليهم كما منَّ عليه، وأن يرشدَهم ويهديَهم كما أرشده وهداه. هكذا يكون المسلم، أمّا أن يحتقرَ الناس أو يزدري بهم، وفي الحديثِ: ((مَن قال: هلَك الناس فهو أهلكهم)) [4].
فيا أيّها المسلم، تواضع لربِّك في كلّ أحوالك، تواضع لربِّك تواضعًا يدعوك إلى القيامِ بما أوجب عليك، وتواضَع لإخوانِكَ المسلمين تواضُعًا يدعوكَ إلى معرفةِ حقوقهم والبُعد عن احتقارِهم وازدرائهم. هكذا فليكنِ المؤمن، أسأل الله لي ولَكم التوفيقَ والسداد والعونَ على كل خير.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هَذا، وأستغفر الله العظيمَ الجَليل لي ولكم ولِسائر المسلمين مِن كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (91) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الأشربة (2021) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في اللباس (5789)، ومسلم في اللباس (2088) عن أبي هريرة رضي الله عنه بمعناه.
[4] أخرجه مسلم في البر (2623) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَما يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمدًا عَبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
يقول : ((إنّ الله أوحى إليَّ أن تواضَعوا حتى لا يبغيَ أحدٌ على أحد ولا يفخَر أحدٌ على أحد)) [1].
فيبيِّن لنا أنّ الله أوحى إليه بهذا: أن نتواضعَ فلا يبغي بعضنا على بعض، فلا يظلِم بعضنا بعضًا، ولا يتعدّى بعضنا على بعض، وأوحى إليه أن نتواضعَ، فلا يفخَر بعضنا على بعض، فبأيِّ شيء يكون الفخر؟! فحرُك ـ أيها المسلم ـ طاعتُك لله واستقامتُك على الهدَى وسلوكك الطريقَ المستقيم، هذا والله هو الفخر والسّؤدَد لمن اتَّقى الله وعَرَف الحق من الباطل.
أيّها المسلم، يقول : ((إنّ النار والجنّة احتجتّا، فقالت الجنة: فيَّ ضُعَفاء المسلمين ومساكينُهم، وقالت النار: فيَّ الجبّارون والمتكبِّرون، فقال الله: أنتِ الجنّةُ رحمتي أرحَم بكِ من أشاء، وأنت النار عذابي أُعذب بك من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها)) [2].
أيّها المسلم، تذكّر أن تكبُّرَك في الدنيا ذلٌّ لك في الدّنيا وصَغار لك في الدنيا وإن جامَلَك من جاملك وصانَعَك من صانَعَك وخَدَعك بالتعظيم والتّبجيلِ من خدَعَك، ففي قلوبِهم كراهيةٌ لك وبُغضٌ على كِبرك وتِيهِك، ويومَ القيامة يحشَر المتكبرون أمثالَ الذّرِّ على صوَرِ الرجال يطؤهُم الخلائِقُ لهوانهم على الله.
أيها المؤمن، الزَمِ التواضعَ وابتعِد عن الكبر، فهو سعادةٌ لك في دنياك وآخرَتِك، وسبب لحبِّ الناس لك وإلفِهم لك، إن أحسّوا منك بكبرٍ في نفسِك عليهم قَلَوكَ وابتَعَدوا عنك ونفَروا منك ولم يكن لك مقامٌ بينهم. فحاسِب نفسَك، واتَّق الله في نفسك، وتواضع لربّك، واعلم أنّ إلى الله مردَّك ومصيرك، وإنما فخرُ الإنسان بما يخلِّده من عملٍ صالح وذِكر حسن.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والعونَ على كلّ خير، إنه على كل شيء قدير.
واعلَموا ـ رَحمكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخَير الهَديِ هدي محمّد ، وشَرّ الأمور محدَثاتها، وكلّ بدعَةٍ ضلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجَماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النّار.
وصَلّوا ـ رحِمكم الله ـ على محمّد بن عبد الله كما أمَرَكم بذلك رَبّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك عَلى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائه الراشدين...
[1] أخرجه مسلم في الجنة (2865) عن عياض بن حمار رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في التفسير (4850)، ومسلم في الجنة (2846، 2847) عن أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(1/3523)
مؤسسة الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزواج استجابة لأمر الله تعالى. 2- الزواج إصابة لسنة النبي. 3- الزواج يجلب عون الله تعالى. 4- الزواج مؤسسة لإنتاج الحسنات.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما زلنا ـ معشر الإخوة ـ نتحدث عن صفات عباد الرحمن، فربنا سبحانه وتعالى ينصّ على أن من شأن هؤلاء العباد أن يتضرعوا إلى ربهم قصدَ إصلاح أبنائهم وأزواجهم، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
معلوم ـ أيها الأحبة ـ أن هذه الرغبة من طبعها أن تكون مصحوبة بعمل واجتهاد، أما أن يسأل العبد ربه صلاح زوجه وفي الوقت نفسه لا يعمل لتحقيق هذا الصلاح ولا يجتهد في السير على طريق الإصلاح والصلاح فهيهات أن ينال بغيته وأن يدرك قصده.
ترجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ مسالكَها إِن السفينةَ لا تجري على اليَبَس
إنّ عطف الذرية على الأزواج في الآية الكريمة يدلّ على أن المحضِن الوحيد والمؤسّسة الوحيدة لإنتاج الأولاد التي يعترف بها ديننا الحنيف هي مؤسسة الأسرة، فلا يعترف بعلاقة جنسية بين الذكور والإناث إلا في ظل الزواج المشروع، وما عدا ذلك فهو فاحشة وسفاح.
إن الزواج ـ أيها الإخوة ـ من الأعمال الصالحة التي يحرص عليها عباد الرحمن، ويعتبرونها هبة الله التي يكرم بها خلقه ويسعدهم، ويعصمهم بها من الفواحش والزلات. والعجيب أن الله تعالى لم يبح الزواج ويرغب فيه فحسب، وإنما أمر به سبحانه فقال: وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، فكما أمر الله تعالى بالصلاة والصيام والزكاة وفعل الخير ها هو ذا يأمر بالزواج. وإنه سبحانه لا يأمر الفرد وحده، وإنما يأمر المجتمع كله: وَأَنكِحُوا الأيَامَى ، يأمر المجتمع بتزويج الأيامى أي: غير المتزوجين من الذكور والإناث.
نعم معشر المؤمنين، إن الزواج يخص الفرد بشكل مباشر، لكنه أكبر من ذلك، فهو قضية المجتمع برمته.
إن المجتمع المهتم بتزويج أبنائه الحريص على أعراضهم لا شك أنه مجتمع قوي حصين، تختفي فيه الفواحش أو تكاد، مجتمع لا يبقى شغل الناس الشاغل فيه النساء والجنس، أما المجتمع المهمل لهذه القضية المتخاذل في تفعيل سبل الحلال لأبنائه فهو مجتمع آيل إلى الضعف، آيل إلى هلاك الحرث والنسل، مجتمع مصاب في عرضه وخلقه.
و إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإذا أصيب الناس في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمًا وعويلا
إنّ هذا عين ما أصاب مجتمعنا اليوم، فها هي عجلة الزواج معطلة، وها هو شبح العنوسة يهدّد حياتنا، وها هي الفاحشة ظاهرة في البر والبحر، ها هو الفساد العريض ـ الذي حذر منه النبي في قوله: ((إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه ـ قد ظهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهل من مدَّكر وتائب إلى الله تعالى؟!
كما أن الزواج علاوة على كونه استجابة لأمر الله فإنه إصابة لسنة أبي القاسم.
إن نزعة التشدد والغلو ليست وليدة اليوم، وإنما هي قديمة قدم الإسلام، ومن مظاهر ذلك اعتبار البعض الزواج والاشتغال به مناقضًا للاستقامة على الدين، ومنافيًا لعبادة الله تعالى. روى البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَنَسٍ أَنّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النّبِيّ عِنْ عَمَلِهِ فِي السّرّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَتَزَوَّجُ النّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنّي أُصَلّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوّجُ النّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي)).
نعم، إن العزوف عن الزواج ميل عن سنة النبي إلى سنة الإباحيين أو إلى بدعة الرهبان، وهذا الميل كلما زاد واحتدّ في مجتمع ما فإن مصيره مفارقة رسول الله والبعد عن ملته، ((فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي)).
إن سنة الرسول في الزواج أشبه ما تكون بسنة المجتمع في التعامل مع منبع نهر، إذا ترك وشأنه جرف البلاد والعباد، وأتى على الأخضر واليابس، وإذا نظم وقُنِّن نفع الحرث والنسل. فغريزة الجنس لم يخلقها الله تعالى لتقهر وتكبَت، ولا ليطلَق لها العنان دون ضابط ولا رادع، وإلا كان الفساد العريض، وإنما قننها الحق سبحانه بالزواج الطيّب، وجعلها سبيلا لارتباط المجتمع واستمرار النسل.
لعل الترغيب في الزواج والدعوة إليه يدفع إلى الحديث عن العقبة الكأداء التي تقف في وجه الراغب فيه، أعني بذلك قلة ذات اليد وغلاء المعيشة والخوف من ضيق الرزق، وهذا ما يفسر حديث الحق عن ذلك بعد أمره سبحانه بالزواج في آية النور، قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، ففي الزواج الغنى بفضل الله ومنته.
روي عن أبي بكر أنه قال: (أطيعوا اللّه فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)، وعن ابن مسعود: (التمسوا الغنى في النكاح). وقال ابن كثير: "وقد زوّج النبي ذلك الرجل الذي لا يجد عليه إلا إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن، والمعهود من كرم اللّه تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله".
فعلاً معشر المؤمنين، فقد اقتضت حكمته سبحانه أن يعين قاصدَ الخير، وأن يغنيه بفضله عمن سواه. روى الترمذي وحسنه عن أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ الله : ((ثَلاَثَةٌ حَقّ على الله عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله، والمُكَاتَبُ الّذِي يُرِيدُ الأدَاءَ، والنّاكِحُ الّذِي يُرِيدُ العَفَافَ)). فإذا كان المجاهد في سبيل الله موعودًا بعون الله وبسنده لأنه خارج لقتال أعداء الله وتأمين الأمن والحرية والحياة للناس، وإذا كان المكاتب يقصد إلى تحرير نفسه من العبودية، فإن عمل الناكح الذي يقصد العفاف والحصانة لنفسه ولمجتمعه من الفواحش من صميم عملَي المجاهد والمكاتب، وذلك لأن الناكح يعمل على تحرير نفسه من أسر الشهوات، ويسهم في تكثير نسل مجتمعه؛ لذلك كان الناكح موعودًا بعون الله تعالى كالمجاهد في سبيل الله، وكالمكاتب المجتهد في الأداء.
فنسأله سبحانه أن يكون لنا عونًا وسندًا، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، لقد تعدّدت النصوص الدالة على أن الزواج من أعظم الأعمال المنتجة للحسنات، فالعمل لإعالة الأسرة والسعي لتوفير حاجياتها يكفر الله به السيئات، عن أنس مرفوعًا قال: ((مَنْ بَاتَ كَالاً مِنْ طَلَبِ الْحَلاَلِ بَاتَ مَغْفُورًا لَهُ)) صححه السيوطي. بمعنى: من بات متعَبًا من عمله ـ سواء كان هذا العمل يدويًا أو عقليًا ـ بات وقد انقشعت ذنوبه بفضل الله.
وأفضل ما ينفقه المؤمن نفقته على زوجته وأولاده، أخرج الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللّه،ِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينارٌ تَصَدّقْتَ بِهِ عَلَىَ مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَىَ أَهْلِكَ)). فما مِن دِرهم تنفقه على أهلك في طعامهم أو كسوتهم أو تعليمهم إلا تؤجر عليه ويدَّخر لك ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. روى أبو داود عن النبي : ((وَإنّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إلاّ أُجِرْتَ فِيهَا، حَتّى اللّقْمَةَ تَدْفَعُهَا إلَى فِي امْرَأتِكَ)).
والألطف من كل ما ذُكر أن العلاقة الجنسية بين الرجل وزوجته يرتّب عليها سبحانه أجر الصدقة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)).
كما أن الأسرة سبيل التنعم بأجر الذرية وتربيتهم، فإنه لا يخفى أن الأولاد من أعظم مشاريع الخير والحسنات، فما من والد أو والدة يقدم بين يديه من ولده اثنين إلا كانوا له حجابًا من النار، في الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَال: قال رَسُولُ اللّهِ : ((مَا مِنْكُنّ مِنِ امْرَأَةٍ تُقَدّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً إِلاّ كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النّارِ))، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ)). وما تخصيص الخطاب بالنساء إلا لكونهن الحاضرات مع الرسول حال الموعظة، والله أعلم.
ومن أكرمه الله ببنات فأحسن إليهن وأدبهن دخل بسببهن الجنة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من كانت له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وضرائهن أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهن))، فقال رجل: يا رسول الله، واثنتان؟ قال: ((واثنتان))، فقال رجل: أو واحدة؟ فقال: ((وواحدة)) رواه الحاكم وصححه.
وأعظم من كل ما سلف أن الولد الصالح صدقة جارية لا يقف أجرها بموت الوالد، ففي صحيح مسلم قال رَسُول اللَّهِ : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
هذه ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ كلمات قليلة في بيان عناية ديننا بالزواج ودعوته إليه وترغيبه في الإقدام عليه دون تردّد ولا مخاوف، وما رتبه الله عليه من العون والأجر والفضل.
فنسأل الله تعالى أن لا يحرمنا من هذا الخير، وأن يبارك للمتزوجين عملهم، وأن ييسر لشبابنا سبيل العفة والزواج. والحمد لله رب العالمين.
(1/3524)
مؤسسة الزواج
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الزواج استجابة لأمر الله تعالى. 2- الزواج إصابة لسنة النبي. 3- الزواج يجلب عون الله تعالى. 4- الزواج مؤسسة لإنتاج الحسنات.
_________
الخطبة الأولى
_________
ما زلنا ـ معشر الإخوة ـ نتحدث عن صفات عباد الرحمن، فربنا سبحانه وتعالى ينصّ على أن من شأن هؤلاء العباد أن يتضرعوا إلى ربهم قصدَ إصلاح أبنائهم وأزواجهم، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74].
معلوم ـ أيها الأحبة ـ أن هذه الرغبة من طبعها أن تكون مصحوبة بعمل واجتهاد، أما أن يسأل العبد ربه صلاح زوجه وفي الوقت نفسه لا يعمل لتحقيق هذا الصلاح ولا يجتهد في السير على طريق الإصلاح والصلاح فهيهات أن ينال بغيته وأن يدرك قصده.
ترجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ مسالكَها إِن السفينةَ لا تجري على اليَبَس
إنّ عطف الذرية على الأزواج في الآية الكريمة يدلّ على أن المحضِن الوحيد والمؤسّسة الوحيدة لإنتاج الأولاد التي يعترف بها ديننا الحنيف هي مؤسسة الأسرة، فلا يعترف بعلاقة جنسية بين الذكور والإناث إلا في ظل الزواج المشروع، وما عدا ذلك فهو فاحشة وسفاح.
إن الزواج ـ أيها الإخوة ـ من الأعمال الصالحة التي يحرص عليها عباد الرحمن، ويعتبرونها هبة الله التي يكرم بها خلقه ويسعدهم، ويعصمهم بها من الفواحش والزلات. والعجيب أن الله تعالى لم يبح الزواج ويرغب فيه فحسب، وإنما أمر به سبحانه فقال: وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، فكما أمر الله تعالى بالصلاة والصيام والزكاة وفعل الخير ها هو ذا يأمر بالزواج. وإنه سبحانه لا يأمر الفرد وحده، وإنما يأمر المجتمع كله: وَأَنكِحُوا الأيَامَى ، يأمر المجتمع بتزويج الأيامى أي: غير المتزوجين من الذكور والإناث.
نعم معشر المؤمنين، إن الزواج يخص الفرد بشكل مباشر، لكنه أكبر من ذلك، فهو قضية المجتمع برمته.
إن المجتمع المهتم بتزويج أبنائه الحريص على أعراضهم لا شك أنه مجتمع قوي حصين، تختفي فيه الفواحش أو تكاد، مجتمع لا يبقى شغل الناس الشاغل فيه النساء والجنس، أما المجتمع المهمل لهذه القضية المتخاذل في تفعيل سبل الحلال لأبنائه فهو مجتمع آيل إلى الضعف، آيل إلى هلاك الحرث والنسل، مجتمع مصاب في عرضه وخلقه.
و إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وإذا أصيب الناس في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمًا وعويلا
إنّ هذا عين ما أصاب مجتمعنا اليوم، فها هي عجلة الزواج معطلة، وها هو شبح العنوسة يهدّد حياتنا، وها هي الفاحشة ظاهرة في البر والبحر، ها هو الفساد العريض ـ الذي حذر منه النبي في قوله: ((إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه ـ قد ظهر، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فهل من مدَّكر وتائب إلى الله تعالى؟!
كما أن الزواج علاوة على كونه استجابة لأمر الله فإنه إصابة لسنة أبي القاسم.
إن نزعة التشدد والغلو ليست وليدة اليوم، وإنما هي قديمة قدم الإسلام، ومن مظاهر ذلك اعتبار البعض الزواج والاشتغال به مناقضًا للاستقامة على الدين، ومنافيًا لعبادة الله تعالى. روى البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَنَسٍ أَنّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النّبِيّ عِنْ عَمَلِهِ فِي السّرّ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَتَزَوَّجُ النّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنّي أُصَلّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوّجُ النّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي)).
نعم، إن العزوف عن الزواج ميل عن سنة النبي إلى سنة الإباحيين أو إلى بدعة الرهبان، وهذا الميل كلما زاد واحتدّ في مجتمع ما فإن مصيره مفارقة رسول الله والبعد عن ملته، ((فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنّتِي فَلَيْسَ مِنّي)).
إن سنة الرسول في الزواج أشبه ما تكون بسنة المجتمع في التعامل مع منبع نهر، إذا ترك وشأنه جرف البلاد والعباد، وأتى على الأخضر واليابس، وإذا نظم وقُنِّن نفع الحرث والنسل. فغريزة الجنس لم يخلقها الله تعالى لتقهر وتكبَت، ولا ليطلَق لها العنان دون ضابط ولا رادع، وإلا كان الفساد العريض، وإنما قننها الحق سبحانه بالزواج الطيّب، وجعلها سبيلا لارتباط المجتمع واستمرار النسل.
لعل الترغيب في الزواج والدعوة إليه يدفع إلى الحديث عن العقبة الكأداء التي تقف في وجه الراغب فيه، أعني بذلك قلة ذات اليد وغلاء المعيشة والخوف من ضيق الرزق، وهذا ما يفسر حديث الحق عن ذلك بعد أمره سبحانه بالزواج في آية النور، قال تعالى: وَأَنكِحُوا الأيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، ففي الزواج الغنى بفضل الله ومنته.
روي عن أبي بكر أنه قال: (أطيعوا اللّه فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى)، وعن ابن مسعود: (التمسوا الغنى في النكاح). وقال ابن كثير: "وقد زوّج النبي ذلك الرجل الذي لا يجد عليه إلا إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن، والمعهود من كرم اللّه تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله".
فعلاً معشر المؤمنين، فقد اقتضت حكمته سبحانه أن يعين قاصدَ الخير، وأن يغنيه بفضله عمن سواه. روى الترمذي وحسنه عن أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ الله : ((ثَلاَثَةٌ حَقّ على الله عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ في سَبِيلِ الله، والمُكَاتَبُ الّذِي يُرِيدُ الأدَاءَ، والنّاكِحُ الّذِي يُرِيدُ العَفَافَ)). فإذا كان المجاهد في سبيل الله موعودًا بعون الله وبسنده لأنه خارج لقتال أعداء الله وتأمين الأمن والحرية والحياة للناس، وإذا كان المكاتب يقصد إلى تحرير نفسه من العبودية، فإن عمل الناكح الذي يقصد العفاف والحصانة لنفسه ولمجتمعه من الفواحش من صميم عملَي المجاهد والمكاتب، وذلك لأن الناكح يعمل على تحرير نفسه من أسر الشهوات، ويسهم في تكثير نسل مجتمعه؛ لذلك كان الناكح موعودًا بعون الله تعالى كالمجاهد في سبيل الله، وكالمكاتب المجتهد في الأداء.
فنسأله سبحانه أن يكون لنا عونًا وسندًا، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، لقد تعدّدت النصوص الدالة على أن الزواج من أعظم الأعمال المنتجة للحسنات، فالعمل لإعالة الأسرة والسعي لتوفير حاجياتها يكفر الله به السيئات، عن أنس مرفوعًا قال: ((مَنْ بَاتَ كَالاً مِنْ طَلَبِ الْحَلاَلِ بَاتَ مَغْفُورًا لَهُ)) صححه السيوطي. بمعنى: من بات متعَبًا من عمله ـ سواء كان هذا العمل يدويًا أو عقليًا ـ بات وقد انقشعت ذنوبه بفضل الله.
وأفضل ما ينفقه المؤمن نفقته على زوجته وأولاده، أخرج الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللّه،ِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينارٌ تَصَدّقْتَ بِهِ عَلَىَ مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَىَ أَهْلِكَ)). فما مِن دِرهم تنفقه على أهلك في طعامهم أو كسوتهم أو تعليمهم إلا تؤجر عليه ويدَّخر لك ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون. روى أبو داود عن النبي : ((وَإنّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إلاّ أُجِرْتَ فِيهَا، حَتّى اللّقْمَةَ تَدْفَعُهَا إلَى فِي امْرَأتِكَ)).
والألطف من كل ما ذُكر أن العلاقة الجنسية بين الرجل وزوجته يرتّب عليها سبحانه أجر الصدقة، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟! قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)).
كما أن الأسرة سبيل التنعم بأجر الذرية وتربيتهم، فإنه لا يخفى أن الأولاد من أعظم مشاريع الخير والحسنات، فما من والد أو والدة يقدم بين يديه من ولده اثنين إلا كانوا له حجابًا من النار، في الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَال: قال رَسُولُ اللّهِ : ((مَا مِنْكُنّ مِنِ امْرَأَةٍ تُقَدّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً إِلاّ كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النّارِ))، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ)). وما تخصيص الخطاب بالنساء إلا لكونهن الحاضرات مع الرسول حال الموعظة، والله أعلم.
ومن أكرمه الله ببنات فأحسن إليهن وأدبهن دخل بسببهن الجنة، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((من كانت له ثلاث بنات فصبر على لأوائهن وضرائهن أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهن))، فقال رجل: يا رسول الله، واثنتان؟ قال: ((واثنتان))، فقال رجل: أو واحدة؟ فقال: ((وواحدة)) رواه الحاكم وصححه.
وأعظم من كل ما سلف أن الولد الصالح صدقة جارية لا يقف أجرها بموت الوالد، ففي صحيح مسلم قال رَسُول اللَّهِ : ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
هذه ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ كلمات قليلة في بيان عناية ديننا بالزواج ودعوته إليه وترغيبه في الإقدام عليه دون تردّد ولا مخاوف، وما رتبه الله عليه من العون والأجر والفضل.
فنسأل الله تعالى أن لا يحرمنا من هذا الخير، وأن يبارك للمتزوجين عملهم، وأن ييسر لشبابنا سبيل العفة والزواج. والحمد لله رب العالمين.
(1/3525)
واجب الزوج نحو زوجته
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسس مؤسسة الزواج. 2- واجبات الزوج نحو زوجته: المعاشرة بالمعروف، الصبر عليها والحرص على إرضائها، الاعتدال في الغيرة، الاعتدال في النفقة، تلبية رغبة الفطرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها الإخوة الأعزاء، ديننا العظيم ـ ولله الحمد ـ أعطى العلاقة الزوجية قيمة خاصة ومكانة متميزة، واعتبرها العلاقة الوحيدة المشروعة بين الذكر والأنثى، ولم يعترف بغيرها. ونظرًا لخطورة الأسرة وما يتعلق بها من أحكام وتوجيهات تحدث عنها الحق سبحانه وتعالى في كتابه المحفوظ بالتفصيل المطلوب، فكلما كان أمر ما عظيمًا وأثره في حياة الفرد والمجتمع بليغًا تحدّث عنه القرآن الكريم أكثر، ضبط القضايا المتصلة به.
هذا ما حصل تمامًا بالنسبة للأسرة، فبيّن سبحانه وتعالى الأسس التي تقوم عليها الأسرة المسلمة، فقال عز وجل: وَمِن آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّن أنفُسِكُم أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون [الروم:20]. فبعد أن ذكر سبحانه أن المرأة ليست عنصرًا غريبًا عن الرجل، وإنما هي من نفسه وخلقت له، فهي منه وإليه، هي جنس مألوف من قبله؛ ليتحقق السَّكن والأنس، بعد هذا بيّن سبحانه وتعالى الأساسين اللذين يجب أن تقوم عليهما مؤسسة الزواج:
الأول: المَوَدَّة، بمعنى: المحبة الكبيرة والعاطفة الجياشة. فالزوج يحب زوجته وهي تحبه، كل منهما يشعر أن الآخر نعمة أسداها الله إليه ومتعه بها. إذا كان المؤمن محبًا لإخوته في الإيمان فإن حبه لزوجته أقوى، فهي أخته في الدين وعشيرته المقربة.
الثاني: الرحمة، فالأمر ليس موكولاً للعاطفة فحسب، وإنما الرجل رحيم بزوجته مشفق عليها، هذه الرحمة تدعوه إلى الإحسان إليها ومراعاة ضعفها وعدم ضربها أو الاعتداء عليها. وهي بدورها رحيمة به، تسدي إليه الخير، وترحم ضعفه وشيبته ومرضه، وتعامله بالحسنى. إذا كان المؤمن محسنًا للناس بحكم إيمانه وإسلامه فإن إحسان الرجل لزوجته وإحسان الزوجة لزوجها أولى وآكد.
علاوة على ما ذُكِر من أساسَي مؤسسة الزواج، فإن الله تعالى لم يكل الأمر لهذه المحبة وتلك الرحمة التي ربما عصفت بهما تقلّبات قلوب الناس، ففصّل في طبيعة العِشرة التي يجب أن تكون بين الزوجين.
ولنبدأ ـ بحول الله تعالى ـ في تناول جملة من الواجبات على الزوج نحو زوجته، على أمل أن نتحدث عن واجبات الزوجة نحو زوجها في الخطبة المقبلة إن شاء الله تعالى.
وقبل ذلك، اسمحوا لي أن أبدِيَ أسفي واستغرابي بخصوص عدد كبير من أسر المسلمين في واقعنا، والتي لا تعرف عن هذه الواجبات سوى النزر القليل، وتغيب في حياتها التوجيهات الربانية الحاكمة للعلاقات داخل الأسر؛ مما يسبب القلق والاضطراب والانحرافات والكوارث. وما تعجّ به شوارعنا من الشباب التائه، وما تفيض به المحاكم من مشاكل بين الرجال والنساء، ما كل ذلك عنكم ببعيد. إن المسلم قبل أن يقدم على أيّ خطوة ملزَم أن يعرف حكم الله فيها، فكيف يقدم على الزواج وإنجاب الأبناء دون هداية من الله تعالى؟!
الواجب الأول: المعاشرة بالمعروف:
أعظم واجب من واجبات الزوج على زوجته ـ أيها الإخوة ـ هو المعاشرة بالمعروف، يقول الحق سبحانه: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. يخاطب الله تعالى في هذه الآية الرجال، ويأمرهم أن يعاملوا زوجاتهم بالمعروف، أي: بما يحب سبحانه ويرضى، هذا معنى المعروف وليس ما تعارف عليه الناس بإطلاق، فالناس يمكن أن يتعارفوا على ما ينكره الله، أما ترون أن المعروف عند الناس في أحيان كثيرة من عادات وانحرافات ما أنزل الله به من سلطان؟! إن المنكر ولو عمله كل الناس وساد بينهم يبقى منكرًا لا يقبله مؤمن.
فمعاشرة النساء بالمعروف معناها معاشرتهن بما يحبّ الله من الأخلاق الطيبة والمعاملة الحسنة واللين وعدم الغلظة وكلِّ ما هو خير، ففي البخاري ومسلم والترمذي قوله : ((وَاسْتَوْصُوا بالنّسَاءِ خَيْرًا)).
ومن المعروف المعاملة باللطف واللين، فقد روى الترمذي أن الرسول قال: ((أكمَلُ المُؤْمِنِينَ إِيمانًَا أحْسَنُهُمْ خُلُقًا وألْطَفُهُمْ لأهْلِهِ)). وكان سيد الخلق ألطف الناس بأهله، دائم البشر معهم والمداعبة لهم، عن عَائِشَةَ قَالَتْ: قالَ رسُولُ اللّهِ : ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأهلِي)) رواه الترمذي وصححه.
إن اللطف بالنساء واللين معهن لا يعني الانسياق مع أهوائهن وملذاتهن وشهواتهن كما هو شأن الكثير من الرجال في زماننا هذا، فتجد الرجل مثلاً يُحضر في عرس ابنه أو ابنته المجرمين إلى بيته، فإذا عاتبته وقلت له: يا حاجّ، أما تعلم أن هذه الأجواق تغضِب الرب، وتجلب اللعنات إلى البيت؟! قال لك: وما نفعل للنساء؟ إنها رغبتهن. وإنما قلنا: اللطف بهن في المعروف، أما غير ذلك فهو الهلاك بعينه. فقد أخرج الحاكم عن أبي بكرة عن النبي : ((هَلَكَتِ الرِّجَالُ حِينَ أَطَاعَتِ النِّسَاء)). والمقصود طبعًا الطاعة فيما يغضب الله. وروي عن الحسن أنه قال: (والله، ما أصبح رجل يطيع امرأته فيما تهوى إلا كبه الله في النار). أما طاعتهن في الرشد فليس ذلك بعيب، وإنما هو من الرشد، فقد استشار النبي أمهات المؤمنين وعمل بمشورتهن لسدادها. أما الحديث الذي يروى: ((شَاوِرُوهُنَّ وَخَالِفُوهُنَّ)) فباطل لا أصل له، ولله الحمد.
الواجب الثاني: الصبر عليها والحرص على إرضائها:
يقول رب العزة: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19]. ما أعظم هذه الآية! لم يقل سبحانه: فإن كرهتموهن فغيرهنّ كثير، أو فأعرضوا عنهن، أو فاعبسوا في وجوههن، فتجد الرجل مع أصدقائه مستبشرًا نشيطًا، فإذا دخل على زوجته رأيته عبوسًا غضوبًا، وإنما قال سبحانه: فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا. اصبر عليها، فإنك لا تدري ما أعده الله من الخير فيها.
إن العاقل ـ معشر الإخوة ـ لا يركّز نظره على مواطن النقص والضعف في زوجته فحسب، وإنما ينظر أكثر إلى مواطن الخير فيها، فكم من الناس ـ للأسف ـ لا يرون سوى النقائص، وتعمى أعينهم عن غيرها من الخير، ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ)). وصدق الشاعر القائل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
الواجب الثالث: الاعتدال في الغيرة:
إن الواجب على المؤمن أن يعمل جاهدًا لوقاية نفسه وأهله نار جهنم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ أي: احفظوا أنفسكم, امنعوا أنفسكم, حُولوا بين أنفسكم وبين عذاب الله, احموا أنفسكم وأهليكم من غضب الله، قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم:6]. لذلك كان من الواجب على المؤمن أن يغار على زوجته، وأن يرفض رفضًا قاطعًا خروجها متبرجة، وكشفها لشعرها أو لساقيها أو لساعديها أمام الرجال، واختلاطها بمن هبّ ودبّ، دون أدب ولا خلق. وإذا لم يفعل كان ديوثًا، وكان من الثلاثة الذين لا يدخلون الجنة، ففي الحديث الذي يرويه الإمام الحاكم ويصححه عن عمار بن ياسر أن رسول الله قال: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة: الدَّيُوث، ورَجُلَة النساء، ومدمن الخمر)) ، وقد سئل عن الديوث فقال: ((الذي يرضى الخبث في أهله)) ، لكن ذلك لا يعني أن يتطرّف المؤمن في غيرته، بل يكفيه أن يتجنب ما يزخر به المجتمع من نوعي الغيرة المذمومة:
النوع الأول: ضعاف الغيرة أو منعدموها، يرون العري والمسخ والفساد في أهلهم وبناتهم وأخواتهم ولا يحركون ساكنًا، وقد سبق الحديث عنهم.
النوع الثاني: وهم أصحاب الغيرة الزائدة، الممزوجة بالشك والظن السيئ، مما يدفع بأصحابها إلى حرمان أهلهم من العلم ومن المسجد، وإلزامهن بما لم يلزمهن به الله من القيود، في حين يقول رب العزة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم [الحجرات:12]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسولَ اللّه قال: ((إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فإنَّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحديث)).
فغيرة هؤلاء مذمومة يبغضها الله ورسوله، روى أبو داود والنسائي وابن حبان عن جابر بن عتيك: ((إن من الغيرة غيرة يبغضها الله تعالى، وهي غيرة الرجل على أهله من غير ريبة)).
الواجب الرابع: الاعتدال في النفقة:
من المعروف الذي أمر الله به إنفاق الزوج على زوجته حسب وسعه، وأن لا يبخل عليها وعلى ولده، قال تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاّ مَا آتَاهَا [الطلاق:7]، وقال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع فيما أخرجه الترمذي وصححه: ((أَلاَ إنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُم حَقًّا، ولِنسَائِكمْ عَلَيْكُمْ حَقًا، فَأَمّا حَقكمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلاَ يُوطِئنَ فُرُشكُمْ مَنْ تَكْرَهُون، ولاَ يَأْذَنّ في بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ. ألاَ وحَقهُنّ عَلَيْكُمْ أنْ تُحسِنُوا إِلَيْهِنّ فِي كِسْوَتِهِنّ وطَعَامِهِن)).
ويبين النبي أن الإنفاق على الزوجة وعلى الأبناء خير النفقة، ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ : ((دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينارٌ تَصَدّقْتَ بِهِ عَلَىَ مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَىَ أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَىَ أَهْلِكَ)).
فواجبُ الرّجولة والقوامة والزّوجية أن ينفقَ المسلم على زوجته بالشكل الذي يناسب مستواه الاجتماعي، ويناسب دخله الفردي، دون أن يُكلَّف ما لا يطيق، فكم من النساء ورّطن أزواجهن في مصائب لا تعدّ ولا تحصى، بسبب مطالبهن الجائرة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الواجب الخامس: إعفافها:
إن العلاقة بين الرجل والمرأة ليست علاقة مادية، إنما هي علاقة عاطفية قبل ذلك ومعه وبعده، هي علاقة محبة وتقارب، فلذلك ليس كافيًا أن تنفق عليها، وأن توفر لها المطعم والملبس والمسكن فحسب، وإنما هناك واجب عظيم لها على زوجها، إنه واجب الإشباع الجنسي. حين يرتبك هذا الحق يظهر الفساد في المجتمع وترتبك الأحوال.
ومن ألطف ما روي بهذا الخصوص ما حصل لسلمان الفارسي رضي الله عنه مع أبي الدرداء رضي الله عنه: ففي الحديث الصحيح في البخاري والترمذي عن أَبي جُحَيْفَةَ قالَ: آخى رَسُولُ الله بَيْنَ سَلْمَانَ وَأبي الدّرْدَاءِ، فَزَارَ سَلْمَانُ أَبَا الدّرْدَاءِ، فَرَأَى أُمّ الدّرْدَاءِ مُتَبَذّلَةً، فقَالَ: مَا شَأْنُكِ مُتَبَذّلَةً؟ قَالَتْ: إِنّ أَخَاكَ أَبَا الدّرْدَاءِ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ فِي الدّنْيَا. قالَ: فَلَمّا جَاءَ أَبُو الدّرْدَاءِ قَرّبَ إليه طَعَامًا فَقَالَ: كُلْ فَإِنّي صَائِمٌ، قالَ: مَا أَنَا بآكلٍ حَتّى تَأْكُلَ، قالَ: فَأَكَلَ. فَلَمّا كَانَ الّليْلُ ذَهَبَ أَبُو الدّرْدَاءِ لِيَقُومَ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: نَمْ، فَنَامَ. ثُمّ ذَهَبَ لِيَقُومَ فقال لَهُ: نَمْ، فَنَامَ. فَلَمّا كَانَ عِنْدَ الصّبْحِ قَالَ لَهُ سَلْمَانُ: قُمْ الآن. فَقَامَا فَصَلّيَا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقًا، وإن لنفسك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه. فَأَتَيَا النبيّ فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: ((صَدَقَ سَلْمَانُ)).
والحمد لله رب العالمين.
(1/3526)
واجب الزوجة نحو زوجها
الأسرة والمجتمع, فقه
النكاح, قضايا الأسرة
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فضيلة رضا الزوج عن زوجته. 2- واجبات الزوجة نحو زوجها: طاعة زوجها في المعروف، حسن الخلق مع الزوج، حفظ الزوج في ماله، الخدمة في البيت.
_________
الخطبة الأولى
_________
بعد أن تحدثنا عن واجبات الزوج نحو زوجته، فحديثنا اليوم إن شاء الله تعالى عن واجبات الزوجة نحو زوجها.
فإذا كان هذا الدين العظيم يعتبِر أفضل الرجال وأحسنهم الذي يحسن إلى زوجته ويعاشرها بالمعروف، مصداقًا لقوله : ((خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ، وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأهلِ)) أخرجه الترمذي وصححه؛ فإنه يعتبر كذلك أفضل النساء وأعظمهن وأشرفهن وأعلاهن منزلة في الدنيا وأسماهن درجة في الجنة اللواتي يحسن إلى أزواجهن.
إن الفاضلات من النساء ـ أيها الإخوة ـ هن اللواتي يخرجن من هذه الدنيا بكنز ثمين وعمل عظيم. ما هو هذا العمل؟ إنه رضا أزواجهن.
أخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي عن أم سلمة قالت: قال رسول الله : ((أَيّمَا امْرَأَةٍ ماتَتْ وَزَوْجُهَا عَنْهَا رَاضٍ دَخَلَتِ الْجَنّة)). تأمّلوا ـ إخواني ـ كيف يجعل هذا الحديث العظيم الجنة ـ وهي أسمى ما يتمنّاه الإنسان ـ ثمرة ونتيجة وجزاء لرضا الزوج على زوجته.
عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ مِحْصَنٍ أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتِ النَّبِيَّ فِي حَاجَةٍ فَفَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ : ((أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْت؟ِ)) قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: ((كَيْفَ أَنْتِ لَه؟)) لاحظوا معشر الإخوة، إن هذا الدين العظيم لم يترك مجالاً إلا وتكلم فيه، حتى هذه القضايا الشخصية، قَالَتْ: مَا آلُوهُ إِلا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ، أي: أبذل جهدي في إرضائه وخدمته إلا ما لا أستطيعه، قَالَ: ((فَانْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ، فَإِنَّمَا هُوَ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ)) رواه أحمد ورجاله ثقات. بمعنى: إن أنت أحسنت إليه وصدقت معه وأرضيتيه وأكرمتيه فجزاؤك الجنة. وإن أنت أسأت معاملته وأهنتيه وخنتيه وكذبت عليه وضيعت ماله فجزاؤك النار. نسأل الله السلامة والعافية.
بعد هذا التقديم المجمل تعالوا بنا ـ معشر الإخوة ـ إلى بيان بعض واجبات الزوجة نحو زوجها مما تدعو الحاجة إلى بيانه في حياتنا:
أولا: طاعة زوجها في المعروف:
فأول واجب عليها أن تطيع زوجها في المعروف، في حدود طاعة الله تعالى، فقد رغب ديننا العظيم في طاعة المرأة زوجها، ورتب على ذلك الأجر العظيم.
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْت)) رواه أحمد وابن حبان. الله أكبر، اسمعوا ـ أيها الإخوة ـ صفات المرأة الصالحة المستحِقَّة للجنة: إذا صلت صلواتها الخمس، وصامت شهر رمضان، وحفظت فرجها، حافظت على شرفها وعرضها، ليست بنت الشارع، وإنما هي عفيفة مُحتشِمة محترَمة، وأطاعت زوجها، فهي طيِّعة له في مدخلها ومخرجها وعلاقاتها، لا أن تقول له: لا دخل لك في أمري. إذا فعلت هذا كانت أبواب الجنة الثمانية مفتوحة في وجهها تدخل من أيها شاءت.
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ((مَا اسْتَفَادَ الْمُؤْمِنُ بَعْدَ تَقْوَى اللَّهِ خَيْرًا لَهُ مِنْ زَوْجَةٍ صَالِحَةٍ، إِنْ أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِنْ نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ، وَإِنْ أَقْسَمَ عَلَيْهَا أَبَرَّتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا نَصَحَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ)) رواه ابن ماجه وحسّنه السيوطي، وقال العجلوني: "رواه ابن ماجه والطبراني عن أبي أمامة بسند ضعيف، لكن له شواهد تدل على أن له أصلاً".
فالزوجة الصالحة أعظم نعمة يُكرَم بها المؤمن بعد الإيمان والتقوى. زوجة إن أمرها أطاعته، ليست معْوجّة ولا ناشزة، وإن نظر إليها سُرَّ بمنظرها وصلاحها وعبادتها، وإن أقسم عليها أن تفعل شيئًا أو أن تترك شيئًا سعت في إبرار قسمه، وإن غاب عنها منشغلاً في عمله أو مسافرًا لطلب الرزق وفعل الخير لا يخرج من باب وتخرج هي من باب، وإنما تحفظه في نفسها، فلا تخونه في عرضه، وتحفظه في ماله فلا تعرضه للتلف.
ومن أهم المجالات التي تطيع فيها المرأة الصالحة زوجها طاعتها له في فراشها وعدم هجره، ففي صحيحي البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ : ((إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ)).
مرارًا ترد عليَّ شكاوى إخوةٍ من هَجْرِ أزواجهم لهم، وإذا عاتب أحدهم زوجته قالت: الآن لم نعد صغارًا، لقد كبرنا وكبر أبناؤنا، وما عاد من الحياء أن ننام في فراش واحد كما كنا نفعل من قبل!
لا يخفى على الإخوة الأعزاء أن هذا السلوك من أهم ما يُنمّي المشاكل والصراعات والعداوة، وذلك لأن هجر الفراش من قبل الزوج أو الزوجة عمل خطير، يوسّع هُوّة الخلاف، ويزرع البغضاء في القلوب، ويُفسح المجال لخطوات الشيطان؛ لهذا وغيره نهى الله تعالى كُلاً من الزوجين عن هجر فراش الزوجية. ففي حالة تأديب الزوجة الناشز يخاطب الحق سبحانه زوجها قائلا: وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِع [النساء:34]، ولم يقل سبحانه وتعالى: واهجروا مضاجعهن. فحين تغضب عليها وتعمل على تأديبها لا تخرج من الفراش، وإنما ولِّها ظهرك في الفراش. هذا هو الهجر في المضجع، وليس ترك الفراش وهجر البيت. أما هي فمحرَّم عليها أن تبيت مهاجرة فراش زوجها، وإذا فعلت باتت اللعنات تحفّ بها حتى ترجع وتتوب.
معلوم ـ معشر المؤمنين ـ أن لا طاعة إلا فيما يحب الله تعالى، فالرجل إذا أمر زوجته أن تترك صلاتها لا تطيعه، ولو أدّى ذلك إلى ما لا تحمد عقباه. الرجل الديوث إذا طلب من زوجته أن لا تستتر وأن تنزع خمارها أمام الأجانب لا تطيعه ولو كانت العاقبة الطلاق والفراق، ففي صحيحي البخاري ومسلم عن عائشة أن امرأة من الأنصار زوجت ابنتها، فتَمَعَّط ـ أي: تساقط ـ شعر رأسها، فجاءت إلى النبي فذكرت ذلك له، فقالت: إن زوجها أمرني أن أصل في شعرها، فقال: ((لا، إنه قد لُعِن المُوصلات)). فرغم أن زوج البنت هو الذي أمر بوصل شعرها فالنبي لم يقل لها: أطيعي زوجك، وذلك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه.
ثانيا: حسن الخلق مع الزوج:
الواجب الثاني على الزوجة نحو زوجها أن تكون حسنة الخلق معه، وعلى رأس ذلك حسن المنطق، حسن الكلام معه. المؤمن ليس لعّانًا ولا طعّانًا ولا فاحشًا، إذا كان هذا حاله مع الخلق كلهم فإنه من المرأة نحو زوجها آكد. فما أحسن الكلام الطيب داخل الأسرة، الكلام الذي ينم عن احترام المرأة لزوجها والتقدير له، الكلام الذي يفيض بالحرص على مؤسسة الزواج. إنه الكلام الذي يُنتج الوئام والمحبة والتلاحم، ويسد الباب في وجه نزغات الشيطان، وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [الإسراء:53]. فالشيطان يستغل كل فرصة تسنح، كل كلمة عوجاء تصدر؛ ليوقع العداوة ويغرس الشقاق.
وقد مدح النبي المرأة الودود، وحث المؤمن على الاقتران بها، فقال : ((تَزَوّجُوا الودود الْوَلُودَ؛ فإِنّي مُكَاثِرٌ بِكُم الأمم)) رواه أبو داود والنسائي. فالودود التي تتحبب إلى زوجها وتسعى جاهدة لتنال رضاه ومودته.
كما حذر النبي النساء من الكلام البذيء واللعن والجحود، واعتبر ذلك من الأسباب الموجبة لعذاب الله، ففي البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ أَنّهُ قَالَ : ((يَا مَعْشَرَ النّسَاءِ، تَصَدّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاستغْفَارَ؛ فَإِنّي رَأَيْتُكُنّ أَكْثَرَ أَهْلِ النّارِ)) ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنّ جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا ـ يَا رَسُولَ اللّهِ ـ أَكْثَرَ أَهْلِ النّارِ؟! قَالَ: ((تُكْثِرْنَ اللّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ...)).
ومن حسن الخلق الصدق مع زوجها، فالأصل في الكذب أنه من أكبر المحرمات، فتكون صادقة معه في خروجها وصِلاَتِها ونفقتها وتربيتها لأبنائها، أما الكذب الذي رخص فيه النبي فهو في العلاقة العاطفية الخاصة، وليس على إطلاقه، كأن يصرح بعضهما لبعض بالمحبة وإن كان العكس هو الواقع، عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ قَالَتْ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُرَخِّصُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْكَذِبِ إِلاَّ فِي ثَلاثٍ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَقُولُ: ((لا أَعُدُّهُ كَاذِبًا: الرَّجُلُ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، يَقُولُ الْقَوْلَ وَلا يُرِيدُ بِهِ إِلاَّ الإِصْلاحَ، وَالرَّجُلُ يَقُولُ فِي الْحَرْبِ، وَالرَّجُلُ يُحَدِّثُ امْرَأَتَهُ، وَالْمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زَوْجَهَا)) رواه أبو داود وأحمد بسند صحيح.
ثالثا: حفظ الزوج في ماله:
فهي لا تعرض ماله للتلف ولو في وجوه الخير إلا بإذنه، وإنما هي حريصة على حفظه. عن ابن عمر أن النبي قال: ((لا يحل لها أن تُطعِم من بيته إلا بإذنه إلا الرطب من الطعام الذي يُخاف فساده، فإن أطعمت عن رضاه كان لها مثل أجره، وإن أطعمت بغير إذنه كان له الأجر وعليها الوزر)) أخرجه أبو داود الطيالسي والبيهقي.
وحتى في حالة تفريط الزوج وتضييقه في النفقة، فلا يحل لها أخذ ماله إلا بقدر ما يكفيها وأبناءَها. ففي البخاري ومسلم عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه،ِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أُطْعِمَ مِن الَّذِي لَهُ عِيَالَنَا؟ قَال لَهَا: ((لا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوف)).
فالمرأة المسلمة قنوعة حريصة على الحلال مهما كان قليلاً، لا تعرض زوجها للمهالك بمطالبته بما لا يطيق، وإنما لسان حالها ما كانت تردده المرأة المسلمة الصالحة الأولى على أسماع زوجها وهو خارج للعمل: "إياك والحرام، فإننا نصبر على الجوع، ولا صبر لنا على نار جهنم".
فكم من زوج كانت رغبات زوجته الطائشة سببًا في ارتكابه المحرمات والبحث عن المال من أي وجه كان، وكم من زوج كانت عاقبته السجن بسبب زوجته التي لا تكف عن المطالب.
_________
الخطبة الثانية
_________
رابعا: الخدمة في البيت:
لا يخفى أن العمل المنزلي من أهم الأعمال وأعظمها نفعًا للمجتمع ودعمًا لاستقرار الأسرة، ولا يمكن أن يقوم به على أحسن وجه وأكمله سوى الأم، فهي وحدها الكفيلة بتوفير الغذاء والنظافة والتنظيم والأمن والاستقرار والطمأنينة. نعم، قد توفر الخادمة الطعام، ولكنها لا تستطيع توفير الراحة والاستقرار، ولا أن تظلل البيت بظلال الحنان والطمأنينة.
إن من البلاهة أن نعتبر الأم في بيتها عاطلة عن العمل، في حين أن الكفرة يخصونها بمنح وعطايا، ويعتبرون عملها في بيتها وتربيتها لأبنائها من أعظم الأعمال التنموية.
وقد ثبت أن الصحابيات رضي الله عنهن على سمو قدرهن كن يقمن بالخدمة داخل البيت:
فأسماء بنت أبي بكر كانت خادمة لبيتها ومعتنية بفرس زوجها الزبير، ففي البخاري ومسلم عَنْ أَسمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: تَزَوّجَنِي الزّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ وَلاَ شَيْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَكْفِيهِ مَؤُونَتَهُ، وَأَسُوسُهُ، وَأَدُقّ النّوَىَ لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وَكُنّ نِسْوَةَ صِدْقٍ. قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النّوَىَ مِنْ أَرْضِ الزّبَيْرِ الّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللّهِ عَلَىَ رَأْسِي، وَهِيَ عَلَىَ ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ.
وكانت فاطمة رضي الله عنها تخدم بيتها حتى خشنت يداها وتأثرتا، فطلبت من النبي خادمًا يكفيها هذا، فما أجابها إلى ذلك، وإنما وجهها إلى الاستعانة بالله تعالى والاجتهاد في القيام بأعمالها. عن عَلِي أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنهما أَتَتِ النَّبِيَّ تَشْكُو إِلَيْهِ مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنَ الرَّحَى، وَبَلَغَهَا أَنَّهُ جَاءَهُ رَقِيقٌ، فَلَمْ تُصَادِفْهُ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ. قَالَ: فَجَاءَنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ: ((عَلَى مَكَانِكُمَا)) ، فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنِي وَبَيْنَهَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى بَطْنِي، فَقَالَ: ((أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَاحْمَدَا ثَلاثًا وَثَلاثِينَ وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ)) رواه البخاري ومسلم.
فاللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه. والحمد لله رب العالمين.
(1/3527)
أسرة من المدينة المنورة
الأسرة والمجتمع, سيرة وتاريخ, قضايا في الاعتقاد
الصحابة, القصص, قضايا الأسرة
عبد الرحمن بن محمد بوكيلي
مكناس
بدر
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجة الأسرة إلى معرفة النماذج الأسرية الصالحة في السابقين. 2- الحديث عن شخصيات هذه الأسرة: أم سُلَيم الرُّمَيْصَاء، أبو طلحة زيد بن سهل النجاري، أنس بن مالك، البراء بن مالك. 3- مبادئ هذه الأسرة: الإسلام، العلم بالإسلام، حسن الوفاء وحسن التبعّل، الخدمة الاجتماعية، الجهاد في سبيل الله والعمل لنشر كلمة الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: تعالوا بنا ـ أيها الإخوة الأعزاء ـ بعدما تحدثنا عن واجبات كل زوج نحو زوجه داخل الأسرة المسلمة, تعالوا بنا اليوم نعيش لحظات سريعة مع أسرة مرضية طيبة, مع أسرة يحبها الله وتحبه, مع أسرة يحبها رسول الله وتحبه, مع أسرة من المدينة المنورة على عهد رسول الله ؛ لأنني أعلم ـ معشر الإخوة الكرام ـ أن حاجتنا لمعرفة بعض النماذج والوقوف على المنهج الذي عاشوا عليه والمبادئ التي تربوا عليها, حاجتنا إلى هذا النموذج حاجة ماسة.
نعم أيها الإخوة الكرام، واقعنا اليوم يزخر بعدد من الأسر والعائلات الطيبة، رغم ذلك فإن الأسر كي تعرف دينها أكثر لا بد من معرفة النماذج الطيبة والأمثلة الرائعة من سيرة سلفنا الصالح، خصوصًا في واقعنا الزاخر بنماذج أسر سيئة، فالعديد من العائلات ـ للأسف الشديد ـ تعيش الجحيم والشقاء، وتعيش الضنك والأزمات تلو الأزمات.
كنت أقرأ لقارئ مؤمن طيب يقرأ القرآن الكريم في بيته, وكانت له زوجة تَعِسة شقية معذَّبة ومعذِّبة, فلما وصل إلى قوله تعالى: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف:70] وضع المصحف الشريف وقال: اللهم يا رب لا تفعل, يا ربّ لا تفعل. الآية الكريمة تبشّر المؤمنين فتقول لهم: إن الله سبحانه وتعالى سيجمعكم أنتم وأزواجكم في الجنة، لما قرأ هذا الرجل صاحب الزوجة التعسة هذه الآية فزع وقال: سيجمع الله بيني وبينها يوم القيامة مرة أخرى، فقال: اللهم لا تفعل، فقالت له: لماذا تدعو بهذا؟! لماذا تطلب أن لا يجمع الله بيني وبينك في الآخرة؟! قال لها: أنا في الدنيا أعيش معك الجحيم، ورغم ذلك فإني صابر، فكيف أصبر على عذابك مرة أخرى يوم القيامة؟! فقالت: بالله عليك لا تسأل ربك هذا، فإني تائبة إلى الله راجعة إليه.
ومن هذه الحكاية اللطيفة التي نفتتح بها هذه الخطبة يتضح أثر القرآن الكريم في إصلاح أحوالنا وأحوال الناس جميعًا متى تَلَوْه وعملوا به وتمسكوا به.
الأسرة التي سأتحدث عنها ـ إخواني ـ هي أسرة أم سُلَيم رضي الله عنها، هذه المرأة الصالحة، هذه الصحابية الجليلة أم سُلَيم المكناة بالرُّمَيْصَاء، قال عنها النبي : ((رَأَيْتُنِي دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِالرُّمَيْصَاءِ امْرَأَةِ أَبِي طَلْحَةَ)) أخرجه البخاري ومسلم. ورؤَى الأنبياء وحي وحقّ، ألم تقرؤوا قول رب العزة عن إبراهيم إذ قال لابنه: يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى [الصافات:102]؟! فهي امرأة لا كالنساء، وصحابية جليلة من خيرة الصحابة, هي مبشرة بالجنة، ولعل هذه البشارة بالجنة تثير الانتباه وتجعلنا نتساءل: كيف وصلت هذه المرأة إلى هذه المرتبة؟
لما أسلمت جاءت إلى مالك زوجها، وكان رجلا مخمرًا, كان لا يفارق الخمر، كانت هذه المصيبة متجذّرة فيه لا يستطيع مفارقتها بتاتًا ولو ضحّى بكل شيء في سبيلها كشأن المخمرين. فقالت: جئت اليوم بما تكره، فقال: لا تزالين تجيئين بما أكره من عند هذا الأعرابي، قالت: كان أعرابيًا اصطفاه الله واختاره وجعله نبيًا، قال: ما الذي جئت به؟ قالت: حُرِّمت الخمر، قال: هذا فراق بيني وبينك، فمات مشركًا، وتركها وأبناءها. رواه البزار بسند رجاله ثقات.
ولعل هذا ـ إخوتي الأعزاء ـ أول امتحان تعرضت له هذه المرأة الصالحة المؤمنة، ولا يخفى أنه امتحان عسير، فإنه ليس من السهل أن تعرض أسرتك بين عشية وضحاها لزلزال عظيم مثل هذا بدافع الإسلام، وفي سبيل الإسلام.
فجاءها أبو طلحة الأنصاري ـ وهو المكوِّن الثاني للأسرة المؤمنة المرضية ـ يخطبها، وقد ترك لها مالك وَلَدين: أنس بن مالك والبراء بن مالك رضي الله عنهما، وسيأتي الحديث عنهما إن شاء الله. فقالت أم سُلَيم رضي الله عنها: يا أبا طلحة، أنت لست ممن يُردّ، ولكنك مشرك نجس، وأنت محرّم عليَّ ما دمت مشركًا، قالت: فإني أشهدك وأشهد نبي الله أنك إن أسلمت فقد رضيت بالإسلام منك، قال: فمن لي بهذا؟ قالت: يا أنس، قم فانطلق مع عمك، قال: فقام فوضع يده على عاتقي، فانطلقنا حتى إذا كنا قريبًا من نبي الله فسمع كلامنا فقال: ((هذا أبو طلحة بين عينيه عزة الإسلام)) ، فسلم على نبي الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فزوّجه رسول الله على الإسلام. رواه البزار.
فكان هذا الصداق أعظم صداق في المدينة المنورة: الإسلام، الدين العظيم.
فتحسّن إسلام الرجل، فصار رضي الله عنه مضرب المثل في النفقة والاستجابة لأمر الله تعالى. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالاً مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِد،ِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92] قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ، وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا ـ يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((بَخٍ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِح،ٌ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ)) ، فَقَالَ: أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
كما أصبح هذا الرجل العظيم من كبار الصحابة المجاهدين، فشهد المشاهد كلها مع رسول الله ، وكان له يوم أحد موقف مشهود، إذ ثبت مع القلة مع الرسول وقال عنه : ((لَصَوْتُ أَبِي طَلْحَةَ فِي الْجَيْشِ خَيْرٌ مِنْ فِئَة)) رواه أحمد.
ويوم حنين حين ضاقت على المسلمين الأرض بما رحبت كان أبو طلحة كعادته من أبرز أبطالها الصامدين. عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ قالَ: قالَ رَسُولُ الله يَوْمَئِذٍ يَعْنِي يَوْمَ حُنَيْنٍ: ((مَنْ قَتَلَ كَافِرًا فَلَهُ سَلَبُهُ)) ، فَقَتَلَ أبُو طَلْحَةَ يَوْمَئِذٍ عِشْرِينَ رَجُلاً وَأخَذَ أسْلاَبَهُمْ. أخرجه أبُو دَاوُدَ وقال: "هَذَا حديثٌ حَسَنٌ".
وتابع مسيرته الجهادية في كبره حتى لقي الله تعالى في سبيل الجهاد. عن أنس أن أبا طلحة قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية: انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً [التوبة:41] فقال: ألا أرى ربي يستنفرني شابًا وشيخًا؟ جهزوني. فقال له بنوه: قد غزوت مع رسول الله حتى قبض، وغزوت مع أبي بكر حتى مات، وغزوت مع عمر، فنحن نغزو عنك. فقال: جهزوني. فركب البحر فمات. فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فلم يتغير. قال الهيثمي: "رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح".
فلقي الله تعالى بعد عمرٍ حافل بخدمة الإسلام والاجتهاد في طاعة الله، وذلك سنة أربع وثلاثين للهجرة، وهو ابن سبعين سنة رضي الله عنه.
العنصر الثالث من هذه الأسرة ـ معشر الإخوة ـ هو أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عشر سنوات، حرصت أمه أن يكون رفيقَ سيد الخلق ؛ ليلتصق بنبع الخير والهداية، فجاءت به إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له، فقال: ((اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته)) ، قال أنس: فلقد دفنت من صلبي سوى ولد ولدي خمسًا وعشرين ومائة، وإن أرضي ليثمر في السنة مرتين، وما في البلد شيء يثمر مرتين غيرها. رواه الطبراني.
وكان رضي الله عنه من أكثر الناس رواية عن الرسول.
أما الشخصية الرابعة فهو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك، هذا الرجل العظيم المجاهد، قال عنه الرسول : ((كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ)) أخرجه الترمذي وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْه".
إن الإنسان ـ معشر الأحبة ـ لا يقاس بطوله ولا بعرضه ولا بماله ولا بجاهه ولا بسلطانه، وإنما يقاس بعمله وإيمانه. وعاش هذا الصحابي الجليل مجاهدًا مقدمًا متفانيًا بماله ونفسه ودمه في عهد الرسول ، وفي عهد أبي بكر رضي الله عنه، وفي جهاد الفُرس استعصت معركة على المسلمين والمجاهدين فجاؤوا إلى سيدنا البراء فقالوا: إن الأمر اشتد علينا، فادع الله أن ينصرنا؛ لأن المسلمين الأوائل ـ أيها الإخوة ـ كانوا يعرفون جيدًا أن الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء وينصر من يشاء هو الله، فلا أمريكا ولا الأمم المتحدة: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم [آل عمران:126]. فرفع البراء في زحمة المعركة وشدتها يديه فقال : "اللهم انصرنا، وارزقنا أكتافهم، وارزقني الشهادة في سبيلك"، فلما انتصر المجاهدون وأظهر الله تعالى الحق بحثوا عن البراء فإذا هو شهيد بين الشهداء.
فهذه ـ أيها الإخوة الأعزاء ـ عناصر هذه الأسرة العظيمة الفريدة، فما هي المبادئ التي كانت تعيش عليها ولأجلها مما جعلها تنال ما نالت من الفضل وجعلت منها منارة للهداية؟
أول هذه المبادئ وأعظمها هو الإسلام وأولويته، فقد أسست على كلمة الله ووفق تقواه، فعلى أساس الإسلام بُنيت الأسرة، وعلى أساسه عاشت، وعلى أساسه يجب أن تحيا كل أسرة تنشد الرشد، فبسببه فارقت أم سُلَيم زوجها الأول مالكًا، وعلمنا أن أبا طلحة لما جاءها خاطبًا لم تطلب منه مالاً ولا جاهًا ولا سلطانًا، وإنما طلبت منه أن يكون مسلمًا وكفى.
إن الإنسان ـ أيها الإخوة ـ بلا دين مصيبة وكارثة. إذا جاءك إنسان لا دين له وزوجته ابنتك فقد قطعت رحمها، فقد أهلكتها. أمير المؤمنين علي رضي الله عنه جاءه أحد الناس فقال: إن الناس يخطبون مني ابنتي فلمن أزوجها؟ فقال رضي الله عنه: "يا أخي، زوجها لتقيّ، إن أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يظلمها".
ثم إن هذه الأسرة ـ وعلى رأسها أم سُلَيم ـ كانت أحرص ما تكون على تعلّم دينها، فصحّ عند البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ النَّبِيُّ : ((إِذَا رَأَتِ الْمَاءَ)) ، فَغَطَّتْ أُمُّ سَلَمَةَ، تَعْنِي: وَجْهَهَا. وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟! قَالَ: ((نَعَمْ تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا)). فلقيها نسوة فقلن لها: يا أم سُلَيم، فضحتنا عند رسول الله ! قالت: ما كنت أنتهي حتى أعلم أفي حلال أنا أم في حرام.
هذا مبدأ ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ ينبغي للحياة كلها أن تتأسّس عليه، ليس هناك من عمل سرّي أو خاص بفئة دون أخرى، فالرسول بعثه الله للرجال والنساء، فما من خطوة يخطوها المسلم إلا وهو ملزم أن يعلم أفي حلال هو أو في حرام.
ومن حرص أم سُلَيم على العلم ما روي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَتْ أُمّ سُلَيم إلَى النّبِيّ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ، عَلّمْنِي كَلِمَاتٍ أَدْعُو بِهِنّ فِي صَلاَتِي، قَالَ: ((سَبّحِي اللّهَ عَشْرًا، وَاحْمَدِيهِ عَشَرًا، وَكَبّرِيهِ عَشْرًا، ثُمّ سَلِيهِ حَاجَتَكِ، يَقُلْ: نَعَمْ، نَعَمْ)). يعني: إذا سبحت عشرًا، وكبرت عشرًا، وحمدت عشرًا، وطلبت الله تعالى، يقول لك الله: لبيك يا أمَتي، ويستجيب لك.
بل الأعظم من ذلك أن النبي لما عرف حرص هذه الأسرة على العلم والتعلم كان يخصها بزيارات، فكان كما ورد في أحاديث صحيحة يقيل عندها مرارًا، ويصلي بهم في بيتها، لماذا أيها الإخوة؟ ليتعلموا منه مباشرة، وليتبرّكوا به مباشرة. وبالفعل لقد روي أنها من كثرة محبتها له وكثرة الالتصاق به لما كان يأتي منزلها تبسط له أم سُلَيم بساطًا لكي يرتاح وينام، وكان الجو حارًّا كما تعلمون، فإذا استيقظ تجمع العرق الذي تصبّب فوق البساط، وتخلطه مع مسكها وتتطيب به رضي الله عنها وأرضاها.
أخرج أبو داود عن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ أَنّ النّبيّ كَانَ يَزُورُ أُمّ سُلَيم فَتُدْرِكُهُ الصلاةُ أحيَانًا فَيُصَلّي عَلَى بِسَاطٍ لَنَا، وَهُوَ حَصِيرٌ تَنْضَحُهُ بالماء، وأخرج النسائي عن أنس قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللّهِ فِي بَيْتِنَا فَصَلّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ لَنَا خَلْفَهُ، وَصَلّتْ أُمّ سُلَيم خَلْفَنَا، وأخرج البخاري وأحمد عَنْ أَنَسٍ أَنَّ أُمَّ سُلَيم كَانَتْ تَبْسُطُ لِلنَّبِيِّ نِطَعًا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا عَلَى ذَلِكَ النِّطَعِ. قَالَ: فَإِذَا نَامَ النَّبِيُّ أَخَذَتْ مِنْ عَرَقِهِ وَشَعَرِهِ فَجَمَعَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، ثُمَّ جَمَعَتْهُ فِي سُكٍّ، وأخرج النسائي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ اضْطَجَعَ عَلَى نَطْعٍ فَعَرِقَ، فَقَامَتْ أُمُّ سُلَيم إِلَى عَرَقِهِ فَنَشَّفَتْهُ فَجَعَلَتْهُ فِي قَارُورَةٍ، فَرَآهَا النَّبِيُّ قَال: ((مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيم؟)) قَالَتْ: أَجْعَلُ عَرَقَكَ فِي طِيبِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ.
قلنا أيها الإخوة: إن الركن الأساس الذي بنيت عليه هذه الأسرة الطيبة هو الإسلام وتعلمه، وبالفعل فالأسرة المحرومة من مجالس القرآن ومن أشرطة القرآن ومن الكتب الإسلامية ومن تفاسير القرآن ومن قصص الأنبياء والصالحين، هذه أسرة محرومة من الخير. وهذا ـ للأسف ـ هو السائد اليوم، فكثير من الأسر إذا اطلعتَ على أحوالها وجدت الشيطان وجنوده مستحوذًا عليها، تجد الصغار والكبار غرقى في أمواج غوايته، فلا علم ولا تقوى, وإنما السائد الأغاني الماجنة والأفلام العارية والاهتمامات الدنية. فمتى تعيش هذه الأسر السعادة؟! ومتى تتذوق حلاوة الإيمان ولذة الاستقرار؟! متى وإبليسٌ يُدعى: التلفزيون هو المتربِّع على سياستها؟! إن هذا المفسديون أضحى المعول الذي يهدم أخلاق الأمة ويهدم كرامتها، وذلك بسوء توجيهه وتسخيره.
إن الإنسان ـ معشر الإخوة ـ إذا أراد رحمة الله والسعادة في بيته لا بد له من إدخال التقوى والخير إلى بيته.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
أخرج البخاري ومسلم عن أم عطية قالت: أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ فِي الْبَيْعَةِ: ((أَلاَّ تَنُحْنَ))، فَمَا وَفَتْ مِنَّا غَيْرُ خَمْسٍ، مِنْهُنَّ أُمُّ سُلَيم. فأم سُلَيم من اللواتي وفين في الحين، ولم يشترطن ولا تلكأن، فطلّقت النياحة وما كانت نساء الجاهلية تفعلنه حزنًا على موتاهن.
كما كانت الغايةَ في حسن التلطف والتودّد إلى زوجها في كل حال. أخرج مسلم وأحمد وأبو داود عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيم: هُوَ أَسْكَنُ مِمَّا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: ((أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟)) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: ((اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا)). فرزقهم الله بعد تسعة من الأولاد كلهم قرؤوا القرآن الكريم. وفي رواية لأحمد: ثم تصنعت له فأصابها، فلما فرغ قالت: ألا تعجب لجيرانك، أُعيروا عارية، فطُلِبت منهم فجزعوا! فقال: بئس ما صنعوا، فقالت: ابنك كان عارية فقُبض، فحمد واسترجع.
ثم إن هذه الأسرة ـ أيها الإخوة الأعزاء ـ زيادة على ما ذكرناه، كانت القمة في الكرم والجود، والقمة في الضيافة، والمثال في الاهتمام بالحالة الاجتماعية للمجتمع. فمما يُروى عن هذه الأسرة الطيبة رضي الله عنهم أن أبا طلحة خرج يومًا فوجد الرسول يعلّم أهل الصفة سورة النساء كما جاء في بعض الروايات، ولاحَظ أن النبي قد عصب بطنه من شدة الجوع، فأثَّر هذا في نفس أبي طلحة، فجاء إلى أم سُلَيم فقال لها: يا أم سُلَيم، لقد رأيت رسول الله يعصب بطنه من شدة الجوع، فهل لديك شيء من الطعام؟ فقالت له: إذا جاءنا الرسول وحده أشبعناه. فأرسل أنس بن مالك إلى الرسول. قَالَ أنس: بَعَثَنِي أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ لأَدْعُوَه وَقَدْ جَعَلَ طَعَامًا، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ مَعَ النَّاسِ، فَنَظَرَ إِلَيَّ فَاسْتَحْيَيْتُ، فَقُلْتُ: أَجِبْ أَبَا طَلْحَةَ، فَقَالَ لِلنَّاسِ: ((قُومُوا)) ، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا صَنَعْتُ لَكَ شَيْئًا. قَالَ: فَمَسَّهَا رَسُولُ اللَّهِ وَدَعَا فِيهَا بِالْبَرَكَة،ِ ثُمَّ قَالَ: ((أَدْخِلْ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِي عَشَرَةً)) ، وَقَالَ: ((كُلُوا)) ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِه،ِ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا فَخَرَجُوا، فَقَالَ: ((أَدْخِلْ عَشَرَةً)) فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، فَمَا زَالَ يُدْخِلُ عَشَرَةً وَيُخْرِجُ عَشَرَةً حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ فَأَكَلَ حَتَّى شَبِعَ، ثُمَّ هَيَّأَهَا فَإِذَا هِيَ مِثْلُهَا حِينَ أَكَلُوا مِنْهَا.
وفي أسرة أبي طلحة في الراجح نزل قوله تعالى: وَيُؤثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟)) فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ: ((ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ، أَوْ عَجِبَ مِنْ فعَالِكُمَا)) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
فهذه الأسرة ـ إخواني ـ ليست أنانية لا تعيش سوى للذاتها ومصالحها، وإنما هي أسرة تعيش أحوال مجتمعها الإسلامي، وتسهم بكلّ ما تطيق لكشف ما به من خصاصة، وتجاوز ما يحل به من أزمات.
_________
الخطبة الثانية
_________
كما كانت هذه الأسرة في طليعة العاملين لنشر دين الله تعالى وجهاد أعدائه الصادين عن سبيل الله.
فقد سبقت الإشارة إلى بلاء أبي طلحة رضي الله عنه في ميادين الجهاد والفداء، وسبق ذكر جهاد البراء رضي الله عنه، وما أكرمه الله به من الشهادة في سبيله. قال البخاري: حدثنا موسى، حدثنا إسحاق بن عثمان: سألت موسى بن أنس: كم غزا أنس مع النبي ؟ قال: ثماني غزوات.
ولم تكن أم سُلَيم رضي الله عنها لتحرم نفسها من مرافقة الرسول في غزواته، فقد كانت مجتهدة في الخروج معه وتحمل المشاق في مساعدة المقاتلين ومداواتهم والقتال معهم إذا اقتضى الحال. ومن ألطف ما يروى عن شجاعتها وثباتها ما حصل في غزوة حنين. أخرج مسلم وأبو داود عن أنس أن أم سُلَيم اتخذت يوم حنين خنجرًا فكان معها، فرآها أبو طلحة، فقال: يا رسول الله، هذه أم سُلَيم معها خنجر! فقال لها رسول الله : ((ما هذا الخنجر؟)) قالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت به بطنه، فجعل رسول الله يضحك، قالت: يا رسول الله، اقتُلْ مَن بعدَنا من الطلقاء انهزَمُوا بك، فقال رسول الله : ((يا أم سُلَيم، إن الله قد كفى وأحسن)).
هذه ـ إخواني ـ هي أسرة أم سُلَيم، وهذه بطاقة تعريف لعناصرها البارزة، وتلكم المبادئ التي تأسست عليها وعاشوا لأجلها، فغنموا السعادة والريادة في الدنيا، والفوز برضوان الله ورسوله، وذلك هو الفوز العظيم.
جعلني الله تعالى والإخوة من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونسأله سبحانه أن يصلح أحوالنا. والحمد لله رب العالمين.
(1/3528)
الترغيب في الجنة
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
مصطفى ابن سعدة
مليانة
السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحث على فعل الخيرات واجتناب المنكرات. 2- نعيم الجنة. 3- قرب الجنة والنار من العبد. 4- شكر الله تعالى على استقلال الجزائر. 5- التحذير من الكفار والفجار.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، اتقوا الله سبحانه، وافعلوا ما أمركم به، واجتنبوا ما نهاكم عنه، فإن الرحيلَ إلى الدار الآخرة قريب، وهناك ينقسم الناس إلى فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير، قال تعالى: فَرِيقٌ فِى ?لْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى ?لسَّعِيرِ وَلَوْ شَاء ?للَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً و?حِدَةً وَلَـ?كِن يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ وَ?لظَّـ?لِمُونَ مَا لَهُمْ مّن وَلِىّ وَلاَ نَصِيرٍ [الشورى:7، 8].
عباد الله، استكثروا من الخير والعمل الصالح، وحافظوا على الصلوات، وأدّوا الواجبات، واتّقوا المحرمات، لتفوزوا بجنة عرضها الأرض والسماوات. إنَّ دخول الجنة أعظم فوز وأكبر نجاح، قال تعالى: فَمَن زُحْزِحَ عَنِ ?لنَّارِ وَأُدْخِلَ ?لْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما ?لْحَيَو?ةُ ?لدُّنْيَا إِلاَّ مَتَـ?عُ ?لْغُرُورِ [آل عمران:185]، وإنَّ الخسران الأكبر والغبن الحقيقي لمّا يخسر العبد في الآخرة فلا يكون من أهل الجنة: قُلْ إِنَّ ?لْخَـ?سِرِينَ ?لَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ?لْخُسْرَانُ ?لْمُبِينُ لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ ?لنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذ?لِكَ يُخَوّفُ ?للَّهُ بِهِ عِبَادَهُ ي?عِبَادِ فَ?تَّقُونِ [الزمر:15، 16].
إنّها الجنة عباد الله، التي وعد الله بها عباده الصالحين والمؤمنين: جَنَّـ?تِ عَدْنٍ ?لَّتِى وَعَدَ ?لرَّحْمَـ?نُ عِبَادَهُ بِ?لْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سَلَـ?مًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم:61-63]، الجنة الدار الكريمة، ذات الدرجات والطبقات العالية، والغرف المبنية، وأبوابها ثمانية، أرضها فسيحة، وأرائكها مريحة، وريحها طيبة، توجد من مسيرة مائة عام، أخرج الترمذي والنسائي وأحمد أن رسول الله قال: ((إن ريحَها ليوجد من مسيرة مائة عام)) ، وظلالها وفيرة وطعامها لذيذ، وشرابها هنيء، قال تعالى: إِنَّ ?لْمُتَّقِينَ فِى ظِلَـ?لٍ وَعُيُونٍ وَفَو?كِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ [المرسلات:41، 42]، وقال أيضًا جل في علاه: مَّثَلُ ?لْجَنَّةِ ?لَّتِى وُعِدَ ?لْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى? ?لَّذِينَ ?تَّقَواْ وَّعُقْبَى ?لْكَـ?فِرِينَ ?لنَّارُ [الرعد:35]. ومهما ذكر من وصفها وأخبر عن حسنها فلن يستطيع عقل الإنسان أن يدرك ويقف على حقيقة عظمة نعيم الجنة، وعظيم خيراتها وثمارها، وبهاء قصورها ولذة طعامها وشرابها، وغير ذلك، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرؤوا إن شئتم: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17] )) ، فكلّ ما فيها تقرّ بها أعين المؤمنين، وينسَون بعظيم نعيم الجنة الشدائدَ والمحن والبؤس والآلام التي مرّت بهم في الدنيا، أخرج مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يؤتي بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة، ثم يقال: يا ابن آدم، هل رأيت خيرًا قط؟ هل مرّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا ـ والله ـ يا رب. ويؤتى بأشدّ الناس بؤسًا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم، هل رأيت بؤسًا قط؟ هل مرّ بك من شدة قط؟ فيقول: لا ـ والله ـ يا رب، ما مرّ بي من بؤس قطّ ولا رأيت شدة)) ، فاصبر ـ يا هذا ـ فلا فرح ولا حزن يدوم، وغدًا على ربّك القدوم، إمّا إلى الجنة فتنسى جميعَ الأحزان والهموم، وإمّا إلى النار فتزداد غمًا بالعذاب والزقوم. الجنة الآن قريبة منك، فلا تضيّعها ولا تخسرها، أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)) ، ومعنى الحديث أن الجنة والنار قريبتان من كلّ عبد، مثل شراك النعل، وهو الخيط على ظهر النعل، ووجه الشبه والقرب أن يسيرا من الخير قد يكون سببًا لدخول الجنة، وقليلاً من المنكر قد يكون سببًا لدخول النار، فينبغي الرغبة في كل أسباب الجنة، وتجنّب جميع أسباب النار، وهذه الخطبة ترغّب في الجنة في انتظار الحديث عن أوصاف الجنة لعلّ الله سبحانه يهدينا للعمل لها والسعي والاجتهاد لطلبها، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، سيد البشر، والشافع المشفع في أرض المحشر، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه وأهل سيرته وسنته وطريقته ونهجه إلى يوم الدين.
وبعد: أيها المسلمون، تمرّ على بلادنا ذكرى وطنيّة وهو استعادة الشعب المسلم استقلالَه وحريته وسيادته، بعد أن رفع راية الجهاد في سبيل الله من أجل الدفاع عن الوطن المسلم في وجه فرنسا الصليبية الكافرة، فنحمد الله سبحانه على توفيقه ونصره، قال تعالى: وَ?ذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِى ?لأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ?لنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مّنَ ?لطَّيّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال:26].
لقد عانت أمتنا معاناة شديدة تحت وطأة الاستعمار، ذاقت العذاب والاضطهاد، والظلم والاستعباد، ولكن ولله الحمد بفضل الله عز وجل ثم بفضل رجال مخلصين أهل الشجاعة وحب الوطن والدين، نصرهم الله على الكافرين والظالمين، فنسأل الله سبحانه أن يجزل لهم المثوبة يوم الدين، ويرحم الشهداء المخلصين.
عباد الله، ليس هناك أمة إلا وتحبّ وطنها وتعزّ بلادها وتحميه من أعدائها، وليس عيب أو حرام أن يحبّ المسلم بلده، بل العيب والحرام في خيانة الأمة والبلاد، الحرام في النفاق وعدم الإخلاص في حفظ أمانة الشهداء رحمهم الله تعالى الذين أدّوا واجبهم، واليوم بلادنا تحتاج إلى رجال مخلصين أوفياء ليحفظوا لهذه الأمة عقيدتها ودينها، ووحدتها واستقرارها أمام المؤامرات الصليبية لزعزعة أمن واستقرار بلادنا الطيبة، فنصحًا لله ولرسوله وللمؤمنين تمسكوا ـ عباد الله ـ بدينكم، والتزموا هدي نبيكم ، وكونوا عباد الله إخوانًا، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، إياكم وسبيل الفرقة والفتنة والنزاع، قال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَ?خْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ ?لْبَيّنَـ?تُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، إذا رأيتم من يخرب الديار وينشر الفتنة والدمار فلا تكونوا مثله، بل كونوا ـ رحمكم الله ـ تسعون إلى الخير، وتبنون المستقبل، وتبعثون الحياة والبسمة والأمل، ثم من الاستقلال الذي من أجله دافع وقدّم المجاهدون أرواحهم في سبيل الله أن تحافظَ الأمة على دينها ومقوّماتها وشخصيتها العربية الإسلامية أداء للأمانة وحفاظًا عليها، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ?للَّهَ وَ?لرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
يجب أن لا تسلك الأمة سبيل الكفار والفرنسيين الذين طردتهم وحاربتهم، أن لا تقلدهم وتتبع وجهتهم وتقدس نظامهم وأفكارهم، لقد استقللنا من وجودهم، ولكننا لم نستقل من عاداتهم وأفكارهم وثقافتهم، فنسأل الله سبحانه أن يهدينا إلى سبيله، ويحفظنا بدينه، ويجمع شملنا.
اللهم وفقنا إلى ما تحب وترضاه، اللهم اهدنا واهد بنا ويسر الهدى لنا، اللهم تب علينا وأصلح حالنا واغفر لنا ذنوبنا، اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا طيبًا مباركًا سخاء رخاء زاهرًا مزدهرًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام والمسلمين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على أفضل رسلك وخاتم أنبيائك محمد وآله وصحبه أجمعين، وألحقنا بالصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/3529)
الدعاء الشرعي
الرقاق والأخلاق والآداب
الدعاء والذكر
مصطفى ابن سعدة
مليانة
السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الدعاء النافع. 2- النهي عن دعاء غير الله. 3- عقيدتنا في الأولياء الصالحين. 4- مثل من يدعو غير الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: أيها المسلمون، نعود بكم إلى موضوع فقه الدعاء وآدابه، وإلى سلسلتنا: أثر الدعاء في قوة العقيدة والحياة ودوام الهداية والثبات.
فاعلم ـ أيها العبد ـ أنّ الدعاء الذي هو أنفع لإيمانك وأحسن لدينك وصلاح عقيدتك هو ذلك الدعاء الذي تخلِص فيه لربّ الأرض والسماء، الذي تقصد به وجهَ الله وتتوجّه إليه وحدَه لا شريك له، قال تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَدًا وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ ?للَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا [الجن:18-20]، فالدعاء الشرعي الذي له الآثار الطيبة والثمار النافعة على عقيدة المسلم وحياته وهدايته وآخرته هو ذلكم الدعاء الذي سلِم من الشرك والرياء، قال تعالى: هُوَ ?لْحَىُّ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ هُوَ فَـ?دْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ?لدّينَ ?لْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ [غافر:35]، فلا يجوز للمسلم أن يدعوَ غيرَ الله، سواء أكان هذا المدعوّ حيًا أو ميتًا، حاضرًا أو غائبًا، أو كان ملكًا مقربًا أو نبيًا، أو عالمًا صالحًا أو وليّا، فالدعاء عبادةٌ ينبغي أن يكونَ لله لا شريك له، لا إله إلا هو، ولا خالق إلا هو، ولا رازق إلا هو، ولا ينفع إلا هو، ولا يضرّ إلا هو، قال تعالى: وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضَ لَيَقُولُنَّ ?للَّهُ قُلْ أَفَرَأيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ إِنْ أَرَادَنِىَ ?للَّهُ بِضُرّ هَلْ هُنَّ كَـ?شِفَـ?تُ ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَـ?تُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ ?للَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ?لْمُتَوَكّلُونَ [الزمر:38].
فعلى المسلم إذا أرادَ الدعاء أن يتوجّه إلى الله مباشرةً يدعوه ويطلبه ويرجوه، فالله جل وعلا أمرنا بدعائه لا دعاء غيره، قال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمْ ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ?لَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ د?خِرِينَ [غافر:60]، وأما إذا رأى المسلم رجلاً أصلح منه وأعلم وتوسَّمَ وظنّ فيه الخيرَ والهدى والصلاح والتقى فلا بأس أن يطلبَ منه الدعاءَ له، لا أن يدعوَه ويتوسَّل إليه ويرجوه، قال تعالى: قُلِ ?دْعُواْ ?لَّذِينَ زَعَمْتُمْ مّن دُونِ ?للَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى ?لسَّمَـ?و?تِ وَلاَ فِى ?لأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مّن ظَهِيرٍ [سبأ:23].
وكان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون من النبي الدعاءَ والاستغفار لهم، ولا يدعونه، بل علّمهم إذا سألوا فليسألوا الله وحده، أخرج الترمذي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلفَ النبي يومًا فقال: ((يا غلام، إنّي أعلّمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)) ، وأخبر النبي صحابته وأمته أنه لا يملك لأحد نفعًا ولا ضرًا قال تعالى: قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِى نَفْعًا وَلاَ ضَرّا إِلاَّ مَا شَاء ?للَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ?لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ?لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ ?لسُّوء إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف:188].
فمن الجهل بالإسلام ما نراه من دعاء الأولياء والصالحين، والاستغاثة بالأموات الغائبين، وكلام ربّ العالمين قد حذّر من هذا المنكر المبين قال تعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ ?للَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى? يَوْمِ ?لْقِيَـ?مَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَـ?فِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ ?لنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَـ?فِرِينَ [الأحقاف:5، 6]. فالمسلم يؤمن بأولياء الله، ويحبهم ويعظمهم ويمدحهم ويترحّم ويثني عليهم، ويسأل الله أن يوفّقه لعلمهم وعملهم الصالح، هؤلاء الأولياء الصالحون لو كانوا أحياء أو بعثهم الله من قبورهم ورأوا ما يفعله الناس من دعائهم لأنكروا عليهم، وتبرؤوا منهم قال تعالى: وَ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ?سْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:13، 14]، وقال سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَ?سْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ ?لَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ ?جْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ?لذُّبَابُ شَيْئًا لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ ?لطَّالِبُ وَ?لْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُواْ ?للَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ ?للَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ [الحج:72، 73].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وقيوم السماوات والأرضيين، وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا ، أفضل المرسلين، وسيد الأولين والآخرين، وإمام المتقين، بعثه الله بالحق والنور المبين، صلى الله عليه وسلم تسلمًا كثيرًا ما طلع الليل والنهار، وارض اللهم عن صحابته أجمعين من الأنصار والمهاجرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها المسلمون، اقرؤوا كتاب الله، وتدبّروا آياته فهناك آيات كثيرة تنهى عن دعاء غير الله، وقد وصف الله عز وجل من يدعو غيرَه كالعطشان والظمآن يرى خياله في الماء وقد بسط يده ليشرب وما هو بشارب للماء لا يبلغ قعر البئر، ولا الماء يرتفع إليه قال سبحانه: لَهُ دَعْوَةُ ?لْحَقّ وَ?لَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْء إِلاَّ كَبَـ?سِطِ كَفَّيْهِ إِلَى ?لْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ [الرعد:14]، وأمر الله عز وجل رسولنا أن لا يدعو غيره، فلا أحد يملك له نفعًا ولا ضرًا، والخطاب له ولأمته من بعده، قال سبحانه: وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ ?للَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ ?لظَّـ?لِمِينَ وَإِن يَمْسَسْكَ ?للَّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ ?لْغَفُورُ ?لرَّحِيمُ [يونس:106، 107].
أيها المسلمون، إنَّ ربَّكم رؤوف رحيم، وجواد كريم، وسميع عليم، يسمع دعاءكم، ويستجيب لندائكم، فادعوه وحده وهو سبحانه يغضب إن تركتم سؤاله، ويسخط إن دعوتم عباده، فهو وحده الذي يكشف الهم ويرفع الغم ويرحم المستضعفين ويجيب المضطرين، قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَـ?تِ ?لْبَرّ وَ?لْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ?لرّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ تَعَالَى ?للَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ ?لْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مّنَ ?لسَّمَاء و?لأرْضِ أَءلَـ?هٌ مَّعَ ?للَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـ?نَكُمْ إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ [النمل:62-64].
اللهم أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم تب علينا وأصلح حالنا، اللهم اغفر لنا ما تقدم منا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنّا، ونسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذّة النظر إلى وجهك، ونسألك الشوق إلى لقائك، من غير ضراء مضرّة ولا فتنة مضلة، اللهم زيّنَا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم ألّف على الخير قلوبَنا واجمَع شملَنا ووحّد كلمتنا، اللهم اجعل بلدنا آمنًا طيبًا مباركًا سخاء رخاء زاهرًا مزدهرًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على أفضل رسلك وخاتم أنبيائك محمد وآله وصحابته أجمعين، وألحقنا بالصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/3530)
الفوز العظيم
الرقاق والأخلاق والآداب
الجنة والنار
مصطفى ابن سعدة
مليانة
السلام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الفوز بالجنة أكبر فوز. 2- الاجتهاد في طلب الجنة. 3- الدنيا دار امتحان. 4- الاستعداد للقاء الله.
_________
الخطبة الأولى
_________
أيها المسلمون، اجتهدوا في طاعة الله سبحانه، وتنافسوا على الخير ورضوانه، وتسابقوا إلى جنة ربكم عز وجل، وأديموا وحافظوا على صالح العمل، واتقوا الله: وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ذَلِكَ أَمْرُ ?للَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ ?للَّهَ يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا [الطلاق:4، 5]، وأطيعوا الله ورسوله: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:71].
إنه الفوز بالجنة الذي ليس هناك فوز أكبر وأعظم وأفضل وأهم منه، إنه الفوز بالجنة الذي ينبغي أن يحرص عليه كلّ عبد يريد الخير والنجاة لنفسه يوم القيامة، فإذا لم يكتب له الفوز فهذا يعني أنه من الخاسرين، الذين يكون مأواهم السعير وبئس المصير.
الفوز العظيم والعيش الطيب الكريم يوم الحشر والحساب والعرض والعقاب والحياة الناعمة والسعادة الدائمة لمن وفقه الله عز وجل إلى دخول الجنة وكان من أهلها، قال تعالى: إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَـ?ذَا فَلْيَعْمَلِ ?لْعَـ?مِلُونَ أَذ?لِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ ?لزَّقُّومِ [الصافات:60-62].
فعليك ـ أيها العبد ـ أن تسعى وتجتهد وتعمل وتجدّ لتحصيل مرضاة الله، ولتكون ـ إن شاء الله تعالى ـ في الآخرة ممن أنعم الله عليهم ورضي عنهم، قال تعالى: إِنَّ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ?لصَّـ?لِحَـ?تِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ ?لْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّـ?تُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رّضِىَ ?للَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ [البينة:7، 8].
وكما تفكر ـ أيها المسلم ـ في مستقبلك في الدنيا، وتريد أن تنال الشهادة العليا، وتفوز بالمناصب الأولى، ويكون مستقبلك زاهرًا منيرًا، ومشرقًا كبيرًا، ففكّر أيضًا في مستقبل الآخرة، واعمل لتكون أيضًا من الناجحين والفائزين برضوان ربّ العالمين، فالناس حينها صنفان: ناجحون سعداء وخاسرون أشقياء، قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِىٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا ?لَّذِينَ شَقُواْ فَفِى ?لنَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود:105، 106]، ومن تأمل كتاب الله عز وجل وجد آيات كثيرة في مواضع من سور عديدة تبين للناس حقيقة هامة أنَّ الخلق في الدنيا هم في امتحان واختبار، ونتائج هذا الاختبار ستظهر يوم القيامة، والفوز فيه هو الفوز العظيم الذي جاء ذكره كثيرًا في كتاب الله الكريم، من الآيات قوله تعالى: وَعَدَ ?للَّهُ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ جَنَّـ?تٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَمَسَـ?كِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْو?نٌ مّنَ ?للَّهِ أَكْبَرُ ذ?لِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التوبة:72]، فمن أراد الفوز أطاع الله ورسوله، قال تعالى: وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأنْهَرُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا وَذ?لِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [النساء:13]، وثبت عنه في الحديث: ((كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى)) ، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار)). وقد أخبر أمته بقيمة الفوز بالجنة وعظمته، أخرج البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ((موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها)) ، موضع سوط أي: مكان صغير.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وقائدنا وقدوتنا محمدًا عبده ورسوله، العبد المصطفى، والنبي المرتضى، والرسول المجتبى، صلى الله عليه وآله وصحبه أولي الخير والنهى، ومن اقتفى آثارهم وبطريقتهم اهتدى.
وبعد: أيها المسلمون، إن لقاء الله حق، إن الجنة حق، وإن النار حق، فاستعدوا للقاء الله عز وجل، واعملوا بعمل أهل الجنة من أداء الحقوق والواجبات، وحبّ الخير وعمل الصالحات، واجتنبوا واحذروا عمل أهل النار من المنكر والمحرمات، والمعاصي والكبائر الموبقات، اسألوا الله الجنة، وسلوه من فضله، كما كان يسأل ذلك رسول الله وعباد الله الصالحون، والفوز بالجنة لا يدرك ـ أيها المسلمون ـ إلا بالعمل والتقى، قال تعالى: وَتِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لَّتِى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَـ?كِهَةٌ كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ ، وقال تعالى: وَمَنْ أَرَادَ ?لآخِرَةَ وَسَعَى? لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا [الإسراء:19]، وستظهر يوم القيامة، والفوز فيه هو الفوز العظيم الذي جاء ذكره كثيرًا في كتاب الله، من هذه الآيات قوله تعالى: وَمَن يُؤْمِن بِ?للَّهِ وَيَعْمَلْ صَـ?لِحًا يُكَفّرْ عَنْهُ سَيّئَـ?تِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّـ?تٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [التغابن:9]، وقال تعالى: يَوْمَ تَرَى ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ يَسْعَى? نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـ?نِهِم بُشْرَاكُمُ ?لْيَوْمَ جَنَّـ?تٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ?لأَنْهَـ?رُ خَـ?لِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [الحديد:12]، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته بقيمة الفوز بالجنة وعظمته.
ها أنت ـ أيها العبد ـ إذا أقبلتَ على امتحان في الدنيا وتريد الفوز به أخذته مأخذ الجدّ، وسهرتَ وتعبت، وعملت واجتهدت لتظفر بالفوز وتحقّق النجاح، وإذا لم يكتب الله لك النجاح أصابك الهمّ والغم، فكيف بك نائم ساه غافل لاه عن الاجتهاد لامتحان الآخرة والفوز به؟! أكثر من اهتمامك بفوز الآخرة الذي هو فوز عظيم فوزٌ بالجنة دار الكرامة والنعيم والمقام الحسن ورضا الله العزيز الحكيم، أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعد الجدري رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟! فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟! فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا)).
اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، اللهم تب علينا واغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل، اللهم إنا نسألك توبةً نصوحًا وتوبة قبل الموت وراحة بعد الموت، ونسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم أجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم ارحم ضعفنا وقوّ إيماننا، وثبت حجتنا ورجح ميزاننا، اللهم ألف على البر قلوبنا، واجمع شملنا ووحد كلمتنا واحفظ أمتنا وبلادنا، اللهم اجعل بلدنا آمنًا مطمئنًا طيبًا مباركًا سخاء رخاء زاهرًا مزدهرًا وسائر بلاد المسلمين، اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على أفضل رسلك وخاتم أنبيائك محمد وآله وصحبه أجمعين، وألحقنا بالصالحين برحمتك يا أرحم الراحمين.
(1/3531)
وفاة الشيخ عبد القادر الأرنؤوط
العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي
عبد الحكيم بن محمد الطيب عبلاوي
بوزريعة
21/10/1425
الناصرية
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أعظم المصائب. 2- غفلة الأمة عن خطورة موت العالم. 3- الأمة بين المعالي والسفاسف. 4- أهمية أعمال القلوب. 5- فضل العلماء وعظم المصيبة بفقدهم. 6- وفاة الشيخ عبد القادر الأرنؤوط. 7- جهاد الشيخ في دعوته. 8- أعظم ميزات الشيخ رحمه الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، إنّ المصائب التي تصيب الأمّةَ كثيرة، إلا أن أعظم المصائب هي المصائب التي لا تشعُر بها الأمّة أو أكثرها، وإنّ منها موتَ العالم.
ما أتعس حالَ هذه الأمّة: يموت فيها الْمُغنِّي الفاسق الفاجر فتُستَنفر الحكوماتُ والشّعوب، ويصاب اللاّعب التّافه في ملَعب الكرَةِ فترى أثرَ ذلك في الناس خوفًا عليه أن لا يعود إلى الملعَب، وتتوعّك الممّثلة الساقطة أو الرّاقصة الخليعة فإذا وعكتُها حديث القنواتِ والجرائدِ والمجلاّت، حتى يخيَّل للناس أن مرضَ هؤلاء فيه هلاك العالَم، وأنّ نهايتَهم هي نهاية الدنيا.
ألا إنّ الله يحبّ معاليَ الأمور ويكرَه سفاسفها، وإنّ أمتنا جعلت معاليَ أمورِها سفاسفَ وقشورًا وغُلوًّا وتطرّفًا، وصيَّرت سفاسفَ الأمور معاليَ ومُثُلا، فأين تقع من حبِّ الله ومِن إعزاز الله لها ومِن نصرِه إياها وهي مولَعَة بما يكرَه الله وَيَمقت عليه، معرِضةٌ عمّا يحبّه ويرضَى عنه، لولا فِئةٌ من المؤمنين الصادقين الذين يحمِلون همّ هذه الأمّة وحدهم، ويشعرون دون الأمة بآلامها ويتطلّعون لآمالها.
أيها المسلمون، إنه لأمر يسير أن يُعرِض المسلم عن هذه السّفاسف والتّفاهات ويُخلِيَ قلبَه منها، وأن يَملأ قلبه بما هو أنفعُ له في دينه ودنياه، لا يُكلّفه ذلك عناءً في جسمه ولا يرزؤه دِرهما من جيبِه، ومع ذلك ترى أكثر الناس عنه معرضون.
أيها المسلم، اعلم أنّ هذا الأمر ـ مع يسره وقلة مؤنته ـ هو عظيم الشأن جليل القدر عند الله تعالى، ذلك أنه من أعمال القلوب التي هي أساس الأعمال وأصلُها، فهي أشرف أعمال المرء وأنفعها، ولذا كانت أعظمَها عند الله أجرا وأجزلها ثوابا، وحسبك أن أعظم أركان الإسلام، بل أعظم ما في هذا الدين على الإطلاق شهادةُ أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله، وهو عمل قلبيّ قبل أن يكون لفظةً باللّسان، وحسبك أن أشرفَ أعمال الإيمان الإخلاصُ لله تعالى، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، ثم سائر ما يتفرّع عن تعظيم الربّ جل وعلا من خوفِه ورجائه والإنابة إليه والتوكل عليه وحبه والحبّ فيه... كلّها أعمال قلبية، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين.
من المصائب العظيمة التي لا تشعُر بها الأمّة ـ ولا يريد لها أعداؤها أن تشعرَ بها ـ موتُ العالِم، فلا يدري المؤمن في أيِّ مصيبتَيْها يُعزِّيها: أفي موتِ عالِمها أم في موتِ شعورِها وإحساسها؟!
أخي المسلم، إياك أن تكون ممن يتألّم وتذهب نفسه حسراتٍ لانهزام فريقِ كرةِ القدم ولا يأبه لموت العالِم الربّاني. فإن أصابك مِن هذا الداء شيء فتعالَ أحدّثْك حديثا عسَى الله أن ينفعني وإيّاك به، فتحيا قلوبنا من مواتها وتستيقظ أنفسنا من غفلتها.
أخي المسلم، إنّ موتَ العالِم هو بعضُ موتِ العالَم، إن ذهاب العالِم هو ذهابُ بعضِ الحياة مِن هذا الكون، إنّ قبضَ العالِم هو انطِفاءٌ لبعض النورِ الذي تستنير به هذه الأرض المظلِمة بالظلم والباطل والمنكر. وإذ أنت جزءٌ من هذا العالَم فموت العالِم هو بعض موتِكَ أو موتُ بعضِك، وهو ذهاب بعضِ حياتك ونورِك.
أيها المسلمون، لقد كانت الأرضُ ميتَة مظلِمة مكفهرّةَ الوجه فأنزل الله تعالى وحيَه إلى عبده ورسوله، فأحيا به القلوبَ وأنار به جنَبَات الأرض، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، فسمّاه الله روحا لأنه حياةُ الأرض كما أنّ الروح بها حياةُ الأبدان، وسماه نورا لأنه أضاء الدّروب الحالكة للبشريّة. وقال عزّ من قائل: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].
ثم بلّغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما أُوحِي إليه من ربّه خيرَ بلاغ، وأدّى ما ائتُمِن عليه أحسنَ أداء حتى أتاه اليقين.
ولما كانت هذه الأمةُ أمةً مباركة لا ينقطِع الخير فيها فقد جعل الله لرسوله ميراثًا هو العلمُ الذي علّمه إياه، وجعل له ورثةً هم العلماء من أمّتِه إلى يوم القيامة، يتوارَث الخالف عن السّالف هذا الميراثَ إلى أن تقوم الساعة.
فأوّل من وِرث عنه العلمَ صلى الله عليه وآله وسلم أصحابُه رضوان الله عليهم، فأخذوا منه بأوفرِ حظٍّ، ثم أدّوه إلى التابعين كما ورِثوه، وأدّاه التابعون إلى تابعيهم كذلك، وهكذا ما زال هذا الميراثُ المبارك يحمِله من كلِّ خلفٍ عدولُه حتى يؤدّوه إلى مَن بعدهم، ينفون عنه تحريفَ الغالين وتأويلَ الجاهلين وانتحال المبطِلين، يُحيون به الأفئدةَ والقلوب، وينيرون به المسالكَ والدروب، ويفتحون به أعينًا عميًا وآذانا صمّا وقلوبًا غُلفا، فما أحسنَ أثرَهم في الناس، وما أسوَأ أثرِ الناس فيهم، إلاّ من رحم ربّك وقليل ما هم.
فهذه منزلةُ العالم أيها المسلم، فاعرف له قدرَه، وعظِّم من شأنه وارفَعه كما رفعه الله تعالى القائل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [المجادلة:11].
واعلم أن من تعظيم شأنِ العالِم اغتنامَ حياته قبل موتِه، بأن تنتفعَ مِن عِلمه، وتقتبسَ من نوره، وتأخذَ من هديه وسَمته، وإنّ من تعظيم شأنه أن تذكرَه بخير ما فيه، وأن تدعوَ له وتستغفرَ له في حياته وبعدَ موته.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ، وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ. إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
أيها المسلم، إن أعظم مصيبة حلّت بالمسلمين هي موتُ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وإن أعظم مصيبة تصيبهم بعد فقدِ نبيهم هو فقدُ ورثة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلذلك لا يستوِي موت العالم وموتُ غيره، كما لا تستوي حياة العالم وحياةُ غيره.
فموتُ أهلِ الأرض طرًّا ومَن فيها جميعًا بموتةِ العالِم
فهذا قدر العالم عند الله وعندَ المخلوقين، في أهل السماوات وأهل الأرض، عند الملائكة وعند البهائم العجماء، كلهم يعرفون فضلَه وعلوَّ منزلته، لم يتخلِف منهم إلا بعض بني الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، فإياك أن تكونه فتكون من النادمين وفي الآخرة من الخاسرين.
_________
الخطبة الثانية
_________
أيها المسلمون ، أما شَعَرتم أنكم رُزِئتم في واحد من ورثةِ نبيكم ؟ أما شعرتم أنكم أُصِبتم في عالِم مِن علماء هذه الأمة الربانيّين العاملين؟ أما شعرتم أنكم فقَدتم الشيخَ عبد القادر الأرناؤوط عليه رحمة الله الواسعة؟ أمَا شعرتم أنّ مصباحا من مصابيح الشام المرابِطة المجاهدة قد انطفأ نورُه؟ فأعظَمَ الله الأجرَ لأهل الشام، بل أعظَمَ الله الأجرَ والثوابَ لجميع بلادِ الإسلام، اللهم أجِرنا في مصيبتنا واخلُفنا خيرًا منها.
إِنَّ رُزءَ الإِسلامِ بِالحافِظِ العا لِمِ أَمسى مِن أَعظَم الأَرزاءِ
في ضحى يوم الجمعة الرابع عشر من شهر شوال من هذه السنة 1425هـ قَبض الله تعالى هذا العالم العامِلَ المجاهدَ في سبيل الله بالعِلم والدّعوة، بلسانه وقلَمه، المرابط على ثغر الشّام، فنسأل الله تعالى أن يرحمه برحمتِه الواسعة وأن يدخلَه الجنة ويسكنَه الفردوس الأعلى مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وإنا لنرجو له أن يكون من الشهداء إذ قبض يوم الجمعة، أَخْرَجَ حُمَيْدٌ فِي تَرْغِيبِهِ عَنْ إِيَاسِ بنِ بكيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((مَنْ مَاتَ يَوْمَ الْجُمْعَةِ كُتِبَ لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ وَوُقِيَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ)).
أيها المسلمون، إن مُدَّعِي اتباع السلَف في هذا الزمان كُثر، لكن الصادق الْموفَّق منهم أقلّ من ذلك، وإنّ المشتغلين بحديث رسول الله وسنّته في هذا الأزمان يزدادون، لكن العامِلين بها الداعين إليها الصابرين على الأذى فيها أقلّ من ذلك بكثير.
وإنا نشهَد لله شهادةً نعلم أنَّا نُسأل عنها يومَ القيامة أنّ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله تعالى كان من هؤلاء الفِئةِ القليلة العالمين بسنة رسول الله العاملين بها الصابرين على الأذى في سبيل الدعوة إليها. نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين.
إنه لا يُمكن للمرءِ أن يعلم قدرَ الرجل حتى يعلم: أين عاش؟ ومتى عاش؟ ومن واجه في دعوته؟ فكما قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10]، فكذلك لا يستوي عند الله في الأجرِ ولا عند الناس في التقديرِ من نشأ بين أهل السنّة المعظِّمين لها الملتَزِمين بها الدّاعين إليها، ومَن نشأ بين قومٍ السنةُ عندهم مهجورَة محارَبَة والبدعَة فاشيةٌ غالِبة، من أظهَر بينهم سنّةً نُبِز بأبشع الألقاب وحُدج بالأعيُن، يكاد الناس يزلِقونه بأبصارهم، فإن صبر عليها عُدَّ معانِدًا، وإن دعا إليها عُدّ مارِقًا، وصيح به أنْ من بدّل دينه فاقتلوه، وضُيِّق عليه في رِزقه، وأوذي في نفسِه وعرضِه. وفي مثل هذه البيئة نشَأ الشيخ عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله تعالى، لكن الله حبَّب إليه سبيلَ السلَف الأوّلين من الصحابةِ والتابعين لهم بإحسان، وقيّض الله له أمثالَ الشيخ بهجة البيطار العالم السلفيّ وغيرَه من المتّبعين سبيلَ السلف الصالحين أرشدوه ووجّهوه، فحرص على السنّة والحديث عِلمًا وعملا ودعوةً، فلقِي من ذلك ما يلقاه أهل الحقّ من أهل الباطل وأتباعِهم في كلّ زمان وفي كلّ مكان.
لكن أجدر ما يعظم به الشيخ رحمه الله تعالى في أعين المؤالفين والمخالفين في دعوته أمران:
أولهما: صبرُه على دعوةِ قومِه ومرابطته في بلادِ الشام طولَ حياته، لم يغادرها إلى غيرها من البلاد، مؤثِرا الأذى في سبيل الله على الراحة والعافِية، ولقد كان يسَعه أن يتبوّأ ـ بما جمع من علمٍ وبما بلغه من رتبة سامية وسمعة طيبة عند أهل العلم ـ مكتبًا من مكاتب التّحقيق في بعض بلاد الإسلام، فيغدق عليه المال، ويرتاح من مواجهة أعداء السنة المتربَصين به في وَطَنه، لكنه آثر سبيل أولي العزم من الدعاة الصادقين، فمكث في قومه يدعوهم إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجادلهم بالتي هي أحسَن حتى أتاه اليقين، فرحمه الله تعالى رحمة واسعة ونوّر قبرَه وأثابه الجنّة خالدًا فيها.
وأمّا الأمر الثاني: فهو ما حباه الله به من دَماثَة خُلُق وصبرٍ على المخالف والجاهل والسّفيه، حتى شهِد له بذلك القريب والبعيد والموافِق والمفارق، إلى تواضعٍ للحقّ، يقبله من كلّ من جاء به صغيرًا كان أو كبيرا، مؤالِفا أو مخالفا، لا يأنَف أن يرجعَ إلى الصواب حين يصوّبه تلميذه، ولا يستنكِف أن يُذعِنَ للحق حين يبيّنه له محاوِره أو مناظِره، وكان رحمه الله تعالى ليّنَ الجانب رفيقًا في دعوته حتى هدى الله على يدَيه خلقًا كثيرا، ونفع الله به بلادَ الشام نفعًا عظيما. ولقد كان من عباراته اللطيفة رحمه الله: "نحن لا نريد سلفيّةً تنطَح، ولا صوفيّة تشطَح، ولكن نريد من ينصَح، من غير أن يمدَحَ أو يقدَح".
لو لم يكن في الشيخ سوى هاتين الفضيلتَين لكان حقيقًا بكلّ تقدير وجديرا بكلّ توقير، إذ هما من نوادِرِ الفضائِل في هذه الأزمان، فالله المستعان وعليه وحدَه التّكلان.
(1/3532)
عيد الفطر 1425هـ
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
1/10/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعمة الإسلام. 2- الحياة الطيبة. 3- توديع رمضان. 4- المستفيد من رمضان. 5- عيد المسلمين. 6- فضل أمة محمد. 7- حسد أعداء الإسلام لهذه الأمة. 8- معاناة الأمة من ظاهرة الإرهاب. 9- كلمة لأولياء الأمور والمربين ورجال الإعلام. 10- حقيقة النصيحة والإصلاح. 11- نعمة الأمن. 12- حقيقة الإيمان. 13- وقفات محاسبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنّ أعظمَ نعمةٍ منَّ الله بها على عبادِه هدايتُهم للإسلام، فأعظم نعمةٍ منَّ الله بها على عباده المؤمنين هدايتُهم للإسلام، فتلك أعظمُ النِّعم والمِنن، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران:164]، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات: 17].
أيّها المسلم، فاعرِف قدرَ هذه النعمة، وقدِّرها حقَّ قدرِها، واشكر اللهَ عليها قائما وقاعِدًا ومضطَجعًا، وفي كل لحظاتِ حياتك، اشكر الله على هذه النعمة؛ أن شرح صدرَك للإسلام، ومنَّ عليك بقَبوله والعمل به، وأنقَذَك ممّا ضلَّ [به] الأكثرون.
أيّها المسلم، كلما تذكّرتَ هذه النعمةَ فارفع إلى الله الثناءَ والحمدَ والشكرَ على هذه النعمة، أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [الزمر:22]. لقد ضلَّ أقوامٌ عن هذا الحقّ، وعَموا وصَدّوا عنه رغم وضوحِ الرّؤية عندَهم، ولكن حال الله بينَهم وبين ذلك لِما له من الحكمةِ العظيمة، والحجّةُ لله على خلقِه، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].
إنّ الحياةَ الطيّبةَ لا تكون طيّبةً إلاّ بشرع اللهِ القويم، فهو الذي يصيِّر الحياةَ حياةً طيّبة، حياةَ هناءٍ وسعادَة في الدّنيا والآخرَةِ، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
أمّة الإسلام، بالأمسِ ودَّعنا شهرَ رمضان، شهرَ الصيام والقيام، شهرَ الرّحمة والإحسانِ، شهرَ المغفرة والرضوان، ودَّعنا هذا الشهرَ الكريم، ولكن ليتَ شِعري من المستفيدُ من رمضان؟ إنَّ المستفيدَ من رمضان حقًّا من استقبلَ الأعمالَ الصالحة وأعرضَ عن الفسوقِ والعصيان، إنَّ المستفيدَ من رمضان من أتبعَ الحسنةَ بالحسنة، وذاك ـ بتوفيق من الله ـ مِن علامات قبول العمل، المستفيدُ من رمضانَ من سعى في تزكيةِ نفسه وتهذيب سلوكه، المستفيدُ من رمضان من عمَر قلبَه بمحبّة الله ومحبّة رسوله وعمل بمقتضَى ذلك، المستفيد من رمضان من سلِم المسلمون من شرِّ لسانه ويده وأمِنه الناس على دمائهم وأموالهم.
أخي المسلم، ماذا أثَّر فيك رمضان؟ هل أثَّر فيك زيادةَ الإيمان وقوّة الإخلاص؟ هل أثّر فيك تطابقَ القولِ مع العمل والاعتقاد؟ هل أثَّر فيك خشيةَ الله؟ هل أثّر فيك حبَّ الفرائض والمسارعة لأدائها؟ هل أثَّر فيك جدّك في البر والصلة؟ هل أثّر فيك العفوَ والصفح وتحمُّل الأذى والإعراضَ عن الجاهلين؟ فإن كنتَ كذلك فأبشِر بوعدِ الله، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133]، وإلاّ فاعلم أنّ اللومَ عليك والتقصير من جِهتِك، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46].
أخي المسلم، هذا يومُ الفطرِ، هذا يوم عيدِنا، هذا يوم فِطرِنا من صيامنا، هذا يومُ فرح المسلمين وسرورِهم. أجل إنّه يومُ عِيدهم، فللمسلمين في هذه الشريعة عيدان: عيد الفطر وعيدُ الأضحى. قدِم النبيّ المدينة ولأهلِها يومان يلعبون فيهما، فقال: ((ما هذان اليومَان؟)) قالوا: يومَانِ لفَرَحنا ولسرورِنا، قال: ((قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: عيدَ الفطر وعيدَ الأضحى)) [1]. فأبدَل الله أهلَ الإسلام بيَومَيِ اللهوِ واللعب عيدَيِ الفرح والسرورِ الحقّ في هذا الدين، عيدٌ مرتبط بأركانِ الإسلام، فرمضان ينقضي ويأتي يومُ عيد الفطر، يفرَح المسلمون بموافقتِهم أمرَ الله لهم بالصِّيام ومُوافقة أمره لهم بالإفطَار، فصاموا بأمرِ الله وأفطَروا بأمرِ الله، وللصّائم فرحتان: فرحَةٌ يومَ فطرِه، وفَرحَة يومَ لقاء ربه. فيفرَح بفطره عندما وافقَ شرعَ الله، وتناول المباحاتِ بإذنِ الله له، ويفرح يومَ لِقاء ربه، يومَ يجِد ذلك الثوابَ مدَّخرًا له أحوَجَ ما يكون إليه، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا [آل عمران:30].
أمّةَ الإسلام، هذه الأمّةُ المحمّديّة هي الأمّة المرحومَة، هي الأمّة المعصومة، هي الأمّة المنصورَةُ، هي الأمة التي حُفِظ لها دينها، ((ولا تزالُ طائفةٌ من أمّتي ظاهرين على الحقّ، لا يضرّهم من خذَلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله)) [2].
اختارَها الله لتكونَ خيرَ أمّةٍ أخرِجَت للناس، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. اختارها الله فجَعَلَها أمَّةً وسطًا عَدلاً خِيارًا، شاهدةً على الأمَم بأنَّ أنبياءَهم قد بلَّغوهم رسالاتِ الله، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]. اختارَ اللهُ لها سيّدَ الأوّلين والآخرين وخاتمَ الأنبياء والمرسلين، أفضلَ خلقِ الله؛ ليكونَ رسولاً لهذه الأمّة، ليبلِّغَهم رسالات الله، وربّك يعلم حيث يجعل رسالتَه. اختارَ لها القرآنَ العظيمَ كلامه جلّ وعلا، هذا الكتابُ العظيم والذّكر الحكيم الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيه ولا مِن خلفه، تنزيلٌ من حكيمٍ حميد. فهو سَبَب هدايةِ الأمّة وسَبَب صلاحِها، وهو ذكرُها ورِفعتها، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44].
أمّة الإسلام، تلك المعاني العظيمةُ استثارَت كوامِنَ أعداءِ الأمّة، فسَعَوا جاهدين في إهلاكِها، حَسَدوها على نعمةِ الله عليها، فكادوا لها المكائدَ، وحاكوا لها المؤامراتِ؛ ليصدّوها عن سبيلِ الله، وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة:109]، وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120]، ولكن هذه الأمّةُ متى ما تمسَّكت بدينها واستقامَت على إسلامها فإنّ الله كافِلٌ لها النصرَ والتأييد، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:40، 41].
لقد عانى الرعيلُ الأوّل مِن هذه الأمّةِ عندما ظهرَت دعوةُ رسول الله ما عانَوا من الشدائدِ والعظائم، ولكن لما صَدقَت نيّتهم مع الله مكَّن الله لهم في الأرض، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41]، وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55].
أمّةَ الإسلام، العدوُّ هو العدوّ وإن اختلفَ الزّمَن، والعدوّ هو العدوّ وإن تغيَّرتِ الوجوه واختلَفَ المكان، العدوّ هو العدوّ فاحذَروا مكائدَ أعدائكم لعلَّكم تفلحون.
أمّةَ الإسلام، إنّ مما ابتلِيَت به الأمّةُ في هذه العصورِ ما اصطُلِحَ عليه في العصرِ الحديث بالإرهاب، ولا جرَمَ أنه ضرَرٌ عظيم في الزّمانِ الماضي، ولا غَروَ أنه من أشدِّ ما تعاني منه الأمّة في هذا الزمان. هذا الإرهابُ الذي اصطُلِح عليه، هذا الإرهاب الذي حقيقتُه إلحاقُ الضّرَر بالأمّةِ في مَصالح دينِها ودنياها، هذا الإرهابُ الذي حقيقتُه مدُّ اليدِ لأعداء الإسلام لتدميرِ الأمّةِ والقضاء على كلِّ خيرٍ لها في دينها ودنياها. هذا المبدأ الإرهابيّ الخطير الذي لُفِّقَ بالإسلام جَهلا وعدوانًا، والإسلامُ من هذا المبدَأ بَراء؛ لأنّ الإسلامَ دينُ رحمةٍ وحقّ، ليس دينَ ظلم وعدوان.
أمّةَ الإسلام، خطرُ هذا المبدَأ الخبيثِ تبيَّن ضررُه عندما كان هذا الضرَر يحمِله بعضُ أبناء المسلمين، فأتى الخطرُ من أبناءِ المسلمين، فبعضُ أبناء المسلمين ـ للأسف الشديد ـ اعتنَقوا هذا المذهب الخطير والمبدَأ الإجراميَّ السيّئ، اعتنَقه بعض أبناءِ المسلمين بعضُ شبابِ المسلمين الذين تعلِّقُ أمّتُهم الآمالَ ـ بعد الله ـ عليهم، وتعدُّهم للدّفاعِ عن الدينِ ثم الأمّة والوطن، لكن تلوَّثَت أفكارُهم بهذا المبدأ الخبيث. إنّه أشدُّ أثرًا في النفسّ، لا سيما إذا كان ابنُك عَدوًّا لك أو كان داؤك مِن جسدك، فذاك البلاءُ العظيم. لقد نَصَح الناصحون وتحدَّث المخلِصون الصادِقون، وحذّروا الأمّةَ من هذا الإجرام، وبيَّنوا لهم أخطارَه، ولكن الله حكيم عليم، يضلّ من يشاء ويهدِي من يشاء.
فيا شباب الإسلام، إنَّ دينكم وأمّتَكم ووطنكم أمانةٌ في أعناقِكم، فاحذَروا أن تسترخِصوا هذه الأمانةَ أو تضيِّعوها، احذَروا مكائدَ أعدائكم، فوَالله لن يَقصدُوا لكم خيرًا، ولن يريدُوا بِكم خيرًا، يستهدفون دينَكم، يستهدفون أمنَكم، يستهدفون اقتصادَكم، يستهدِفون اطمئنانَكم وقيادَتَكم وراحةَ بَالكم، يريدون أن يحدثوا بين صفوفِكم فرقةً واختلافًا، يريدون ذرائعَ يتوسَّلون بها للنّيل من الأمة مصالحها. احذروا مكائِدَ أعدائِكم، فلا نصحَ منهم لدَيكم، ولا حبَّ خيرٍ لديكم، ولكنه الحقدُ الدفين في نفوسهم، أظهَروا هذا الإرهابَ بصُوَرٍ شتى وعباراتٍ مختلفة، وغايتها إلحاقُ الضَّرَر بالأمّةِ في حاضرها ومستقبَلِها.
انظرُوا إلى الأحداثِ المتتابعة، انظروا إلى الصّراعات السياسية التي نُقِلت من بلادِ أعداء الإسلام لتكونَ أرض الإسلام ميدانًا لهذا التنافس السيّئ والتّزاحُم على مصالحِ الأمّة وخيراتها وثرواتها. نقلوا هذا الحدثَ مِن أرضهم إلى أرضِ الإسلام لتكونَ مَيدانًا للصّراع السياسيّ والمطامِع المادّية في الإسلام وأهلِه. فاحذروا ـ أمّةَ الإسلام ـ تلك المكائد، وكونوا على بصيرةٍ من واقعِ أمرِكم.
أمّةَ الإسلام، إنّ هذه الأحداثَ الخطيرة من تكفيرٍ وتفجير وتبديعٍ وتضليلٍ وإحداثِ فوضى في الأمّة وراءَها أعداءُ الإسلام، يذكون نارَها، ويحبّون إشعالَ الفتن واستطار شرِّها، يحبون ذلك ويكرَهون للأمة أن تعيشَ في أمنٍ واستقرار وراحةِ بال، لا يرضيهم ذلك بل يحبّون أن تكونَ بلادُ الإسلام دائمًا بلادَ فِتَن واضطراباتٍ وانقسامات، فهم يُذكون كلَّ بلاء، ويشعِلون النزاعَ الطائفي والنزاعَ القَبلي إلى غير ذلك مِن كلّ ما يمكِنهم [من] تفريقِ الأمّةِ وضربِ بعضِها ببعض. فكونوا على حَذَر من أعدائكم، فهم والله الأعداءُ وأن أظهَروا لكم المحبّةَ والنصيحة.
أيها المسلم، أيها الآباءُ والأمهات، واجبُكم تقوى الله في أبنائكم، رَبّوهم التربيةَ الصالحة، راقبوا سلوكَهم وتصرّفاتهم، حذِّروهم من مجالسِ السّوء ومن دعاةِ الباطل والضلال الذين يسعَونَ لتَلويثِ أفكارهم وإدخالِ [أمور في أفكارهم] هي بعيدةٌ كلَّ البُعد عن دينهم وعن مصالحِ دُنياهم.
أيّها المربّون، رجالَ التربية والتعليم، واجبُ الجميعِ الأخذُ على أيدي أبنائنا، وتوجيهُهم التوجيهَ السليم، وتحذيرهم من كلِّ أمر فيه ضررٌ عليهم في دينهم ودنياهم، فهم أمانةٌ في أعناقِكم، فعلِّموهم الخيرَ ووجِّهوهم للخير، وحذِّروهم من مبادئ الشرِّ على اختلافها وتلوُّن عباراتها.
رجالَ الإعلام، إنَّ الإعلامَ سلاحٌ نافع إنِ استُغِلّ في الخير، فلا بدَّ لرجال الإعلامِ مِن صحافةٍ وإعلام أن يكونَ إعلامنا موجَّهًا لخدمة ديننا ولإصلاح أبنائِنا، وأن تكونَ برامجُه وما يُحدَث فيه من أطروحَات هي تخدِم هذا الدينَ، وتحذِّر أمّتَنا من الأخطارِ المحدِقةِ بها ومن القنواتِ الإلحاديّة الإجراميّة الهابطة التي غزَت أمّةَ الإسلام، فدمَّرت الاعتقادَ وأفسَدَت الأخلاقَ والقِيَم.
أيّها الإخوةُ المسلمون، أيّها المسلمون، إنّ الإسلامَ ينظر إلى الحقائقِ لا إلى الشعاراتِ والكلِمات الفارغة، إنّ الإسلامَ ينظر إلى الأمور بمقاصدِها وغاياتها، يقول : ((إنّما الأعمال بالنياتِ، وإنما لكلّ امرئ ما نوى)) [3] ، ويقول : ((إن الله لا ينظر إلى صوَرِكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبِكم وأعمالكم)) [4].
أمةَ الإسلام، إنّ هناك ألفاظًا تطمئنّ لها القلوب وترتاح لها النفوس وتميل العقولُ إليها بفطرتها، هذه الكلماتُ النافعة هي كلِمَات تطمئنّ القلوب إليها وترتاح النفوسُ لها وتميل إليها العقول السّليمة، ولكن استغلَّها أعداء الإسلام لتمرير شرِّهم ونشر باطلِهم وأكاذيبِهم، وأخرَجوها في قالَبٍ يظنّ السامع أنها خير، ولكن وراءَها ما وراءَها، والمسلم لا يقِف مع الألفاظ، ولكن ينظر إلى ما وراءَها ومقاصِدَها وماذا أراد المتحدِّثُ منها.
هناك كلمتان: النّصيحة والإخلاص، كلِمتان محبَّبتان إلى النّفوس؛ لأنها تحمِل في طيّاتها اسمًا شرِيفًا وعَملاً طيّبًا، ولكن يتفاوت الناسُ في فهمِها. فالنصيحة والإصلاحُ استغلَّها من استغَلّها من كلّ داعٍ فاجر أو خيِّر، ومن كلّ مدَّعٍ حقٍّ أو مبطل، كلٌّ يدَّعي النصحَ والإخلاص، ولكن حقيقةُ ذلك تستبين للمُسلم عندَما ينظر إلى واقعِ هذه المقالة وإلى المتحدِّث بها، فقد بيَّن الله في كتابه عن إبليس ـ لعنه الله ـ أنّه ادَّعى النصحَ لآدم حينما وَسوَس إليه الأكلَ من الشجرة: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]، فادَّعى أنه ناصحٌ لهما، والله قد حذَّر آدمَ وزوجتَه من تلكم الشّجَرة، ولكن عدوّ الله قاسَمهُما: إنِّي لكُما لمِن النَّاصِحِين. وفرعون اللّعين يقول لقومه: مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ [غافر:29]، ويقول عن موسى: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر:26]. فهذا فرعون يدَّعي النصيحة، ويصِف موسى بالإفساد، ويصف نفسَه بالمصلح وهو القائل: أنا ربُّكم الأعلى. وهؤلاءِ المنافقون في عهدِ رسول الله كما أخبَر الله عنهم أنهم قالوا ـ إِذَا قِيلَ: لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ ـ قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، إذا حُذِّروا من الفساد في الأرض حينما يسعون في تفتيت شمل الأمة وإحداث الفوضى بين صفوفها قالوا: إنما نحن مصلحون، قال الله رادًا عليهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
أجل أخي المسلم، إنّ المؤمنَ دائمًا يحاسِب نفسَه، ويفكِّر في واقعه، في أمور دينه ودنياه، ويسعى في الإصلاح والعودَة بطريقِه إلى جادّة الصواب، ووجودُ الخطأ وحصولُ النقصِ ليس أمرًا مستحيلاً، لكنّ المسلمَ يسعى في إصلاحِ الأخطاءِ وتدارُك النقصِ مهما وجد لذلك سبيلاً.
وإذ حُكومتُنا ـ وفقها الله ـ تدعو إلى الإصلاحِ وتنادي له، فإنَّ هذا الإصلاحَ عمل طيّب، فعلى الجميع التعاونُ على الخير، ولكن الإصلاحَ الحقيقيّ إنما هو في اتّباع كتاب الله وسنّة محمّد وسلوكِ ما عليه سلف هذه الأمة؛ لأن الله يقول: وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا [الأعراف:56]، فالأرض صلحت بمبعث محمّد وبانتشارِ هذا الدينِ وعلوِّ شأنه الذي بلَغ مبلَغَ الليل والنهار، فالإصلاحُ إذا أريدَ إصلاحًا فليَكُن على وفقِ ما دلّ الكتاب والسنة عليه، إصلاحُ الأمة لأخطائِها وتدارُكها لنقصِها وسعيها في الصعودِ بمجتمَعها إلى ما فيه الخير والصلاح أمرٌ محبوب للنفوس، ولكن على المسلمين تقوَى الله والإخلاص في مقاصِدِهم حتى تكونَ مقاصدَ شرعيّة.
أيها المسلم، نحن مع الإصلاحِ إذا أريدَ به الخير، نريد إصلاحًا موافقًا لصحّةِ المعتَقَد الذِي بعث الله به محمّدًا ، إصلاح يضمَن سلامةَ أمنِ الأمة، إصلاح يضمَن التحامَ الأمة واجتماعَ كلِمَتها، إصلاح يُراد به الصعودُ إلى كلّ خيرٍ، إصلاح يُراد به اجتنابُ الفساد مهما كان نوعه، حتى تسيرَ الأمّة على المنهج القويم والطّريق المستقيم الذي بعَث به خاتمَ الأنبياء والمرسلين.
أمّةَ الإسلام، تفكّروا في نِعَم الله عليكم الظاهرةِ والباطنة، فكلّما تذكّر العباد نعَمَ الله ازدادوا شكرًا لله. تذكَّروا نعمةَ الإسلام أعظمَ النعَم، وتحكيمَ الشريعةِ وتطبيقَها. تذكّروا أمنَكم واستقرارَكم. تذكّروا ارتباطَ قيادتَكم مع مواطنِيها. تذكَّروا هذه النعم، وتفكَّروا في حالِ أقوام سُلِبوا هذه النعم. يطلّ عليكم يومُ العيد وأنتم في نِعمةٍ وفرَح وسرور، وهناك فِئات من المسلمين يعانون الأمرَّين مِن تقتيلٍ وتشريد وتدمير وسفك للدماء وانتهاكٍ للأعراض ونهبٍ للأموال، يعيشون حياةَ شقاءٍ وعناء.
نسأل الله أن يرفعَ البلاء عن أمّة الإسلام، وأن يرزقَهم العودةَ إلى شرع الله؛ ليُخلِّصوا أنفسَهم من هذه الأباطيل والضلالات. إنّه لا مخلِّصَ لهم مما هم فيه من الظلمِ والعدوان إلاّ رجوع إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، فعليها تلتقِي القلوب وتجتمِع الكلمةُ ويتّحِد الشّمل.
أمةَ الإسلام، نعمة الأمنِ نعمة عُظمى نعمةٌ كبرى، ((مَن أصبح آمنًا في سِربِه معافًى في بدنِه عنده قوت يومِه وليلته فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها)) [5]. نعمةٌ عظيمة نسأل الله المزيدَ من فضله، وأن تكونَ عونًا لنا على ما يُرضِي اللهَ عنا. إنها نعمةٌ عظيمة: الأمنُ في الأوطان والاطمِئنان والاستقرار ورَغَد العيش، هذه نِعَم يجب أن نقابلها بشكرِ الله لتزداد قوّةً وثباتًا، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
[1] أخرجه أحمد (3/103)، وأبو داود في الصلاة (1134)، والنسائي في العيدين (1556) عن أنس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (1/434)، والضياء في المختارة (1911)، وصححه الحافظ في الفتح (2/442)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (1004).
[2] رواه البخاري في التوحيد (7460)، ومسلم في الإمارة (1037) عن معاوية رضي الله عنه. وفي الباب عن غيره من الصحابة.
[3] رواه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
[4] رواه مسلم في البر (2564) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[5] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (2318).
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنّ الإيمانَ ليس شعاراتٍ ترفَع ولا كلمات تُقال بلا معنى، ولكنه اعتقادُ القلبِ وقول اللسان وعمل الجوارح، هذا هو الإيمانُ الصادق، هذا هو الإيمان الحقّ، ليس الإيمان بالتّمنِّي ولا بالتّحلِّي، ولكن الإيمان ما وقَر في القلوبِ وصدّقه العمل.
أيها المسلم، قِف مع نفسك قليلاً، قف مع نفسك: هل أنت ممّن أخلص لله قولَه وعمله؟ هل أعمالُك التي تعمَلها خالصة لله، لا رياء ولا سمعة فيها؟
قِف قليلاً مع نفسِك ومع توحيدِك لربّك وإقرارك بألوهية الله الحقّ وأنّك عبدتَ الله وحدَه، ولم تعبد معه سواه، وعرفتَ أن العبادةَ حقّ لله بكلِّ أنواعها، لا يستحقّها غيره جلّ وعلا.
قف مع نفسك في أسماءِ الله وصفاته: هل آمنتَ بها حقَّ الإيمان وأمرَرتها على ظاهِرِها معتقِدًا معناها على ما يليق بجلالِ الله وعظَمَته، معتقِدًا أنَّ الله ليس كمثله شيء في ذاته وصفاتِه، مؤمنًا بحقيقَتِها على ما دلّ الكتاب والسنة عليه.
قِف مع نفسِك قليلاً مع الذين استهزَؤوا بالإسلامِ وسخِروا بالإسلام واستهزؤوا بأهلِ الإسلام ولمزوا أهلَ الإسلام وعابوهم: هل نصحتَ أولئك؟ هل كرهتَ أقوالهم؟ هل تألَّم قلبك لما قالوا وتمعَّر وجهُك مما سمعت وبذلتَ النصيحةَ لله في بيانِ فسادِ ما هم عليه من هذهِ السّخرية والاستهزاء؟ هل موقِفُك مَع الذين غَلوا في الدين الله ونسَبوا إلى شرع الله ما ليس منه، هل نصحتَ أولئك وحذَّرتهم من هذا المبدأ الخطير وأخذتَ على أيديهم نصيحةً وتوجيهًا لتجتثَّ منهم داءَ الغلوّ الخطير الذي لا خير فيه؟
أيّها المسلم، الصلواتُ الخمس هي الركن الثاني من أركانِ الإسلام، من حفِظَها وحافظ عليها كانت له نورًا ونجاةً يومَ القيامة، ومَن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً يوم القيامة، وحشِرَ مع فرعون وهامانَ وقارونَ وأبيّ بن خلف أئمّةِ الكفرِ والضّلال. ما موقِفُك من الصلاةِ؟ هل أنت من المحافظين عَليها؟ هل أنتَ من المؤدِّين لها في أوقاتها طاعةً لله مخالفًا للمنافقين؟ هل أنت ممن أدّيتها في جماعة المسلمين في المسجِد فتكون من المؤمنين حقًّا؟
أيّها المسلم، موقفُك من الزكاة التي هي الركنُ الثالث من أركان الإسلام: هل أدّيتها؟ هل أحصيتَ مالك؟ هل أوصَلتها إلى مستحقِّها بأمانة؟ هل حفِظتَ صيام رمضان، وصُنتَ كلَّ الجوارح من المخالفات؟ وهل أدَّيتَ الحجَّ على الوجه المطلوب؟
ما موقفك من البرِّ بأبوَيك؛ إذ الله يقول: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]؟ هل أحسنتَ إليهما؟ هل قدَّمتَ لهما في كِبَرهما خدمة؟ هل راعيت شؤونهما؟ هل قمتَ بحقِّهما خيرَ قيام؟
ما موقِفُك من رحمك؟ هل أنتَ من الواصلين للأرحام الممتثلين قولَ الله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] أم أنت من القاطِعين المتعرِّضين لوعيد الله: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22، 23]؟
ما موقفُك من جارك؟ هل أنت ممن حفِظ حقّ الجار، وحفِظ أمانةَ الجار؟ وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرِم جاره)) [1] ، وفي الحديث: ((لا إيمانَ لمن لا يأمَن جاره بوائقَه)) [2].
ما موقفُك في علاقتِك مع إخوانك المسلمين؟ هل أنت بعيدٌ عن النميمة والغيبةِ والاستهزاء بالناس واحتقارهم؟ هل احترمتَ الناس وسلِموا من شرّ لسانك؟
ما موقفُك في بيعك وشرائك؟ هل أنت من الصادقين في التعامل الموعودِين بقول النبي : ((فإن صدَقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتَما مُحِقت بركة بيعهما)) [3] ؟ هل كنتَ صادقًا في بيعك؟ هل كنتَ صادقًا في السلَع التي تعرضها؟ هل وضعتَ عليها مكانَ صدورها ولم تخدَع الناسَ وتغشَّهم؟
ما موقِفُك من المعاملاتِ الرّبوية التي حذَّر الله منها في كتابه وتوعَّد عليها بأعظمِ وعيد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:278، 279]؟ ولعن الله آكلَ الرّبا وموكلَه وكاتبه وشاهديه. ما هي معاملاتك؟ تفكَّر فيها وتدبَّر، والتَزمِ الشرعَ، فالله سائِلُك عن مالك: من أين أتاك؟ وفيم أنفَقتَه؟
ما موقِفُك من الأموالِ العامّة التي لك النفوذ فيها؟ هل اتقيتَ الله فيها ووضعتَ كلَّ شيء موضعَه أم غلَلت ونهبتَ وتلاعبتَ؟ والله يقول: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:161].
ما موقفك وحالُك من المسؤوليّة التي أُنيطَت بك؟ هل أدّيتَها حقَّ الأداء وأدّيت الأمانةَ فيها بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى؟
أيها الزوجان، ما حالُكما؟ هل طبَّقتما شرعَ الله في قوله: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:228]؟ هل كانتِ المرأة المسلِمة قائمةً بحقوق زوجها خيرَ قيام، أم هي متساهِلة ومضيِّعة؟ وهل قام الزوج بحقِّ الزوجة حقَّ القيام بأن رعَى شأنها واتّقى الله فيما ائتُمن عليه منها؟
أيّها المسلم، اتّق الله في الشهادة، وكن من المقيمين لها، إن تحمَّلتها فتحملها بحقّ، وأن أدّيتَها فأدِّها بصدقٍ وأمانة، واحذَر شهادة الزورِ فإنّ النبي يقول: ((ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) ، فما زال يكرِّرها حتى تمَنى الصحابة أنه سكت [4].
احفظوا الأيمانَ، وإيّاكم والتساهلَ بها، واحذروا ـ عبادَ الله ـ التساهلَ بأوامر الله، واتقوا اللهَ في سرِّكم وعلانيّتكم، وكونوا بعدَ صيامكم كما كنتم من مواصَلَة الخير والاستقامةِ على الهدى، واشكروا الله على نعَمِه، صيِّروا هذا العيدَ عيدَ فرح وسرور، عودوا المرضَى، وزوروا الأرحامَ، وفرِّجوا همَّ المهمومين، ونفِّسوا كربَ المكروبين، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، احذَروا دعاةَ السوء والفساد وإن تظاهروا بالإصلاح، فالله يعلم إنهم مفسِدون، إنهم يسعَونَ في الأرض فسادًا، ولا يريدون لكم خيرًا ولا صلاحًا. فاتَّقوا الله في أنفسكم، واحذروا الدعاياتِ المضلِّلة والإعلامَ الجائِر الذي يحاوِل أن يصوِّرَ أنّه مصلِحٌ وأنّه ينصَح ويوجِّه، والله يعلم أنه مفسِد وأنّ هدفَه السوء، ولكن كما قال الله: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر: 43].
أيها المسلمون، اعلموا أن أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أمّة الإسلام، صُمنا هذا الشهرَ بسنّة رسول الله حيث قال: ((فإن غمّ عليكم فأكمِلوا شعبانَ ثلاثين)) [5] ، وأفطرنا بسنّة رسول الله حيث قال لنا: ((صوموا لرُؤيته، وأفطروا لرؤيته)) [6] ، وقال لنا: ((إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتُموه فأفطروا)) [7]. فأفطَرنا هذا اليومَ بناءً على رؤيةٍ شرعيّة واضحَة والحمد لله. والذين يدَّعون أنّ خطأً في رؤيتنا، أو يدّعون أنّ الفلكيِّين أجمعوا على أن الهلالَ لا يُمكن أن يُرَى ليلةَ السّبت كلّها دعايَةٌ مضلِّلة، وكلّها افتراءٌ وتنطّع وتكلُّف، فإنّ الله جلّ وعلا جعل صومَنا بالرّؤية أو بإكمالِ شعبان، وفطرَنا إما بإكمال رمضانَ ثلاثين أو برؤيةِ الهلال مساءَ تسعٍ وعشرين، فصُمنا بأمرِ الله، وأفطرنا بأمر الله، فالحمد لله على موافقَةِ شرعِه في صيامنا وقيامنا. ثبَّتنا الله وإياكم على الحقّ.
أيها المسلمون، صلّوا على محمّد نبيِّ الله كما أمركم بذلك ربكم: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولِك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين الأئمة المهديّين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وكرمِك وجودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا...
[1] رواه البخاري في الأدب (6018، 6019)، ومسلم في الإيمان (47، 48) عن أبي هريرة وأبي شريح العدوي رضي الله عنهما.
[2] رواه البخاري في الأدب (6016) عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه بلفظ: ((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوايقه)).
[3] رواه البخاري في البيوع (2079، 2082، 2110، 2114)، ومسلم في البيوع (1432) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه.
[4] رواه البخاري في الأدب (5976)، ومسلم في الإيمان (87) عن أبي بكرة رضي الله عنه.
[5] رواه البخاري في الصوم (1907)، ومسلم في الصيام (1080) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[6] رواه البخاري في الصوم (1909)، ومسلم في الصيام (1081) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] هو لفظ من ألفاظ الحديثين المتقدمين.
(1/3533)
صناعة الأمل
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
علي بن سعيد الأسمري
جدة
عمرو بن العاص
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حاجتنا إلى صناعة الأمل في ظل واقعنا المرير. 2- قصة إسلام الأنصار. 3- الهجرة النبوية دروس في صناعة الأمل. 4- المنحة قد تأتي في طيات المحنة. 5- بعض الخطوب التي ألمَّت بالمسلمين ثم كان الفرج. 6- اليأس والقنوط ليسا من صفات المؤمنين.
_________
الخطبة الأولى
_________
وبعد: ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل ونحن نقف مع السيرة ومع حديث الهجرة نأخذ دروسًا في ذلك، فإلى ذلك، إلى ليلة من ليالي الموسم بمنى، والذي تجتمع فيه قبائل العرب للحج، وفي مجلس من المجالس، كان ستة نفر منزوين يتحادثون ويتسامرون فيسمع حديثهم رجلان فيأتيانهم، فمن كان يظن أن يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟ ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم، فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا، فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة، ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يُطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيمًا تذروه الرياح. من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟
يا سبحان الله! إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا ُيقدّر، لقد طاف رسول الله بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدًا، كان يقول في كل موسم: ((من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي)) ، ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريشٍ لا يفتنك!
لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاؤوا على ضعف وقلة.
إنها الأقدار يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله.
ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة، وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا، ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب، قال جابر بن عبد الله وكان أحد النفر الستة قال عن قصتهم: حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعًا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله علام نبايعك؟ قال: ((على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم، ولكم الجنة)) ، قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه. [مسند أحمد].
أرأيتم؟! يُعرِض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتُسد الأبواب، ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة!
فهل يدرك هذا المعنى المتعلقون بأذيال الماديةِ الصارخةِ والنافضون أيديَهم من قدرة الله وعظمته؟! وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبةِ المغلوبة على أمرها؟!
إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء، وعلينا أن نعمل على أن نحمل دعوتنا إلى العالمين وأن لا نحتقر أحدًا ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما يظلمُ الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل اللهَ يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجرٍ واعد، ومن يدري لعل آلامَنا هذه مَخاض العزة والتمكين.
عباد الله، ونحن في عامٍ هجري جديد يقبل محملاً بما فيه، وعلى أعقاب عام هجري مضى مودع بما استودعناه، نقف متذكرين هجرة المصطفى ، إنها ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع. إنها وقفة نستقرئ فيها فصلاً من فصول الحياة خطه رسول الله وصحبه. إنها رجعة إلى العقل في زمن طاشت فيه العقول. ووقفة مع الروح في زمن أسكرت الأرواح فيه مادية صخابة جرافة.
إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبرها صناعة الأمل، نعم إن الهجرة تعلم المؤمنين فن صناعة الأمل. الأمل في موعود الله، الأمل في نصر الله، الأمل في مستقبل مشرق لـ"لا إله إلا الله"، الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.
لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين. وها هو رسول الله يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.
قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه.
وعلى أن كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله ، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم، مع ذلك صنع رسول الله الأمل، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَـ?هُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:9]. خرج الأسير المحصور يذر التراب على الرؤوس المستكبرة التي أرادت قتله، وكأن هذا التراب رمز الفشل والخيبة اللذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء. ويمضي رسول الله في طريقه يحث الخطى حتى انتهى وصاحبه إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، فحفيت قدما رسول الله وهو يرتقيه، فحمله أبو بكر وبلغ به غار ثور ومكثا هناك ثلاثة أيام.
ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله، لو أن بعضَهم طأطأ بصَره لرآنا! فيقول : ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)).
وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خُطوات. فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل، وكيف تتغشى عنايةُ الله عبَاده المؤمنين، إِنَّ ?للَّهَ يُدَافِعُ عَنِ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ [الحج:38].
وإذا العنايةُ لاحظتك عيونُها نم فالحوادثِ كلهن أمانُ
ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول، لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما:
لا دروعٌ سابغاتٌ لا قناه مشرعات لا سيوف منتضاه
قوة الإيمانِ تغني ربَها عن غرارِ السيف أو سنِ القناه
ومن الإيمانِ أمنٌ وارفٌ ومن التقوى حصونٌ للتقاة
يسير الصاحبان حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعًا في جائزة قريش مؤملاً أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما وسمع قراءة رسول الله ، ومرة ثالثة، وهذا الفارس على وشك أن يقبض عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال، مرة ثالثة يصنع الأمل، ولا يلتفت رسول الله إلى سراقة ولا يبالي به وكأن شيئًا لم يكن، يقول له أبو بكر: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا، فيقول له مقالته الأولى: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ?للَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].
لقد اصطنع الأمل في الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر للرسول من حيث لا يحتسب، وعاد سراقة يقول لكل من قابله في طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ما ها هنا، فكان أول النهارِ جاهدًا عليهِما وآخرَه حارسًا لهما.
ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول ، الرجل الذي قدم لهم الحياة وصنع لهم الأمل، الرجل الذي أنقذهم من أن يكونوا حطبًا لجهنم. يبلغهم الخبر فيخرجون كل غداة لاستقباله حتى تردهم الظهيرة، كيف لا وقد اقتربت اللحظة التي كانوا يحصون لها الأيام ويعدون الساعات. قال الزبير: فانقلبوا يومًا بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أُطمًا من آطامهم لينظر إليه فبصر برسول الله وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا صاحبكم الذي تنتظرون.
فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله بظاهر الحرّة، تلقوه بقلوب تفيض سعادة وفرحًا. وتأمّل مظاهرَ الفرحة الغامرة قال أنس: شهدت يوم دخل النبي المدينة فلم أر يومًا أحسن منه ولا أضوأ منه. [رواه الحاكم].
قال أبو بكر: ومضى رسول الله حتى قدم المدينة، وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق، وصاح النساء والخدام والغلمان: جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد، جاء رسول الله. [رواه الحاكم].
قال أنس: لما قدم رسول الله المدينة لعبت الحبشة لقدومه فرحًا بذلك، لعبوا بحرابهم. [رواه أبو داود].
وصدق من قال:
أقبِِل فتلك ديارُ يثربُ تقبلُ يكفيك من أشواِقها ما تحملُ
القومُ مذ فارقت مكة أعين تأبى الكرى وجوانح تتململُ
يتطلعون إلى الفجاج وقولُهم أفما يطالعنا النبي المرسل
رفت نضارتها وطاب أريجها وتدفقت أنفاسها تتسلسل
فكأنما في كل دار روضة وكأنما في كل مغنى بلبل
وهكذا أيها الإخوة الكرام، تعلمنا الهجرةُ في كل فصل من فصولِها كيف نصنعُ الأمل، ونترقب ولادةَ النورِ من رحم الظلمة، وخروج الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات. فما بعد اشتدادِ ألمِ المخاضِ إلا الولادة، وليس بعد ظلمةِ الليل إلا انبثاق الفجر، فَإِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ ?لْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:5، 6]، ولن يغلب عسرٌ يسرين، فابشروا وأملوا وعودوا واستغفروا الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي نشر بقدرته البشر، وصرَّف بحكمته وقدَّر، وابتعث محمدًا إلى كافة أهل البدو والحضر، فدعا إلى الله، فعاداه من كفر، فاختفى واستتر، إلى أن أعز الله الإسلام برجال كأبي بكر وعمر. فصلوات الله عليه، وعلى جميع أصحابه الميامين الغرر، وعلى تابعيهم بإحسان على السنة والأثر. صلوات الله عليه ما هطلت الغمائم بهتَان المطر، وهَدَلت الحمائم على أفنان الشجر، وسلم تسليمًا كثيرًا على سيد البشر.
سلام على جَمعٍ الْتَقى حبًا في ذكر الله، وحيَّا الله قلوبًا أقبلت تأرز إلى بيوت الله، وعلى حبكم ـ أيها الجمع ـ أشهد الله، وأسأله أن يجمع قلوبنا على تقواه، وأن يظلنا تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله. اللهم اجعل هذا الجمع في صحائف الحسنات، في يوم تَعزُّ فيه الحسنات، واغفر اللهم لنا ما يكون من زلات. اللهم بك نعتضد، ومن فيض جودك نستمد، اللهم اجعل هذه الكلمات خالصة لوجهك الكريم، وصلة للفوز بجنات النعيم، وانفع بها من تلقاها بالقبول، وبلغنا وسامعها من الخير أجلّ المأمول، أنت أكرم مسئول على الدوام، وأحق من يرتجى منه حسن ختام.
أما بعد: عباد الله، ما أحوجَنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل. فمن يدري؟! ربما كانت هذه المصائب بابًا إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوليس قد قال الله: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [البقرة:216]؟!
لقد ضاقت مكةُ برسول الله ومكرت به فجعل نصرَه وتمكينَه في المدينة. وأوجفت قبائل العرب على أبي بكرٍ مرتدة، وظن الظانون أن الإسلامَ زائلٌ لا محالة، فإذا به يمتدُ من بعد ليعم أرجاء الأرض. وهاجت الفتنُ في الأمة بعد قتل عثمان حتى قيل: لا قرار لها، ثم عادت المياه إلى مجراها، وتتوالى الفتوحات ليصل بنو عثمان قلبَ أوربا. وأطبق التتارُ على أمةِ الإسلام حتى أبادوا حاضرتَها بغداد سُرّة الدنيا، وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم، وقيل: ذهبت ريح الإسلام، فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها. وتمالأ الصليبيون وجيشوا جيوشَهم وخاضت خيولَهم في دماء المسلمين إلى ركبها، حتى إذا استيأس ضعيفو الإيمان نهض صلاح الدين فرجحت الكِفةُ الطائشةُ وطاشتِ الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد. وقويت شوكةُ الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والعبيديون على مصر وكتبت مسبّة الصحابة على المحاريب، ثم انقشعت الغمة واستطلق وجه السُّنة ضاحكًا.
وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم، فلم اليأس والقنوط؟!
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
أيها المسلمون، إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، قال سبحانه: وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ ?للَّهِ إِلاَّ ?لْقَوْمُ ?لْكَـ?فِرُونَ [يوسف:87]. قال ابن مسعود : (أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله).
إذا اشتملت على اليأسِ القلوبُ وضاق لما بهِ الصدرُ الرحيبُ
ولم تر لانكشافِ الضرِ وجها ولا أغنى بحيلتِه الأريبُ
أتاك على قنوطٍ منك غوثٌ يمنُ به اللطيفُ المستجيبُ
وكل الحادثاتِ وإن تناهت فموصولٌ بها الفرجِ القريب
فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام، يا من احترقت قلوبهم لآلامها، نعمّا هذا الألم وما أصدقه على إيمانكم وحبِكم لدينِكم، ولكن لا يبلغن بكم اليأسَ مبلغه، فإن الذي أهلك فرعون وعادًا وثمود وأصحاب الأيكة والذي رد التتار ودحر الصليبيين قادر على أن يمزق شمل الروم والروس ويبدد غطرسة الصهيونية ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة.
وأنت يا من ابتلاك الله في رزقك أو صحتك أو ولدك، أنت يا من جهدك الدَّين والحاجة وانتهكتك العلل وأخذ الموت أحبابَك وعُدت في أعين الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد، أنت يا من أصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، ويا من سُدت في وجهك منافذ الرزق وأبواب الحلال، أنت هل نسيت رحمة الله وفضله وأن الدنيا متقلبٌ بين حزن وسرور، وضيقٍ وحبور، وأن العاقبةَ لمن اتقى، وأن الجنة هي المأوى ولسوف يعطيك ربك فترضى، وأن الدنيا دار البلاء فمن سخط فعليه السخط، ومن رضي فله الرضا؟! فمع الألم يصنع الأمل، وإذا حل الأجل انقطع العمل.
اللهم إنا نعوذ بك من اليأس والقنوط ومن العجز والكسل، اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء، اللهم إنا نعوذ بك من فجاءة نقمتك وتحول عافيتك وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك بأنَّا نشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، نسألك بكل اسم هو لك، ونسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تنصر المجاهدين، وأن تصلح من في صلاحه صلاح الإسلام والمسلمين، وأن تهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام، ولا تهلكنا وأنت رجاؤنا، اللهم عليك بمن كاد لنساء المؤمنين وسعى لإفسادهن، حسبنا الله على من خطط لفساد دينهن وتعليمهن، حسبنا الله على من سعى لتحررهن وسفورهن، حسبنا الله وكفى، ليس دون الله ملجأ ولا ملتجأ، سمع الله لمن دعا، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل، حسبنا الله ونعم الوكيل. وآخر دعوانا أَنِ الحمد لله رب العالمين.
(1/3534)
آفات اللسان
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
أحمد بن عبد الكريم نجيب
دبلن
مسجد دبلن
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التحذير من آفات اللسان. 2- من آفات اللسان الغيبة والبهتان والاستطالة على المؤمنين. 3- مواضع تجوز فيها الغيبة. 4- النميمة وما فيها من الوعيد. 5- تتبع عثرات العلماء وزلاتهم. 6- المبادرة إلى التوبة قبل فوات الأوان. 7- شروط التوبة الصحيحة من آفات اللسان.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: عبادَ الله، فإنَّ الإسلام حثَّ على الخلق الكريم وأعلى قَدره، وحذَّر من الخلق الذميم وأكفَأَ قِدْره، حتى قُبِض رسول الله وما من خير إلا دلّنا عليه، ولا شر إلا حذّرنا منه وأخذ بِحُجَزِنا فصرفنا عنه.
والمرءُ ـ يا عبادَ اللهِ ـ بأصغَرَيه: قلبِهِ ولسانِه كما قال عمرو بن معد يكرب. وعلى صلاحهما وفسادهما يكون صلاح الإنسان أو فساده، وقد تناولنا في خطبةٍ سابقةٍ أمراضَ القلوب تشخيصًا وعلاجًا.
وتتميمًا للفائدة وتعميمًا للذكرى نتناول اليومَ بالذِكرِ آفات اللسان ونقف على بعض أمراضها وأخطارها، علَّ الله تعالى يوفقنا لتوقّي الوقوعَ فيها، وتحاشي أضرارها.
روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله ، أنّه قال : (( من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) ، وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) رواه الترمذي وقال: " هذا حديث حسن صحيح".
وقد أحسن من قال في التحذير من آفات اللسان:
احفَظ لسانَكَ أيُّها الإنسانُ لا يَلدغَنَّكَ إنَّه ثُعبانُ
كم في المقابِرِ من لديغِ لِسانِه كانت تهابُ نِزالَهُ الشُجعانُ
عبادَ الله، آفات اللسان كثيرة، ومدارُها جميعًا على الاسترسال في القيل والقال، وبَسطِ الكلام، وإرسال المقال، وهذه آفةٌ مُوبِقةٌ، حذَّر منها خير الخلق فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال : قال رسول الله : (( إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)).
ومن أشنَع آفات اللسان الاستطالة في أعراض المؤمنين بغير حقٍّ، ومَن عَرَفَ حقيقة الإسلام ومبادِئه وَقَفَ على نكيره على من استطال في عرض أخيه المسلم، فأوسعه استنكارًا، وتوعَّدَه نارًا، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ يُؤْذُونَ ?لْمُؤْمِنِينَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تِ بِغَيْرِ مَا ?كْتَسَبُواْ فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
روى الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية عن قتادة قوله: فإياكم وأذى المؤمن, فإن الله يحوطُه, ويغضب له. وقوله: فَقَدِ ?حْتَمَلُواْ بُهْتَـ?نًا وَإِثْمًا مُّبِينًا يقول: فقد احتملوا زورًا وكذبًا وفِريةًَ شنيعةً; والبهتان أفحش الكذب، وَإِثْمًا مُّبِينًا يقول: وإثما يبين لسامعه أنه إثم وزور. اهـ.
وقال سبحانه وتعالى: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ إِنَّ ?للَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12].
وروى مسلم والترمذي وأبو داود وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : (( أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟)) قَالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ))، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ)).
وفي الإحياء أن الحسن رحمه الله قال: "ذِكرُ الغير ثلاثة: الغيبة، والبهتان، والإفك، وكلٌ في كتاب الله عز وجل؛ فالغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك".
وروى الشيخان عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله قال في خطبة حجة الوداع: ((إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بَلَّغت؟!)). وصحّ أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن أربى الربا استطالة الرجل في عِرْض أخيه)) السلسلة الصحيحة (1433). وليت شعري، أيُّ استطالة في عرض المسلم أشنع من أن يُذْكر بما يكره في غَيْبته فَيُحَطّ من قدره، ويُنْقَص من شأنه؟!
لقد حرم الإسلام الغيبة، وما كان تحريمها عبثًا في دين قدَّم دَرْء المفاسد على جلب المصالح، وجعل التخلية أولى من التحلية؛ بل حُرِّمت بعد أن ثبت لذوي الألباب كونها ذريعة إلى تفكيك المجتمع وتمزيق شمله وحَلِّ عُراه.
فبالغيبة تنتعش الأحقاد، وعلى مائدتها تتوالد الخصومات، ومن أفواه لائكيها تتطاير الجراثيم وتنتشر الأَرَضة، وتتسلط على جسد الأمة فتنخره وتُحيله كعصفٍ مأكولٍ.
وداءٌ كداء الغيبة لا يُنجعه دواء، ولا يُدْرِكُ صاحبَه شفاء، الأمر الذي من أجله انعقد الإجماع على استئصاله من جذوره واقتلاعه من عروشه، فكان الحُكم الفصل تحريمَ الغيبة إجماعًا كما حُرِّمَتْ كتابًا وسنةًً، وحكى الإجماعَ على تحريمها أئمّة أعلام كابن حزم والنووي وابن حجر والغزالي والقرطبي وغيرهم، ولم يرخّصوا في شيءٍ منها سوى ستّة صُوَرٍ مستثناةٍ من التحريم للحاجة إليها في جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد أحسَن من نظَمَها في قوله:
القدْحُ ليس بغيبة في ستة: متظلمٍ ومعرِّف ومحذر
ومجاهرٍ فسقًا ومستفتٍ ومَن طلب الإعانة في إزالة مُنكرٍ
ولتفصيل الكلام في هذه الأمور الستّة مقام آخر عسى أن يكونَ قريبًا.
عبادَ الله، لا يقل في الخطورة والتحريم عن داء الغيبة داءٌ عضال آخر وآفة آخرى من آفات اللسان هي آفة السعي بين الناس بالنميمة، وهي كالغيبة في التحريم بالنصّ والإجماع.
روى الشيخان وغيرهما عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((لا يدخل الجنّة نمّام)) وفي رواية: ((قتّات)) ، والمعنى واحد، وقيل كما في فتح الباري: الفرق بين القتّات والنمام أن النمام الذي يحضر فينقلها، والقتات الذي يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه.
والنميمة من الأسباب الموجبة لعذاب القبر، فقد روى الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله مر على قبرين فقال : (( أما إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)).
عبادَ الله، من آفات الألسُن أيضًا تتبّع زلاّت العلماء والتذرّع بها إلى الطعن في بعضهم والنيل من آخرين واتّخاذُهم عَرَضًا، بدعوى أنّ ذلك من النصيحة لله ولرسوله، ومن الذبّ عن شريعته الغراء المطهّرة.
رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (ويلٌ للأتباع من عثرات العالِم)، قيل: وكيف ذاك؟ قال: (يقول العالم شيئًا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع) [الموافقات للشاطبي (3/318)، والفتاوى الكبرى لابن تيميّة (6/96)]. وعنه رضي الله عنه أنّه قال: (ويلٌ للعالم من الأتباع) أي: لما يتابعونه فيه ويتناقلونه عنه من الزلات.
ومِن آفات اللسان إساءةُ الأتباع إلى العلماء بإشاعة أقوالهم في أقرانهم، مع أنّ المقرّر عند أهل العلم أنَّ كَلامَ الأَقْرَانِ يُطْوَى ولاَ يُرْوَى، كما قال الإمام الذهبي رحمه الله في السير (5/275).
وما أجمل قول الإمام السبكي رحمه الله: "ينبغي لك ـ أيها المسترشد ـ أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحًا عما جرى بينهم، فإنك لم تخلق لهذا، فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك" طبقات الشافعية (2/39).
فليتّق الله أقوام مثلهم كمَثَل الذباب لا يقعون إلا على الجِراح كما جاء في وصف شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله بعضَ من عاشوا في زمنه.
يا ناطحَ الجبلِ العالي لتَكْلِمَهُ أشفِق على الرأسِ لا تُشفِق على الجَبَلِ
عباد الله، إنّ لما ذكرناه وما لم نذكره من آفات اللسان مرتعٌ خصبٌ في حياةٍ ملؤها الفراغ والدعة، كحياة الكثيرين منّا؛ إذْ كُفلتْ أقواتُهم، وما ضُبِطَت أقوالُهم، فاستشرَت آفاتُ ألسنتهم عن علمٍ تارةً، وعن جهالةٍ تاراتٍ أُخَر.
إنَّ الفراغ والشبابَ والجِده مفسدةٌ للمرءِ أيُّ مَفسده
فاتقوا الله يا عباد الله، واشغلوا أوقاتكم وعطّروا مجالسكم بما يرضي الله ويكفُّ عن الوقوع في محارمه، واعلموا أنّ الحرام للبركة ممحقة، وأن المعاصي لأسباب السعادة مُسحقة، والندامة بمقترفها لاحقة.
وفّقني الله وإيّاكم لخيرَيْ القول والعمَل، وعصمنا من الضلالة والزلل.
وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّّّه محمّد وآله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عِوَجًا، فصَّلَ وبيَّنَ وقرَّر صراطًا مستقيمًا ومنهجًا، ونَََصَبَ ووضَّح من براهين معرفته وتوحيده سلطانًا مبينًا وحُجَجًا. أحمده سبحانه حمدَ عبدٍ جَعلَ له من كلِّ همٍّ فَرَجًا، ومن كلِّّّ ضيقٍ مَخرَجًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً ترفَعُ الصادقين إلى منازل المقرّبين دَرَجًا، وأشهد أنَّ محمّدًا عبدُه ورسوله الذي وَضَعَ الله برسالته آصارًا وأغلالاً وحَرَجًا.
وبعد: فيا أمّةَ الإسلام، إذا تبيّن عِظَم الداء فلا بدّ من التماس الدواء، ودواء من ابتليَ بشيءٍ من آفات اللسان أن يبادر إلى الإقلاع والتوبة إلى الله تعالى قبل أن لا يكون درهم ولا دينار.
روى مسلم والترمذي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟)) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ ولا مَتَاعَ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وصِيَامٍ وزَكَاةٍ ويَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا، وأَكَلَ مَالَ هَذَا، وسَفَكَ دَمَ هَذَا، وضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْه، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)).
فليبادر من ابتلي بآفات اللسان وبخاصةٍ الغيبة إلى التوبة، وليعلَم أنّ التوبة من ذنبٍ كهذا لا بدّ أن تتوفّر فيها شروط التوبة العامّة الثلاثة، وهي: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات من فعله، والعزم على عدم العودة إليه مستقبلاً. ويضاف إلى هذه الشروط أن يتحلّل ممّن أساء إليه.
وعلى التائب منها أن يراعي المصلحة والمفسدة قبل أن يعتذر ممّن أساء إليهم، فإن لم تكن الغيبة قد بَلَغت المغتاب فالأولى عدم طلب السماح منه، والاكتفاء بالرجوع عن الغيبة أمام من سمعها، وتبرئة ساحة من طالته بالرجوع عنها، والتعريف بمحاسنه والثناء عليه بما فيه.
أمّا إذا كانت الغيبة قد بلغت المقصود بها، فإن غَلَب على ظنّ الواقع في الغيبة أنّ من سيعتذر منهم يقبلون اعتذاره بادرهم به، وإن رأى أنّ إصلاح ذات البين يمكن تحقيقها بالتلطّف وتقديم الهدايا إليهم فعَل، ودَرَأ سيئاته بحسنات مثلها أو أكبر منها.
وإن غلَب على ظنّه أن اعتذاره لن يُجديَ معهم نفعًا، أو أنّه قد يؤدي إلى زيادة الفرقة والضغينة في النفوس، فليلجأ إلى الإحسان إليهم بالدعاء وذكر محاسنهم والكفّ عمّا يسوؤهم أو يسيء إليهم، لعلّ الله أن يلهمهم الصفح، ويقيلوا عثرةَ صاحبهم فيغفر له، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الحجرات: "قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع عن ذلك، ويعزم على أن لا يعود، وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يُشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربّما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذًا أن يُثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك".
فلنبادر ـ يا عباد الله ـ إلى التوبّة، إذ كلُّنا خطّاء، وخير الخطّائين التوّابون.
ألا وصلّوا وسلّّموا على نبيكم الأمين، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم، فقال ربّ العالمين: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ونبيّك محمّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين...
(1/3535)
فتنة التباس الحقّ وغيابه
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي
سعود بن إبراهيم الشريم
مكة المكرمة
21/10/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- غياب الحق ولبسه بالباطل من أعظم الفتن. 2- خطر تحريف الإسلام. 3- خطر الفرقة والاختلاف. 4- حقيقة المجتمع المسلم. 5- ذم كتمان الحق ولبسه بالباطل. 6- حقيقة التلبيس والتضليل. 7- طرق التدليس والتلبيس. 8- واجب المسلم. 9- ضرورة اللجوء إلى الله وطلب الهداية منه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فإنّ الوصية المبذولةَ لي ولكم هي تقوى الله سبحانه ومراقبتُه فيما نأتي وفينا نذَر، فبالتقوى تحصُل الولاية وتزَفُّ البُشرى، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس:62-64].
أيها المسلمون، إنّ من أعظم الفِتن التي تعاني منها جملةٌ مِنَ المجتمعات المسلِمة في عصرنا الحاضِر هي فتنة غيابِ الحقّ ولَبسه بالباطل، وفقدان هيمَنَة المرجعيّة الصّريحة الصحيحة في إبداءِ الحقّ ونُصرته أمامَ الباطل وإظهاره على الوجه الذي أنزله الله على رسوله دون فتونٍ أو تردّد من إملاقٍ أو خشية إملاق أو تأويلات غلَبت عليها شبهاتٌ طاغِيَة أو شهواتٌ دائمَة، مما يجعلها سببًا رئيسًا في تعرّض صورةِ الإسلام وجَوهرة في المجتمعاتِ المسلمة لخطرين داهمين:
أحدهما: خطَر إفسادٍ للإسلام، يشوِّش قِيَمه ومفاهيمَه الثابتةَ بإدخال الزَّيفِ على الصحيح والغريب الدخيل على المكين الأصيل، حتى يُغلَبَ الناس على أمرِهم في هذا الفهمِ المقلوب، ويبقى الأمَل في نفوسِهم قائمًا في أن تجيء فرصَةٌ سانحة تردّ الحقَّ إلى نصابه، وهم في أثناءِ ذلك الترقُّب يكونون قد أُشرِبوا في قلوبهم الاعتقادَ الفاسدَ بأنّ ما يفعلونه من هذا البُعدِ والقصور في التديُّن والخَلط بين الزَّين والشَّين هو الإسلام بعينِه، فإذا ما قامَت صيحاتٌ تصحيحيّة تدعوهم إلى الرجوعِ إلى المنهج الحقّ والتمسُّك بالشِّرعة الخالدة كما أنزلها الله أنكَروا عليهم ما يدعون إليه، واتهموا الناصحين بالرَّجعية والجمود والعضِّ على ظاهِرِ النصوص دون روحِها وأغوارِها، كذا يزعم دعاةُ التلبيس والتدليس، ولسانُ حالهم عند نصحِ الناصحين ينطق بقوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11، 12].
ويؤكّد كلامنا هذا مقولةُ ابن مسعود رضي الله عنه التي يقول فيها: (كيف بكم إذا لبِستكم فتنةٌ يربو فيها الصغير، ويهرمُ فيها الكبير، وتُتَّخَذ سنّة، فإن غُيِّرت يومًا قيل: هذا منكَر)، قالوا: ومتى ذلك؟ قال: (إذا قلَّت أمناؤكم، وكثُرت أمراؤكم، وقلَّت فقهاؤكم، وكثُرت قُرّاؤكم، وتُفُقِّه في غير الدّين، والتُمِست الدنيا بعمل الآخرة) [1].
وأما الخطر الثاني ـ عبادَ الله ـ فهو أنَّ هذا التلبيسَ والتضليل ينتهي بالمسلمين إلى الفُرقةِ التي يصعب معها الاجتماع؛ إذ كلُّ طائفةٍ ستزعم أن لها منهجَها الخاصَّ بها، فتتنوَّع الانتماءات إلى الإسلام في صُورٍ يُغايِر بعضها بعضًا كالخطوط الممتدّة المتوازيةِ التي يستحيل معها الالتقاءُ، حتى إننا لنَرى بسبب مثلِ ذلك إسلامًا شماليًّا وإسلامًا جنوبيًّا وإسلامًا شرقيًّا، وآخر غربيًّا، وإنما الإسلام شِرعة واحدةٌ وصبغة ما بعدَها صِبغة، ولكنه التضليل والتلبيس الذي يفعَل بالمجتمعاتِ ما لا تفعلُه الجيوشُ العاتِيَة.
إنَّ المجتمعَ المسلِمَ النّقيّ التقيّ هو ذلكم المجتمَع الذِي تسود فيه أجواءُ النّقاء في المنهَج والوضوح في الهَدَف وسلامة السّريرة في الحكم والفتوَى والتربية والتعليم والأحوال الشخصيّة والمعاملات والشموليّة في الالتزامِ بالإسلامِ على منأًى وتخوُّف مِن تهميش أيٍّ من جوانِبِه التي شَرعَها الله أو الزّجَّ بها في رُكام الفوضَى والمساوَمَة والتنديد.
وإنّ المتتبِّعَ لِسِيَر عصورِ الخلافاتِ الرّاشدة عبر التاريخِ ليقطَع باليَقين أنّ تلك العهودَ كانت عرِيّة عن مزالقِ التلبيس والتضليل والخِداع والمراوغة في التعامُل مع الشريعةِ الغرّاء من كافّةِ جوانبها، ولذلك حصَل لهم ما حصَل من الشَّأو الرفيع والمُلك الواسع في الدنيا، وما ذلك إلا بفضلِ الله عليهم ثم بما حبَوا به أنفسَهم من الصدقِ في الباطن والمخبر المتَرجَم في الواقع والمظهَر، وهم مع ذلك ليسُوا أنبياءَ ولا كانوا على شريعةٍ غير شريعتِنا، وليس لهم كتابٌ غير الكتاب الذي نقرَأ، ولا سنّةٌ غير سنّة المصطفى ، ولكنه إيمانٌ راسخ بالله وبرسولهِ ، صدَّقه العملُ على أرضِ الواقع واستلهامُ العِبَر مِن كتاب ربهم حينما عابَ وذمَّ من جعَل من التلبيسِ والتضليل منهجَ حياة ليخدَع به ربَّه ويخدَع به السُّذَّجَ والرّعاج من بني جِنسِه: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9].
إنّ كتابَ الله جل وعلا مليء بالآيات الذامَّةِ لممتَهِني التضليل والتلبِيس، إمّا بنصِّ الكلمة نفسِها أو بمشتقَّاتها ومعانيها، فقد عاب الباري سبحانه على بعض أهلِ الكتاب مخادعةَ أقوامِهم وشعوبهم حينما يدسّون في شريعتِهم ما ليس منها لتلقَى الرواجَ والانتشار في صفوفِهم، وليظهروا لهم بمظهَرِ المصحَّح المشفِق، وذلك حينما قال الله عنهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:78، 79]، وقال في موضع آخر: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:78]، ومن ذلك قول الله عنهم: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، ويؤكد هذا الذمَّ بقوله في موضع آخر: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران:71].
إنّه التدليس والمراوغةُ والتلبيس والخِداع الذي يُردِي بالمجتمعات ويُهلِكها عندما يدِبُّ في صفوفها أو يموج فيها كمَوج البحر، وذلك من صِفات الأمّة الغضبيَّةِ والأمّة الضالة.
أيّها المسلمون، التلبيسُ والتضليل هو إظهارُ الباطل في صورةِ الحقّ وجعلُ الشَّين زَينًا والشرِّ في صورةِ الخير، وإنَّ من المقرَّر في هذا الأمرِ الخطير أنّ من يعاقر لَبسَ الحقّ بالباطل يجد نفسَه مضطرًّا لأن يكتمَ الحقَّ الذي يبيّن أنه باطل؛ إذ لو بيَّنه لزالَ الباطل الذي كان يعاقره ويلبس به الحقَّ، وهذا أمرٌ يغيب عن أذهانِ كثيرٍ من الناس في التعامُل مع المطارحاتِ التغريبيّة والمحاولات التسلُّليّة بدعوَى التجديد والتّصحيح والنهوضِ بالمجتمعات إلى مستوَى مسايرةِ الرَّكب واستجلاب كلِّ ما يخدم ذلك من تأويلاتٍ وشبهات ولَيّ لأعناقِ النصوص الواضحات، يقول بعض السلف: "إنَّ الحقَّ إذا لُبس بالباطل يكون فاعلُه قد أظهرَ الباطلَ في صورةِ الحقّ، وتكلّم بلفظٍ له معنيان: معنى صحيح ومعنى باطل، فيتوهَّم السامعُ أنه أراد المعنى الصّحيح، ومراده في الحقيقةِ هو المعنى الباطل".
ثم اعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ للتدليسِ والتلبيس وسائلَ متعدِّدة، فإنّ مواقعي ذلكم لا يلزَمون طريقًا واحدةً، كما أنهم في الوقتِ نفسه ربما لا يُتقِنون كلّ طرُقِها، ولذلك قد يلجَأ بعضُهم إلى التأويل الفاسدِ واتّباع المتشابِه من النصوصِ الشرعية التي تخدم مصالحَهم وتوجُّهاتهم، فيقعون في لبسِ الحقّ بالباطل، وقد ذمّ الله مَن هذه صفتُه بقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عمران:7].
وهذا المسلك الخطيرُ ـ عباد الله ـ لا يمايز بين أهل الأهواءِ وأصحاب الزّيغ والشبهات فحسب، بل يمتدّ أثرُه إلى كلّ من آثرَ الدنيا على الآخرة في عِلمِه وحُكمه وتعامُله كائنًا من كان، قال ابن القيِّم رحمه الله كلامًا مَفادُه أنّ من آثرَ الدنيا من أهلِ العِلم واستحبَّها فلا بدّ أن يقولَ على الله غيرَ الحقّ في فَتواه وحُكمه وفي خبره وإلزامه؛ لأنّ أحكامَ الربّ سبحانه كثيرًا ما تأتي على خلافِ أغراض الناس، ولا سيما أهل الرّياسة، فإذا كان العالم والحاكِم مُحبّين للرياسة متّبِعين للشّهوات لم يتمَّ لهما ذلك إلا بدفع ما يضادّه من الحقّ، ولا سيّما إذا قامت له شبهةٌ، فتستبِق الشّبهة والشّهوةُ ويثور الهوَى، فيختفي الصوابُ وينطمِس وجه الحقّ. انتهى كلامه رحمه الله [2].
فإذا كان هذا الأثر يبلُغ بالعالم والحاكِم هذا المبلَغَ فما ظنُّكم بالصّحفيّ والمفكِّر والسياسيّ والمنظِّر إذًا؟! ألا إنَّ الأثر أبلَغ والهوّة أشقّ، فلا حول ولا قوّةَ إلا بالله.
ثم إنّ أهلَ التلبيس والتدليس قد يسلكون مسلكًا آخر هو من الخطورةِ بمكان أيضًا، وذلك من خلالِ كِتمان الحقّ وإخفائه وعدَم إظهاره للناس وإن لم يَلبسوه بالباطل، ثم هم يُسوِّغون الحججَ والشُبهَ في إخفائه وخطورة إظهاره، ويضخِّمون المفاسدَ المترتِّبةَ على إظهاره في مقابلِ تهوين المصالحِ المترتّبة عليه؛ لأنّ لَبس الحق بالباطل وكتمانَ الحق أمران متلازِمان، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مَن كتم الحقَّ احتاج أن يقيمَ موضعَه باطلاً، فيلَبس الحقَّ بالباطل، ولهذا كان كلُّ من كَتَم من أهل الكتابِ ما أنزل الله فلا بدّ أن يظهرَ باطلاً" [3].
وقد توعّدَ الله أصحابَ هذا المسلكِ بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة:159]، وقد جاء في الصّحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قوله: (لولا آيةٌ في كتابِ الله ما حدّثتُ أحدًا شيئًا) وقرأ هذه الآية [4] ، وجاء في المسند من طرقٍ متعدّدَة مرفوعًا إلى النبيّ : ((من سُئل عن علم فكتمَه أُلجم يومَ القيامة بلجام من نار)) [5].
فالواجبُ علينا ـ عبادَ الله ـ التسليمُ بشريعةِ الله وأنها شريعةٌ خالدة، لا لبسَ فيها ولا زَيفَ، وهي صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومَكان، وأن لا عِزّةَ للأمة إلاّ بها، وأنَّ الخذلانَ والخسارَ والبَوارَ مَرهون بمدَى بُعدِ المسلمين عنها ونأيِهم عن سبيلِها.
وعلينا ـ معاشرَ المسلمين ـ أن لا نغترَّ بالأطروحاتِ المزوّقةِ والتلبيساتِ المنمَّقة في تهميشِ الشريعة، كما أنه ينبغي أن يكونَ موقف المسلم أمامَ أعاصير التضليلِ وزوابعِ التلبيس والتّضليل أن يقول ما امتدَحَ الله به الراسخين في العِلم الذين يقولون أمامَ هذه الفتن المضلِّلة والتشكيك بشريعة الله: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:7].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفارًا.
[1] رواه عبد الرزاق (11/359)، وابن أبي شيبة (7/452)، والدارمي في المقدمة (185، 186)، والشاشي (613)، والحاكم (8570)، زابن حزم في الإحكام (6/315)، والبيهقي في الشعب (5/361)، وصححه الألباني في قيام رمضان (ص4).
[2] الفوائد (ص100).
[3] مجموع الفتاوى (7/172-173).
[4] صحيح البخاري: كتاب العلم (118)، صحيح مسلم: كتاب فضائل الصحابة (2492).
[5] أخرجه أحمد (2/263)، وأبو داود في العلم (3658)، والترمذي في العلم (2649)، وابن ماجه في المقدمة (266) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان (95)، والحاكم (1/101)، ووافقه الذهبي، وحسنه المنذري في مختصر السنن (3511)، وصححه الألباني في تعليقه على المشكاة (223).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله وحدَه، والصّلاة والسلام على من لا نبيّ بعدَه.
وبَعد: فاعلموا ـ يا رعاكم الله ـ أنّ لبعض المفسِّرين كلامًا لطيفًا عن قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42] بأنّ إضلالَ الغير والتلبيسَ عليه لا يحصل إلا بطريقتين: فإن كان ذلك الغيرُ قد سمِع دلائلَ الحقِّ قبل ذلك فإنّ إضلالَه لا يتحقَّق إلا بتشويشِ تلك الدلائل عليه، وإن كان لم يسمَعها من قبل فإنَّ إضلاله إنما يمكِن بإخفاءِ تلك الدلائل عنه ومَنعِه من الوصول إليها، فقوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ إشارةٌ إلى الطريق الأوّلى وهي تشويش الدّلائل، وقوله: وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ إشارة إلى الطريق الثانية وهي مَنعه من الوصول إلى الدّلائل، وكِلتا الطريقتين بلاء.
واللَّبس ـ عبادَ الله ـ إنما يقع إذا غابَ العلم بسبيل الحقّ وسبيل الباطل أو بأحدهما كما قال الفاروق رضي الله عنه: (إنما تنقَض عُرى الإسلام عروةً عروة إذا نَشأ في الإسلام من لم يعرِف الجاهلية) [1]. ومِن هنا ذاعت مقولتُه المشهورة: (لستُ بخبٍّ ولا يخدعني الخبّ) [2] ، والخبّ هو اللئيم المخادِع.
فعلى المسلمِ أن يتّقيَ ربّه سبحانه، وأن يكونَ في دينه على بصيرةٍ، فما فصَّل الله له الآيات إلاّ ليستبين سبيل المجرمين، وإذا ما كثُر اللغَط واللّبس ونطقت الرّويبِضة في أمر العامّة وخلَط الناس قولاً صالحًا وآخر سيئًا فليس إلا اللّجوء إلى الله سبحانه لاستجلابِ الهِداية والوِقاية من اللّبس والتضليل، كما جاء عند مسلم في صحيحه في استفتاح النبيّ لصلاة الليل بقوله: ((اللهمّ ربَّ جبريل وميكائيل، عالمَ الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدِني لما اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)) [3].
يقصُّ علينا ابنُ القيّم رحمه الله موقفَ شيخه ابنِ تيمية في مثلِ هذه المعضِلات فيقول: "شهدتُ شيخَ الإسلام رحمه الله إذا أعيَته المسائلُ واستعصَت عليه فرَّ منها إلى التوبةِ والاستغفار والاستعانة بالله واللّجأ إليه واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائنِ رحمته، فقلَّ ما يلبَث المدَد الإلهيّ أن يتتابع عليه مدّا، وتزدلف الفتوحات الإلهيّة بأيّتِهن يبدَا؟" [4].
فحقيقٌ بمن اتّقى الله وخافَ نكالَه أن يحذَر استِحلالَ محارِمِ الله بأنواع المَكر والاحتيالِ، وأَن يعلمَ أنه لا يخلِّصه من الله ما أظهَره مَكرًا وخديعة من الأقوالِ والأفعال، وأن يعلَمَ أنّ لله يومًا تكِعُّ فيه الرجال ـ أي: تجبُن وتضعف ـ وتنسَف فيه الجِبال وتترادَف فيه الأهوال وتشهَد فيه الجوارِحُ والأوصَال، يوم تبيَضّ وجوهٌ بما في قلوبِ أصحابها من النّصيحة لله ولرسولِه وكتابِه وما فيها من البرّ والصِّدق والإخلاص للكبيرِ المتعال، وتسودّ وجوهٌ بما في قلوبِ أصحابها من الخديعةِ والغِشّ والكَذِب والمكرِ والاحتيال، هنالك يعلَم المخادِعون أنهم لأنفُسِهم كانوا يخدَعون وبدينِهم كانوا يلعَبون، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [الأنعام:123]، إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40].
هذا، وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خير البريّة وأزكى البشرية محمّد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد...
[1] انظر: مفتاح دار السعادة (1/295)، ومدارج السالكين (1/343)، والجواب الكافي (ص152).
[2] ينظر من رواه.
[3] صحيح مسلم: كتاب صلاة المسافرين (770) عن عائشة رضي الله عنها.
[4] إعلام الموقعين (4/131-132).
(1/3536)
سبيل العزة والكرامة
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
صلاح بن محمد البدير
المدينة المنورة
21/10/1425
المسجد النبوي
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التسليم لقضاء الله تعالى. 2- سبب تسلّط الأعداء. 3- حياة الذل والمهانة. 4- ثمن الكرامة وثمن العزة. 5- سوء عاقبة الظالمين. 6- الحكمة من غلبة أهل الباطل. 7- الظهور للإسلام. 8- سبيل العز والكرامة. 9- نداء لأهل الغفلة والمعاصي. 10- سلاح الدعاء.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله فإنَّ تقواه أفضَل عدّة عند البلاء وأمضى مكيدَةٍ عند اللّقاء، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق:4].
أيّها المسلمون، الدّهرُ ذو غِيَر والعَبد ذو ضَجَر، وما هو إلا قَضاء وقدَر، فطوبى لمن أصابَته سرّاء فشَكر، وطوبى لمن أصابَته ضرّاء فصبر، وطوبى لمن أصَابته بلوَى فاعتَبر، وقد يهلِك المرءُ من وجهِ حِذرِه وينجو مِن حيث حَذِر. رُبَّ أمرٍ تتّقيه جرَّ أمرًا ترتضيه، خفِي المحظوظُ منه وبدَا المكروهُ فيه، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة:216].
أيّها المسلمون، لله أن يفعَلَ ما يشاء، ويسلّط مَن يشاء على من يَشاء إذا شاءَ، تقويةً وإقدارًا وتغليبًا وإظهارًا، بما رَأَى من الحكمة وسبَق من الكَلِمة، إمّا عقوبةً ونِقمة وعذابًا، وإمّا تمحيصًا وابتلاء واختبارًا، قال جل في علاه: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ [النساء:90]، وقال جل في علاه: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141]، إلاّ أن يصيبوا من الذّنوبِ ما يكون سببًا لتسلِيط الأعداء وحلولِ البلاء ونزول البأساء والضّرّاء، وما تقاعسَ قومٌ عن التوبةِ وتواصوا بالباطل ولم يتناهَوا عن إذاعَةِ المنكر وظهور المعاصِي والشرّ إلا أحلّوا أنفسَهم الخُسرَ والخذلان والذّلَّ والهوان، فعن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((إذا تبايَعتُم بالعينة وأخَذتم أذنابَ البقر ورضِيتم بالزرع وتركتم الجهادَ سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزِعه عنكم حتى ترجِعوا إلى دينِكم)) أخرجه أبو داود [1] ، ويقول رسول الهدى : ((يا معشرَ المهاجرين: خمسٌ إنِ ابتليتم بهن ونزَلنَ بكم أعوذ بالله أن تدركوهنّ: لم تظهَرِ الفاحشةُ في قومٍ قطّ حتى يُعلِنوا بها إلاّ ظهر فيهم الطّاعونُ والأوجاع التي لم تكن مضَت في أسلافِهِم، ولم ينقُصوا المكيالَ والميزان إلاّ أخِذوا بالسنين وشدّةِ المؤونة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا الزكاةَ إلاّ مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائم لم يُمطَروا، ولم ينقُضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلاّ سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم وأخَذوا بعضَ ما كانَ في أيدِيهم، وما لم تحكُم أئمَّتُهم بكتابِ الله إلاّ ألقى الله بأسَهم بينهم)) أخرجه الحاكم والبيهقي [2].
ووقع صِدقُ الخبر وصَدَق سيّدُ البشر محمّد ، فها هي قوَى الظّلمِ المخذولَة وقد حلّت في العُقر والدّار وغَلَبت على الأرضِ والذِّمار في عدَدٍ من الأمصار والأقطار، في عداوةٍ كامنة أظهَرَتِ الإصلاحَ بمَكنونِ بِغضَةٍ وخِيانة، وشرعت في معاونَةِ شعوبٍ بمُستَسَرِّ عداوةٍ ومُناوَأة، وأبانت عن تحريرِ أوطانٍ بمُضمَرِ إجرامٍ واجتياح واحتلال. ها هِيَ تستبدّ، فتغصِب أرضًا، وتنتهِك شرفًا وعِرضًا، وتُقاتِل تشفِّيًا وحقدًا وبُغضًا، وتنتهِك العقودَ والمواثيق إخلافًا وكذِبًا ونقضًا، ولن يسجِّلَ التاريخ صُورًا سوداء قاتمة كصُوَر الظلم المفضوحِ والعدوان المقبوح على أرضِ الإسلامِ وثَرَاها الطّاهر، ولن يسجِّلَ التاريخ إرهابًا سَافرًا كمِثلِ الإرهابِ الذي يمارَس ضِدَّ المسلمين، وصدق رسول الله : ((يوشِك الأمم أن تداعى عليكم الأمم كما تدَاعَى الأكَلَة إلى قصعتها)) ، فقال قائل: ومِن قِلّةٍ نحن يؤمئذ؟! قال: ((بل أنتم كثير، ولكنّكم غُثاء كغثاءِ السيل، ولينزِعنّ الله من صدورِ عدوّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهن)) ، فقال قائل: يا رسولَ الله، وما الوهن؟ قال: ((حُبّ الدنيا وكراهيةُ الموت)) أخرجه أبو داود [3].
أيّها المسلمون، إنَّ ثمنَ الكرامةِ كبير، وتكاليفَ العِزّة غالية، وإنما تحيَا الأمَم بجهاد أفرادِها وتُنصَر بتضحياتِ رجالها، ولا خيرَ في أمّةٍ يوطَأ مِنَ العِدا أرضُها ويُداس مِنَ البُغاة حريمها، فتَركنَ إلى الإخناع والإخضاع والاستسلام والإخشاع، ولن تُحمَى الأوطانُ إلا بالتضحية والفداء، ولن تُصَانَ الذِّمار إلاّ بالجهاد والإِباء، ولا تقوم الممالِك والأمجادُ إلاّ على مركب العِزّة ومتنِ الكرامة، ورسول الله يقول: ((مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قتِل دون دمه فهو شهيد، ومن قتِل دون دينِه فهو شهيد، ومَن قتِل دون أهلِه فهو شهيد)) [4].
أيّها المسلمون، أين يذهب الظالمُ الجاثم والعدوّ الغاشم وظلمُه مؤذِنٌ بزواله، وعتوُّه مبشِّر بانكِسَاره وانخِذاله؟! المهلَكَة تحوطه من كلِّ جانب، والموتُ يدرِكه في كلّ مكان، ودعوةُ المظلوم تصيبُه في كلِّ حين، وسيجرّ الظالم أذيالَ الخيبة مُهانًا، ويندَحِر بالهزيمة إلى دارِه مقهورًا مُدانًا، وسيكون سُمعةً رادعة ومُثلةً وازعة وعِبرة مانعة لكلِّ القوى الظالمةِ الجائِرَة كما كانت القوى الظاهِرة البائدةُ، يحفِزه إلى مصرَعِه جنونُه بقوّته، ويعجله إلى حَتفِه غرَّةُ تيهه، ويَدفَع إلى مَهلكِه خمرةُ كِبرِه، وسنّةُ الله إمهالُ الطغاة وإنظارُ المجرِمين العتاة واستدراجُ المعتَدِين البغاة، وللظّالِم صولة وللباغي جَولَة، ولكنّها صَولَة آفِلَة وجَولةٌ خاسرة، وما مِن غلَبة للكفار إلاّ وهي إملاءٌ محفوف بخُذلانٍ وسوءِ عاقبةٍ وخسران، وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:182، 183]. وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إنّ الله ليُملِي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)) ، وقرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]. متفق عليه [5].
أيّها المسلمون، ولو يشاءُ الله لأهلكهم وكفَّ أيديَهم وبأسَهم وجعَل الدائرةَ عليهم وجعَلهم أحاديثَ ولم يُبقِ لهم باقيةً وتبَّرهم تتبِيرًا ودمّرهم تدميرًا، والله أشدُّ بأسًا وأشدُّ تنكيلاً وأوسع مُلكًا وأعظَمُ سلطانًا وأسرَع مكرًا وأمضَى كيدًا وأقدَر أمرًا، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ [محمد:4]، وما كانوا سابقين، ولا مِن عذابِ الله فائِتين، ولكن ليتحقَّقَ الامتحَان والابتداءُ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ [آل عمران:140].
ومن ظنَّ أنّ دينَ محمّد لا يُنصَر وشرعَه لا يظهَر فقد ظنَّ سوءًا واعتَقَد زورًا، فدين الله منصورٌ وعدوُّه مقهور، فعن تميم الداريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَر ولا وبَر إلا أدخله الله هذا الدين، بعِزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليل، عزًا يُعزّ الله به الإسلامَ، وذلاً يُذلّ به الكفر)) أخرجه أحمد [6] ، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لن يبرَحَ هذا الدّين قائمًا يقاتِل عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقوم الساعَة)) أخرجه مسلم [7].
أيّها المسلمون، لا سبيلَ للعزّةِ ولا طريقَ للكرامَةِ ولا أمَلَ في النصر والرِّفعة ولا رجاءَ في دَفع العقوبة والنِّقمة إلا بالرجوع إلى دينِ الله العظيم وصِدق التمسُّك بما تقتضيه العقيدةُ وتُوجبه الشريعة ومحاربَة الفسادِ والقَضاء على المنكرَاتِ الظاهرة وإعزاز وِلاية الحِسبة ورِجال الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر والتصدِّي لحمَلات التّغريب وصَونِ المجتمع من مظاهِرِ الانحلال وبَوَادِر الانفلاتِ الأخلاقيّ والسلوكيِّ وتجفيفِ منابع الشرِّ ومثيراتِ الفتنةِ في النفوس والتّسليم التامّ لدين الإسلام وأوامرِ الملك العلاّم وصِدقِ الاتّباع لسيِّد الأنام محمّد ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82].
أيّها المجاهرونَ بالمعاصي والمنكراتِ، أيّها المعلِنون للسّوء والمحرَّمات، ما لكم لا ترجون لله وقارًا؟! ما لكم لا تُبالون للهِ عَظَمةً ولا إجلالاً؟! ما لكم لا تعرِفون لله حقًّا ولا تشكرون له فضلاً ولا إنعامًا؟! ما لكم لا تخشَون من الله عِقابًا ولا انتقامًا؟! أما تخافون من الجبار؟! أما تخشَونَ من لَفح النار؟! ما لكم لا تتوبُون ولا تتَّعِظون؟! ما لكم ترعَوون ولا تنزَجِرون وأنتم إلى الله راجعون، وبين يديه موقوفون، وعلى أعمالكم مجزيّون، وعلى تقصيركم محاسَبون، وعلى تفريطكم نادمون؟! فاستدرِكوا أنفسَكُم قبلَ المماتِ بتوبةٍ ورجوع صادقٍ وأوبةٍ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:54، 55].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من البيانات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] سنن أبي داود: كتاب البيوع (3462)، وأخرجه أيضا أحمد (2/42، 84)، والروياني (1422)، وأبو يعلى (5659)، والطبراني في الكبير (12/432، 433)، وصححه ابن القطان كما في التلخيص الحبير (3/19)، وقوّاه ابن القيم في تعليقه على سنن أبي داود (5/104)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (11).
[2] مستدرك الحاكم (4/540)، شعب الإيمان (3/197) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أيضا ابن ماجه في الفتن، باب: العقوبات (4019)، والطبراني في الكبير (12/446) والأوسط (5/62)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (5/318): "رجاله ثقات"، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (106).
[3] سنن أبي داود: كتاب الملاحم (3745) عن ثوبان رضي الله عنه، وأخرجه أيضا أحمد (5/278)، والطبراني في الكبير (1452)، والبيهقي في الدلائل (6/534)، وصححه الألباني بمجموع طرقه في السلسلة الصحيحة (958).
[4] أخرجه أحمد (1/190)، وأبو داود في السنة (4772)، والترمذي في الديات (1421)، والنسائي في تحريم الدم (4095)، وابن ماجه مختصرا في الحدود (2580) من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (3194)، وهو في صحيح سنن أبي داود (3993).
[5] صحيح البخاري: كتاب التفسير (4686)، صحيح مسلم: كتاب البر (2583).
[6] مسند أحمد (28/154-155) [16957]، وأخرجه أيضا البيهقي (9/181)، وصححه الحاكم (4/430)، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع (6/14): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني على شرط مسلم في تحذير الساجد (ص118-119).
[7] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1922) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له علَى توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لاَ شريكَ له تَعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنّ نبيّنا وسيدنا محمّدًا عبده ورَسوله الدّاعي إلى رِضوانه، صلّى الله عليه وعلَى آلِهِ وأَصحابِه وإخوانِه، وسلّم تَسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا أيّها المسلمون، اتَّقوا الله حقَّ تقاته، وتعرَّضوا لأسبابِ مَغفِرتِه ومرضاته ونيلِ كرامَتِه ودخولِ جناته، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر:61].
أيّها المسلمون، أحسنُ الكلام في الشّكوى سؤالُ المولى زوالَ البَلوى، فاستدفِعُوا أمواجَ البلاءِ بالتضرُّع والدّعاء، فليس شيءٌ أكرَم على الله عز وجل من الدّعاء، وأعجَزُ الناس من عجَز عن الدعاء، ولا يردّ القدرَ إلا الدعاء، فأكثِروا من الدعاء والمناجاةِ، فإنّ الله يسمع دعاءَ من دعاه، ويبصِر تضرُّعَ من تضرَّع إليه ونادَاه، ومن سأل الله بصدقٍ وضراعة كشَفَ عنه بلواه وحماه ووقاه وكفَاه وحقَّق له سؤلَه ومُناه، فارفَعوا أَكُفَّ الضراعةِ، وادعُوا بصدقٍ ورِقّةٍ وفاقَةٍ للإسلام وبلاد الإسلامِ وأهلِ الإسلام.
اللهمّ أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين يا ربَّ العالمين...
(1/3537)
الحملات المسعورة ضد الإسلام وأهله
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
عكرمة بن سعيد صبري
القدس
21/10/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحملة الصليبية المسعورة على الدين الإسلامي. 2- كتاب الفرقان الحق. 3- مخططات أمريكا. 4- حسد أعداء الإسلام لأمة القرآن. 5- حفظ الله تعالى للقرآن الكريم. 6- القنوات الفضائية الهدامة. 7- النهي عن المرور بين يدي المصلي. 8- وثيقة جنيف اللعينة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة التوبة: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]، ويقول سبحانه وتعالى في سورة الصف: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، يا أحباب محمد عليه الصلاة والسلام، إن الحملة الصليبية المسعورة لم تقتصر في حربها ضد المسلمين فحسب، بل تعدت هذه الحملة الحاقدة ضد ديننا الإسلامي العظيم في هذه الأيام، وهي مستمرة وفي تزايد بهدف تشويه صورة الإسلام، وقد سبق أن نبهنا لخطورة هذه الحملة الصليبية الجديدة منذ سنتين أو أكثر.
فقد صدر مؤخّرا في أمريكا كتاب يحمل عنوان "الفرقان الحق" باللغتين العربية والإنجليزية، وقد وزع على المكتبات الأمريكية والأوروبية وعلى الإنترنت، كما وزع بشكل واسع في المدارس الأجنبية الموجودة في البلاد العربية، وقد وصلت نسخة منه إلى فلسطين. ومع الأسف لم نسمع أي ردة فعل من الأنظمة الرسمية في العالم العربي والإسلامي، فكأن الأمر لا يعنيهم.
هذا الكتاب المزيف الذي أطلق عليه اسم: "الفرقان الحق" هو ليس بالفرقان، وليس بالحق. إن هدفه التشكيك بالقرآن الكريم ودستور المسلمين، وهدفه إبعاد المسلمين عن دينهم، بل إن شياطين الإنس يخططون لأن يكون هذا الكتاب المزعوم بديلا عن القرآن الكريم، وهيهات لهم ذلك، لقد خابوا وخسئوا، لقد خاب ظنهم وطاش سهمهم.
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، لقد صدر فعلا الجزء الأول من الكتاب المزعوم: "الفرقان الحقّ" بالرسم العثماني، وأن عدد صفحات هذا الجزء ثلاثمائة وثمان وستون. وكما يزعم شياطين الإنس بأن الأجزاء الأخرى من هذا الكتاب المزيف ستصدر تباعا لتصل إلى اثني عشر جزءا. أي: أن كتاب "الفرقان الحق" المليء بالمغالطات والافتراءات والتناقضات يتكون من اثني عشر جزءا. وهو يمثل حربا ثقافية وغزوا فكريا ضد الإسلام والمسلمين بشكل واضح سافر حاقد، كمحاولة يائسة لصرف المسلمين عن القرآن الكريم ولإبعادهم عن دينهم.
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، إن شياطين الإنس القائمين على إعداد ما يسمى بكتاب "الفرقان الحق" قد خططوا لإعلان حرب صليبية جديدة ضد الإسلام والمسلمين، وذلك بممارسة أشد أنواع القهر السياسي والاقتصادي والعسكري بحق المسلمين المتمسكين بعقيدتهم وديارهم، وإن أمريكا الكافرة المتغطرسة ستحاول أن تعمل خلال الثلاثة الأعوام القادمة على إضعاف الشرق الأوسط الكبير، وذلك بتفريغ المنطقة العربية من القوة العسكرية والاقتصادية وتغيير المناهج التعليمية والتربوية، وبالمقابل تقوية إسرائيل اقتصاديا وعسكريا وإطلاق يدها على البلاد العربية. ويشمل مشروع منطقة الشرق الأوسط أيضا إنشاء قنوات ووسائل إعلام أمريكية في المنطقة كلها تنطق باللغة العربية بهدف إجبار المسلمين للتخلي عن القرآن الكريم والعمل بالكتاب المزعوم "الفرقان الحق".
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، نتساءل: أين ما يسمى بالديمقراطية التي تنتهج بها أمريكا وهي تدعي حرية الرأي والفكر؟! لماذا سيجرون المسلمين حسب مخططاتهم الاستعمارية لترك القرآن الكريم وإلزامهم حسب زعمهم بما يسمى بكتاب "الفرقان الحق"؟! إننا نستذكر محاكم التفتيش التي وقعت في بلاد الأندلس إسبانيا، فكانت وصمة عار في جبين إسبانيا. ثم لماذا تحاول أمريكا تقسيم وتجزئة أقطار إسلامية؟! لماذا تنادي بتقسيم العراق وتقسيم السعودية إلى أجزاء وأجزاء؟! ألا يكفي العالم الإسلامي ما يعانيه من تقسيمات على ضوء اتفاقيات سيكس بيكو، وتريد أمريكا أن تجدد هذه الاتفاقيات الظالمة لتزيد في تقسيماتها؟! ثم لماذا لا تقسم أمريكا نفسها وهي مكونة الآن من إحدى وخمسين ولاية؟!
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، إن شياطين الإنس الذين يعدون ما يسمى بكتاب "الفرقان الحق" يحاولون جاهدين محاكاة وتقليد القرآن الكريم في أسلوبه وشكله وحروفه ورسمه، وقد أخذوا بعض التعابير القرآنية وأسماء السور، وأقحموها في هذا الكتاب المزيّف، وذلك لإقناع المسلمين بأن هذا البديل أفضل من القرآن الكريم.
ويزعم شياطين الإنس بأن القرآن الكريم من وضع البشر، وأنه مزيف، وأنه غير صالح لحياة البشرية في هذه الأيام. كما يزعمون بأن القرآن الكريم يدعو للإرهاب والتطرف حسب تفسيراتهم، وأنه يثير روح العداء بين الشعوب حسب افتراءاتهم.
إن هؤلاء الحاقدين لا يدركون بأن القرآن الكريم جاء لهداية البشرية جمعاء ولإسعادها، وأنه دعا للإيمان والتوحيد وإلى إعمال العقل والتفكير.
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، إن شياطين الإنس ينكرون الوحي الذي هو من عند الله العلي القدير، والذي نزل على قلب نبينا الأكرم محمد ، والمعلوم أن الذي ينكر الوحي على سيد الخلق محمد فإنه ينكر الوحي عن سائر الأنبياء والمرسلين.
لقد اغتاظ شياطين الإنس من المسلمين؛ لأن كتاب المسلمين ودستورهم القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد في الكون كله الذي لم يطرأ عليه تغير ولا تحريف ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان.
أيها المسلمون، إن مئات الملايين من المسلمين يحفظون القرآن الكريم بقلوبهم وعقولهم، وإن الملايين من مراكز تحفيظ القرآن منتشرة في أرجاء المعمورة، وصدق الله العظيم إذ يقول في سورة النساء: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، ويقول تعالى في سورة الإسراء: لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإنس وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، ويقول عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41، 42].
لا يدركون بأن الله رب العالمين قد تكفل بنفسه بحفظ القرآن الكريم بقوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]. وهذا الحفظ هو مظهر من مظاهر إعجاز القرآن الكريم.
أيها المسلمون، يا أمة القرآن، لم يكتف الاستعمار الدولي بما يخطط ضد القرآن الكريم، بل إنه يسعى إلى تقويض الأسرة المسلمة وتدمير الأخلاق الإسلامية القويمة، وذلك من خلال عرض بعض المحطات الفضائية لبرامج تلفازية هابطة مدمّرة للقيم والأخلاق، وتسخير الجهود العربية والأموال العربية لهذه المهام الاستعمارية الكافرة، والتي تستهدف الجيل الصاعد من الشباب والفتيات، بالإضافة إلى التدخّل في المناهج المدرسية بهدف نشر الرّذيلة والأفكار المسمومة وما يترتب على ذلك من نتائج سلبية تؤدي إلى بثّ روح الفرقة والهزيمة والتبعية وهدم الأسرة والمجتمع وإلهاء الناس عن القضايا المصيرية للأمة، وعليه يتوجب شرعا مقاطعة هذه المحطات المشبوهة الهابطة الرخيصة، ويحرم شرعا مشاهدة البرامج اللاأخلاقية، كما يحرم التعامل معها والمشاركة فيها، وكم من الملايين من المكالمات الهاتفية التي شارك الشباب والشابات من خلالها في هذه البرامج الهابطة، والله سبحانه وتعالى يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال:25].
_________
الخطبة الثانية
_________
قبل البدء بالخطبة الثانية أشير إلى مسألة فقهية تتعلق بالمرور بين المصلين: لقد لوحظ مرارا وبخاصة أيام الجمع بأن المصلين يقطعون صلاة بعضهم بعضا، وذلك من خلال المرور بين يدي المصلين، فكأن هذا المرور أصبح شائعا ومألوفا ومعتادا، وكأن الناس يشعرون أنهم في سجن يريدون الهرب منه بسرعة، ولا يدرك هؤلاء المتسرعون الحكم الفقهي حيث نهى الرسول عليه السلام عن المرور بين يدي المصلين من خلال عدة أحاديث نبوية شريفة، وعليه ينبغي للشخص حين الانتهاء من صلاته للسنة البعدية أن يلتفت خلفه قبل الانصراف حتى يتأكد أن الذي وراءه قد انتهى من صلاته أم لا.
يا أبناء الإسراء والمعراج، من المؤسف والمؤلم أن يروج من جديد لما يسمّى بوثيقة جينيف، وسبق أن تعرضنا لوثيقة جينيف قبل عام تقريبا وأخمدت في مهدها، ولكن البعض من أبنائنا أخذوا يدعون لها ويرجون لها من جديد، هذه الوثيقة التي تمثل تنازل فوق تنازل لحقوقنا الشرعية في أرضنا المباركة المقدسة، إنهم يتوهمون بأن الاحتلال الإسرائيلي سيتوقف عن بناء الجدار العنصري اللاأمني، إنهم يتوهمون بأن الاحتلال سيتوقف عن مخططاته التوسعية وعن القتل وسفك الدماء وعن مصادرة الأراضي وبناء المستوطنات، ثم ماذا بقي من الأرض التي سيفاوضون عليها إذا لم يتم الانسحاب؟! ثم من فوضهم ليتحدثوا باسم اللاجئين الفلسطينيين مع التأكيد على أن حق العودة للاجئين هو حق شرعي لا يسقط مع مرور الزمان؟!
أيها المسلمون، نتساءل: من أعطى هؤلاء الذين وقّعوا على ما يسمى بوثيقة جنيف اللعينة، من أعطاهم الصلاحية لتسليم حائط البراق لسلطات الاحتلال؟! وهل أن فرض أمر الواقع يغير من الأحكام الشرعية؟! وهل يضيع الحقوق المشروعة؟! إن هذا الحائط هو جزء من سور المسجد الأقصى المبارك، وهو وقف إسلامي من الناحية الشرعية، حتى إن عصبة الأمم المتحدة قبل ما يزيد عن سبعين عاما قد اعترفت بملكية حائط البراق للمسلمين باعتباره وقفا إسلاميا، وكذلك لجنة شو البريطانية أقرت بذلك. فالمؤسسات غير الإسلامية سبق وأن اعترفت وأقرت بأن حائط البراق للمسلمين، فما بال هؤلاء يتنازلون عنه؟! وعليه فإن هذه الوثيقة المزعومة هي غير شرعية ولا نعترف بها لا سابقا ولا لاحقا، كما أن المسلمين يرفضون سائر المبادرات المحلية والدولية التي تمس حق شعبنا في العودة إلى أرضه أو تساوم على القدس ومقدساتها.
أيها المسلمون، سيظل أبناء أرض الإسراء والمعراج أوفياء لبلادهم التي باركها الله وقدسها وقرر إسلاميتها مهما طالت مدة الاحتلال والاغتصاب والاستعمار، هذه الأرض التي ورثناها والتي ارتبطت بقرار من الله رب العالمين وورثناها أمانة غالية عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
ويتوجب على شعبنا الفلسطيني المرابط المزيد من التكاتف والتعاون ورص الصفوف ووحدة الموقف للمحافظة على مقدساته ومقدراته وحقوقه المشروعة ليقضي الله أمرا كان مفعولا.
(1/3538)
الاختلاط: شرور وآثام
الأسرة والمجتمع
المرأة
عبد الحي يوسف
الخرطوم
16/5/1423
غير محدد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحياء صفة المؤمنين والمؤمنات. 2- درس الحياء من قصة موسى مع الفتاتين من مدين. 3- الفصل بين الجنسين في العصر النبوي. 4- الشرائع الإسلامية تقرر الفصل وتمنع الاختلاط. 5- فشوّ الاختلاط في بلاد المسلمين. 6- مسئولية الأب والدولة والمجتمع في إزالة الاختلاط ومنعه. 7- التشبه بين الجنسين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى, وخير الهدي هدي محمد , وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالة في النار, وما قلّ وكفى خيرٌ مما كثُر وألهى, وإنّ ما توعدون لآتٍ، وما أنتم بمعجزين.
أما بعد: فإنّ شريعة الإسلام جاءت بتقرير الأحكام وتعيين الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة، لينشأ المجتمع المسلم طاهرًا نظيفًا طاهرًا عفيفًا، لا أثر فيه لفاحشة ولا دعوة فيه لخنى، ولا أمر فيه بمنكر.
جاء الإسلام يقرر أن الحياء مطلوب من الرجال والنساء، لكنه في حق النساء ألزم، ومن حياء النساء أن لا يخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وأن لا يتبرجنَ تبرج الجاهلية الأولى، وأن لا يبدينَ زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها, وأن يضربنَ بخمُرهنّ على جيوبهنّ, ولا يبدينَ زينتهنّ إلاّ للأصناف التي ذكرها الله عز وجل في كتابه.
ومن حياء النساء كذلك أن لا يخالطنَ الرجال ولا يزاحمنهم، بل الواجب على النساء أن يأخذنَ حافّات الطريق، وأن يكون لهنّ مجتمعاتهنّ الخاصة بهنّ, ولا يخالط النساء الرجال في حفلات عامة ولا خاصة ولا مؤتمرات ولا ندوات ولا تعليم ولا عمل ولا غير ذلك من نواحي الحياة.
في القرآن الكريم يثني ربنا جلّ جلاله على رجلٍ صالح أنه ربّى ابنتين فاضلتين علمهما مكارم الأخلاق ومحاسن العادات وبين لهم الحدود الفاصلة في علاقة الرجل بالمرأة, يقول الله عزّ وجلّ في خبر كليمه موسى عليه السلام: وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ ?لنَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ ?مْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى? يُصْدِرَ ?لرّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ [القصص:23]. موسى عليه السلام وجد جماعة من الناس طائفة من الرجال يسقون بهائمهم أنعامهم، ووجد امرأتين بعيدتين نائيتين، لا تزاحمان الرجال ولا تخالطانهم، سألهما: ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقى حتى يصدر الرعاء، لا نزاحم هؤلاء الرعاة، ولا نخالطهم في سقي الماء، بل نصبر وننتظر حتى إذا سقوا أنعامهم وقضوا حوائجهم وانصرفوا من عند ذلك الماء جئنا نحن فسقينا.
موسى عليه السلام تصرف تصرّف الرجل ذي المروءة والشهامة، الرجل الكريم الذي يعرف ما أوجب الله عليه وما يحبّ الله له، فَسَقَى? لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى? إِلَى ?لظّلّ فَقَالَ رَبّ إِنّى لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص:24]، يقول الله عزّ وجلّ: فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء [القصص:25]، تمشي مشية فيها حياء، ليس فيها تبذُّل ولا تبرُّج ولا إغواء ولا تهييج، وإنما مشية الحياء، تَمْشِى عَلَى ?سْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ، في أقصر لفظ وأوضحه وجهت الدعوة إلى موسى، ما أكثرت من الكلام ولا أطالت في الحديث، وإنما لفظ مختصر، لكنه واضح في غيرما اضطراب ولا تلجلج يغري أو يهيج، قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25]، هكذا دعوة ترفع اللّبس والغموض، ما قالت له: هيا معنا إلى البيت، ولا قالت: إني أدعوك، ولا قالت: اذهب معي، وإنما أسندت الدعوة إلى أبيها ليطمئن قلبه صلوات ربى وسلامه عليه، إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا [القصص:25].
هكذا ثناء ربنا عزّ وجلّ في القرآن على هتين الفتاتين وعلى أبيهما الصالح القانت الذي أحسن تربيتهما وتوجيههما وتعليمهما، حتى كانتا على مثل هذا الخلق القويم.
وهكذا ـ أيها المسلمون عباد الله ـ شريعة محمد ، جاءت بمثل هذا الخلق الكريم، تأمر النساء أن لا يخالطنَ الرجال، وتأمر بالمباعدة بين أنفاس الرجال والنساء، تسدُّ كل ذريعة مفضيةٍ إلى الاختلاط.
في المسجد، رسول يجعل للرجال بابًا وللنساء بابًا يقول: ((لو تركتم هذا الباب للنساء)) ، يقول نافع رحمه الله: فوالله، ما دخل منه عبد الله بن عمر ولا خرج حتى قبضه الله إليه. للنساء في المسجد بابٌ خاص، وكذلك في الصلاة للرجال صفوفهم وللنساء صفوفهنّ، يقول رسول الله : ((خيرُ صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها)) ، مباعدة بين الرجال والنساء في أقدس مكان، في أطهر بقعة، عند أعظم شعيرة، هي شعيرة الصلاة.
بل أكثر من ذلك لو ناب الإمام شيء في صلاته، لو أنه سها، لو أنه أخطأ، شريعة الإسلام تجعل للرجال التسبيح وللنساء التصفيق، إذا ناب الإمام شيء في صلاته سبح الرجال ينبِّهونه، أما النساء فإنهنّ يصفقنّ بأصابعهنّ على ظهور أكفهنّ، لا يرفعنّ أصواتهنّ في المسجد. ويقول رسول موجهًا الخطاب للنساء: ((ليس لكنّ أن تحققن الطريق)) : ليس لكنّ أن تأخذن حُقّة الطريق ووسطه، عليكن بحافات الطريق, يمشي النساء على جنبات الطريق، لا يزاحمن الرجال في الشوارع والطرقات، ولا في الأسواق والتجمعات، بل للمرأة خصائصها وللرجل خصائصه، كل ما يؤدّي إلى الاختلاط شريعة الإسلام تمنعه؛ لأن الاختلاط شرٌّ محض يؤدي إلى شيوع البغاء وقلة الحياء واسترجال النساء وخنوثة الرجال وضياع الأعراض وشيوع المنكرات وفشوِّ الزنا وغير ذلك من الموبقات العظيمة.
نهت شريعة الإسلام من دخول الرجال على النساء: ((إياكم والدخول على النساء)) ، قالوا: يا رسول الله، أرأيت الحمو؟ ـ الذي هو قريب الزوج كأخيه وابن عمه ونحو ذلك ـ؛ قال رسول الله : ((الحمو الموت)) ، هذا أشد خطرًا من غيره، لأن النفوس لا تنفر من دخوله، ولا تستريب من ولوجه, ((الحمو الموت)).
شريعة الإسلام تحرم نظر أحد الجنسين إلى الآخر نظرة عمد: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرةَ، فإنما لك الأولى وعليك الثانية)). شريعة الإسلام تمنع مُمَاسّة الرجال للنساء والعكس، حتى لو كان مصافحة. تمنع اختلاطهم، بل لو خرجت المرأة إلى المسجد، لو خرجت تريد بيت الله، تريد الصلاة، فلا بد من شروط معتبرة، لا بد من أمورٍ مرعية فرضتها الشريعة الإسلامية, لا تخرج المرأة متبرجة، بل متحجبة، لا تخرج متطيبةً متزينة، بل تخرج تَفِلَة، لا تخرج المرأة مزاحِمَةً للرجال في الطريق ولا في المسجد، لا بد أن تُؤمَنَ الفتنة منها وعليها، لا تَفتِِن ولا تُفتَن، ثم بعد ذلك إذا جاءت إلى المسجد لا ترفع صوتًا حتى لو كان مجلس علم. كان رسول الله يجعل للرجال مجلسًا وللنساء مجلسًا, الرجال قريبون منه، والنساء نائيات عن الرجال، بعيدات عنهم، كل هذا لأن شريعة الإسلام المنزلة من رب حكيم خبير يعلمُ ما يصلح الناس وما يفسدهم.
أيها المسلمون، عباد الله، هذه المصيبة العظيمة مصيبة الاختلاط, اختلاط الرجال بالنساء في التعليم، في مؤسسات العمل، في المحافل والمؤتمرات، في الأفراح والأتراح، ما عادَ كثير من الناس ينكِرها، بل أكثرهم لا يجد في صدره حرجًا، عادت أمرًا طبيعيًا، أكثر الناس لا يُنكرونه ولا يعملون على تغييره, نبتة شيطانية غربية جاءت من عند غير المسلمين, بدؤوا برياض الأطفال، ثم بعد ذلك ما زالوا يتدرجون شيئًا فشيئًا حتى عمموها.
في بعض بلاد الله، في المدارس منذ أن يدخل الأطفال المدرسة وهم في مرحلة الأساس، في بعض بلاد الله مختلطون، ثم إذا ذهبوا إلى الثانوية اختلطوا، ثم في الجامعة، ثم في وسائل المواصلات، ثم بعد ذلك في أماكن العمل، وفي كل مكان أنفاس الرجال والنساء متقاربة، ليس هناك كلفة ولا حاجزٌ ولا مانع، بل الرجال مع النساء في كل مكان.
ماذا كانت النتيجة؟ الآن في بلاد الغرب، في أُوربا وأمريكا، المصلحون وعلماء الأخلاق ورجال التربية الكل ينادي بمنع الاختلاط، الكل يذكر أن الاختلاط ما أتى بخير، لا في علم، ولا عمل، لا في تحصيل، ولا تدريب، بل متى ما وجدت المرأة بجوار الرجل فهي به مشغولة وهو بها مشغول، قال رسول الله : ((ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء)). المرأة إذا وجدت بجوار الرجل فهى ضررٌ عليه، وهو ضررٌ عليها، كلاهما يضرّ الآخر, ما أمرت شريعة الإسلام بالفصل، ما أمرت شريعة الإسلام بمنع الاختلاط إلاّ لأنها تعلم أنّ الاختلاط ينتج عنه عواقب وخيمة تعود على الأفراد والمجتمعات وعلى الأسر والجماعات، الكل يعاني، لا أحد يأمنُ على عرضه، لا أحد يأمن على دينه؛ لأن الخطر بجواره ظاهرٌ غير كامن.
الآن في أوربا وأمريكا يدعون إلى منع الاختلاط، إلى منع اختلاط الرجال بالنساء، لأنهم عانوا من ثماره المُرَّة كثرة اللقطاء، كثرة حوادث الاغتصاب، كثرة الجريمة، فُشوّ الفاحشة، انتشار الأمراض، قال رسول الله : ((ما ظهرت الفاحشة في قومٍ حتى يعلنوا بها إلاّ ابتلاهم الله عزّ وجلّ بالأسقام والأوجاع التى لم تكن في أسلافهم)) ، أسقامٌ وأوجاعٌ يضج منها البشر، ولا يجدون لها علاجًا، لا يعرفون لها دواءً حتى الساعة، حتى اللحظة لا يجدون لها علاجًا، والجزاء من جنس العمل.
أيها المسلمون، عباد الله، إذا أردنا لهذا المجتمع أن يكون نظيفًا طاهرًا عفيفًا معافًى سالمًا من الآفات، حتى لو كانت هناك فاحشة مرةً أو مرتين تكونُ مستترةً مختفيةً بعيدةً عن الأنظار، يفعلها أهلها في حياء. إذا أردنا للمجتمع أن يكونَ كذلك، فالدَرَجَة الأولى والخطوة الأولى هي منع الاختلاط، منع الاختلاط في الجامعات وفي مؤسسات العمل وفي دواوين الحكومة وفي وسائل المواصلات وفي سائر المرافق والخدمات، يكون للرجال مجتمعهم وللنساء مجتمعهن، ولا يتوقف هذا على الحاكم وحده، بل الصراحة والنصيحة تقتضي أن نقول في هذا المقام: إننا ـ معشر المسلمين ـ في هذه البلاد الآفة في كثير منا, كثير منا في بيته لا يمنع الاختلاط، قد يكون في بيته حفلة عرس، أو يكونُ في بيته مأتم، أو غير ذلك من العوارض والمناسبات، فيختلطُ الرجال بالنساء، ولا نغيِّر، بل لا تتمَعّرُ وجوهنا، دلالة على أن الناس قد انتكس فهمهم للدين.
ولا نريد أن نقول ـ أيها المسلمون عباد الله ـ كما يقول بعض من لا خلاق لهم بأن الاختلاط لا بأس منه ولا حرجَ فيه!! أيكون مجتمعنا أطهر من مجتمع رسول الله ؟! هل قلوبنا أسلم من قلوب الصحابة؟! الصحابة أطهر الناس قلوبًا، رسول الله منعهم من الاختلاط، عمر بن الخطاب رضى الله عنه في أيام خلافته كان يمنع النساء من أن يسِرن في وسط الطريق، بل يُعيِّن محتسبين في الطرقات ينصحون النساء بأن يأخذن الحواف والجنبات. بعض الناس الآن يقولون: إن المجتمع ناضج وفاهم وواعٍ!! الطالب والطالبة في الجامعة كلاهما يدرك مسؤوليته!! سبحان الله!! أيدركون المسؤولية أعظم من إدراك الصحابة؟! معاذ الله أن يقول هذا عاقل.
أيها المسلمون عباد الله، واجب علينا أن نسعى جميعًا وأن نتكاتف جميعًا لإنكار هذا المنكر والحيلولة دون امتداده بعدما رأى الناس آثاره. الآن المدارس مفصولة والحمد لله, للبنين مدارس وللبنات مدارس، ولكن أغلب الجامعات اختلط فيها الحابل بالنابل, يتزين الفتيات، يتجملنّ ويلبسن أحسن ما يجدن، وكذلك الشباب يتعرضون لهنّ، تجد الشاب مع الشابة يجلسان مثنى مثنى في أكثر الجامعات، ولا يغير هذا المنكر أحد ولا يتكلم معهم أحد.
ماذا كانت النتيجة؟ النتيجة كما تعلمون ـ أيها الإخوة الكرام ـ من انتشار الزواج العرفي ومن كثرة الزنا، كثرة اللقطاء وشيوع ذلك المرض الفتاك، ذلك المرض الخطير الذي لا علاج له حتى الآن، والذي من أعظم أسبابه الفساد الذي يكون بين الرجال والنساء، هذه هي النتائج المُرة.
رئاسة الجمهورية أصدرت قرارًا بتشكيل لجنة لمعالجة هذه المظاهر، وأوكلت رئاستها إلى بعض أهل العلم جزاهم الله خيرًا، خرجت هذه اللجنة بتوصية هي من باب النصيحة ووضع اليد على مكمن الداء ومكان الخطر, وأول ما أوصت بأن يكون للذكور جامعات وللإناث جامعات.
هذه التوصية ـ أيها الإخوة الكرام ـ علاج ناجع ودواء فعّال، لو أخذت طريقها إلى التنفيذ, لكنني أقول: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لن يسكتوا، سيُجلبون بخيلهم ورجلهم، ستصدرُ كتابات، وتدون مقالات، وتلقى خُطَب، ويتكلم كل ناعِق: لم تمنعون؟ لم تفصلون؟ سياسة الفصل ما عادت نافعة، بل لا بد من التحام الرجال بالنساء، فالمرأة نصف المجتمع، إلى غير ذلك من كلام بارد، تعودنا سماعه من أولئك الذين لا يريدون للمجتمع طهرًا ولا نظافة ولا عفافًا ولا استقامة.
نقول: لا أيها المسلمون عباد الله، القول ما قاله الله وما قاله رسول الله ، ليس هناك مجالُ للتنظير ولا للشقشقة، ولا لدغدغة العواطف بمثل هذه الشعارات، المرأة نافعة، لكن ليس بالضرورة أن يكون نفعها قرينًا باتصالها بالرجل والتصاقها به في وسائل المواصلات وفي الجامعات وفي مؤسسات العمل وفي كل مكان الرجل مع المرأة، حتى أدى ذلك إلى شرٍ عظيم, أقول هذه اللجنة جزاهم الله خيرًا قد قامت بما عليها, وواجب على من ولاهم الله الأمر، وواجب على كل جهة منفذة أن تسعى في إحقاق الحق وإبطال الباطل والحيلولة دون الفساد، من أجل أن نأمن على أعراضنا وعلى أبنائنا وبناتنا، ومن أجل أن يسلم ذكورنا وإناثنا من كل تحريضٍ على باطل أو أمر بمنكر.
نسأل الله عز وجل أن يردنا إلى دينه ردًا جميلاً وأن يصرف عنا الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، والحمد لله رب العالمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين, وأشهد أنّ سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبي الأمين, بعثه الله بالهدى واليقين, لينذر من كان حيًا ويحق القول على الكافرين, اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياءِ والمرسلين وآل كلٍّ وصحب كلٍّ أجمعين, وأحسن الله ختامي وختامكم وختام المسلمين، وحشر الجميع تحت لواء سيد المرسلين.
أما بعد: أيها المسلمون، فاتقوا الله حق تقاته، وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
واعلموا أن من الأسباب المفضية إلى الاختلاط والتي منعتها شريعة الإسلام تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، مما تُرى آثاره وتسمع أخباره في كثير من دور التعليم، وقد قال رسول الله : ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء, والمتشبهات من النساء بالرجال)) ، وأخبر أن ثلاثةً حرّم الله عليهم الجنة ومن هؤلاء الثلاثة رَجُلَة النساء ـ المرأة المسترجلة ـ التي ترتدي قميصًا وبنطالاً، وتقصُّ شعرها، وتتشبه بالرجال في المشية والهيئة، في السمت والصوت، وفي الكلام والسلام، التى تخالطهم، لا تتحاشاهم، ولا ترى حرجًا في الحديث الطويل معهم، مثل هذا الصنف ملعون على لسان رسول الله.
واجب علينا ـ معشر الآباء ـ أن ننشِّئ بناتنا على أنّ لهن مواهب وخصائص، لهن شخصيات وقدرات، للبنات وظيفةُ كلفهنّ الله عزّ وجلّ بها, ومن المنكر الشائع في مجتمعنا والذي درج عليه الناس سنينَ عددًا أن يكون البنون والبنات في المرحلة الثانوية لباسهم متشابها، كأننا نقول للبنات: لا فرق بينكنّ وبين الذكور! الدراسة واحدة والتخصص واحدٌ، اللباس واحدٌ، والمرأة كالرجل!! لا والله، ينبغي أن يكون للبنات لباسهن، وأن يكون لهنّ زيهنّ وَلَيْسَ ?لذَّكَرُ كَ?لأنثَى? [آل عمران:36]، هكذا قانون القرآن، القانون العادل القانون الأبدي، لا يمكن أن تكون المرأة رجلاً، ولا يمكن أن يصبح الرجل امرأة, ما يمكن أن يختلط الحابل بالنابل إلى هذا الحد.
واجب علينا ـ معشر الآباء معشر الأمهات ـ أن ننشِّئ بناتنا على أن تعتزّ الواحدة وتحمد ربها على أن جعلها أنثى، قال الله عزّ وجل: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ ?للَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى? بَعْضٍ [النساء:32]، ما ينبغي للمرأة أن تتمنى لو كانت رجلاً، ولا ينبغي للرجل أن يتمنى لو كان امرأة, لّلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا ?كْتَسَبْنَ وَ?سْأَلُواْ ?للَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ ?للَّهَ كَانَ بِكُلّ شَىْء عَلِيمًا [النساء:32]، هذه التربية هي التي نشّأ عليها محمد الرجال والنساء ومَنع الاختلاط.
أيها الإخوة المسلمون، لا يقعدُ بالمرأة عن بلوغ أمل ولا عن تحصيل علم ولا تفاضل في عمل, فقد كان نساء من المؤمنات يشهدن صلاة الصبح مع رسول الله متلفعات بمروطهن ما يُعرفنَ من الغلس، كانت المرأة تشهد صلاة الصبح مع رسول الله ، وكنَّ يشهدن الجمعة والجماعة والغزو والجهاد، وكنّ يتلقّين العلم، ويسابقنَ في مضامير العمل, ما قعد بهن منع الاختلاط عن تحصيل ثواب أو التفوق في الحصول على أجر، لكن أعداء الله عزّ وجلّ يريدون أن يصوِّروا لنا أن منع الاختلاط معناه أن تحرم المرأة من العلم والعمل، يقولون لنا: أتريدون أن نعود إلى عصر الحريم؟! أتريدون لنا أنْ نرجع إلى القرون الوسطى، إلى العصور المظلمة؟! ونحو ذلك من كلام يهوِّلون به، ويخوّفون كل مُصْلِح, كل من يدعو إلى إصلاح، وكل من يدعو إلى منع الفساد، يهولون عليه بمثل تلك الشعارات الباطلة, لكن يبقى الحق حقًا، ويبقى الباطل باطلاً، وإن دان به أكثر الناس, وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116].
أيها المسلون عباد الله، في أوائل هذا الأسبوع حملت إلينا الأخبار نبأ مشروع لاتفاقية سلام بين الحكومة وحركة التمرد، لكن لما كانت هذه الاتفاقية بنودها ليست واضحة، وما نُشِرَت نشرًا يستفادُ منه فائدة يترتب عليها موقفٌ شرعيٌ يتكلم به الدعاة وأهل العلم، فإنني أُرْجِئُ الكلام عنها إلى أن يتبين أمرها، وتتضح غاياتها، وتستبينَ معالمها، ليكون الكلام مبنيًا على يقين لا على ظن.
ونسأل الله عزّ وجلّ أن يصرف عنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار إلاّ طارقًا يطرق بخير يا رحمن, اللهم اجعل بلدنا هذا آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين, اللهم إنا نسألك أمنًا وعافية وصحة وسلامة وسعة رزقٍ وكرامة, اللهم ارزقنا الاستقامة في سائر الأقوال والأعمال, اللهم أرنا الحقَ حقًا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, اللهم اجعل لنا من كل همٍ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافية, اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم ثبت أقدامهم وقوِّ شوكتهم، واجمع كلمتهم، وسدد رميتهم، ووحِّد آراءهم وانصرهم على من عاداك وعاداهم, اللهم فُكَّ أسر المأسورين من المسلمين، اللهم فرِّج همومهم، ونفس كروبهم، وثبت قلوبهم, اللهم ارحم غربتهم وآنس وحشتهم، ولا تجعل لكافرٍ على مؤمنٍ سبيلاً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا وارحمهم كما ربونا صغارًا، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علّمنا وتعلّم منا, اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا, اللهم اغفر لمن بنى هذا المسجد المبارك ولمن عَبَدَ الله فيه ولجيرانه من المسلمين والمسلمات، اللهم مَنْ وسّع علينا مسجدنا هذا وسِّع عليه في الدنيا والآخرة، اللهم وسِّع عليه في الدنيا رزقه، ووسع عليه في الآخرة مُدخله وقبره، اللهم اشرح صدره ويسّر أمره واخلف عليه بخيرٍ مما أنفق يا سميع الدعاء, اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
(1/3539)
الأسباب المنجية من عذاب القبر
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
27/7/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- همّ المؤمن. 2- أهوال القبر وعذابه ودواعيه. 3- الأسباب المنجية من عذاب القبر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن أكبر ما يقلق أهل الإيمان، ويفزع أهل الإحسان، هو مصيرهم يوم خروجهم من هذه الدنيا، إلى أين الذهاب؟ إلى رحمة أم عذاب؟ إلى نعيم أم جحيم؟ فلقد رأينا أكثر الناس يجتهدون كل الاجتهاد لاجتناب أسباب المرض وأسباب الفقر، يتخذون جميع الأسباب لئلا يقعوا في آفات الدنيا ومصائبها، فأولى بهم أن يجتهدوا لاجتناب العذاب الذي لا ريب في وقوعه، ونحن نعلم أن أكثر الناس له معرَّضون، والناجون منه قليلون، فظواهر القبور تراب، وبواطنها حسرات وعذاب، تراها بالحجارة المنقوشة مبنيات، وفي باطنها الدواهي والبليات، تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها، قد حيل بينها وبين أمانيها، تالله لقد وعظتْ فما تركت لواعظ من مقال، ونادت: يا عُمّار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة على الزوال، وخربتم داراً هي لكم دار المآل، عمرتم بيوتاً لغيركم سُكناها، وخربتم دارا ليس لكم سواها.
وسنتحدث اليوم عن أسباب النجاة من عذاب القبر، فاعلموا أن الأسباب المنجية من عذاب القبر سبعة:
1- الدعاء والتعوذ بالله منه: فلم يُعبد الله تعالى بمثل الدعاء، فهو العبادة كما قال رسول الله. إنه التذلل والخضوع والافتقار له سبحانه، فأكثروا من أن تقولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، كأنك بدعائك تقول: اللهم إنه لا حول لي ولا قوة، وسأقدم يزما على القبر، فليس لي سوى عفوك ومنِّك وكرمك.
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما
تعاظم ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ولما كان معظم الناس يتهاونون بالدعاء، وينسون التعوذ بالله من عذاب القبر، علمنا رسول الله وأمرنا أن نقول في آخر صلاتنا بعد التحية قبل السلام: ((اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال)) ، حتى إن بعض السلف كان يأمر من لم يقل هذا الدعاء بإعادة الصلاة.
كما علمنا رسول الله أن نقول في جملة أذكار الصباح والمساء: ((ربِّ، أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر)).
إذا رآك الله تعالى وسمعك تتضرع إليه بذلك، تسأله النجاة من أعظم المهالك، فإنه يستحي أن يرد عبده خائباً وهو القائل: ?دْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، وهو القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ?لدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
يا من يرى ما في الضمير ويسمع أنت المعدّ لكل ما يُتوقع
يا من يُرَجَّى في الشدائد كلها يا من إليه المشتكى والمفزع
2- اجتناب الأسباب الموجبة لعذاب القبر والتوبة إلى الله منها: ومن تلك الأسباب ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، والافتراء والكذب على الناس، وأكل الربا، والزنا، وأذى المرأة لزوجها وجيرانها، وإتعاب المرأة زوجها بالنفقة، وإفطار يوم من رمضان لغير عذر، والغلول، والمشي بالنميمة، وترك الاستبراء من البول.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: إن ارتكاب ما هو أعظم من هذا يوجب عذاب القبر من باب أولى، قال: فالذي ينقل الأخبار ليوقع العداوة بين المسلمين وإن كان صادقاً عذِّب في قبره، فما بالك بمن يكذب في ذلك؟! فهو أشد عذاباً، ومن ترك الاستنزاه من البول الذي هو بعض واجبات الصلاة، فالذي يترك الصلاة أعظم منه عذاباً، والذي سرق شملة من المغنم وله فيها حق لأنه قاتل عذِّب في قبره، فما بالك بمن يأخذ ما ليس له فيه حق؟! إذن فليسارع العبد إلى التوبة من ذلك كله.
3- قراءة سورة الملك: أي حفظها والمبادرة إلى فهمها، فقد روى أصحاب السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن سورة في القرآن ثلاثون آية شفَعَت لصاحبها حتى غفر له: تَبَارَكَ ?لَّذِى بِيَدِهِ ?لْمُلْكُ )). وصح أن النبي سماها المانعة.
لذلك ثبت عن جمع من السلف أنهم كانوا يعلّمون أهليهم وأولادهم سورة الملك، ولا ينامون حتى يقرؤوها.
4- الشهادة في سبيل الله: فقد روى الترمذي وابن ماجه عن المقدام بن معدي كرب قال: قال رسول الله : ((للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين من أقاربه)).
وروى النسائي أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟! فقال رسول الله : ((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله مثبت القلوب، غافر الذنوب، ساتر العيوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كاشف الكروب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وخليله وصفيه، إمام الأنبياء وسيد الأتقياء وأشرف المرسلين، اللهم صل عليه وسلم وبارك، وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.
أما بعد: فمن أسباب النجاة من عذاب القبر أيضا:
5- الموت مرابطاً في سبيل الله: والرباط هو الإقامة بثغور البلدان الإسلامية وحدودها لحراستها من العدو، وفضل الرباط عظيم، فقد روى مسلم عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمِن الفتّان)).
وفي سنن الترمذي عن فضالة بن عبيد أن النبي قال: ((كل ميت يختم له على عمله إلا الذي مات مرابطاً في سبيل الله، فإنه ينمَّى له عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتنة القبر)).
وهناك مبشرات للعبد تبشره وتبشر كل من يحبه بأنه ناجٍ إن شاء الله من عذاب القبر، قد عدّها بعض العلماء أسباباً، وفي الحقيقة هي ليست من عمل العبد، لذلك نعدها من المبشرات:
6- الموت بداء البطن: ففي سنن الترمذي والنسائي بسند صحيح عن عبد الله بن يسار قال: كنت جالساً وسليمان بن صُرد وخالد بن عرفطة، فذكروا أن رجلاً توفي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا حضرا جنازته، فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله : ((من قتله بطنه فلن يعذّب في قبره)) ؟! فقال الآخر: بلى.
7- الموت يوم الجمعة: ففي سنن أبي داود والترمذي بسند صحيح عن عبد الله بن عمرو عن النبي قال: ((ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر)).
هذه ـ عباد الله ـ أسباب العذاب وأسباب النجاة من عذاب القبر، ذكرناها لإخواننا المؤمنين، فمن صدرت منه هفوة توجب له العذاب جاءت أسباب النجاة بألف شفيع، ولا أذكركم إلا بأهمها: الدعاء واجتناب أسباب العذاب وإلى الله المرجع والمآب.
فنسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يجيرنا وإياكم من عذاب جهنم ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال والحمد لله رب العالمين.
(1/3540)
الشرك المنافي للتوحيد (1)
التوحيد
أهمية التوحيد
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
12/11/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المعاصي سبب البلايا والمصائب. 2- المعاصي منها صغائر وكبائر. 3- الفرق بين الصغيرة والكبيرة. 4- الشرك بالله أعظم الذنوب وأكبرها. 5- توحيد الله أعظم الطاعات. 6- التوحيد دعوة جميع الأنبياء. 7- دليل أهمية التوحيد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد تحدثنا معكم في الخطبة الأخيرة عن المعاصي والآثام والذنوب، وعن آثارها على الأفراد والشعوب، وكيف يطبع الله بسببها على القلوب، فهي أولى أن تكون حديث الساعة، وأن يكون شغلنا الشاغل وهمنا الأكبر هو معرفتها لاجتنابها والابتعاد عنها. كيف لا يكون ذلك هو الأولى، والله سبحانه وتعالى يقسم في كتابه سبعة أقسام متتالية على أن مدار الفلاح والفوز بالجنان هو في تركها واجتنابها، ومدار الخيبة والخسران في فعلها واقترافها، واستمعوا إلى هذه الأقسام: وَ?لشَّمْسِ وَضُحَـ?هَا وَ?لْقَمَرِ إِذَا تَلـ?هَا وَ?لنَّهَارِ إِذَا جَلَّـ?هَا وَ?لَّيْلِ إِذَا يَغْشَـ?هَا وَ?لسَّمَاء وَمَا بَنَـ?هَا وَ?لأَرْضِ وَمَا طَحَـ?هَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـ?هَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـ?هَا [الشمس:1-10].
كيف لا نتحدث عن الذنوب والمعاصي والله سبحانه يذكرنا دائمًا بأنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، يذكرنا دائمًا بأنه ما من مصيبة تنزل بالمسلمين وقاصمة تقصم ظهور المؤمنين في دينهم أو مالهم أو عرضهم أو نفوسهم أو أهليهم فهي بسبب ما يكتسبونه قال تعالى: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30]، ويعفو عن كثير مما تقترفه جوارحنا وتسعى إليه أهواؤنا، وَلَوْ يُؤَاخِذُ ?للَّهُ ?لنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ [النحل:61].
كيف لا نتحدث عن الذنوب ونحذر منها وهي تسلب المرء أسماء المدح والشرف، وتكسوه أسماء الذم والصّغار، تسلبه اسم المؤمن، المتقي، الصالح، العابد، الخائف، الولي، الطيب، الأوّاب، الزاهد، الورع، العفيف، المحسن، البرّ، المطيع، المنيب، الوفي، والله تعالى قد علق النصر والعزة والفلاح بهذه الأسماء، فتسلبه الذنوب كل ذلك وتكسوه أسماء الفاجر، العاصي، المفسد، الخبيث، الخائن، القاسط، المخالف، المسيء، وقد علق الله عليها أسباب الخذلان والذل والخسران.
ولقد صدق الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى حين قال:
رأيت الذنوب تميت القلوب ويورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب فخير لنفسك عصيانها
والذنوب ـ عباد الله ـ إما صغائر أو كبائر، ويجب على المسلمين عامة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر خاصة أن يدركوا التمييز، فإن الجهل بمراتب الذنوب يورث الجهل بسياسة النفوس، ويخلف فوضى عارمة في الدعوة إلى الله تعالى. فكم رجل رأيناه يزهد في الدُّرَّة ليحصل على الذُرة، ويبني قصرًا ليهدم مصرا، جهل بفقه الدعوة فقدَّم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم:
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا يا سعد تورد الإبل
فاعلموا ـ إخوتي الكرام ـ أن الكبيرة هي كل ذنب عظم حتى رتب الله عليه حدّا في الدنيا أو وعيدا في الآخرة، أو اقترن به لعن أو غضب أو نفي الإيمان عن صاحبه كما قال النووي في "شرحه لمسلم" وابن القيم في "مدارج السالكين".
والصغيرة هي ما دون ذلك، أي: لم يقترن بها حدّ في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو لعن أو غضب أو نفي الإيمان عن صاحبه، مثل البصاق في المساجد وإنشاد الضالة بها والالتفات في الصلاة وغير ذلك.
وعلينا أن نلاحظ أن الصغيرة إن جهر بها وافتخر بها وفعلها صاحبها بطرًا وكبرًا تحسب عليه كبيرة من الكبائر لما قارنها من آثار الكبر والغرور.
عرفنا الفرق بين الكبيرة والصغيرة، فما حكم كل واحد منها؟
ألا فاعلم أن الصغائر تكفرها وتمحوها الحسنات كما قال تعالى: إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ [هود:114]، تكفرها الصلاة والصيام والصدقة وغير ذلك من الحسنات، لأن الذي يحرص على أعمال البر هذه تجده بالضرورة مجتنبًا للكبائر والله يقول: إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَـ?تِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيمًا [النساء:31]، فهذا يستلزم ذاك.
أما الكبائر: فاعلموا أن صاحبها موقوف على الخطر، لا تكفرها الحسنات، لا تكفرها إلا التوبة الصادقة الخالصة مع شروطها الكاملة، والله يتولاه بمغفرته إن شاء.
إذا علمنا ذلك كله فما هي الكبائر وما عددها وما أعظمها؟
ألا فاعلموا أن أكبر الكبائر على الإطلاق، وأعظم الذنوب بالاتفاق، والتي لا يكفرها شيء ولا يغفرها تعالى لمن مات عليها مصرّا هي الشرك بالله تعالى، كل كبيرة يموت عليها العبد ربما غفرها الله له تفضلاً منه وامتنانا إلا الشرك، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذ?لِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَـ?لاً بَعِيدًا [النساء:116].
الشرك هو الطامة الكبرى والمصيبة العظمى التي تهدد صرح هذا الدين، وتدك حصون المسلمين. وما أعظم قول الله تعالى فيه: وَمَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ?لسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ?لطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ?لرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج:31].
الشرك هو أكبر ظلم في حق الله تعالى كما قال لقمان لابنه: إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:12].
فالظلم هو وضع الشيء في غير محله، والشرك بالله هو صرف شيء من العبادة إلى غيره تعالى، فهي إذن في غير محلها.
لذلك كله، كان التوحيد هو أوّل الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو الذي لأجله خلق الخلق وأرسلت الرسل، وأنزلت الكتب، وأقيمت الدواوين، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكافرين، وسعداء في جنة النعيم، وأشقياء في نار الجحيم، ويوضح ذلك كله أمور:
أولها: من فتح المصحف وأراد أن يعرف أول أمر لله تعالى فيه، لوجد أول أمر في القرآن هو الأمر بتوحيد رب العالمين حيث قال عز وجل: يَـ?أَيُّهَا ?لنَّاسُ ?عْبُدُواْ رَبَّكُمُ ?لَّذِىْ خَلَقَكُمْ وَ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، ولو أراد أن يعرف أول دعاء يعلمنا الله إياه لوجده دعاء للتوفيق إلى التوحيد حيث يعلمنا الله أن نقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، فهذا أول دعاء وذاك أول أمر.
الأمر الثاني: هو أن التوحيد هو أول ما دعت إليه الرسل والأنبياء، فترى كلمتهم واحدة، ودعوتهم متحدة، كلها تنادي بتوحيد رب العالمين قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَـ?هَ إِلاَّ أَنَاْ فَ?عْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وقال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?جْتَنِبُواْ ?لْطَّـ?غُوتَ [النحل:36]، وقال عز وجل: وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ?لرَّحْمَـ?نِ ءالِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45]، فأول نبي إلى الأرض نوح عليه السلام يخبرنا الله تعالى عنه فيقول: لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى? قَوْمِهِ فَقَالَ يَـ?قَوْمِ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ [الأعراف:39]، وبعد هود يقول: ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ [الأعراف:65]، وصالح يقول: ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُم مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ [الأعراف:72]، وقال شعيب: ?عْبُدُواْ ?للَّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلَـ?هٍ غَيْرُهُ [الأعراف:85]، وقال إبراهيم لقومه: ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَ?تَّقُوهُ ذ?لِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [العنكبوت:16]، ويعقوب يقول لبنيه: يَـ?بَنِىَّ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَى? لَكُمُ ?لدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132]، ويوسف عليه السلام يقول وهو في السجن: ي?صَاحِبَىِ ?لسّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ?للَّهُ ?لْوَاحِدُ ?لْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ مَّا أَنزَلَ ?للَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـ?نٍ إِنِ ?لْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذ?لِكَ ?لدّينُ ?لْقَيّمُ وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَ ?لنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف:39، 40]، وموسى كليم الله يقول لقومه: أَغَيْرَ ?للَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَـ?هًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ [الأعراف:140]، وعيسى عليه السلام يقول: يَابَنِى إِسْر?ءيلَ ?عْبُدُواْ ?للَّهَ رَبّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِ?للَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ ?للَّهُ عَلَيهِ ?لْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ?لنَّارُ وَمَا لِلظَّـ?لِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، ثم جاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد فأكد دعوتهم، وأتم الله به رسالتهم فهو عاش للتوحيد وعلى التوحيد وبالتوحيد بآمر الله تعالى القائل له: قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ?لْمُشْرِكَينَ [الأنعام:14].
وقال هرقل لأبي سفيان يسأله عن النبي : ما يقول لكم؟ فقال: يقول: ((اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا)). لذلك عندما بعث النبي معاذًا إلى اليمن قال له: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله...)).
الأمر الثالث: كما كان التوحيد هو أول دعوة الرسل كان هو خاتمة دعوتهم، فانظر إلى إبراهيم كيف يوصي وبم يوصي ذريته قال تعالى: وَوَصَّى? بِهَا إِبْر?هِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَـ?بَنِىَّ إِنَّ ?للَّهَ ?صْطَفَى? لَكُمُ ?لدّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [البقرة:132].
ويعقوب بدوره يوصي عند موته بتلكم الكلمة الطيبة لا إله إلا الله فيقول تعالىمخبرًا عنه: أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ ?لْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِى قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـ?هَكَ وَإِلَـ?هَ آبَائِكَ إِبْر?هِيمَ وَإِسْمَـ?عِيلَ وَإِسْحَـ?قَ إِلَـ?هًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة:133].
وكذلك كان حال نبينا حين حضرته الوفاة، وهو في سكرات الموت يعالج آلامها وشدائدها ويقول: ((إن للموت لسكرات)) ، لا يمنعه ذلك كله أن يقول: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) ثم يغمى عليه، ثم يفيق ويقول: ((لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك)) ، ثم يغمى عليه ويفيق مرة أخرى ويردد ما يقوله. ابتدأ دعوته بالتوحيد، وعاش لأجل التوحيد، وها هو يموت ويوصيكم بالتوحيد، فهلا سارعنا إلى تطبيق وصيته ووصية إخوانه من الأنبياء والمرسلين.
أسأله تعالى أن يوفقنا إلى الحياة على توحيده والوفاة على توحيده، وأن يلهمنا القدرة على محو الشرك وتنديده، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رضي الله لنا الإسلام دينا، وهدانا إلى توحيده وبين سبيله تبيينا، وكفى بربك هاديًا ومعينا. وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له في ربوبيته وإلهيته، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالحق شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فقد ذكرنا لكم ثلاثة أمور توضح لنا أهمية توحيد الله رب العالمين، ذلكم يتلخص في كون التوحيد هو أول أمر لله تعالى في كتابه، وأنه أول ما تدعو إليه الرسل وآخر ما تنادي به.
الأمر الرابع: هو أن العلم والشهادة بأن لا إله إلا الله هو أول واجب على الإنسان إذا بلغ سن التكليف، وهو أول ما يدخل به الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، وها هو قوله يدل على ذلك: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)) رواه مسلم، كما قال : ((من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة)). فالتوحيد أول واجب وآخر واجب.
الأمر الخامس: من يتصفح القرآن الكريم، ويتدبر كلام الله العظيم يجد آياته كلها تدور في فلك الدعوة إلى التوحيد، وتأتي على الشرك بالإبطال والتنديد، لأن القرآن إما خبر عن الله سبحانه وأسمائه وصفاته وأفعاله، وهذا يمثل توحيد الربوبية والأسماء والصفات، وإما دعوة إلى عبادته وحده وطاعته ونبذ من دونه وهذا هو توحيد الألوهية والعبادة. وإما تراها خبرًا عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته وما يكرمهم به في الدنيا والآخرة من الحسنى والثواب، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعله الله بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في الآخرة من الوبال وهذا جزاء من خرج عن توحيده. ومما يزيد ذلك وضوحًا الأمر السادس.
وهو أعظم شيء تفزع عند ذكره القلوب، ألا وهو أن انعدام التوحيد بارتكاب ناقض من نواقض الإيمان عقابه الخلود الأبدي في النار نعوذ بالله منها، فمن أشرك بالله شيئًا من عبادة أو ذبح أو نذر أو طواف أو غير ذلك فجزاؤه الخلود في النار ولا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وهناك أمور أخرى غير ما ذكرناه لولا خشية الإطالة لسردناه، إلا أن في هذا ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وقد يقول قائل: ولماذا تحدثنا عن الشرك؟ هل ترانا مشركين؟ هل ترانا نعبد غير رب العالمين؟ والجواب عن ذلك أننا نقول:
إن التوحيد لا يعني أبدًا عبادة الله، بل هو عبادة الله وحده لا شريك له والكفر بمن هو دونه، فلا يمكن ولا يصح إيمان أحد من الناس حتى يكفر بما عدا الله تبارك وتعالى، لذلك كانت كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" أولها نفي وآخرها إثبات، نفي الألوهية عن غير الله، وإثبات وحصر الألوهية فيه سبحانه، قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِ?لطَّـ?غُوتِ وَيُؤْمِن بِ?للَّهِ فَقَدِ ?سْتَمْسَكَ بِ?لْعُرْوَةِ ?لْوُثْقَى? [البقرة:256]، فهل كفرت بمن هو دون الله؟ هل تعرف ما هي نواقض التوحيد؟
فإن لم تكن تدري فعليك إذن المسارعة إلى معرفتها. وإن كنت تدري فعليك المسارعة إلى الحذر والتحذير منها.
فكم من أناس ينتسبون إلى الإسلام يصلون ويصومون، ويتصدقون ثم يرون أعمالهم يوم القيامة هباء منثورا لأجل ما ارتكبوه من شرك في عباداتهم. أليس هذا هو الخسران المبين؟! يقول الله تعالى مخاطبًا نبيه: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الزمر:65].
(1/3541)
الشرك المنافي للتوحيد (2)
التوحيد
أهمية التوحيد, الشرك ووسائله
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
19/11/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تعريف التوحيد وصور العبادة الخالصة. 2- الشرك في قوم نوح. 3- مغالطات بعض من تعمم بالجهل والثقافة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد تحدثنا معكم في الخطبة الأخيرة عن أكبر الكبائر في هذا الوجود، وأعظم الذنوب في حق الله الرحيم الودود، ألا وهو الشرك بالله الذي لا يغفره الله لعبده إذا مات عليه. وكان آخر نداء لإخواننا الكرام هو عدم الاغترار بالنفس، فإن المؤمن لا يأمن على نفسه الوقوع في حبال الشرك بعد أن لم يأمنه الأنبياء والمرسلون على أنفسهم، قال تعالى: وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ ?لْخَـ?سِرِينَ [الزمر:65]، هذا ما أوحاه الله إلى كل الأنبياء، حيث ذكر الله تعالى في كتابه في سورة الأنعام ثمانية عشر رسولاً من بينهم أولو العزم من الرسل يحذرهم من الوقوع في الشرك فقال: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـ?هَا إِبْر?هِيمَ عَلَى? قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـ?تٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَـ?قَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَـ?نَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى? وَهَـ?رُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِى ?لْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى? وَعِيسَى? وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ وَإِسْمَـ?عِيلَ وَ?لْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَى ?لْعَـ?لَمِينَ وَمِنْ ءابَائِهِمْ وَذُرّيَّـ?تِهِمْ وَإِخْو?نِهِمْ وَ?جْتَبَيْنَـ?هُمْ وَهَدَيْنَـ?هُمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ ذ?لِكَ هُدَى ?للَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:82-88].
ثمانية عشر نبيًا مهدّدون بحبوط الأعمال لو أشركوا بالله الكبير المتعال، فهل يأمن على نفسه من هو دونهم؟!!
وقد علمنا أن العبد لا يكون موحدًا التوحيد الصحيح الذي ينجيه في الدنيا من القتل والأسر، وفي الآخرة من عذاب النار بمجرد اعتقاده أن الله هو رب كل شيء وخالقه ومليكه ومدبره، فإن مثل هذا التوحيد كان يقر به المشركون الذين بعث فيهم الرسول ، بل لا بد مع ذلك كله من توحيد الألوهية الذي هو الغاية العظمى من بعثة الرسل، وحينئذ من المهم جدًا أن نتعلم التوحيد الذي هو حق الله على العبيد والذي يشترط للنجاة من الخلود في العذاب الشديد.
فما التوحيد؟ وما الشرك؟ وكيف ظهر الشرك في هذه الدنيا؟ وما مظاهر هذا الشرك أعاذنا الله وإياكم منه؟
التوحيد هو صرف جميع العبادات لله والإخلاص له فيها وحده. فكل ما تعلمه أنه عبادة لله يحرم عليك صرفها إلى غيره تعالى، سواء كانت تلك العبادة قلبية أو قولية أو بدنية.
مثال القلبية: الحب والخوف والرجاء والتوكل.
ومثال القولية: الدعاء والتعوذ والاستغاثة والحلف.
ومثال البدنية: الصلاة والحج والطواف والذبح وغيرها.
فكل ذلك يجب أن يكون لله وحده لا شريك له قال تعالى آمرًا نبيه : قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].
فإن صرفت جزءًا من أجزاء العبادة القلبية والقولية والبدنية إلى غير الله عز وجل كنت قد أشركت به تعالى.
فكيف بدأ الشرك في هذه الدنيا؟
ألا فاعلموا أن الناس بين آدم ونوح عليهما السلام كانوا على الفطرة السليمة وعلى التوحيد الخالص، وبقوا على ذلك قرونًا من الزمن، حتى توفي منهم رجال صالحون بلغوا القمة في التقوى والصلاح، مثل ودّ في بني كلب بدومة الجندل، وسواع في بني هذيل، ويغوث في مراد، ويعوق في همذان، ونسر في حمير، ماتوا، فجاء الشيطان يوحي للناس قائلاً: ما ينبغي لكم أن تتركوا سيرة هؤلاء الرجال تذهب أدراج الرياح، اجعلوا لهم تماثيل يذكرهم الناس بها جزاء صلاحهم واستقامتهم ففعلوا، وبعد مضي جيل جاء الشيطان ليقول لهم: إن آباءكم ما اتخذوا تماثيل لهؤلاء إلا لأن لهم جاهًا عظيمًا ومقامًا رفيعًا عند الله، فقد كانوا يدعونهم ويستسقون بهم المطر، فصار الناس يدعونهم ويعتقدون فيهم تفريج الكربات وإجابة الدعوات. هذا تفسير ابن عباس لقوله تعالى في سورة نوح: وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23].
فبالله عليكم ألا يوجد مِن هذا في أيّامنا هذه في بلاد المسلمين؟! ألم يتخذ الناس اليوم قبابًا ومساجد وأضرحةً لأناس صالحين مثل عبد الرحمن الثعالبي بالعاصمة وبلال والهواري بوهران وإدريس بتيارت وأبو مدين بتلمسان وعبد الرحمن الإيلولي وغيره كثير في بلاد القبائل وآلاف مثلهم في الجنوب الجزائري؟! ناهيكم عن البلدان الإسلامية الأخرى التي تبلغ القباب المنتصبة فيها أكثر من خمسين ألف قبة تزار ويطاف بها ويذبح لها ويدعى أصحابها، فأين أتباع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعهم أفضل الصلوات وأزكى التسليم؟!
لماذا نرى الناس ينددون بكل شيء؛ بأزمة السكن وبأزمة العمل وبأزمة الأمراض وبأزمة الفقر، فيرسلون الرسائل والخطابات ويعقدون المجالس والمؤتمرات، ولا يكلفون أنفسهم إقامة مؤتمر واحد للتنديد بهذا الشرك؟! ولكنه حق الله لا يهمنا بأكثر مما تهمنا حقوقنا والله المستعان.
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم والمنكرون لكل أمر منكر
أبنيَّ إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصر
فطِن بكل مصيبة في ماله وإذا تصبه في دينه لم يشعر
وقد يقول قائل متشدق تعمّم بالجهل وانتعل بالعفن الفكري: لا يمكن أن يبتعد الناس عن الشرك ومظاهره حتى نقضي عل كل آثار الفقر والمرض والبطالة وغير ذلك...
وهذا القول حكايته تغني عن رده، ويدل على جهل فظيع بسنن الله الكونية فضلاً عن أوامره الشرعية، ولا أراه إلا يساوم ربه سبحانه على حقه فقلب الموازين لفرط حمقه.
فيقال له: أولاً: قلبت الموازين، فالله سبحانه وتعالى يعلق الأمن والفلاح والعزة والنصر على التوحيد، وتأتي أنت لتعكس ذلك كله، فلا أراك إلا منتهجًا مذهب أبي نواس: "وداوني بالتي كانت هي الداء".
ثانيًا: انظر إلى أكبر الدول الصناعية اليوم والتي حققت ـ في نظرك ـ الحياة المثلى لأقوامها، تجدها مع غناها وتقدمها، تجدها دولة وثنية كالصين واليابان يعبدون بوذا وكونفوشيوس، والنصارى يعتقدون أن نبي الله عيسى ابن الله وإلهٌ في الوقت نفسه، ولو اتصلت بالمركز العالمي للإحصاءات وسألت عن أكثر الديانات انتشارًا في العالم لقيل لك الوثنية في المرتبة الأولى، كل ذلك يدل على أن الشرك بالله سببه ضعف العلم بالله، وغياب وحيه وهداه، لا علاقة للفقر والبطالة به.
ثالثًا: هلا أريتنا قومًا بلغوا القمة في التوحيد أكثر من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، كانوا لا يشبعون من خبز الشعير، ويموت أحدهم ولا يجدون ما يكفنونه به، فهل نُقِل عن أحدهم أنه أشرك بالله، حاشا وكلا.
إذن، يجب تعليم الناس توحيد رب العالمين وبيانه لهم حتى يضمنوا الأمن والتمكين في الدين، هذا هو العهد الذي يجب أن يقطعه العبد لربه:
يقولون مع أي الفريقين تضلع فلم يبق للإحجام والصبر موضع
فقلت: أما والله ما في قلوبنا لغير جلال الله والحق موضِع
فقد تصبح الدنيا لإبليس شيعةً ونحن لغير الله لا نتشيَّع
فأين إذن عهدٌ قطعناه لربنا بأنَّا له دون البريَّةخُضَّع
بلى نحن جند الله بِعناه واشترى فلا هو يُعفينا ولا نحن نرجع
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/3542)
الشرك في محبة الله
التوحيد
الشرك ووسائله
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
4/12/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- منزلة محبة الله وأهميتها. 2- محبة الله شغل عنها البطالون بسفاسف الدنيا. 3- صور لشرك المحبة. 4- الاتباع دليل المحبة وبرهانها. 5- لماذا نحب الله وحده؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإننا لا نزال نتحدث معكم عن حقوق الله تعالى التي يجب على العباد القيام بها وعدم التغافل عنها، وحديثنا اليوم هو عن أعظم منزلة تنافس عليها المتنافسون، وشخص إليها العاملون، وشمّر لها السابقون، وتفانى عليها المحسنون، وبرَوح نسيمها تروّح العابدون، عن أعظم منازل السائرين، وأشرف مدارج السالكين، ألا وهي منزلة "المحبة"، محبة الله تعالى وحده لا شريك له، شفاء القلوب، وغذاء النفوس، وقرّة العيون، تلكم العبادة القلبية التي من حرمها كان من جملة الأموات، ومن فقد نورها عاش في دياجير الظلمات.
تلكم العبادة هي الشفاء إذا حلّت بقلبك الأسقام، هي اللذة التي تنزع عنك ركامًا من الآلام. حبّ الله والأنس به هو الذي حمل أثقال المحسنين إلى بلادهم الجنة لم يكونوا إلا بشقّ الأنفس بالغيها، ولم يكونوا دونه واصليها، ووالله لقد ذهب أهل حب الله بشرف الدنيا والآخرة.
ويا حسرة من خرج من هذه الدنيا ولم يذق طعم حب الله تعالى ولذة الشوق إليه وحلاوة الالتجاء إليه، وقد قال أحدهم وهو على فراش الموت يبكي: "خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أعظم وأحلى ما فيها: حب الله والأنس بذكره".
ولا يمكن لأحد أن يعرِّف حب الله، بل تعريفه هو وجوده في القلب ومزاولته.
قل لمن عاش حياته يركض وراء المال: ما الذي أضناه؟ سيقول: حب المال.
وقل لمن عاش حياته يركض خلف المرأة: ما الذي أعياه؟ سيقول: حب النساء.
وقل لمن عاش حياته يخدم نفسه وجسده: ما الذي أطغاه؟ سيقول: حب النفس.
وقل لمن عاش دهرًا يخدم سيّده ويتفانى في خدمته: ما الذي أرداه؟ سيقول: حب الجاه.
وسل الذي باع نفسه وماله لله: ما الذي أرضاه؟ سيقول: حب الله، يوم عرض الله عليه السلعة فلم يرض إلا أن يبذل نفسه، يوم تأخّر المبطلون قام المحبّون يستجيبون ويعقدون الصفقة معه سبحانه، فعرفوا عظمة المشتري وفضل الثمن وجلالة السلعة، فرأوا أن الغبن كل الغبن أن يبيعوها لغيره بثمن بخس، فعقدوا معه بيعة الرضوان من غير ثبوت الخيار، فلا يرضون عنه سبحانه بديلاً، ولو عرضت عليهم كنوز الدنيا وخزائنها.
حب الله هو أن تحبه أكثر من نفسك ومالك وولدك والناس أجمعين.
حب الله هو أن تجد الحلاوة العظمى بعبادته، وتجد الضيق الأكبر إن شغلت عنه طرفة عين، ففي الصحيحين عن النبي قال: ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)).
حلاوة ما بعدها حلاوة، ولذة ما أعظمها من لذة، حرمها من حرمها، ونالها من نالها، وكان ذو النون المصري يقول بعد انتهائه من صلاة الليل:
اطلبوا لأنفسكم ما وجدت أنا
قد وجدت لي سكنا ليس في هواه عنا
إن بعدت منه قربني وإن قربت منه دنا
وللأسف، هذه العبادة العظيمة لم تسلم من الشرك أيضًا، قال تعالى: وَمِنَ ?لنَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ ?للَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ ?للَّهِ وَ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ [البقرة:165].
قال علماء القلوب: إن الحب هو أصل كل حركة في هذا الوجود، فإن وقع شرك في هذا الأصل فسد كلّ شيء بعده، وتفصيل هذا الكلام هو أننا نرى كثيرًا من الناس فضّلوا متاع الحياة الدنيا وزينتها وانشغلوا بها عن الغاية الأسمى التي من أجلها خلقوا، ولأدائها رزقوا، فتراهم يبذلون كل حقير ونفيس وكل ثمين ورخيص لأجل دنياهم ولا يبذلون، بل لا يحاولون أصلاً أن يبذلوا ما هو أقلّ من ذلك من أجل مولاهم.
تثقل عليهم الطاعة وتسهل عليهم المعصية ثم يدّعون حب الله.
يأمره الله ربه ورازقه ومدبّر أموره بالصلاة لوقتها، فيراه حكمًا شديدًا غليظًا، ولو أمره سيّده أو رئيسه بحمل الجبال لقال سمعًا وطاعة، ثم يدّعي محبة الله!! لماذا؟ لأنه يحب المال ويرى نفسه مفتقرًا إليه دائمًا.
فلما كثر المدّعون لهذه العبادة العظمى طولبوا جميعًا بإقامة الدليل عليها، إذ البينة على المدّعي، ولو يعطى الناس بدعواهم لادّعى الخليّ حرقة الشجيّ، قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ?للَّهَ فَ?تَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ ?للَّهُ [آل عمران:31] آية فاضحة لكل مدّع مغرور، وكاشفة لحجابه المستور.
من كان يحب الله حقًا فليطعه ولا يعصه، مَّا جَعَلَ ?للَّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ [الأحزاب:4].
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ذا لعمرو الله في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحب لمن يحبّ مطيع
برهان المحبة هو الخضوع والتذلل، فإننا نرى الخاطب يريد الزواج يبذل كل ما لديه لنيل مقصوده وبلوغ منشوده، ولا يبذل أقل من ذلك لأجل خدمة دين الله.
نرى الرجل لا يفوته موعد انطلاقه إلى عمله، فيستيقظ باكرًا، ولا يستيقظ ليجيب داعي الله لصلاة الفجر، ثم يدّعي محبة الله.
إذن ما حدث من طاعة، وما تقرب إلى الله بقربة، وما قامت عبادة إلا بالحب.
وما حدث من معصية وما تقرب إلى شيء إلا بالحب.
واسأل الذي يكبر تكبيرة الإحرام ولا يرضى خروجًا من الصلاة: ما الذي طمأنه؟
واسأل الذي يكبر تكبيرة الإجرام ولا يرضى مفارقة التلفاز أو الغناء: ما الذي أقعده؟
ذاك محبّ لله ومناجاته فعمل بطاعة الحبيب، وذاك محب للفساد وملاقاته ولا يرضى مفارقة الحبيب، وشتان بين ما يزلف وبين ما يتلف.
لشتان بين اليزيدين في الندى اليزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
فهم الفتى الأزدي إتلاف ماله وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسبن التمتام أني هجوته ولكني فضّلت أهل المكارم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أعظم محبوب، وأكبر مرغوب، مثبت القلوب، وغافر الذنوب، ومفرّج الكروب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الله لا يرضى بمزاحمة المخلوقات في قلبك، أخلص الحب له وحده، وكلُّ مخلوقٍ محبوبٌ بعده، اقترب منه وما تقرب العبد إلى ربه بشيء أحب من الفرائض والواجبات، ولا يزال العبد يتقرب ويقترب من الله حتى يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، هو المنعم لا منعم سواه فتذكر نعمه تحبه، هو الرحمن الرحيم لا راحم سواه فتذكر عظيم رحمته بك تحبه، هو الرزاق لا رازق سواه فتذكر ما يسبغه عليك من رزق تحبه. لا تبتعد عنه بالمعاصي فإنك أحوج إليه من حاجة الطفل إلى أمه، وعليك بمناجاته فما أعظمه! وعليك بذكره ما أكرمه! وعليك بعبادته وحده ما أرحمه!
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
فإن صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
واعلم أن ما أصابك من مصيبة في نفسك أو ولدك أو أهلك أو مالك فإنما هو ابتلاء منه لك، لتلتجئ إليه بعد غياب طويل، ولتذكره بعد انقطاع شديد، وليسمعك تناديه باسمه: يا رب، يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث. يبتليك ليعلم مدى حبك له، هل ستفارقه عند النعمة وتنساه، أو تخاصمه عند النقمة ولا تخشاه؟ وهل نال إبراهيم عليه السلام ما نال من الخلة والمنزلة الرفيعة إلا بطاعة الله تعالى وتقديم أمره على أحب المحبوبات إليه وأعز الناس لديه؟! فعليك ـ يا عبد الله ـ بطاعة ربك فإنها عنوان المحبة والشاهد الصادق عليها، ودون ذلك فادعاء وغرور وبهتان وزور.
(1/3543)
خطبة عيد الأضحى لعام 1420هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
10/12/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- العيد موسم فرح بانقضاء عبادة يسرها الله للمؤمنين. 2- ما جاء في فضل يوم النحر. 3- فرضية الحج والتحذير من التسويف في حجة الفريضة. 4- حرمة المسلم في دمه وماله وعرضه. 5- الأضحية. 6- ثبات الإسلام في وجه المؤامرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فحياكم الله أيها الآباء والأمهات النبلاء، وأيها الإخوة والأخوات الفضلاء، طبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم من الجنة منزلاً، وأسأل الله تعالى الذي جمعنا في هذا اليوم المبارك على طاعته أن يجمعنا مع الحبيب محمد في دار كرامته.
ها هو يوم من أيام الله يطل على المسلمين ببركاته، ويهل على المؤمنين بنفحاته، يوم قال عنه النبي فيما رواه أبو داود: ((إن أعظم الأيام عند الله تبارك وتعالى يوم النحر)) ، يوم هو خاتمة العشر الأول من شهر ذي الحجة التي ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله منها.
وإن كانت لنا وقفة مع إخواننا المؤمنين في هذا اليوم فإننا سائلوهم سؤالاً قد يذكر العاقلين، وينبه الغافلين ألا وهو: لماذا هذا العيد؟ ما سبب فرحتنا في هذا اليوم؟
ألا فاعلموا أن عيد الأضحى يشير إلى ما أشار إليه عيد الفطر المبارك، عيد الفطر الذي عظمه الله تعالى لأنه يلي شهرًا مباركًا عظيمًا، أقام المؤمنون فيه العبودية لله من الصيام والقيام، فحق لهم أن يبتهجوا، وبالفرح والسرور يلتهجوا، لأن السعادة كل السعادة أن يكون العبد عبدًا، محققًا للغاية المنشودة والبغية المقصودة مفتخرًا برداء إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
وعيد الأضحى ما جاء كذلك إلا بعد انقضاء عبادة عالمية، من أعظم الشعائر الإسلامية، جاء بعد فريضة من فرائض رب العالمين، وركن من أركان هذا الدين فينبغي لنا أن نقف معكم وقفات خمسًا يتجلى فيها أسباب تعظيم هذا اليوم:
أولاً: هذا العيد إنما هو شكر للمنعم الواحد الأحد الذي وفق عباده المؤمنين إلى حج بيته الحرام، ذلك البيت الذي يعود منه المسلم طاهرًا نقيًا عفيفًا تقيًا، دون معصية كان قد اقترفها، أو كبيرة ارتكبها، فقد روى البخاري ومسلم أن النبي قال: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)) وكيف لا وفيه يوم عرفة، الذي أقسم به سبحانه وتعالى لعظمته عندما قال: وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ، فالشاهد هو يوم عرفة، والمشهود هو يوم الجمعة. كيف لا ويوم عرفة يوم مغفرة وعتق من النار، فقد جاء في صحيح مسلم عن عائشة مرفوعًا: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)).
دعاهم فلبّوه رضًا ومحبة فلمّا دعوه كان أقرب منهم
تراهم على الرمضاء شُعثًا رؤوسهم وغبرًا وهم فيها أسرّ وأنعم
لما رأت أبصارهم بيته الذي قلوب الورى شوقًا إليه تضرَّم
كأنهم لم يتعبوا قط قبله لأن شقاهم قد ترحّل عنهم
وراحوا إلى عرفات يرجون رحمة ومغفرة ممن يجود ويكرم
فيدنو به الجبّار جلّ جلاله يباهي بهم أملاكه فهو أكرمُ
يقول: عبادي قد أتوني محبة وإني بهم برٌّ أجود وأرحم
فأشهدكم أني غفرت ذنوبهم وأعطيتهم ما أمّلوه وأنعم
ثانيًا: ليتذكر الغافل ويسأل نفسه عن سبب فرحته اليوم؛ بالعيد؟! وأي عيد؟ ليس العيد بلبس الجديد وأكل اللحم والثريد، إنما العيد بطاعة رب العبيد، فليراجع كل منا نفسه وليتذكر الحج الذي أجمع المسلمون على فرضيته، ومن أنكره فقد كفر، ومن تهاون في أدائه فهو على خطر، إذ كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج وهو قادر عليه بماله وبدنه، وهو يعلم أنه من فرائض الإسلام وأركانه؟ كيف يبخل بالمال على نفسه في أداء هذه العبادة العظيمة وهو ينفق الكثير والكثير من ماله في شهواته ونزواته؟! كيف يغفل ويعتذر عن أداء الحج ولا يغفل عن تعمير البيت بالمتاع والأثاث؟! مع أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة، فكيف يتراخى عن أدائه؟! فلعله لا يستطيع الوصول إلى بيت الله الحرام بعد عامه هذا، لذلك نذكّره بقول عمر رضي الله عنه: (فليمت نصرانيًا أو يهوديًا، ليمت نصرانيًا أو يهوديًا، ليمت نصرانيًا أو يهوديًا، رجل قدر على الحج ولم يحج)، فيا قادرًا على الحج بمالك وبدنك كنت رجلاً أو امرأة، جدّد العهد مع الله، واعقِد النية على الحج قبل فوات الأوان.
ثالثًا: في هذا اليوم العظيم يدرك المسلم قيمة تلكم العبادة، الحج، إذ لأجلها شرعت الأضحية التي يتقرب بها إلى الله من حج ومن لم يحج، فالعمل خاص والفرحة عامة، هنا يدرك المسلم عظمة بيت الله الحرام ورفعته، فهو أول بيت وضع للناس، وهو البيت والموضع الوحيد الذي لم يملكه أحد على مرّ الدهور. ثم قِف ـ أيها المسلم ـ متأملا قوله وهو يطوف بالكعبة: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك؛ ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرا)) ، ألا فاعلموا أن المؤمن أعظم حرمة وأعظم رفعة من حرمة بيت الله العتيق.
وقال النبي في حجة الوداع يذكرنا بتلكم الحقيقة: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)) متفق عليه. فحذار حذار من المساس بعرض المسلم وماله ودمه، اجتنب ذلك كما تجتنب الإساءة لبيت الله الحرام، فيا ويح من يغتاب المسلمين ويقذفهم ويبهتهم ويكذب عليهم ويخونهم، ويتعرض لبناتهم ونسائهم، كل ذلك عرض له يحرم المساس به. ويا ويح من سفك دم مسلم بغير حق، ذلك الدم الذي أضحى يراق من هنا وهناك. فوالله إن هدم الكعبة وخرابها أهون عند الله من قتل رجل مسلم أو المساس بعرضه وماله.
رابعًا: في هذا اليوم يقبل العبد ليذبح ذبيحته فيقول: "بسم الله، والله أكبر، اللهم هذا منك ولك فتقبل مني"، فتأمل هذه الكلمات، وقف مليًا أمام قولك: "هذا منك ولك"، كيف تكون هذه الأضحية له تعالى؟ هل هو محتاج إلى أضحيتك؟! كلا وحاشا، قال تعالى: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37]، وقال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذ?لِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ?لْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]، فشعيرة الأضحية هي من شعائر الله التي تنادي بتوحيد رب العالمين، فأخلص نيتك وأصلح طويتك، ولا تكن من الذين قدموا هذه الأضاحي للمفاخرة بين الناس، أو لإفراح الأولاد، وإلا كنت كاذبًا في دعواك، فما أشدّ بلواك، ومن هنا تأخذ درسًا عظيمًا في الإخلاص لرب العالمين، إذ تذهب وتقطع جزءًا من مالك وتشتري به أضحية تقربها إلى الله، توسّع بها على عيالك، وتتقرب بالمحبة إلى جيرانك، وتسدّ بها جوع الفقراء من إخوانك.
خامسًا وأخيرًا: يجب على المسلمين أن يتطلعوا من وراء عظم هذه العبادات والشعائر الظاهرات، فالحج ومن بعده عيد الأضحى فيها إشعار كبير وكبير إلى أن هذا الدين الحنيف ماض إلى قيام الساعة، فعلى مر الدهور وعلى كر العصور لا يزال بيت الله الحرام يطاف ليل نهار، يؤمه الناس من كل حدب وصوب على الرغم من الضربات الموجهة من قبل أعداء المسلمين كل يوم له، وأي نظام وأي مبدأ وأي مذهب لو تحالف عليه الأعداء كما تحالفوا على الإسلام لانهدم صرحه وانقضّ سقفه في عشية أو ضحاها، ولكن الله تعالى من وراء ذلك التمكين والتأييد والتثبيت، الذي قال وقوله الحق: هُوَ ?لَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، ولو كره الكافرون.
انظروا إلى القنوات التي تنشأ كل يوم بالعشرات، قنوات وإذاعات تحاول إغراق شباب المسلمين وخيرتهم في مستنقع الشهوات، انظروا إلى دائرة المعارف المسيحية والأرقام المذهلة التي تذكرها لمحاولة صدّ المسلمين عن دينهم، ففي سنة 1990م أنفقت سبعين مليار دولار في بعثات التنصير، وفي عام 1980م أنفقت مائة مليار دولار، وفي عام 1985م أنفقت مائة وخمسة وعشرين مليار دولار، ولها ألف وخمسمائة وثمانون محطة راديو وتلفزيون، وواحد وعشرون ألف صحيفة وجريدة ومجلة في ورق ممتاز لجلب القراء، وفي عام 1984م وزعت أربعة وستين مليون نسخة من الأناجيل، كل ذلك لصرف المسلمين عن دينهم والشباب خاصة عن عبادة ربهم، ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره، فيبعث شبابًا كل يوم إلى اعتناق دينه الحنيف ولو كره الكافرون، ليستمرّ هذا الدين ودعوة الأنبياء والمرسلين إلى قيام الساعة، ولا أدلّ على ذلك من استمرار هذه الشعائر الإسلامية ظاهرة رغم أنوف المجرمين.
نقول هذا لئلا ييأس الصالحون ولا يقنط المصلحون في زمن الغربة ووقت اشتدت فيه الكربة، فإن المؤمن لا يجزع ولا يكل ولا ينوح كما ينوح أهل المصائب، بل هو مأمور بالصبر والتوكل على الله، والثبات على دين الإسلام، وليعلم أن العاقبة للتقوى وأن وعد الله حق لا ريب فيه.
لذلك أنصح نفسي وإياكم بالاستمساك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، جددوا البيعة مع الله، وتوبوا إليه وأقبلوا عليه، واستغيثوا بربكم عند كل بلاء، واشكروه وحده لا شريك له عند كل نعماء، ولا تدعوا الفرصة تُفلت من أيديكم، فلعله آخر عيد في دنياكم، ومن كان عليه حق لأخيه المسلم فليؤدّه إليه، ومن كان بينه وبين أخيه قطيعة فليطرحها تحت قدميه، فإن المؤمن من شيمته العفو والسماح، وما تلذّذ الشيطان الرجيم بشيء كما يتلذذ بالخصام بين المؤمنين.
وأنصح الأخوات المؤمنات والأمهات الفاضلات بالصبر والثبات على هذا الدين، فإنهن أساس بيوت المسلمين، فليطعن الله ورسوله، وليصبرن على محن الأيام، فإن الله قد وعد الصابرات القانتات العفيفات أجرًا عظيمًا.
عباد الله إني داعٍ اللهَ فأمّنوا.
اللهم يا حي يا قيوم، يا رحمن يا رحيم، يا مغيث عباده المؤمنين، يا من أمره بين الكاف والنون، وإذا قضى أمرًا فإنما يقول له: كن فيكون، ها نحن قد بسطنا إليك أكف الضراعة، متوسلين إليك بكل طاعة، نسألك بصفاتك العلى وبأسمائك الحسنى أن تهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.
ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.
ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار.
ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إمامًا.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدلٌ فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب غمومنا وهمومنا.
اللهم يا حيّ يا قيوم برحمتك نستغيث، اللهم ارفع البلاء عن المسلمين، وأعل كلمة الحق والدين، واخذل الكفرة والمشركين.
اللهم إنه قد حال بيننا وبينك الشياطين والشهوات، والملاهي والنزوات، فخذ بأيدينا إليك، لا إله إلا أنت العزيز الحكيم.
اللهم عاملنا بفضلك ولا تعاملنا بعدلك، وأغث عبادك الذين يشهدون لك بالوحدانية، ولرسولك بالتبليغ.
اللهم اهد حكام المسلمين وولاة أمورهم، واجعل لهم بطانة خير تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، اللهم حنّن قلوبهم على رعيتهم، واجعلهم ممن يقيمون دينك ولا يخافون فيك لومة لائم.
اللهم ارحم موتى المسلمين، واشف مرضاهم، واهد ضلالهم، وفكّ أسراهم، واقض ديونهم وحوائجهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اسقِنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم صيبًا نافعًا مريئًا غدقًا سحّا مجللاً طبقا غير رائث.
ها نحن قد دعوناك كما أمرتنا، فأجبنا كما وعدتنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّ اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/3544)
طهارة المريض وصلاته
فقه
الصلاة, المرضى والطب
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
21/10/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية المحافظة على الصلاة في أوقاتها. 2- ظاهرة التهاون بالصلاة. 3- سنة الابتلاء. 4- سؤال الله العافية. 5- اشتراط الطهارة للصلاة. 6- طهارة المريض. 7- صلاة المريض. 8- استقبال القبلة. 9- كلمة للأطباء ومن يقوم على المرضى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوَى.
عبادَ الله، يقولُ الله جلّ جلاله: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103].
يخبرنا جلّ جلاله عن أهمِّيّة الصلاةِ وعظيمِ شأنها، وأنها مَكتوبةٌ على المؤمِنينَ في أوقاتٍ معيَّنة: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا : مفروضة في أوقاتٍ محدَّدة بيَّنهَا الله جل وعلا ووضَّحها رسوله.
أيّها المسلم، مِن خُلُق المؤمِن الاهتمامُ بالصلاة، من خُلق المؤمِن العنايةُ بالصلاة، مِن خلُق المؤمِن إدامَتُه لأدائِها ومحافظته عليها، والله يقول: الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23]، ويقول: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ [المعارج:34، 35].
إذًا فالصلاة شأنها في قلبِ المؤمن شأن عظيم؛ يحافِظ عليها، ويلازمها، ولا ينفصِل عنها ما دامَ عقله حاضرًا، فما دامَ يشعر ويعقِل ما يقول فإنّه مطالَب بأداءِ الصلاة. قال الله جلّ وعلا عن عيسى ابن مريم: وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]. فما دام العبد حيًّا عاقلاً فإنّه مطالَبٌ بهذه الصّلاة، وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ، فما دام المسلِم في حال حياته يعقِل هذه الصلاةَ فهو مطالَب بأدائها على أيِّ حالٍ كان.
أيّها المسلم، إنَّ البعضَ من المسلمين قد يفرِّطون في الصلاة، لا كسَلاً عنها، ولا تهاوُنًا بها، ولكن قد يعرِض لهم شُبهٌ تجعَلهم يترُكون الصّلاةَ عن أوقاتها، لا سيّما من ابتُلِي بمرضٍ ما من الأمراض. فمَن ابتُلي بالمرَض بعضُهم قد يحمِله ذلك المرضُ على تأخير الصلاة عن أوقاتها وتأجيلِها إلى وقتٍ ما من الأوقات، حتّى يشفَى من ذلك المرَض الذي حلَّ به، ويَرَى أنّ هذا المرضَ يعيقُه عن أداءِ الصّلاةِ وعن استِكمالِ شروطِها وواجبَاتها، فترَاه يتساهَل بالصّلاة جهلاً منه لا تَكاسلاً ولا تهاونًا بها.
أيّها المسلم، اعلَم ـ وفّقني الله وإيّاك لكلِّ خير ـ أنَّ الله جلّ وعلا حكيم عليم في ابتلائه عبادَه بما يبتليهم به، فهو يبتليهم بالسّرّاء تارة وبالضراء تارة، كلُّ هذا الابتلاءِ والامتحان ليظهرَ شُكر الشاكر وصَبر الصابر، يقول الله جلّ وعلا: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد:31]. فيبتليهِم بالسّرّاء والضّرّاء، يقول : ((عجبًا لأمرِ المؤمِن، إنَّ أمرَه كلَّه لعجبٌ؛ إن أصابَته ضرّاء صبر فكان خيرًا له، أو أصابَته سرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وليس ذلك لأحدٍ إلاّ للمؤمن)) [1]. إذًا فالمؤمن عند البلاءِ يصبر ويرضى ويرجو ما وَعَد الله به الصابرين: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، وفي الحديث يقول : ((ما يصيبُ المؤمنَ من نصَبٍ ولا وصَبٍ ولا أذًى ولا همٍّ ولا حزن ولا غمّ حتى الشوكة يُشاكها إلاّ كفَّر الله بها سيّئاته)) [2].
أيّها المسلم، والمسلم لا يتمنَّى البلاء، ولا يتطلَّع إلى البلاء؛ لأنه لا يدرِي أيصبر أم يتسخّط، ولذا لمّا سأل العباسُ عمُّ النبي النبيَّ دعاءً قال له: ((يا عمِّ، سلِ اللهَ العافيةَ)) ، فكرَّر عليه مرارًا فقال: ((يا عمَّ رسول الله، سلِ الله العافية)) [3] ، وفي حديثِ الصدِّيق أنّ النبيَّ قال: ((سلُوا الله العفوَ والعافية، فما أعطِيَ ابنُ آدم بعد اليقين خيرًا من العافيَة)) [4]. فهو يسأل الله العَفوَ والعافية في أحوالِهِ كلِّها، لكن ابن ابتُليَ صبر ورضِيَ ورَجا من الله المثوبَة.
أيّها المسلم، واعلم أنّك في زمنِ صحَّتِك وقوّتك، تقرَّبْ إلى الله بما تستطيع من الطّاعة، فإنّك إذا عمِلتَ ذلك ثمّ عجزت كتبَ الله لك أجرَ ما كنتَ تعمله في صحّتك، يقول : ((إذا مرِض العبد أو سافرَ كتب الله له ما كان يَعمله صحِيحًا مقيمًا)) [5].
أيها المسلم، من المعلوم أنَّ الطهارةَ من الأنجاس، من الأحداث والخبَث ومن النّجاسة في الثوب والبدَن والمكانِ الذي يصلِّي عليه الإنسانُ شرطٌ لصحَّةِ الصلاة؛ لأنّ الله يقول: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، والنبيّ يقول في الرّجلين اللذين يعذَّبان في قبورهما: ((أمّا أحدُهما فكان لا يستنزِه من البول)) [6] ، وقال: ((عامّة عذاب القبر من البول)) [7] ، ويقول : ((لا يقبَل الله صلاةَ أحدِكم إذا أحدَثَ حتى يتوضَّأ)) [8]. فدلَّنا على شرطيّة الطهارةِ للبدَن والثوبِ والمكان الذي يصلِّي عليه الإنسان، فهذا أمرٌ مطلوب شرعًا، لكن المريضُ أحيانًا قد يتخلَّف عن هذه الأشياء، فقد يكون مرضُه يحول بينه وبين الاستنجاءِ بالماء، وبين غسلِ أعضاءِ وضوئه بالماء، فإنّه إن تمكَّن من ذلك أو هُيِّئ له من يُعينُه على وضوئِه فتلك نعمةٌ من الله. لكن إن تعذَّر الأمرُ عليه ولم يستطع الوضوءَ بالماء: إمّا لعدَمه أو لعجزِه عن استعمالِه أو لكونِ استعمالِ الماءِ يزيد في المرضِ أو يؤخِّر البرءَ فإنَّ الله جلّ وعلا قد جعَل له عِوَضًا من ذلك: التيمّم، فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]. وإذا قُدِّر أنه لا يستطيع الوضوءَ بالماء وليس عنده ما يتيمَّم به وتعذَّر الأمر عليه فإنه يصلِّي على حاله، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]. والحمد لله على كلِّ حال.
أيّها المسلم، ويسأل المسلم أحيانًا: قد يُصاب بمرَضٍ في أحَدِ أعضاءِ الوضوء لا يستطيع إمرارَ الماءِ عليه، فهذا على حالين: إمّا أن يكونَ هذا العضو مغطًّى بغطاءٍ يمكن أن يمسَحَ عليه من الخارج، فهذا يمسَح على ذلك العضوِ الذي وضِع عليه تلك اللفائِف، يمسحها عند الوضوءِ ويكفيه ذلك المسحُ عن غيره؛ لأنَّ هذا المسحَ قائم مقام الغسلِ عند تعذُّره، وإمّا أن لا يمكنَ غسلُ ذلك العضوِ بالماء وأنَّ وجودَ الماء ولو قلَّ يؤثِّر على الجرح فإنّه يتيمَّم لذلك الجرح الذي لا يمكِن استعمال الماء [معه].
في عهدِ النبيِّ بعَث النبيّ سريّةً، فأجنب أحدُهم وسأَل أصحابَه: أله رخصةٌ أن يتيمَّم؟ قالوا: لا نجِد لك رخصةً؛ لأنّه أصابه جروح، فاغتسَل فماتَ، فقال النبيّ : ((قتلوه قتَلَهم الله، ألا سأَلوا إذ لم يعلَموا إنما شِفاء العِيّ السؤال، إنما كان يكفِيهِ أن يعصِبَ على جرحه خِرقة فيمسح عليها)) [9]. إذًا فإذا تعذَّر الأمرُ عليه مسَح ذلك الحائلَ بالماء، وإن تعذَّر الأمرُ تيمَّم لذلك العضو، والحمد لله ربِّ العالمين.
أمّا صلاةُ المريض فإنه يجِب أن يتصوَّر كلُّ مسلم أنه مطالَب بفرائضِ الإسلام ما دام عقلُه حاضرًا، ما دام يعي ويدرِك فهو مطالَب بهذه الصّلاة على قدرِ استطاعتِه، ولا تسقط الفريضةُ عنه ما دام يعقل؛ لأنّ هذه الفريضةَ ركن أساسيّ من أركان الإسلام، برهانٌ صادِق على ما في القلب من إسلام وإيمانٍ، دالّة على الالتزام بالإسلامِ حقًّا، فهي من أعظم الفرائِض وأكبرها بعد التّوحيد، فإنّ المسلم مطالَب بها في سفَرِه وإقامَته، مطالَب بها في خوفِه كأمنِه، مطالَب بها في مرضِه كصحَّته، لا يمكن أن تسقطَ هذه الصلاة عنه أبدًا، وحال سلَفِنا الصالح كانوا كذلك. محمّدٌ سيّد الأوّلين والآخرين قدوتُنا وإمامنا صلوات الله وسلامه عليه كان يؤدِّي الصلاة في حالِ مرضه ولو كان جالسًا، يصلِّي جالسًا لما عجِزَ عن القيام. أخبر أنس رضي الله عنه أنه سقَط مِن فرَسٍ فجُحِش، فكان يصلِّي جالسًا، فصلّى أصحابُه وراءه قيامًا فأشار إليهم أنِ اجلِسوا وقال: ((إنما جُعِل الإمامُ ليؤتمَّ به)) إلى أن قال: ((وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعين)) [10].
فيا أخي، إذا ابتُلِيتَ بمرضٍ ما فاعلَم أنّ الصلاةَ لا بدَّ منها، ولا بدَّ أن تؤدَّى في وقتها، ولا بدَّ من العناية بها، وربّنا جل وعلا لم يكلِّف العبادَ ما لا يطيقون، بل الأمرُ فيه يُسرٌ وتسهيل، يقول الله في حقِّ نبيه: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف:157]. فصلِّ قائمًا فإنّ القيامَ ركن من أركان الصلاة، فإن عجزتَ عن القيام وشقَّ عليك القيامُ وكان القيامُ يتعِبك ويعييك ولا تستطيع ويعلَم الله ذلك مِنك فصلِّ جالسًا، فإن عجزتَ عن الجلوس فصلِّ ولو علَى جنبِك، فإن عجزتَ فصلِّ ولو مستلقيًا، يقول النبيُّ وقد دخل على رجلٍ من أصحابِه وضَعَ وسادةً ليسجدَ عليها، فرمى بها النبي وقال له: ((صلِّ قائمًا، فإن لم تستطِع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جَنبٍ، فإن لم تستَطِع فمستلقيًا)) [11] ، يعني لا بدَّ من الصلاة في وقتِها ولو كنتَ مستلقيًا؛ لأنّ الأمرَ المهمّ وعيُ القلبِ وإدراكه لما يقول.
أيّها المسلم، وقد يُشكِل على بعضِ المرضى أحيانًا أنهم لا يجِدون من يعينُهم على الوضوءِ، أو قد تتلوَّث الملابس والفُرُش بالنّجاسات لا يستطيعون إزالَتَها ولا تغييرَها، وقد يكون ذلك المرضُ يؤدِّي إلى هذا الأمر، فتمرُّ أوقاتُ الصلاة والثّوبُ ملوَّث والفراش ملوَّث والطهارة يعجِز عنها، فهذا يصلِّي على حاله، والله يعلم حاله ومآلَه.
أيّها المسلم، فتصلِّي قائمًا، وإن قدرتَ على الرّكوع فاركَع قائمًا، وإن شقَّ عليك الركوعُ مِن قِيام فاجلِس وأومئ بالرّكوع ثم أومِئ بالسجود، يعني انوِ أنّك الآن تركَع في هذه الهيئةِ وأنّك تسجُد، وتجعَل رأسَك في السجود أخفضَ من الرّكوع، ليتميَّزَ الركوع عن السّجود.
أيّها المسلم، القبلةُ شرطٌ لصحّة الصلاة، هذا لا إشكالَ فيه، ولكن حِيل بين المريض وبين استقبالِ القِبلة أو قدِّر أن سريرَه وفراشه لم يكن لجهةِ القبلة وتعذَّر التغيير فإنّك تصلِّي على حالِك ولا يمنَعُك ذلك، حتى ولو كانتِ الجروح يظهَر منها صديدٌ ودم فصلِّ على حالك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: طُعِن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فاحتملتُه أنا ورجالٌ منَ الأنصار وقد غُشِي عليه من أثرِ الطعن، فلما أدخلناه منزلَه قال رجل: لن تفزعوه إلاّ إن ذكَّرتموه الصلاة، فلما قال له ابنُ عباس: الصلاة، قال: ففتح عينَيه وقال: أصلَّى الناس؟ قلنا: نعَم, فصلّى وجرحُه يثعب دمًا، وقال: لا حظَّ في الإسلام لمن ترَكَ الصلاة [12]. هكذا القلوبُ الواعِيَة، هكذا القلوبُ المؤمِنَة الموقِنة، ما كان ذلك المرضُ العظيم مانعًا من ذكر الصلاة والعنايةِ والاهتمام بها.
إنّ الله أوجَبَ على المسلِمين الصلاةَ حين احتِدامِ المعارِك وتقارُع السّيوف، أوجب الله عليهم الصّلاة وهم يجابهون عدوَّهم ويقاوِمون عدوهم، فكيف بالمؤمن المطمئنِّ الهادئ؟!
أيّها المسلم، اعتنِ بهذه الصلاة، وحافظ عليها، ولازِمها، واعلم أنّه لا انفصامَ لك عنها إلى أن توافيَ الله وأنت محافِظٌ عليها وأنت ملازِم لها وأنت مُديم لفعلِها؛ لتكونَ ممن يرِث الفردوسَ الأعلى فضلاً من الله وكرمًا، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9-11].
والله جلّ وعلا يقول: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، قال العلماء: هذا دليلٌ أنّ العجزَ عن أركان الصلاة تسقط عنه إذا كانَ يخاف من عدوٍّ أو تحاوِل إدراكَ عدوّ يصلِّي على حالِه ولو بالإيماءِ، مستقبِلَ القبلة أو غيرَ مستقبِلها. بعَث النبيّ رجلاً من أصحابِه لقتلِ أحدِ زُعَماء المشركين، فخافَ من فَوَات الوقتِ، فكان يصلِّي بالإيماء على أيِّ جِهةٍ كانت، وأقرّه النبيّ على ذلك. المهِمُّ أنّ العنايةَ بالصلاة واهتمامَ المسلم بها وتعظيمها في قلبه دليلٌ على ما في القلبِ من الإيمان والعمل الصالح.
أسأل الله أن يجعلَنا الله وإيّاكم من المحافظين عليها والمعتنِين بها والملازِمين لها، إنّه على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولَكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذَا، وأستغفِر الله العظيمَ الجَليل لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
[1] أخرجه مسلم في الزهد والرقائق، باب: المؤمن أمره كله خير (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في المرضى (5642)، ومسلم في البر (2573) عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما نحوه.
[3] أخرجه أحمد (1/209)، والبخاري في الأدب المفرد (726)، والترمذي في الدعوات (3514) عن العباس رضي الله عنه نحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، وصححه الضياء في المختارة (8/378-380)، والألباني في صحيح سنن الترمذي (2790).
[4] أخرجه الطيالسي (5)، وأحمد (1/3، 5، 7، 8)، والبخاري في الأدب المفرد (724)، والترمذي في الدعوات، باب: في دعاء النبي (3558)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (882)، وابن ماجه في الدعاء، باب: الدعاء بالعفو والعافية (3849)، والبزار (75)، والحميدي (7)، وأبو يعلى (121)، وقال الترمذي: "حديث حسن غريب من هذا الوجه"، وصححه الحاكم (1938)، والضياء المقدسي في المختارة (1/156)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3104).
[5] أخرجه البخاري في كتاب الجهاد (2996) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الوضوء (216)، ومسلم في الطهارة (292) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا لفظ مسلم.
[7] أخرجه الدارقطني (459، 464، 465، 466) من حديث أنس ومن حديث أبي هريرة ةمن حديث ابن عباس رضي الله عنهم، وحسنه النووي في المجموع (3/132)، وصححه الألباني في الإرواء (280).
[8] أخرجه البخاري في الوضوء (135)، ومسلم في الطهارة (225) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] أخرجه أبو داود في الطهارة (336)، والدارقطني (729)، والبيهقي في الكبرى (1/227، 228) عن جابر رضي الله عنه بنحوه، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (325) دون الجملة الأخيرة التي فيها المسح.
[10] أخرجه البخاري في الأذان (689)، ومسلم في الصلاة (411)، لكن فيه أنهم صلّوا خلفه جلوسًا. أما صلاتهم خلفه قياما وإشارته لهم بالجلوس ففي حديث آخر.
[11] أخرجه البخاري في الجمعة (1117) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، وليس فيه: ((فإن لم تستطع فمستلقيا)).
[12] أخرجه مالك في الموطأ (1/39)، ومن طريقه البيهقي في السنن (1/357)، وابن أبي شيبة في المصنف (7/439) والإيمان (ص34)، والطبراني في الأوسط (8/130)، وقال الهيثمي في المجمع (1/295): "رجاله رجال الصحيح". وقال الألباني: "صحيح الإسناد على شرط الشيخين".
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلَى آلهِ وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، على المسلِمِ الذي يرعَى المريضَ في بيتِه أو يلازِمه في المستشفَى وغيرِه أن يتّقيَ الله ويعينَ ذلك المريضَ على هذه الصلوات، ويذكِّره بها إذا حضَر وقتها، ويعينه على أدائها. فعلى المسلمين أن يعينوا على هذه الفريضةِ، لا سيما إن يكن عندك الأبوان: الأب أو الأم، فعليك تقوَى الله فيهما وإعانتُهما على هذا العمَل الصالح ودعوتهما إلى الصلاة وتذليلُ الصعابِ أمامهما وخدمَتُهما بما يعينُهما على أداءِ هذه الفريضة، فإنّ الله يقول: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132].
وعلى الأطبّاء المسلمين ومن يرَعونَ المرضى في المستشفيات أن يتّقوا الله في مرضَى المسلمين؛ يذكِّرونهم وقتَ الصلاة، ويبيِّنون لها وقتَها، ويهتمّون بهذا الأمر الاهتمامَ العظيم، ويوضِحون علامةَ القبلة لهم، ويعينونهم على ما يُسهِّل أمرَ صلاتهم من وضوءٍ أو تيمّم؛ لأنّ هذا أمر مطلوب، وهو من التعاوُن على البرّ والتقوى، والله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
إنّ الطبيبَ قد يهتمّ بالعلاج ومراعاةِ ساعاتِ أخذِ العلاج في ساعاتٍ معيّنة في الصباح والمساء، وهذا سَبب طيّب، ولكن لا نهمل هذه الصلاة، ولا ننسى أنها من أهمِّ الأمور، فلنعتنِ بها وبشأنها؛ فإنها غذاءُ الروح، فلا ينبغِي التساهلُ والتهاون بها، إذا كان الطبيبُ يهتمّ بالعلاج وبمواقيتِ العلاج وساعاته فليكن الاهتمام للمريض بهذه الصلاة، نذكِّرُه الوقتَ إن حضر، نبيِّن له ونعينه، ونبذل السببَ الذي الذي يعينُه على هذه الصلاةِ؛ لأن هذا أمرٌ مهمّ جدًا.
والمريضُ لو استطاعَ الوضوءَ في أحدِ الوقتين ولا يستطيع الوضوءَ في كلّ وقت أو يشقّ عليه النزول لأداءِ الصلاتين في وقتَين جاز له أن يجمَعَ بين الظهرِ والعصر وبين المغربِ والعشاء على أن يصلّيَ الظهرَ أربعًا والعصر أربعًا والعشاءَ أربعًا، إنما يباح له الجمعُ دون القصرِ؛ لأن في هذا رفقًا به وتيسيرًا عليه، إذا شقَّ عليه استكمال الطهارة في كلّ وقت وشقَّ عليه النزول لأداء هذه الصلاةِ جاز الجمعُ بينهما للعذرِ الشرعيّ، المهمُّ العناية بهذه الفريضة والاهتمام بها وتذكّرُها والعناية بها والمحافظة عليها، فإنها عُنوان الإسلام.
جعلني الله وإيّاكم من المحافظين عليها إلى أن نلقاه بفضله وكرمه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كِتاب الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّدٍ ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وَكلّ بدعةٍ ضَلالة، وعَليكم بجماعةِ المسلِمين، فإنّ يدَ الله علَى الجماعة، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ.
وصَلّوا ـ رحمكم الله ـ عَلَى نبيّكم محَمّد امتثالا لأمر ربّكم القائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبَارِك على سيد الأولين والآخرين محمّد بن عبد الله، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الراشدين...
(1/3545)
مراقبة الله تعالى
الإيمان
خصال الإيمان
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
18/12/1420
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- المراقبة من مستلزمات التوحيد. 2- الحكمة من تعريف الله إيانا بأسمائه وصفاته. 3- الأسماء الحسنى التي تدل على صفة المراقبة. 4- حقيقة المراقبة. 5- مجالات المراقبة. 6- مواطن المراقبة. 7- لماذا هانت المعاصي وانتشرت؟
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، إن من مستلزمات التوحيد، ومن حقوق الله على العبيد، التي تعتبر من منازل السائرين ومسالك المتقين منزلة "المراقبة".
مراقبة الله سبحانه وتعالى في السر والإعلان، في أعمال القلب والجوارح واللسان، وهذه المنزلة العظيمة لا تقل شأنًا عن المنازل الأخرى التي رأيناها فيما سبق.
واعلموا ـ إخوتي الكرام ـ أن لله سبحانه وتعالى في ذكر أسمائه وصفاته في القرآن الكريم حكما عظيمة، ومن ذلك أنه تعالى ذكر لنا أسماءه وصفاته لنتعرفه بها، وندنو بها إليه، ندبنا ودعانا لمعرفة أسمائه وصفاته لنتعبَّده بها ونسير إليه بمقتضاها ومدلولها.
والمراقبة تشمل أسماء حسنى كثيرة منها: الرّقيب والحفيظ والعليم والسميع والبصير. فمن عقل هذه الأسماء وتعبّد الله بمقتضاها حصلت له المراقبة لا ريب في ذلك.
قال تعالى: وَ?عْلَمُواْ أَنَّ ?للَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَ?حْذَرُوهُ [البقرة:235]، وقال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وقال: وَكَانَ ?للَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء رَّقِيبًا [الأحزاب:52]، وقال: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد:4]، وقال: يَعْلَمُ خَائِنَةَ ?لأعْيُنِ وَمَا تُخْفِى ?لصُّدُورُ [غافر:19].
وفي حديث جبريل المشهور أنه سأل النبي عن الإحسان فقال: ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
كل هذه النصوص تمر عليك ـ أيها المسلم ـ لتذكرك بأن الله سبحانه مطلع على جميع أعمالك ونواياك، كل وقت، وكل لحظة، وكل نفس، وكل طرفة عين، فكيف يليق بك بعد ذلك كله أن تعيش في ظلمات الغيّ والهوى؟!
المراقبة هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق عليه؛ على ظاهره وباطنه.
رقيب عليك في الباطن، فاحذر أن يكون قلبك محبًا لغيره تعالى، فمن أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تعرف قدر الرّبح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غيرته على محارمه ثم تتعرّض لها، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأعجب من هذا كله أن تعلم أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج إليه ثم تبتعد منه.
وهو رقيب عليك في الظاهر من الأقوال والأفعال، فإن كنت تستحي من القبيح أمام إخوانك وجيرانك والناس أجمعين، فالله أولى أن تستحيَ منه سبحانه، قال تعالى في ذم المنافقين: يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?لنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ?للَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى? مِنَ ?لْقَوْلِ [النساء:108].
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فخاطب نفسك وتحدث معها: ويحك يا نفس، إن كنت قد تجرأت على الله وعصيتيه وأنت تظنين أنه لا يراك فما أكفرك، وإن كنت قد تجرأت على الله وعصيتيه وأنت تعلمين أنه يراك فما أقل حياءك. ويحك يا نفس، أجعلت الله أهون الناظرين إليك؟! إياك إياك أن تغفل عن الله وعن مراقبته، فإنه يمهل ولا يهمل.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
لهونا لعمرو الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن لنا في توبةٍ فنتوب
واعلموا ـ عباد الله ـ أن أعظم مجالات المراقبة هو "التوحيد" وتجنّب الشرك خاصة شرك القلوب، ومنها الدعاء والتوكل والحب والشكر.
أما الدعاء فإني سائلك يا أخي: كم ساعة دعوت الله في هذا اليوم؟ هل هي ساعة أو ساعتان؟ فإني أخشى أن تكون حصيلة هذه العبادة العظيمة دقائق معدودات.
وأما التوكل فهل أنت من الذين إذا أصابتهم مصيبة ذكروا الله أوّلاً ثم الأسباب ثانيًا، فكم منهم أولئك الذين إذا أصابه وجع أو ألم يتذكر أوّل ما يتذكر الطبيب المعالج، ولا يذهب ذهنه في أول وهلة إلى رب الطبيب.
ووالله لو وجدنا الله عز وجل معظمين له حق التعظيم نلجأ إليه قبل أي حميم لكان عند ظننا به، مصداقًا لقوله في الحديث القدسي: ((أنا عند ظن حسن عبدي بي، فليظن بي ما شاء)) متفق عليه. ولكن، لما جُعل الله تعالى من الأمور الفرعية الثانوية، يلجأ إليه عندما يفشل العبد في إبرام أمره تركه الله ووكله إلى نفسه.
واعلموا أنّ المراقبة تكون قبل العمل وفي العمل وبعد العمل.
فراقب نفسك قبل العمل هل حركك عليه الهوى وحظ النفس أو الحامل لك عليه هو إرادة الله تعالى والدار الآخرة؟ فإن كان الله وحده لا شريك له هو الذي أردته بعملك فلا تتوان في عمله وإلا فاتركه، قال الحسن: "رحم الله امرءًا وقف عند عمله، إن كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر"، وهذا هو "الإخلاص" الذي يناط به قبول العمل.
ثم راقب نفسك في العمل، هل هو على شريعة الله وسنّة نبيه ؟ فإن كان كذلك فلا تتأخر عن القيام به، وإلا فاعلم أن عملك هذا مردود عليك، وهذا هو "الاتباع" الذي يعتبر شرطًا ثانيًا في قبول العمل.
وراقب نفسك بعد العمل، فإياك أن تنسب التوفيق إلى نفسك، بل انسبه إلى الله سبحانه الذي وفقك إليه، لا موفق سواه، وهذا مقام "الافتقار" إلى الله وحده.
فإن كان العمل معصية فراقب نفسك، ولا تتماد في العصيان، بل تب إلى ربّك، وأقلع عن ذنبك، تجد الله توابًا رحيمًا.
هذه هي المراقبة التي يجب على المسلم أن يستحضرها في كل أفعاله وأقواله. والله الموفق لا ربّ سواه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي وسع علمه جميع العباد، وخصّ أهل طاعته ومراقبته بسلوك سبيل الرّشاد، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة أدّخرها ليوم المعاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الذي أوضح لنا طريق الهدى والسداد، صلى الله عليه وسلم وعلى آله الأكرمين الأجواد صلاةً وسلامًا تبلغنا نهاية الأمل والمراد.
أما بعد: فإن الذي أدرك أهمية مراقبة الله تعالى سهل عليه الجواب عن السؤال الذي يطرحه كثير منا هذه الأيام: كيف هانت المعصية وانتشرت الآثام والرذائل في المسلمين؟
الجواب هو أن المراقبة تكاد تنعدم في بعض القلوب، ولا يمكن لأحد أن يراقب نفسه إلا إذا حاسبها كما يحاسب الشريك الشحيح شريكه. أما إذا كان أحدنا راضيًا عن نفسه مطمئنًا على قلبه، فإنه سيثق بنفسه ويقع على أمّ رأسه، وإلا فمن هذا الذي يثق بشيء موصوف في كتاب الله تعالى بأنه يأمر بالسوء: وَمَا أُبَرّئ نَفْسِى إِنَّ ?لنَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِ?لسُّوء [يوسف:53].
كيف تأمن على نفسك بعد أن لم يأمنها الأنبياء والمرسلون والصديقون والصالحون؟!
ها هو رسول الله يكثر في سجوده من أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك وطاعتك)) ، فإذا سئل عن سبب ذلك قال: ((وما يؤمنني، وإنما قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الله عز وجل، إنه إذا أراد أن يقلب قلب عبده قلبه)) رواه أحمد.
فاتهم نفسك دائمًا وحاسبها وأنّبها لعلها تستجيب لندائك وتستكين لدعائك، واجعل الله تعالى نصب عينيك، واعلم أنه مطّلع عليك، فمن العيب أن يراك الله حيث نهاك، وألا يجدك حيث أمرك. هذه هي العقيدة التي ينبغي لنا أن نعقد قلوبنا عليها وأن ندعو الناس إليها.
ونختم كلامنا هذا بقصة من قصص المتقين وسير الصالحين، وكلكم يعرف قصة عمر بن الخطاب حين كان يتفقد رعيته ليلاً، إذ مر على باب من أبواب بيوت المدينة، فسمع امرأة تهيئ اللبن لتبيعه نهارًا، فخلطته بالماء، فقالت لها ابنتها: إن أمير المؤمنين عمر نهانا أن نخلط الماء باللبن، فقالت لها أمها: ولكن عمر لا يرانا الآن، فقالت الفتاة المؤمنة: ولكن رب عمر يرانا.
أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَى ?للَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ?قْتَدِهْ [الأنعام:90].
(1/3546)
عقوق الوالدين (1)
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
25/12/1425
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عقوق الوالدين أحد موبقات الذنوب. 2- الأحاديث المحذرة من العقوق. 3- تأكيد القرآن والسنة على فضل الوالدين. 4- فضل الوالد على ولده. 4- التأكيد على حق الوالدة وفضلها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد انتهينا من الحديث عن أكبر الكبائر على الإطلاق، وأعظم الذنوب في حق الله سبحانه، ألا وهو الشرك بالله، وسنرى معكم اليوم إن شاء الله الكبيرة الثانية التي لا يغفرها الله بمجرد الصلاة والصيام وغيرهما من الصالحات، وإنما يغفرها بالتوبة النصوح منها، والإقلاع عنها، والندم على اقترافها، هذه الكبيرة هي "عقوق الوالدين"، والأحاديث في بيان أنها كبيرة من الكبائر كثيرة وكثيرة جدًا، نذكر منها:
1- حديث المغيرة بن شعبة مرفوعًا: ((إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات)) رواه البخاري.
2- حديث أبي بكرة مرفوعًا: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) ، وكان متكئًا فجلس فقال: ((ألا وقول الزور وشهادة الزور)) ، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه الشيخان.
3- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: ((الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين وقتل النفس، واليمين الغموس)) رواه البخاري.
4- حديث أنس قال: ذكر عند رسول الله الكبائر فقال: ((الشرك بالله وعقوق الوالدين)) رواه الشيخان.
5- حديث ابن عمر مرفوعًا: ((ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه والمرأة المترجلة والديوث، وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والمدمن على الخمر والمنان بما أعطى)) رواه النسائي.
6- حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسبّ أمه فيسبّ أمّه)) رواه مسلم.
والذي يتدبر القرآن حق التدبّر ويتأمل الأحاديث الصحيحة حق التأمل يعجب أشد العجب من تعظيم الله تعالى للوالدين ومن شدة تأكيده لبرهما والترهيب من عصيانهما.
قال تعالى: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [النساء:36]، وقال: وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا [العنكبوت:8]، وقال: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَ?خْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ?لذُّلّ مِنَ ?لرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ?رْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الإسراء:23- 24].
فبر الوالدين من أعظم الأعمال، وعقوقهما من أبشع الذنوب والآثام، وتأكيدا لبيان منزلتهما نسوق إليكم هذه النقاط، علها تكون ذكرى للطائعين وتنبيهًا وموعظةً للغافلين.
أولاً: تأملوا جيدًا كيف قرن الله تعالى الأمر ببر الوالدين بالأمر بتوحيده وعبادته، فكأنه يعلمنا أن من تمام التوحيد طاعته فيما أمر، وأعظم أوامره بر الوالدين.
ثانيًا: قال تعالى: وَوَصَّيْنَا ?لإِنْسَـ?نَ بِو?لِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى? وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ [لقمان:14]، ولنا في هذه الآية وقفات:
الوقفة الأولى: أن بر الوالدين وصية الله على مر الدهور، وحق على المسلم أن يقوم بتنفيذ الوصية، فإذا كان واجبًا على المسلم تنفيذ وصية القريب الذي يموت، فكيف بوصية الله الحي الذي لا يموت؟!
الوقفة الثانية: أَنِ ?شْكُرْ لِى وَلِو?لِدَيْكَ انظروا كيف قرن شكره سبحانه بشكره، قال ابن عيينة رحمه الله: "من صلى الصلوات الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين فقد شكر لهما"، وتصديق كلامه رحمه الله ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال سألت النبي : أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) ، قال: ثم أي؟ قال: ((ثم بر الوالدين)) ، قال: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله)) ، فأخبر رسول الله أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي عمود الإسلام، وقبل الجهاد الذي هو ذروة سنامه.
الوقفة الثالثة: قوله تعالى: إِلَىَّ ?لْمَصِيرُ ستصير إليه ـ أيها العبد ـ وتحاسب عن معاملتك لهما، فإن كانت خيرا كنت من الفائزين، وإلا كنت من الهالكين الخاسرين، وكأنه تعالى يذكّرك بأن ما علي إلا أن تتذكر أنك سوف تحاسب عن معاملتك لأشرف مخلوقين تعيش معهما.
ثالثًا: ومن النقاط التي نذكر أنفسنا بها أنّ الله قد جعل رضاه ومحبّته موقوفين على رضا الوالدين، ولا يرضى الله عن عبدٍ لم يرض عنه والداه، فنستطيع أن نقول إن الذي يريد أن يدرك منزلته عند الله فلينظر إلى منزلته عند والديه، فقد روى البخاري في الأدب المفرد والترمذي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: ((رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد)).
رابعًا: مما يدل على شرفهما وعِظم قدرهما أن الله تعالى قد حكم في كتابه العزيز أن النفس بالنفس وأنه لا بد من القصاص، لكنه استثُني الوالد فقال رسول الله : ((لا يقاد الوالد بولده)) أي: لا يقتل الوالد إذا قتل ولده، وهذا لا يدّل إلا على مكانة الوالدين.
خامسًا: كل مخلوق يسدي إليك معروفًا ويتفضل عليك بجميل يمكنك أن تردّ له جميله وتقابل معروفه بمعروف آخر إلا الوالدين، فمهما عملت من عمل لتكافئ والديك به فإنك لن تستطيع إلى ذلك سبيلا، ولن تتوصل له إلى حيلة، اللهم إلا أن يكون عبدًا من العبيد فتعتقه، فقد روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((لا يجزي ولد والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)).
ويؤكد ذلك ما رواه البخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن سعيد بن أبى بردة قال: حدثني أبي أنه شهد ابنَ عمر ورجل يماني يطوف بالبيت حَمَل أمَّه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرُها المذلَّل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أترانى جزيتُها؟! قال: (لا ولا بزفرة واحدة).
فالله الله في الوالدين، فإنهما وصية الله لكم، وفي طاعتهما طاعة ربكم ومولاكم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: عباد الله، فإن بر الوالدين والإحسان إليهما أمر معلوم من الدين بالاضطرار، لا يحتاج إلى تدريس المدرسين أو تعليم المعلمين، ولكن الإنسان من طبيعته الغفلة والنسيان، والقلب تمرّ عليه سحب الذهول، فتحجب عنه أنوار الطاعة والإيمان، وما علينا إلا أن نذكركم بأحق الناس بالإحسان ألا وهما الوالدان.
الأم، تلكم المرأة الضعيفة التي لا تقوى على حماية نفسها من المكاره، تجدها أقوى الناس في مدة حملك، فهل تراها تلتذّ بذلك؟! لا والله، بل حملتك كرهًا ووضعتك كرهًا، حملتك وهنًا على وهن، ضعفًا على ضعف، ضعف الحمل وضعف الطلق وضعف الوضع، وبعد ذلك تحمل أعباء تنوء بحملها الجبال، ولا يصبر عليها أقوى الرجال، تود لو تفديك بنفسها عوضًا من أن تسمعك تتأوّه، وتبقى كذلك لا تبالي إلا بحالك، حتى تراك رجلاً وتراكِ امرأةً أمامها، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
لأمّك حق لو علمت كثير كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلةٍ باتت بثقلك تشتكي لها من آلامها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة فمن غُصص منها الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك ممّا تشتكيه بنفسها ومن ثديها شربٌ لديك نمير
وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتها حنانا وإشفاقا وأنت صغير
فآها لذي عقل ويتبع الهوى وآها لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها فأنت لما تدعو إليه فقير
نعم يا أخي الكريم، ويا أختي الكريمة، عليكم بالتماس دعائها، فإن دعوتها ليس بينها وبين الله حجاب.
أما الأب، فذلكم الرجل الذي لو وضع السيف بعنقه على أن تصاب بأذى لما تردد في أن يفديك بنفسه، ذلكم الرجل الذي لا يفرّط في رجولته، تراه يقبل الذل أحيانًا وأحيانًا في عمله، ليجلب لك قوت يومك، ويدخل عليك وأنت صغير فيسر عند رؤيتك وكأنه ما ذاق تعبًا وما لاقى ألمًا، ولا يزال يسعى ويكدّ ويلقى كل متاعب الدنيا لأجلك، حتى تصير رجلاً مستويًا على سوقه. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
فلا تضجر إن نصحك، فهو لا يريد لك إلا الكمال، ولا تتهمه بالغباء والجهل وقصور النظر فهو أدرى بمصلحتك منك مهما أوتيت علمًا وخبرة، وإياك إياك من أن ترفع صوتك بحضرته أو تتردد في طاعته، وللأسف كل هذا الإحسان ينساه الأولاد في لحظة، وصدق من قال:
غذوتُك مولودًا ومنتُك يافعا تعَلّ بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبِت لسقمك إلا ساهرًا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طرِقت به دوني فعيناي تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الوقت وقت مؤجّل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما فيك كنت أؤمّل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترعَ حق أبوتي فعلت كما الجارُ المجاور يفعل
هذا هو حال الوالدين، كانا يحملانك وأنت صغير، ويعلّقان عليك الآمال والأحلام، لعلّه يكبر ويكشف به الله الغمة، فلا تنس ذلك أخي الكريم، وكن لهما عبدًا خادمًا، فإن لم تقدر على ذلك فأمسك عن أذيتهما، واعلم أن الجنة تحت أقدامهما، فقد أوصى النبي أحد الصحابة فقال: ((الزم رجلها فثَمّ الجنة)) رواه ابن ماجه.
هذا وللحديث بقية نرجئها إلى خطبة لاحقة، وبارك الله فيكم.
(1/3547)
عقوق الوالدين (2)
الأسرة والمجتمع
الوالدان
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
2/1/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- حقيقة العقوق. 2- صور من العقوق. 3- مفاهيم خاطئة يجب أن تصحح، ومفاهيم ضائعة يجب أن تسترجع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإننا تحدثنا معكم في الخطبة الأخيرة عن حق الوالدين الذي هو من أعظم الحقوق، وذكرنا أن عقوقهما من أبشع أنواع العقوق، ولقد سمعتم آيات الله تتلى عليكم وأحاديث رسول الله تسرد على مسامعكم، كلها تدل على أن عقوق الوالدين كبيرة من الكبائر.
بقي علينا إذن أن نعرف معنى عقوق الوالدين.
قال العلماء: عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة، كما أن برهما هو موافقتهما على أغراضهما.
أي: إذا أمر الوالدان ابنهما أو بنتهما بشيء مباح حلال صار في حقه واجبًا، فالحلال والمستحب يصير بأمر الوالدين واجبًا فرضًا، إلا إذا أمرا بمحرم فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال تعالى: وَإِن جَـ?هَدَاكَ عَلَى? أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَـ?حِبْهُمَا فِى ?لدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15].
لا تطعهما في معصية الله لأن الله أولى بالطاعة، ولكن صَـ?حِبْهُمَا فِى ?لدُّنْيَا مَعْرُوفًا فلا قطيعة ولا نهر ولا هجر، جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدهم، فاستفتيتُ رسول الله فقلت: يا رسول الله، قدمت عليَّ أمي وهي راغبة أفأصِل أمي؟ قال: ((نعم صلي أمك)).
هذا في حق الوالدين المشركين، فكيف تتثاقل ـ أيها المسلم ـ في طاعتهما وهما على الإسلام وطاعة رب الأنام، فقد بلغنا أن رجالاً يمنعون نساءهم من صلة والديهن، وبعض النساء يأمرن أزواجهن أن يقطعن الصلة بوالديهم. ألا فلتتق الله أيها الرجل واتقي الله أيتها المرأة، وتذكرا جيدًا أنكما تأمران بعضكما بعضًا بالمنكر، وتقطعان ما أمر الله به أن يوصل فمهما عمل الوالدان ـ ولو كان مشركين ـ فإنه يحرم على المسلم قطيعتهما في كل حال.
إن كان الذي يأمر بالمعروف ولا يأتيه أوعده الله الوعيد الشديد والعذاب الغليظ فكيف بمن أضحى يأمر بالمنكر، وأيّ منكر؟! يأمر بعقوق الوالدين والعياذ بالله.
فيا عبد الله، دع واطرح الخلافات التي بينك وبين أصهارك، ولا تحمّل زوجتك همّك.
كذلك أنت يا أمة الله، إن كنت تأذيت من أصهارك فتحلّي بالصبر والعفو والصفح الجميل، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ?عْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? [المائدة:8].
ونود في هذه العجالة أن نتكلم عن بعض المفاهيم التي غابت عن أذهان مجتمعاتنا في أيامنا هذه. من تلكم المفاهيم أن كثيرًا من الأبناء لا يبالون بأوامر الوالدين ونواهيهما، فيحملون الأوامر على أنها مجرد عروض وطلبات، له أن يمتثل وله ألا يمتثل.
كلا أخي الكريم أيّ أمر صادر من الأبوين وجب عليك القيام به، فإذا نهاك الوالدان عن السهر فامتثل، وإن نهاك الوالدان عن مخالطة أصحاب السوء فاجتنب، وإذا أمراك بالعمل وكان بقدرتك ذلك فأطع، وإن أمراك ـ أيها الطالب ـ بالاجتهاد في دراستك فيجب عليك الاجتهاد، إلى غير ذلك ممّا يتهاون النّاس فيه، وإلا كنت عاصيًا لربك، عاقًا لوالديك بذنبك.
واسمع إلى ما رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي يستأذنه في الجهاد فقال له النبي: ((أحيٌّ والداك؟)) قال: نعم، فقال: ((ففيهما فجاهد)). وفي رواية أخرى قال: تركتهما يبكيان، فقال: ((اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما)).
هذا في حقّ الجهاد إذا كان فرض كفاية، الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، يسقط وجوبه إذا لم يأذن الوالدان، فكيف بالأعمال الأخرى؟! حتى قال سفيان الثوري: "لا يغزو إلا بإذنهما وإن كانا مشركين".
كل هذا الكلام في بيان أن المباح أو المندوب قد يصير واجبًا بأمر الوالدين، وأن فرض الكفاية قد يسقط بنهيهما عنه.
أما المعاشرة السيئة لهما فذلكم ـ والله ـ هو الخسران المبين، فالله تعالى قد حرّم على المسلم مجرد التأفف وهو قولك: "أف" بحضرة الوالدين، ولو كانت هنالك كلمة هي أدنى من ذلك لذكرها المولى سبحانه، فكيف بمن ينظر إليهما نظرة الغاضب؟! كيف بمن يحرك يديه؟! كيف بمن يصرخ عليهما؟! كيف بمن يقول لهما: "لا" بملء فيه؟! كيف بمن يتهمهما بالقصور وضعف التدبير؟! كيف بمن يغلق الباب في وجوههما؟! كيف بمن سمعنا أنه يبصق عليهما؟! كيف بمن حلف ألا يزورهما؟! كيف بمن هانا عليه فألقى بهما في دار العجزة؟! كيف بمن تعس وانتكس وطبع الله على قلبه فسبّهما وضربهما؟!
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ?لْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ [الإسراء:23].
ذكر الله حالة الكبر لينبهك إلى أنه يحرم عليك التأفف بحضرتهما ونهرهما حالة يكونان فيها كبيرين، يحتاجان إلى برّك ومودّتك وإلى عطفك وكلامك؛ لأنهما في هذه الحالة ربما أتعباك بالسعي عليهما، فتغسل عنهما الأذى كما غسلاه عنك في صغرك، وتحملهما كما حملاك في صغرك، وقال تعالى: عِندَكَ لينبهك إلى أن طول المكث يشعرك بثقلهما عليك، فيحصل لك الملل والكلل فلا تقل: أُفّ ، هذا أقل شيء يحرم عليك فعله، وهو أن تظهر بتنفسك المتردد ضجرا، فحذار حذار.
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23] كقولك: "لا بأس عليكما"، "خدمتكما واجبة عليّ"، "حفظكما الله".. وهكذا.
وهذا هو الجهاد فيهما كما أمر ، وإلا فاستمع إلى المصطفى وهو يقول: ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه)) أي: ذلّ وصغر، فقيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة)) فكأنه يدعوك إلى أكبر ربح يناله العبد ألا وهو القيام ببر والديه، فبّرهما مفتاح الجنة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجميعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاعلموا أن من المفاهيم الضائعة مفهوم النفقة على الوالدين إذا كانا محتاجين، فقد أجمع العلماء واتفقوا على أن الوالدين إذا كانا في حاجة حقّ لهما أن يأخذا من مال الابن أو البنت بقدر الحاجة لقوله : ((أنت ومالك لأبيك)) رواه ابن ماجه. فكيف بنا نسمع من كثير من الآباء يستدينون من أولادهم وبناتهم؟! وهل استدنت منهما في الصغر ليستدينا منك في الكبر؟! ألا فاعلموا أن أعظم النفقات أجرًا هي النفقة على الوالدين المحتاجين.
ومن المفاهيم الضائعة أن كثيرًا من الناس لا تجدهم يلتمسون الدعاء من الوالدين، وتجدهم يلتمسونه من غيرهما، وتراهم اتخذوا عادة سيئة يقولون: ادعُ لنا، يقولونها لكل أحد ولا يقولونها للوالدين اللذين كتب الله إجابة دعوتهما، قال : ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد ودعوة المسافر ودعوة المظلوم)) رواه أبو داود، فاغتنم دعواتهما المباركة، فإنه ليس بينهما وبين الله حجاب، واحذروا من دعواتهما عليكم، وانظروا إلى ذلكم العابد الراهب جريج الذي كان يعبد الله ويصلي، فنادته أمه فقال: يا رب صلاتي أو أمي؟ فنادته ثلاثًا وهو لا يجيب، فدعت عليه قائلة: اللهم لا تمته حتى تبتليه بالمومسات. وكانت هنالك امرأة بغيّ، حملت من راعي غنم، فعندما سئلت عن أبي الغلام قالت: جريج، فهدم الناس صومعة جريج وأنكروا عليه، وهمّوا بعقوبته لولا أن أرجأهم فصلى ركعتين، ثم أقبل على الوليد قائلاً: من أبوك؟ فقال: الراعي.
الشاهد من هذه القصة ـ عباد الله ـ هو استجابة الله دعاء الوالدة على ولدها، فإنها ليس بينها وبين الله حجاب.
ومن المفاهيم الضائعة أنّك تجد الناس يحسنون صحبة الناس وعشرتهم ولا يحسنونها مع أشرف الناس وهم الوالدان، فتراه يضحك حتى يسقط أرضًا مع أناس لم يحسنوا إليه لا من قريب ولا من بعيد، حتى إذا دخل على والديه سكت، وربما أظهر الضجر أمامها.
ألا فاعلم أن الله سوف يحاسبك على تلكم اللحظة، ويسألك عن علمك فيم عملت به، علمك بحديث البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال: ثم من؟ قال: ((أمك)). قال ثم من؟ قال: ((أبوك)).
ومن المفاهيم الضائعة بعد وفاة الوالدين الكريمين ـ أطال الله عمر والدينا ورحم الله موتاهم ـ حق الوالدين بعد رحيلهما من عالمنا، بعد معاناة شديدة في هذه الدنيا، وبعد سكرات شديدة على فراش الموت، تذكر ذلك المشهد كل يوم، تذكرهما وهما يعانيان الألم الرهيب والوجع العصيب، تذكرهما وهما على غفلتهما واقفين بين يدي الملك، ألا ترضى أن يكونا من أهل الجنة والرضوان، فمن أكرمه الله بوالديه فليقترب منهما كما يقترب من زوجته، من ولده، من صديقه، فهما في أمس الحاجة إليك.
ومن حُرِمَهُما وحرم فرصة برّهما لوفاتهما فليعلم أن هناك وجوهًا في برّهما وهما ميتان، فقد روى أبو داود عن أبي أسيد قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ فقال: ((نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)).
((الصلاة عليهما والاستغفار لهما)) مثل أن تدعو لهما في صلواتك وخلواتك ومناجاتك، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: ((إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) ، وفي سنن ابن ماجه: ((إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى هذا؟! فيقال: باستغفار ولدك لك)).
((وإنفاذ عهدهما من بعدهما)) هو أن تنفذ وصاياهما وصدقاتهما وما عليهما من حقوق.
((وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)) هو صلة إخوانهما وأعمامهما وكل قريب لهما.
((وإكرام صديقهما)) حتى أصدقاء الوالدين إذا وصلهما المسلم لحق الأجر والديه، فها هو ابن عمر لقي رجلاً من الأعراب بطريق مكة، فسلّم عليه وحمله على حمارٍ كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال رجل لابن عمر: أصلحك الله، إنهم أعراب وهم يرضون باليسير! فقال: إن أبا هذا كان ودًّا لعمر بن الخطاب، وقد سمعت رسول الله يقول: ((إن أبرّ البرّ صلة الولد أهل ودِّ أبيه)) رواه مسلم.
(1/3548)
ترك الصلاة
التوحيد, فقه
الصلاة, نواقض الإسلام
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
9/1/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان أهمية الموضوع. 2- التحذير من تأخير الصلاة عن وقتها. 3- التحذير من ترك الصلاة. 4- عقوبة تارك الصلاة في القبر. 5- عندما فاتت رسول الله صلاة الفجر. 6- تعويد الأبناء على الصلاة. 7- بشارات للمصلي.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإننا لا زلنا معكم في بيان صراط الله المستقيم، الذي يقود العباد إلى جنات النعيم، وينجي صالحهم من دار الجحيم. وصراط الله الذي لا يصل المرء إلى مراده إلا منه هو التقوى والعمل الصالح، لذلك تجدوننا نحدّثكم عن الكبائر التي من شأنها أن تسدّ الطريق أمام السائرين إلى الله رب العالمين.
والكبيرة التي سنتحدث عنها اليوم هي "ترك الصلاة"، كبيرة من كبائر الذنوب شاعت وذاعت في المجتمعات الإسلامية، يشب عليها الصغير ويهرم عليها الكبير، فضاع مفهومها، وفقدت عظمتها، وانحطّت منزلتها، مع أنها عمود الدين، وركنه الرّكين، ووجوبها معلوم حتى لدى الكفار والمشركين، قد استهان الناس بالصلاة، فأظلمت القلوب، وتفاقمت الكروب، وبحث الناس عن الأسباب، وطرقوا للبحث عن العلاج كل باب، بحثوا في كل شيء إلا في صلاتهم وهي أقرب الأشياء إليهم:
كالعيس في البيداء يقتلها الظّما والماء فوق ظهورها محمول
ولقائل أن يقول: ما بال الخطيب يحدثنا عن الصلاة ونحن مصلون؟! هلا ذهب إلى الذين آثروا البقاء خارج المسجد فيأمرهم بالصلاة؟!
فأقول: إن هناك أسبابًا كثيرة تجعلنا نتحدث اليوم عن الصلاة، أهمها:
أولاً: لنفهم معنى ترك الصلاة، فإن جمهور المسلمين اليوم لا يدركون معنى ترك الصلاة وإضاعتها، ويظنون أن ترك الصلاة هو عدم الصلاة أصلاً، وهذا مفهوم باطل، لا يشك في بطلانه عاقل. ألا فاعلموا أن ترك الصلاة هو تأخيرها عن وقتها حتى يذهب، فيترك صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، ويترك صلاة المغرب حتى يغيب الشفق الأحمر، ويترك العشاء إلى ما بعد منتصف الليل. هذا هو معنى ترك الصلاة، فقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59] قال: (إضاعتها هو إخراجها عن وقتها).
وروى أبو يعلى عن مصعب بن سعد قال: قلت لأبي: يا أبتاه، أرأيت قوله تعالى: فَوَيْلٌ لّلْمُصَلّينَ ?لَّذِينَ هُمْ عَن صَلَـ?تِهِمْ سَاهُونَ أيّنا لا يسهو؟ أيّنا لا يُحدّث نفسه؟ قال: (ليس ذاك، إنما هو إضاعة الوقت، يلهو حتى يضيع الوقت).
من هنا ندرك جيدًا أن الذي يخرج الصلاة عن وقتها لم يقم الصلاة كما أمر الله، لأن إقام الصلاة معناه: أداؤها في وقتها بأركانها وواجباتها.
واستمعوا إلى النصوص المرهبة من ترك الصلاة:
1- قال الله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَـ?بَ ?لْيَمِينِ فِى جَنَّـ?تٍ يَتَسَاءلُونَ عَنِ ?لْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ?لْمُصَلّينَ [المدثر:38- 43].
2- وروى مسلم عن جابر مرفوعًا: ((بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).
3- وروى أحمد وأبو داود وغيرهما عن بريدة مرفوعًا: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)).
4- وروى الطبراني في الأوسط مرفوعًا: ((أوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)).
5- وروى أحمد وغيره عن ابن عمر قال: ذكر النبي الصلاة يومًا فقال: ((من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف)).
وخصّ هؤلاء بالذكر لأن من الناس من يلهو عن صلاته لأجل ماله فهو مع قارون، ومنهم من يلهو عنها لملكه فهو مع فرعون، ومنهم من يلهو عنها لجاهه فهو مع هامان، ومنهم من يصدّه كبره فهو مع أبيّ بن خلف.
6- قال عبد الله بن شقيق العقيلي: كان أصحاب محمد لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي.
7- واستمعوا إلى ما يرويه لنا المسور بن مخرمة قال: دخلت على عمر بن الخطاب وهو مسجًّى ـ أي: مغطى يوم طعنه اللعين المجوسي ـ، فقلت: كيف ترونه؟ قالوا: كما ترى، قلت: أيقظوه بالصلاة، فإنكم لن توقظوه لشيء أفزع له من الصلاة، فقالوا: الصلاة يا أمير المؤمنين، فقال: (ها الله إذًا، ولا حق في الإسلام لمن ترك الصلاة)، فصلى وإنّ جرحه ليثغب دمًا.
انظروا ـ إخوتي الكرام ـ إلى عظمة الصلاة في قلب عمر لتعلموا السر الذي جعل عمر ومن عاش مع عمر أعظم الناس عند الله رب العالمين، وخير أمة أخرجت للناس على مر السنين.
واستمعوا إلى عقاب تارك الصلاة في قبره قبل أن يقف بين يدي ربه، فقد روى البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال كان رسول الله مما يكثر أن يقول لأصحابه: ((هل رأى أحد منكم من رؤيا؟)) قال: فيقصّ عليه من شاء الله أن يقصّ، وإنه قال ذات غداة: ((إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع، وإذا آخر قائم عليه بصخرة، وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه، فيتهدهد الحجر ها هنا، فيتبع الحجر فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصحّ رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى، قال: قلت لهما: سبحان الله ما هذان؟ قال: قالا لي: انطلق انطلق... قال: قلت لهما: فإني قد رأيت منذ الليلة عجبا، فما هذا الذي رأيت؟ قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك، أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة...)).
هذا هو جزاء تارك الصلاة الذي يؤخرها عن وقتها في قبر نكر، والساعة موعدهم والساعة أدهى وأمرّ.
كل هذه النصوص تزيد التائبين الطائعين ثباتًا على الصلاة وحفاظًا عليها مدى الحياة، وتبصر الغافلين الذين يغفلون كل يوم عن أداء بعض الصلوات في أوقاتها المفروضة، وخاصة صلاة الفجر التي ـ للأسف الشديد ـ يهجرها كثير من المسلمين، وكأن العبد هو الذي يضع وقتها، فيصليها متى استيقظ من نومه، وكأنه لم يسمع أمر الله تعالى بهجران نومه وملاقاة ربه، وكأنه لم يسمع قول المولى عز وجل: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ [البقرة:238].
نُشير إلى التنوفة وهي قفر ومن بالسّفح يعلم من عنينا
كلامنا إذن عن الصلاة والترهيب من تركها له محله في هذه الأيام، نوجّهه إلى كل مسلم غافل، اعتاد على ترك صلاة الفجر فلا يصليها حتى تطلع الشمس، واعلم جيدًا ـ أخي الكريم ـ واعلمي جيدًا ـ أختي الكريمة ـ أن الثمرة من سماع خطب الجمعة هو التنبّه والحذر من هذه الغفلة، وإلا فأين المعصوم؟! فإننا ولله الحمد نحاول جاهدين لإصلاح بواطننا وظواهرنا، ولعل كثيرًا منّا ينفعه الله بما سيسمعه من هذه القصة التي رواها البخاري ومسلم:
كان النبي عائدًا وأصحابه من إحدى الغزوات، فأضناهم السفر، فنزلوا عند مكان ليبيتوا فيه، فخشي رسول الله أنه إن نام فاتته صلاة الفجر لشدة تعبهم، فقال: ((أيكم يحرس علينا صلاتنا؟) )، فقال بلال: أنا يا رسول الله، فناموا، ثم غلبت بلالاً عيناه فنام هو الآخر، فلم يستيقظوا إلا والشمس طالعة، وكان أول من استيقظ رسول الله ، فأمرهم أن يبتعدوا عن ذلك المكان وقال: ((إنه مكان حضرنا فيه الشيطان)) ، ثم أمر بلالا بالأذان فأذن وصلوا صلاتهم، ثم استأنفوا المسير، فإذا ببعض أصحاب رسول الله يتناجون فيما بينهم وجلين يقولون: ما عسى الله أن يفعل بنا، ما عسى الله أن يفعل بنا، فسمعهم رسول الله فقال: ((إنما التفريط في اليقظة من نام عن صلاة أو نسيها فليصلّها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك)).
لاحظوا جيّدًا إخوتي الكرام، كانوا عائدين من الجهاد في سبيل الله الذي يفرّ منه أعتى الرجال، ولاحظوا جيدًا أنهم اتخذوا سببًا ليستيقظوا لصلاة الفجر، ولاحظوا جيدًا أنهم شعروا بألم الحسرة والخوف من الله لأجل ما حدث، فهل أنت كذلك؟ هل تنام في ساعة متأخرة من الليل لجهاد أو صلاة؟ وهل تتخذ الأسباب؛ تحضّر المنبه، وتوصي أهلك ليوقظوك؟ ثم هل تشعر بمرارة الذنب لهذا التفريط والتقصير؟
لشتان بين اليزيدين في الندى: اليزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
فهمُّ الفتى الأزدي إتلاف ماله وهمّ الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضّلت أهلَ المكارم
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كما أمر، الذي وعد بالمزيد لمن شكر، وأوعد بالعذاب من تولى وكفر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي المعتبر، ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأتباعه المقتفين للأثر، أما بعد: فإن السبب الثاني الذي جعلنا نتحدث عن الصلاة بعد تنبيه الغافلين هو تثبيت الطائعين، هو أن تعلموا بأنه كما نحرص على أمور دنيانا يجب علينا أن نحرص على أمور ديننا، وكما أنّك تنصح أبناءك بالاجتهاد في الدراسة والاعتناء بمستقبلهم، يجب عليك ـ أيها الوالد وأيتها الوالدة ـ أمر الأبناء بالصلاة منذ سن السابعة، والاعتناء بمستقبلهم الحقيقي "الآخرة"، نسارع جميعًا ونبادر إلى تسجيل أطفالنا في المدارس بمجرد أن يبلغوا السادسة من العمر، بل نحاول جاهدين تسجيلهم قبل ذلك، فلماذا لا نسارع لتسجيلهم في قائمة المصلين منذ سن السابعة؟ اتلُ عليه الآيات والأحاديث التي سمعتها في الخطبة، وذكره بالأجر العظيم الذي يناله من وراء الصلاة قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى? وَذَكَرَ ?سْمَ رَبّهِ فَصَلَّى? [الأعلى:14، 15]، وقال: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2].
وإليكم هذه البشارات من رسول الله ، عن أبي هريرة مرفوعًا: ((أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله الخطايا)) متفق عليه.
وقال: ((إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه)) رواه أحمد.
وعن ابن عمر مرفوعًا: ((إن العبد إذا قام يصلي أُتي بذنوبه كلها فوضعت على رأسه وعاتقه كلما ركع أو سجد تساقطت عنه)) رواه البخاري.
وروى البخاري ومسلم عن عثمان قال: والله لأحدثنكم حديثًا سمعت رسول الله يقول: ((لا يتوضأ رجل فيحسن الوضوء، ثم يصلي الصلاة إلا غفرت له ما بينها وبين الصلاة التي تليها)).
وروى الطبري عن أبي هريرة أن رسول الله مر بقبر فقال: ((من صاحب هذا القبر؟)) فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم)).
وسيأتي لاحقًا بيان لفضل الصلاة وعظم قدرها إن شاء الله، نكتفي فقط بتذكيركم بحديث الإسراء فعن أنس بن مالك قال: فُرضت على النبي الصلوات ليلة أُسرِيِ به خمسين صلاة، ثم نقصت حتى جعلت خمسًا، ثم نودي: ((يا محمد، إنه لا يبدّل القول لديّ، وإنّ لك بهذه الخمس خمسين)) رواه أحمد.
خمس في الأداء خمسون في الأجر، والحسنة بعشر أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع عليم.
أسأله تعالى أن يثبت قلوبنا على صراطه المستقيم، وأن ينفعنا بما سمعنا، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1/3549)
الصلاة منهاة عن السوء (1)
فقه
الصلاة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
16/1/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التذكير بأهمية الصلاة في الوقت. 2- لماذا فرض الله علينا الصلاة؟ 3- الصلاة عنوان العبودية. 4- غربة هذا الزمان وشدته. 5- الصلاة نهي عن الفحشاء والمنكر. 6- الصلاة نور. 7- لا صلاح إلا بالصلاة الحقيقية. 8- من أهم شروط الصلاة وواجباتها.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد تحدثنا في الخطبة الأخيرة عن عظم قدر الصلاة في الإسلام، وذكرنا الأدلة الكثيرة على أن تركها من أكبر الكبائر بعد الإشراك بالله، وذكرنا لكم معنى ترك الصلاة، وأن معنى تركها هو تأخيرها عن وقتها. فأسأله تعالى أن يكون المستمعون ممن يؤدون الصلاة في وقتها، وإننا لاحظنا بعضهم استجاب لنداء الله لهم في صلاة الفجر، فأرجو أن يكون الغائبون على الأقل ممن يؤدونها قبل خروج وقتها، إذ على قدر أهل العزم تأتي العزائم.
واليوم نود أن نلقي عليكم سؤالاً من العيب أن لا يجد له أحدنا جوابًا ألا وهو: لماذا فرض الله تعالى علينا الصلاة؟ لماذا جعلها عمود الدين؟ لماذا سمى النبي ترك الصلاة كفرًا دون ترك سائر الفرائض؟ لماذا اعتبر النبي الذين يتخلفون عن صلاتي الفجر والعشاء منافقين؟ لماذا كان حدّ تارك الصلاة هو القتل؟
كل هذه الأسئلة مما ينبغي للمؤمن أن يستحضرها ويعي الجواب عنها.
هل الله تبارك وتعالى في حاجة إلى ركوعنا وسجودنا؟! هل الله عز وجل يضره شيء لو ترك من في الأرض جميعًا الصلاة؟! وهل يضرّ الله تأخير المسلم صلاته عن وقتها؟!
الجواب هو قوله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ أَنتُمُ ?لْفُقَرَاء إِلَى ?للَّهِ وَ?للَّهُ هُوَ ?لْغَنِىُّ ?لْحَمِيدُ [فاطر:15].
الجواب هو قوله تعالى: إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى ?لأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ ?للَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:8].
الجواب هو ما قاله تعالى في الحديث القدسي: ((يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)).
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الصلاة هي الترجمة الحقيقية والعملية لقوله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ [الذاريات:57، 58].
فالمسلم الذي يستجيب لنداء الله تعالى خمس مرات في اليوم والليلة في وقت معين وبأعمال معينة يركع لربه ويسجد لربه ويناجي ربه ويدعو ربه، هذا المسلم حريّ وجدير أن يكون عبدًا لله كما أمر، لذلك كان من أضاع الصلاة فهو لما سواها أضيع.
ولم يُعرَف للصلاة أهمية كأهميتها في هذا الزمان، زمان الغربة الذي اشتدت فيه على المسلمين الكربة، فبإجماع المسلمين اليوم نعيش أزمة روحية يشكو الناس فيها قسوة القلوب وتفاقم الكروب، فاعلموا أن أقرب الطرق إلى الله وأوضح سبيل إليه هو المحافظة على الصلاة في أوقاتها.
كل من يعاني من داء الشهوات والشبهات، ولم يجد منها خلاصًا، فعليه بالصلاة في وقتها، فسيذهب عنه داؤه.
فالصلاة كما لا يخفى عليكم ـ إن شاء الله ـ هي الوقاية المثلى من كل الأمراض القلبية والآفات النفسية، قال تعالى: ?تْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ?لْكِتَـ?بِ وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ إِنَّ ?لصَّلَو?ةَ تَنْهَى? عَنِ ?لْفَحْشَاء وَ?لْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ?للَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45]، يبيّن تعالى أن الصلاة الصحيحة لا بد أن تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر وتقوده إلى الخير والمعروف، لذلك ترى أهل المساجد هم أفاضل الناس وأحاسنهم على عُجرهم وبجرهم، وعلى ما كان بهم من عيوب وذنوب، فعند سواهم أضعاف مضاعفة منها.
ولقد روى الإمام أحمد وغيره بسند صحيح أن رجلاً قال للنبي : إن فلانًا يصلي الليل كله، فإذا أصبح سرق! فقال: ((إنه سينهاه ما يقول)).
فالمحافظة على الصلاة هو طريق الالتزام بالدين والفوز برضا رب العالمين، عندما يحافظ المسلم على صلاته في وقتها بأركانها وشروطها، يقذف الله في قلبه حلاوة الطاعة، فلا يرضى بديلاً عن تلكم الحلاوة ولو عرضت عليه الدنيا وما فيها، فيستضيء قلبه بنور الله شيئًا فشيئًا حتى يرى الحق حقّا والباطل باطلاً، لذلك وصف النبي الصلاة بأنها "نور" فقال: ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك)) رواه مسلم.
الصلاة نور، لذلك تعلمون السرّ الذي جعل رسول الله يعلمنا أن نقول إذا ذهبنا إلى المسجد للصلاة: ((اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي لساني نورا، واجعل في سمعي نورا، واجعل في بصري نورا، واجعل من خلفي نورا، ومن أمامي نورا، واجعل من فوقي نورا، ومن تحتي نورا، اللهم أعطني نورا)) لأن المصلي وكأن أكبر فوزه بصلاته هو نور الله عز وجل الذي قال: ?للَّهُ نُورُ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ?لْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ ?لزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَـ?رَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى? نُورٍ يَهْدِى ?للَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ ?للَّهُ ?لأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ?للَّهُ بِكُلّ شَىْء عَلَيِمٌ [النور:35].
ماذا بعد هذه الآية مباشرة؟ يقول تعالى: فِى بُيُوتٍ أَذِنَ ?للَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ?سْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِ?لْغُدُوّ وَ?لآصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَـ?رَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَإِقَامِ ?لصَّلَو?ةِ وَإِيتَاء ?لزَّكَو?ةِ يَخَـ?فُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ?لْقُلُوبُ وَ?لأبْصَـ?رُ [النور:36، 37].
فتأملوا هذا الرّبط العجيب بين الصلاة وبين النور نور الله الواحد الأحد، وكأن الذي لا يحافظ على صلاته يعيش في ظلمات المعاصي والشهوات والشبهات فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، لذلك تجد الآية بعدما تلوناها عليكم تقول: أَوْ كَظُلُمَـ?تٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَـ?هُ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَـ?تٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ?للَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ [النور:40].
فاستيقظ ـ يا عبد الله ـ من غفلاتك، واعرف القدر العظيم لصلواتك، فإنها شيئًا فشيئًا تنقلك لا محالة من الفجور إلى البرّ، من الضلال إلى الهدى، من الزيغ إلى الرشاد، والله الموفق للهدى والسداد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: فإنّ نور الصلاة الذي يضيء قلب المسلم فيصلحه ويغسله من جميع الأدران والأوساخ، نعلم ذلك من حديث رسول الله القائل: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإذا صلحت صلح سائر عمله، وإذا فسدت فسد سائر عمله)) ، وكأن الصلاة هي القلب الذي ذكره النبي قائلاً: ((ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). وقد بينا أن الصلاة هي التي تصلح القلب، فإذا صلحت الصلاة صلح القلب فتصلح الأعمال معها، تصلح اليد فلا تسرق ولا تبطش، ولا تزني باللمس، وصلحت الرجل فلا تمشي إلى محرّم، واستقامت الأذن فلا تسمع ما حرم الله من المعازف أو الغيبة أو النميمة، واستقام اللسان فلا ينطق إلا خيرا.
ولا يزال العبد يرتقي ويرتقي في درجات العبودية بصلاته مستمتعًا بطاعته، حتى يشرع في التقرب إلى الله بالنوافل وعلى رأسها قيام الليل الذي قال عنه : ((عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم)) رواه أحمد والترمذي.
وكما قال تعالى في الحديث القدسي: ((ما تقرب إلىّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، وإن استعاذني لأعيذنه)).
إذن فهو على نور من الله في جميع أفعاله وأقواله، فمحال أن لا يستقيم.
فما بال بعضكم يتساءل الآن ويقول: كلامك في واد وحالي في واد آخر، إني لا أشعر بهذا النور الذي تتحدث عنه، وصلاتي لا تنهاني عن السوء الذي ترهب منه؟! فنقول له: ألم تسمع رسول الله يقول لأحد المصلين: ((ارجع فصلّ فإنك لم تصل)) ؟!
إن هناك فرقًا بين الصلاة التي شرعها الله تعالى وبين الصلاة التي يصليها بعض الناس اليوم، والله لو أتقن الناس صلاتهم وأدوها على وجهها وفي وقتها لشعروا بحلاوة الإيمان والقرب من الله الواحد الديان.
كيف يستمتع بصلاته من يصليها خارج وقتها بلا اطمئنان ولا خشوع؟! شك أن مثل هذا ما صلى، فكيف ينتظر من شيء معدوم أن ينهاه عن الفحشاء والمنكر؟!
فاعلم أن للصلاة شروطًا وواجبات ومستحبات ينبغي للمسلم الحفاظ عليها، من أهم تلك الواجبات:
1- الصلاة لوقتها: فقد سئل النبي عن أحب الأعمال إلى الله تعالى فقال: ((الصلاة على وقتها)). وإذا كان الله أوجب الصلاة في وقتها على المسافر والمريض والعاجز والمجاهد في سبيل الله، فلا عذر لأحد بعد هؤلاء. في أصعب الأوقات وأعسرها، في وقت القتال والجهاد أمر الله عباده بإقام الصلاة فقال تعالى: حَـ?فِظُواْ عَلَى ?لصَّلَو?تِ و?لصَّلَو?ةِ ?لْوُسْطَى? وَقُومُواْ لِلَّهِ قَـ?نِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:238، 239]، أي: إن ابتدأكم الكفار بالقتال وكان لا بد من مقاومتهم فصلوا وأنتم تمشون أو راكبون لغير القبلة، المهم هو الصلاة لوقتها، فيكتفون بالإيماء والإشارة، وقد روى الإمام أحمد بسند جيد أن النبي بعث عبد الله بن أنيس الجهني إلى خالد بن سفيان ليقتله وحانت صلاة العصر فخشي أن تفوته، فجعل يصلي وهو يومئ إيماء. وهذه هي صلاة الخوف التي تشرع للمسلم إذا خشي خروج الوقت.
فما قولك أيها الجالس على مكتبه ويقول: الله غالب، العمل؟!
وما قولك أيها التاجر في محله ويقول: الله غالب، إنها الخبزة؟!
وما قولك أيتها المرأة في بيتك وتقولين: الله غالب، إنها شؤون البيت؟!
ما بقي لأحد عذر بعد الذي سمعتموه.
أسأله تعالى أن يرزقنا حلاوة الطاعة والاستمتاع بالصلاة. وبقية شروط وواجبات الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر نراها في خطب لاحقة، والحمد لله رب العالمين.
(1/3550)
الصلاة منهاة عن السوء (2)
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
أعمال القلوب, الصلاة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
23/1/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أسباب التأثر بالصلاة. 2- محبة الصلاة والمسجد. 3- الطمأنينة في الصلاة. 4- الخشوع في الصلاة. 5- ذكر الموت. 6- خشوع الصالحين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإننا قد شرعنا معكم في الحديث عن ثمرات الصلاة الزكية، وعن دررها البهية، وكان أول ثمراتها ظهورًا أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، لأنها نور الله الذي أودعه في قلب المؤمن، وقد ذكرنا في ثنايا حديثنا أنه مهما يكن من عيب في المصلين فهو في غيرهم أضعاف مضاعفة، والفرق بينهما أن المصلي ستنهاه صلاته حتمًا عن السوء شيئًا فشيئًا، ويبقى تارك الصلاة يتخبط في ظلمات الهوى والغي والضلال، كذلك الرجل الذي كان يبيت الليل يصلي ثم يصبح فيسرق فقال عنه رسول الله : ((ستنهاه صلاته)).
فلا تترك ما تستطيع للعجز عمّا لا تستطيع، فالميسور لا يسقط بالمعسور، ولقد صدق القائل حين قال:
اصنع الخير ما استطعت وإن كنت لا تحيط بكلّه
فمتى تصنع الكثير إذا كنت تاركًا لأقلِّه
فما الأسباب التي تجعل الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟
رأينا أولها: الصلاة في الوقت.
واليوم نعرج على ذكر ثلاثة أسباب أخرى، فنقول: السبب الثاني الذي تحسن به صلاتك "حب الصلاة".
أحبّ هذه العبادة العظيمة حبًا يملأ عليك حياتك وقلبك وجوارحك كلها، حتىّ تشعر أن الحياة بلا صلاة كجسد بلا روح، وأنّ الدنيا لولا الصّلاة لا تساوي جناح بعوضة، حتى تشعر بضرورة الصلاة كضرورة الماء للنبّات، كيف لا؟! والصلاة هي الصلة بينك وبين الله، هي المناجاة لرب العالمين، هي الحديث مع خالق الناس أجمعين. أقول ذلك لأن الذي يصلي وهو لا يستشعر حلاوة هذه العبادة فستثقل عليه حتمًا، ويكون شبيهًا بالمكره الذي يفعل الشيء وهو لا يريده، ومن المعلوم لدى الخاص والعام أنّ يمين وعقد المكره لا ينعقد ولا يصحّ.
انظر إلى أولئك السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله تجد منهم رجلاً تعلق قلبه بالمساجد، تعلق أي: صار ذا عُلقةٍ بالمسجد، فلا يرتاح إلا فيه، لا ينتهي من صلاة حتى يشتاق ويحنّ إلى الصلاة الأخرى، لا يرضى بفراق الله طرفة عين، فلا يلبث حتى يقوم ويتطوع بركعات لله، فالصلاة خير موضوع كما قال : ((الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر)).
وإذا حلّت الهداية في البدن نشطت في العبادة الأعضاء
ها هو محمد رسول الله يقول: ((جعلت قرّة عيني في الصلاة)) ، أي: لا أشعر بأي فرح وجذل وسرور مثل ما أشعر به في الصلاة، فكان يقول لبلال: ((أقم الصلاة أرِحنا بها)) ، فيقيم بلالٌ الصلاة، ويكبر النبي وأصحابه تكبيرة الإحرام، فلا يرجى لهم خروج منها، يطيلون القيام والركوع والسجود، ولولا خشية المشقة على الناس لما رضوا بالانصراف منها، لماذا؟ إنه الله، إنه الله رب الأرض والسماء.
ووالله لو طهرت قلوبنا ما شبعت من الصلاة والأنس بذكر الله، وهل يشبع الحبيب من مجالسة الحبيب؟! ولكن عندما أحببنا غيره تعالى، عندما أحببنا الأموال والأولاد واللهو والعبث هانت الصلاة علينا وثقلت على ظهورنا، فصرنا نؤديها أداء مجرّدًا عن كل حبّ وتعظيم، وكأننا نقول: أرحنا منها يا بلال.
فما هي النتيجة؟ النتيجة هي: "كم من مصلٍّ لا يصلي"، فكيف يرجو الشفاء من صلاة لا يحبها.
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس
فيجب علينا ـ عباد الله ـ أن نستيقظ من هذه الغفلة، وأن ندرك حلاوة هذه العبادة كما أدركها خير القرون، فقد سئل أحدهم عن قيام الليل فقال: "إقبال الليل عند المحبين كقميص يوسف في أجفان يعقوب"، وسئل آخر عن سر الحلاوة التي يجدها في صلاة الليل فقال: "هان سهر الحراس لما علموا أن أصواتهم بمسمع الملك"، وسئل الحسن عن التعب الذي يجده في كثرة صلاته فقال له أحدهم: إلام تتعبُ نفسك؟ قال: "راحتها أريد".
هذا سبب عظيم إذا حققته ـ أيها الأخ الكريم ـ فزت بثمرات الصلاة.
والسبب الثالث الذي تحسن به صلاتك هو موافقتها لصلاة رسول الله ، وذلك بمراجعة باب الصلاة في كتب الأحاديث والفقه، فإنه بذلك يشعر بحلاوة الاتباع، ويذوق طعم هدي رسول الله القائل: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)). فيلتزم ما التزمه النبي ، ويترك ما يتركه النبي ، فهو يتبع خطوات رسول الله في صلاته، فخير الهدي هدي محمد ، وقد روى النسائي عن أبي أيوب مرفوعًا: ((من توضأ كما أُمِر وصلّى كما أُمِر غفر له ما تقدم من ذنبه)).
وأعظم ركن أذكركم به ـ إخوتي الكرام ـ هو الطُّمأنينة في جميع أركان الصلاة، فإياك أن تنتقل من الركوع إلى غيره قبل أن يستقرّ كلّ عظم في موضعه، فلو رفعت رأسك من الركوع قبل أن تمكن نفسك من الركوع جيدًا فالصلاة غير صحيحة، وكذلك لو رفعت رأسك من السجود قبل أن تمكن جبهتك من الأرض وبقيت ساجدًا بمقدار ما يعود كل عظم إلى موضعه فالصلاة لم تصح لقوله وقد رأى رجلاً لا يتم الركوع ولا السجود ولا القيام، قال له: ((ارجع فصلّ فإنك لم تصل)).
وأذكركم بتلكم الفأرة التي رأت جملاً فأعجبها فأمسكته من عِقاله وقال لها: "إما أن تتخذي صديقًا يليق بدارك، أو تتخذي دارًا تليق بصديقك"، فكذلكم العبد إمّا أن يتخذ صلاة تليق بربه، أو يتخذ ربًّا يليق بصلاته.
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فمن الأسباب التي تجعل الصلاة تؤتي أكلها وتنفع صاحبها الخشوع.
الخشوع هو حضور القلب مع الله، قال تعالى: لَن يَنَالَ ?للَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَـ?كِن يَنَالُهُ ?لتَّقْوَى? مِنكُمْ [الحج:37]، فإن النطق والحركات إذا لم يكن معها حضور القلب كان كل ذلك بمنزلة الهذيان. قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ [المؤمنون:1، 2].
فينبغي للمسلم أن يحضر قلبه عند كل شيء من الصلاة، فإذا سمع نداء المؤذن يتذكر النداء ليوم القيامة فيشمر للإجابة، ولينظر من الذي يناديه، ولينظر كيف يحضر إليه. وهو يلبس ثياب الصلاة ليستر عورته الظاهرة فليتذكر عوراته الباطنة التي لا يطلع عليها سوى الله عز وجل، وإذا استقبل القبلة فليعلم أن وجهه صار تجاه الله تعالى فيسحن الوقوف بين يديه تعالى. فإذا كبّرت ـ أيها المصلي ـ فلا تجعل قلبك يكذّب لسانك، فبقولك: "الله أكبر" أعلنت العبودية الكاملة لله تعالى، فهو أكبر من الدينار وأكبر في الدرهم وأكبر من الأولاد وأكبر من كل شيء. ثم إذا استعذت بالله فتصور نفسك محتميًا بالله مستعينا به فارًا إليه من الشيطان الرجيم، فإنك إن لم تلتجئ بقلبك كان لغوًا في حق ربك. وهكذا تتدبر معاني ما تتلوه من القرآن الكريم، تستحضر نعمه وأنت تقول: ?لْحَمْدُ لِلَّهِ رَبّ ?لْعَـ?لَمِينَ ، وتستحضر لطفه وكرمه وأنت تقول: ? لرَّحْمَ ـ? نِ ? لرَّحِيمِ ، وتستحضر عظمته وأنت تقول: مَـ?لِكِ يَوْمِ ?لدّينِ.
ومن أهم أسباب الخشوع في الصلاة كذلك ذكر الموت، فعن أنس مرفوعًا: ((اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لجديرٌ أن يحسن صلاته، وصلّ صلاة رجل لا يظن أنه سيصلي صلاة غيرها)).
صدق رسول الله ، فإن للموت لرهبة، وإن لذكره لهيبة، فهو خاتمة الأعمال، وما بعده أشد رهبة. تذكر وتصور أنها آخر صلاة لديك في هذه الدنيا، وتصوّر نفسك على فراش الموت تودع الأحباب والأصحاب، توصي الوصية وتعيد الحقوق لأصحابها، ولا تجد شيئًا تجود به إلا دموعًا تعلن بها فقرك إلى الله.
لقد كان يصلي ولجوفه أزيز ـ بكاء ـ كأزيز المرجل وهي القدر إذا غلت.
وعن عبد الله الثقفي قال: ولقد كان أبو بكر لا يكاد يسمع الناس قراءته في الصلاة من البكاء.
ولقد كان عمر يسمع نشيجه وبكاؤه من آخر الصفوف، روى البخاري عن عبد الله بن شداد قال: سمعت نشيج عمر وأنا في آخر الصفوف يقرأ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثّى وَحُزْنِى إِلَى ?للَّهِ [يوسف:86].
وكان عبد الله بن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكأن يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جذع حائط.
وكان علي بن الحسين إذا توضأ اصفرّ لونه فقيل له: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فقال: ألا تدرون بين يدي من أقوم؟!
وقال ميمون بن مهران: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتًا في صلاة قط، ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدتها، وإنه لفي المسجد يصلي وما التفت، وكان أهل بيته إذا دخل المنزل سكتوا، فإذا قام إلى الصلاة تكلموا وضحكوا.
رزقنا الله حلاوة الصلاة وطلاوتها، فها هي الأسباب بين أيديكم التي إن توفرت حُق للمسلم أن يقول: "صليت"؛ مراعاة الوقت، وحب الصلاة، وموافقتها لصلاة النبي ، والخشوع الذي هو لب العبادات جميعها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
(1/3551)
الصلاة منهاة عن السوء (4)
فقه
الصلاة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
8/2/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شروط الصلاة التي تنهى عن السوء. 2- الصلاة خير موضوع. 3- استكثار الصحابة من الصلاة. 4- الطريق إلى ولاية الله تعالى. 5- أهمية صلاة التطوع. 6- أنواع الصلاة النوافل.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلعلكم قد لاحظتم أننا أطلنا الحديث عن الصلاة، وفي الحقيقة أنّنا لم نتكلم إلا عن ثمرة واحدة من ثمراتها ألا وهي أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا تزال هناك ثمرات لا تعدّ ولا تحصى ينبغي للمسلم أن يتمتع بحلاوتها وطلاوتها، وذكرنا فيما سبق أنه لا يمكن أبدًا أن ينتهي المصلي عن السوء إلا إذا أتى بصلاته بشروط هي: المحافظة على الصلاة في وقتها، وتعظيم الصلاة وحبها، وموافقتها لصلاة رسول الله والخشوع فيها، وكان آخر شيء رأيناه هو الصلاة مع جماعة المسلمين.
ونود أن نختم الكلام عن هذه الشروط بأمر عظيم كذلك، ربما غفل عنه الكثير، ألا وهو صلاة التطوع أو صلاة النوافل، هذه الصلوات التي لو فتحت أيّ كتاب من كتب الحديث لتعجبت أشد العجب من الفضل والثواب الذي ورد في شأنها، وهي تخبرك عمليًا أنها أكبر تجارة مع الله الذي إذا عاملته لم يظلمك شيئًا ولم يخذلك.
ننطلق في حديثنا اليوم معكم من قوله : ((الصلاة خير موضوع، فمن استطاع منكم أن يستكثر فليستكثر)) رواه أحمد عن أبي أمامة، وكأنه يقول لك: حاول ألا تضيع أي وقت يمكن أن تستغله بالصلاة، فهي العبادة التي لم يقيّد عددها، لذلك روى ابن ماجه عن أبي فاطمة قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني بعمل أستقيم عليه وأعمله، قال: ((عليك بالسجود، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحطّ عنك بها خطيئة)) ، وفي رواية لأحمد أنه قال له: ((يا أبا فاطمة، إن أردت أن تلقاني فأكثر السجود)). فكذلك هو نداء لكم إن أردتم لقاء رسول الله فأكثروا من السجود، أكثروا ما دام في الجسد روح، ما دام في البدن قوة، من قبل أن نشتاق ونفتقر إلى ركعة واحدة، فقد روى الطبراني عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله بقبر فقال: ((من صاحب هذا القبر)) ، فقالوا: فلان، فقال: ((ركعتان أحبّ إلى هذا من بقية دنياكم)).
لذلك ثبت عن الصحابة عليهم من الله الرضوان أنهم كانوا يستكثرون من الصلاة، فقد روى أحمد عن مطرّف بن عبد الله بن الشخير قال: قعدت إلى نفر من قريش، فجاء رجل، فجعل يصلي ويركع ويسجد ولا يقعد، فاستكثروا ذلك فقالوا: ألا تقوم إليه فتقول له؟! قال: فقمت فقلت: يا عبد الله، ما أراك تدري تنصرف على شفع أو على وتر!! قال: ولكن الله يدري، سمعت رسول الله يقول: ((من سجد لله سجدة كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة ورفع له بها درجة)) فقلت: من أنت؟ فقال: أبو ذر، فرجع إلى أصحابه يوبخهم.
وروى مسلم عن أنس قال: كنا بالمدينة فإذا أذن المؤذن لصلاة المغرب ابتدروا السواري فيركعون ركعتين ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب أن الصلاة قد صليت من كثرة من يصليهما، حتى نزل قوله تعالى: كَانُواْ قَلِيلاً مّن ?لَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ [الذاريات:17]، قال أنس: كانوا يصلون بين المغرب والعشاء ما شاء الله أن يصلّوا.
ومشى على منهجهم خير القرون من التابعين وأتباعهم، فحققوا ولاية الله سبحانه لهم والذي قال سبحانه فيهم: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء ?للَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ [يونس:12، 13].
من أولياء الله أولئك؟ جاء في صحيح البخاري: ((من عادى لي وليًا آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إليّ مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطيّنه ولئن استعادني لأعيذنه)).
فمن أراد أن يحظى بولاية الله له فليحرص على أداء الفرائض، وليزدد حرصًا على النوافل، لأن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وإلا فلا تتعجبوا من الخوف والحزن الذي ينتاب المسلمين في أيامنا هذه.
وتزداد قيمة صلوات التطوع ظهورًا إذا علمنا أن النوافل تجبر النّقص الذي يحصل في الفريضة، فمن ذا الذي ينصرف من صلاته كاملة، فقد جاء في مسند أحمد عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه مرفوعًا: ((إن العبد ليصلي الصلاة ما يكتب له منها إلا عشرها تسعها ثمنها سبعها سدسها خمسها ربعها ثلثها نصفها)). ثم استمع إلى ما رواه الترمذي والنسائي عن أبي هريرة مرفوعًا: ((أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عماه صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص من فريضته شيء قال الله تعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة)).
فبهذا يظهر جليًا فضل النوافل وأهميتها، إذ هي التي تحمي لك الفريضة من صلواتك.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي فرض على عباده الصلاة، وجعلها لهم من أحلى الطاعات، وشرع لهم منها من النوافل والقربات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه سادة السادات.
أما بعد: فقد ظهر لنا جليًا أهمية صلاة التطوع، فلنعلم كذلك أنّ أهم صلوات التطوع هو ما واظب عليه النبي كالسنن الرواتب وصلاة الضحى وصلاة الليل.
أما الرواتب فهي اثنتا عشرة ركعة يصليها المسلم في اليوم والليلة، فقد روى مسلم وابن خزيمة وغيره عن أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما قالت: سمعت رسول الله يقول: ((من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة بني له بهن بيت في الجنة)) ، زاد ابن خزيمة: ((أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل صلاة الغداة)).
وعن عائشة مرفوعًا: ((أربع ركعات قبل الظهر يعدلن بصلاة السحر)).
وعن أبي أيوب الأنصاري قال: أدمن رسول الله أربع ركعات عند زوال الشمس قال: فقلت: يا رسول الله، ما هذه الركعات التي أراك قد أدمنتها؟ قال: ((إن أبواب السماء تفتح عند زوال الشمس فلا تغلق حتى يصلى الظهر، فأحبّ أن يصعد لي فيها خير)) رواه أحمد.
وهذه الصلوات تعتبر حصنًا حصينًا للفرائض، فلا يمكن أن يؤدي المرء هذه الصلوات ثم تراه يتهاون في الفرائض.
ولقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عمّن واظب على ترك السنن الرواتب فقال: هذا يدل على قلة دينه فلا تقبل له شهادة. وبهذا أفتى الإمام النووي رحمه الله.
فانظروا إلى تعظيم العلماء لهذه الصلوات، لأنهم يعلمون يقينًا أن ثمرات الصلاة لا يمكن أن تؤتي أكلها دون النوافل، وهل يملُّ المحب ما يحبّ؟!
هذه ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين، وللحديث بقية إن شاء الله رب العالمين.
(1/3552)
التنصير: تاريخه وسائله أهدافه
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
15/2/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تصوير خطر التنصير. 2- الخوف على المسلمين لا على الإسلام. 3- نشاط دعاة التنصير في الجزائر. 4- تاريخ التنصير. 5- وسائل التنصير. 6- أين أمة الإسلام؟! 7- غاية التنصير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلعلكم كلكم تنتظرون مواصلة الحديث حول موضوع الصلاة وبيان ثمراتها، وذكر محاسنها وفضائلها، ألا فاعلموا أننا اضطررنا هذه المرة إلى أن نقطع هذه السلسلة المباركة، وذلكم للتحدث عن أمر عظيم وخطر جسيم، خطر يهدد كيان المسلمين، وطوفان عظيم ينبغي لكل غيور على هذا الدين أن يحترز منه، هذا الطوفان هو "التنصير والمنصرون" الذي يحلو لهم أن يسموه: التبشير والمبشرون!!
وكلنا يعلم علم اليقين أنه مهما اجتهد المبطلون، وتحالف الكافرون والمجرمون فإنهم لن يمسوا الإسلام بمثقال حبة من خردل من سوء، فما مثلهم إلا كمثل غلام رمى البحر بحجر.
كناطح صخرة يومًا ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
قال الله تعالى: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ هُوَ ?لَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِ?لْهُدَى? وَدِينِ ?لْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ?لدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْمُشْرِكُونَ [الصف:8، 9].
ولكننا نخشى على المسلمين، إننا نخاف عليهم من الوقوع في حبائل الكائدين، لذلك علينا أن نسعى جاهدين للقيام بواجب الذب عن دين رب العالمين، وكما أننا مستيقنون أن الله هو الخالق ثم نسعى إلى التناسل، وكما أننا موقنون أن الله هو الرازق ثم نسعى إلى ابتغاء الرزق، كذلك علينا أن نسعى إلى نصرة دين الله ونحن موقنون أنه مظهره وناصره، لذلك قال تعالى بعد هاتين الآيتين اللتين تلوناهما عليكم: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى? تِجَـ?رَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـ?هِدُونَ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ بِأَمْو?لِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الصف:10، 11]
فماذا عن التنصير؟ ولماذا اخترنا الحديث عن هذا الموضوع فجأة، وقطعنا لأجله سلسلة الكلام عن الصلاة؟
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن دعاة التنصير لا يخلو منهم بلد من البلدان، وفي هذه البلاد كان نشاطهم مكثفًا إلى حد بعيد في مناطق كبعض مدن القبائل والجنوب. أما اليوم، فإننا نراهم قد توغلوا أكثر فأكثر، ولا أحد ينكر، ولا أحد يغضب لله ويغار عليه.
انتشرت الرذيلة ونحن ساكتون، انتشرت الخلاعة ونحن صامتون، عمت الرشوة وفشت المعاملات المحرمة، واقتصرنا على دعوة الناس إلى الرجوع إلى الله بالتي هي أحسن كما أمر، والخير كله فيما أمر. ولكن لا يمكننا أبدًا أن نسكت على نشر دين غير دين الإسلام، لا يمكن بحال أن نسمح برواج شريعة غير شريعة الرحمان، لا نرضى أبدًا بالشرك بالله والكفر بالله.
لذلك ندعو اليوم قلب كل مؤمن غيور ننادي قلب كل من عرف الإسلام دينا وإقدامًا، وعملاً ورسالة، ولم يعرفه استسلامًا وجمودًا، وخوفًا وترددًا، إلى هذا القلب نقدم نُبذا عن التنصير في العالم بمعرفة تاريخه ووسائله وغايته.
التنصير دعوة إلى دين النصارى، وحركة دينية وسياسية واستعمارية ظهرت عند فشل الحروب الصليبية في مهمتها وهي القضاء على الإسلام ونشر النصرانية، فأول من حمل لواء هذه الدعوة الخبيثة الإسباني "ريمون لول" في القرن السادس عشر، فتعلم اللغة العربية، وجال في بلاد المسلمين ليدرك نُقط ضعفهم بحثًا عن وسائل إغرائهم وإغوائهم، ثم حمل اللواء بعده الألماني "بيتر هلينغ" الذي احتك بالمسلمين في سواحل إفريقية، فتنصر على يديه سنة 1721م مائة ألف مسلم.
ثم نهضت الحركة عن طريق إنشاء مدرسة جامعية تكون قاعدة للتنصير، تُعلم لغات الشرق لطلابها، ثم جاءت جمعية لندن التبشيرية وذلك عام 1795م، ثم أخرى في اسكتلندا فنيويورك فألمانيا فغيرها من البلدان الأوربية، حتى قاموا بإنشاء جمعياتٍ تبشيرية طبية، ونجحت نجاحًا باهرًا.
ولما كان الإسلام هو العدو الأول لنشر التنصير في العالم كما صرح به القس "بولس" حين قال: "إن الدين الإسلامي هو العقبة في طريق تقدم التبشير بالنصرانية في إفريقيا"، هنالك دخل المنصرون إفريقيا، واتفقت الجمعيات التبشيرية مع أقباط مصر سنة 1819م على إنشاء جمعية لنشر الأناجيل في إفريقيا، ورغم النزاع القائم بين الكاثوليك والبروتستانت لم يمنع ذلك من إنجاح مهمتهم.
ثم جاء دور شمال إفريقيا، فأنشؤوا لها "جمعية تبشير شمال إفريقيا"، فانتشر التبشير في الجزائر وتونس والمغرب، ولا نريد التحدث عن انتشاره في آسيا والهند فإن ذلك لا أظنه يخفى عليكم. المهم أنهم دخلوا الجزائر عام 1846م ولا يزالون إلى يومنا هذا، فقد عقدوا مؤتمرًا عام 1982م تحت شعار: "الإسلام دين الشيطان" قاتلهم الله، تدارسوا فيه الوسائل التي تمكنهم من الوصول إلى غايتهم.
فما وسائلهم تلك؟ وأين كان المسلمون حينذاك؟ هذا ما سنراه بعد قليل إن شاء الله تعالى.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا، وأنزل إلينا قرآنًا مبينا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وكفى بربك هاديًا ومعينا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أدّى الأمانة وبلغ الرسالة فكان مبلغًا صادقًا وأمينًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإننا سنسرد على مسامعكم عشرة وسائل يعتمدها المنصرون في دعوتهم ليكون كل منا على حذر:
1- إنهم يحاولون قدر إمكانهم إقناع المسلمين أن النصارى ليسوا أعداء لهم، قال القس "صمويل زويمر" في أحد مؤتمراتهم: "يجب إقناع المسلمين بأن النصارى ليسوا أعداء لهم"، فتراهم لأجل ذلك يبذلون جميع أموالهم لعقد مؤتمرات تقارب الأديان، وبذلك يُهدم صرح الإيمان الذي يقوم على أعمدة الولاء والبراء، قال تعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ?لْيَهُودَ وَ?لنَّصَـ?رَى? أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51]، وصدق الله حين قال: وَلَن تَرْضَى? عَنكَ ?لْيَهُودُ وَلاَ ?لنَّصَـ?رَى? حَتَّى? تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى ?للَّهِ هُوَ ?لْهُدَى? وَلَئِنِ ?تَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ ?لَّذِي جَاءكَ مِنَ ?لْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ ?للَّهِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ [البقرة:120].
2- قديمًا كانوا لا يرسلون إلا القساوسة والطلبة المتفوقين منهم، أما اليوم فهم يركزون ويرتكزون على النصارى الجدد من العرب للقيام بالدعوة في أماكن العمل وخاصة في ميدان الطب والتعليم، قال القس "صمويل": "تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول منهم ومن صفوفهم".
3- إقامة عدة ندوات ودورات تعليمية للمتنصرين الجدد، لا لتعليمهم النصرانية فقط، بل لتعليمهم اللسان العربي لمعرفة نقط ضعفهم.
4- الحث على اختلاط المسلمين بالنصارى بالتشجيع على السفر إلى بلاد الكفر، ومن لم يسافر إليهم جاؤوه عن طريق المقعرات الهوائية المعروفة لدى الناس باسم "الدّش".
5- التركيز على المراسلات عبر المجلات، وهو ما يسمى بركن التعارف.
6- الاعتماد على الإعلام بجميع وسائله، فمنظمة التنصير تملك أكثر من 1500 محطة راديو وتلفزيون، وإحدى وعشرين ألف (21000) جريدة ومجلة مطبوعة على الورق الممتاز لجلب القراء، ولقد وزعت عام 1984م أربع وستون مليون نسخة إنجيل مجانًا، ولقد كشفت السلطات الجزائرية باخرة معبأة بالأناجيل ولم تقبل دخولها، فهذا الذي كشفته، فما بالك بما مر ولم توضع عليه يد المراقبة؟! ومؤخرًا ظهرت عدة قنوات إذاعية باللغة الأمازيغية تدعو بصراحة متناهية إلى التنصير.
7- انتشرت مؤخرًا في المدة الأخيرة الأشرطة السمعية والبصرية (الفيديو)، وذلك بمختلف اللغات واللهجات المحلية، بل وجدنا هذه الأشرطة في عدة مدارس وثانويات يتناقلها الشباب بينهم.
8- إعادة فتح الكنائس، وقد ذكرت الصحف الوطنية أنه قد دق الناقوس في ثلاث كنائس في القطر الجزائري.
9- تشجيع الحروب والفتن في البلدان الإسلامية لإضعافهم ولإثارة الاضطرابات في صفوفهم، إما بالسلاح أو بالفكر وذلك بإحياء النزعات القبلية، فقد نجحوا في إحياء العصبيات الفرعونية بمصر، والفينيقية بالشام، والآشورية بالعراق، والبربرية بالجزائر.
10- تحرير النسل بين شعوب الكنيسة وتحديده بين شعوب المسلمين.
11- تشجيع الأعمال الخيرية والإغراءات الصريحة، وذلك بمساعدة الفقراء المرضى وإيجاد فرص العمل لمن لجأ إليهم.
كل ذلك ـ عباد الله ـ من وسائلهم التي استطاعوا بها التغلغل في صفوف المسلمين، وأين المسلمون؟؟ أين أمة خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف؟
إنهم في سكرتهم يعمهون، وأمام شاشات الكفار خاشعون، وفي الملاعب يصرخون، والصالحون منهم قليلون..
هذه هي غايتهم العمل على تنصير المسلمين، هكذا كانت في أول ظهور التنصير، أما اليوم فغايتهم ما ورد على لسان القس "صمويل زويمر" حيث قال في مؤتمر لهم: "مهمة التبشير التي ندبتكم إليها الدول المسيحية ليست تحويل المسلمين إلى المسيحية، فإن في هذا تكريمًا لهم، وإنما مهمتكم هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصير مخلوقًا لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها".
فحان الوقت ـ إخوتي الكرام ـ لأن نستيقظ من السكرة وننتبه من الغفلة، وسنوضح إن شاء الله في الخطبة القادمة الوسائل التي تقي المسلمين من هذا السرطان المميت، والطوفان المدمر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
(1/3553)
التنصير: الوقاية منه
أديان وفرق ومذاهب
أديان
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
22/2/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تغلغل التنصير في المجتمعات الإسلامية. 2- الوقاية من التنصير: تعلم العقيدة الإسلامية، إحياء عقيدة الولاء والبراء، النهي عن الإقامة بين أهل الكفر والإلحاد. 3- المقصود من الكلام عن التنصير.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد رأينا معكم في الخطبة الأخيرة نبذا عن التنصير والمنصرين، تكلمنا عن معنى التنصير، وتاريخه، وغايته، ووسائله، تلكم الوسائل الخبيثة التي تمكنوا بها من التغلغل بين صفوف المسلمين. وفي الحقيقة ما ذكرنا إلا بعض وسائلهم فقط، لجؤوا إليها عندما فشلت جهودهم الحربية والاستعمارية، فقالوا: لا تنفع سياسة القمع والتعذيب، ولا الترهيب والتخريب، إنما الوسيلة العظمى هي التركيز على نقطة ضعفهم، وبذلك حققوا ما لم تنجح في فعله الطائرات والصواريخ والجنود.
وما كادت الخطة الأخيرة تنتهي حتى توافد علينا عدد كبير من الإخوة، كل يقص علينا ما لاحظه من نشاط كبير للمنصرين، ومما لاحظوه انتشار أفلام تروي قصة المسيح عيسى عليه السلام بجميع اللهجات المحلية: بالعامية والبربرية وغيرها.
فهل يرضى أحد منكم بذلك؟! هل ترضون أن يوردنا هؤلاء المهالك؟! هل ترضون بانتشار الفساد والكفر والشرك بين أبناء هذه الأمة؟! هل تسكتون على انتشار دين غير دين محمد ؟! أظنكم كلكم تقولون معي:
أما والله ما في قلوبنا لغير جلال الله والحق موضع
فقد تصبح الدنيا لإبليس شيعة ونحن لغير الله لا نتشيع
فأين إذًا عهد قطعناه لربنا بأنا له دون البرية خضع
ألا فاستمعوا إلى الأساليب الشرعية للوقاية من التنصير وشره المستطير.
1- تعلُّم العقيدة الإسلامية وأركان الإيمان، وتعليمها للصغار، فإن هؤلاء المنصرين ما لجئوا إلى ما لجئوا إليه إلا ليبعدوا المسلمين عن دينهم وعقيدتهم، لأنهم لا حجة لهم ولا علم، وأيقنوا أن الحجة الظاهرة للمسلمين، وكان أول من حاجهم فبين عورتهم هو رسول الله ، فعندما أقام عليهم الحجة وأوضح لهم المحجة، ولم يسلموا، ناداهم إلى المباهلة فقال لهم: تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ ?للَّهِ عَلَى ?لْكَـ?ذِبِينَ [آل عمران:61]، فعليكم بالعلم النافع، وذلك بتعلم العقيدة الصحيحة والتوحيد الصحيح، وعلموا ذلك كله أولادكم، فإن صغار اليوم هم رجال الغد، فأحسنوا زرعهم وسقيهم ليؤتوا ثمارهم يانعة نافعة.
علينا ـ معاشر المسلمين ـ أن نسعى جاهدين لإخراج جيل رباني يدعو إلى الخير ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ولا يتم ذلك إلا بالتربية الصحيحة والقواعد الصريحة. عيب على أمة عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام، عيب على أتباع هؤلاء أن تكون هوايتهم اليوم سماع الغناء وجمع الطوابع وصيد العصافير والمراسلة!! بعدما كانت هوايتهم بالأمس جمع الأحاديث والآثار، أو ضرب أعناق الكفار، أو السجود بين يدي العزيز الغفار.
علموا أولادكم حب الله وحب رسوله وحب الصحابة وأبطال الإسلام، فإن المحب بالحبيب يقتدي، والزجاجة الفارغة إن لم تملأها بالماء امتلأت بالهواء.
2- إحياء عقيدة الولاء والبراء في نفوس المسلمين، الولاء هو الحب في الله، والبراء هو البغض في الله، قال الله جل جلاله: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِ?لْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ ?لْحَقّ [الممتحنة:1]، وقال سبحانه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى إِبْر?هِيمَ وَ?لَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤاْ مّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ?للَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ?لْعَدَاوَةُ وَ?لْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى? تُؤْمِنُواْ بِ?للَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:3]، وقال عز وجل: لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِ?للَّهِ وَ?لْيَوْمِ ?لآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُواْ ءابَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْو?نَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، وقال النبي : ((أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب في الله والبغض في الله)).
كل هذه النصوص نبذها المسلمون وراء ظهورهم نبذ النواة، وانخدعوا بحضارة زائفة زائلة، فسجدوا في محاريب أفكار النصارى وأفلامهم وعاداتهم، حتى صار المسلم يسبح بحمد حضارتهم التي بنيت على أظهر المسلمين، وصار المسلم بدلاً من أن يفتخر بسيد ولد آدم محمد ، صار يفتخر بإخوان القردة والخنازير، بالكفرة والمشركين الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق، حتى الطفل الصغير أصبح لا يعرف عن النبي أكثر مما يعرفه عن أبطال أفلام المغامرات التافهة، هذه العقلية هي أول نجاح حققه النصارى، فشجعهم على المضي في نشاطهم، أَتَسْتَبْدِلُونَ ?لَّذِى هُوَ أَدْنَى? بِ?لَّذِى هُوَ خَيْرٌ [البقرة:61]، فنخشى أن نبوء بغضب على غضب، وتضرب علينا الذلة والمسكنة، والله المستعان لا رب سواه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينًا، وأنزل علينا القرآن هاديًا ونورًا مبينًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكفى بربك هاديًا ومعينًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أدى الأمانة وبلغ الرسالة، فما أعظمه مبلغًا صادقًا وأمينًا، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فمن أهم الحصون الواقية من هذا الطوفان المدمر:
3- النهي عن الإقامة بين أهل الكفر والإلحاد، فوالله ما سمح النصارى للمسلمين بدخول بلادهم إلا عندما أيقنوا أن المسلم اليوم بينهم أحد رجلين: رجل انخدع ببريق دنياهم، فسرعان ما يذوب في مجتمعاتهم، أو رجل صالح أغلق باب المسجد على نفسه فلا يضر ولا ينفع، وإلا لو كان المسلم المعاصر صورة طبق الأصل للسلف الصالح لما سمح له بالدخول إليهم. واستمع إلى من أدرك هذه الحقيقة وهو يقول : ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين)) ، وقال : ((من عاشر مشركًا فهو مثله)).
فالحذر الحذر من التفكير الذي شاع بين المسلمين، إذ تراهم يرغبون من كل عرق في قلوبهم في الذهاب إلى أراضيهم، فهذا يحتج بطلب العلم، وذاك بطلب القوت، فتراهم يحرصون على غذاء الأبدان، ويغامرون بدين الواحد الديان، إِن يَعْلَمِ ?للَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70].
وختامًا، اعلموا أن الثمرة التي نرجوها من وراء هاتين الخطبتين عن التنصير هي:
- الشعور بخطر التنصير والمنصرين على هذه الأمة، فتسارعوا إلى تعلم دينكم وصيانة رأس مال حياتكم.
- إيقاظ الهمم ودفعها إلى خدمة هذا الدين، ولتلاحظوا الفرق الشاسع بين ما يبذله أعداء الله تعالى في سبيل نصرة باطلهم، وبين ما يبذله المسلمون، فهل نفدت أموال المسلمين؟! أم هل استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة؟! يقول الله جل وعلا: هَا أَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ ?للَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَ?للَّهُ ?لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ?لْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَـ?لَكُم [محمد:38].
(1/3554)
الصلاة مجلبة لتأييد الملائكة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
14/3/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بيان الصلاة التي تنهي عن الفحشاء والمنكر. 2- ثمرات تأييد الملائكة وصحبتهما للمحافظ على الصلاة. 3- تنزل الملائكة على المصلين. 4- دفاع الملائكة عن المصلين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: عباد الله، فإننا قد تحدثنا فيما سبق عن أوّل ثمرة من ثمرات الصلاة ألا وهي أنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، وتطهر المواظب عليها من كل دنس باطنًا وظاهرًا، وقلنا: إن هناك شروطًا لتحقيق هذه الثمرة، بيّناها في خطب أربع، من تلكم الشروط وأهمّها المحافظة على الصلاة في وقتها، ثم حب الصلاة وتعظيمها، ثم موافقتها لصلاة رسول الله ، ثم الخشوع في أدائها، ثم المحافظة على أدائها مع جماعة المسلمين، ثم المحافظة على صلوات التطوّع كالرواتب وصلاة الضحى وغيرها.
كل ذلك في سبيل تحقيق الثمرة العظيمة للصلاة وهي الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
واليوم نحدّثكم إن شاء الله تعالى عن ثمرة عظيمة من ثمرات الصّلاة وهي أن الصلاة من أكبر وأعظم الأسباب التي تجلب تأييد الملائكة وحضورها معك أيها المسلم، الملائكة التي جعل الله الإيمان بها من أركان الإيمان، تلكم الخلقة الخيرة النيرة التي خلقها الله تعالى تحب الخير وأهله، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يبحثون عن أهل الخير ومجالسهم ليكونوا صحبة لهم، ومن صحبته الملائكة نال من الخير ما لا يعلمه إلا الله.
فمن ذلك الخير الذي يأتي معها:
1- التثبيت والنّصر، قال الله تعالى: إِذْ يُوحِى رَبُّكَ إِلَى ?لْمَلَئِكَةِ أَنّي مَعَكُمْ فَثَبّتُواْ ?لَّذِينَ ءامَنُواْ سَأُلْقِى فِي قُلُوبِ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ ?لرُّعْبَ [الأنفال:12].
2- ومنها أنهم يدعون للمؤمنين بالخير ويستغفرون لهم عند مولاهم الحق، قال تعالى: ?لَّذِينَ يَحْمِلُونَ ?لْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَ?غْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَ?تَّبَعُواْ سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ ?لْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّـ?تِ عَدْنٍ ?لَّتِى وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ ءابَائِهِمْ وَأَزْو?جِهِمْ وَذُرّيَّـ?تِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ ?لْعَزِيزُ ?لْحَكِيمُ وَقِهِمُ ?لسَّيّئَـ?تِ وَمَن تَقِ ?لسَّيّئَـ?تِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ ?لْفَوْزُ ?لْعَظِيمُ [غافر:7-9].
3- ومن ذلك الخير أنهم إذا نزلوا بأرض أنزل الله معهم الأمن والسلام، قال تعالى: تَنَزَّلُ ?لْمَلَـ?ئِكَةُ وَ?لرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِم مّن كُلّ أَمْرٍ سَلَـ?مٌ هِىَ حَتَّى? مَطْلَعِ ?لْفَجْرِ [الفجر:4، 5].
4- ومن ذلك الخير أنهم إذا دخلوا بيت المؤمن أو صحبوه حفظوه من كل سوء، قال تعالى: لَهُ مُعَقّبَـ?تٌ مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ ?للَّهِ [الرعد:11]، والمعقبات كما قال ابن عباس: (هم الملائكة جعلهم الله ليحفظوا الإنسان من أمامه ومن ورائه حتى إذا جاء قدر الله خلوا عنه)، وقال مجاهد: "ما من عبد إلا وله ملك موكل بحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوامّ، فلا يأتي منها شيء إلا قال له الملك: وراءك، إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه".
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية (1/54) أن رجلاً قال لعلي بن أبي طالب: إن نفرًا من مراد ـ قبيلة ـ يريدون قتلك فقال عليّ: (إن مع كل رجلٍ ملكين يحفظانه ممّا لم يقدّر، فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه)، وهذا معنى قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّى? إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ ?لْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرّطُونَ [الأنعام:61].
كل هذا الخير العظيم والعطاء العميم من الله الغفور الرحيم أحقّ الناس به وأحظى الناس به هم المصلون الذين يسجدون لله ويركعون، قد آثرهم الله على غيرهم من أصحاب الأعمال الصالحات.
كيف ذلك؟! تأمل ما رواه الحاكم عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: (إن للمساجد أوتادا، والمصلون هم أوتادها، لهم جلساء من الملائكة، فإن غابوا سألوا عنهم، وإن كانوا مرضى عادوهم، وإن كانوا في حاجة أعانوهم).
إنها بشرى الله تعالى للمؤمنين، وأيّ المؤمنين؟ إنهم المصلون خاصة، الملائكة هم جلساؤهم، لمه؟ لأنهم يجلسون في بيوت الله، لأنهم يمكثون في بيوت الله يذكرونه ويركعون له ويسجدون له، والمساجد هذه في حق الرجال هي تلكم البيوت التي يجب على كل مسلم مكلف أن يقصدها لصلاة الفريضة، وفي حق المرأة يعتبر بيتها مسجدًا كذلك، فهذه البشرى إذن عمّت الرجال والنساء، وذلك فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
?لْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ?لسَّمَـ?و?تِ وَ?لأرْضِ جَاعِلِ ?لْمَلَـ?ئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِى أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى? وَثُلَـ?ثَ وَرُبَـ?عَ يَزِيدُ فِى ?لْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ ?للَّهَ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [فاطر:1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بشّر المصلين بالأجر الكبير فنعم البشير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم يجمعنا الله العلي القدير.
أما بعد: فإننا سنزيدكم بيانًا بأنّ أحظى الناس بصحبة الملائكة وبنيل الخير العظيم الذي ينزل معهم هم المصلون، وذلكم من قوله تعالى: أَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ لِدُلُوكِ ?لشَّمْسِ إِلَى? غَسَقِ ?لَّيْلِ وَقُرْءانَ ?لْفَجْرِ إِنَّ قُرْءانَ ?لْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78]، ومعنى قرآن الفجر في هذه الآية صلاة الفجر، سمّاها الله قرآنا لأن إطالة القراءة فيها مستحبة، تنزل الملائكة على المصلين في صلاة الفجر، وتشهد معهم صلاتهم وقراءتهم وركوعهم وسجودهم، بل إنّها لتحضر صلاة الفجر والعصر لتشهد لأهل الصلاة بالخير، قال : ((يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر والعصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون)) متفق عليه.
وفي الحديث منفعة عظيمة لأهل الصلاة، ذلك لأن الله تعالى لم يسألهم إلا عن الصلاة، وجواب الملائكة لم يكن إلا عن الصلاة، أليس للعباد أعمال سوى الصلاة؟! أليس لهم من الصالحات سوى الصلاة؟! بلى، ولكن الصلاة هي رأس الأعمال، وكأنها تشفع للعبد جميع أعماله، فلا يضرّه شيء ما دام حريصًا على أداء الصلاة.
ويزيدك يقينًا بذلك حديثان:
الأول ما رواه النسائي بسند صحيح عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني عن أمتي السلام)).
الثاني ما رواه الطبراني بسند حسن عن عمّار بن ياسر قال: قال رسول الله : ((إن لله تعالى ملكًا أعطاه سمع العباد ـ يسمع ما يقول العباد ـ ، فليس من أحدٍ يصلي عليّ إلا أبلغنيها)).
تأمل هذين الحديثين تجد الملائكة يبحثون عن الذين يسلمون ويصلون على النبي ، ثم يبلغونه سلامهم وصلاتهم، فسبحان الله، أليس المصلي هو ممن يسلم ويصلي على النبي في تشهده فيقول: "السلام على النبي ورحمة الله وبركاته"، ويقول: "اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد..."؟! فبشراكم إذن أيها المصلون، فأنتم الذين تسبح من أجلكم الملائكة تبحث عن صلاتكم، وبقدر ما تصلّون بقدر ما تصحبكم الملائكة الأبرار، فأكثروا من الصلاة.
تبيّن بعد كل هذا ـ عباد الله ـ أن الصلاة تجلب الملائكة وتأييدهم، واستمعوا إلى ما رواه مسلم أن أبا جهل قال لأصحابه من الكفار يومًا: هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم؟ يقصد يسجد ويصلي أمامكم، قالوا: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل لأعفرن وجهه في التراب، وجاء وهو فرِح مسرور وقد أخذ البطر منه مأخذه ليرغم أنف النبي في التراب أثناء صلاته، فلما أراد أن يتقدم تراجع وراءه كالمصعوق، فقيل له: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولاً وأجنحة، فقال : ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا)) تقطعه تقطيعًا لأنه أراد أن يمد يده إلى ساجد لله تعالى الذي قال: ?لَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى ?لسَّـ?جِدِينَ [الشعراء:218، 219].
عباد الله، ما بال أيدي الكفار تمتدّ إلينا؟ ما بال الشياطين لا تنفك عنا؟ لعلنا لم نحقق بعد السجود الحقيقي ليتحقق لنا الاقتراب من الله، اعتنوا بصلاتكم حق الاعتناء، فهي العمدة في إصلاح النّفس، والله ما كان الله ليتخلى عنا لو أننا اقتربنا إليه بالسجود، فإن كثيرًا من الناس يريدون الإصلاح من غير هذا الطريق، كما قيل لبني إسرائيل: وَ?دْخُلُواْ ?لْبَابَ سُجَّدًا [البقرة:58]، لكنهم دخلوا وهم يزحفون على أستاههم يستهزئون بالسجود، وقالوا: كيف ينصرنا الله بالسجود؟! كما يقوله كثير اليوم، فنخشى أن يكون مصيرنا كمصيرهم، فَأَنزَلْنَا عَلَى ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزًا مّنَ ?لسَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ [البقرة:59].
ونختم حديثنا بهذه القصة لعلها تزيدنا يقينا بما نقول، فقد روى ابن عساكر أن أحد السلف الأولين كان يكري حماره، فيركب الناس ويأخذهم من مكان إلى مكان، فاكترى منه رجل هذا الحمار وأخذه معه، قال: فإذا هو يقودني إلى مكان وعرٍ ليس فيه أحد. فلما وصل إلى وادٍ أخذ الرجل رمحه وأراد أن يقتل الرجل الصالح، فقال له: حسبك يا عبد الله، ما تريد؟ هذا الحمار وهذه الأموال خذها ودعني، قال: إنما أريد أن أقتلك كما قتلت غيرك في هذا الوادي، قال له: فدعني أصليّ لله ركعتين، فقام يصلي، قال: فمن شدة الخوف نسيت كل القرآن الذي كنت أحفظه، فعجلني الرجل وقال: عجّل، قال: فبعد أن قرأت الفاتحة ما تذكرت سوى قوله تعالى: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62]، فلما أتممت صلاتي إذا بي أرى فارسًا أبيض قد أخذ رمحًا ورمى به الرجل فمات، فقلت له: يرحمك الله، من أنت؟ فقال: أنا رسول من قلت له: أَمَّن يُجِيبُ ?لْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ?لسُّوء [النمل:62].
إنه ملك من الملائكة الذين ينصر الله بهم عباده المصلين، جعلنا الله منهم.
(1/3555)
الصلاة مجلبة للرزق
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
21/3/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- سبب اختيار هذا الموضوع. 2- المقصود الأول والأسمى هو عبادة الله تعالى. 3- مصيبة إضاعة الصلاة من أجل الدنيا. 4- ربط الرزق بالصلاة في كتاب الله تعالى. 5- الجنة أعظم عطاء. 6- أسعد الناس بالجنة المصلون.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد رأينا معكم في الخطبة السابقة ثمرة عظيمة من ثمرات الصلاة، ألا وهي تأييد الملائكة للمصلين خاصة، ونود اليوم أن نتحدث معكم عن ثمرة لا تقل أهمية عن تلك، ثمرة يجب على كل مسلم أن يعلمها ويجعلها نصب عينيه، ألا وهي أن الصلاة من أعظم أبواب الرزق.
نختار هذا الموضوع اليوم لأن كثيرًا من المسلمين يضيع الصلاة ويخرجها عن وقتها ويعتذر عن فعله ذاك أنه في وقت عمل، والعمل عبادة، ويسرد عليك محاضرة من محاضرات الشيطان الرجيم.
ونسي هذا المسكين أن الصلاة أم العبادات ولبها، لا تسقط بعبادة أخرى ولا تؤخر، إذ سبق وأن بينا أن الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام ليس عذرًا لتأخير الصلاة عن وقتها.
واستمعوا ـ إخوتي الكرام ـ إلى هذا الحديث العظيم الذي كان في أول الأمر قرآنًا يتلى ثم رفعه الله، وهو ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي واقد الليثي قال: كنا نأتي النبي إذا أنزل عليه فيحدثنا، فقال لنا ذات يوم: ((إن الله عز وجل قال: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد لأحب أن يكون إليه ثان، ولو كان له واديان لأحب أن يكون إليهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ثم يتوب الله على من تاب)).
فلنعلم جميعًا أن المقصود من خلق الجن والإنس هو عبادة الله وحده لا شيء غير ذلك، وإنما كانت بقية الأشياء وسيلة يستخدمها الجن والإنس للطاعة، لكن الإنسان جهل أو تجاهل ذلك كله، فغاص في بحار المادية، كل ذلك لأجل الوادي الأول، فكيف بالواديين والثلاثة؟!
كم يفوت أولئك من الخشوع في الصلاة بسبب هذا السعي الزائد، ولم يقف الأمر عند إضاعة الخشوع فحسب، بل تجاوزه إلى إضاعة الصلوات.
وإن المحافظة على الصلاة هو أعظم سبب لتحصيل الرزق الحسن، وأن كل رزق يأتي عن تضييع الصلاة إنما هو رزق مبتور عن كل بركة وعن كل خير. واستمع إلى قوله عز وجل كيف يقرن بين العبادة والرزق: وَمَا خَلَقْتُ ?لْجِنَّ وَ?لإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لرَّزَّاقُ ذُو ?لْقُوَّةِ ?لْمَتِينُ [الذاريات:56-58]، فخضوعك تحت راية العبودية هو السبب المباشر لنيل الرزق.
وأهم مظاهر العبودية التي تحقق لك ذلك الصلاة، واستمع جيدًا للنصوص الآتية ترَ العجب في كيفية ربط الرزق بالصلاة:
1- قال تعالى: وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى? مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْو?جًا مّنْهُمْ زَهْرَةَ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى? وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِ?لصَّلو?ةِ وَ?صْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَ?لْعَـ?قِبَةُ لِلتَّقْوَى? [طه:131، 132].
فانظر ولا تحرم نفسك من فقه الوحي، كيف بين الله أن الرزق الحسن لا طريق إليه إلا إقام الصلاة والصبر عليها وأمر الأهل بها، الصلاة خاصة دون جميع العبادات الأخرى، لأنها الشفاء الوحيد من وباء المغريات وداء الملذات التي تصد عن الله.
2- وقال تعالى: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ?لْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ ي?مَرْيَمُ أَنَّى? لَكِ هَـ?ذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ?للَّهِ إنَّ ?للَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37]، فلولا صلاة مريم في المحراب ومداومتها عليها لما نالت هذا الرزق الذي دهش له نبي الله زكريا.
3- وعندئذ ـ وهو النص الثالث ـ أدرك زكريا هذه الحقيقة وأن الصلاة سبيل الرزق الحسن، فقال تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ?لدُّعَاء [آل عمران:38]، كيف رزقه الله تعالى يحيا؟ وأين بشره بذلك؟ فَنَادَتْهُ ?لْمَلَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى ?لْمِحْرَابِ أَنَّ ?للَّهَ يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى? مُصَدّقًا بِكَلِمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا مّنَ ?لصَّـ?لِحِينَ [آل عمران:39]، فلم يرزقه بولد كسائر الأولاد، بل لأجل صلاته رزقه سيدًا حصورًا نبيًا من الصالحين.
فقصة مريم بشرى لكل من قدر عليه رزقه فعاش فقيرا من المال، وقصة زكريا بشرى لكل من حُرم الولد فعاش عقيمًا، فليحرص هذا وذاك على صلاته، وليصبر عليها يكرمه الله تعالى بالأموال والأولاد اللذين يعتبران زينة هذه الحياة إذ قال تعالى: ?لْمَالُ وَ?لْبَنُونَ زِينَةُ ?لْحَيَو?ةِ ?لدُّنْيَا وَ?لْبَـ?قِيَاتُ ?لصَّـ?لِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً [الكهف:46].
فما دامت الصلاة هي التي تجلب المال المبارك والولد المبارك فمن العيب أن يشغلك المال والولد عن ذكر الله، والصلاة أعظم مظهر لدين الله، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْو?لُكُمْ وَلاَ أَوْلَـ?دُكُمْ عَن ذِكْرِ ?للَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـ?ئِكَ هُمُ ?لْخَـ?سِرُونَ [المنافقون:9].
والأمر الذي يوضح هذه الخسارة هو النص الرابع:
4- وهو ما رواه مسلم عن ابن عمر، وابن حبان عن نوفل بن معاوية أن النبي قال: ((من فاتته صلاة العصر فكأنما وُترِ أهله وماله)) وُتِرَ أي: قُتِلَ له أهله وفقد ماله.
كيف شعورك ـ أخي الكريم ـ عندما تفقد ابنك العزيز الغالي؟ وكيف يكون ألمك؟ وكيف يكون حزنك عندما تفقد أهلك ومالك معًا؟
ألمٌ مفجع، وحزن موجع، وأكبر من ذلك كله أن تفقد صلاة، واحدة تخرجها عن وقتها بغير عذر، والعكس يتبين لكم إذن، فالذي يحافظ على صلاته يبارك الله له في ماله وأهله، وإن في هذا لذكرى لمن كان له قلب أو ألقي السمع وهو شهيد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي جعل الصلاة جالبة للرزق الحسن، وجعلها منهاة عن دنيا السوء والعفن، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أذهب عنا بالصلاة كل هم وحزن، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله جعلت له الصلاة راحة وسكن، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وجمعنا وإياهم في جنّات عدن.
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن أعظم عطاء من الله هو الجنة، تلك الدار التي ناح لأجلها النائحون، وبكى لأجلها الباكون، وقنت لأجلها القانتون، وبذل نفوسهم لأجلها المجاهدون، أحظى الناس بها وبرزقها هم المصلون، يدل على ذلك النصّ الخامس:
5- قال تعالى: فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَ?تَّبَعُواْ ?لشَّهَو?تِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيًّا [مريم:59]، وعيد وذم شديد لمن يضيع الصلاة ثم قال: إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـ?لِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ ?لْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا [مريم:60] أي: إلا الذين انتهوا عن إضاعة الصلاة، فما ثوابهم فيها؟ ما جزاء من أقام الصلاة حق إقامتها؟ قال تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:62]. انظر ذلك الربط العجيب بين الصلاة والرزق، قال العلماء: ليس في الجنة صباح ولا مساء، إنما البكرة والعشي هنا كناية على أن أهل الجنة لا ينفد رزقهم طوال اليوم ويساق لهم كل حين.
فأبشر أيها المصلي، فصلاتك تجلب الرزق لك في الدنيا والآخرة.
وتأملوا كيف كان رسول الله يعلم أصحابه أهمية الصلاة وأنها أكبر سبب للرزق في هذا النص السادس:
6- وهو ما رواه أبو يعلي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله بعثًا فأعظموا الغنيمة وأسرعوا الكرة، فقال: يا رسول الله، ما رأينا بعثًا قط أسرع كرة ولا أعظم غنيمة من هذا البعث! فقال: ((ألا أخبركم بأسرع كرة منهم وأعظم غنيمة؟ رجل توضأ فأحسن الوضوء، ثم عمد إلى المسجد فصلى فيه الغداة، ثم عقب بصلاة الضّحوة، فقد أسرع الكرة، وأعظم الغنيمة)).
عباد الله، نصوص من كتاب الله وسنة رسول الله تتلى عليكم، كلها تبين بيانًا واضحًا لا لبس فيه أن الصلاة من أعظم أسباب الرزق ، ولا تغتروا بكثرة الهالكين، ولا تستوحشوا من قلة السالكين، قال تعالى: لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ?لْبِلَـ?دِ مَتَـ?عٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ?لْمِهَادُ [آل عمران:196، 197]، وافقهوا هذه النصوص، ولنحذر أن نكون مثل قوم شُعيب حيث كان ينهاهم عن الكسب الخبيث والإنقاص من الكيل والوزن: قَالُواْ ي?شُعَيْبُ أَصَلَو?تُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِى أَمْوَالِنَا مَا نَشَـ?ؤُا [هود:87]، فبين أن الصلاة هي التي تجلب الرزق الحسن وتنهى عن الكسب الخبيث: قَالَ ي?قَوْمِ أَرَءيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى? بَيّنَةٍ مّن رَّبّى وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا [هود:88]، لكنهم مثل كثير من الناس اليوم لا يفقهون معنى الصلاة فقالوا: ي?شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ [هود:91]، لأنهم ارتبطوا بالماديات أكثر مما ارتبطوا بالصلوات فحسبنا الله ونعم الوكيل.
(1/3556)
الصلاة ممحاة للذنوب وسبب لقضاء الحوائج
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأعمال
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
28/3/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شغف المؤمن بمعرفة ما يكفر الخطايا والسيئات. 2- الصلاة يمحو الله بها الخطايا. 3- صلاة التوبة. 4- صلاة التسابيح. 5- الصلاة تعين على قضاء الحوائج. 6- صلاة الاستخارة والاستغفار والكسوف والخسوف والضحى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن من أعظم ثمرات الصلاة أنها كفارة للذنوب والخطايا التي لا تزال تدفع بالمرء حتى يقذف في نار الجحيم. وكل مسلم جعل الجنّة غايته يتلهف لهفًا شديدًا لمعرفة كل سبب يسدّ عنه باب الخطايا والآثام، لأنّنا وخاصة في هذا الزمان نعصي الله سبحانه وتعالى عدد الأنفاس. فأبشر أيها المسلم الذي تحاول ليل نهار وصباح مساء لئلا تقع في المعصية، أبشر فإنّ الله سبحانه جعل لك من كل هم مخرجا ولكك كرب فرجا، فكثرة الصلاة تمحو الذنوب وتذيبها كما تذيب النار خبث الحديد، واستمعوا إلى هذه النصوص، استمعوا إلى الوحي وهو يبشرنا بذلك:
1- روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله قال: ((أرأيتم لو أنّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كلّ يوم خمس مرّات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات، الخمس يمحو الله بهن الخطايا)).
2- وروى البزار عن أبي سعيد الخدري أنّه سمع النبي يقول: ((أرأيت لو أن رجلاً كان يعتمل وكان بين منزله وبين معتمله خمسةُ أنهار، فإذا أتى معتمله عمل فيه ما شاء الله، فأصابه الوسخ أو العرق، فكلما مرّ بنهر اغتسل، ما كان ذلك يُبقي من درنه؟ فكذلك الصلاة، كلما عمل خطيئة فدعا واستغفر غُفر له ما كان قبلها)).
3- وروى الطبراني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله : ((تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم الصّبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صلّيتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظوا)).
فالصلاة تنجدك ـ أيها المسلم ـ من هذا الحريق الذي يصيبنا كل لحظة، فالمصيبة أن يحترق الرجل ويحترق ولا يجد ما يغسل حرقه، فإنه في الأخير إن لم يتغمده الله برحمته سيذوب ويصير رمادا، فأنى له الحياة بعدها؟!
4- لذلك روى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : ((إن لله تعالى ملكًا ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها)).
5- وروى أحمد عن أبي عثمان النهدي قال: كنت مع سلمان رضي الله عنه تحت شجرة، فأخذ غصنًا منها يابسًا فهزّه حتى تحاتّ ورقه، ثم قال: يا أبا عثمان، ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: ولم تفعله؟ قال: قال : ((إنّ المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق)).
6- وانظروا كيف بيّن ذلك لأصحابه الأوابين الذين خشوا على أنفسهم من كل ذنب، فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا أصاب ذنبًا فأتى عمر بن الخطاب فعظم عليه، ثم أتى أبا بكر فعظم عليه، ثم أتى النبي فذكر ذلك له، قال: فنزلت وَأَقِمِ ?لصَّلَو?ةَ طَرَفَىِ ?لنَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ ?لَّيْلِ إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ذ?لِكَ ذِكْرَى? لِلذكِرِينَ [هود:114]، فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: ((لمن عمل بها من أمتي)).
بشرى عامة لكل مسلم يخاف الله ويتقيه قدر المستطاع ثم تزل به قدمه فيرتكب إثمًا، فلا يقنط ولا ييأس من رحمة الله، إِنَّ ?لْحَسَنَـ?تِ يُذْهِبْنَ ?لسَّيّئَـ?تِ ، فليسارع إلى الصلاة وليكثر منها، وقد شرع لنا الله صلاة هي صلاة التوبة.
7- فقد روى الترمذي بسند صحيح عن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجل يُذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهّر ثم يصلّي ثم يستغفر الله إلا غفر الله له)) ، ثم تلا قوله تعالى: وَ?لَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَـ?حِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ?للَّهَ فَ?سْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ ?لذُّنُوبَ إِلاَّ ?للَّهُ [آل عمران:135].
8- ومن الصلوات العظيمة المهجورة في أيامنا هذه والتي لها الحظ الأوفر لمحو الذنوب صغيرها وكبيرها، أولها وآخرها، خطئها وعمدها، قديمها وحديثها صلاة التسابيح، صلاة كلها تسبيح وتحميد وتكبير وتهليل، يصل عدد تسابيحها إلى خمس وسبعين مرة، فقد روى أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال للعباس بن عبد المطلب: ((يا عباس، يا عماه، ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله وآخره قديمه وحديثه خطأه وعمده صغيره وكبيره سره وعلانيته؟ عشر خصال أن تصلي أربع ركعات، تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا، ثم تهوي ساجدا فتقولها وأنت ساجد عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، ثم تسجد فتقولها عشرا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرا، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة)).
هذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، المهم هو أن ندرك أنّه حان الوقت للاعتناء بالصلوات النوافل كذلك، فإننا في أزمة روحية وينبغي للأزمة أن تلد الهمة فتزيل الكرب والغمّة. والله المستعان لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه أنيب.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله كاشف الكروب ومثبت القلوب، جاعل الصلاة مكفرة للخطايا والذنوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسه من لغوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أوضح لنا كل السبل والدروب، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الله علّمنا في كتابه أنّ الصلاة تعين على قضاء حوائج الدنيا والآخرة فقال: وَ?سْتَعِينُواْ بِ?لصَّبْرِ وَ?لصَّلَو?ةِ [البقرة:45]، ويؤيد ذلك أحاديث:
1- جاء في مسند أحمد عن حذيفة قال: كان رسول الله إذا حزبه أمر صلى.
وأعظم ما يشغلنا ويأخذ جميع اهتمامنا هو النجاة يوم الآخرة ودخول الجنة، فلنستعن على ذلك بكثرة الصلاة.
2- فقد قال ربيعة بن كعب الأسلمي لرسول الله : أسألك مرافقتك في الجنة، قال : ((أوغير ذلك؟)) قال: قلت: هو ذاك، قال: ((فأعني على نفسك بكثرة السجود)) أي: الصلاة.
ولا تقتصر الاستعانة بالصلاة على أمور الآخرة فقط، وإنّما كذلك تتصل بحياة المسلم اتصالاً وثيقًا فهي المعين للانتهاء عن الفحشاء والمنكر كما سبق بيانه، وهي الجالبة لتأييد الملائكة كما ذكرناه، وهي السبب لنصر الله عز وجل، وهي السبب لتكفير الخطايا. فالمسلم إذا علم أن صلاته تمحو خطاياه حَرِص على صلاته، وبالتالي انتهى عن كل سوء.
وانظروا كيف علمنا رسول الله أن الصلاة معينة على كل أمور الحياة، ذلكم يبرز جليًا في:
3- صلاة الاستخارة فقد روى البخاري عن جابر قال: قال رسول الله : ((إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني)) قال: ويسمي حاجته.
4- كذلك إذا وقع كسوف الشمس أو خسوف القمر فزع المسلم لربه ليكشف ما به.
5- وشرعت صلاة الجماعة وصلاة الجمعة لاجتماع المسلمين على ذكر الله وطاعته، فتعم المحبة والمودة والحرمة ليظل كيان المجتمع المسلم صلبًا قويًا.
6- وإذا ما انقطع المطر وهلكت الدواب وانقطعت السبل لجأ المسلمون إلى ربّهم بالصلاة والدعاء ليكشف ما بهم من سوء.
7- وها هي صلاة الضحى شرعها الله سبحانه لينال عباده وسام العابدين الذين وعدهم الله تعالى بالنصر حيث قال: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى ?لزَّبُورِ مِن بَعْدِ ?لذّكْرِ أَنَّ ?لأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ ?لصَّـ?لِحُونَ إِنَّ فِى هَـ?ذَا لَبَلَـ?غًا لّقَوْمٍ عَـ?بِدِينَ [الأنبياء:105، 106]، ومعلوم لدينا أن من صلى الضحى أربعًا كتب من العابدين.
كل ذلك يوضح لنا أن الصلاة أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه، ولم نكثر من الحديث عنها إلا ليتغلغل هذا المفهوم في قلوب العباد وليزدادوا حرصًا على هذه العبادة العظيمة.
(1/3557)
صلاة الجمعة: أهميتها وآدابها
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الصلاة, فضائل الأزمنة والأمكنة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
5/4/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحديث عن صلاة الجمعة. 2- آداب يوم الجمعة: تعظيم يوم الجمعة، التزين والتنظف، التبكير إلى الصلاة، قراءة سورة الكهف، الإكثار من الصلاة على المصطفى ، الإكثار من الدعاء. 3- ما ينبغي اجتنابه.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من المواضيع التي ينبغي ألا نضرب عنها صفحا والتي لها عُلقة وطيدة بالصلاة موضوع صلاة الجمعة التي يعتبر الحديث عنها أولى ما يشغل المسلمين، وأحق ما يسعون إلى فهمه وتعلم أحكامه.
صلاة الجمعة إذا نطق بها المسلم لم ينصرف ذهنه إلا إلى الركعتين اللتين نصليهما وقت الزوال، وكأنه ليس في هذا اليوم صلاة غيرها.
ونحن لا نريد اليوم أن نحدثكم عن ذات الصلاة، ففرضيتها معلومة لدى كل مسلم عاقل، وأن من ترك الجمعة لغير عذر فتح على نفسه بابًا من أبواب الكبائر التي يعاقب لأجلها في الدنيا بموت القلب، وفي الآخرة بغضب وعذاب الرب، أما في الآخرة فالأمر واضح لكل مسلم، وأما في الدنيا فليعلم أن رسول الله قال: ((من ترك ثلاث جمع تهاونا من غير عذر طبع الله على قلبه)).
وإنما نريد أن نحدثكم عن يوم الجمعة الذي فضله الله تعالى وعن بعض آدابه:
1- الأدب الأول: هو تعظيم هذا اليوم الذي عظمه الله تعالى، فكما نعلم لله خواص في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ففي الأزمنة فضل شهر رمضان من بين سائر الشهور، وفضل ليلة القدر من بين سائر الليالي، وفضل عشية عرفة من بين سائر العشي، وفضل يوم الجمعة من بين سائر الأيام.
فقد روى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)).
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، وهذا يومهم الذي فُرِض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تبع، فاليهود غدًا، والنصارى بعد غد)).
((نحن الآخِرون)) أي: في الزمان والوجود وإعطاء الكتاب.
((السابقون)) في الفضل ودخول الجنة يوم الآخرة.
شرع الله لليهود والنصارى يومًا من أيام الأسبوع فضلوا حين فضل اليهود يوم السبت والنصارى يوم الأحد، وهدى الله المسلمين ليوم الجمعة، فحق لكل مسلم أن يحتفل بهذا اليوم لأنه عيده كما في معجم الطبراني عن أبي هريرة مرفوعًا: ((يا معشر المسلمين، هذا يوم جعله الله لكم عيدا)).
فما موقف المسلمين تُجاه هذا اليوم؟ أماتوه فأقبروه في مقابر الغفلة والجهل والنسيان، فجعلوه يومًا تغلق فيه جميع مرافق المسلمين طوال اليوم، وتلبس فيه أقبح الملابس، فبعدما كان الرجل منّا يذهب طوال الأسبوع إلى مكان عمله بأحسن ملابسه لمقابلة مديره وزملائه تراه يأتي في يوم عيد المسلمين ليقابل ربه بلباس النوم أو الرياضة وكأن هذا اليوم لا يستحق تعظيمًا ولا تفخيمًا.
وقد نجح أعداء الله في محو هذا التعظيم من صدور المسلمين حتى إن بعضهم يصرّح تصريحًا بأنّ أثقل يوم عليه في الأسبوع هو يوم الجمعة. وبهذا تنقلب الحقائق وتنمحي المبادئ فيصبح الحق باطلاً والباطل حقًا، فترك هذا اليوم العظيم وعظّمت أيام ما أنزل الله في فضلها من سلطان، فهذا يحتفل بيوم المولد وذاك يحتفل بمولد المسيح، وهذا يعظم الأعياد الوطنية، ولم يبق إلا أن نحتفل بيوم وفاة بوذا وماركس وكونفوشيوس، إلى أن نحتفل بجميع الأيام إلا يوم عيد المسلمين الذي فضله رب العالمين.
هذا هو الأدب الأول في حق هذا اليوم العظيم.
2- ويؤكده الأدب الثاني: اعلموا ـ عباد الله ـ أنه يستحبّ لكم استحبابًا مؤكدًا إذا حضرتم صلاة الجمعة أن تكونوا على أحسن حال من النظافة والزينة، فيغتسل المسلم في هذا اليوم ويلبس أحسن ما لديه ويتطيب بالطيب ويتنظف بالسواك وفي ذلك عدة أحاديث:
أ- روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن، وأن يمس طيبا إن وجد)).
ب- وروى أحمد مرفوعًا: ((حق على كل مسلم الغسل والطيب والسواك يوم الجمعة)).
ج- عن عبد الله بن سلام أنه سمع رسول الله يقول على المنبر: ((ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوب مهنته)) رواه أبو داود وابن ماجه.
د- ومن حرِص على هذه الخصال نال مغفرة الله سبحانه، كما جاء في صحيح البخاري عن سلمان الفارسي مرفوعًا: ((لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر بما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)).
3- الأدب الثالث: التبكير لصلاة الجمعة، فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من اغتسل يوم الجمعة غُسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنّة ـ أي: ناقة ـ ، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر)).
ولنعلم أن أوّل سنة تركت في الإسلام هي ترك التبكير إلى المساجد، كما علينا أن نعلم أيضًا أنّ الملائكة تقف بباب المسجد ومعها السجلات تكتب روّاد صلاة الجمعة، فإذا صعد الإمام على المنبر وأخذ المؤذن يؤذن طوت الملائكة صحائفها، فاعلم ـ يا عبد الله ـ أنّك بتأخرك هذا تحرم نفسك من الأجر العظيم الذي لا يعلمه إلا الله.
4- الأدب الرابع: قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، فقد روى الحاكم عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: ((من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له النور ما بين الجمعتين)).
5- الأدب الخامس: الإكثار من الصلاة على رسول الله ، فعن أوس بن أوس مرفوعًا: ((إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ)) ، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرض عليك صلاتنا وقد أَرِمت؟! فقال: ((إنّ الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء)). رواه أصحاب السنن.
والسر في ذلك، أن يوم الجمعة ما كان أفضل الأيام إلا للأجر العظيم فيه في الدنيا والآخرة، والذي دلّنا عليه هو محمد ، فالوفاء كل الوفاء أن نكثر من الصلاة عليه في هذا اليوم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا رسول الله سيد الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه الطيبين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد:
6- الأدب السادس: الإكثار من الدعاء يوم الجمعة، لأن بها ساعةً من ساعات الإجابة، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: ((إن في الجمعة لساعة لا يوافقها مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطاه إياه)).
هذه الآداب الستة ينبغي لكل مسلم أن يحرص عليها ما دامت سوق العبادة والتجارة مع الله قائمة، تعظيم يوم الجمعة، والتطهر والتطيب ولبس الحسن والسواك، والتبكير، وقراءة سورة الكهف، والإكثار من الصلاة على النبي ، والإكثار من الدعاء.
ثم اعلموا أن هناك أمورًا ينبغي للمسلم اجتنابها لأنها حرام منقص للأجر:
1- عقد أي عقد من عقود البيع أو الإجارة أو غير ذلك أثناء خطبة الجمعة، وهذا محل إجماع لقوله تعالى: فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ وَذَرُواْ ?لْبَيْعَ [الجمعة:9].
2- الكلام أو الانشغال بأي شيء عن سماع الخطبة وعن متابعة الإمام، فيحرم الكلام ورد السلام في هذا الوقت، ففي صحيح مسلم: ((إذا قلت لصاحبك: "أنصت" يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت)) ، وقال: ((من مس الحصى فقد لغا)).
إذًا فليتق الله كل حاضر للجمعة، فلا يتكلم بشيء، ولا ينشغل بشيء إلا في ثلاث حالات.
الأولى: إذا دخل المسجد متأخرًا ووجد الإمام على المنبر فليركع ركعتين تحية للمسجد وليتجور فيهما.
الثانية: إذا سمع الإمام يصلي على رسول الله أو يدعو فله أن يصلي على رسول الله ويؤمّن، لأن ذلك من تمام متابعة الإمام.
الثالثة: إذا كلمه الإمام أو أراد أن يكلم هو الإمام.
وما عدا ذلك فيحرم فعله أثناء الخطبة.
3- تخطي الرقاب رقاب الجالسين والتفرقة بينهم لقوله للذي رآه يتخطى رقاب الناس: ((اجلس فقد آذيت)).
كل هذه الآداب ـ عباد الله ـ ينبغي للمسلم أن يحرص عليها لأن الله ربكم يرضاها لكم ويستحبها لكم، وهي من الإحسان وَ?للَّهُ يُحِبُّ ?لْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134]، وهي من الإيمان والصدق والله يقول: ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ?لصَّـ?دِقِينَ [التوبة:119]، وهي من التقوى والله يقول: إِنَّ ?للَّهَ يُحِبُّ ?لْمُتَّقِينَ [التوبة:4]، وإذا أحب الله عبده كان سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سأله ليعطينه، ولئن استعاذه ليعيذنه.
(1/3558)
أثر خطبة الجمعة
فقه
الصلاة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
12/4/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عظم الثمرة المرجوة من يوم الجمعة. 2- ثمار حضور الجمعة. 3- ضرورة الاعتناء بالمقاصد. 4- الفرق بيننا وبين الرعيل الأول. 5- الجمعة بيت كل غريب وزاد كل مسافر.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد تحدثنا معكم في المرة الأخيرة عن آداب يوم الجمعة لبيان أهمية ذلك اليوم وعظمته. وبقي علينا أن نسأل أنفسنا عن سبب ذلك التعظيم والعلة من تلكم الآداب.
فاعلموا أن الثمرة المرجوة من يوم الجمعة عظيمة وعظيمة جدًا، وإن أبشع الجرائم التي ترتكب في أيامنا هذه هو قتل معاني العبادات وأسرارها وغاياتها. وهذا ما سنتكلم عنه بعد قليل.
أول ثمرة من ثمار حضور الجمعة هي ذكر الله كما قال تعالى: فَ?سْعَوْاْ إِلَى? ذِكْرِ ?للَّهِ [الجمعة:9]، ومتى ذكر العبد ربه ذكره سبحانه، فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]، وفي الحديث القدسي: ((أنا مع عبدي حيثما ذكرني وتحركت بي شفتاه)) ، ومتى ذكر العبد ربه اطمأن قلبه، أَلاَ بِذِكْرِ ?للَّهِ تَطْمَئِنُّ ?لْقُلُوبُ [الرعد:28].
ومتى ذكر العبد ربه صار حيًّا لقوله : ((مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكر الله كمثل الحي والميت)) ، والحي هو الذي يشعر بألم المعاصي إذا مسّته، أما الميت فلا يشعر بشيء.
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرحٍ بميّت إيلام
ومتى ذكر العبد ربه أدرك تقصيره في جنبه، فاستغفر لذنبه وأناب لربه.
إذن فلا بدّ أن نعيد النظر ـ إخوتي الكرام ـ في نياتنا ومقاصدنا عند الإتيان لخطبة الجمعة، فإن كثيرًا منّا اليوم لا يستحضر هذه النيات الصالحة وهو قادم لصلاة الجمعة، بل أصبحت لديهم روتينا يقوم بأدائه كالآلة. إذا كنت تريد الانتفاع من سماع خطب الجمعة فلا بد أن تأتيها وأنت تريد إصلاح نفسك، والعمل بما تسمعه، والقيام بأوامر الله تعالى.
فإن القلوب مريضة، وحان إسعافها بالعلاج، وإن تعجب فاعجب من ابن آدم إن أصابه داء في جسده سارع إلى اتخاذ جميع الأسباب للشفاء، ولو أمر بإنفاق كل ما لديه لأجل حياة جسده لما بخل بشيء له، فكيف لا يسارع إلى إصلاح القلب الذي هو العدة ليوم القيامة، قال تعالى: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ?للَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، ولو علم الله منّا ذلك ولو رآنا نسارع في صلاح قلوبنا لهدانا لذلك، قال تعالى: وَ?لَّذِينَ جَـ?هَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69].
وهذا هو مفترق الطرق بيننا وبين صحابة رسول الله ، فقد كان الواحد منهم يسمع آية واحدة من كتاب الله فيتجرد من جميع ما لديه، كأبي الدحداح رضي الله عنه، فقد روى البزار أن أبا الدحداح كان يجلس مع النبي فنزل قول الله تعالى: مَّن ذَا ?لَّذِى يُقْرِضُ ?للَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البقرة:245]، فقال: يا رسول الله، وإن الله عز وجل يريد منّا القرض؟! قال: ((نعم يا أبا الدحداح)) ، قال: ابسط يدك يا رسول الله، فناوله يده، قال: فإني أشهدك أني أقرضت حائطي هذا ربي، وكان فيه ستمائة نخلة. وقام أبو الدحداح وذهب إلى بستانه، ووقف على باب البستان ولم يدخل، لأنه لم يعد ملكًا له، ونادى زوجته: يا أمّ الدحداح، فقالت: لبيك، فقال: اخرجي فقد أقرضته ربي عز وجل، فسمع صوت امرأته من الداخل تقول: ربح البيع يا أبا الدحداح.
آية واحدة عملت هذا العمل. أتدرون لماذا؟ لأنّ جهاز الاستقبال صحيح غير معطل وهو القلب. ولا نريد من الناس اليوم أن يتجردوا من أموالهم، ولكن حان الوقت أن يتجردوا من أهوائهم وهم يسمعون اثنتين وخمسين خطبة جمعة في السنة، فمن العيب أن أبقى كما أنا ولا أتخذ قرارًا نهائيًا في الالتزام بدين الله العظيم، فالذي لا ينتفع بالآيات والأحاديث فلن ينفعه شيء. وكما قال أحدهم:
ممات ثم قبر ثم حشر وتوبيخ وأهوال عظام
ليوم الحشر قد عملت رجال فصلوا من مخافته وصاموا
ونحن إذا نهينا أو أمرنا كأهل الكهف أيقاظ نيام
الثمرة الثانية من صلاة الجمعة، ويظهر هذا الأثر من التسمية، فيوم الجمعة هو يوم يجتمع فيه المسلمون في صعيد واحد، الكبير والصغير، والعزيز والحقير، والغني والفقير، فتتآلف القلوب، وتتوطّد أواصر الأخوة والإيمان، ويلقى الأخ فيه أخاه فيسلم عليه، ويسأل عن حاله، فمن العيب أن أقصد الجامع الذي هو مكان الاجتماع، يوم الجمعة الذي هو زمان الاجتماع، فنجتمع في زمان واحد، وفي مكان واحد، نعبد ونسجد لإله واحد، ثم تكون القلوب متنافرة متفرقة، ما ضرّني لو نسيت كل الحقد والبغضاء الذي بيني وبين أخي؟! ما ضرّني لو صافحته وقلت له: لا بأس فلننس الذي فات، إنّما هي نزغة من نزغات الشيطان الرجيم؟!
الثمرة الثالثة: الإعلام والتعليم، فالجميع يعلم أن قوى الشر والفساد والكفر والإلحاد سيطرت في هذا الزمان على وسائل الإعلام السمعية والمرئية والمقروءة، والمسلم لا يفزع لذلك ولا ييأس ولا يقنط ما دام مجال الدعوة مفتوحًا، ألا وهو هذا المنبر الذي من خلاله نصل إلى قلوبكم إن شاء الله تعالى، نعم كما قال أحدهم:
لقد عرف المنكر واستنكر المعروف في أيامنا الصعبة
وصار أهل العلم في وَهدةٍ وصار أهل الجهل في رتبة
فقلت للأبرار أهل التُّقى والدين لما اشتدت الكربة
لا تنكروا أحوالكم قد أتت نوبتكم في زمن الغربة
فليس لدينا إلا هذا المنبر لنصل إليكم، فأعينونا على نشر الفضيلة ونبذ الرذيلة، فوالله إننا لنحتار أحيانًا في اختيار الموضوع المناسب، فقط بغية الوصول إلى قلوبكم، فأعينونا بالعمل والعمل في هذه الأيام، في زمن الغربة.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيّد الأتقياء وإمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين وأصحابه الطيبين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإني أريد أن أبين لكم من خلال معرفة ثمرات يوم الجمعة وثمرات الصلاة أنها هي العدة في زمن الغربة، فالغريب أحوج ما يكون إلى بيت يؤويه، وهو بيت الله، يأنس فيه بالله. ثم يحتاج إلى الأهل والإخوان ليؤنسوه في وطن الغربة. وهما الغايتان اللتان ذكرناهما لصلاة الجمعة، فالبيت جمعنا والله أنيسنا، فننسى في هذه اللحظات كل هموم الدنيا وكل فساد على وجه الأرض، لذلك بدأ النبي بهذين الأمرين العظيمين عندما هاجر إلى المدينة، حيث كان المسلمون من المهاجرين والأنصار غرباء في هذه الدنيا، فجمعهم النبي عندما بنى المسجد الذي أُسِّسّ على تقوى من الله، وبعد ذلك آخى بين المهاجرين والأنصار، فكان البنيان المادي والمعنوي قويًا منيعًا، حتى أقام الله لهم دولتهم فزالت بها غربتهم.
ولم نعلم قط ولم نسمع قط بجيل من الأجيال من لدن آدم عليه السلام إلى ساعتنا هذه أنه بنى دولة إلا جيل الصحابة فقط، بناها في عشر سنوات. كيف فعلوا ذلك؟ بذكر الله والأنس به في بيته، وبالأخوة المنيعة التي جمعتهم، أُوْلَئِكَ ?لَّذِينَ هَدَى ?للَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ?قْتَدِهْ [الأنعام:90].
(1/3559)
الأخسرون أعمالا
قضايا في الاعتقاد, موضوعات عامة
البدع والمحدثات, جرائم وحوادث
أسامة بن عبد الله خياط
مكة المكرمة
28/10/1425
المسجد الحرام
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الحذر من ضلال السعي. 2- ضروب ضلال السعي. 3- أحداث جدة. 4- ذم الحقد. 5- وجوب التضامن والتضافر للقضاء على الأعمال التخريبية. 6- دعوة للتوبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله واذكروا أنّكم محاسَبون على النقير والقطمير مِن أعمَالكم، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8].
أيّها المسلِمون، إنَّ الحذَرَ من خُسران العمل والنّفرةَ من ضلال السعيِ نهجُ أولي الألباب وسبيلُ عباد الرحمن وطريقُ الرّاسخين في العِلم، يبتَغون به الوسيلة إلى ربهم، ويرجون به الحظوةَ عندَه ونزولَ دار كرامته إلى جوارِ أوليائه والصفوةِ مِن خلقه؛ لأنهم يستيقِنون أن سعادةَ المرء هي في توفيقِ الله له إلى إصابةِ الحقِّ ولزوم الجادّةِ والاهتداء إلى الصراطِ المستقيم والسلامةِ من العثار والنجاةِ من الزّلَل بعبادةِ الله على بصيرةٍ والازدلاف إليه بما شرَعَه سبحانه مما أنزله في كتابِه أو جاءَ به رسوله ، ففي هذا صيانَةٌ للعبد ووقايةٌ له من أن يضَمَّ إلى زمرةِ الأخسرين أعمالاً الذين نبّأنا سبحانَه بأحوالهم وأوضَحَ حقيقتَهم بقولِه عزّ اسمه: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]، وهم ـ كما رجَّح العلاّمة الإمام ابن جرير رحمه الله ـ كلُّ عامِلٍ عملاً يحسَبه فيه مصيبًا وأنّه لله بفعلِه ذلك مطيعٌ مرضٍ له، وهو بفعلِه لله مُسخِط وعن طريق الإيمان به جائِرٌ من أهلِ أيِّ دينٍ كان، وبنحوِ هذا أيضًا قال العلاّمة ابن كثير رحمه الله. فهو تعبيرٌ ربّانيّ عن حال أولئِك الفاشلين في حياتهم الدنيا، ومع ذلك فهم يخدَعون أنفسَهم باعتقادٍ لا يُسنده واقعُهم ولا يشهَد له حالُهم ولا تصدِّقه أعمالهم.
ألا وإنَّ ضلالَ السعيِ ضروبٌ وألوان لا يكاد يحدُّها حدّ أو يستوعِبها بيان، غير أنَّ من أقبحها وأشدِّها نُكرًا وأعظَمها ضررًا شقَّ عصا الطاعة ومفارقةَ الجماعة والتردِّي في حمأة التمرُّد والعِصيان واستباحةِ الدِّماء المعصومةِ وقتلِ النفس التي حرَّم الله قتلَها إلا بالحق بالتأويلات الباطِلةِ والآراءِ الفاسدة المدخولة والفتاوَى الخاطِئة المغرِضة التي لا تستنِد إلى دليلٍ صحيح ولا ترجِع إلى فقهٍ ولا نظرٍ سليم قويم.
ومن ذلك ما حدَث في مدينةِ جدّة قبلَ أيّام مَعدوداتٍ مما جاء لكم خبرُه واتّصل بكم نبَؤه فأحدَث شرًّا مستطيرًا، لا يمكن لمؤمن صادقٍ يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمةَ ربّه أن يقبلَ به أو يدعوَ إليه أو يحضَّ عليه، كلاّ والله لا يمكن ذلك أبدًا؛ إذ متى كان القتلُ والترويع أمرًا مشروعًا في هذا الدين الذي يقول كتابُه المنزَّل: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا الآية [المائدة:32]؟! ومتى كان البَغيُ والعدوان على الناس مسلِمِهم ومستأمَنِهم طريقًا إلى رضوانِ الله وسبيلاً إلى جنّاته؟! ومن المنتفِع بهذه الأعمالِ على الحقيقة يا عباد الله؟! وكيف يرضَى أحد لنفسِه أن ينقلبَ إلى أداةٍ بيد أعداءِ دينِه وخصوم وطنِه وأمّته، يبلغون بها ما يريدون من الشرِّ والخَبال وهم قارّون مَوفُورون لم يمسَسهم سوء؟! وكيف لا تقَرّ أعينُ هؤلاء الموتورِين وهم يرَونَ من يقاتل عنهم ويضرِب بسلاحِهم ويتحيَّز إلى فئتهم؟! ثم ألم يحذِّرنا ربّنا من طاعة الشيطان واتّباع خطواتِه فقال عز من قائل: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6]، وقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:208]؟! وما عسى أن يكونَ هذا العمل وأمثالُه مما سبقَه؟! ما عساه يكون إن لم يكن موالاةً للشيطان وطاعةً له واتّباعًا لخطواته؟!
عبادَ الله، إنَّ لنيران الحقدِ ضِرامًا تطيش معه العقول وتصمّ الآذان وتعمَى الأبصار، فلا ينتفِع صاحبه بعقلِه ولا بسمعِه ولا ببصره، لا ينتفع بعقلِه حين لا يضَع الأمورَ في نِصابها ولا يتفكَّر في مآلها ولا ينظر في عواقِبِها، ولا ينتفع بسمعه حين يصمّ أذنَيه عن سماع النصح ويولِّي مستكبرًا معرِضًا عن قَبول التّذكير الذي ينفَع المؤمنين، ولا ينتفِع ببصرِه حينَ يغلِق عينَيه عن النّظر إلى البيّنات والهدى الذي يبصِر به طريقَ الحقّ، هنالك تكون العاقبة شرًّا ووبالاً عليه وخسرانًا يبوء به وضلالَ سعيٍ لا يغادِره ونهايةً تعِسةً مظلِمة خائبة تنتظِره.
إن الحِقدَ لن يكون مطيّةً إلى الخير ولا طريقًا إلى الرّشد ولا سببًا إلى نفعٍ عاجل أو آجِل، وما هو إلا مركَب مآلُ راكِبِه الغَرَق هو ومن مَعه بغير أسَفٍ عليه ولا ذكرٍ حسَن له ولا ثناءٍ جميل عليه، وإنها لعاقبةٌ يا لها من عاقبة، وإنه لمآلٌ يا له من مآل، وقانا الله جميعًا شرَّ ذلك المصير، وجنَّبنا أسبابَ سخطه، وختَم لنا بخير، آمين آمين.
ألا وإنَّ من مقتضياتِ الإيمان الحقِّ ومن حقوقِ الأخوّة الصادقة تضافر كلِّ الإخوةِ في الدين في جميعِ أقطارهم وفي كافّة ديارِهم وعلى مختَلف فئاتهم الرّسمية والشعبيّة في الوقوفِ صفًّا واحدًا مع هذهِ البلاد الطيّبة المباركة التي تتعرّض لهذا العدوانِ الجائر وهذا الظّلم السافِر الذي يأباه الله ورسولُه وصالح المؤمنين في كلّ الديار وفي جميع الأمصار في مشارقِ الأرض ومغاربها إنكارًا لهذا المنكَر الذي يجب إنكارُه، كما يجِب إنكارُ جميع المنكرات، وتحقيقًا للمَثَل النبويّ الرفيع الذي وصفَ به رسولُ الهدى واقعَ المؤمنين الصّادقين بقولِه عليه الصلاة والسلام: ((مَثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفِهم مثلُ الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائِر الجسدِ بالسهر والحمى)) أخرجه الشيخان في صحيحيهما [1] ، وفي الصّحيحين أيضًا عن أبي موسَى الأشعريّ رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((المؤمِن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) وشبّك بين أصابعه [2].
ويتأكّد وجوبُ هذه الوقفةِ المتضَامِنة بتذكُّر ما كان لهذهِ البلادِ على جميع المستويات الرسميةِ والشعبية من وقفاتٍ إسلامية ثابتَة دائمة مع الإخوةِ في الدّين في مختلفِ ديارهم في جميعِ الشدائد وفي كلّ الأزمات، مما هو معلوم مشهور، ليس في الإمكانِ جَحده ولا إنكارُه، وقد قال ربّنا سبحانه: وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة:237].
نفعَني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّة نبيّه محمد ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنه كان غفّارًا.
[1] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6011)، صحيح مسلم: كتاب البر (2586) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[2] صحيح البخاري: كتاب الأدب (6027)، صحيح مسلم: كتاب البر (2585).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد للهِ الذي يقبَل التوبَةَ عن عبادِه ويعفو عن السيئات، أحمده سبحانه فاطر السماواتِ والأرضِ، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ سيّدنا ونبيّنا محمّدًا عبد الله ورسوله سيّد الخلق جميعًا الأحياء منهم والأموات، اللهمّ صلّ وسلّم عليه وعلى آلِه وصحبِه صلاةً دائمةً تعمَر بها الأوقات.
أما بعد: فيا عبادَ الله، إنه لعِظَم شأن التّوبة عندَ الله تعالى وشَرَف مقامِها وحَلاوة عاقِبَتها أمَر سبحانه العبادَ جميعًا بالتوبة إليه، فقال عزّ من قائل: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]، وقال جلَ وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم:8] أي: خالِصة صادقةً، وهي التي تكون بندم القلب على ما مَضى من الذّنب وبالاستغفارِ باللسان والإقلاعِ بالبَدن والعَزم على عدم العَودة إلى هذا الذّنب مستقبَلاً وبردِّ المظالم إن وُجدت.
وفي سنّة رسولِ الله نظيرُ ذلك من الأمرِ بالتوبة والحثِّ عليها، ففي الحديث الذي أخرجَه مسلم في صحيحه عن الأغرّ بن يسار المزنيّ رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((يا أيها الناس، توبوا إلى الله واستغفِروه، فإني أتوب في اليوم مائةَ مرة)) [1] ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((والله، إني لأستغفِر الله وأتوبُ إليه في اليَوم أكثرَ مِن سبعين مرة)) [2]. وإذا كان هذا ما كان مِن حالِ النّبي وهو الذي غفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر فما عسى أن يكونَ حال غيرِه ممّن يذنِب بالليل والنهار؟!
إنّ الأمرَ بالتوبة كما هو عامّ لكلّ الخلائق فإنّه شامِل لمن قام بهذه الأعمالِ الإجراميّة، فإنه مأمورٌ كذلك بالتوبةِ إلى الله تعالى مما كسَبَت يداه ما دام في الأجلِ فُسحة، كما جاء في الحديث الذي أخرجَه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((مَن تاب قبلَ أن تطلعَ الشّمس من مغربها تابَ الله عليه)) [3] ، وفي صحيح مسلم أيضًا عن أبي موسى الأشعريّ رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((إنَّ الله تعالى يبسُط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار ويبسُط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل حتى تطلعَ الشمس من مغربها)) [4].
فاتقوا الله عباد الله، وتوبوا إليه واستغفروه، واذكروا على الدّوام أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاة والسلام على خير الأنام، فقال في أصدق الحديث وأحسن الكلام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِهِ الأربعة...
[1] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2703).
[2] صحيح البخاري: كتاب الدعوات (6307).
[3] صحيح مسلم: كتاب الذكر (2702).
[4] صحيح مسلم: كتاب التوبة (2759).
(1/3560)
منع الزكاة
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الزكاة والصدقة, الكبائر والمعاصي
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
19/4/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية أداء الزكاة. 2- وعيد من منع الزكاة. 3- شروط وجوب الزكاة. 4- الزكاة حق الفقراء. 5- عقوبة منع الزكاة في الدنيا والآخرة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقد شرعنا معكم في سلسلة الكبائر منذ مدة، بدأنا بأكبر الكبائر على الإطلاق "الشرك بالله"، وثنينا بذكر كبيرة "عقوق الوالدين"، ثم شرعنا في التحدث عن ترك الصلاة، واليوم ـ إن شاء الله ـ نحدثكم عن كبيرة أخرى من كبائر الذنوب، يجب على كل مسلم اجتنابها والتنبيه على اجتنابها، ألا وهي "ترك إخراج الزكاة".
فلقد بلغ الانحطاط ببعض الناس أن عطّلوا هذا الركن الرّكين وجعلوه من الركام الدفين، ونسوا هذا الواجب الذي من أنكره فقد كفر ومن تهاون في أدائه فسق وفجر.
فلقد ذكرت فريضة الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، واجتمع ذكرها مع الصلاة في سبع وعشرين موضعًا، مما يدل على عظم قدرها وفخامة أمرها، بل جعلها الله في مواضع من كتابه من لوازم الإيمان، وجعل تركها من خصال المشركين المكذبين بيوم الدين.
حدثنا القرآن عن أهل الشقاء والخسران المبين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، كيف يصرخ أحدهم وينوح في أرض الحشر قائلاً: ي?لَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَـ?بِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ي?لَيْتَهَا كَانَتِ ?لْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ [الحاقة:25-29]، فينزل به حكم الواحد الأحد العدل قائلاً: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ ?لْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاْسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32]، ولماذا كان هذا العذاب والهوان والخزي على رؤوس الخلائق؟ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِ?للَّهِ ?لْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى? طَعَامِ ?لْمِسْكِينِ [الحاقة:33، 34].
هذه الآيات المزلزلة للقلوب هي التي جعلت أبا الدرداء العابد الزاهد يقول لامرأته: (يا أم الدرداء، إن لله سلسلة لم تزل تغلي بها مراجل النار منذ خلق الله جهنم إلى يوم تُلقى في أعناق الناس، وقد نجانا الله من نصفها بإيماننا بالله العظيم، فحُضِّي على طعام المسكين).
كذلك نجد الله يقرن بين الزكاة والإيمان في قوله تعالى: وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ وَ?لَّذِينَ هُم بِئَايَـ?تِنَا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:156]، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ ?لْمُؤْمِنُونَ ?لَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَـ?شِعُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ عَنِ ?للَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَ?لَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَو?ةِ فَـ?عِلُونَ [المؤمنون:1-4].
كما قرن ترك الزكاة بالشرك والتكذيب بيوم الدين فقال تعالى: وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ ?لَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ?لزَّكَو?ةَ [فصلت:6، 7]، وقال عز وجل: أَرَءيْتَ ?لَّذِى يُكَذّبُ بِ?لدّينِ فَذَلِكَ ?لَّذِى يَدُعُّ ?لْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى? طَعَامِ ?لْمِسْكِينِ [الماعون:1- 3].
فكأن المانع للزكاة لا يؤمن بالله العظيم ولا باليوم الآخر، إذ لو كان كذلك لبادر إلى امتثال أمر الله العظيم، لذلك قال فيما رواه مسلم: ((والصدقة برهان)) أي: دليل واضح على إيمان العبد، ولذلك قال تعالى: فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَءاتَوُاْ ?لزَّكَو?ةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي ?لدّينِ [التوبة:11]، فالصلاة والزكاة هما الرابط الأول بين العباد، وهما الحاقن والعاصم لدمائهم.
وكلنا يعلم أن للزكاة سببًا وشرطًا، فالسبب هو بلوغ النصاب وهو مقدار معين من المال لا يتعدى في أيامنا هذه خمسة وتسعين ألف دينار جزائري (تسعة ملايين ونصف)، ما يعادل خمسًا وثمانين غرامًا من الذهب، فهل كل من ملك هذا وجب عليه إخراج الزكاة؟ الجواب: لا، فلا بدّ من تحقيق الشرط وهو أن يحول الحول الهجري على المال، كل ذلك ليخرج المسلم ربع العشر من المال أي: 2.5 ، مبلغ زهيد لا يضر أحدًا إخراجه، فانظروا ـ عباد الله ـ إلى تيسير الله رب العباد، ثم انظروا إلى استكبار وعناد العباد.
وليس غرضنا اليوم أن نشرح أحكام الزكاة، إنما الغرض هو أن نذكركم بحقيقة قد يغفل عنها الكثيرون، وهي أنه متى حال الحول الهجري على النصاب صارت قيمة الزكاة حقًا للفقراء والمساكين منذ تلكم اللحظة، والذي يمتنع من إخراجها يعتبر لصًّا بل أحقر لصٍّ على الأرض، إذ كيف يسرق الغني الفقير، فأرباب الأموال الذين نسوا الواجب الذي فرضه الله المتعال يستنكرون أن تنسبهم إلى السرقة، لكنه فرّ من السرقة العلنية إلى السرقة الخفية، فالمال حق الفقير، قال تعالى: وَفِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ [الذاريات:19]، وقال في موضع آخر: وَ?لَّذِينَ فِى أَمْو?لِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لّلسَّائِلِ وَ?لْمَحْرُومِ وقال جل جلاله: وَءاتِ ذَا ?لْقُرْبَى? حَقَّهُ وَ?لْمِسْكِينَ وَ?بْنَ ?لسَّبِيلِ [الإسراء:26]، وقال في زكاة الثمار: كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَءاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141].
_________
الخطبة الثانية
_________
أما بعد: فإن مما كان يتلى من القرآن ثم رفع قوله تعالى: إنا أنزلنا المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة رواه أحمد عن أبي واقد الليثي.
فمن عطّل المال عن حكمته حق عليه العقاب في الدنيا والآخرة.
أما العقاب في الدنيا فنوعان: نوع عام لا يدفع عن أحد بسبب الظالمين المانعين للزكاة، وهو ما رواه الحاكم والبيهقي مرفوعًا: ((ما منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر)) ، وفي رواية لابن ماجه: ((لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعُوا القَطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا)).
ونوع آخر وهو عقاب خاص بمانع الزكاة في الدنيا، وهو أن تؤخذ منه مع شطر ماله، فقد روى أحمد عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله في الزكاة: ((من أعطاها مؤتجرًا فله أجرها، ومن منعها فإنّا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا)).
ولم يقف الإسلام عند هذا، أي بالغرامة المالية، بل أوجب سلّ السيوف وإعلان الحرب على كل من تمرّد ولم يبال بأداء الزكاة، فلم يبال الشرع بإزهاق الأرواح لذلك، فقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على قتال مانعي الزكاة حتى يؤدوها، كما جاء في الصحيحين، ولعل الدولة الإسلامية في عهد الصديق هي أول دولة في التاري تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين والفئات الضعيفة.
هذا هو العذاب في الدنيا، وَلَعَذَابُ ?لآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [الزمر:26]. فما هو عذاب الآخرة؟
روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته مُثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهِزِمتيه ـ شجاع أي: الذكر من الحيات. أقرع: لا شعر له لكثرة سمومه وطول عمره. زبيبتان: نقطتان سوداوان فوق عينيه وهو أخبث أنواع الحيات ـ يقول له وهو بين شدقيه: أنا مالك، أنا كنزك)) ، ثم تلا قوله تعالى: وَلاَ يَحْسَبَنَّ ?لَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَـ?هُمُ ?للَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ?لْقِيَـ?مَةِ [آل عمران:180].
وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار)).
وإن للزكاة أجرًا عظيمًا وثمرات عظيمة في شتى شؤون الحياة نراها لاحقًا، وما هذه إلا ذكرى، والذكرى تنفع المؤمنين.
(1/3561)
الظلم
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
4/5/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الظلم من الكبائر. 2- معنى الظلم. 3- أنواع الظلم. 4- حرمة الظلم وعقوبته. 5- وعيد الله للظالمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من الكبائر التي أجمعت على ذمّها الأديان والتي حاربها الإسلام على مرور الأزمان "الظلم".
الظلم الذي قال عنه النبي : ((اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة)) رواه مسلم.
الظلم الذي حرّمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرمًا.
الظلم الذي يدل على ظلمة قلب صاحبه، وأنه في ساعة ظلمه حرمه الله من نوره، فيصبح لا يميز بين الأشياء، فيضعها في غير موضعها، وهذا هو تعريف الظلم: هو التعدّي بوضع الأمور في غير موضعها.
واعلموا أن الظلم ثلاثة أنواع:
1- أعظمها وأبشعها وأقبحها وأكبرها ظلم الله عز وجل، وذلك بأن يشرك به غيره، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ي?بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِ?للَّهِ إِنَّ ?لشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:12]، فالشرك ظلم لأنه وضع للعبادة في غير موضعها، وقد بينا فيما سبق الشرك ومظاهره وأنواعه العملية والقلبية.
2- النوع الثاني: ظلم العباد بعضهم لبعض، فكل معصية في حق العبد من ضرب وقذف وغيبة ونبز وهجر وغير ذلك هي من الظلم.
3- النوع الثالث: ظلم العبد لنفسه، وذلك بالمعاصي والآثام التي تعود بالضرر على نفسه.
لذلك أوصانا رسول الله وصيّة جامعة في كيفية التعامل مع الله عز وجل ومع النفس ومع العباد، وذلك في الحديث الذي رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).
فقوله: ((اتق الله حيثما كنت)) فيه الإرشاد إلى الإتيان بحقوق الله تعالى.
وقوله: ((وأتبع السيئة الحسنة تمحها )) فيه الإرشاد إلى حق النفس ومعاملتها.
وقوله: ((وخالق الناس بخلق حسن)) تضمن الإرشاد إلى الابتعاد عن الظلم.
وكما سبق أن بيّنا صور ومظاهر الشرك، فإننا سنشرع في بيان مظاهر ظلم العباد بعضهم لبعض، فإن الظلم لا يسلم صاحبه في الدنيا ولا في الآخرة، بل إن الله تعالى حكم أن المظلوم لا يردّ دعاؤه ولو كان كافرًا لقوله لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى نصارى اليمن: ((واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب)) ، بل إن العلماء قالوا: "إن الله لينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة المسلمة إذا كانت ظالمة".
واستمعوا إلى الحديث العظيم الذي يرويه الإمام مسلم عن أبي ذر الغفاري أن رسول الله قال فما يرويه عن ربه عز وجل: ((يا عبادي، إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا. يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم. يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي، كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخرم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه)).
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والعاقبة للمتقين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وليّ الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إمام الأنبياء، وسيد الأتقياء، وأشرف المرسلين، أما بعد:
فإن الله عز وجل قد قضى أن الظالم له الخزي في الدنيا والعذاب الأليم يوم القيامة، ذلك لأنه سبحانه كثيرًا ما يقول: وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ [آل عمران:57]، فإذا لم يحب الله عبده كتب عليه الذل والخزي والصّغار. فسارع أيها الظلوم لأخيك بالتوبة النصوح.
فإنني أنادي قلوبكم عباد الله، وأنادي كل من كان له مظلمة لأخيه: بادر بالتوبة إلى الله، وسارع إلى مغفرته وجنته، واحذر من عاقبة الظلم:
أما والله إن الظلم لؤم وما زال المسيء هو الظلوم
إلى ديّان يوم الدين نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
ستعلم في الحساب إذا التقينا غدا عند الإله من الملوم
تنام ولم تنم عنك المنايا تنبّه للمنية يا نؤوم
لهوت عن الفن،اء وأنت تفنى وما حي على الدنيا يدوم
يكفي وعيدًا قوله تعالى: وَ?للَّهُ لاَ يُحِبُّ ?لظَّـ?لِمِينَ [آل عمران:57]، ما عساك تفعل إن كان الله لا يحبك؟!
يكفي وعيدًا قوله تعالى: وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ [آل عمران:86]، فإننا نعاني من قسوة القلوب والبعد عن الطمأنينة التي يتمتع بها المسلم، فلنراجع أنفسنا ولنتأمل هذه الآية وَ?للَّهُ لاَ يَهْدِى ?لْقَوْمَ ?لظَّـ?لِمِينَ ، كيف تطمع في الهداية وأنت تظلم غيرك بالشتم واللطم والغيبة والقذف والهجر والمماطلة في الديون؟! كيف تطمع في الهداية وأنت تشتم الناس لأتفه الأسباب؟! كيف تطمع في الهداية وأنت تضرب زوجك لأتفه الأسباب؟! كيف يهدي الله قومًا يظلمون الوالدين ويستهزئون بالمؤمنين؟! ورحم الله عبدًا راجع نفسه، فوالله ما أصيب العبد بمصيبة إلا بذنب ارتكبه، ولن يرفع الله البلاء إلا بالتوبة.
أما من طغى وآثر البقاء على ظلمه للناس في أعراضهم وأموالهم وأنفسهم فإننا نتركه لله الذي قال وقوله الحق: وَكَذ?لِكَ أَخْذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ ?لْقُرَى? وَهِىَ ظَـ?لِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
إذا ما ظالم استحسن الظلم مذهبا ولجّ عتوًا في قبيح اكتسابه
فكِلْه إلى صرف الليالي فإنها ستبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالمًا متمردا يرى النجم تيهًا تحت ظل ركابه
فعمّا قليل وهو في غفلاته أناخت صروف الحادثات ببابه
فأصبح لا مال له ولا جاهٌ يرتجى ولا حسناتٌ تلتقى في كتابه
وجوزي بالأمر الذي كان فاعلاً وصبّ عليه الله سوط عذابه
(1/3562)
الغيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
11/5/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
- الغيبة مظهر من مظاهر الظلم. 2- معنى الغيبة. 3- حكم الغيبة ودليله. 4- بعض مساوئ الغيبة. 5- بواعث الغيبة. 6- حرمة العلماء ووجوب حفظ غيبتهم.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإننا نشرع من اليوم في بيان مظاهر الظلم وصوره وأنواعه، لنحاول جاهدين في اجتنابه، ونعمل مخلصين لسدّ بابه وإغلاقه.
من مظاهر الظلم التي حرّمها الله تعالى وعدّها كبيرة من كبائر الذنوب والتي عششت في قلوبنا وبيوتنا ومجالسنا وجل أحاديثنا "الغيبة"؛ أن يغتاب المسلم أخاه المسلم، وأن تغتاب المسلمة أختها المسلمة، فقد نسي كثير من الناس أن الغيبة من الكبائر التي أوعد الله صاحبها العذاب الأليم.
فأول ما يجب علينا معرفته والتذكير به هو معنى "الغيبة"، فإن جمهور الناس إذا اغتاب أحدهم أخاه فنهيته سارع قائلاً: إنني على استعداد أن أقولها أمامه وبحضوره ألا فليعلم الجميع أن هذا من وحي الشيطان الرجيم لا من وحي الرحمن الرحيم، اعلم أن مجرد ذكر عيوب المسلم في غيبته يسمّى غيبة.
روى أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) ، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)).
إذا علمنا معنى الغيبة فيكفينا ذمّا وإثما قوله تعالى: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات:12]، فقد شبه الله تعالى المغتاب بآكل الميتة، وأي ميتة؟ ميتة أخيه المسلم.
فإن كنت ـ أيها المسلم وأيتها المسلمة ـ تستقبح وتستبعد أن تأكل لحم أخيك ميتًا فيجب عليك أن تستقبح ذكره بسوء.
الغيبة محرمة تحريمًا أشد من كثير من المعاصي التي تغتاب أخاك لأجلها، فاحذر من مزالق الشيطان وخطواته.
جاء في الصحاح والسنن والمسانيد من طرق كثيرة أنه قال في خطبة حجة الوداع: ((أتدرون أي يوم هذا؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، فقال: ((أليس بيوم النحر؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فأي شهر هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: ((أليس بذي الحجة)) ، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فأي بلد هذا؟)) قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه، قال: ((أليس بالبلدة؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، فليبلغ الشاهد الغائب)).
وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه)) ، وروى أحمد وأبو داود عن أبي برزة الأسلمي مرفوعًا: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته)).
فالله الله في أعراض المسلمين، فإن الله عز وجل يمهل ولا يهمل، حتى إذا أخذ الظالم لم يُفلته.
كفى بالغيبة أنها تجلب البغضاء والحقد والكراهية بين المسلمين.
كفى بالغيبة أثرا أنها تُقسي قلب العبد، ينادي بملء فيه: "أريد الطمأنينة" ولا يذوقها.
كفى بالغيبة عيبًا ما قاله علي بن الحسن: إياك والغيبة، فإنها إدام كلاب الناس.
أما العقوبة في الآخرة، فمبدؤها في القبر، إذ روى أبو داود عن أنس أن النبي رأى ليلة الإسراء والمعراج قومًا لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال النبي : ((من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم، وهذا عذابهم إلى يوم القيامة)).
واعلموا أن كل ما يفهم منه مقصود الذم فهو داخل في الغيبة، سواء كان بالكلام أو بغيره، كالغمز والإشارة والكتابة، فإن القلم أحد اللسانين.
وهناك نوع من أنواع الغيبة، يستر بستر الرحمة والنصيحة فيأتيك أحدهم: أرأيت فلانًا المسكين، قد ابتلاه الله بالمعصية الفلانية. فهو يظهر الرحمة ويخفي قصده، فصار بعض الناس يتفنن في الغيبة، ألا ساء ما يعملون.
ولقد استقرأ العلماء الأسباب والبواعث على هذا الذنب العظيم فرأوها أربعة أسباب:
1- تشفي الغيظ: فقد يخطئ المسلم في حق أخيه المسلم، أو تخطئ المسلمة في حق أختها المسلمة، وتخطئ المرأة في حق أصهارها، وقد تخطئ العجوز في حق زوجة ابنها، وقد يخطئ الجار في حق جاره، فيمتلئ هذا وذاك غيظًا، فيشفي غيظه بغيبة صاحبه. ولو أنهم علموا أن الإنسان مجبول على الخطأ ولا بدّ له من الغلط لصبر واحتسب الأجر عند الله، فإن لم يجب الصبر في مثل هذه الحالة فمتى يجب الصبر؟!
2- موافقة الرفقاء، فإن الصاحب والجليس إذا كان يتفكه في الطعن في الأعراض، رأى الرجل أنه لو أنكر عليه أو قطع كلامه استثقله ونفر عنه، فيساعده ويرى ذلك من حسن المعاشرة. ولو أنه علم أن السامع أحد الشاتمين وأن الله أمره بالقيام من المجلس السوء لما رضي بذلك، فإنه من أرضى الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
ونكمل الحديث بعد حين إن شاء الله.
_________
الخطبة الثانية
_________
3 - ومن الأسباب الباعثة على الغيبة اللعب والهزل، فيذكر غيره بما يُضحك الناس، بل إن بعض الناس يكون كسبه من هذا، ولو علم هذا المسكين أن ضحك ساعة سيجلب له عذاب زمن طويل لما فعل.
4- السبب الرابع: الجهل، وأخصّ بهذا السبب طائفتين من الناس:
أ- رعاعُ الناس وعوامهم الذين إذا رأوا الصالحين والصالحات على خطأ ما سارعوا إلى قذفهم بألسنة شداد في أعراضهم، فهمّهم الأوحد هو الإخوة والأخوات، وكأنهم لا يعلمون أنهم كذلك إخوة وأخوات لنا، فلماذا هذا التفريق الشنيع؟ ثم لماذا هذا التشنيع الفظيع؟
متى ادّعى الملتزمون والملتزمات العصمة؟ متى ادعوا أنهم أكمل الناس؟ كل إنسان مقصر، إلا أن هؤلاء الملتزمين لهم حسنات مكفّرة للسيئات، والميزان يوم القيامة. أما أنت يا من وقعت في حبائل الشيطان، تخطئ بالليل والنهار، وتجهر بمعصية العزيز الجبار ولا تبالي، ولا ترى الجذع في عينك، ثم ترى القذاة في عين أخيك، فهذا هو غاية الجهل.
ب- الصنف الثاني: من خدعه الشيطان وراح طوال يومه وأسبوعه وشهره وعمره يتتبع عثرات العلماء والدعاة إلى الله، صفوة الله من خلقه، الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، في زمن انعدمت فيه الفضيلة، وعمت فيه الرذيلة، إذا أخطأ الواحد منهم وزلت قدمه ـ ولا بد له من ذلك ـ لم يرحمه الناس، وسلّطوا عليه ألسنتهم بالتبديع والتضليل، وكأنه لا حسنة له، ونسوا ـ هداهم الله تعالى ـ أن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، وهؤلاء العلماء والدعاة الفضلاء قد بلغوا القلتين لا محالة، لكنه الجهل والنفس التي تحب وتشتهي تتبع أخطاء الناس غافلة عن أخطائها وعيوبها، ولو حدثوك أن الدّم ينبت المرعى فصدق، ولو حدثوك أن بعض الناس ذهبت حزازات نفوسهم وأحقادهم لا تصدق، ولله درّ القائل:
قد ينبت الدم على مرعى الثرى وتبقى حزازات النفوس كما هي
أيذهب يوم واحد إن أسأته بصالح أيامي وحسن بلائيا
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
الله الله في العلماء، ورحم الله عبدًا عرف قدر نفسه، فوقف عند حدّه، فمثل هؤلاء الذين يطعنون في العلماء من الشباب الذين لم يصلوا سن البلوغ في العلم كمثل مادر البخيل إذا عيّر حاتم الطائي بالبخل، ومثل باقل إذا عيّر قس بن ساعدة بالسفه:
إذا عيّر الطائي بالبخل مادر وعيّر قسًّا بالسفاهة باقل
وقال السها للشمس أنت خفية وقال الدجى للصبح لونك مائل
وطاولت الأرض السماء سفاهة وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جودي إن لونك حائل
فحان الوقت ـ عباد الله ـ لنستيقظ من غفلتنا، ونصون ألسنتنا عن لحوم الناس جميعهم، لا سيما العلماء والدعاة، والمخطئ منهم يبين خطؤه دون التعرض لشخصه بالذم، واعلموا أن بيان الخطأ بالأدب والأخلاق الحسنة أدعى لقبول النصح.
(1/3563)
الأسباب المعينة على ترك الغيبة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
18/5/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الوقاية من الغيبة. 2- السعيد من شغل بعيبه. 3- مجالس الغيبة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فإن من السهل على الإنسان أن يتحدث عن الأمراض والآفات، وعن الكبائر والموبقات، وعن صور الظلم المتنوعات، لكن الأصعب هو معرفة سبل الابتعاد عنها وإيجاد العلاج منها.
لقد رأينا معكم في الجمعة الأخيرة مظهرًا فظيعًا من مظاهر الظلم ألا وهو الغيبة، رأينا أسبابها وذكرنا منها أربعة: تشفي الغيظ، ومصانعة الجلساء، واللّعب والهزل، والاهتمام بالناس دون النفس.
فقد آن لنا أن نقف وقفة صدق، نذكّر أنفسنا بأنها قد تمادت في العصيان، وقد بلغت حد الطغيان. نقف وقفة سائلين الله أن يبصرنا سبل السلام التي تقودنا إلى دار الأمن والسلام.
آن لنا أن نتذاكر فيما بيننا الأسباب التي تعين المسلم وكل محب لله وطامع في رضاه، تعينه على اجتناب هذا الداء العظيم.
1- أولها: الالتجاء إلى الله والافتقار إليه ودعاؤه سبحانه بأن يقينا شرور أنفسنا، فإن الأحمق كل الأحمق هو من يثق بنفسه ويبرئها من العيوب، مع أنّ الله تعالى قال: إِنَّ ?لنَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِ?لسُّوء [يوسف:53]. فعلينا أن لا يفتر لساننا عن الدعاء بالشفاء لهذه النفس من أمراضها، وقد روى أحمد أن رسول الله كان يقول: ((اللهم قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد أمري)) ، وروى كذلك عن عائشة قالت: افتقدت رسول الله ذات ليلة فوجدته ساجدًا يقول: ((اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)). فينبغي لكل من يريد أن يتخلص حقًا من هذا العيب أن يسأل الله تعالى، إِن يَعْلَمِ ?للَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70].
2- السبب الثاني: تعظيم هذا الذنب، وتذكير النفس بأنه من أفظع العيوب في حق المسلم، قال الفضيل: "بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله"، وليعلم المغتاب أنه بالغيبة يتعرض لسخط الله ومقته وغضبه، وكيف يأمن على نفسه وهو يسمع قوله تعالى: فَلَمَّا ءاسَفُونَا ?نتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف:55]، فبقاؤك وإصرارك على الغيبة أعظم من الغيبة، وفرحك وسرورك بالغيبة أعظم من الغيبة، وضحكك وأنت لا تدري ما الله فاعل بك أعظم من الغيبة.
وإذا أردت أن تعلم عظم الذنب الذي أنت عليه فتذكر الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح إلى النار)) ، فمتى استحضر المسلم هذا كفّ لسانه عن الغيبة، ورحم الله الحسن البصري، فقد بلغه أن فلانًا يغتابه، فذهب إليه وأهدى له طبقًا من التمر الجيد وقال له: "لو وجدت أحسن من هذا لكافأتك به لما تهديه إلي من الحسنات".
ويؤيد ذلك السبب الثالث:
3- التزام الصمت، فإن الكلمة لك ما لم تخرج من فيك، فإذا خرجت كانت عليك، وفي الحديث: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة)) رواه البخاري، وقال معاذ للنبي : أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فذكر له النبي شعائر الدين ثم قال له: ((ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟)) قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه قال: ((كف عليك هذا)) ، فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم ـ أو قال: على مناخرهم ـ إلا حصائد ألسنتهم؟!)) رواه الترمذي.
4- ومن أكبر الأسباب الواقية من الغيبة الاهتمام بالنفس وعدم الاهتمام بالناس، فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة مرفوعًا: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)). فما يعنيني إذا اشترى فلان أو باع؟ وما يعنيني إذا تزوج فلان بمن هي أصغر منه؟ وما يعنيني إذا طلق فلان زوجه؟ وهذا الأمر يقصد به الرجال والنساء معًا، فقد كان الفضول قديمًا من صفاتهن، ولكن كثير من الرجال أشبهوهن في ذلك.
ولا عجب أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال هو العجيب
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، والسعيد من شُغل بنفسه، وأنت ـ أيها الطالب للعلم ـ اشتغل بالعلم النافع والعمل الصالح، واعلم أن سكوتك أحسن من كلامك، وكلامك بالأدب واللطف أحسن، فإن كثيرًا منا يظن أنه يجب عليه الكلام وكأنه إمام عصره وفريد دهره (أطرق كرا فإن النعام في القرى). إن لنا عيوبًا احترنا في كيفية التخلص منها، فتذكر ذلك. فإن الذي يتذكر عيوب نفسه ويشتغل بإصلاحها يستحي أن يعيب الناس:
فإن عبت قومًا بالذي فيك مثله فكيف يعيب الناس من هو أعور
وإن عبت قومًا بالذي ليس فيهم فذاك عند الله والناس أكبر
ولا يمكن ذلك إذا كنا عن السبب الرابع والخامس غافلين وهو:
5- القيام من مجلس الغيبة، فاعلم أن المستمع للغيبة شريك فيها، والسامع أحد الشاتمين، وَإِذَا رَأَيْتَ ?لَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءايَـ?تِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى? يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ ?لشَّيْطَـ?نُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ ?لذِّكْرَى? مَعَ ?لْقَوْمِ ?لظَّـ?لِمِينَ [الأنعام:68]، فلا تنجو من الإثم إلا إذا أنكرت بلسانك، فإن خفت واستحييت فاقطع الكلام بكلام آخر، وإلا لزم عليك القيام من ذلك المجلس.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أما بعد: فاعلموا ـ عباد الله ـ أن الشيطان الرجيم يغتبط أشد الاغتباط بظلم العباد بعضهم لبعض، ولو باعت إحدى الدول الإسلامية سلاحًا لليهود مثلاً لأنكر كل الناس عليها ذلك، وقالوا: كيف تعينون العدو على إخواننا، فكذلك المغتاب الذي يشتغل بالناس يعين الشيطان الرجيم على إلقاء العداوة والبغضاء بين المسلمين.
لذلك تجدوننا نذكركم بهذه الأمور، عسانا نجدد العهد مع الله تعالى أن لا نغتاب أحدًا بغير حقّ، ذكرنا لكم خمسة أسباب: دعاء الله تعالى، وتعظيم هذا الذنب العظيم، والتزام الصمت، والاشتغال بالنفس، وترك مجالس الغيبة، بقي علينا أن نذكركم بسبب عظيم يعين المسلم على تقوى الله في عرض أخيه.
6- حسن الظن، فاعلموا أن المسلم إذا بلغه شيء عن أخيه فليحسن الظن به قدر الاستطاعة، قال تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيرًا مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، وقال : ((إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)). وكما قال بعض الصالحين: "التمس لأخيك سبعين عذرا، فإن لم تجد فاتهم نفسك"، اتهم نفسك؛ إذ كيف لم أجد له عذرا من بين سبعين عذرا، واحذر أن تحمل كلام أخيك الصالح على غير المحمل الحسن، فإن ذلك أدعى لأن لا تنكر عليه. فإذا تبيّن لك أن الحقّ في ظنك فاعلم أن فيك أخطاء مثله، فاعف عنه واصفح، وإلا ما سلم لك صاحب الدهرَ أبدا:
ومن لم يغمّض عينه عن صديقه وعن بعض ما فيه يمت وهو عائب
ومن يتبع جاهدًا كل عثرةٍ يجدها ولا يسلم له الدهر صاحب
بل الجأ إلى طريقة الله ورسوله، وسارع إلى نصحه وإرشاده إلى الصواب، فإننا كلنا نخطئ بالليل والنهار، تذكره بطاعة الله وتقواه، فيستجيب ولا ريب في ذلك، فتكون قد أحسنت إليه أكبر إحسان دون أن تغتابه أو تقدح فيه.
(1/3564)
التحذير من التبرج (2)
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, المرأة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
2/6/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- ظاهرة التبرج عنوان الجاهلية. 2- الكاسيات العاريات. 3- شروط الحجاب. 4- حرص نساء خير القرون على الستر. 5- التحذير من إظهار الزينة أمام الأقارب غير المحارم. 6- أنواع الحجاب. 7- الغيرة على الأعراض.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلقد تحدثنا معكم في الخطبة الأخيرة عن مظهر من مظاهر الظلم الفظيعة، وصورة من صور الظلم الشنيعة، التي انتشرت في المجتمعات الإسلامية حتى غدت شبيهة بالمجتمعات الكفرية، التي لا تدين بدين، ولا تحتكم إلى شريعة رب العالمين، تلكم الظاهرة هي ظاهرة تبرج النساء، وتلونا على مسامعكم أحاديث المصطفى المرهبة أشد الترهيب من ذلك، وكان من أشهدها ترهيبًا قوله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)). ونريد أن نعرف معنى قوله : ((كاسيات عاريات)).
ولا بد أن نبين هذا لأن كثيرًا من النساء يحسبن أنفسهن متحجبات وهن لسن كذلك، مثلهن كمثل المسيء صلاته الذي قال له رسول الله : ((ارجع فصل فإنك لم تصل)) ، فنقول لهؤلاء النسوة: ارجعن فاسترن أنفسكن فإنكن غير مستورات.
قال العلماء: تكون المرأة كاسية عارية بأحد ثلاثة أمور:
- بأن يكون لباسها قصيرًا لا يستر جميع البدن، فهذه كاسية عارية.
- بأن يكون شفافًا غير سميك، ولو كان طويلاً، فهذه كاسية عارية.
- بأن يكون الحجاب ضيقًا غير فضفاض، فيجسد جسدها ويبين تقاسيم بدنها، فهذه كاسية عارية.
أما هؤلاء اللائي يبدين معظم البدن فإنهن عاريات عاريات.
وعليك أن تنظر إلى نسائك وبناتك أين يدخلن؟ وهن تحت مسؤوليتك، فإياك أن تحرمها من الجنة ومن رحمة الله تعالى.
أذكرك بحديث رواه الإمام أحمد عن عمرو بن العاص قال: بينما نحن مع رسول الله في هذا الشعب إذ قال: ((انظروا هل ترون شيئا؟)) فقلنا: نرى غربانا فيها غراب أعصم أحمر المنقار والرجلين، فقال رسول الله : ((لا يدخل الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب في الغربان)) ، الغراب الأعصم هو نوع نادر من الغربان أحمر المنقار والرجلين.
الجنة أم الأمنيات وأعظم المرجوات، الجنة التي إذا تذكرتها المسلمة هان عليها كل شيء في سبيلها. واستمعوا إلى هذا الحديث الذي رواه البخاري عن عطاء قال: قال لي ابن عباس رضي الله عنه: ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي فقالت: إني أُصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، فقال النبي : ((إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)) ، قالت: أصبر، فقالت: إني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، وفي رواية قالت: إني أخاف هذا الخبيث أن يجردني، فدعا لها.
أرأيتم حرص المرأة المسلمة على الجنة، يهون عليها صرع العفاريت ولا ترضى أن يبدو شيء من بدنها رضي الله عنها وأرضاها.
وما أعظم ما رواه الإمام أحمد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت تستحي وتقول: كنت أدخل بيتي الذي دفن فيه رسول الله وأبي، فأضع ثيابي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما دفن معهما عمر بن الخطاب فوالله ما دخلت إلا وأنا مشدودة علي ثيابي حياء من عمر. أين عمر؟! تحت الأرض، تحت الأرض وتستحي منه عائشة رضي الله عنها.
فيا أيتها النسوة في البيوت، أخاطبكن من على هذا المنبر، احذرن من كشف شيء من أبدانكن لغير محارمكن، فإن كثيرًا من النساء يتبعن العرف والعادة، ويمنعن بناتهن من التستر من الأجانب، ويتساهلن أمام زوج الأخت مثلاً أو ابن العم أو ابن الخال أو الجيران وغير ذلك ممن لم يعتبره الله محرمًا لهن، أين هؤلاء من عمر وهو حي؟! وأين هم منه وهو ميت؟! ومع ذلك تمتنع عائشة من إبداء شيء من بدنها.
ثم أنتم أيها الرجال، كيف بعد كل هذا تترك نساءك وبناتك وأخواتك يخرجن سافرات إلى الشوارع أمام ذئاب البشر؟! الذين لا يهدأ لهم بال حتى يمزقوا بأنياب الفسق والفجور عرضك وأنت تعلم ذلك لا محالة.
أيها الناس، يا عباد الله، اتقوا الله، قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ?للَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل الأنبياء وسيد الأتقياء وإمام المرسلين، اللهم صل عليه وسلم وبارك وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: اعلموا ـ عباد الله ـ أن الحجاب الذي أنزله الله تعالى على عباده ثلاثة أنواع:
- حجاب في البيت: فمكان المرأة البيت رغم أنف العلمانيين، مكان المرأة البيت رغم أنف دعاة التحرر والانحلال من الدين، مكان المرأة البيت فلا تخرج إلا لحاجة، تشريفًا لها وحماية لعزتها وعفتها وكرامتها، تخرج للحاجة لزيارة الأقارب وصلة الأرحام، ولشراء ما لا يمكن غيرها شراؤه، وذلك بشروط خمسة، متى فقد شرط واحد حرم عليها الخروج، أما أن تكون خراجة ولاّجة، تخرج كل يوم مرات عديدة أو لغير حاجة، فإنها بذلك تخالف أمر الله الذي قال: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، وأنتم تعلمون معنى القرار والاستقرار.
- النوع الثاني من الحجاب حجاب البدن بشيء يستر جميع البدن، سميك غير شفاف، وفضفاض غير ضيق، وغير لافت لنظر الرجال، وقد بينا ذلك، إذن فالمسألة ليست لعبًا، وليس كل ما نعده حجابًا فهو حجاب.
- النوع الثالث حجاب داخل البيت يستر بدن المرأة أمام المحارم.
بعد كل ما ذكرناه، وبعد كل ما نراه هذه الأيام من انحراف كبير، وبعد كل ما نسمعه من حوادث الزنى واللواط والسحاق، بعد كل ذلك ندرك تمامًا حكمة الباري سبحانه في فرض الحجاب، الله الذي قال وقوله الحق: أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ?للَّطِيفُ ?لْخَبِيرُ [الملك:14]، الله الذي قال وقوله الصدق: وَ?للَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ [البقرة:216]. فكم من البيوت هدمت، وكم من الأعراض قد لوثت، وكم من الجلود قد تنجست.
أيها المسلم، أسأل نفسك إذا خرجت امرأتك أو ابنتك أو أختك متزينة، لمن تتزين؟ اسأل نفسك هذا السؤال، ولا أنتظر منك الجواب، إنما علينا البلاغ، إنما علينا التذكير، نذكرك بشيء اسمه: "الغيرة".
وأختم حديثي بقصة تكتب بماء الذهب، قصة جرت لامرأة اختصمت مع زوجها إلى قاضي الري عام 286هـ، ادعت على زوجها صداقًا قدره خمسمائة دينار، وقالت: ما سلمه لي أبدا، فأنكر الزوج، فجاء الشهود الذين حضروا مجلس العقد، فقال الشهود: نريد أن تُظهر لنا وجهها حتى نعلم أنها الزوجة، واعلموا ـ عباد الله ـ أن هذا من المواطن التي أباح الله فيها النظر إلى المرأة، إذ لا يخفى عليكم أن نظر الرجل إلى المرأة محرم إلا في مواطن ضيقة كالخطبة والمعاملة كبيع وإجارة، وفي الشهادة كما في قصتنا هذه، لكن لما سمع الزوج ذلك صرخ، صرخ وقال: لا تفعلوا هي صادقة فيما تدعيه، إنه يريد صيانة زوجته من أن يراها الرجال، فلما رأت الزوجة ذلك منه، وأنه ما أقرّ إلا ليصون وجهها، قالت: هو في حل من صداقي في الدنيا والآخرة.
فهذا ما ينبغي أن يكون عليه المسلم والمسلمة هذه الأيام، قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ?للَّهِ نُورٌ وَكِتَـ?بٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ ?للَّهُ مَنِ ?تَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ?لسَّلَـ?مِ وَيُخْرِجُهُمْ مّنِ ?لظُّلُمَـ?تِ إِلَى ?لنُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى? صِر?طٍ مُّسْتَقِيمٍ [المائدة:15، 16].
(1/3565)
التحذير من التبرج (1)
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, المرأة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
25/5/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نداء للقلوب الحية. 2- تبرج النساء مظهر من مظاهر الظلم. 3- كلكم راع. 4- اتفاق الأديان السماوية على الحجاب. 5- التبرج عقوبة من الله. 6- ستر المرأة من أخلاق العرب في جاهليتها. 7- أدلة ستر المرأة في الكتاب والسنة. 8- تحسّر أهل الصلاح من الوضع المزري. 9- نصيحة عامة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فقبل أن نشرع في التحدث عن مظهر آخر من مظاهر الظلم ننادي قلوبكم، قلوبكم التي عقدت العزم على أنه لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. ننادي قلوبكم التي آمنت وأيقنت أن الموت حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الصراط حق، وأن الحساب حق، وأن الحشر حق، وأن الله هو الحق، ذ?لِكَ بِأَنَّ ?للَّهَ هُوَ ?لْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ ?لْمَوْتَى? وَأَنَّهُ عَلَى? كُلّ شَىْء قَدِيرٌ وَأَنَّ ?لسَّاعَةَ ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ ?للَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى ?لْقُبُورِ [الحج:6، 7].
ذلكم لأنه لا ينتفع بالموعظة إلا من تذكر الموت، وأيقن أنه سيعود إلى ربه، فيقف بين يديه فيحاسبه عما قدم وأخر، لأنه لا يرقّ إلا قلب من اتعظ وتذكر، يقول الله تعالى: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [لقمان:33].
عباد الله، سنتناول معكم اليوم مظهرًا آخر من مظاهر الظلم الفظيعة، وصورة من صور الأذى الشنيعة، التي يعاني منها المسلمون الصالحون، في كل مكان من مشارق الأرض ومغاربها، تلكم هي ظاهرة تبرج النساء، نعم إنه تبرج النساء في هذا الزمان، وخروجهن عاريات، عاريات يعثن في الأرض فسادًا والله لا يحب الفساد. فلا شك أنكم توافقونني في أن خروج المرأة متبرجة مبرزة مفاتنها من أعظم الظلم، لأن فيه صدا كبيرًا للناس عن دين الله تعالى، وعن الاعتصام بمنهجه القويم وشرعه الحكيم، وكفى بذلك بغيا وعدوانا.
وأول معني بهذا الأمر هو نحن، لأن هؤلاء النساء إنما هن بناتنا أو أخواتنا أو زوجاتنا وقريباتنا وجاراتنا، اللائي يدخلن تحت قوله : ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، مسؤول عنهن في الدنيا والآخرة، لأنهن تحت حكمك، وتحت قوامتك، والله لن نفلت من سؤاله سبحانه وتعالى لنا وحسابه وعقوبته إن لم نرعهن حق الرعاية.
إننا نأمرهن بالغسل والطبخ، ولو لم يقمن بذلك لقمنا وقعدنا، وأرعدنا وأزبدنا، ونقول: عليهن السمع والطاعة، فكيف لا نأمرهن بالستر والعفاف ما دمنا كذلك؟! كيف لا تأمرها بالحجاب ونصوص الكتاب والسنة تتلى ليل نهار على سمعك تبين لك أن ستر المرأة فرض من فرائض الإسلام؟!
يقول الله تعالى الذي رضي الكرامة والعزة للإنسان: يَـ?بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُو?رِى سَوْءتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ?لتَّقْوَى? ذ?لِكَ خَيْرٌ [الأعراف:26]. لباس التقوى كله خير، ذلك هو اللباس الذي يلبسه المؤمن والمؤمنة فيتقيان به ربهما، لباس التقوى للمرأة المسلمة هو اللباس الذي يحفظ لها كرامتها وعزتها، حياءها وعفتها، فإن زينة المرأة العفة والحياء.
ومما يجب أن لا نغفل عنه وأن لا نجهله أن تستر المرأة لم ينفرد الإسلام وحده بتشريعه، بل إن الحجاب قد اتفقت جميع الأديان السماوية على أنه فرض من فرائض الله تعالى على إمائه، فلقد جاء في كتب الذين أوتوا الكتاب من قبلنا في التوراة والإنجيل أنه فرض من الله تعالى، ولا تزال تلك النصوص في كتبهم، أعماهم الله عنها فلم يحرفوها، جاء في الإصحاح 23 و38 من سفر "التكوين"، والإصحاح الثالث من سفر "إشعيا" قوله: (إن الله سيعاقب بنات إسرائيل على تبرجهن والمباهاة بخلاخيلهن بأن ينزع عنهن زينة الخلاخل والضفائر والحلق والأساور والبراقع والعصائب).
بل إن الكنيسة كانت إلى غاية القرون الوسطى تخصص جانبًا كبيرًا من مواردها حتى لا يختلط الرجال بالنساء.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن التبرج عقوبة من الله سبحانه، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى وهو يقص علينا معصية آدم وحواء: فَلَمَّا ذَاقَا ?لشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ?لْجَنَّةِ [الأعراف:21].
ثم اعلموا أن كفار العرب في الجاهلية كان من مكارم أخلاقهم ـ كما تذكر أشعارهم ـ ستر المرأة وتحجبها، قال الشاعر:
تكسل عن جاراتها فيزرنها وتعتل من إتيانهن فتعذر
فالحرة كانت تجلس في البيت سيدة مخدومة، ولا تخرج إلا متسترة، ولكن من بنات اليوم من رضين لأنفسهن برتبة الإماء، حتى صار عرضهن ـ وهو أغلى ما تملكه المسلمة ـ صار يباع بأرخص الأثمان.
بل الذي يتأمل أشعار العرب يجد أن ستر الوجه كان معروفًا لديهم، فقد صح أن امرأة النعمان بن المنذر ملك الحيرة كانت تسير في الطريق، فسقط نصيفها ـ أي: خمارها ـ عن وجهها أمام الناس، فمالت إلى الأرض لتحمله بيدها، وتستر وجهها بيدها الأخرى، حتى قال النابغة الذبياني:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
وحرب الفِجار قامت بين كنانة وهوازن بسبب تعرض شباب من كنانة لامرأة من غمار الناس، راودوها على كشف وجهها فنادت: "يا آل بني عامر"، فأجابتها سيوف بني عامر.
وورد في أشعارهم ذكر البرقع والقناع والحجاب والمرط والكساء ونحوها، مما يدل على أن ستر المرأة كان من مكارم الأخلاق عندهم، فجاء الحبيب المصطفى محمد فأتمها وقومها وكمل نقصها، فقد كان الشواذ يطفن بالكعبة وهن عرايا، فأزال الإسلام بهديه ذلك الانحطاط الكبير فقال تعالى: يَـ?بَنِى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ [الأعراف:31]. أما الشائع في ذلكم الزمان فهو أنهن كُن يخرجن ويبدو منهن شيء من نحورهن وهو أسفل الرقبة، فأنزل الله حكمه من فوق سبع سماوات قائلاً: وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب:33]، هذا هو التبرج الذي أنكره الله عليهن، واعتبره عودة إلى الجاهلية الأولى، فما عسانا أن نقول عن تبرج نسائنا هذه الأيام؟!
وأدلة حجب المرأة وسترها في القرآن والسنة أكثر من أن تحصى، وأعظم من أن تستقصى، ولكن يكفي أن نذكركم بجوامع الكلم منها، قال الله تعالى: وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? ، وقال: ي?أَيُّهَا ?لنَّبِىُّ قُل لأزْو?جِكَ وَبَنَـ?تِكَ وَنِسَاء ?لْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـ?بِيبِهِنَّ ذ?لِكَ أَدْنَى? أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ?للَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب:59]، وقال عز وجل: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:31]، يدنين جلابيبهن: تلمّه على نفسها حتى لا يظهر من بدنها شيء، ويضربن بخمرهن فلا يبدو شيء من شعرها أو نحرها، والكلمة الجامعة لذلك كله هي قول المصطفى : ((المرأة عورة)) رواه الترمذي. نص حكيم محكم جامع للأمر كله ((المرأة عورة)) ، من فقه هاتين الكلمتين فقه الحكم كله، ((المرأة عورة)). فكما تستحي ـ أيها الرجل ـ من أن تظهر عورتك، فينبغي أن تستحي من أن تظهر نساؤك وبناتك متبرجات.
((المرأة عورة)) ، احفظوا هذه النصوص لتضعوها في نحور دعاة التبرج والخلاعة، الذين ما فتئوا يُشيعون الفاحشة في الذين آمنوا بجميع الوسائل المرئية والسمعية والمقروءة، إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ [النور:19].
فاعلم ـ أيها المسؤول ـ عن أمك وأختك وابنتك وزوجتك أن أعداء الله كُثُر، وأمرك لابنتك بالحجاب سلاح ضدهم أشد من عشرات الخطب المنبرية في المساجد، وأنفع من مئات المحاضرات. فهؤلاء يريدون التمتع بالمرأة المسلمة كما يتمتع الغربيون بنسائهم، إنهم يزينون لها الظواهر ويكيدون لها في الباطن:
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء
نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء
فاتقوا الله في قلوب العذارى إن العذارى قلوبهن هواء
_________
الخطبة الثانية
_________
فإنه لا يمر يوم إلا وترى الذين في قلوبهم غيرة على دينهم يتحسرون على ما يخططه أعداء الله والمسلمون غافلون.
أيها الوالد، أيتها الأخت المسلمة، ألا يحن قلبك لدينك؟! ألا تبكون على هذا الدين الذي يطعن فيه كل يوم كل من أتيحت له فرصة؟! ألا تعلمون أن ترك الحجاب هو طعنة في ظهور إخوانكم وأخواتكم؟!
أختي المسلمة، ألا تتذكرين ذلك المشهد؟! أيها الوالد، ألا تتذكر يوم تفارقك زوجتك أو ابنتك أو أختك، يوم تعود إلى الله خالقها جامدة لا تتكلم ولا تتحرك؟! ألا تشفق أن تسحب إلى النار سحبا، وتدع إلى جهنم دعّا؟!
ألا تعلم أن رسول الله قال: ((صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) رواه مسلم.
ألا نعلم أن رسول الله رأى ليلة أسري به صورا من العذاب الفظيع الذي لا يمكن لأحد تصوره، هذا العذاب ثبت لمن عصى الله بذنوب هي أدنى بكثير من معصية التبرج.
تذكري ذلك اليوم، تذكر ذلك أيها الأب وأيها الأخ، وأيتها الأم وأيتها الأخت، سارعوا بدعوة الغافلات إلى ما فيه خير الدنيا والآخرة، وذكروها أنها يوما إلى الله تعالى، وهذا اليوم لا ريب آت، وكل آت قريب، هذه ذكرى فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا.
إن حضورك أيها الأب، أيها الأخ، أيتها الأم، أيتها الأخت، حضوركم جميعًا إلى سماع خطب الجمعة إنما هو للعمل بما تسمعونه، فإياكم أن تكونوا من الذين طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون.
وأما من أصر على ما هو عليه، ولا يهتم بما أنزل عليه، وأصر على ظلم العباد بصدهم عن رب العباد، فنقول له: هداك الله لما فيه الخير والصلاح، والهدى والفلاح.
ونسأله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يوفق بنات المسلمين ونساءهم للاعتصام بصراط الله المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
(1/3566)
التبرج وغض البصر (3)
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي, المرأة
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
9/6/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- الإسلام يحرم الفواحش وأسبابها. 2- الحجاب حصن للمسلمة يبعدها عن مظنة الرذيلة. 3- غض البصر حصن للمسلم والمسلمة وهو وسيلة حفظ الفرج. 4- نظرة الفجأة. 5- النظرة أول سهام إبليس.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها الناس، فإن الله تعالى قد من علينا بنعمة هي أكبر وأجل نعمة على الإطلاق، ألا وهي نعمة الإسلام، فقال عز وجل: ?لْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ?لإسْلاَمَ دِينًا [المائدة:3]، هذا الدين الحنيف الذي شرعه الله تبارك وتعالى من أعظم مقاصده وأهداف أوامره ونواهيه الحفاظ على الأعراض والأنساب، لذلك حرم الله الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ورتب على فعلها حدودًا رادعة وعقوبات زاجرة، كعقوبة الزنا واللواط وغيرهما، لأن مفاسد الفواحش من أعظم المفاسد، وفيها خراب لا يعلمه إلا العزيز الوهاب، بل إن الله عز وجل بالغ في تحريم الزنا حتى قرنه بالشرك وقتل النفس بغير حق، قال الله عز وجل: وَ?لَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ?للَّهِ إِلَـ?هَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ [الفرقان:68]، كذلك قرنه رسول الله بهما عندما سئل عن أكبر الكبائر فقال: ((أن تجعل لله ندًا وهو خلقك)) ، فقيل له: ثم أي؟ فقال: ((أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك)) ، ثم قيل: ثم أي؟ فقال: ((أن تزاني حليلة جارك)) رواه البخاري ومسلم، كذلك قرن الزنا بالشرك وقتل النفس في العقوبة، فقال : ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) رواه البخاري ومسلم. ووصف الله عز وجل الزنا بالفحش فقال: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، والفاحشة هي القبيح الذي تناهى في القبح، حتى عُلم قبحه وفحشه عند جميع الناس، بل إن الزنا عُلم فحشه حتى عند الحيوانات، فقد روى البخاري عن عمرو بن ميمون الأودي قال: رأيت في الجاهلية قردًا زنى بقردة، فاجتمع القرود عليهما فرجموهما حتى ماتا.
وتأملوا ـ عباد الله ـ قوله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? ، نهانا عن القرب وهو اتباع خطوات الشيطان الرجيم الداعي إلى ذلك، فلنعلم أن أعظم سد وضعه الله تعالى أمام خطوات الشيطان الرجيم وأعظم الحصون هو الحجاب. إن المرأة المتحجبة في بيتها والتي إن خرجت خرجت بجلبابها العريض الفضفاض الساتر لجميع بدنها من أعظم الحسرات على إبليس وجنوده من الإنس، فإن الرجل مهما كان طاغية في الفجور فإنه لا سبيل له إلى أن ينظر إليها، بل يقال له: ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ [الملك:4].
أما إذا خرجت كما لو لم يكن هناك أمر من ربها بالتستر، أو أهل يأمرونها بالحياء، فحينها تكون هي من جملة جند إبليس، وتتقرب إليه بمحاربة رب العالمين، فما العمل إذن؟ ما العمل إذا لم يمتثل الناس لأمر الله؟ ما المخرج إذا لم يفقه المسلمون المقصد في تحريم الزنا؟
- الحصن الثاني: غض البصر، علامة أهل الإيمان، ووصية من وصايا الرحمن الذي قال: قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذ?لِكَ أَزْكَى? لَهُمْ إِنَّ ?للَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لّلْمُؤْمِنَـ?تِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـ?رِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ [النور:30، 31]، وقدم الله غض البصر على حفظ الفرج لأن غض البصر وسيلة لحفظ الفرج، فلا يعلم منفذ للشيطان ومدخل له مثل البصر، فهو سهمه الفتاك، ووسيلة الهلاك، ومتى فرط العبد في هذا الحصن ولم يرابط عليه دخله العدو الرجيم فجاس خلال الديار وتبر ما علا تتبيرا.
قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـ?رِهِمْ ، فإذا علم العبد أو أحس أن هناك ما يبدو من زينة المرأة فلا يلق بصره نحوه، وإذا فاجأه نظره بالوقوع على ما لا يحل له فلا يتبعه بصره، هذا هو الرباط، هذا هو جهاد النفس لمن أراد صلاح قلبه وإرضاء ربه، أما أن تتعمد النظر فاعلم أن ذلك هو حظك من الزنا والعياذ بالله، فقد قال رسول الله : ((العينان تزنيان وزناهما النظر)) متفق عليه، وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((يا علي، لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة)) رواه الترمذي. كما يجب علينا أن نعلم كذلك أن البصر يجب غضه عن الصور الفاضحة أيضًا، فكثير من الناس يعلم ذلك، لكنه إذا استقبل قبلة التلفاز الملعون غفل عن أمر الله تعالى وشاهد ما لا يحل له.
فإن قال قائل: ما بال هذا الإمام؟ أين يعيش هذا الإمام؟ هل يعقل مثل هذا الكلام؟ هل كلامه هذا يمكن في واقع هذه الأيام؟ لقد عم الفساد، وطم المنكر والإلحاد، ولا يمكن في هذه الأزمنة غض البصر، بعد أن فشا المنكر وانتشر.
فنقول وبالله التوفيق: قبل الإجابة عن هذا يجب أن نوضح أمرين اثنين:
الأول: اتفق عليه علماء الإسلام، ألا وهو أن ما كلفنا الله به من تكاليف ممكن كله، ولم يكلفنا قط بشيء لا نقدر عليه، يقول الله عز وجل: لاَ يُكَلّفُ ?للَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286]، فهو شاق، نعم، ولكنه ممكن، لم يبق عليك ـ أيها المسلم ـ إلا أن تتذكر ما أعده الله تعالى لعباده المتقين الصابرين الذين يؤثرون ما عند الله على متاع الدنيا الزائل ونعيمها الحائل، ما عليك إلا أن تتذكر أنك في عهد الغربة، الذي بشر الله الصابرين فيه بالنعيم المقيم والجزاء الكريم، نزلاً من غفور رحيم.
الأمر الثاني: يجب أن ننظر إلى صاحب هذه المقولة، من هو؟ أخشى ما أخشاه أن يكون من الذين يتخذون الطرقات مجالس، وهذه الظاهرة من أقبح ما ابتلي به مجتمعنا اليوم، وهي ظاهرة منتشرة في هذا البلد بكثرة، فإن كنت منهم فاعلم أن النبي قال: ((إياكم والجلوس على الطرقات)) ، فقالوا: ما لنا بد، إنما هي مجالسنا نتحدث فيها، قال: ((فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها)) ، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: ((غض البصر وكف الأذى ورد السلام وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر)) ، إذن فلتعلم أنك إن لم تف بهذه الحقوق فقد عصيت ربك وأهلكت قلبك وأعظمت ذنبك.
ثم لنعلم أن هذه الأحكام إن لم تعن على ترك المنكر كلية فهي لا ريب تخففه، أما أن تستسلم للواقع المرّ فهذا ليس من الإيمان في شيء.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه وعلى جزيل نعمه ووافر امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى سبيله ورضوانه، اللهم صل عليه وسلم وبارك وعلى أصحابه وآله، وعلى كل من اتبع سبيله وسار على منواله.
أما بعد: فاعلم ـ أخي الكريم، أختي الكريمة ـ أن النظرة أصل عامة الحوادث التي تميت قلب الإنسان، فإن النظرة تولد الخطرة، والخطرة تولد الفكرة، والفكرة تولد الشهوة، والشهوة تولد الإرادة، والإرادة تولد العزيمة، ثم الفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه.
ولقد قيل: "الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم بعده"، ورحم الله القائل:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر
أي: إذا أرسلت نظرك فإنك ترى ما لا تقدر على تحصيله ولا تصبر على بعضه، وهذا من عجائب النظر. فهو سهم ترميه فيعود إليك، قيل:
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
والأعجب من ذلك كله أن النظرة تجرح القلب جرحا، فيتبعها صاحبها جرحًا على جرح، حتى يموت القلب، وما أعظم قول من قال:
كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغير موقوف على الخطر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتر
يسر المرء ما ضر خاطره لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
(1/3567)
الموت
الرقاق والأخلاق والآداب
الموت والحشر
عبد الحليم توميات
رايس حميدو
16/6/1421
عمر بن الخطاب
_________
ملخص الخطبة
_________
1- فجأة الموت. 2- الديمومة لله تعالى. 3- الموت غاية كل حي. 4- الموت قاهر الجميع.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فلعل كثيرًا منكم يتساءل عن موضوع خطبتنا هذا اليوم، وعن الكبيرة التي سنتناولها فيها، ألا فاعلموا أننا سنحدثكم اليوم عن أعظم حقيقة في هذا الوجود، حقيقة ينبغي علينا جميعًا أن نتذكرها دائمًا في هذا العصر، وأن لا نغفل عنها طرفة عين ولا أقل من ذلك، عصر طغت فيه الشهوات والمغريات، وأعرض كثير من الناس فيه عن رب الأرض والسماوات، فتعالوا بنا نقف وقفة مع كلام الحق، مع القول الصدق، مع أصل العز والشرف، مع منبع الهدى والنور، مع القرآن الكريم، وهو يحدثنا عن أعظم الحقائق، يحدثنا عن الموت، تعالوا بنا وأعيرونا الأسماع والقلوب والأبصار.
يقول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِى ?لصُّورِ ذَلِكَ يَوْمَ ?لْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَـ?ذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ ?لْيَوْمَ حَدِيدٌْ [ق:15-22].
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ، والحق أنك تموت ويبقى الله حيًا لا يموت.
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ، والحق أن ترى عند موتك ملائكة الرحمة وملائكة العذاب.
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ ، ذلك ما كنت منه تفر، ذلك ما كنت منه تهرب، تحيد إلى الطبيب إذا نزل بك مرض، تحيد إلى الطبيب إذا نزل بك مرض، تحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، تحيد إلى الشراب إذا نزل بك الظمأ، ولكن أيها القوي الفتي، أيها الذكي العبقري، أيها الأمير وأيها الكبير، أيها الحقير وأيها الصغير، اعلم أن كل باك سوف يبكى، وكل ناع سوف يُنعى، كل موجود فسيفنى، وكل مذكور فسينسى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى.
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ، إنها الحقيقة الكبرى التي تعلن على مر الزمان وفي كل مكان، في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر أن البقاء لله الحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة الكبرى التي تُلبس الكون كله ثوب الذل والصغار والعبودية لله الواحد القهار، إنها الحقيقة التي يقر بها كل مؤمن وكافر، يمر بها كل بر وفاجر، إنه الموت، طالب لا يمل الطلب، لا يبطئ الخطأ، إنه هادم اللذات، إنه مفرق الجماعات، إنه مبكي العيون، ومفزع القلوب.
أين رسول الله ؟ أين الحبيب المصطفى؟ أين سيد ولد بني آدم؟ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ ?لْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ ?لْخَـ?لِدُونَ [الأنبياء:37].
أيا عبد الله كم يراك الله عاصيا حريصا على الدنيا وللموت ناسيا
أنسيت لقاء الله واللحد والثرى ويومًا عبوسا تشيب فيه النواصيا
لو أن المرء لم يلبس لباسًا من التقى تجرد عريانا ولو كان كاسيا
ولو أن الدنيا تدوم لدامت لأهلها ولكان رسول الله حيا وباقيا
ولكنها تفنى ويفنى نعيمها وتبقى الذنوب والمعاصي كما هيا
أيها الكبير، أيها الصغير، ي?أَيُّهَا ?لإِنسَـ?نُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى? رَبّكَ كَدْحًا فَمُلَـ?قِيهِ [الانشاق:6]، إن الموت آت، وكل آت قريب.
كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ ?لتَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ ?لْفِرَاقُ وَ?لْتَفَّتِ ?لسَّاقُ بِ?لسَّاقِ إِلَى? رَبّكَ يَوْمَئِذٍ ?لْمَسَاقُ [القيامة:26-30]، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ قيل: هل أحد يرقيه؟ أحضروا الطبيب، أحضروا الراقي، أحضروا الدواء، ولكن إذا حان الأجل فلا تستطيع قوة على وجه الأرض أن تؤخره، انظروا إليه، والأطباء حوله، وأهله حوله، يحاول جاهدًا أن يتكلم، إنه يبذل كل ما لديه ليحرك شفتيه بكلمة التوحيد، لكنه لا يستطيع، يجدها عليه كالجبل الضخم، لا يوفق يومئذ إلا من يسر الله ذلك عليه، فيبقى ينظر إلى الطبيب عند رأسه، إلى زوجته، إلى أولاده، ينظر إليهم وكأنه يقول لهم: يا أحبائي، يا أولادي، يا بناتي، أنا أبوكم، أنا حبيبكم، أنا الذي جمعت لكم هذا المال وبنيت لكم بيوتًا كأمثال الجبال، فمن يزيدني ساعة من عمره.
فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ?لْحُلْقُومَ وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـ?كِن لاَّ تُبْصِرُونَ فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَـ?دِقِينَ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ?لْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّـ?تُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ فَسَلَـ?مٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَـ?بِ ?لْيَمِينِ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ ?لْمُكَذّبِينَ ?لضَّالّينَ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَـ?ذَا لَهُوَ حَقُّ ?لْيَقِينِ فَسَبّحْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لْعَظِيمِ [المعارج:82-96].
سبحانك، يا من قهرت بالموت أعناق الجبابرة، سبحانك، يا من أذللت بالموت أنوف الأكاسرة، سبحانك، يا من أخضع بالموت رؤوس القياصرة، سبحانك، يا من نقلتهم بالموت من القصور إلى القبور، من ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، من ملاعبة الجواري الحسان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التلذذ بالطعام والشراب إلى التمرغ في الوحل والتراب، سبحانك، فَسَبّحْ بِ?سْمِ رَبّكَ ?لْعَظِيمِ [المعارج:96].
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله باعث الأرواح وقابضها، واهب الحياة وسالبها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلقنا من التراب وإليه يُرجعنا، ثم إذا شاء منه يُنشرنا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أطال الحديث عن الموت وكربته، وعن الحساب وشدته، فنبه الناس من غفلتهم، وخلصهم من حيرتهم، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحابته الأبرار، الذين تعلقت قلوبهم بدار القرار، فكانوا لها عاملين، وللموت ذاكرين، حتى لقوا الله رب العالمين.
أما بعد: فقد قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: "ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت"، فكل الناس يعلمون أنهم ميتون لا محالة، ثم تراهم يعملون أعمال المخلدين، وكلهم يعلن أنه ميت، ثم تراه يعمل أعمال المخلدين، وكلهم يعلن أنه عبد، ثم تراه يعمل أعمال الأحرار، ورحم الله الفضيل بن عياض الذي رأى رجلاً فسأله: كم مضى من عمرك؟، فقال الرجل: ستون سنة، قال الفضيل: إذن فأنت منذ ستين سنة تسير إلى الله، فيوشك أن تصل.
فحري ببعض آبائنا الذين نجلهم ونحترمهم أن يتذكروا ذلك جيدًا، فإن ما بقى أقل بكثير مما مضى لا محالة، فمن العيب أن يسبقهم الصغار إلى المساجد، ومن أكبر العيب أن تجد بعضهم لا يزالون يضيعون أوقاتهم في اللهو واللعب بالنرد والورق وغير ذلك،
ورحم الله الخليفة الصالح هارون الرشيد، نام على فراش الموت فقال: "أريد أن أرى القبر الذي سأدفن فيه"، فحملوه إلى قبره، ونظر إليه فبكى والتفت إلى أحبابه فقال: " مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ [الحاقة:28، 29].
أين المال؟ أين الجاه؟ أين الإمارة؟ أين الوزارة؟ أين التجارة؟ أين المنصب؟ أين الدرهم؟ أين الدينار؟ أين الجند؟ أين الأولاد؟ مَا أَغْنَى? عَنّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنّى سُلْطَـ?نِيَهْ ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال وهو يبكي: "يا من لا يزول ملكه، ارحم من قد زال ملكه".
سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني
ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن
أنا الذي أغلق الأبواب مجتهدًا على المعاصي وعين الله تنظرني
يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تُحرقني
ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني
كأنني بين تلك الأهل منطرحا على الفراش وأيديهم تقلبني
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر من طبيب اليوم ينفعني
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون
واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريرًا حين غرغرني
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شِرا الكفن
وقام من كان أحب الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني
فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني
وأودعوني على الألواح منطرحا وصار فوقي خرير الماء ينظفني
وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثًا ونادى القوم بالكفن
وأخرجوني من الدنيا فوا أسفا على رحيل بلا زاد يبلغني
وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني
وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني
صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني
وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحدًا منهم يلحدني
وقال هُلُوا عليه التراب واغتنموا حسن الثواب من الرحمن ذي المنن
يا نفس كُفي عن العصيان واكتسبي فعلا جميلاً لعل الله يرحمني
يا زارع الخير تحصد بعده ثمرا يا زارع الشر موقوف على الوهن
يا نفس ويحك توبي واعملي حسنا عسى تجازين بعد الموت بالحسن
(1/3568)
عيد الفطر 1419هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الكبائر والمعاصي
بهجت بن يحيى العمودي
الطائف
1/10/1419
الأمير أحمد
_________
ملخص الخطبة
_________
1- توديع رمضان. 2- شعيرة العيد. 3- أهمية التوحيد. 4- من أنواع الشرك. 5- التحذير من كبائر الذنوب. 6- التحذير من بعض المعاملات المحرمة. 7- التذكير بحق الجار. 8- كلمات للمرأة المسلمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. اللهم لك الحمد على ما مننت به علينا من نعمة الإسلام فلم تجعلنا من اليهود المبغضين ولا النصارى الحاقدين ولا المشركين من الهندوس والبوذيين، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد ببعثة خير الأنام، ولك الحمد على نعمة الأمن والأمان، ولك الحمد على أن بلغتنا رمضان وأعنتنا على صيامه وقيامه حتى الختام، سبحانك ربنا ما عبدناك حق عبادتك وما شكرناك حق شكرك، وأنت أحق من عبد وأعظم من ذكر وخير من اتُّقي وأرأف من ملك وأجود من سئل، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، وتجيب المضطر، وتكشف الضر، وتشفي العليل، وتغفر الذنب العظيم، وتقبل التوبة، ولا يجازي بآلائك أحد، ولا يبلغ مدحتك قول قائل، القلوب لك مفضية، والسرّ عندك علانية. اللهم يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة ولا يهتك الستر، يا حسن التجاوز، يا باسط اليدين بالرحمة، يا صاحب كل نجوى، ويا منتهى كل شكوى، إليك ربنا نرفع حاجاتنا، نسألك اللّهم سؤال المسكين، ونبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، ونرجوك رجاء الخائف الحزين، فاغفر اللهم لنا ذنوبنا، واقبل توبتنا، وتجاوز عن سيئاتنا وخطيئاتنا وجِدّنا وهزلنا وكل ذلك عندنا، اللهم تقبل منا الصيام والقيام وكل عمل صالح يا رحمن، اللهم اجعلنا في هذا اليوم من الفائزين ولا تجعلنا فيه من الخاسرين، ربنا قصرت بنا ذنوبنا عن رحمتك فأسبغ علينا من عظيم فضلك يا كريم، اللهم إنك أرحم بنا من آبائنا وأمهاتنا فلا تحرمنا فضلك بذنوبنا يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما، اللهم اجعل أول هذا اليوم صلاحًا، وأوسطه فلاحًا، وآخره نجاحًا يا رب العالمين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
فها هي ذي صفحات الأيام تطوى وساعات الزمن تقضى، بالأمس القريب ـ عباد الله ـ استقبلنا حبيبًا واليوم نودعه، نزلنا ها هنا ثم ارتحلنا، كذا الدنيا نزول وارتحال، ولئن فاخرت الأمم من حولنا بأيامها وأعيادها وأكستها أقدارًا زائفة وبركات مزعومة وسعادة واهية فإنما هي تضرب في تيه وتسعى في ضلال، ويبقى الحق والهدى في سبيل أمة نبي الهدى والرحمة ، فالحمد لله الذي هدى أمة الإسلام سبيلها، وألهمها رشدها، وخصها بفضل لم يكن لمن قبلها.
أطلق بصرك ـ يا صاح ـ لترى هذه الأمة المرحومة مع إشراقة يوم العيد وهي تتعبد الله عز وجل بالفطر كما تعبدته من قبل بالصيام، فالله أكبر ـ يا عباد الله ـ على نعمة الهداية والإسلام.
عباد الله، إن العيد شعيرة من شعائر الإسلام ومظهرٌ من أجل مظاهره تهاون به بعض الناس وقدموا عليه الأعياد المحدثة، ألا فليعلموا أنهم على ضلالة ما لم ينيبوا إلى ربهم ويتوبوا إليه ويستغفروه ويعظموا شعائره، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32]. إن يوم العيد ـ أيها المسلمون ـ يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته وخلصت لله نيته، وليس العيد لمن لبس الجديد وتفاخر بالعدد والعديد، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد وسكب الدمع تائبًا رجاء يوم المزيد.
وخير ما نذكركم به في هذا الجمع المبارك ـ إخوة الإسلام ـ المحافظة على التوحيد ونبذ الشرك الذي يعد من أعظم الذنوب على الإطلاق، وهو الذنب الذي لا يغفره الله عز وجل إلا بإحداث توبة خاصة ورجعة صادقه ترده إلى حياض الإسلام. والشرك منه ما هو أكبر يخرج من الملة، وصاحبه مخلد في النار إن مات على ذلك والعياذ بالله.
ومن أنواع هذا الشرك المنتشرة في كثير من بلاد الإسلام عيادة القبور واعتقاد أن الموتى يقضون الحاجات ويفرجون الكربات لقربهم من الله زعموا، وما علم هؤلاء الجهلة والطغام أن الموتى هم بأمس الحاجة إلى دعوة صالحة منهم، وكأنهم لم يسمعوا قول الحق جل وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:163، 164]. فاحذر ذلك أخي، وتذكر قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأعراف:194].
ومن أنواع الكفر والضلال الذهاب للسحرة والمشعوذين الأشرار، وعندها تهتك الحرمات وتصرف العبادة لغير الله، فيدعى غير الله، ويستغاث ويرجى ويسأل غير الله، ويذبح لغير الله، فاحذروا ذلك يا عباد الله، فأولئك أعداء لكم لو تعلمون، واستمسكوا بحبل الله المتين، والجؤوا إليه، فإنه هو البر الرحيم، كيف لا وهو القائل: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل:62]، وقوله : ((من مات وهو يدعو من دون الله ندًا دخل النار)) رواه البخاري.
ومن كبائر الذنوب قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومردُ ذلك وسببه الغضب الذي هو جمرة الشيطان التي يوقد بها قلب ابن آدم فيدفعه إلى قتل أخيه المسلم بغير حق، وفي ذلك قال الحق جل وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
واحذروا الزنا فإنه كان فاحشة وساء سبيلاً، ومرده إلى النظر المحرم والكلمة المحرمة والسماع المحرم والفعل المحرم والمؤدي بدوره إلى سوء السبيل وأرذل طريق، ولا يرضى به مسلم أيًا كان، فكيف يرضى لبنات المسلمين؟! واحذروا سبله ووسائله من الغناء المحرم وسماع المعازف وكلام الحب والغرام، فإنه بريد الزنا، والغناء حرام بنص القرآن والسنة المطهرة، ولا يماري فيه إلا جاهل أو متبع لهوى. وكذلك احذروا الدخول على النساء الأجنبيات ومصافحتهن، ولا يعتذر معتذر بأن هذه المرأة قريبتي أو أنها بمنزلة أختي أو ما يزعمون بأن قلوبنا طاهرة، فهذا سيد ولد آدم يقول: ((إني لا أصافح النساء)) ، وتأمل في بيعة الرسول على الإسلام مع عِظمِها ومكانتها لم يبايعهن إلا بالكلام، تقول عائشة: لا والله، ما مست يد رسول الله يد امرأة قط غير أنه يبايعهن بالكلام، واستمع إلى قول حبيبك وهو يقول لك: ((لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)).
واحذروا الخلوة بالمرأة الأجنبية فقد قال : ((لا يخلونّ رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)). ومن صور الخلوة ـ عباد الله ـ ذهاب المرأة مع الرجل الأجنبي في سيارة دون محرم، وهذا لا يجوز ومن طرق إغواء الشيطان ولو كان أمينًا تقيًا، فإنه حرام، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
واحذروا الأخلاق الرديئة، ومن أسوئها وأضرها على الفرد والمجتمع الدياثة، فهي صفة ذميمة لا يرضى حُر بأن يتصف بها، فكيف يكون من أهلها؟! وهي أن يرضى الرجل ويقر الخبث في أهله، وأيّ خبث ـ يا عباد الله ـ أن يرضى الرجل الحر المسلم العربي ذو الشيمة والعزة والكرامة بأن تصافح زوجته أو ابنته أو أخته أو غيرهن من محارمه رجلا ليس بمحرم لها أو تجالسه وتخلو معه؟! أو كيف يرضى من يدّعي الشهامة والنخوة أن تخرج موليته إلى السوق أو المسجد بدون حجاب شرعي يستر جميع بدنها؟! وكذالك تمكين الأهل في البيت من الأفلام والمجلات المحرمة التي تنشر الفساد والمجون وتظهر التبرج والسفور، فيفسد أخلاقهم ويزعزع عقيدتهم ويضيع دينهم، ألا فاعلموا أن ذلك كله من الدياثه وغيره كثير، فاحذر ـ يا عبد الله ـ فإن الأمانة عظيمة، والحمل ثقيل، والكتاب والكتبة يحصون فيه كل صغير وكبير، وستعرض على العليم الخبير الذي استرعاك هذه الرعية فضيعتها ولم تحفظها، فما هو موقفك في ذلك اليوم العظيم؟! يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، كم هو حقير هذا المخلوق الصغير الذي يدعى الإنسان، وذلك عندما يتجرأ على محاربة ربه جل وعلا، فمثله كمثل طفل صغير يحاول عبثًا أن يحارب سيده ومولاه، ولله المثل الأعلى وهو العلي الكبير. ومن هؤلاء آكلو الربا وماحقو البركة من الأرض والسماء، رضوا بالحرام الممحوق، وتركوا الحلال المبارك، أفسدوا العباد والبلاد حتى منع القطر من السماء عقوبة من الله المنتقم الجبار، وأورثت الأمة بسبب ذلك ذلاً وصغارًا وضيقا وانكسارًا، فاللهم رحماك يا ربنا من هذا الذنب العظيم، اللهمّ لا تمنع عنا فضلك بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين. فاحذروا ـ رحمكم الله ـ من الربا قليله وكثيره، وتحروا في جميع بيعكم وشرائكم فإن أعداء الإسلام لبسوا على المسلمين دينهم، فتبعهم أبواق ممن ادعى الإسلام وما هم بمسلمين، وتذكروا قول الحق جل وعلا: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [البقرة:276]، وقوله: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ [الروم:39]، واعلموا أن صاحبه ملعون كما أخبر بذلك الصادق المصدوق وكل من أعانه عليه، فقد قال : ((لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)) ، وقال: ((هم سواء)).
واحذر من بيع النجش، وهو أن تزيد في سلعة ولا تريد شراءها لخداع غيرك، قال : ((المكر والخديعة في النار)). واحذر الرشوة أخذًا وعطاءً فإنها حرام، ((وأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به)). واحذر شهادة الزور وهي أن تشهد على أمر لم يقع بأنه وقع وفي الحقيقة أنه باطل، فكم من مظلوم أخذ بجرم لم يفعله، وكم من مال اقتطع بغير حق أو أعطي بغير حق، فويل لهم ثم ويل لهم يوم العرض على الله الملك الحق المبين.
ومما حرمه ربنا جل وعلا شرب الخمور، وهي من كبائر الذنوب، ومن شربها في الدنيا ولم يتب منها ومات عليها سقاه الله من طينة الخبال وهي عصارة أهل النار أعاذنا الله وإياكم منها، وحرم من شرب خمر في الجنة، وهي أم الخبائث لأن من شربها ذهب عقله فلا يميز ولا يعقل فيفعل كل ما حرم الله، فاحذروها تسلموا.
وأكرموا جيرانكم، واحفظوا حقوقهم، فقد أوصى بها ربنا جل وعلا من فوق سابع سماء لعظم حقه، فلا تؤذه في نفسه ولا أهله ولا ماله ولا بيته، وتذكر حديث رسول الله : ((ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ضننت أنه سيورثه)) ، وقال : ((والله لا يؤمن)) ثلاثًا، قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من لا يأمن جاره بوائقه)) ، فأحسن إلى جارك قدر استطاعتك، وتحمل إساءته، فإنك مأجور بإذن الله.
متعكم الله بصحتكم على طاعته، وأسعدكم بعيدكم في يومكم، واحذروا المعاصي كلها صغيرها وكبيرها وأنتم تتمتعون بنعمة ربكم في لباسكم وأكلكم وشربكم، واحذروا من الإسراف والمخيلة والطغيان على عباد الله، وأكثروا من ذكر الله وشكره على ما من به عليكم، وواسوا الفقراء والمساكين والأرامل والمعوزين من المسلمين، عسى ذلك أن ينفعكم عند رب العالمين، ولا تنسوا أن رب رمضان هو رب شوال والشهور كلها، فاستمروا في طاعة الله مما اعتدتموه في شهر الخير والبركات من الصيام والقيام وقراءة القرآن والذكر والدعاء والبر والمعروف والإحسان والطاعة، ليس لمنتهاها حد إلاّ الموت، وأوّل هذه الطاعات بعد رمضان صيام الست من شوال، فمن صامها بعد صيام رمضان كان كمن صام الدهر، ومن بقي له من رمضان أيام بعذر فعليه بالمسارعة في القضاء أداءً لحق الله، واحرصوا على الصلاة في جماعة المسلمين، وتضرعوا وتذللوا لربكم وأخبتوا له وسلوه القبول لشهركم وما أودعتموه فيه، وسلوه العفو عن الزلل والتقصير.
اللهم اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعدنا بطاعتك وتقواك، ولا تجعلنا من رحمتك مطرودين، ورضّني بقضائك، وانصرنا على أعدائك، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة دارنا وقرارنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير الشاكرين لربه والذاكرين، صلى الله عليه وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله حق تقواه، وراقبوه ولا تعصوه لعلكم تفلحون.
عباد الله: إن المرأة المسلمة هي ركيزة البيت المسلم والأسرة السعيدة، وكثيرًا ما تقع في بعض المحرمات جهلاً أو غفلة أو محاكاة للغير. وحيث إن الإنسان مجازًى بعمله ولا ينفعه أحد من أهل الأرض نسوق للمسلمة المتوضئة العابدة لربها بعضًا من المخالفات التي ندعو الله أن تدعها وتحذر منها وتتوب إلى ربها توبة صادقة.
فأولها وأهمها بعد الشهادتين تأخير الصلوات عن وقتها كصلاة العشاء وذلك بسبب ما تضعه من مساحيق عند الخروج من البيت والتأخر في العودة إلى المنزل مما يسبّب بدوره التأخر في النوم، ومن ثم قد لا تصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، وهذه من صفات المنافقين، هذا لمن تأخر عن الصلاة في وقتها، فكيف بمن لا تصلي؟! وتذكري إذا حافظت على صلاتك قول النبي : ((إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي الجنة من أيّ أبواب الجنة شئت)).
ثانيًا: عدم اهتمام الأخت المسلمة بزكاة المال والحلي التي تملكها إذا حال عليها الحول وبلغ النصاب، فعليها أن تزكي الحلي التي تملكها سواء لبسته أو لم تلبسه أو كنزته كما أفتى بذلك الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين حفظهما الله.
ثالثًا: سكوت المرأة على زوجها وأولادها الذين لا يصلون، ولتعلم أنها داعية وستسأل أمام ربها عما استرعاها أحفظت أم ضيّعت، ولتعلم المرأة أنها إذا كان زوجها لا يصلي أبدًا فإنه قد كفر والعياذ بالله، ويعتبر مرتدًا عن الإسلام، وعقدها يفسخ منه، ويحرم عليها معاشرته، فعليها بذل الجهد في الإصلاح والنصح له والدعاء له بالهداية والتوفيق.
وتهمل كثير من النساء لبس بناتها، فتلبسهم القصير الذي يظهر جسدها، فتعودها على السفور والتبرج من صغرها، فكيف إذا كبرت؟! ولا تهتم باختيار الملابس الساترة، ولا تتجنب الملابس المحرمة كالتي تحمل شعارات الكفار وتحمل الصور ذات الأرواح، فذلك كله لا يجوز. فلتتقي الله المرأة المسلمة في بناتها وأولادها.
ومن المخالفات خروج المرأة المسلمة في الأسواق باستمرار لغير الحاجة الملحة، فتكثر الكلام مع البائعين والخياطين، ويتعدى إلى الضحك والمزاح مع رفيقاتها في الأسواق أمام الرجال، ولم تسمع إلى قول المصطفى : ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان)). وتبع ذلك ما يحصل من متابعة النساء للموضة في الملابس والتسريحات والعطور والمساحيق مما لا يناسب عاداتنا الإسلامية مما غزانا به أعداء الإسلام من أبناء القردة والخنازير، فظهر علينا في نساء المسلمين من تلبس القصير والضيق والرقيق والبنطال الذي عمّ وانتشر في كثير من نساء المسلمين إلا من رحم الله وقليل ما هم، وبعدها ماذا تراك تجد؟ لا شك أنكم تلمسون كثرة خروج النساء متبرجات في الطرقات في الأسواق والنزهات والمساجد والمستشفيات إلا قليلاً ممن عصم الله، فترى من مظاهر التبرج والسفور كشف الوجه الذي هو محلّ فتنتها أو وضع النقاب الذي يظهر العينين وشيئا من الوجنتين والحواجب، فتفتن عباد الله في الطرقات، أو أن تضع غطاء رقيقًا، وظهر لنا من الموضة المشؤومة الملابس المفتوحة من الخلف والأمام بشكل مزري ومخجل ولكن لا خجل، ولبس الكعب العالي والعباءة المطرزة والمزركشة أو القصيرة، ثم نزلت بحكم الموضة فوضعت على الأكتاف بدلاً من الرأس والذي كان فيه ستر عظيم لجسد المرأة، أما الآن فحدث عن مفاتنها ولا حرج، ولا شك أن هذا من ضعف شخصية المرأة المسلمة، حيث إنها تتبع من أذلّ الله من نساء ورجال اليهود والنصارى ومن دعاة الحضارة المزعومة، وحقًا إنها الجاهلية بعينها، ولم تتذكر أختي المسلمة حديث ((رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة)) ، ولم تسمع قوله : ((صنفان من أهل النار لم أرهما بعد)) وذكر: ((ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها من مسيرة كذا وكذا)).
وتذكري أنك مخرجه من الدنيا بكفن تلفين فيه، واحذري من تغيير خلق الله فقد لعن رسول الله الواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والواصلة والمستوصلة والمتفلجات لأسنانها طلبًا للحسن، فاحذرن من لعن سيد المرسلين، واحذري بمن يقوم بهذا العمل لك وهنّ الكوفيرات، فاحذريهن رحمك الله.
ومما شاع وانتشر بين نساء المسلمين اختلاطهن بالرجال الأجانب كأخ الزوج وزوج الأخت وابن العم وابن الخال وغيرهم من غير المحارم، وتجلس معهم وتمازحهم ونسيت دينها وحياءها وحشمتها، فبأيّ حقّ تكلِّمين، ووقوع كثير من نساء المسلمين في الخلوة بالسائق وركوبها معه وحدها بدون محرم، ومن ذلك أيضًا دخولها على الأطباء الرجال للعلاج بحجة الضرورة، وهذا حرام، والضرورة ليست على أهوائنا بل حددها الشرع، وهي أن لا يمكن علاج هذا المرض إلا عند هذا الطبيب، وإلا سوف يؤدي عدم ذلك إلى المهلكة، فهل كل امرأة تحققت لها هذه الضرورة؟! وإن كان ولا بد وتحققت الضرورة فلا تذهب لوحدها، بل لا بد من مرافقة محرمها معها، وتظهر مكان الألم المحدد فقط، وتستر بقية جسدها.
واجتهدي ـ أختاه ـ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكم ترين من منكر وتسمعين وتمرين عليه وكأنه لا يعنيك، واذكري قول نبيك : ((من رأى منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).
وأخيرًا أختاه، بيتك ثم بيتك ثم بيتك، هو دوحتك الصغيرة التي تستظلي فيها من هجير هذه الدنيا، فاحرصي على أن يكون بيتًا إسلاميًا، واحرصي على طاعة زوجك والتودد إليه وعدم تحميله ما لا يطيق، وتحرّي فضله، وكوني له هاشة باشة، واحرصي على راحته، فإن حق زوجك عليك عظيم، وإنما هو جنتك ونارك، فانظري أين أنت منه، واتقي الله لو بشق تمرة، وتذكري قول حبيبك : ((يا معشر النساء، تصدقن وأكثرن الاستغفار؛ فإني رأيتكن أكثر أهل النار)).
اللهم احفظ نساء المسلمين واجعلهن قرة عين لأزواجهن وآبائهن وأبنائهن، اللهم احمهن من التبرج والسفور ومن تقليد نساء الكفرة واليهود، واجعلهن من العابدات التقيات النقيات الطاهرات، واجعلهن من الحور العين في الجنات، اللهم من أراد بهن سوءًا فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، اللهم اجعلنا لك ذاكرين لك شاكرين لك مطيعين لك مخبتين لك منيبين، ربنا تقبل توبتنا واغسل حوبتنا وأجب دعاءنا وثبّت حجّتنا واهد قلوبنا وسدّد ألسنتنا واسلل سخيمة قلوبنا يا ربّ العالمين.
(1/3569)
داء المسكرات والمخدرات
الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الذبائح والأطعمة, الكبائر والمعاصي
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
28/10/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله للإنسان. 2- نعمة العقل. 3- عناية الإسلام بحفظ العقل. 4- تحريم الخمر وبيان مفاسدها وأضرارها. 5- حقيقة الخمر. 6- سد الذرائع إلى المسكرات. 7- داء المخدرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فيا أيها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، إنَّ الله جل جلاله يقول في كتابه العزيز: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
أيّها المسلم، ممّا كرَّم الله به ابنَ آدمَ نعمةُ العقل، ميَّزه بها من بينِ سائرِ المخلوقاتِ، هذا العقلُ جعلَه الله مناطَ التّكليف، فمَن سُلِب عقله لم يكن من أهلِ التكليف، ((رُفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظَ، وعن المجنون حتى يفيقَ، وعن الصبيِّ حتى يبلغ)) [1]. إذًا فنِعمةُ العقلِ نعمة عظمَى من الله على العبد، يميِّز به النافعَ من الضارّ، ويعرف به مصالحَ دينِه ودنياه، ويميِّز به بين الحسَن والقبيح.
وقد ذمَّ الله أقوامًا عطّلوا عقولهم منَ التفكير بما ينفَعهم فقال في حقِّهم: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179]، وقالَ: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]؛ ولذا مِن الضّروريّاتِ الخمس التي جاءَت بها الشّريعة حمايةُ العقل وصيانتُه؛ لأنّ حمايةَ العقل تجعل الشخصَ يعيش سعيدًا حميدًا، وإذا فقَدَ هذه النّعمةَ أصبح عضوًا أشلّ في مجتمعه كلاًّ على أبويه أو على أسرته، ويكون ـ والعياذ بالله ـ في غايةِ من الذلّ والهوان، عافانا الله وإياكم.
ولأجل ذا حرِّمَت المسكرات والمخدرات، فجاءَتِ النّصوص القرآنية والأحاديث النبوية في تحريمِ المسكراتِ وبيان أضرارها ومفاسِدِها وإبعاد المسلم عنها بكلِّ طريق؛ لأنّ هذه المسكراتِ والمخدرات ما شاعت في مجتمعٍ إلا حطَّمت كيانه وقضت على أخلاقِهِ وأضعَفَت إدراكَ أهله، فأصبح ذلك المجتمعُ مجتمعًا منحرِفًا سلوكيًّا وأخلاقيًّا.
فالخمرُ أمّ الخبائث، وكلّ الخبائثِ تصدُر منها، فهي تسهِّل الوقوعَ في الجرائم على اختلافِها، وقد أجمع المسلمون إجماعًا قطعيًّا على تحريمِها إذ تحريمُها معلومٌ من دين الإسلام بالضرورة، ولو اعتقد شخصٌ حلَّها لقيل: هذا مرتدّ عن الإسلام والعياذ بالله؛ لأن المسلمين مجمِعون على أن من أحلَّ حرامًا عُلِم تحريم هذا الحرام من دِينِ الإسلام بالضرورة أن هذا مخالفة لشريعة الإسلام، أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
هذا العقلُ إذا سعَى العبد في إضعاف إدراكِه وإضعاف تصوّرِه بأن يتناولَ ما يضعِف إدراكَ هذا العقلِ ويقضي على تصوّرِه فإنه قد جنى على نفسِه جنايةً عظمى، نسأل الله لنا ولكم العافية.
إنَّ الله بعثَ محمّدًا بالهدى ودينِ الحقّ، فجاء بهذه الشريعة الكاملةِ التي فيها إسعادُ البشريّة في الدنيا والآخرة لمن وفَّقه الله لقبولها والعَمَل بها والوقوفِ عند حدودها، وإنَّ المجتمَعَ المسلم إذا شاعَ فيه الأمر بالمعروفِ والنهيّ عن المنكر والأخذ على أيدي السّفهاء وردّهم عن ضلالتهم والحيلولَة بينهم وبين ما يريدون من سفاسِفِ الأخلاق صَلح المجتمع واستقامت حاله. وعندما يتساهَلُ المسلمون بالأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر وعندما تضعُف الغَيرة في القلوب وعندما تشيع هذه المنكراتُ وتروج بين المجتمع فإنه داءٌ يهدِّد كيانَ الأمة ويؤذِن بخرابها، والعياذ بالله.
أيّها المسلمون، لقد حرَّم الإسلام الخمرَ في القرآنِ في آياتٍ واضِحات بيِّنات الدّلالة، فأخبر تعالى في قولِه جلّ وعلا: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67]، ففرَّق بين السَّكَر والرّزق الحسن، الرزق شيء والسّكَر شيء آخر. ثمّ بيَّن تعالى في آيةٍ أخرى أنَّ في الخمر منافعَ وأضرارا، ولكن ضرره أعظمُ من نفعه فقال: قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]. ثمّ نهى المسلِمِين عن تعاطِي المُسكِرِ عندَ إرادةِ الصلاة حتى يكونَ العقل حاضرًا في التدبُّر والتعقّل؛ إذ فاقِدُ العقل لا يدري ما يقول، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]؛ إذ السّكرانُ لا يعلم ما يقول، يهذِي بما لا يدري، ولا يتصوَّر ما يقول، ولهذا قال الله: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.
فلما روَّضهم لذلك جاءت الآية العامّة لتحرِّمَ الخمرَ في كلّ الأوقات واللحظات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90، 91].
هذه الآيةُ فيها تحريمُ الخمر، خاطَبَ الله عباده المؤمنين والمصدّقين المطبِّقين للأوامر المجتنِبين للنواهي، يقول لهم جل وعلا: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ، رجس وهي كَلِمة تطلَق على ما اشتدّ فُحشُه وقبحُه، وعَمَلُ الشيطان الأمر بالفحشاء والمنكر، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:169]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، وأمَر بالاجتنابِ وهو أعظمُ من التحريمِ ليشملَ التحريمَ وكلَّ الأسباب المفضِيَة لذلك: فَاجْتَنِبُوهُ ، وعلَّق الفلاحَ بالاجتناب بقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، فالفلاح إنما يحصل لمن اجتنبها وابتعد عنها. وذكَر أضرارَها ومفاسِدَها فقال: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ ، هذه الأضرارُ الاجتماعيّة التي تحدث من تعاطي هذا الداءِ الخبيث إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ، فأرباب المسكرات لا يتفرّقون إلا عن عداوة وبغضاء، وعن لغطٍ وكلامٍ وفُحش، وعن أقوالٍ قبيحة، فإنهم فقَدوا عقولهم، يتصرَّفون كما يتصرّف المجنون فاقدُ العقل والإدراك. وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ ، وهي أيضا تحول بين القلب وبين ذكر الله وبين أداءِ فرائض الإسلام؛ إذ فاقد العقلِ لا يدري ماذا هو فيه من حال.
أيها المسلمون، لقد حرَّم الشرع هذا الداءَ الخبيث، حرَّم هذه الخَمرةَ الخبيثة على المسلِم، محافظةً على كيانه، حمايةً لعقله، حمايةً لصحّته، حماية لماله، حماية لكيانه؛ ليعيش سعيدًا يعمُر الأرضَ بطاعة الله، ويؤدِّي الواجبَ عليه من حيث أداء ما افترَضَ الله عليه، ومن حيث القيامُ بمن أوجَبَ الله عليه القيامَ بشأنه.
أيها المسلم، هي أمُ الخبائث، هي مصدَر كلِّ خبيث، يتصرَّف شارِبها تصرّفَ المجنون، وربما قتَل، وربما سبَّ، وربما أفشَى سِرًّا، وربما تصرّف تصرّفاتٍ إذا ردَّ عليه عقلُه تصوّر حقًّا الأخطاءَ والمصائب التي وقعَ فيها.
الخمرُ حقيقتها كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الخمرُ ما خامَرَ العقلَ) [2] ، أي: ما غطّى العقلَ وسلبَه إدراكَه وفوائده، ما خامَرَ العقلَ من أيّ نوع كان، ((كلُّ مسكِرٍ خمر، وكلّ خمر حرام)) [3] ، من أيّ مادّة نشأ هذا السكر. والإسلام لم يفرِّق بين القليلِ والكثير منه، فقال: ((ما أسكر كثيره فقليلُه حرام)) [4] ، وقال: ((ما أسكر الفرَق منه فمِلءُ الكفِّ منه حرام)) [5].
والإسلام أغلَقَ الأسبابَ الموصِلة إلى الخمر، وحال بين المسلِمِ وبين هذه الخبائِثِ بكلِّ الطّرقِ، فلم يرضَ للمسلم أن يكونَ بائعًا لها، ولا مشتريًا لها، ولا حاملاً لها، ولا عاصِرًا أو ساقيًا لها، ولا آكلَ ثمنِها، ولا سمسارًا في ذلك، فهو إذًا لا يصنَع الخمرَ، ولا يعمَل في متجَرِ الخمر، ولا يروِّجها، ولا يصدِّرها، بل هو بعيدٌ كلَّ البعد عنها مع المسلم أو غيرِ المسلم، ولذا لعَن رسول الله في الخمرِ عشرةً، لعن الخمرةَ، ولعن عاصرها ومعتصِرها، ولعن حاملَها، ولعنَ شاربها، لعن المحمولةَ له، لعن بائعَها، لعَن مشتريَها، لعن من اشتُرِيَت له، لعن آكلَ ثمنها [6]. كلّ أولئك أعوانٌ على الإثم والعدوان، وكلُّهم مستحقّ للعنة الله، سواء شرِب أو لم يشرب، فالذي يبيعها ملعون، والذي يحمِلها ملعون، والذي يشتريها لنفسه ملعون، والذي يشتريها لغيره مَلعون، والذي يأكُل ثمنَها معلون بنصِّ رسول الله ؛ ليكون المسلم بعيدًا عن الإعانةِ على الإثم والعدوان بأيّ سبيلٍ وبأيّ طريق، يحمِي أموالَه من المكاسِبِ الخبيثة والمصادِرِ الإجرامية ليعيشَ بمالٍ طيِّب يُعينه على الخير والهدى.
أيّها المسلم، إنّ رسولَ الله مَنَع المسلمينَ أيضًا بعدَ تحريمها مِن أن يهدُوها لغير المسلمين، فرَجل أرادَ أن يهدي خمرًا فمنَعَه النبي، فقال: إذًا أكارِم بها اليهود، قال: ((الذي حرّمَها حرّم أن يكارَمَ بها)) ، قال: أبيعها، قال: ((الذي حرَّمَها حرّم بيعَها))، قال: ما أفعل؟ قال: ((أرِقها في البطحاء)) [7]. وحذَّر المسلمَ من مجالسة أصحاب المسكراتِ فقال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخرِ فلا يقعد على مائدةٍ يُدار عليها الخَمر)) [8]. وهي داءٌ وليست بدواءٍ، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لم يجعَلِ الله شفاءَكم فيما حرّم عليكم) [9].
إنَّ الواجبَ على المسلم البعدُ عنها، وأن يأخذَ على يدِ ولده ومن حولَه، ويحذرَّهم من شرورها، وإنَّ المجتمعَ واجبٌ عليه التعاونُ على البرّ والتقوى، وإنَّ وسائلَ الإعلام يجب أن تتحدَّث دائمًا عن أضرارِها ومفاسِدها ومساوئِها والنتائجِ الخطيرة المترتِّبة على متعاطيها؛ إذ حمايةُ المجتمَع من المسكرات والمخدّرات أمرٌ ضروريّ؛ لأنَّ المسلم إذا تصوَّر ضررَها وأخبِرَ عن مساوِئها فعسى الله أن يفتَحَ على قلبه فيجتَنِبَها.
إنّ مجالسةَ أصحاب السوء ومصاحبةَ أولئك المجرمين وسيلةٌ لأن يوقِعوا المسلمَ في هذا البلاء العظيم، فليتّقِ المسلم ربَّه، ليعلم حالَ من يجالسه وخُلُقَ من يجالسه، أهو مستقيم على خير أم هو منحرِف وبعيدٌ عن الهوى؟ فيترفَّع عن مجالسِ السوء. رُفِع لعمرَ بن عبد العزيز رحمه الله قومٌ شرِبوا الخمرَ وبينهم من هو صائم، قال: (به فابدؤوا، ألم تسمعوا الله يقول: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء:140]) [10].
أيّها المسلم، إنَّ نبيَّنا يقول: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمرَ حين يشرَبها وهو مؤمن)) [11] ، ويقول : ((مَن شرِب الخمرَ فسكِر لم تقبَل له صلاةٌ أربعين يومًا، فإن تاب تاب الله عليه، وإن لم يتب أدخَلَه الله النار)) [12].
فيا أيّها المسلم، احفَظ عقلك، صن عقلك من الانهيار والضّعف، فاعتمِد على الله، واعلَم أنَّ هذا الداءَ الخبيثَ لا يزيل عنك همًّا، ولا يفرِّج عنك كربًا، كم من أناسٍ جعلوا هذا الداءَ تسليةً لهمومهم كما يزعمون ووَقَعوا في أعظمَ بلاءً مما فرّوا منه.
فلنتَّقِ الله في أنفسنا، ولنتعاوَن على البرّ والتقوى، والمجتمَع المسلم مسؤول عن التّعاون على الخير، وإنّ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر من ضروريّةِ حماية المجتمَع ووقايتِه من الكوارِثِ.
حفِظ الله مجتمعنا والمجتمعات الإسلامية من كل سوء، وأعاننا وإيّاكم على الخير، وجنَّبنا وإيّاكم طرقَ الغيّ والضلال.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيمَ الجلِيلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه أحمد (6/100، 101، 144)، وأبو داود في الحدود (4398)، والنسائي في الطلاق (3432)، وابن ماجه في الطلاق (2041)، والدارمي في الحدود (2296)، وأبو يعلى (4400)، والبيهقي في الكبرى (6/84) عن عائشة رضي الله عنها بنحوه، وصححه ابن الجارود (148، 808)، وابن حبان (142)، والحاكم (2350)، وصححه الألباني في الإرواء (297). وفي الباب عن علي شداد بن أوس وثوبان وأبي قتادة وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.
[2] أخرجه البخاري في الأشربة (5581، 5588)، ومسلم في التفسير (3032).
[3] رواه مسلم في الأشربة (2003) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[4] أخرجه أحمد (3/343)، وأبو داود في الأشربة (3681)، والترمذي في الأشربة (1865)، وابن ماجه في الأشربة (3393) عن جابر رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من حديث جابر"، وصححه ابن الجارود (860)، وله شواهد كثيرة عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو وسعد بن أبي وقاص وعائشة وخوات بن جبير وعلي وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، انظر: تلخيص الحبير (4/73)، والإرواء (2375).
[5] رواه أحمد (6/71، 72، 131)، وأبو داود في الأشربة (3687)، والترمذي في الأشربة (1866)، وأبو يعلى (4360) عن عائشة رضي الله عنها، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن"، وأقره المنذري، وصححه ابن الجارود (861)، وابن حبان (5383)، وأعله الدارقطني بالوقف، وصححه الألباني في الإرواء (2376).
[6] أخرجه الترمذي في البيوع (1295)، وابن ماجه في الأشربة (3381) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب من حديث أنس، وقد روي نحو هذا عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر عن النبي "، وقال الحافظ في التلخيص (4/73): "رواته ثقات"، وصححه الألباني في غاية المرام (60).
[7] رواه الحميدي (1034) عن رجل عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وهذا إسناد ضعيف لجهالة الراوي عن أبي هريرة، وقد ضعفه الألباني في غاية المرام (63).
[8] أخرجه أحمد (1/20)، وأبو يعلى (251)، والبيهقي (7/266) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (1/277): "فيه رجل لم يسم"، وله شواهد من حديث جابر وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، ولذا صححه الألباني في الإرواء (1949).
[9] علقه البخاري مجزوما به في كتاب الأشربة، باب: شراب الحلواء والعسل، ووصله ابن أبي شيبة (5/38، 75)، والطحاوي في شرح المعاني (1/109)، والطبراني في الكبير (9/345)، والحاكم (7509)، قال الهيثمي في المجمع (5/86): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه ابن حجر في الفتح (10/79)، ووافقه الألباني في غاية المرام (30).
[10] رواه الطبري في تفسيره (5/330) بنحوه.
[11] أخرجه البخاري في الأشربة (5578)، ومسلم في الإيمان (57) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[12] أخرجه أحمد (2/176)، وابن ماجه في الأشربة (3377)، والدارمي في الأشربة (2091)، والبزار (2469، 2493) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه، وصححه ابن حبان (5357)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (2722). وفي الباب عن ابن عمر وأبي ذر وابن عباس رضي الله عنهم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عِبادَ الله، عَلِمنا حكمَ الله في الخمورِ والمسكِرات، وهنا ـ والعياذ بالله ـ بلاءٌ أشدُّ منها، هناك داء المخدِّرات، هذا الدّاء العظيم الفتّاك الذي يفتك في المجتمعات ويقضِي على كيان الإنسان ويحوِّله من شخصٍ يؤمَّل فيه الخير إلى أن يكونَ ـ والعياذ بالله ـ شخصًا فاقدَ المعنويّة والكرامة.
هذا داءُ المخدِّرات وجِدَ في العالم الإسلامي في القرنِ الثامن، أتى به التّتَر المغول لما غَزَوا ديارَ الإسلام، فلما رأى علماءُ المسلمين تلك الحشيشةَ المخدِّرة ورأوا آثارها على متعاطِيها حكَموا عليها بالحرمة، وأنَّ حرمتَها أشدّ من حرمةِ الخمر؛ لأنها أعظمُ من الخمر، رغمَ ما في الخمر من أضرارٍ ومفاسد، إلا أنَّ ضرر هذا المخدِّر فاق المسكرَ، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وقد سبر حالَ هذه المخدِّرات ورأى ما تصنَع بمتعاطيها قال: "إنَّ من تدبَّرها وجدَ فيها من المفاسِدِ ما يزيد على الخمرِ بمئاتٍ المرات".
ذلك أنَّ هذا المخدِّرَ بلاءٌ عظيم وفساد ذريع، سلاحٌ بأيدي أعداء الإسلام لتدمير كيان الأمة وإضعاف أخلاقها والقضاءِ على معنويّاتها وإذلالِها وإخضاعِها لكلِّ ما يريدون بها من بلاءٍ، هكذا المخدِّر سلاحٌ بأيدِي أعداء الإسلام، يهدِّدون به الأمّةَ، ويضعفون كيانَ العالم الإسلامي، ويذلّلونه ويسلِّطون عليه هذا الداءَ حتى ينسَى واقعه ومجتمَعَه، ويصبِح دائمًا متخلِّفًا عن الركب، لا يستطيع أن يسايرَ أولئك في تقدّمِهم ورقيِّهم المادّي، مع ما يفرِزُه من فسادِ الأخلاق وانحرافٍ في السلوك.
إنّ هذا المخدِّر بلاء عظيم، فهو سبب لخدورِ الجسم وسبب فتور الأعصابِ وهبوطِ الصحّة، مع ما يحدثه من خَوَر في الإنسان ومُيوعة وعدَم شعورٍ بالواجب، حتى يكون متعاطي هذا المخدِّر لا يدرِك ولا يتصوَّر واقعه، تقتَلِع الغَيرةَ من قلبه، وتفتح له بابَ الشّهواتِ، وتجعَله ديّوثًا والعياذ بالله، يقِرّ الفاحشةَ في أهله ونفسه، لا يدري ولا يتصوَّر عن واقعه. إنها قتلٌ للمعنويات وإذلالٌ للإنسان، نسأل الله لنا ولكم السلامةَ والعافية.
ولهذا ليعلَمْ من يروِّجُها ومن يسعى في بيعِها ومن يعين أنّه قد عصَى الله ورسولَه وارتكب إثمًا عظيمًا ووزرًا كبيرًا، ارتكب كبيرةً من كبائر الذنوب، ارتكب إثمًا عظيمًا، فالمكاسب كلّها خبيثة، مكاسب خبيثة ومكاسب سيّئة جلبت عليه لعنةَ الله عليه، نسأل الله السلامة والعافية.
إنَّ هذه المخدراتِ هي والله داء عُضال، بلاءٌ على الأمّة، مصيبة في العالم الإسلامي، فالدّوَل الإسلامية التي فشا فيها هذا البلاءُ وأعداءُ الإسلام وراءَ ذلك البلاء، حملاتٌ شرِسَة ضدَّ العالم الإسلاميّ، ليسلِّطوا عليه هذا السلاحَ الفتّاك الذي ينسيه دينَه ودنياه، ويسلب عقلَه، ويحوِّل فكرَه، ويجعله يعيش لا يتصوَّر واقعَه ولا ما حوله، فهذا بلاءٌ عظيم، نسأل الله أن يعافيَ الجميعَ من كلّ بلاءٍ، وأن يحفظَ بلادَ المسلمين من هذا البلاء، ويرزقَ من ابتُلي به التوبةَ إلى الله والرجوعَ إليه والاستقامةَ على الهدَى، إنه على كل شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسَنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّدٍ ، وشرَّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجمَاعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله عَلى الجماعةِ، ومن شذّ شذَّ في النارِ.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِه الراشِدين...
(1/3570)
الوحدة الإسلامية
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم, قضايا دعوية, محاسن الشريعة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الوحدة في حياة الأمة الإسلامية. 2- السبل الكفيلة بتحقيق الوحدة الإسلامية: تعميق الشعور بالأصول الإيمانية، العمل على تأليف القلوب، إحياء الأخوة الحقّة، التسامي فوق الخلافات الشخصية، تحاشي الانقسام في شأن الأعداء. 2- تحذير الشرع من التباغض وهجر المسلمين.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فبالوحدة الإسلامية والأُخوة الإيمانية سطعتْ شمسُ الإسلامِ على العالم، وامتدتْ فتوحاتُه في الشرق والغرب، وخَضَعتْ له دولٌ وممالك قرونًا طويلةً من الزمان. وبغياب الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية انحلَّتْ عُرانا، ووهَنَتْ قُوانا، وتداعتْ علينا الأممُ كما تَداعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها.
والحقُّ أنَّ الأمة الإسلامية تملك من أسباب الوحدة وأواصر الأخوة وقوة الإرادة وإصرار العزيمة ما يجعلها قادرة على تجاوز هذه المحن وتغيير هذا الواقع. وأول خطوة يجب أن نقوم بها في الطريق إلى تحقيق الوحدة والتحقق بها هي تعميق الإحساس والشعور بالأسس والأصول الإيمانية للوحدة الإسلامية من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قال تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون [الأنبياء:92]، وقال تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير [البقرة:285]، وقال رسول الله في تعريف الإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)). إنَّ هذه الأسس والأصول أوثق وأكبر ضمان للوحدة المنشودة إلى آخر الدهر، ومن ثَمَّ يجب تعميق الإحساس والشعور بها.
والخطوةُ الثانيةُ ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ التي يجب أن نقوم بها في الطريق إلى تحقيق الوحدة والتحقق بها هي العمل على ائتلاف القلوب والمشاعر وإذكاء وإنماء عاطفة الحب والتراحم. لقد كان تأليفُ القلوب بابَ الإسلام إلى تحقيق نعمة الوحدة والأخوة بين المؤمنين، ومِنْ ثَمَّ إلى تحقيق النصر المبين، قال تعالى: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون [آل عمران:103]، وقال تعالى: وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63].
والإسلامُ الذي فعل هذا بالأمس وأطفأ نار العداوةِ بين الأوس والخزرج وأنقذ الأمة من شفا حفرة من النار قادرٌ على أن يفعل مثله اليوم؛ لأن ائتلاف القلوب والمشاعر والاصطباغ بصبغة التواد والتراحم والتعاطف سمة من سمات المؤمنين وخصيصة من خصائص الإيمان، وفي الحديث الشريف عن رسول الله : ((مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثَلُ الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعَى له سائرُ الجسد بالسهر والحمى)) ، وقال رسول الله : ((المؤمن يأْلَفُ ويُؤْلَفُ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) ، وقال رسول الله : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسه)). بهذا الحب وبهذا التآلف وبهذا التراحم والتعاطف تتحقق الوحدةُ الإسلامية والأخوةُ الإيمانية، وبغير هذا لا تقوم وحدة ولا تتحقق أخوة.
والخطوة الثالثة ـ عبادَ الله ـ التي يجب أن نقوم بها على طريق تحقيق الوحدة الإسلامية والتحقق بها هي إحياءُ الأخوة الحقّة التي تثمر الحب والإيثار والتعاون والتناصر المؤثر الفَّعال، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، وقال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة:2].
وتعالوْا بنا ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ نتأملْ صورة المجتمع الإسلامي الأول؛ لنرى كيف بَنَى رسولُ الله وحْدَتَهُ الإسلامية وأُخُوَّتَهُ الإيمانية على خُلُق الحب والإيثار. قال تعالى: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:8-10].
وقد طالبَنا القرآنُ الكريم ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ بإحكام الوحدة الإسلامية وتأصيلها وتفعيلها بالتآزر والتناصر بين المؤمنين، ولفَتَ أنظارنا إلى أن أعداءنا يوالي بعضُهم بعضًا، وحَذَّرنا من التفريط في هذه الموالاة، وبَصَّرنا بالعواقب الوخيمة والنتائج السيئة المترتبة على ترك التناصر والموالاة، قال تعالى: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ [الأنفال:72-73]، وفي الحديث الشريف عن رسول الله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضا)) ، وقال رسول الله : ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه)).
والخطوة الرابعة ـ عباد الله ـ التي يجب أن نقوم بها في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية والتحقق بها هي أن نتسامَى فوق خلافاتنا، وأن نضرب بها عرض الحائط، وأن نترفع لصالح الإسلام والوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية عن المصالح الشخصية والمنافع الدنيوية، قال تعالى يعظ المؤمنين في الأنفال التي اختلفوا عليها بعد انتصارهم في غزوة بدر: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [الأنفال:1].
إنَّ التنازع والاختلاف وفساد ذات البين يُضْعِفُ الأقوياء ويُهْلِكُ الضعفاء، بينما التعاضد والاتحاد وإصلاح ذات البين يَصْنَع النصر المحقق والقوة المرهوبة، قال تعالى: وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، وقال رسول الله : ((ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاحُ ذاتِ البيْن، فإنَّ فسادَ ذاتِ البيْن هي الحالقة)) ، وقال رسول الله : ((دَبَّ إليكم داءُ الأمم قبلكم: الحسدُ والبغضاءُ، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشَّعْر، ولكن تحلق الدِّين)).
والخطوةُ الخامسة ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ التي يجب أن نقوم بها في سبيل الوحدة الإسلامية والتحقق بها هي أن نتحاشَى الانقسام في شأن أعدائنا؛ لأن الانقسام في شأنهم يشوه صورتنا، ويضعف قوتنا، ويَصُبُّ في الأخير في مصلحتهم لا في مصلحتنا، ولذلك قال جلَّ شأنه منكرًا على المؤمنين اختلافهم في شأن المنافقين: فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً [النساء:88].
أيها الإخوة المؤمنون، إن الوحدة التي يقيمها الإسلام ليستْ عصبيةً من العصبيات، وليس فيها أيُّ تهديد لأي مجتمع من المجتمعات، وإنما هي طريق وسبيل إلى بناء أمة فاضلة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله، وتَخْلُفُ نبيها في إيصال الرحمة إلى العالمين، قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ. وقد أعلن رسول الله في خطبته العالمية يوم حجة الوداع عن اعتدال الإسلام ووسطيته عندما أكد على أن الإنسانية كلها أسرة واحدة: ربُّها واحد، وأبوها واحد، فقال: ((إنَّ ربكم واحد، وإن أباكم واحد)).
أيها الإخوة المؤمنون، ولزامًا علينا ونحن نتحدث عن الوحدة الإسلامية أن نَعْرِفَ الفضلَ لأهل الفضل، وأنْ نُشِيدَ بتجربة هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين، وقبلة المسلمين في إقامة الوحدة المنشودة بين الناس.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي قيادتنا الحكيمة عنا وعن المسلمين خير الجزاء، وأن يبارك هذه الوحدة، وأن يحفظ أمن واستقرار هذا البلد، وأن يجعله وسائر بلاد المسلمين سخاءً رخاءً آمنًا مطمئنًا، إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أولاً وآخرًا، والشكر له باطنًا وظاهرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الإخوة في الله، ولما للوحدة والتضامن والاجتماع والإخاء من منزلة عظيمة وآثار فريدة، ولما للفرقة والخلاف والتنازع والشقاق من آفات وأمراض كثيرة وشرور مستطيرة، فقد جاء ديننا الحنيف بالحث على التآلف والمودة واجتماع الكلمة ووحدة الصفوف والتحذير الشديد من التنافر والفرقة والشقاق والتنازع، فكان من أهم ما جاء به الإسلام بعد عقيدة التوحيد وكلمة التوحيد توحيد الكلمة ولمّ الشعث وجمع الشمل؛ لأن في ذلك سر بقاء أهل الإسلام، وضمانة انتصارهم على أعدائهم، وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، روى مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله قال: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تُناصحوا من ولاّه الله أمركم)) ، وقد ضُمنِت لهم العصمة من الخطأ عند اجتماعهم، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقت، وستفترق على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلَّمة من عذاب النار، وهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي وأصحابه.
فاتقوا الله عباد الله، وأذكوا روابط الإخاء الإسلامي بينكم، وغذّوا وشائج الصدق والمحبة في مجتمعاتكم، واعلموا أنه لا علاج لداء الفرقة والخلاف والتفكك الاجتماعي إلا بتتبع أسبابه وأعراضه، والجد في القضاء عليها، يصحب ذلك نية صالحة وعزيمة صادقة ورغبة وقناعة واحتساب فيما عند الله من الأجر والثواب، وتذكر الله والدار الآخرة، وتحكيم للشرع الحق والعقل الفذ، والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ، وليكن كل واحد منكم ـ أيها المسلمون ـ جادًا في علاج هذا الداء العضال، ويكون مفتاحًا للخير والفضيلة، مغلاقًا للشر والفتنة والقطيعة والرذيلة.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي أنه نهى أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث ليال، كما نهى عن التدابر والتقاطع والتحاسد والتباغض، وأن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، فعمل على التحريش بينهم، وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ [الإسراء:53]، وإنه حينما ترفع الأعمال إلى الله في كل يوم اثنين وخميس يغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلحا.
إن حقًا على كل متشاحنين لا سيما من القرابة والأرحام والإخوة في الله أن يصطلحوا، وأن يجمعوا قلوبهم، وأن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يستعيذوا بالله من نزغات الشيطان الرجيم.
فيا أيها المتشاحنون، اصطلحوا فيما بينكم، فإن متاع الدنيا قليل. ويا أيها المتخاصمون، سطروا على صفحات مجتمعاتكم أحرف الوفاء والإخاء والمحبة والوئام، أريحوا المحاكم ودور الشرطة عن الرفع بالخصومات والمشكلات، وعاهدوا ربكم أن تكونوا إخوة متحابين كما أراد الله لكم، وكما كان سلفكم الصالح رحمهم الله، فحققوا الخير لأنفسكم ومجتمعاتكم.
ألا وإن من أهم أوجه الوحدة والبعد عن الخلاف وحدة العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله وائتلاف قلوبهم والتزامهم بالجماعة، وتفويت الفرص على الأعداء المتربصين، وفقه الخلاف وضوابط الحوار، والتعقل والحكمة وسلامة الصدور؛ ليتحقق لهم الخير الذي يريدون، والأمة جميعها مطالبة ـ قادتها وشعوبها علماؤها وعامتها شبابها وشيبها رجالها ونساؤها صغارها وكبارها ـ أن تجتمع على عقيدة التوحيد الصافية السليمة من لوثات الشرك والبدع وتخصيص بعض الأزمنة، لا هذا الشهر ولا غيره بعبادات لم يشرعها الله عز وجل، ولم يأت بها رسول الهدى ، ولم يسر عليها سلف هذه الأمة.
جمع الله القلوب، ووحد الصفوف، وأغاض الأعداء بتضامن المسلمين بمنه وكرمه.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على البشير النذير والسراج المنير، كما أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين...
(1/3571)
إنما المؤمنون إخوة
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الأخوة في بناء المجتمع المسلم. 2- فضائل التآخي في الله تعالى في الدنيا والآخرة. 3- من الحقوق الواجبة على الإخوة في الله تعالى. 4- أروع الصور العملية للتآخي في الله تعالى.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنه من يتقِ الله يجعلْ له من أمرِه يُسرًا، وأحَذركُم وإيايَ من عصيانه ومخالفةِ أمره، فإنه من يعصِ الله تكنْ عاقبة أمره خُسرًا.
أيها المسلمون، يقول الله تعالى في كتابه العزيز وهو أصدق القائلين: وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
جماعة المسلمين، إن هذه الآية الكريمة تدعوكم إلى الاعتصام بحبل الله المتين، وإلى أن تكونوا إخوة في الله متحابين، وتُذَكِّرُكُم بنعمة الله عليكم، حيثُ نَزَعَ ربكم العداوةَ والبغضاءَ من قلوب آبائكم المسلمين الأولين، وألَّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا متآلفين، وأنقذهم من عصبية الجاهلية الأولى، حين أصلح بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصارِ، فملأ الحبُّ قلوبَهُم، وغَمَرَ الإخلاصُ حياتَهم، فسبحان مقلبِ القلوبِ والأبصارِ، ومحولِ الحولِ والأحوالِ، الذي قال عز من قائل: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63]. وسبحان من حَكَمَ بأُخوَّةِ المؤمنين وأمر بالإصلاح بينهم فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10].
أمة الإسلام، والمؤاخاة في الله دِعامةٌ قويةٌ من دعائم بناءِ المجتمع الإسلامي، ورابطة متينة تربط بين أبنائِه برباط المحبة والمودة الذي يثمر مجتمعًا متماسك البنيان، يشعر كل فردٍ فيه بأنه عضوٌ في جسد يشارك بقيةَ الأعضاءِ في الآمال والآلام والأفراح والأحزان؛ لأنها أُخوةٌ فاقتْ أُخوةَ النسبِ، إنها الأُخوَّةُ التي جعلتْ سيدَنا مصعبَ بن عميرٍ رضي الله عنه حين رأى أخاه أبا عزيزِ بنَ عُمَير وقد أسره أحدُ الأنصار، فقال له سيدنا مصعب: شُدَّ يَديكَ بهِ، فإنَّ أمَّهُ ذاتُ مَتاعٍ، لعلها تفديه منكَ، فقال أبو عزيز لسيدنا مصعب: يا أخي، يا ابن أبي، هذه وصَاتُكَ بي؟! أي: هذه وصيتك بأخيك أن يشدَّ يديه عليَّ بدلاً من أنْ تَفُكَّ أسْري؟! فقال له سيدنا مصعب: لا، إنه أخي دونَك، أي: لا عبرة اليوم بأخوة النَّسب، وإنما العبرة بأخوة الإسلام. رضوان الله عليك يا مصعبُ بنَ عمير، وجزاك الله عن أُخُوَّةِ الإسلام خيرَ الجزاء، فقد وصلتَ رحِمَ الإسلام الذي ربط بينك وبين أبي اليُسْر الذي أسر أخاك أبا عزيز، وجعلتَه فوقَ رحم النسب، فيا ليت قومي يعلمون.
أيها المسلمون، ويوم أن تفاخر بعض العرب بمجدِ آبائهم وأجدادهم، وكان بينهم سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه قال سلمان:
أبيِ الإسلامُ لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقيسٍ أو تَميمِ
عباد الله، إن التآخيَ في الله قُربةٌ من أفضل القربات وطاعة من أشرف الطاعات؛ لأنها تُجسِّدُ قول النبي : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) ، وقولَه : ((مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مَثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).
تلكم هي الأخوةُ الصادقةُ التي تُثْمِرُ المحبة والتآلف بين أبناءِ الدينِ الواحدِ، بل هناك أخوَّةٌ ترجع بنا إلى أبي البشرية آدمَ وأُمِّها حواءَ، يؤكدُّها قولُ اللهِ سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
ويدل عليها ما حدَّثنا به التاريخ أنَّ رجلاً ذهب إلى سيدنا معاويةَ بنِ أبي سفيانَ رضي الله عنهما لِحاجةٍ له، فلما أراد الدخولَ عليه قال له الحاجب: من أنت؟ قال: أنا أخوه، فلما أخبرَ الحاجبُ معاويةَ بذلك قال له: أما تعرف أخي؟! فأجابه الحاجب: أنا ما رأيت هذا الأخَ من قبل يا أمير المؤمنين، قال: فلتأذن له بالدخول، فلما دخل قال له معاوية: كيف قلت للحاجب إنك أخي؟! قال: أما تعرف أني أخوك؟! قال: كيف؟! قال: أبي وأبوك آدمُ، وأمي وأمُّك حواءُ، أليست هذه أُخوَّة؟! قال سيدنا معاويةُ: صدقتَ، هذه رحمٌ قطعناها، فنسأل الله المغفرة.
عباد الله، والأُخوة الصادقة في الله تتطلبُ من أصحابها أن يكونَ التعاونُ بينهم مبنيًا على التناصحِ والتراحمِ والوفاءِ والإخلاصِ، بحيث يحبُّ كل واحد من أفراد الأمة لأخيه ما يحبُّ لنفسه، حتى نتمثَّلَ قولَ الله تعالى: مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:29]، وحتى يَصْدقَ عليهم قولُ رسول الله : ((المسلم أخو المسلم لا يَظلمه ولا يُسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج الله عنه بها كربةً من كربِ يوم القيامة، ومن سَتر مسلمًا سترَهُ الله يوم القيامة)).
أيها المسلمون، والأُخُوَّة في الله تكون أمانًا للعبد من عذاب الله يوم القيامة، وترفع شأنه عند ربِّه في يوم تشخص فيه الأبصار، وتُطَمْئِنُهُ من الفزع الأكبر يوم يتذكر الإنسان ما سعى، يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذٍ لله، مِصداقُ ذلك قول النبي : ((إن لله عبادًا ليسوا بأنبياءَ ولا شهداءَ، يَغْبِطُهم النبيون والشهداءُ لقُربهم ومقعدهم من الله يوم القيامة))، فقال أعرابي: حدِّثْنَا يا رسول الله من هم؟ فقال: ((هم عباد من عباد الله، من بلدانٍ شتَّى وقبائلَ شتَّى، لم يكن بينهم أرحامٌ يتواصلون بها، ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابُّون بروح الله، يجعل الله وجُوهَهُم نورًا، وتُجعلُ لهم منابرُ من نور، قُدَّامَ عرش الرحمن، يفزَع الناس ولا يفزَعون، ويخافُ الناس ولا يخافون)).
عباد الله، وإذا كان الله قد جعل هذه المنزلةَ للمتآخينَ فيه والمتزاورين فيه والمتجالسين فيه فما ذلك إلا لأنه يُحبُّهُم، وهل يَبتغي المسلم شيئًا بعد حب الله تعالى له؟! مَن ذا الذي يرى هذا العطاء ثم لا يسارع إليه؟! من ذا الذي يرى هذا العرضَ السخيَّ من الكريمِ الجوَاد ثم يُعرض عنه؟!
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((إن رجلاً زار أخًا له في قرية فأرصد الله تعالى على مَدْرَجَتِهِ ـ أي: أرسل في طريقه ـ ملَكًا، فلما أتى عليه قال له: أين تريد؟ قال أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها ـ يعني: هل له حاجة تريد أن تقضيها له؟ ـ قال: لا، غير أني أحببته في الله، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)).
أحِبَّتِي في الله، وها هو ربكم يقول في الحديث القدسي الجليل: ((وجبتْ محبتي للمتحابين فيَّ والمتجالسين فيَّ والمتباذلين فيَّ والمتزاورين فيَّ)).
أيها المؤمنون، إن سعادة الدارين مكفولةٌ للذين يتآخَوْن في الله، فتراهم في الدنيا سعداءَ فَرِحينَ، وبإخوانهم مسرورين، وبمحبتهم مغتبطين، يتعاونون على البر والتقوى، ويتواصَوْن بالحق والصبر، يقضُون مصالحَ المسلمين، ويهتمُّون بأمور المؤمنين، يغفرون الزلات، ويسترون العورات، ويتجاوزون عن السيئات، أمَّا في الآخرة فحسبهم قولُ النبي : ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) ، وقولُ أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: (عليكم بالإخوان، فإنهم عُدَّةٌ في الدنيا والآخرة، ألا تسمعون إلى قول أهل النار: فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ? ولا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء:100، 101])، وقولُ سيدنا عبد الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما: (والله، لو صمتُ النهار لا أفطرهُ وقُمتُ الليل لا أنامه وأنفقت مالي غَلَقًا غَلَقًا في سبيل الله أموتُ يوم أموتُ وليس في قلبي حبٌ لأهل طاعة الله وبغضٌ لأهل معصية الله ما نفعني ذلك شيئًا)، وقولُ ابن السماك عند موته: "اللهم إنك تعلم أني إذا كنت أعصيك كنتُ أحب من يطيعك، فاجعل ذلك قُربةً لي إليك".
إخوة الإسلام، وللأُخوَّة في الله حقوقٌ يجب الوفاءُ بها، فمنها: الإيثار على النفس، وقد بدا هذا واضحًا لَدَى الأنصار الذين آثروا المهاجرين على أنفسهم فاستحقوا وصف الله لهم بقوله تعالى: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9]. قال ابن عمر رضي الله عنهما: أُهْدِيَ لرجل من أصحاب رسول الله رأسُ شاة فقال: أخي فلان أحوج مني إليه، فبعث به إليه، فبعثه ذلك الإنسان إلى آخرَ، فلم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة.
إخواني في الله، وإن تعجبوا من مثل هذه الأمور فالعجب مما جَاءَ عن أبي سليمان الداراني أنه قال: "لو أن الدنيا كلَّها لي فجعلتُها في فم أخٍ من إخواني لاستقللتُها عليه"، وقال: "إني لأُلْقِمُ اللقمة أخًا من إخواني فأجد طعمها في حلقي". أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فيقول: (لَعِشرون درهمًا أعطيها أخي في الله أحب إليّ من أن أتصدق بمائة درهم على المساكين)، ويقول أيضًا: (لأَنْ أصنع صاعًا من طعام وأجمعَ عليه إخواني في الله أحبُّ إليَّ مِنْ أن أعْتِقَ رقبة).
فيا أيها الأحبَّة، تآخوا في الله تسعدوا، واغفروا زلات إخوانكم تؤجروا، واستروا عوراتِهم في الدنيا يسترْكم ربُّكم في الآخرة، واذكروا محاسنهم، وغضوا الطرف عن مساوئهم، فَتِلْكُم حقيقة الأخوَّةِ في الله، يقول الشاعر:
خذ من خليلك ما صفا ودع الذي فيه الكدرْ
فالعمر أقصر من مُعَا تَبَةِ الخليل على الغِيَرْ
والكريم ـ أيها السادة ـ لا ينسى أخاه في ساعة العسرة، يقول الشاعر:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
عباد الله، يقول رسول الله : ((إياكم والظنَّ، فإن الظن أكذبُ الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا كما أمركم، المسلم أخو المسلم، لا يظلمُهُ، ولا يخذُلُه، ولا يَحْقِرُهُ، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا ـ وأشار إلى صدره ـ ، بحسْبِ امرئٍ من الشرِّ أن يحقرَ أخاه المسلمَ، كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ دمُه، ومالُه، وعرضُه)).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي اجتبانا لطاعته، وأخلصنا لعبادته، أعز المؤمنين بعزته، وأذل المشركين بجبروته وقدرته، سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل المؤمنين إخوة في الله، وحبب إليهم الإيمان، وملأ وجدانهم سكينة وأمنًا، فائتلفت منهم القلوب، وصفت النفوس، ذكرنا سبحانه بجليل نعمته، وامتن علينا بكريم هدايته: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103].
فإن من أجلّ نعم الله تعالى علينا ـ أمة الإسلام ـ وأحقها بالشكر نعمة الإيمان والإسلام والإخاء في الله تعالى، وهي نعمة تردد ذكرها في كتاب الله تعالى في أكثر من آية كريمة، قال تعالى: وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
فنعمة الإسلام هي النعمة الكبرى التي جمع الله تعالى المسلمين تحت ظلالها الوارفة؛ لينعموا بما في الإخاء الإسلامي من محبة وإيثار، وتعاون وتكافل ورحمة، وصدق الله العظيم: مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بينهم [الفتح:29]، وهذه الرحمة تتجاوز كل دواعي الشح والبخل، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].
ونعمة الإخاء هذه تجلت في أروع صورها في حياة الرسول وسيرته مع أصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. وكانت الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة وهجرة المسلمين السابقين هي الصورة المثلى لذلك الإخاء الإسلامي الذي قدم للإنسانية أروع صور المحبة والإخاء والإيثار، وتتحدث كتب السير عن أنه لم ينزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة، وذلك من تسابق الأنصار على استضافة المهاجرين الوافدين من مكة إلى المدينة فرارًا بدينهم من وجه طغيان الشرك والمشركين.
وقد حرم الإسلام كل ما يؤذي المسلم في أي جانب من جوانب حياته، يقول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه معلمًا لنا وللإنسانية جمعاء: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله))، ويقول نبي الرحمة: ((المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة)) متفق عليه.
هذه آيات ربنا وسنة نبينا وأخلاق سلفنا الصالح، بها عز المسلمون وسادوا ودانت لهم الدنيا، يوم أن كانوا إخوة متحابين في الله، لا تشغلهم نزغات أنفسهم عن أنوار الهداية الربانية، يتوجهون إلى الله تعالى بالدعاء ضارعين: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
ومما يستوجب الحمد والثناء على الله تعالى منا في هذا البلد الطيب أن أنعم الله تعالى علينا بنعمة الإخاء والمودة والتكافل والتراحم، فلم تمتد يد بالإيذاء لمسلم، ولم تنتهك أية حرمة من حرماته أو ينتقص أي حق من حقوقه، وعلينا واجب الشكر على هذه النعمة؛ ليزيدنا الله من جليل نعمه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].
فاشكروا الله ـ عباد الله ـ على هذه النعمة العظيمة، وحافظوا على الأخوة بينكم، واحذروا أن ينجح الشيطان في التحريش بينكم.
وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِي ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3572)
عيد الفطر 1423هـ
الأسرة والمجتمع, التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
أهمية التوحيد, فضائل الأزمنة والأمكنة, قضايا المجتمع, محاسن الشريعة
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
1/10/1423
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معاني العيد. 2- العيد فرصة لأداء الحقوق وصلة الأرحام. 3- خطورة الغزو الفكري على الأمة الإسلامية. 4- الحث على تعاهد الأيتام والمحاويج في العيد. 5- كلمة للنساء.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، الله أكبر كلما لاح صباح عيد وأسفر، الله أكبر كلما لاح برق وأرعد سحاب وأمطر، الله أكبر ما هلل المسلم وكبر. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله الذي سهل لعباده طريق العبادة ويسر، ووفَّاهم أجورهم من خزائن جوده التي لا تحصر، سبحانه له الحمد على نعمه التي تتكرر، وله الشكر على فضله وإحسانه وحق له أن يشكر. نشهد أنه الله لا إله إلا هو انفرد بالخلق والتدبير، وكل شيء عنده بأجل مقدور، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أفضل من صلى وصام وزكى وحج واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهر.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه التي لا تحصى، وآلائه التي تترى، ألا وإن يومكم هذا يوم شريف، فضله الله وشرفه، وجعله عيدًا سعيدًا لأهل طاعته، يفيض عليهم فيه من جوده وكرمه، فاشكروه على إكمال عدة الصيام، واذكروه وكبروه على ما هداكم وحباكم من نعمة الإسلام، واعبدوه حق عبادته، واتقوه حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون. أفردوه وحده بالعبادة، فإنه خلقكم لها كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات:56]، واعرفوا ـ رحمكم الله ـ نعم الله عليكم وفضله في هذا اليوم السعيد، فإنه اليوم الذي يفيض الله فيه على المؤمنين سوابغ نعمائه، ويعمهم بواسع عطائه، ويوالي عليهم جوده وامتنانه، ويعمهم بفضله وإحسانه، هذا يوم توّج الله به الصيام، وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام. قال ربنا سبحانه: وَلِتُكْمِلُواْ ?لْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ?للَّهَ عَلَى? مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:185].
وها أنتم قد أكملتم بفضل الله صيام شهركم، وجئتم إلى مصلاكم تكبرون الله ربكم، على ما هداكم إليه من دين قويم وصراط مستقيم وصيام وقيام وشريعة ونظام، وقد خرجتم إلى صلاة العيد وقلوبكم قد امتلأت به فرحًا وسرورًا، وألسنتكم تلهج بالذكر والدعاء، تسألون ربكم أن يتقبل عملكم، وأن يتجاوز عنكم، وأن يعيد عليكم مثل هذا اليوم، وأنتم في خير وأمن وإيمان واجتماع على الحق وابتعاد عن الباطل.
والعيد ـ يا عبد الله ـ يتضمن معاني إسلامية كبيرة ومنافع وحقائق كثيرة، يتضمن العيد العقيدة الإسلامية الصافية النقية التي هي أعظم نعمة على الإنسان، وذلك بتعظيم الله وتكبيره والثناء عليه، والشهادة بأنه الإله الحق الذي يتقرب إليه المسلم، يتقرب إليه بالدعاء والرجاء والاستعانة وجميع أنواع العبادة، لا يشرك معه في عبادته أحدا، كما قال تعالى: وَأَنَّ ?لْمَسَـ?جِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ?للَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، والشهادة بأن محمدًا عبده ورسوله بطاعة أمره وترك نهيه وتصديق أخباره وعبادة الله بشرعه. والعيد يتضمن العبادة والذل والخضوع والمحبة لله تعالى، فصلاة العيد تشتمل على ذلك كله. والعيد يتضمن بيان التشريع الإسلامي، وذلك بإظهار شعيرة العيد وأداء صلاته وتفصيل الخطبة لأحكام الإسلام العظيمة.
والعيد يتضمن تهذيب الخلق وتقويم السلوك، وذلك بالترغيب في الصبر والاحتمال والحلم والتواصل في هذا اليوم والتسامح وتطهير القلوب من الغل والحسد والضغائن؛ لأنه يوم فرح وأخوة إسلام. والعيد يتضمن الترابط الأخوي بين المسلمين والتكافل الاجتماعي، وذلك بأداء زكاة الفطر قبل الصلاة لقوله : ((أغنوهم في هذا اليوم)) يعني: الفقراء. رواه الدارقطني من حديث ابن عمر.
والعيد يتضمن يسر الإسلام وسماحته، ففي هذا اليوم أوجب الله الفطر وأباح الطيبات، كما هو الحال قبل الصيام في إباحة الطيبات، ولكن الإسلام ربط ذلك بالأصل الكبير وهو الإيمان والاستسلام لرب العالمين، وافتتح فرح العيد وسروره والتمتع بالطيبات فيه، افتتحه بصلاة ركعتين لله تعالى؛ حتى لا ينساق المسلم وراء لذاته وينسى ربه الذي رباه بالنعم وصرف عنه النقم، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـ?تِ مَا أَحَلَّ ?للَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ ?لْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ?للَّهُ حَلَـ?لاً طَيّبًا وَ?تَّقُواْ ?للَّهَ ?لَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:87، 88].
وزمن العيد وقت لتنزّل الخيرات والبركات والرحمة واستجابة الدعوات، فعن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أفواه السّكك ينادون بصوتٍ تسمعه الخلائق إلا الجن والإنس: يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم، قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيدنا أن توفيه أجره؟ قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)) قال مورق العجلي: فيرجع قوم من المصلى كما ولدتهم أمهاتهم. فهو يوم الجائزة، ويسمى ذلك اليوم في السماء يوم الجائزة. رواه الطبراني.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، في هذا اليوم العظيم أي: في يوم عيد الفطر يجتمع المسلمون في جميع أقطار المعمورة يجتمعون لصلاة العيد، وهناك حينما يجتمعون تبرز الوحدة الإسلامية في أبهى ثيابها وكذلك في أروع صورها، وذلك لأنه يحضر ويجتمع في المصلى الصغير والكبير والعبد والذكر والأنثى وكذلك أيضًا الرئيس والمرؤوس، لا فارق بينهم، يجتمع الأسود مع الأبيض والأبيض مع الأسود على اختلاف اللغات وعلى اختلاف الألوان، وإنها لوحدة عظيمة. هذا اليوم يوم مشهود من أيام المسلمين، يوم عيد وفرحة وسرور، يوم يغتاظ منه الكفار وأعداء الدين، إنه فرصة ـ عباد الله ـ لإزالة الضغائن والأحقاد من القلوب، فدعوا الضغائن لا تكن من شأنكم؛ لأن الضغائن والأحقاد تقضي على الأمة الإسلامية، وتوهن بناءها، وتقوض أركانها، إنها سبب لِمَرض القلوب وتباعدها وتنافرها، إنها ـ عباد الله ـ تنخر في جسم الأمة الإسلامية كما ينخر الدود في العظام البالية، وإذا رأيتم ما يثير الضغائن والأحقاد بين أكثر المسلمين اليوم على مستوى المجتمعات والدول والأفراد لوجدتموه اختلافًا على الدنيا وملذاتها، ووقوعًا في الفتن المتنوعة التي غزت مجتمعات المسلمين وبلادهم، من فتنة النساء إلى فتنة الأموال ونهاية بفتنة المآكل والمشارب، فوقعت الضغينة، ووقع الحقد بين أفراد الأسرة الواحدة. نسأل الله السلامة والعافية.
أيها المسلمون، ليقم كل واحد منكم بحقوق إخوانه المسلمين عليه، ومن ذلك السلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وأداء الأمانة ونشر المحبة والوئام وتحقيق التعاون على البر والتقوى، وأن يحب المرء المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، بعيدًا عن الأثرة والأنانية وحب الذات والحسد والحقد والبغضاء والغيبة والنميمة والشحناء بالأيمان الكاذبة وغيرها.
ليقم كل واحد منكم ـ يا عباد الله ـ بحقوق الوالدين، فإن حق الوالدين عظيم، قرنه الله سبحانه بحقه فقال سبحانه: وَقَضَى? رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـ?هُ وَبِ?لْو?لِدَيْنِ إِحْسَـ?نًا [الإسراء:23]، كما يجب أن يؤدي المسلم واجبه تجاه أقاربه وجيرانه من حيث الصلة والبر والإحسان، وليحذر من قطيعة الرحم فإن شؤمها عظيم وضررها كبير، يحل بصاحبه العقاب العاجل قبل الآجل، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22, 23].
وإن مما يؤسف له أن هناك خللاً في العلاقات الاجتماعية بين كثير من الأقارب، فأين الرحمة عند هؤلاء والديانة؟! بل أين المروءة والإنسانية؟! وإذا كان هذا في حق الوالدين، فما بالكم بموقف هؤلاء من الأقارب والأرحام؟! فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [محمد:22، 23].
لقد وصل الحال ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظًا وحقدًا على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم بل يعاديهم، ويخاصمهم بل يقاضيهم، ويتمنى لهم الموتَ الزؤام، من أجل أمر تافهٍ حقير، يتعلَّق بحفنة من الحطام أو وشاية غِرّ لئيم أو زلة لسان أو شجار بين الأطفال، فتمرُّ الأشهر والسنوات وقلبُه يغلي عليهم، ونفسه تموج غلاً ضدّهم كما يموج البركان المكتوم، فلا يستريح إلا إذا أرغى وأزبد وآذى وأفسد، وانبلجت أساريرُه بنشر المعايب وإذاعة المثالب، وسرد القبائح وذكر الفضائح، وتلك ـ لعمرو الحق ـ من دلائل الصغار واللؤم وخسّة الطبع وقلة المروءة لدى أقوام لا يتلذَّذون إلا بالإثارة والتشويش، ولا يرتاحون إلا بالتحريش والتهويش. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "المؤمن لا يطالب ولا يعاتب ولا يضارب".
إن غليانَ مراجل القطيعة في المجتمع لا سيما بين أبناء الأسرة وذوي الرحم والقربى وطغيان المآرب الشخصية والمصالح الذاتية أدواءٌ فتاكة إذا تمكَّنت من جسد الأمة أثخنتها، فهي مصدر كلِّ بلاء، وسبب كل عداء، ومنبع كلِّ شقاء، بل هي السلاح البتار الذي يشهره الشيطان ضدّ القلوب فيفرّقها والعلاقات فيمزِّقها، في غلياناتٍ شيطانية وهيجانات إبليسية، إن أُرخِيَ لها الزمام وأطلِق لها الخطام قضت على حاضر الأمة ودمّرت مستقبلَها، وإذا تنافر ودّ القلوب كُسِرت زجاجات التواصل، وتمكَّن الشرّ في النفوس، وعاد الناس ذئابًا مسعورةً ووحوشًا كاسرة، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ في ?لأرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?للَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوء ?لدَّارِ [الرعد:25].
أمة الإسلام، ويوم أن ضعُف التديّن في قلوب كثيرين وكثُر الجهل بالشريعة وطغت المادة ضعُفت أواصر التواصل وتعددت مظاهر القطيعة، وإلا فلا تكاد فضائل الصلة وآثارها الخيرة تخفى على العاقل اللبيب، فهي صفة أهل الإيمان، وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ [الرعد:21]، وهي ثمرة من ثمار الإيمان بالله واليوم الآخر، خرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)). وهي سبب للبركة في الرزق والعمر، يقول : ((من أحبّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه)) مخرّج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن الله خلق الخلقَ حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلكِ وأقطع من قطعك؟! قالت: بلى، قال: فذلك لك)) ، وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يدخل الجنة قاطع)) ، قال سفيان: يعني: قاطع رحم. رواه البخاري ومسلم.
إن حقًا على كل قاطعِ رحم أن يبادر بالصلة ـ وهذا الوعيد يقرع سمعَه ـ قبل فوات الأوان، ولا أظنّ أن أحدًا يُعذر بعد خدمة الاتصالات الحديثة، فرحم الله عبدًا يصِل رحمه وإن قطعوه، يتعهَّدهم بالزيارة، ويتخوَّلهم بالهدية وإن جفوه، يقول : ((ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها)) خرجه البخاري، وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ، قال : ((لئن كنت كما قلتَ فكأنما تُسفّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)).
فهنيئًا لقريبٍ أعان على صلته بقبول العذر والصفح والعفو والتغاضي عن الهفوات والتغافل عن الزلات، إن أحسنَ فلا يمنّ، وإن أعطى فلا يضِنّ، لا يعرف السباب، ولا يُكثر العتاب، فليست تدوم مودةٌ وعتابُ، يتجنَّب المراء والجدال، ويحسن الأقوالَ والفعال، يشارك أقاربَه آلامهم وآمالهم، ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، مفتاحٌ لكل خير، مغلاق لكل شرّ، ينصح ولا يفضح، ويستر ولا يعيِّر، وفي ذلك ذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين.
هذه ـ عباد الله ـ شمس العيد قد أشرقت، فلتشرق معها شفاهكم بصدق البسمة، وقلوبكم بصفاء البهجة، ونفوسكم بالمودة والمحبة، جدّدوا أواصر الحب بين الأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء، والتعاون بين الناس جميعًا.
في العيد تتقارب القلوب على الود، وتجتمع على الألفة، ويتناسى ذوو النفوس الطيبة أضغانهم، فيجتمعون بعد افتراق، ويتصافحون بعد انقباض، ويتصافون بعد كدر، فتكون الصلات الاجتماعية أقوى ما تكون حبًا ووفاء وإخاء.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، فأخلصوا لله توحيدكم. الصلاة الصلاة، حافظوا عليها واحفظوها، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، فهي عمود الإسلام، وهي الركن العملي الأول من أركان الإسلام، فحافظوا عليها ـ رحمكم الله ـ جماعةً، وأدوها في وقتها في المسجد، واعتنوا بها، ولتكن من أهمّ أموركم، فإن علامة حب الإسلام العناية بهذه الصلوات والاهتمام بها، أدوا زكاة أموالكم، وصوموا رمضان، وحجوا البيت.
كن ـ أخي المسلم ـ داعيًا إلى الله على علم وبصيرة، آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر، على حكمة وعلم، صابرًا على ما أصابك. وحارس الملة والدين، وعليكم بصدق الحديث والوفاء بالعهود وإنفاذ الوعود، فإن ذلك من الإيمان الذي أمر به القرآن: وَ?عْبُدُواْ ?للَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا [النساء:36]، فاحذروا السحرة والمنجمين والكهنة والعرافين، فمن حقق كمال التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب.
وإياكم وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، قال الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
وإياكم والربا؛ فإنه يمحق البركة ويدخل صاحبه النار، قال الله تعالى : يَمْحَقُ ?للَّهُ ?لْرّبَو?اْ وَيُرْبِى ?لصَّدَقَـ?تِ [البقرة:276]، وعنه : ((الربا نيف وسبعون بابًا، أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه)).
وإياكم والزنا فإنه عارٌ ونارٌ، وعذاب وذلة وصغار، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ?لزّنَى? إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]، وفي الحديث: ((ما من ذنب أعظم عند الله من أن يضع الرجل نطفته في فرج حرام)).
وإياكم والمسكرات والمخدرات، فإنها شرٌ ووبال، وندامة وخبال، وغضب لذي العزة والجلال. وإياكم وقول الزور وشهادة الزور، والغيبة والنميمة، وقذف المحصنات؛ فإن الله حرم ذلك بالآيات البينات.
وإياكم والمكاسب المحرمة وأموال الضعفاء والأيتام وأوقاف المسلمين، فإن ذلك ما خالط مالاً إلا أفسده، ولا دخل بيتًا إلا دمره ونكده. كم من الناس لا يتورع في الكسب الحلال، بل يلجَأ إلى ظلم النّاس بالشّتم والقذف وشهادة الزّور والضرب والقتل لِيحصّلوا على شيء من حطام الدنيا، ويعدّون تحصيل ذلك شرفًا وربحًا، وهو في الحقيقة خسّة وإفلاس وخزي وندامة يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن المفلسَ من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار)). فاقنعوا بالحلال عن الحرام، وتوبوا إلى الله من المظالم والآثام.
وإياكم ومضارة المسلم، فمن ضار مسلمًا ضاره الله. واحذروا الخصومات الباطلة، فإن من ادعى ما ليس له فهو في سخط الله حتى ينزع من خصومته. واحذروا الحلف الكاذب فإنه يغمس صاحبه في جهنم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، الغزو الفكري والأخلاقي سلاحٌ فتاك استعمله أعداء الإسلام ليبعدوا المسلمين عن دينهم وقتل الغيرة في نفوسهم ووأد الفضيلة في أمرهم، فعملوا على ذلك واستخدموا في سبيله الوسائل المسموعة والمرئية والمقروءة، وأنتم ـ أيها المسلمون ـ في هذه الأيام أمام خطر داهم وشر قادم، له تأثيره على المسلمين عقديًا وفكريًا وخلقيًا، وذلك عن طريق ما يسمى بالبث الإعلامي المباشر والفضائيات التي علت كثيرًا من البيوت إعلانًا للفحشاء بوقاحة وإغراقًا في المجون، وتعرض تفاصيل الفحشاء في كثير من الأحيان، فلا حول ولا قوة إلا بالله، كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم لفتيانهم ولفتياتهم هذا الغثاء المدمر وقنوات الفضاء الواسع؟! أين ذهب الحياء؟! وأين ضاعت المروءة؟! أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أجواء الفتنة، وجرتهم إلى مستنقعات التفسخ جرًا، وجلبت لهم محرضات المنكر تدفعهم إلى الإثم دفعًا وتدعُّهم إلى الفحشاء دعًّا؟!
شباب الإسلام، أنتم أمل الأمة ورجال المستقبل، ولن تبنوا أمجادكم وتؤمنوا مستقبلكم وتقوموا بحمل الأمانة تجاه دينكم وأمتكم وبلادكم إلا بالاستقامة على دين الله والتحلي بالصبر والمثابرة والأخلاق الكريمة والبعد عن الرذائل والفساد والانحراف، صونوا أنفسكم ـ يا عباد الله ـ عن الملهيات والمغريات، لا تغتروا ـ أيها الشباب ـ بشبابكم وصحتكم، فالموت لا يفرق بين صغير وكبير، ولا غني وفقير، تفطنوا لمخططات أعدائكم تجاهكم، وكونوا منها على حذرٍ وحيطة.
أيها المسلمون، ربّوا أبناءكم التربية الإسلامية، فهم أمانة في أعناقكم، ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا [التحريم:6].
سهّلوا أمر الزواج، وأعينوا على إفشائه، فإن ذلك من علامة الخير، تعاونوا على البر والتقوى.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَأَنَّ هَـ?ذَا صِر?طِي مُسْتَقِيمًا فَ?تَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ?لسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذ?لِكُمْ وَصَّـ?كُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين، وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفره وتوبوا إليه، فيا لفوز المستغفرين، ويا لبشرى التائبين، اللهم أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله معيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المفضّل على جميع العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليمًا.
أيها المسلمون، زينوا عيدكم بالتكبير وعموم الذكر، يقول المصطفى : ((أيام العيد أيام أكل وشرب وذكر لله تعالى)) ، وأدخلوا السرور على أنفسكم وأهليكم، واجعلوا فرحتكم بالعيد مصحوبة بتقوى الله وخشيته، ولا تنفقوا أموالكم أيام العيد فيما حرم الله، يقول علي رضي الله عنه: (كل يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد).
وإذا غدا المصلي لصلاة العيد من طريق سُنّ له أن يرجع من طريق آخر، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن جابر رضي الله عنه أن النبي كان إذا خرج إلى العيد خالف الطريق.
أيها المسلم، هذا يوم عيد فصيره عيدًا لإخوانك، ضمِّد جراح المجروحين، وامسح دمعة اليتيم، وفرّج كرب المكروبين، ويسِّر على المعسرين.
عباد الله، كما أدخلتم الفرحة والسرور في قلوبكم بهذا العيد أدخلوا الفرحة والسرور في قلوب الأيتام الذين فقدوا آباءهم، فقدوا القلب الرحيم واليد الحانية، قد انكسرت قلوبهم بفقد آبائهم، فلا تنسوهم ـ عباد الله ـ في غمرة فرحتكم وسروركم، عوضوهم عنهم في هذا اليوم العظيم بالصلة والإحسان وإزالة ذل اليتم وقسوته من قلوبهم، اجعلوهم لا يحسّون بفقد آبائهم، فكونوا لهم آباءً وإخوانًا، فإن في ذلك أجرًا عظيمًا وعاقبة حميدة.
فعلينا ـ عباد الله ـ أن نعتدل في فرحِنا في هذا اليوم الجليل، وأن لا ينسينا الفرح بهذا اليوم إخوانًا لنا يعيشون بيننا قد عض عليهم الفقر بأنيابه، فلم يفرحوا كما فرح إخوانهم، خيّم الحزن عليهم، وعلت الكآبة وجوههم، لا يقدرون على التجمل في هذا اليوم، فلنتذكرهم ـ عباد الله ـ ونواسيهم في هذا اليوم، ونمسح دمعة الحزن التي سالت على وجناتهم، فتذكرهم في هذا اليوم من أفضل الأعمال وأرجاها عند الله، ونسعى في قضاء حوائجهم، يقول رسول الله : ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار) رواه البخاري، ففي الحديث: ((إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)).
وتذكروا ببهجتكم وسروركم في هذا اليوم المبارك المعوزين والمضطهدين في بعض الأقطار من إخوانكم المسلمين، الذين تعلو وجوههم الكآبة والحزن، وترجف قلوبهم من الخوف وقلة الأمن بمطاردة أعدائهم أعداء الإسلام بالقنابل المحرقة والأسلحة الفتاكة وبالاضطهاد في دينهم وحريتهم وكرامتهم، يغتصبون بلادهم وأوطانهم، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ، وهم مع ذلك صابرون مناضلون في بسالة وتضحية، فهذا شهيد، وذاك جريح، وآخر أسير، فكم أيموا النساء، ويتّموا الأطفال، وشتتوا الأسر، وفرقوا بين الأمهات وأطفالهن، فتذكروا إخوانكم في تلك البقاع، واشكروا الله على أمنكم واستقراركم، وإن من شكر النعم القيام بأمر الله والإحسان إلى أولئك المجاهدين والمضطهدين.
أيها المسلمون، اعلموا أنه ليس السعيد من تزين وتجمل للعيد فلبس الجديد، ولا من خدمته الدنيا وأتت على ما يريد، لكن السعيد من فاز بتقوى الله تعالى، وكتب له النجاة من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم والصديد، وفاز بجنة الخلد التي لا ينقص نعيمها ولا يبيد.
واحذروا عباد الله، احذروا عدوكم إبليس اللعين لعنه الله، فإنه كان في رمضان مقهورًا، ويريد أن يأخذ منكم بثأره فيجعل الأعمال هباءً منثورًا، فداوموا على الطاعة واجعلوه دائمًا مدحورًا، واذكروا بأنكم تدلفون وتساقون إلى آجال معدودة وأعمال محدودة، عما قليل تنقلون من هذه الدار، إما إلى الجنة وإما إلى النار.
وتفكروا فيمن صلى معكم في سنين خلت وأيام مضت في هذا المكان من الأقرباء والمعارف والخلان، كيف اخترمتهم المنايا، وأتاهم أمر الله، فإن ما نزل بهم ملاقيكم، وستذوقون طعم الموت وتتجرعون منه البلايا، فأحسنوا العمل، وأقصروا الأمل، تنجوا من عذاب عظيم، وتفوزوا بالنعيم المقيم.
أيتها المرأة المسلمة، وتمشيًا مع سنة المصطفى في تخصيص موعظة للنساء فإني أقول لأخواتي المسلمات: اتقين الله عز وجل في أنفسكن، أطعن الله ورسوله، أطعن أزواجكن بالمعروف، كنَّ من الصالحات القانتات، احذرن الألبسة المخالفة لشرع الله التي تظهر الزينة، أو تتضمّن تشبهًا بالكافرات وتعوُّدًا على ترك الحياء وإظهار الفتنة. وتخلقي بأخلاق الإسلام، واحذري التبرج والسفور، وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب:33]، احذري أخلاق أعداء الإسلام، تمسكي بما كنت عليه من عفة وحشمة وكرامة، ومحافظةٍ على هذه الأخلاق الكريمة.
عباد الله، إن نبيكم قد ندبكم لصيام ستة أيام من شوال، ففي صحيح مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان كصيام الدهر)). فبادروا إلى فعل الطاعات وتسابقوا إلى الخيرات.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وإذا وافق العيد يوم الجمعة جاز لمن حضر العيد أن يصلي جمعة أو أن يصلي ظهرًا؛ لما ثبت عنه في هذا، فقد ثبت عنه أنه رخص في الجمعة لمن حضر العيد، وقال: ((اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شهد العيد فلا جمعة عليه)) ، ولكن لا يدع صلاة الظهر، والأفضل أن يصلي مع الناس جمعة، فإن لم يصل الجمعة صلى ظهرًا. أما الإمام فيصلي بمن حضر الجمعة إذا كانوا ثلاثة فأكثر منهم الإمام، فإن لم يحضر معه إلا واحد صليا ظهرًا.
أعاد الله عليَّ وعليكم من بركات هذا العيد، وجعلنا في القيامة من الآمنين، وحشرنا تحت لواء سيد المرسلين، عليه الصلاة من رب العالمين.
اللهم اجعل عيدنا فوزًا برضاك، واجعلنا ممن قبلتهم فأعتقت رقابهم من النار، اللهم اجعل رمضان راحلاً بذنوبنا، قد غفرت فيه سيئاتنا، ورفعت فيه درجاتنا.
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على خير البرية أجمعين ورسول رب العالمين نبي الهدى والرسول المجتبى، فقد أمركم مولاكم بذلك في محكم كتابه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الأطهار، وصحابته المهاجرين منهم والأنصار، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين...
(1/3573)
عيد الفطر 1425هـ
الرقاق والأخلاق والآداب
الآداب والحقوق العامة, مساوئ الأخلاق
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
1/10/1425
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- معاني العيد الإيمانية. 2- خطورة العصبية القبلية والتفاخر بالأنساب على الفرد والمجتمع. 3- النصوص الواردة في التحذير من العصبيات الجاهلية. 4- وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا. 5- من مظاهر انتشار قطيعة الرحم في المجتمع. 6- من علامات القبول. 7- الحث على صيام الست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على إدراك رمضان بالصيام والقيام، حتى أكملتم عدته وقضيتم مدته بأمن وإيمان ورغد واطمئنان وعافية في العقول والأبدان، فالحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، وبفضل رحمته هدانا للطيبات، ونسأله قبول الطاعات وتكفير الخطايا والسيئات ورفيع الدرجات.
أيها المسلمون، إن العيد الذي نحياه اليوم إنما هو احتفال بانتصار الإنسان المؤمن الذي ظل طوال شهر رمضان يجاهد نفسًا أمارة، ويصارع شهواتٍ وملذاتٍ ومغرياتٍ كانت تتراقص أمام عينيه، لكنه قدم البرهان على أن القائد لنفسه، المالك لزمام أمره، إنما هو إرادته وعزيمته التي يستمدها من الله العظيم: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَا يَجْمَعُونَ [يونس:58].
إنّ العيد ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ مظهر من مظاهر الدين، وشعيرة من شعائره المعظمة التي تنطوي على حكم عظيمة ومعان جليلة وأسرار بديعة، لا تعرفها الأمم في شتى أعيادها، ففي هذا اليوم العظيم يوم عيد الفطر يجتمع المسلمون في جميع أقطار المعمورة، يجتمعون لصلاة العيد، وهناك حينما يجتمعون تبرز الوحدة الإسلامية في أبهى ثيابها، وكذلك في أروع صورها، وذلك لأنه يحضر ويجتَمع في المصلّى الصغير والكبير والعبد والذكر والأنثى، وكذلك أيضًا الرئيس والمرؤوس، كل منهم لا فارق بينهم، يجتمع الأسود مع الأبيض، والأبيض مع الأسود، على اختلاف اللغات، وعلى اختلاف الألوان، وإنها لوحدة عظيمة يمد أحدهم يده لصاحبه وهو لا يعرفه، وربما لا يعرف لغته فيسلم عليه؛ لأنه يشعر بأنه أخوه في الإسلام، يشاركه في آماله وفي آلامه، وهذه المزية لم تكن لأمة من الأمم إلا للمسلمين.
عباد الله، إن هذه الأخوة الإسلامية التي انبعثت من عقيدتنا الإسلامية، عقيدة المسلمين، عقيدة الشريعة، العقيدة الموحدة، هي التي تفرعت عنها الأخوة الإسلامية، فهي ثابتة لا تتزعزع إطلاقًا، لا تزعزعها الحواجز ولا الأطماع ولا الأهواء ولا الأغراض، بل إنها ثابتة مهما كان للإنسان، ومهما طرأ على الإنسان. فعقيدة التوحيد تجمعنا، ودار الإسلام تؤوينا، لا فخر لنا إلا بطاعة الرحمن، ولا عزة ولا كرامة إلا بالإيمان، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله.
واعلموا أنما الخيرية بالتقوى: ي?أَيُّهَا ?لنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَـ?كُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى? وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَـ?رَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ إِنَّ ?للَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
هذا خطاب من الله تعالى للناس جميعًا أنَّه خلقهم من ذكر هو آدم، ومن أنثى هي حواء، فالناس كلهم لآدم، وآدم من تراب، فالتراب هو منتهى الأنساب، فبم يفتخر شعب على شعب؟! وبم يحتقر قوم قومًا؟! وكلُّهم كان ترابًا، وكلُّهم يصير ترابًا. ثمَّ كشف الله للناس في الآية عن العلَّة في جعلهم شعوبًا وقبائل وهي التعارف، أي: ليعرف بعضكم بعضًا، لا ليبغي بعضكم على بعض، والمراد قطع التفاخر بالأنساب والأحساب. فالمجتمعات مع الأسف اليوم تحيي قضية كانت شائعة في الجاهلية، قضية اجتماعية، بسببها انتشرت البغضاء، ومنها نبعت الأحقاد، ولأجلها رفعت الشعارات الشيطانية، وتعدّدت الحزبيّات العنصرية، ووجدت رواجًا عند ضعاف الإيمان، واستغلها الأعداء أبشع استغلال. لم تدخل في مجتمع إلا فرقته، ولا في صالح إلا أفسدته، ولا في كثير إلا قللته، ولا في قويّ إلا أضعفته، ما نجح الشيطان في شيء مثلما نجح فيها داخل هذه البلاد، شبَّ عليها الصغير وشاب عليها الكبير. تتجسّد من خلال فلتاتِ اللسان وصفحات الوجوه وحتى التلاميذ في المدارس، ومجالس الدهماء تروجها، كلما خبت نارها جاء من يسعرها، ويحذر من نسيانها والغفلة عنها، إنها العصبية القبلية المقيتة، إنها الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، إنها الفخر بالعرق واللون، إنها دعوى الجاهلية، تأصّلت فيمن رَقَّ إيمانه، وضعف يقينه، وطُمس على قلبه، وغَفَل عن أصله وحقيقته.
فلقد كان الناس قبل مبعث رسول الله يعيشون في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، يعقون الآباء والأجداد، ويتغنون بمفاخر القبيلة ومآثر العشيرة، فالكبر ديدنهم، وتعظيم الدنيا يملأ قلوبهم. ولما جاء الإسلام الذي بعث به الحبيب حذر من تلك الشعارات الجاهلية وحاربها، وندد بفعل أصحابها. عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أربع من أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة)) رواه مسلم. وبذلك أبطل الإسلام حمية الجاهلية وتفاخرها بالأحساب والأنساب، وجعل الناس على قسمين: فمؤمن تقيّ وفاجر شقي، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13]، ويقول الله تعالى ذامًّا أهل الحميّة لغير الدين: إِذْ جَعَلَ ?لَّذِينَ كَفَرُواْ في قُلُوبِهِمُ ?لْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ [الفتح:26].
وجاء في سنن أبي داود أنه قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)) ، وجاء أيضًا عن النبي : ((إن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)) أخرجه مسلم في صحيحه، وروى الترمذي عن النبي أنه قال: ((إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، إنما هو مؤمن تقي أو فاجر شقي، الناس بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى)) أخرجه الترمذي، روى حذيفة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قومٌ يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجِعلان)) أخرجه البزار وصححه الألباني، وعن الحارث الأشعري عن النبيِّ : ((من دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثاء جهنم)) ، قالوا: يا رسول الله، وإن صام وصلى؟! قال: ((وإن صام وصلَّى وزعم أنَّه مسلم، فادعوا المسلمين بأسمائهم، بما سمَّاهم الله عز وجل به: المسلمين المؤمنين عباد الله)) رواه أحمد وغيره وهو حديث صحيح.
قال المفسرون في قوله تعالى: وَجَعَلْنَـ?كُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ [الحجرات:13]: جعلناكم شعوبًا وقبائل لتتعارفوا لا لتتفاخروا. فقد حسمت هذه الآية موضوع التفاخر بتأصيل ثلاث ركائز:
الأولى: أن أصل خلق الناس جميعًا واحد.
الثانية: أن ما يحتج به الناس بانتسابهم إلى شعب كذا أو قبيلة كذا مما لم يأذن به الله لأجل التفاخر، وإنما أذن به لأجل التعارف فحسب، لما يترتب عليه من حقوق وواجبات.
الثالثة: أن التفاخر والتفاضل والتقدم إنما هو لأهل التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ?للَّهِ أَتْقَـ?كُمْ [الحجرات:13].
فالله خلق الإنسان من أصل واحد، كما يرتفع لواء واحد يتسابق الجميع ليقفوا تحته: لواء التقوى في ظل الله. وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام؛ لينقذ البشرية من العصبية للجنس والعصبية للأرض والعصبية للقبلية والعصبية للبيت، وكلّها من الجاهلية، تتزيّا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء، وكلّها جاهلية عارية من الإسلام. وإنه ليزداد العجب من إنسان يفخر بشيء لا جهد له فيه ولا كسب، ويسخر من إنسان في أمر لا حيلة له فيه.
كن ابنَ من شئتَ واكتسِب أدبًا يُغنيك محمودُه عن النسب
إنّ الفتى من يقول: ها أنا ذا ليس الفتى من يقول: كان أبي
عباد الله، يا أيها الآباء، يا أيها المربون، اتقوا الله في أنفسكم، لا تُنْشِئُوْا صغاركم على التعصب والافتخار لغير الإسلام، بل ربّوهم على المبادئ الكريمة والخصال الحميدة التي دعانا إليها ديننا القويم، وحثوهم على الاتصاف بها، وذلك تحت مظلة الإسلام.
أما أنت، يا من تطعنُ في الأنساب وتفتخر بالأحساب، يا من حقّرت الناس وتنقصتهم، ألا تعلم حقيقتك؟! ألا تعلم أن أوّلك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وتحمل في جوفك العذرة؟! أَلَمْ نَخْلُقكُّم مّن مَّاء مَّهِينٍ [المرسلات:2]. فعلام الكبرياء؟! وعلام التعالي؟! إن احتقار الآخرين والحمية لغير الدين توقع المرء في الغَيْرة لغير الإسلام والغضب لغير الله، وتؤدي إلى ظلم العباد ورد الحق ومنع الحقوق والانتصار للباطل وأهله.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا وساوس الشيطان، فإنه إياكم يكيد، ولتفريق شملكم يريد، فقد صح بذلك الوعيد، أخبر به أنصح العبيد للعبيد عليه الصلاة والسلام فقال: ((إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم)) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.
نعم، والله إنك لتجد الرجل يقيم شعائر الدين، ويبكي من خشية الله، وفيه خير كثير، ثم تجده بعد ذلك قدْ مُلئ قلبه بالعصبية، فلأجلها يحب، ومن أجلها يعادي، ألا يعلم قول الرسول : ((الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان)) أخرجه االطبراني. والحب من العبادات، فيجب علينا أن لا نحب إلا ما يحبه الله، وأن لا نبغض إلا ما يبغضه، والله تبارك وتعالى يبغض العصبية والحمية لغير دينه.
إن الإسلام والتقى ليرفع وضيع النسب، ويُهبط رفيع الحسب، فهذا بلال عبد حبشي أعزه الله الإسلام، وأصبح من سادات المسلمين.
خَذَلَتْ أبا جهل أصالتُه وبلالُ عبدٌ جاوز السُّحبا
أيها المسلمون، لقد حرص الإسلام على إقامة العلاقات الودّية بين الأفراد والجماعات المسلمة، ودعم هذه الصلات الأخوية بين القبائل والشعوب، وجعل الأساس لذلك أخوة الإيمان، لا نعرة الجاهلية ولا العصبيات القبلية. ورسولنا أقام الدليل القاطع على حقيقة الأخوة الإيمانية وتقديمها على كل أمر من الأمور الأخرى، فها هو رسول الله يؤاخي بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، وأخذ ينمّي هذه الأخوة ويدعمها بأقوال وأفعال منه تؤكد هذه الحقيقة الغالية، ولما هاجر الرسول إلى المدينة آخى بين الأوس والخزرج، فذاب ما بينهما من نزاع وصراع استمر ذلك المدى من الزمن الذي لا يعلمه إلا الله، وصار بينهم التآلف والإخاء الذي منَّ الله به عليهم بقوله: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران:103]، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، تلك المؤاخاة العجيبة الفريدة في التاريخ، حيث كان الأنصار يتنازلون عن شطر ما يملكون للمهاجرين عن طيب خاطر ونفس رضية، ومن غير إلزام من الله ولا رسوله.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واربؤوا بأنفسكم عن النعرات الجاهلية والافتخار بالأنساب والألقاب، فإن الفخر الحقيقي والنسب الناصح هو الإسلام، فبه نحيا، وعليه نموت، وإليه ننتسب.
في هذا اليوم، ينبغي أن ينسلخَ كلّ إنسان عن كبريائه، وينسلخَ عن تفاخرِه وتباهيه، أسأل الله تبارك وتعالى أن يؤلف بين القلوب، وأن يجعلها متحابة في ذات الله، فلا نعمة بعد الإسلام أعظم من ذلك.
أيها الإخوة المؤمنون، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]. هذا تقرير الرب جل جلاله كما ذكره في كتابه، ففي هذا اليوم المبارك تتصافى القلوب، وتتصافَح الأيدي، ويتبادَل الجميعُ التهانيَ. وإذا كان في القلوب رواسبُ خصامٍ أو أحقاد فإنها في العيد تُسلُّ فتزول، وإن كان في الوجوه العبوسُ فإنَّ العيدَ يدخل البهجةَ إلى الأرواح والبسمةَ إلى الوجوه والشِّفاه، كأنَّما العيد فرصةٌ لكلّ مسلمٍ ليتطهَّر من درن الأخطاء، فلا يبقى في قلبِه إلا بياضُ الألفة ونور الإيمان، لتشرق الدنيا من حوله في اقترابٍ من إخوانه ومحبِّيه ومعارفِه وأقاربِه وجيرانه. فقد حث الإسلام أفراده على بناء مجتمع إسلامي قويّ مترابط، لبناته متماسكة، بناؤه محكم، علاقات أفراده متينة، مثله كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولكن لتفريط بعض أفراده في التمسك بما أمر الله به أدّى ذلك إلى تفشي داء عضال في جسد الأمة الإسلامية قد بدأت أعراضه تظهر علينا.
وإنه لمن المؤسف ـ يا عباد الله ـ أن راية قطيعة الأرحام بدأت ترتفع وأعراضها تظهر علينا، فلو أن لها رائحة لأزكمت الأنوف، ولما جلستم في هذا المصلى من رائحتها النتنة.
فمن تلك الأعراض عقوق الوالدين، فكم من ولد يهينهما ويسخر منهما ويحتقرهما، يكرم امرأته ويهين أمه، ويقرب صديقه ويبعد أباه، ونلحظ انتشار الأنانية والكبر والحسد والبغضاء بين الإخوة والأخوات والأعمام والأخوال وسائر أفراد المجتمع إلا من رحم الله، وكثرت النزاعات والخصومات بين الأهل والأقارب، وذلك لأتفه الأسباب، حتى أبدى بعضهم لبعض الشرّ والعداء، فأين الرحمة عند هؤلاء والديانة؟! بل أين المروءة والإنسانية؟! وإذا كان هذا في حق الوالدين، فما بالكم بموقف هؤلاء من الأقارب والأرحام؟! فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ في ?لأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَئِكَ ?لَّذِينَ لَعَنَهُمُ ?للَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى? أَبْصَـ?رَهُمْ [ محمد:22، 23].
لقد وصل الحال ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظًا وحقدًا على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم بل يعاديهم، ويخاصمهم بل يقاضيهم، ويتمنى لهم الموتَ من أجل أمر تافهٍ حقير، يتعلَّق بحفنة من الحطام، أو وشاية غِرٍ لئيم، أو زلة لسان، أو شجار بين الأطفال، فتمرُّ الأشهر والسنوات وقلبُه يغلي عليهم، ونفسه تموج غلاً ضدّهم كما يموج البركان المكتوم، فلا يستريح إلا إذا أرغى وأزبد وآذى وأفسد، وتلك ـ لعمرو الحق ـ من دلائل الصغار واللؤم وخسّة الطبع وقلة المروءة لدى أقوام لا يتلذَّذون إلا بالإثارة والتشويش، ولا يرتاحون إلا بالتحريش والتهويش.
أيها المتقاطعون، أيها المتشاحنون، احذروا عقوبة قطيعة الرحم في الآخرة، وإنها لأعظم عقوبة يعاقب بها إنسان قط، وهي الحرمان من الجنة. ووالله، ليس لمن حرم من الجنة من موئل إلا النار إلا من رحم الله، فقد ورد عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه سمع النبي يقول: ((لا يدخل الجنة قاطع))، قال سفيان: يعني: قاطع رحم. رواه البخاري ومسلم. وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن رسول الله أنه قال: ((إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق، وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن عز وجل، فمن قطعها حرّم الله عليه الجنة)). وهذا في حق من استحل قطيعة الرحم والعياذ بالله.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا قطيعة الرحم، وقوموا بصلتها ابتغاء مرضاة الله تعالى ورجاء الأجر والثواب منه جل في علاه، ولا تقابل من قطعك بالقطيعة، واصبر واحتسب الأجر والمثوبة؛ لأن صلة الرحم سبب في دخول الجنة وصلة الله للعبد في الدنيا والآخرة. اقرؤوا قول الله تعالى عن المؤمنين: وَ?لَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ?للَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ?بْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِمْ وَأَقَامُواْ ?لصَّلَو?ةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءونَ بِ?لْحَسَنَةِ ?لسَّيّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى? ?لدَّارِ [الرعد:21، 22].
فهنيئًا لقريبٍ أعان على صلته بقبول العذر والصفح والعفو والتغاضي عن الهفوات والتغافل عن الزلات، يشارك أقاربَه آلامهم وآمالهم، ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، إذَا التقى المسلمان في يوم العيد وقد باعدت بينهما الخلافاتُ أو قعدت بهما الحزازات فأعظمُهما أجرًا البادئ أخاه بالسلام. ومن كان بينه وبين رحمٍ له عداوة فليبادِر بالصّلة وليعفُ وليصفَح، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى ?للَّهِ [الشورى:40].
لقد فعل إخوة يوسفَ مع يوسفَ ما فعلوا، وعندما اعتذروا قبِل عذرهم وصفَح عنهم الصفحَ الجميل، ولم يوبِّخهم، بل دعا لهم وسأل الله المغفرةَ لهم، قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:92].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَ?عْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ?للَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَ?ذْكُرُواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى? شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ ?لنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذ?لِكَ يُبَيّنُ ?للَّهُ لَكُمْ ءايَـ?تِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
أعاد الله علينا جميعًا من بركة هذا العيد، وأمننا من سطوة يوم الوعيد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياك بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، ولا أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
_________
الخطبة الثانية
_________
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الحمد لله مُعيد الجمع والأعياد، ومبيد الأمم والأجناد، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ندّ ولا مضاد، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المفضَّل على جميع العباد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وعلى أصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وسلم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
أيها المسلمون، اعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقى، وخير الملة ملة إبراهيم، وأحسن السنن سنة محمد ، وخير الهدي هدي الأنبياء، وأشرف الحديث ذكر الله، وخير القصص القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وشر الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والريب من الكفر، وشر العمى عمى القلب، والخمر جماع الإثم، وأعظم الخطايا الكذب، وأقبح الفواحش الزنا، وغض البصر يورث نور البصيرة، ومن يعف يعفه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يغفر يغفر الله له، ومن يصبر على الرزية يعقبه الله، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المآكل مال اليتيم، وملاك العمل خواتمه، ومن يستكبر يضعه الله، ومن يعص الله يطع الشيطان، ومن تطاول تعاظمًا حطّه الله، ومن تواضع تخشعًا رفعه الله.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، أدوا الصلاة المفروضة، فإنها عمود الإسلام، والفارق بين الكفر والإيمان، احذروا الوقوع في المعاصي، أدوا زكاة أموالكم، صوموا شهركم، وحجوا بيت ربكم، واحذروا الشرك صغيره وكبيره، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واحذروا المسكرات والمخدرات، فإن وبالها عظيم، وشرها مستديم، تقود إلى الجريمة بشتى صورها، تحلَّوا بالصدق والصبر والأمانة والوفاء وحسن التعامل فيما بينكم.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
وهمسةٌ في آذان شباب الإسلام، أن يتقوا الله تبارك وتعالى ويُقبلوا عليه، ويحفظوا أوقاتهم بعد رمضان، ويشغلوها بطاعة الله، فلا يغترُّوا بعمل المفتونين بمعصية الله، وليحذروا ما يسيء إلى دينهم وقيَمهم، ويضعف الإيمان في نفوسهم، ويئدُ الأخلاقَ في قلوبهم وأعمالهم وواقعهم، مما يثير الغرائز، ويهيِّج المشاعر، مما يُرى ويُسمع ويقرأ عبر وسائل الإعلام، وخاصة ما يعرض في الإنترنت من معصية الله عز وجل، وعليهم الحذر من قرناء السوء.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها الأخوات المسلمات، اتقين الله عز وجل في أنفسكن، أطعن الله ورسوله، أطعن أزواجكن بالمعروف، كنَّ من الصالحات القانتات، احذرن الألبسة المخالفة لشرع الله التي تظهر الزينة، أو تتضمّن تشبهًا بالكافرات وتعوُّدًا على ترك الحياء وإظهار الفتنة، وتخلّقي بأخلاق الإسلام، واحذري التبرج والسفور، وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ?لْجَـ?هِلِيَّةِ ?لأولَى? [الأحزاب:33]،احذري أخلاق أعداء الإسلام، تمسكي بما كنت عليه من عفة وحشمة وكرامة، ومحافظةٍ على هذه الأخلاق الكريمة.
وعلى أرباب الأسر وأولياء الأمور أن يتقوا الله عز وجل في مسؤولياتهم، ويحافظوا على أماناتهم بمتابعتهم وتربيتهم والعناية بهم، تحقيقًا لقوله سبحانه: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ?لنَّاسُ وَ?لْحِجَارَةُ [التحريم:6].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
عباد الله، واعلموا أنّ منزلةَ شهر رمضان مع بقيّة الشهور كمنزلةِ يوسفَ عليه السلام مع إخوانِه الأحدَ عشر، وأنّ يعقوبَ عليه السّلام لم يرتدَّ بصره بشيءٍ من ثيابهم، وارتدّ بقميصِ يوسفَ عليه السلام بصيرًا، فكذلك المذنِب إذا شمّ روائحَ رمضان وجلسَ فيه مع الذّاكرين وقرأ القرآنَ فإنّه يرتدّ إليه قلبه, وتحيَا فيه نفسُه المطمئنّة، فاستديموا طاعة الله بعد رمضان لتبقى قلوبكم حية بطاعة الله.
وإن مِن مظاهرِ الإحسانِ بعدَ رمضان استدامة العبدِ على المنهج المستقيم ومداومة الطّاعة وإتباع الحسنةِ الحسنة، فذلك من قَبول الطاعات، فقد ندَب نبيّكم محمّد بأن تتبِعوا رمضانَ بستٍّ من شوّال ، فمن فعَل ذلك فكأنّما صام الدّهر كلّه. فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)).
فلا تفوِّتوا ـ رحمكم الله ـ على أنفسكم هذه الفضيلة العظيمة، فإنَّ أحدنا لا يدري أيدرك رمضان مرة أخرى أو لا يدركه، وكلّنا بحاجة إلى سدّ ما نقص من صيامنا بصيام التطوع. ويجوز لمن أراد صيامَ ستة أيام من شوال أن يتابعها أو يفرقها في الشهر، ولا بأس في ذلك كله بحمد الله.
واشكروا ربكم على تمام فرضكم، وابتهجوا بعيدكم بالبقاء على العهد وإتباع الحسنة بالحسنة. وإياكم والمجاهرة في الأعياد بقبيح الفعال والآثام، فذلك ماحق للنعم، يقول أحد السلف: "كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد، وكل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو عيد".
واعلموا أن جماع ما أمر الله به عباده في قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون [النحل:90].
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
اللهم اجعل عيدنا فوزًا برضاك، واجعلنا ممن قبلتهم فأعتقت رقابهم من النار، اللهم اجعل رمضان راحلاً بذنوبنا، قد غفرت فيه سيئاتنا، ورفعت فيه درجاتنا...
(1/3574)
ماذا بعد رمضان؟!
الرقاق والأخلاق والآداب
اغتنام الأوقات, فضائل الأعمال
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أحب الله الأعمال إلى الله أدومها. 2- أهمية الاستمرار على العمل الصالح. 3- مقارنة بين أحوال الناس في رمضان وبعده. 4- الحث على صيام ست من شوال.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا عباد الله، لقد رحل عنا شهر رمضان بصيامه وقيامه، ومضت أيامه المباركة ولياليه السعيدة، وقد كان هذا الشهر الكريم بمثابة سوق انتصب ثم انفضَّ، ربح فيه الرابحون، وخسر فيه الخاسرون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
عباد الله، عن القاسم بن محمد قال: قال رسول الله : ((أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل)) ، وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته.
أمة الإسلام، من داوم على طاعة الله ربح، ومن عَرف ربَّه استراح، ومن عبد اللهَ في شهر دون آخر فسيكون غدًا من النادمين. فيا أيها المتاجرون مع ربكم، كيف كانت لذة الطاعة معكم في رمضان؟ كيف كان الصيام والقيام؟ كيف كان الذكرُ والورعُ؟ كيف كانت مراقبتكم لله عز وجل؟ إن كنتم قد أحسستم بلذة العبادةِ في هذا الشهرِ الكريمِ فلماذا لا تداومون عليها بعد رمضان؟! وكيف تعودون إلى ذلِّ المعصية بعد أن تمتعتم بعزِّ الطاعة؟! وهل يفعل ذلك المؤمنون الصادقون؟! أوَليس أصلح لكم أن تحافظوا على هذا الربح العظيم والخير العميم الذي تفضل الله به عليكم في شهر رمضان؟!
عباد الله، اعلموا أن طاعتكم لله هي الطريق إلى رضاه، وأنَّ الاستكثار من العبادة يحوِّلُ الأشقياءَ إلى سعداءَ، ويبدِّلُ الأعداءَ إلى أولياءَ، ويكون سببًا في محبة الله لعبده والدفاعِ عنه إذا أصابه من غير الله مكروه. والمداومة على الأعمال الصالحة تُطهِّر القلوبَ، وتزكّي الأنفسَ، وتُهذب الأرواحَ، وتُريح الأبدانَ، وتُسعدُ العبدَ في الدنيا والآخرة. فيا عجبًا لإنسان عاقل يعود إلى مرارة المعصية بعد أن ذاق حلاوة الطاعة!
إخوة الإسلام، تذكروا أن شهر رمضان حينما رحلَ عنكم رُفِعَتْ معه أعمالكم إلى علام الغيوب، وقد كنتم في رمضان تفعلون الخيرات وتحافظون على الصلوات، كانت المساجد في رمضان بالمسلمين مملوءة، وكانت المصاحف منشورة ومقروءة، فلماذا لا تصطحبون أعمال الخير معكم إلى ما بعد رمضان حتى تَصِلُوا عبادةً بعبادةٍ وطاعةً بطاعةٍ؟! أما علمتم أن ربَّ رمضان هو رب شوال أم أنكم كنتم تعبدون شهر رمضان من دون الله؟! أما سمعتم قول الله تعالى: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]؟! فالمعبود وحده هو الله عز وجل ، فإن كان رمضان قد مضى كأنه طيف خيال وعدتم إلى التفريط في جنب الله في شوال فاعلموا أن الله حيٌّ أبدي سرمدي، لا يدركه زوال، ولا يفنيه تداول الأوقات وتعاقب الأهلة هلالاً بعد هلال، فمن يعبد الله في شهر دون آخر فليس من عباد الله المؤمنين.
أيها المسلم، عهدناك في رمضان تائبًا من ذنبك منيبًا إلى ربك، عهدناك في رمضان مهذبًا تقيًا متواضعًا نقيًا، عهدناك في رمضان حريصًا على حضور الجمعة والجماعات، مقبلاً على دروس العلم، مستعدًا لقبول النصائح والعِظات، فلماذا تراجعتَ عن هذا الخير كله وهجرتَ بيت الله وطويتَ مصحفكَ؟! ولا ندري متى تعود إليه أيها المسكين. لقد كنتَ في رمضانَ جوادًا كريمًا معطاءًَ سخيًا، تبذل الكثيرَ من مالك، وتحسنُ معاملة الناس أجمعين؛ لأنك متخلقٌ بأخلاق الصائمين القائمين، من رآكَ في رمضان يقول: ما هذا بشرًا إن هذا إلا مَلَكٌ كريم؛ لما يرى فيكَ من حرصٍ على الطاعةِ ومواظبةٍ على العبادةِ، فقل لي بربكَ: ما الذي حدثَ حتى تخرجَ من رمضانَ مقبلاً على المعصية، ناسيًا ما كنت فيه من العبادة؟! وماذا ينتظر العاصي بعد ذلك من ثواب على ما فعل في رمضان؟!
أيها المسلمون، لقد سُئِل العبد الصالح بشرٌ الحافي عن قومِ يعبدون الله في رمضان دون سواه فأجاب قائلاً: "بئس القوم هم، لا يعرفون لله حقًا إلا في رمضان". إن المؤمنَ الحقَّ والمسلم الصادقَ هو الذي يعبد الله في رمضان وفي غير رمضان. ولقد صدق الشاعر حيثُ يقول:
أفي رمضان نعتزل المعاصي وبعد الصوم نرجع للحرام؟!
فهذي حرفة الأشرار منا وتلك طبيعة القوم اللئام
إذا ما المرء صام عن الخطايا فكل شهوره شهر الصيام
فما أحقرَ تجارةَ الشهوات، وما ألأمَ العابثين بعبادة الله، ويا حسرة على العباد يعبدون الله في رمضان ثم يعودون إلى المعصية في شوال، فما الذي يجنيه العاصي من وراء معصيته سوى قسوة القلب وغضب الرب والعذاب الأليم والقلق النفسي والاضطراب البدني في الوقت الذي تطمئنُ فيه قلوب المؤمنين بذكر الله الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]. ولقد نعى رسول الله على الذين يجتهدون في العبادة ثم يتكاسلون عنها فقال: ((إن المُنْبَتَّ لا أرضًا قطع، ولا ظهرًا أبقى)).
فيا عباد الله، استمروا على الطاعة التي كنتم عليها في شهر رمضان، حتى تكونوا من المؤمنين الصادقين، وإياكم أن تكونَ عبادتكم لله عبادةً موسمية، فتكونوا تجارًا غير رابحين، واعلموا أن الموت يأتي بغتةً، يقول الله تعالى: وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النحل:77].
فاعلموا ـ أيها المسلمون ـ أن خير الأعمالِ ما خُتِمَ بطاعةٍ، وأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ، وقارنوا بين مَن اتَّبَع هدى الله ومَن أعرضَ عن ذكره، حيث يقول سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123، 124].
جماعة المسلمين، المعبودُ هو الله وحده دون غيره من الخلق، وصدق سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيثُ قال يوم وفاة النبي : (أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). وأنتم ـ أيها السادة ـ من كان منكم يعبد رمضان فقد انقضى رمضان، ومن كان يعبد الله فلينظر كيف يتعامل مع ربٍ كريم يكافئ على الحسنةِ بعشر أمثالها، وقد يزيدُ. فطوبى لمن اتخذوا رمضان حافزًا على مواصلة العبادة، وبُشرى لمن داوموا على الطاعة بعد رمضان، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وحافظوا على مرضاة ربكم بمداومة العبادة، ولا تغضبوا نبيكم بالتكاسل عن الطاعة، حتى تستحقوا شفاعته يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم اجعل عيدنا سعيدًا، اللهم أعده على الأمة الإسلامية وهي ترفل بثوب العزة والقوة والنصر على الأعداء يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه.
أما بعد: أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى واشكروه أن والى عليكم العبادات، وتابع عليكم الطاعات من الفرائض والمستحبات، فإنه إن انتهى شهر الفريضة في شهر رمضان فصوم التطوع بابه مفتوح؛ كصيام ستة أيام من شوال، فقد روى الإمام مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر )). وذلك لأن صيام شهر رمضان عن صيام عشرة أشهر في الأجر، وستة أيام من شوال عن صيام شهرين، فبذلك يحصل لمن صامها أجر صيام الدهر كله، ويجوز لمن أراد صيامها أن يتابعها ويفرقها في الشهر، كما يجوز أن يصوم سنة ويترك أخرى، فلا تُفوِّتوا ـ رحمكم الله ـ على أنفسكم هذه الفضائل، واذكروا الله سبحانه على إنعامه، وأتموا أعمالكم الصالحة، واستمروا عليها بعد رمضان إلى أن يتوفاكم الله عز وجل، ولا تبطلوا ـ رحمكم الله ـ أعمالكم الصالحة التي بنيتموها في شهر رمضان، فإن أحدنا لا يدري هل يدرك رمضان مرة أخرى أو لا يدركه، وكلنا بحاجة إلى التوبة إلى الله سبحانه والاستغفار وتتابع الأعمال الصالحة.
ألا وصلوا وسلموا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقال فيما رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: ((من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا )).
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي...
(1/3575)
إلى متى حياة الذل والهوان؟!
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
حيان بن حلمي الإدريسي
القدس
28/10/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عادة إلقاء اللوم على الغير. 2- وضوح الداء والدواء. 3- صعود الأمة وهبوطها. 4- شيء من تاريخ الأقصى. 5- التاريخ يعيد نفسه. 6- هوان الأنظمة العربية. 7- سياسة أمريكا الإرهابية. 8- سنة الله في المستكبرين في الأرض بغير الحق. 9- النصر قادم.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اذكروا الله في علاه.
يقول الحق عز وجل في كتابه الكريم وهو أصدق القائلين: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153]، ويقول: وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأنعام:155]، ويقول تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].
عباد الله، لقد اعتاد البشر أن يلقوا تبعة خسرانهم وانهزامهم على الغير، والقليل منهم من يعترف بأن سبب مصائبه وخذلانه كان بتخاذله أو نتيجة طمعه أو عدم مبالاته أو بسبب مشاركته في التآمر أو النفاق، وأمة الإسلام التي تفرقت اليوم وأصبحت دولا وشيعا وأحزابا خسرت وحدتها وكرامتها، وأصبحت أرضها نهبا للطامعين، ومع كل هذا الخسران فإننا لا زلنا نبتعد أكثر فأكثر عن القوة التي وحدتنا وجمعت كلمتنا وأعزتنا بعد ذلّ، وهي كتاب الله والتزام الجماعة والامتثال لخليفة واحد.
إن الداء بيّن، والدواء بيّن، ولكننا استبدلنا بالإيمان الشك وبالوحدة التشتت، وتقاعسنا عن المسؤولية بالتخلي والتواكل والاستهتار، واستبدلنا بالإخلاص للعقيدة والوطن الإخلاص لأنظمة فاجرة وقادة مارقين، وتحول الصراع مع العدو إلى صراعات بيننا نتحارب حول كل شيء ومن أجل كل شيء إلا الجهاد في سبيل الله وتحرير المقدسات.
والناظر إلى تاريخنا يرى أن صعود أمة العرب كان سببه الإسلام وتطبيق شرع الله، فأعزهم الله وأيدهم بالنصر والأمان والعيش الرغيد، وأن هبوط وهزيمة أمة العرب كان بسبب الشهوات الدنيوية وتآمرهم على بعضهم البعض، وما أشبه اليوم بالبارحة؛ اقرؤوا التاريخ ومجريات الأحداث السابقة تجدوا أن التاريخ يعيد نفسه، هذه أرض فلسطين احتلها الصليبيون وقتلوا أهلها ودنسوا أولى القبلتين، وبينما كانت بقايا جموع الصليبيين في فلسطين جاءت التتار والمغول أشقى الأمم وأوحشها وأشرها إجراما، جاؤوا إلى العراق، واحتلوا بغداد، ووضعوا السيف في أهلها، وأجروا بدمائهم سيولا وأنهارا، ومن جماجمهم صروحا وتلالا، ونهبوا من أموال الخليفة العباسي التي كان يكنزها في قصوره ولم ينفقها على رعيته وعلى جيشه، فقتلوا أبناءه أمام عينه، واغتصبوا بناته ونساءه أمام ناظريه قبل قتله، ودخلت المغوليات البيوت تقتل الرجال والنساء بدون مقاومة تذكر.
واليوم التاريخ يتكرر، ففلسطين اغتصبها اليهود، وشرّدوا أهلها، واحتلوا القدس أولى القبلتين، وقتلوا وسجنوا وهدموا، وأذلّوا الصغير والكبير، وعاثوا في الأرض فسادا، وأما العراق وبغداد فقد تعرضت اليوم أيضا إلى هجوم بربري من أعتى وأوحش وأقوى دولة في الأرض حاليا وهي الولايات المتحدة الأمريكية، فعلوا كما فعل التتار، حرقوا الأخضر واليابس، دمروا الزرع وهدموا البيوت فوق رؤوس ساكنيها، قتلوا الأطفال والرجال، وصبوا نيران أسلحتهم الفتاكة على رؤوس المدنيين، واحتلوا القصور، ونهبوا الدولارات المدفونة، لقد تداعى الأكلة ونحن كثير، ولكننا غثاء كغثاء السيل كما أخبرنا الصادق المصدق رسول الله ، نزع الله من صدور عدونا المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت، حب المال وحب الكراسي والإمارة والزعامة.
وما أشبه اليوم بالبارحة عندما سقطت فلسطين بأيدي الصليبيين وبغداد بأيدي التتار، كانت أمة الإسلام متفرقة، في كل مدينة أمارة ومملكة، يعادي بعضها بعضا، واليوم دول عربية متفرقة، وحكومات متباعدة، تقوم على القمع والفساد، تستعين بحاشية منافقة تنصر الكذب وتدعم الفساد. أنظمة يشتم بعضها بعضا، ويكره بعضها بعضا، ويجور بعضها على بعض. أنظمة تستأسد على الصديق والقريب، عميلة للعدو والغريب، يضيع حقها فتحتكم إلى عدوها وتستجدي عطف من أهانوها ومرغوا كرامتها في التراب، فإلى متى يا أمة العرب ونحن جزء منكم وبلوانا كبلواكم؟! نلوك شعارات ونمضغ أوهاما ونجتر باطلا إلى متى؟! إلى متى ستظل هممنا مقهورة وعزائمنا مبتورة وأيدينا مغلولة؟! إلى متى سنظل نفقد دوافع الدين وحوافز الإيمان؟!
عباد الله، إن المصيبة في أمة العرب أنها تعلم أن أمريكا ما جاءت لغزو العراق من أجل تحرير أهله من تسلط ظالم؛ لأن تاريخ أمريكا يشهد لها بأنها كانت ولا زالت مؤيدة ومناصرة للحكام الدكتاتوريين والأنظمة الفاسدة في العالم الثالث، إن حكوماتنا وشعوبنا تعلم أن أمريكا جاءت لاحتلال منابع البترول ولمساعدة إسرائيل في القضاء على ما تبقى من روح وطنية تنادي بتحرير أرض العرب من المحتلين، وجاءت لتثبيت أعمدة الحكم الموالية لها، وجاءت لتهديد الدول التي لا تسير في ركابها وفلكها، جاءت أمريكا بحجة محاربة الشر ونشر الديمقراطية والحرية، بينما الكل يعلم في هذه المعمورة أن أمريكا هي رأس الشر في الأرض، فهي لم تترك قارة إلا وحاربت أهلها وقتلت الملايين، إنها تعلن أنها ستحارب الإرهاب بلا هوادة وهي صانعة الإرهاب، إرهاب الدول الذي يفوق خطره كل إرهاب.
وهذه دول العالم ومنها دول أوروبا يشهد رؤساؤها ومفكروها بأن أمريكا زادت من خطر الإرهاب نتيجة لاحتلالها لأفغانستان والعراق ونتيجة لتأييدها لإسرائيلي في كل تصرفاتها من قتل ومصادرة للأرض ومصادرة للحريات وحقوق الإنسان في فلسطين.
إن أمريكا اليوم تعيش في مرحلة القطب الأوحد الذي كبر شره بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وبعد أن كانت تصرح بعد انهياره أنها سوف تصنع نظاما عالميا جديدا يضع الضوابط ويمنع الاعتداءات وينشر الديمقراطية أصبحت أمريكا الدولة التي تهدد النظام العالمي.
عباد الله، إن العالم اليوم لم يمر عليه يوم قبل هذا يضع كل قاراته وشعوبه جميعا في خطر من دولة واحدة كما يمر عليه اليوم من أحداث، وأمريكا بتهديدها للعالم ومحاولة فرض هيمنتها عليه وتخويفها لهم بالمال تارة وبالسلاح تارة سوف تضع نفسها في مواجهات ومصادمات تهدد بها البشرية جمعاء، وإذا كان العالم ينظر إليها من زاوية أنها الدولة التي لا تقهر فإننا ننظر إليها من زاوية أخرى، ننظر إلى قدرة الخالق الذي لا ينازعه مخلوق على وجه الأرض إلا أخذه إليه بقدرته، ولا يتكبر أحد من خلقه ويتمادى في غيه إلا أنزل عليه الله عذاب الخزي، وتلك هي سنة الله في الأولين وسنة الله في الآخرين، ولن نجد لسنة الله تبديلا، ومصداقا لما ذكرنا يقول الحق عز وجل : فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) [فصلت:15-17]، أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِي وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6-14].
عباد الله، لقد أنهزم الصليبيون وانهزم التتار، وكان لا بد أن يبعث الله في هذه الأمة من يوحد كلمتها ويلم شملها؛ ليقف في وجه الظالمين المعتدين، ونحن على يقين بأن رب العالمين سوف يبعث في هذه الأمة من يوحد كلمتها، ويبعث بقدرته ما يهيئ لزوال المحتلين، فيهزم الجمع ويولون الدبر، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ [الصافات:171، 172].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد
(1/3576)
الجدار العازل
العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ, موضوعات عامة
السيرة النبوية, المسلمون في العالم, جرائم وحوادث
ناصر بن محمد الأحمد
الخبر
5/11/1425
النور
_________
ملخص الخطبة
_________
1- استمرار نزيف الجراح الفلسطينية. 2- صمود الانتفاضة. 3- التعريف بالجدار العازل. 4- بداية فكرة الجدار. 5- ماهية الجدار وتوصيفه. 6- الهدف من إقامة الجدار. 7- الأضرار الناجمة عن هذا الجدار على الشعب الفلسطيني. 8- موقف المجتمع الدولي من الجدار. 9- تأصل الجبن والذلة في سلالات اليهود عبر التاريخ. 10- فشل فكرة الأسوار السياسية عبر التاريخ. 11- موقف اليهود من الجدار. 12- بناء الجدار يمثل انتكاسة لدولة يهود وطموحاتها. 13- نظرة تفاؤل إسلامية للجدار.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أيها المسلمون، وما تزال الأحداث مشتعلة ودامية على أرض فلسطين، والمسلمون هناك صابرون محتسبون، نسأل الله جل وعز أن يأجرهم وأن يثيبهم وأن يكتب أجر كل قطرة دم مسلم أُرِيقت على تلك الأرض الطيبة المباركة.
لقد تقرّحت أكباد الصالحين كمدًا مما يجري في الأرض المباركة في فلسطين الحبيبة، مناظر مفزعة متوالية، وعربدة صهيونية غادرة، القتل بطريقة وحشية تفوق كل طريقة، مسلسلات من الرعب، وإراقة دماء الأطفال والنساء والشيوخ بأيد قذرة، لم يكفهم القتل، بل جاوزوه إلى كل ما يهلك الحرث والنسل، صور وآلام تصرع كل الجبابرة، فضلاً عن الإنسان العادي. المدفعية الثقيلة تمطر حممها فوق رؤوس العُزّل، والطائرات تصب جام غضبها على الرضيع والشيخ والمرأة والعجوز، والمجنزرة الحديدية تعارك الجسد البشري المجرد. شهيد تلو شهيد، وأرملة تلو أخرى، ورضيع خلف أم، وأم خلف رضيع، ومنزل مهدم، وشيخ حزين، وعجوز بائسة، والسؤال: إلى متى؟! مناظر حفرت معالمها في ثنايا التاريخ، بل في ثنايا قلب كل مسلم، ملاحم تسطرها أشلاء الرجال بألوان الدم القاني وجماجم الشهداء.
أيها المسلمون، إن الحديث عن الانتفاضة حديث متشعب وطويل بطول هذه الانتفاضة، عميق في الجذور بعمق هذه الانتفاضة، لكنه واجب كما أن هذه الانتفاضة واجبة. لقد ضرب الشباب الفلسطيني أروع الأمثلة في حب الموت واسترخاص الدنيا والاستعلاء على خور النفس وتحطيم رهبة العدو في النفوس. لقد انتصر الفلسطينيون على حب الدنيا وكراهية الموت من خلال العمليات الاستشهادية التي يقومون بها، وهذه نقلة كبيرة في حياتهم، تجعلهم يطرقون أبواب النصر بإذن الله تعالى.
كرامة الأمة العصماء قد ذُبحت وغُيبت تحت أطباقٍ من الطين
لكنّها سوف تحيا من جماجمنا وسوف نسقي ثراها بالشرايينِ
أيها المسلمون، ما هو الجدار العازل؟ ومتى بدأت فكرته؟ وما هو الهدف الرئيس في إنشائه؟ وهل الجدار مشروع ناجح بالنسبة لليهود؟ هذا ما نحاول معرفته في هذه الخطبة بحول الله تعالى وقوته.
الجدار العازل مصطلح إسرائيلي، المراد منه تأمين وحماية حدود دولة اليهود، يهدف إلى عزل محافظات الضفة الغربية عن بعضها البعض، وجعلها على شكل مربعات متناثرة، يحصر أكبر عدد من الفلسطينيين على أصغر رقعة من الأرض؛ لكي يحولوا دون العمليات الجهادية التي أربكت اليهود حكومةً وشعبًا.
بدأت ملامح الجدار العازل بعد حرب الخليج الثانية عام 1990م، حين بدأت إسرائيل أولى خطوات الفصل غير المباشر بين سكان الضفة وإسرائيل داخل حدود 48، بإصدار تصاريح لكل فلسطيني يريد الدخول إلى الخط الأخضر للعمل. وفي عام 93م اتخذ رابين إجراء الإغلاق ردًّا على عمليات المقاومة، حيث يقضي بإغلاق الضفة الغربية عن فلسطين المحتلة، واقترح حينها إنشاء ما يُسمى بالجدار العازل، ولكن الفكرة لم تلق رواجًا في ذلك الحين، وبدأت الفكرة تأخذ طريقها للتنفيذ الفعلي بعد اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000م.
في إبريل 2002م طالبت لجنة التوجيه الحكومية الإسرائيلية سرعة إنشاء الجدار العازل في شمال الضفة الغربية، فقررت الحكومة الإسرائيلية في 23 يونيو 2002م إنشاء جدارٍ عازلٍ بطول الضفة الغربية، يفصل بين الأراضي المحتلة في الضفة من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، ويبلغ طوله 500كم، وتقدر تكلفة الكيلومتر الواحد مليون دولار، وقد يصل أحيانًا إلى مليوني دولار.
يتصور معظم الناس أن الجدار عبارة عن خرسانات إسمنتية مرتفعة، تمنع الفلسطينيين من الدخول لمناطق اليهود، وهذا تصور ناقص، فهل تعلم ـ يا أخي الحبيب ـ أن عرض الجدار في بعض الأماكن يصل إلى عشرات الأمتار، نعم قد يصل إلى ثلاثين مترًا، فكيف يكون ذلك؟
إن الجدار يتخذ أشكالاً متنوعة تختلف من منطقة إلى أخرى، ففي بعض الأماكن يتخذ الجدار شكل جدار مرتفع من الخرسانة المسلحة، يصل ارتفاعه إلى ثمانية أمتار؛ لمنع تسلل الفلسطينيين، وكذلك تتصدى لأي إطلاق لأسلحة نارية، بينما في مناطق أخرى يتكون الجدار بالإضافة إلى الخرسانة المسلحة من أسلاك شائكة لولبية، ثم خندق بعرض أربعة أمتار وعمق خمسة أمتار، يأتي مباشرة بعد الأسلاك الشائكة، ثم شارع مزفلت بعرض اثني عشر مترًا، وهو شارع عسكري لدوريات المراقبة والاستطلاع، يليه شارع مغطى بالتراب والرمل الناعم بعرض أربعة أمتار، لكشف آثار المتسللين، ويمشط هذا المقطع مرتين يوميًا صباحًا ومساءً، ويلي الشارع جدار إسمنتي، ويعلوه سياج معدني إلكتروني، بارتفاع أكثر من ثلاثة أمتار، رُكبت عليه معدات إنذار إلكترونية وكاميرات وأضواء كاشفة وغيرها من المعدات الأمنية، إضافة إلى نقاط تفتيش ومعسكرات للجيش ودوريات للشرطة، هذا هو الجدار العازل. إذن هو عبارة عن مشروع متكامل، وليس كما يتصور البعض جدارًا إسمنتيًا فقط.
والسؤال هو: كم يحتاج هذا الجدار لاستكماله من الحديد والاسمنت والمواد الأولية؟! ومن أين ستؤمن إسرائيل هذه الكمية الهائلة من الحديد والإسمنت وغيره؟! هل من دول الجوار أم من أين؟! نترك الإجابة لليهود وأذناب اليهود.
أيها المسلمون، إن إسرائيل تتوهم أنها ستحمي نفسها بهذا الجدار، ولهذا لجأت إلى إقامته لمنع الفدائيين الفلسطينيين من التسلل لتنفيذ العمليات ضد الأهداف الإسرائيلية, وكان ضغط الجمهور الإسرائيلي في هذا المجال له أثر كبير، خاصة بعد أن تزايدت نسبة العمليات الاستشهادية. وقد وضعت الخطط بداية بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من الأمن للإسرائيليين، لكن ظهر وزراء معارضون, وقالوا: إن الجدار يشكل حدودًا سياسية بيننا وبين الفلسطينيين، وهذا اعتراف صريح بأنه يوجد للفلسطينيين كيان منفصل. ومع ذلك فقد سارعوا في تنفيذه، وأضروا بالشعب الفلسطيني أضرارًا بالغة، نجملها في النقاط التالية:
أولاً: تفريغ مدينة القدس من المسلمين، وتهيئتها لتصبح عاصمة توراتية للكيان الصهيوني، ولبناء هيكلهم الوثني.
ثانيًا: إيقاف الانتفاضة ومقاومة الاستعمار والاحتلال الصهيوني، ومحاولة التقليل من العمليات الجهادية بضبط حركة المرور بين الأراضي الفلسطينية.
ثالثًا: ضرب البنية الأساسية من قطاع صحي وتعليمي وكهرباء ومياه للشعب الفلسطيني، وإبقاؤه تحت رحمة المغتصب الصهيوني.
رابعًا: صناعة الجوع ونشر الأمراض الجسدية والنفسية، خاصة لدى الأطفال وكبار السن والنساء، وتجهيل الأجيال الناشئة ونشر الأمية بينهم.
خامسًا: تدمير الاقتصاد للشعب الفلسطيني، خاصة الثروة الزراعية؛ بتدمير أشجار الزيتون والحمضيات، وتجريف أراضيهم الخصبة، وحرمانهم من أبسط أسباب الرزق.
سادسًا: الحيلولة دون وصولهم إلى القدس الشريف والمسجد الأقصى لأداء الصلوات المفروضة، أو الزيارة المسنونة.
سابعًا: السعي نحو تهويد القدس، وجعلها يهودية في سكانها ودينها، بل وفرض العادات اليهودية على بعض البقع السكانية الإسلامية؛ لإخراج الناس ما أمكن ذلك عن مبادئ دينهم وعقيدتهم ومعالم حضارتهم الإسلامية.
ثامنًا: عزل الفلسطينيين في مناطق محصورة، واستمرار السيطرة الصهيونية المطلقة بالتحكم في عبور الأشخاص والبضائع، وهذا ما يعني استمرار هيمنة الصهاينة على التجارة الفلسطينية بصورة عامة والتحكم بمصيرها.
تاسعًا: إن هذا الجدار سيصادر عشرات الآبار، وسيدمر البنية التحتية لقطاع المياه، من مضخات وشبكات الأنابيب الخاصة بمياه الشرب والري الزراعي.
عاشرًا: إنشاء الجدار العازل سيعيق وصول سكان المناطق الفلسطينية الريفية إلى المستشفيات؛ لأن هذه المدن ستصبح معزولة عن باقي الضفة.
الحادي عشر: سيؤدي بناء الجدار إلى مصادرة مساحة كبيرة من الأراضي الفلسطينية وضمها لإسرائيل، كما يطوّق الجدار مدنًا بالكامل، ويعزلها عن محيطها الطبيعي في الضفة. فضلا عن ذلك ستفرض إسرائيل سيطرتها على إحدى وعشرين قرية فلسطينية أخرى وراء الجدار، باعتبارها منطقة عسكرية. وهناك أربع عشرة قرية يبلغ عدد سكانها أربعين ألف فلسطيني، يعملون بشكل أساسي في الزراعة، وسوف يجد هؤلاء أنفسهم محاصرين، يلزمهم الحصول على تصاريح إسرائيلية للذهاب لحقولهم.
بل لقد تضرر آلاف الطلبة بسبب هذا الجدار وصعوبة الوصول إلى مدارسهم، ناهيك عن تدمير المدارس وتعرض مرافقها للأضرار، مما سيؤدي إلى تراجع التعليم، وتراجع الالتحاق بالمدارس، وبخاصة في المناطق الريفية. فأية جريمة إنسانية تحرم التعليم؟ إنهم قتلة الأنبياء، يتناسخون الشر جيلاً بعد جيل.
ورغم أن الفلسطينيين تعوّدوا طوال سنوات الانتفاضة الثلاثة على التأقلم مع الحواجز والمعابر التي انتشرت بشكل سرطاني في كل المناطق الفلسطينية، ونجحوا في التخفيف من آثارها على مسيرة التعليم التي يعطيها الفلسطينيون اهتمامًا كبيرًا، باستخدام وسائل مبتكرة وصلت لحد إعطاء المحاضرات الجامعية على الحاجز، إلا أن الجدار يشكل تحديًا من نوع آخر يفوق بكثير تحدي الحواجز، حيث يعزل الجدار المناطق الواقعة خلفه عن محيطها، ويجعلها زنازين مفتوحة لآلاف الفلسطينيين.
وهذا معلم في مدرسة ابتدائية يصور المعاناة اليومية قائلاً: "الرحلة إلى المدرسة التي أعمل بها أصبحت تستغرق أكثر من ثلاث ساعات يوميًا، جزء كبير منها أقضية في إجراءات التفتيش، والتأكد من أنني أعمل مدرسًا على البوابة الحديدية المقامة على الجدار، والتي تسمح بالمرور للقرية، فالجنود لا يسمحون لغير أهالي القرية بالمرور عبرها، وعندما أصل للمدرسة أكون قد أنهكت تمامًا، ولا أستطيع أن أقوم بدوري كمعلم بالشكل المطلوب". إن إسرائيل تتعمد تعطيل العملية التعليمية؛ لأنها تريد جيلاً من الفلسطينيين غير متعلم، بحيث يمكن السيطرة عليهم، وتسخيرهم كعمال لخدمة مصالحها، وللعمل في الأشغال التي يعف عنها الإسرائيليون.
وتعوّد مئات الطلاب على تسلق المكعبات الأسمنتية التي ترتفع لأكثر من مترين، ورغم ذلك فإن رحلة الوصول للمدرسة لم تكن تتجاوز عشرة دقائق، لكن في الفترة الأخيرة شرعت سلطات الاحتلال في بناء جدار بارتفاع ثمانية أمتار، مما يجعل وصول الطلاب لمدارسهم التي لا تبعد سوى مئات الأمتار أمرًا مستحيلاً.
يقول أحد الفلسطينيين: إنه اضطر لاستئجار سيارة خاصة لنقل أطفاله الأربعة إلى مدارسهم على الرغم من وضعه المالي السيئ، مؤكدًا أنه على استعداد لبيع أثاث منزله حتى يكمل أبناؤه تعليمهم. وهكذا تتحول معركة الجدار التي لم يجد الفلسطينيون بُدًا من خوضها بكل ما يملكون من قوة إلى ملحمة حياة أو موت، وبخاصة عندما تمس بمستقبل أبنائهم وحقهم في التعليم والمعرفة.
أيها المسلمون، كل ذلك يجري مع عميق الألم والحزن في وضح النهار، وعلى مرأى من المجتمع الدولي كله، وتحت غطاء ودعم الإدارة الأمريكية التي تعتبر أن مشروع شارون هو مشروعها، وأن معركته هي معركتها. والأشد حزنًا أن كل ذلك يتم والمسلمون منشغلون بأمور تافهة والله المستعان.
إن هذا الجدار يبعد الوالد عن ولده، والجار عن جاره، والخليل عن خليله، والطالب عن مدرسته، والمصلي عن مسجده، والمزارع عن أرضه، والقرية عن المدينة، وذلك بعد أن قام العدو بهدم البيوت وسلب الأراضي وتدمير الممتلكات. لك أن تتخيل أن تصحو يومًا وتجد من تحبهم في دولة وأنت في دولة أخرى، بل تجد أرضك وممتلكاتك في دولة وأنت في دولة أخرى.
والأمر الذي يثير الدهشة هو أنه حتى الأموات لم يسلموا من أضرار هذا الجدار، حيث قامت سلطات الاحتلال بإجبار عدة عائلات على نبش قبور موتاها، ونقل رفاتهم إلى أماكن أخرى بذريعة وقوع القبور ضمن منطقة الشارع الموازي للجدار العازل.
فهل يلام الفلسطينيون بعد ذلك على العمليات الاستشهادية؟! والفلسطيني لا يعشق الموت من أجل الموت، فهو كأي إنسان آخر يحب الحياة الحرة الكريمة، ولكن هذا الاحتلال هو الذي يحرمه حق الحياة، ويحوله إلى قنابل موقوتة تتفجر بوجه الأعداء؛ ليوفروا تلك الحياة للأجيال القادمة، ولن ينهي الجدار العمليات الفلسطينية بإذن الله، وإنما سيدفع الحركات المجاهدة المسلمة إلى تحسين أساليب المقاومة، وصاحب الحق لا يقف أمامه حاجز.
يا قدسنا الدامع المحزون قبلتنا معراج سيدنا الغالي ومسراه
يا قدسنا مهرجان الموت مسرحه قلوبنا والدم القاني حكاياه
يا قبة الصخرة الغراء يا أملاً يعز في واقع التهريج لقياه
حروفنا متعبات لم يذقن كرى وشعرنا بقوافي الذل صغناه
لن يرجع الأقصى وأمتنا ما زال يشغلها قيسٌ وليلاه
لن يرجع الأقصى وأمتنا شبابها في دروب اللهو قد تاهوا
وسوف يرجع متى عدنا لمنهجنا على دروب الهدى فالناصر الله
أيها المسلمون، إن طبيعة الشخصية اليهودية تتسم بالجبن المتأصل في جذورها، تتوارثه عبر الأجيال منذ قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام يوم دعاهم إلى دخول الأرض المقدسة في فلسطين: يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ [المائدة:22]، لقد فقدوا الثقة في كلام نبيهم، بل وأساؤوا الأدب مع نبيهم موسى عليه السلام، بل وتجاوزوا ذلك لإساءة الأدب مع الله عز وجل: قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، منذ ذلك الحين وتاريخهم مليء بالمواقف المخزية والتي تؤكد على مدى جبنهم وخورهم.
وتمر السنون، وتمضي القرون، ويبعث الله تعالى نبيه محمدًا لتبدأ حلقة أخرى من حلقات الصراع بين الحق والباطل، وينصر الله جنده في بدر، ويعود المسلمون إلى المدينة، فيطفح الحقد من صدور اليهود على ألسنتهم. وتمر الأيام ويقترف بنو قينقاع جريمتهم المشينة بمحاولة كشف عورة المرأة المسلمة، ثم حصار الرسول لهم وإجلاؤهم عن المدينة، فاستسلموا خانعين أذلاء جبناء، وتم إجلاؤهم عن المدينة إلى غير رجعة. وتمر الأيام ويحاول يهود بني النضير الغدر برسول الله ، وذلك بتحريض شقيٍّ من أشقيائهم لإلقاء حجر عليه ليتخلصوا منه، وينجِّي الله نبيه، ويحاصرهم الرسول فيطلبون العفو والسماح لهم بالخروج من المدينة، كما أخرج إخوانهم من بني قينقاع، فيتم إجلاؤهم عن المدينة. وتأتى الخيانة الثالثة من بني قريظة في غزوة الخندق، وينادي المنادي بعد المعركة: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة. ويحاصر المسلمون اليهود، ويحكم عليهم سعد بن معاذ بحكم الله، فيسلمون أعناقهم للسيف خانعين جبناء. وتمر الأيام وتأتى انتفاضة الأقصى الأولى ثم الثانية، فترى الجندي المدجج بالسلاح والعتاد يفر من أمام الطفل الفلسطيني الذي لا يملك غير الحجر، وإذا أراد الجندي اليهودي أن يستخدم سلاحه فمن داخل دبابته أو سيارته المصفحة، وما حالة العصيان العسكري بين جنود اليهود الصهاينة في الفترات الأخيرة ورفضهم العمل في مناطق التماس مع الفلسطينيين إلا دليل جبنهم وخورهم، وصدق الله: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96]، حتى ولو كانت حياة ذليلة مهينة. وهكذا فمن حصون خيبر قديمًا إلى حصون الكذب والنفاق والخداع، إلى الجدار العازل، وصدق الله تبارك وتعالى: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُر [الحشر:14].
فنسأل الله...
_________
الخطبة الثانية
_________
بعد: إن فكرة الجدار الفاصل وبنائه فكرة قديمة حديثة، وليست وليدة اليوم كما تدعي القيادات الإسرائيلية، فترجع فكرة بناء الجدار إلى عام 1937م حين طُلب من تشارلز الخبير البريطاني لشؤون الإرهاب وضع خطّة لإقامة جدار على طول محاور الطرق الرئيسة من الحدود اللبنانية في الشمال وحتى بئر السبع، وقام هذا الرجل برسم المرحلة الأولى من عملية إقامة الجدار، وهو جدار من أربع طبقات، وبارتفاع مترين، يتم بناؤه على طول ثمانين كلم من طبريا في الشمال الشرقي وحتى رأس الناقورة في الشمال الغربي. وكانت تكلفة المشروع آنذاك 60 مليون دولار، وقد تم هدم هذا الجدار من قِبَل سكان القرى في ذلك الوقت.
وبين نكبة 48 ونكسة 67 تمت إحاطة مدينة القدس بالعديد من الأسيجة والجدران لحمايتها من المقاومين الذين يحاولون التسلل إليها، وأيضًا فشلت تلك المحاولات.
أيها المسلمون، إن فكرة الأسوار سياسة فاشلة، ففي مجلة إيطالية تم استعراض تاريخ أهم الأسوار التي أقيمت بغرض الدفاع عن الدول، والتي يعد سور الصين العظيم أكبر مثال عليها، وقد بدأ بناؤه في القرن الثالث قبل الميلاد، من المحيط الهادي إلى آسيا الوسطى، للتصدي للغزوات الآتية من الشمال، وقد كان هذا السور يمثل الخط الدفاعي الرئيس للصين القديمة ضد الغزوات التي كانت تقوم بها القبائل الشمالية. فأين هو سور الصين الآن؟!
وهل سيصمد هذا الجدار اللعين أكثر من صمود جدار برلين وحصون خيبر وخط بارليف والمعازل الخاصة إبان الحكم العنصري في جنوب أفريقيا؟! ولنا من التاريخ الدليل، ولدى المستقبل الإجابة، وجولة الحق في ساعات، تزيل ما شاد أهل الباطل في سنوات، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18].
يأتي هذا الجدار في زمن العولمة، والذي من أبرز خصائصه الانفتاح وكسر الحواجز. فإذا كانت أوربا كسرت كل الحواجز، ومعظم الدول تتجه الآن إلى الانفتاح مع الغير، فهل تستطيع إسرائيل أن تعيش داخل جدران وأسوار؟!
إن بناء الجدار يشكل تراجعًا كبيرًا عن مشروع إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات، ويعتبر انتكاسة خطيرة لجيش ودولة الاحتلال، إذ إنها تمامًا عجزت عن إسكات صوت المقاومة، وعبثًا حاولت فلم تفلح، وهذه النقطة كانت محل تندّر من بعض الساسة اليهود على دولتهم، إذ إنها تعتبر نفسها من الدول العظمى في التسلح، فضلاً عن تحالفها غير المسبوق مع أقوى دولة في العالم، ومع هذا فهي تحشر نفسها خلف سور كبير؛ لتحمي مجتمعها من ضربات المجاهدين.
ولن يحقق هذا الجدار لإسرائيل الأمن والسلامة، ولن يسهم في توليد الإحساس بالأمن لدى الإسرائيلي، وهذا باعترافاتهم هم وليس محض خيال وآمال.
إن هذا الجدار لن يستطيع حماية المواطن الإسرائيلي ممن يقاومون الاحتلال، مهما علا وتنوعت مواده؛ لأن المقاومة تطور وسائلها مع تطور دفاعات العدو.
وقد بدأت ترتفع أصوات يهودية تنادي بإعادة النظر في عقلية الجدار، وتعلن معارضتها الشديدة لخطة السور الفاصل. وبرّر المعارضون موقفهم بأن جميع الجدران التي بناها اليهود منذ نحو 150 عامًا، وكذلك عبر التاريخ أثبتت عدم جدواها أو فاعليتها، بل إنها وفّرت مبررات إضافية لتعريض الأمن اليهودي للخطر. إضافة إلى أن الجدار سيحكم على مشروع خارطة الطريق التي ترعاها الولايات المتحدة بالفشل.
أما نحن المسلمين، فإننا متفائلون بهذا الجدار، وأنه سجن كبير لليهود, إنهم يحشرون أنفسهم داخله لأبطال فلسطين، ونأمل أن يتحقق موعود الله في بني إسرائيل في القضاء عليهم، فلم ينفعهم جدار يحتمون خلفه، حيث يغضب عليهم كل شيء حتى الشجر والحجر يرشدان المؤمن على اليهودي الذي يختبأ خلفهما. قال الله تعالى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ [الحشر:2].
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين...
(1/3577)
الحياة الآمنة
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب, موضوعات عامة
الكبائر والمعاصي, جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- البعد عن القتل من صفات عباد الرحمن. 2- الأدلة من الكتاب والسنة على تحريم القتل. 3- الاعتداء على النفس جريمة عظمى. 4- لا يُقدم على جريمة القتل مؤمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الرحمن نخبةٌ من أولياء الله تعالى، وطائفة ممن ملأ الإيمانُ قلوبهم، ووقر في أفئدتِهم، وظهر في أفعالهم وتصرفاتهم، أثنى الله عليهم في كتابه الكريم، ووصفهم بأوصاف عزيزة، ونعوت غالية ونفيسةٍ، يسيرون على منهج الله تعالى، ويهتدون بِهدي رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، وإن مالت بهم أنفسهم يومًا إلى المخالفة رجعوا إلى خالقهم، واستغفروا الله وتابوا إليه من تلك الكبوة الطارئة، وَرَدَتْ صفاتُهم في أواخر سورة الفرقان، وهي صفات تظهرُ في سلوكهم وحياتهم وتعاملهم وأخلاقهم.
ومن أوصافهم تلك ما جاء في قوله جل وعلا عنهم: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الفرقان:68]. فنفى الله تعالى عنهم هذا الوصف، وبيَّنَ أنَّهم لا يعتدون على الأنفس البريئة، بل يحفظونها، ويبتعدون عن إيذائها، ولا يتعرضون لها بسوء أو ضرر، وهم حين يمتنعون عن ذلك، إنما يسترشدون بالهدي الرباني والتوجيه الإلهي، فإن الله تعالى قد نهاهم عن ذلك وحذرهم منه وقال لهم: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].
ثم أكد النهي بتكراره مرة أخرى، قال جل في علاه: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا [الإسراء:33]، فبين الله تعالى أن القتل لا يكون ولا يحلّ إلا بالحق، وهو ما بينه المصطفى بقوله: ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيِّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) متفق عليه، وورد عن عثمان أنه قال: ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسًا بغير نفس فُيقتل بها)) رواه أبو داود، وعن أبي بكرة أن النبي قال: ((إن ريح الجنة لتوجدُ من مسيرة مائة عام، وما من عبدٍ يقتل نفسًا معاهدةً إلا حرّم الله عليه الجنَّةَ ورائحتها أن يجدها)) رواه البخاري.
إن الاعتداء على النفس وإزهاقها بغير حق جريمة عظمى، وعدَّها كثيرٌ من العلماء أكبرَ الكبائر بعد الإشراك بالله تعالى، ولا أدل على بشاعة هذه الجناية وقبحِ ارتكابِها من أنَّ الجاني باعتدائه على النفس الإنسانية وقتلها بدون حق يتحمل إثمًا عظيمًا؛ إذ هو بفعله هذا كأنما اعتدى على أرواح الناس كلهم وسَفَكَ دماءهم، وقد بّين الله تعالى ذلك في قصة ابني آدم، وأن القاتل قد باء بإثم جرمه الذي ارتكبه، قال جل شأنه: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ [المائدة:32]. وجاء في الحديث عن النبي أنه قال: ((لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من إثمها؛ لأنه أول من سنَّ القتل)) متفق عليه.
إن جريمة القتل لا يمكن أن تُرتكب من مؤمن صادق الإيمان، ولا يتصور أن يحدث ذلك منه إلا أن يكون عن طريق الخطأ وعدم القصد، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً [النساء:92].
أما قتل العمد من المؤمن والترصد له وتحيّن الفرصة لإزهاق روحه فإن ذلك لا يحدث من مؤمن، وإن حدث فإن الله تعالى قد أعد أشد العذاب وتوعد بأليم العقاب لكل من خالف فاعتدى على نفسٍ مؤمنةٍ فأزهقها، قال جلّ وعلا: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]، وذلك كله تحذير للناس كلهم من الاعتداء على النفوس المؤمنة، إذ لها عند الله تعالى مكانة عظيمة ودرجة سامية كريمة.
فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله يطوف بالكعبة ويقول: ((ما أطيبك وما أطيب ريحك، ما أعظمك وما أعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن عند الله أعظم من حرمتك، مالِه ودمِه)) رواه ابن ماجه، وقال : ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمدًا)) رواه ابن حبان في صحيحه، وقد جاء عنه : ((إن المقتول يأتي يوم القيامة يحمل رأسه بإحدى يديه، ويمسك قاتله بتلابيبه بيده الأخرى، وأوداجه تشخب دمًا عند ذي العزة والجلال، فيقول المقتول لرب العالمين: يا رب، سل هذا فيمَ قتلني؟)) رواه الترمذي.
إن المسلم وهو يسمع هذا الوعيد الإلهي لمن قتل نفسًا بغير حق لينأى بنفسه عن الوقوع في ذلك، ويبتعد عن ارتكاب أي عملٍ من شأنه أن يكون سببًا في إزهاق نفس مؤمنة، وتظهر فظاعة هذه الجريمة وعِظمها بما يتحمله القاتل من الآثام والذنوب من مساواته بقتل البشرية كلها في الآية الواردة في ذكر قتل ابن آدم لأخيه، وما ذكره الله تعالى أنه من أجل تلك الفعلة الشنيعة كتب على بني إسرائيل ذلك الجزاء العظيم على أي قاتل منهم اعتدى على نفسه فقتلها بغير حق، وهذا الحكم يشمل من حصل منه ذلك الجرم العظيم ووقع فيه من هذه الأمة المحمدية فأزهق نفسًا منها؛ لأن نفوس بني إسرائيل ودماءهم ليست أعز ولا أكرم على الله من دماء هذه الأمة التي جعل الله لها الخيرية والأفضلية على سائر الأمم الأخرى، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3578)
حرمة النفس المؤمنة
الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد
الكبائر والمعاصي, محاسن الشريعة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- من أعلى مراتب الاستقامة أن يظل المسلم محافظًا على فرائض دينه منتهيًا عن كل ما يخدش إيمانه. 2- من أبشع الأفعال التي تنافي الإيمان الصادق جريمة القتل العمد للنفس المؤمنة. 3- سبب نزول قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً. 4- العقوبات التي توعد الله تعالى بها القاتل. 5- الوعيد الشديد لمن أعان على قتل المسلم.
_________
الخطبة الأولى
_________
الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
إن الإقرار بوحدانية الله تعالى وربوبيته يتطلَّبُ الاستقامة في القول والعمل؛ إذ ليس بعد الإيمان بالله إلا إلزام النفس بالعمل الصالح، ومن أعلى مراتب الاستقامة أن يظل المسلم محافظًا على فرائض دينه، ملتزمًا بشعائر الإسلام، منتهيًا عن كل ما يخدش إيمانه، أو يجره إلى الزيغ والانحراف، أو يأخذ به إلى طرق الشيطان وحزبه، الذين يزينون للإنسان فعل المحرمات وارتكاب الجرائم والمنكرات.
وإن من أبشع الأفعال التي تنافي الإيمان الصادق جريمة القتل العمد للنفس المؤمنة التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فهي الكبيرة التي لا تُرتَكبُ وقلبُ القاتلِ محشوٌّ بكمال الإيمان وصدقه؛ لأنه في دين الإسلام لا يوجد سبب يبلغ من ضخامته أن يفوق ما بين المسلم والمسلم من رابطة العقيدة وعلاقة الأخَّوة الإيمانية، ومن ثَمّ لا يقتل المؤمنُ المؤمنَ أبدًا، اللهم إلا أن يكون ذلك القتل خطأ.
قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً [النساء:92]، وقد ورد في سبب نزولها: أن أبا الدرداء كان في سرية، فعمد إلى شعب لقضاء حاجته، فوجد رجلاً من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف، فقال الرجل: لا إله إلا الله، فضربه أبو الدرداء بالسيف فقتله، ثم وجد في نفسه شيئًا، فأتى النبيَّ فذكر ذلكَ له، فقال: إنما قالها ليتقي بِها القتل، فقال : ((ألا شققتَ عن قلبه، فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه، فكيف بلا إله إلا الله؟! فكيف بلا إله إلا الله؟!)) قال أبو الدرداء: حتى تمنيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي، فنزل قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَأً الآية، رواه الطبري.
قال المفسرون: تضمنت الآية الإخبار بعدم جواز إقدام المؤمن على قتل أخيه المؤمن بأسلوب يستبعد احتمال وقوع ذلك منه إلا أن يكون خطأ، حتى لكأن صفة الإيمان منتفية عمن يقتل مؤمنًا متعمدًا؛ إذ لا ينبغي أن تصدر هذه الجريمة النكراء ممن يتصف بالإيمان، لأن إيمانه ـ وهو الحاكم على تصرفه وإرادته ـ يمنعه من ارتكاب جريمة القتل عمدًا.
إن قتل النفس التي حرَّم الله تعالى إلا بالحق من أحرم الحرام، ومن أفظع الأعمال جرمًا وأكبرها إثمًا، وقد توعد الله قاتل المؤمن عمدًا بأنواع العقوبات، كل واحدة أعظم من الأخرى، وأنزل غضبه عليه، قال جل شأنه: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. إن قاتل المؤمن تنتظره هذه العقوبات الأربع: الخلود في نار جهنم، مع الغضب واللعن والطرد والإبعاد عن رحمة الله والعذاب العظيم.
إنه وعيد رهيب قاصم، أشدُ على سمع المؤمن من أي عقاب؛ إذ ليس بعد هذا الوعيد وعيد، وليس بعده جزاء، وذلك كله دليل واضح على حرمة دم المؤمن وحرص الإسلام على المحافظة على النفس المؤمنة وصيانتها من الاعتداء عليها وإزهاقها وسفكها بغير حق.
إن هذا أعظم وعيد يجب في أغلظ تحريم، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهم لأجل ما تضمنته هذه الآية من الوعيد فإن توبة القاتل غير مقبولة، وذلك لما روى أبو داود عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله : ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركًا أو قتل مؤمنًا عمدًا)). فقد سوى رسول الله بين من مات مشركًا ومن أصاب دمًا حرامًا في عدم رجاء المغفرة لكل منهما، فدل ذلك على عظم جريمة من قتل مؤمنًا متعمدًا وعلى عدم قبول توبته.
لقد حذر رسول الله في أحاديث أخرى كثيرة من الاعتداء على نفس المؤمن بغير حق، وبين الوعيد الذي ينتظر القاتل، فقال : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)) رواه البيهقي.
قال ابن العربي رحمه الله: "قد ثبت عن النبي النهي عن قتل البهيمة بغير حق، وبَيَّنَ وعيد من ارتكب ذلك، فكيف بمن اعتدى على مؤمن تقيٍّ صالح فقتله؟!".
وَعدَّ رسول الله ذلك من الكبائر والموبقات، فقال: ((اجتنبوا السبع الموبقات)) ، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) رواه البخاري ومسلم.
وبين أن المؤمن يظلّ مطمئنًا منشرح الصدر في حياته مسرورًا، فإذا ارتكب هذه الجريمة وقتل نفسًا بغير حق صار منحصرًا ضيّق الصدر، لا تسعه الدنيا بطولها وعرضها، فيرى أنها قد ضاقت به، وذلك لشدة العقوبة وعظيم الوعيد الذي توعده الله به، فقال : ((لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا)) رواه البخاري.
وفي حديث آخر يوضح نفاسة دم المؤمن وحرمته عند خالقه، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله يطوف بالكعبة ويقول: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمتك)) رواه ابن ماجه.
بل ورد الوعيد لمن أعان على القتل المحرم أو كان حاضرًا يستطيع منعه أو الحيلولة دون وقوعه أو شجع القاتل على القتل، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمنٍ لكبهم الله عز وجل في النار)) رواه الترمذي.
هذه العقوبات العظيمة، والأهوال الشديدة أعدها الله تعالى لمن قتل مؤمنًا متعمدًا، فالنفس المؤمنة معصومة محفوظة، وحرمتها عند الله كبيرة، فالاعتداء عليها من الموبقات ومن أكبر الكبائر وأشد المنكرات.
اللهم احفظنا بحفظك، وأعذنا من نزغات الشيطان، واملأ قلوبنا بالإيمان، ولا تزغها بعد إذ هديتنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3579)
حماية حقوق الإنسان
العلم والدعوة والجهاد
محاسن الشريعة
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- نعم الله تعالى على الإنسان لا تعد ولا تحصى. 2- تمييز الله تعالى للبشر بالعقل والتفكير. 3- حق التعلم والتملك. 4- الحقوق الأسرية. 5- تقرير الإسلام لحق العمل. 6- حفظ النفس من أعظم الحقوق البشرية التي قررها بها الإسلام. 7- أثر تطبيق الحدود الشرعية على أمن المجتمع واستقراره. 8- الدعاوى الباطلة لجمعيات حقوق الإنسان ضد بلاد الحرمين بسبب تطبيق الشريعة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد خلق الله تعالى الإنسان وكرَّمه، وأوجده في أحسن صورة وأجمل هيئة: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، وميزه عن سائر المخلوقات الأخرى، فوهبه هذا العقل الذي به يعبد الله تعالى حق العبادة، ويميز به بين الأشياء، ويدرك سائر ما ينفعه، ويعرف الحق والباطل، والحسن والقبيح، والخطأ والصحيح، والنافع والضار، ويسلك الطريق الأمثل والمنهج الأقوم، قال تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء:70].
وكرّمه الله تعالى باستخلافه في الأرض، وأفاض عليه نعمه، من القدرة على النطق والبيان، وإدراك حقائق الأمور وخصائص الأحكام، ومعرفة واكتشاف كثير من الحكم والأسرار، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190].
وجعل الإسلام لهذا الإنسان حقوقًا كثيرة وأثبتها، وقرر له حق التعلم، بل حثه عليه وأمره به، ورفعه بالاتصاف به، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
وأمره بالعمل والكسب، وأعطاه حقّ التملك، ووجهه لحفظ ماله وعدم إنفاقه في الوجوه غير المشروعة، وحرم الاعتداء على ماله، قال تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188]، وقال : ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم)) رواه مسلم.
ووضع الإسلام حقوق الأسرة في نظام فريد من نوعه، فللوالدين حقوقهما، وللزوج حقوقه، وللزوجة حقوقها، وللأبناء والبنات حقوقهم، باعتبار أن الأسرة هي إحدى اللبنات التي يتكوّن منها المجتمع، بل إن الدين الحنيف عُني بالمعاقين واهتمّ بهم، وأعطاهم حقوقًا خاصة، حتى يعيشوا مع غيرهم من الأسوياء في هذه الحياة.
كما حفظ الإسلام للمرء حق العيش والعمل، ووهبه الله تعالى الحياة ليؤدي دوره فيها، وهو الذي يسلبها منه، فليس لأحد أن يعتدي على الإنسان ويسلب منه حياته بغير حق، قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام:151].
وأولت الشريعة الإسلامية هذا الجانب عناية كبيرة، فحرمت الاعتداء على الأنفس، وجاء الوعيد الشديد الذي أوضحه القرآن الكريم بحق القاتل المعتدي، ونفَّر من جريمة القتل، وجعلها تلي مرتبة الشرك بالله تعالى.
وقال : ((لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم)) رواه الترمذي، وقال أيضًا: ((كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا رجل يموت مشركًا أو يقتل مؤمنًا متعمدًا)) رواه ابن حبان، فدل ذلك على عظم جريمة القتل وبشاعتها، وأنها من أكبر الكبائر التي تقشعر الجلود عند سماع نبأ ارتكابها، يقول : ((لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار)) رواه الترمذي.
ولذلك كانت عقوبة القاتل في الإسلام بجنس فعله، فيعاقب بمثل ما ارتكب من القتل جزاءً وفاقًا، فكما أنه حَرَمَ المقتولَ من الحياة فإنه يستحقّ أن يُحرَمَ منها جزاء ما اقترفت يداه، ويُطبَّق عليه حكم الله تعالى الذي جاء في قوله جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:178]، وقوله : ((والنفس بالنفس)) متفق عليه.
ومتى نُفذ حكمُ القصاص في القاتل ارتدع المجرمون، وكفوا عن ترويع الآمنين، فإن أحدهم إذا عرف أن القتل ينتظره فيما لو أقدم عليه كف عن الوقوع في هذا الجرم العظيم، وأحجم عن الإقدام عليه، وبذلك يتمتع البشر في حياتِهم على ما أراد الله، وإلى أن يشاء، قال تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179]، ويترتّب على تنفيذ القصاص، وإقامة الحدود الأخرى، أن يخيم الأمن على المجتمع، ويعيش الناس في استقرار وطمأنينة.
والواقع يُصَدِّق هذا ويؤكّده، فإن أحكام الشريعة الإسلامية التي تطبّق في بلادنا قد أدت إلى مكافحة الجريمة وانخفاض معدلها مقارنة بغيرها من الدول الأخرى، حيث إن تنفيذ حكم الله في القاتل وقطع يد السارق وإقامة حد الحرابة وغير ذلك من العقوبات الشرعية نتج عنه ردع المجرمين، وكبح جماح المستهينين بأرواح البشر، المعتدين على حقوقهم.
إن المملكة حين تطبق تلك الأحكام إنما تنفذ أمر الله تعالى وهدي رسوله ، فإن منهجها مستمدّ من الكتاب والسنة اللذين فيهما صلاح البشرية وسعادتها، والتي التزمت منذ تأسيسها على أن تكون الشريعة الإسلامية هي دستورها المطبق في كافة مناحي الحياة، وستظل على ذلك بإذن الله تعالى.
وإن ما يثيره أعداء الإسلام، وما تنعق به بعض المنظمات التي تزعم أنها تدافع عن حقوق الإنسان، وما تتبجح به بين حين وآخر من انتقاد لتطبيق هذه التشريعات الإلهية إنما هو جهل من القائمين على تلك المنظمات بفهم حقيقة الإسلام، وعدم إدراك منهم لشيء من حكمه النبيلة وأهدافه الحميدة ومقاصده الجليلة، التي تدعو إلى المحافظة على النفس الإنسانية وصيانتها، ودفع الأذى والضرر عنها، ولم تبتكر المملكة من تلقاء نفسها عقوبة الإعدام أو السرقة أو غيرها من الحدود الشرعية، بل هي أحكام ربانية ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل، وليس من حق البشر أن ينظروا في استبدالها.
ونحن نؤمن إيمانًا جازمًا بأنها إنما شرعت لخير البشرية، وجلب السعادة للإنسانية في الدنيا والآخرة، فتعاليم الإسلام تسعى لتحقيق مفاهيم سامية، منها القضاء على الفوضى والفساد والاضطراب والانحراف، ثم نتساءل: أين دعوات تلك المنظمات من الانتصار لحقوق الإنسان حين كانت الانتهاكات العلنية لحقوق الإنسان ترتَكَب ضدّ الأبرياء والضعفاء في أماكن عديدة؟! وأين كانوا حين علت الصّرخات والصّيحات من جراء جرائم القتل والاغتصاب والتعذيب تعلو من تلك الأماكن؟!
أما بلاد الحرمين الشريفين، فإن إيمانها بالله تعالى وإدراكها لأهداف الإسلام السامية يحتم عليها أن تطبق العقوبات الصارمة على العابثين، والضرب بيد من حديد على جميع فئات المجرمين، تمسكًا بشرع الله الحكيم، وعملاً بالدستور الإلهي العظيم، الذي تكفل بحفظ حقوق الإنسان وصيانتها وحمايتها من المعتدين. قال : ((إقامة حدّ من حدود الله خير من مطر أربعين ليلة في بلاد الله)) رواه البيهقي وحسنه الألباني.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3580)
جريمة الانتحار
الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي
عبد الكريم بن صنيتان العمري
المدينة المنورة
جامع الصانع
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تكريم الله تعالى للإنسان. 2- النفس وديعة أودعنا الله تعالى إياها وأمرنا بالمحافظة عليها. 3- الاعتداء على النفس جريمة عظمى جاء فيها الوعيد الشديد. 4- الانتحار من أعظم الدلائل على انحراف المنتحر وبعده عن مولاه. 5- لا يصلي الإمام على المنتحر تغليظًا لجرمه. 5- الإيمان يمنع من الوقوع في اليأس والجريمة.
_________
الخطبة الأولى
_________
لقد خلق الله تعالى الإنسان في أحسن تقويم، وصوّره فجمَّل صورته، وركّب فيه الأعضاء والجوارح، وأمده بنعم السمع والبصر والنطق وسائر النعم الأخرى التي ركبت في هذا الجسد، وهي نعم لا تحصى، وفيه من الآيات والدلائل ما لا يحصر ولا يُستقصى.
فما أعظم هذا الخلق البديع الذي ركبه الخالق المبدع، فكم فيه من العجائب والأسرار، ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14].
والله تعالى حين وهب الإنسان هذه النعم أمره بالمحافظة على هذا الجسد؛ إذ هو وديعة عنده، يجب أن يرعاه ويصونه ويحفظه من كل ما يخدشه أو يورده المهالك أو يؤثر فيه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا [النساء:29، 30].
فهذه الآيات فيها نَهي للمؤمنين أن يقتل بعضهم بعضًا، ونهي لكل واحد منهم أن يعتدي على نفسه بالقضاء عليها وإزهاقها؛ إذ هي ليست ملكًا له، ومما يؤيد هذا ما رواه عمرو بن العاص قال: بعثني رسول الله ذات مرة، فاحتلمتُ في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقت إن اغتسلت أن أموت، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمت على رسول الله ذكرت ذلك له، فقال: ((يا عمرو، صليتَ بأصحابك وأنت جنب؟)) قلت: نعم يا رسول الله، إني احتلمتُ في ليلة باردة شديدة البرد، فأشفقتُ إن اغتسلت أن أهلك، وذكرت قول الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ، فتيممت ثم صليت، فضحك رسول الله ولم يقل شيئًا. رواه أحمد وأبو داود.
فتأول عمرو بن العاص هذه الآية على أن المراد بِها قتل نفسه، لا نفس غيره، ولم ينكر عليه النبي ذلك.
إن اعتداء الإنسان على نفسه بقتلها جريمة كبرى، يترتب عليها العقاب الأليم والوعيد الشديد الذي جاءت به النصوص الشرعية التي بينت أنه من المحرمات ومن أعظم الكبائر.
روى أبو هريرة أن رسول الله قال: ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بِها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسَّى سُمًا فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم.
فدل هذا الحديث على أن من أقدم على قتل نفسه بارتكاب أحد الأفعال الواردة في هذا الحديث أو ما كان في معناها فإن عقوبته العذاب في جهنم بنفس الفعل الذي أجهز به على نفسه، فمن ألقى نفسه من مكان عال مرتفع أو موقع شاهق أو ضرب نفسه بحديدة كالسيف أو السكين أو المسدس أو نحو ذلك أو تناول مادة من المواد السامة القاتلة فأدى ذلك كله إلى موته فإنه يعذب في النار بفعلته الشنعاء التي أقدم عليها.
وظاهر هذا الحديث يدل على خلوده في النار وبقائه فيها معذبًا أبد الآبدين، فإنه قال: ((فهو في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)). وكل من يقدم على شيء من ذلك فإنما هو لضعف إيمانه، وغفلته عن خالقه، وعدم التجائه إليه عند إصابته بشيء يسوؤه. روى جندب أن رسول الله قال: ((كان برجل جراح أو كانت به قرحة بوجهه، فلما آذته انتزع سهمًا من كنانته فنكأها ـ أي: فجرها وفتحها ـ، فلم يقف الدم حتى مات، فقال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه، قد حرمتُ عليه الجنة)) متفق عليه.
إن الإقدام على الانتحار من أعظم الدلائل على انحراف المنتحر وبعده عن تعاليم الإسلام وانغماسه في الضلالة؛ إذ لو لم يكن كذلك لما أقدم على هذه الفعلة الشنيعة، فقد روى أبو هريرة أن رجلاً في عهد النبي في إحدى المعارك قاتل قتالاً شديدًا فأصابته جراحة، فلم يصبر فقتل نفسه، وقد أخبر النبي قبل ذلك أنه من أهل النار. متفق عليه.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن قاتل نفسه لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه بقية الناس؛ لأن النبي أُتِي برجلٍ قتل نفسه فلم يصل عليه. رواه مسلم. وجاء رجل إلى رسول الله فأخبره أنه رأى رجلاً ينحر نفسه حتى مات، فقال : ((أنتَ رأيتَه؟)) قال الرجل: نعم، قال : ((إذًا لا أصلي عليه)) رواه أبو داود. فامتنع ولم ينه غيره أن يصلي عليه.
فالإنسان ليس ملكًا لنفسه، بل ملك لخالقه جل وعلا، ولذلك فلا يجوز له أن يتصرف في بدنه إلا فيما أذن له فيه، وأما الإضرار بنفسه كتعمده قتلها فإنه كقتله غيره من الناس، فله عظيم العقوبة عند الله كما بينته الأحاديث المتقدمة.
إن الانتحار لا يحدث إلا من نفس مريضة بعيدة عن فعل الطاعات، غارقة في فعل المعاصي والمنكرات، موحلة في اقتراف الشبه والمخالفات، آيسة مما عند خالقها من الرحمة والخيرات، وإن قلب المنتحر فارغ من الإيمان الذي يحيي القلوب ويوقظها من غفلتها ويعيدها إلى طريق الصواب وجادة الحق للتزود من الأجر والثواب.
والإيمان يجعل صاحبه شديد التعلق بخالقه، يلجأ إليه في الشدائد والملمات، فإذا ما أحسَّ بضائقة أو وقعت عليه مصيبة أو نزلت به مشكلة تؤرقه فإنه يعلم ويدرك أن ربّه مُفرِّجٌ ما هو فيه من الكربات، وميسِّرٌ ما يمر به من المعسرات، ومسهل ما يعيشه من الصعوبات.
وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق:2، 3].
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3581)
أمانة في أعناق المسلمين
العلم والدعوة والجهاد
المسلمون في العالم
يوسف بن عبد الوهاب أبو سنينه
القدس
5/11/1425
المسجد الأقصى
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أرض فلسطين أمانة في أعناق المسلمين. 2- عظم الأمانة. 3- التحذير من المعاصي. 4- واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- التحذير من العصبية الجاهلية. 6- تيار الإباحية والإلحاد. 7- نموذج للثبات في الفتن. 8- ذم اليأس والقنوط. 9- ظاهرة السرقة وحرمان النساء من الميراث. 10- خبر غزو أمريكا لإيران. 11- كلمة عن الانتخابات الفلسطينية.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
أيها المؤمنون، بلادنا بلاد مباركة، احتفظ بها آباؤنا الأولون من المجاهدين الصالحين، وحافظوا عليها، تتناقلها الأجيال من يد أمينة إلى يد أمينة أخرى.
لقد دافع المسلمون الأولون عن هذه الأرض المباركة كلما بدا لطامع أن يتعدي عليها دفاع الأبطال، فاستشهد في سبيلها ملايين من الشهداء، الآلاف من الصحابة والصديقين والصالحين يرقدون في ثراها الطاهر، فالواجب على أمتنا اليوم أن تسير على منهاج سلفنا الصالح لأن أرض فلسطين أمانة في أعناقنا، والتفريط بذرّة تراب منها هو خيانة لله ولرسوله، أما سمعتم ـ أيها المؤمنون ـ قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27]. فسكوت الأمة اليوم عن ضياع أرضنا المقدسة هو الخيانة الكبرى والجريمة العظمى.
إن الحكمة البالغة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هي في مثل هذا الموقف الخطر الذي تحياه الأمة اليوم.
عباد الله، كيف نقبل على أنفسنا أن نخون الأمانة، وأن نفرط في المسجد الأقصى، إن الذين يؤمنون بالله لا يعبدون غيره، ولا يأبهون لعرض زائل من أعراض الدنيا، ألم تسمعوا ـ أيها المؤمنون ـ قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ [التوبة:111]، فالمؤمن ـ يا عباد الله، ونرجو الله تعالى أن نكون جميعا من المؤمنين الصادقين ـ يرى القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وجميع ما في هذه الدنيا من مغريات وشهوات أتفه بكثير من أن تحمله على بيع دينه وشرفه وأرضه ودنياه وآخرته، إن الدين والشرف أغلى من المال، والروح الخالدة أسمى من المادة الزائلة.
عباد الله، أروني شخصا خرج من هذه الدنيا وهو يحمل المال معه، وماذا يصنع الغني مهما اغتنى وجمع من المال؟! هل يستطيع أن يأكل وأن يلبس أو يستمتع إلا بمقدار؟ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد:20].
عباد الله، يظن بعض الناس أنهم يستطيعون فعل كل شيء بأموالهم، تلك أمانيهم التي زينها الشيطان لهم، يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا [النساء:120]. ينخدع بعض المغرورين بوفرة المال وبسطة العيش، حاسبين ذلك ثروة صحيحة وعيشا رغيدا، وقد جمعوا أموالهم من الحرام، فهذا يحتال بشتى الوسائل الخفية والطرق المستورة من نقص الكيل والميزان وخلط السليم بالرديء، وغير ذلك من أنواع الغش والاحتيال فيما لا يوافق الحقيقة الواقعة، ولا يرضى به الشرع القويم. فالغشاش يحتال على الضعفاء والبسطاء والقاصرين، وعلى الطيبين الأطهار الذين يشترون بالثقة البريئة ولا يحاورون في البيع ولا يدققون في المبيع، اعتمادا على دين البائع، ولا يعرف ذلك إلا الله القائم على كل نفس بما كسبت.
عباد الله، روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قدم المدينة، وكانوا من أبخس الناس كيلا، فنزلت سورة المطففين، فأحسنوا الكيل، فخرج رسول الله فقرأها عليهم، وقال: ((خمس بخمس)) ، قيل: يا رسول الله، ما خمس بخمس؟! قال: ((ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، ولا ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال إلا منعوا النبات وأخذوا بالسنين، ولا منعوا الزكاة إلا حبس الله عنهم المطر)) ، ولذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بالبائع فيقول: (اتق الله، وأوف المكيال والوزن بالقسط، فإن المطففين يوم القيامة يوقفون حتى إن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم).
عباد الله، إن المجرمين هم أقلية ضئيلة في البلاد، وفي استطاعتنا أن ننصحهم ونوقفهم عند حدهم ونأخذ على أيديهم ولا تأخذنا في سبيل ذلك العصبية الجاهلية، ففي سبيل الدين لا قيمة للقربى ولا للعصبية ولا للحزبية ولا لأي أمر آخر، ويجب أن يكون أقرب الناس إلينا أقربهم إلى المصلحة العامة، وأبعدهم عنا أبعدهم عنها، قال المولى تبارك وتعالى: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22].
وإني أحذركم ـ أيها المؤمنون ـ من العصبية الجاهلية، ولتكن مصلحة الأمة هدفكم الذي ترمون إليه، وإذا أردتم أن تصنعوا خيرا لأقربائكم فامنعوهم من التآمر على أمتكم، امنعوهم من ارتكاب الفواحش، امنعوهم من شرب الخمر ولعب القمار، امنعوهم من الوقوع في الزنا ومعاملات الربا، امنعوهم من اتباع سبل الشيطان، امنعوهم من تطفيف الكيل والميزان.
أيها المؤمنون، نريد منكم عهدا وثيقا وميثاقا غليظا على أنكم ستقفون سدا حائلا دون التنازل عن حقوق الأمة مهما كانت الأسباب والبواعث، نريد أن نتعاون جميعا وأن نبذل قصارى جهودنا من أجل رفعة الأمة وصون الكرامة ووحدة الصف ومحاربة الباطل، وأن يكون قدوتنا في ذلك رسول الله والسلف الصالح من أبناء أمتنا المجيدة حتى لا نندرج فيمن قال الله فيهم: رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا [الأحزاب:67، 68].
عباد الله، خطب الفاروق يوما فقال: (أيها الناس، اتقوا الله في سريرتكم وعلانيتكم، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ولا تكونوا مثل قوم كانوا في سفينة، فأقبل أحدهم على موضعه يخرقه، فنظر إليه أصحابه فمنعوه، فقال: هذا موضعي ولي أن أحكم فيه، فإن أخذوا على يده سلم وسلموا، وإن تركوه هلك وهلكوا).
عباد الله، لما أهمل المسلمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثرت المناكير وزاد البلاء وانحطت الأخلاق، إلى أن وصلنا إلى هذه الحال، فنحن بتركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبحنا مهاجَمين في عقائدنا وديننا وأوطاننا وأراضينا وتقاليدنا وآدابنا وأخلاقنا، وفي كل شيء منا، وليس من الخطب الهين أن يقع الخطر على العقيدة، فإنما الأمم بعقائدنا وأخلاقها.
عباد الله، إن تيارا من روح الإباحية والإلحاد يكاد يجتاح البلاد، يحمل هذه الروح الخبيثة شذاذ الآفاق، فيبدون مظاهرها في الشوارع والمجتمعات على رؤوس الأشهاد، وإلى ذلك المناهج المدرسية الدخيلة على أمتنا وأولادنا، والتي تعمل على هدم العقيدة الإسلامية والآداب العربية، والتي تحارب روح الإيمان في نفوس المؤمنين، فيتخرج من أبنائنا وبناتنا ناشئة تستخفّ بالدين وتهزأ بالتقاليد والآداب، ولذلك أصبحنا نرى من جهة أخرى بعض النساء في تبرج مستنكر، وعلى ذلك أماكن اللهو والفساد وبعض المجلات الخليعة التي تنتشر باسم الفن والأدب، فهذه المناهج السامة الضارة تنساب كالأفاعي إلى الأمة حيث تفتك في الأخلاق وتقوض بنيان المجتمع، فأين أهل العلم ليبينوا ذلك؟! لماذا ندرّس طلابنا ما يخالف عقيدتنا؟! لماذا لا ندرسهم تاريخنا الإسلامي؟! لماذا لا يعرف طلابنا شيئا عن أصحاب رسول الله بينما نراهم يعرفون كل شيء عن قادة الغرب الضالين؟! أين علوم القرآن التي تدرس في معاهدنا العلمية؟! أين حلقات العلوم الشرعية؟!
عباد الله، لقد أخذ العهد على أهل العلم أن لا يكتموه، ومن يكتم علما ألجم بلجامٍ من النار يوم القيامة، نعوذ بالله أن نكون من أدعياء العلم الذين يكتمونه للحفاظ على مكانتهم ومناصبهم.
عباد الله، لما وقف الإمام أحمد يدافع عن القرآن دفاعا مجيدا أمر الحاكم بأن يجلد مائة جلدة، فلما جيء بالإمام في ميدان بغداد ليجلد وأخذ الجلاد بضربه والإمام كلما جلد جلدة قال: لا إله إلا الله، فلما وصل الجلاد إلى ستين جلدة أغمي على الإمام إغماء شديدا، فحملوه إلى منزله بعد صلاة الجمعة يعاني من جراحه، يعاني من دمائه، فلما أفاق من إغماءته سأل الجالسين حوله: هل صليتم العصر؟ قالوا له: نعم يا إمام، قال الإمام: فوضّئوني واستدِروني ووجهوني إلى القبلة حتى أصلي لله، فوضّؤوه، وحولوا وجهه إلى القبلة حتى صلى، والسياط قد أخذت معالمها في جسده الطاهر، فلما فرغ من الصلاة سأله تلامذته سؤالا، قالوا له: يا إمام لقد عجبنا لك وأنت تجلد، كنا نبكي لك وأنت تبتسم كلما جلدت جلدة، فكيف تبتسم وأنت الذي تجلد؟! فقال: تبكون لأنكم ترون يدَ الجلاد، أما أنا فكنت أبتسم لأنني كنت أرى يدَ ربّ العباد. بأي ذنب جلد؟ لأنه قال الحق، ووقف مع الحق، واستمات في الدفاع عن الحق، كيف لا وهو إمام الزهد والورع والعلم والعدل.
هكذا كان سلفنا الصالح يدافعون عن دينهم، كانوا يقفون أمام الباطل، وهذا هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول يوم الردة: أينقص الدين وأنا حي؟! هكذا يجب أن نكون، بأولئك يجب أن نتأسى.
عباد الله، ما أحوجنا إلى العودة إلى الله، ما أحوجنا إلى التوبة والجدّ والاجتهاد، ما أحوجنا أن نعمل لديننا، فهو مصدر عزنا وسمونا. للأسف الشديد قام بعض دعاة الهزيمة والاستسلام يبثون الدعايات المضللة، يدعون فيها الناس إلى اليأس، وما أضر اليأس بالأمم، أما علموا أن اليأس والإيمان لا يجتمعان؟! إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.
أما الذين آتاهم الله قوة من اليقين والإيمان، فلو تداعت عليهم الأمم كلها لما يئسوا، وكأنهم المعنيون بقوله تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمْ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:146-148].
أيها المؤمنون، إياكم واليأس، قاوموه بكل جهدكم، ادفعوه عن نفوسكم، فهو أشد الأخطار، وإذا كان اعتمادنا على الله فلا نبالي ولو خذلنا الناس كلهم، وتيقنوا أن الله لن يخذل المؤمنين الصابرين المتوكلين، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]. إن الفرج يكون عند اشتداد الأزمة، وإن أشد حلك الليل سوادا ما كان قبل طلوع الفجر، قال تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف:110].
إنني أعتقد أن أهل العلم والدين في أرضنا المباركة إذا قاموا بما يجب عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واهتموا بأمور المسلمين وعملوا في سبيل الله يدعون للرجوع إلى الله والاحتفاظ والتمسك بعقيدتنا الإسلامية ونبذ ما يخالفها، عندئذ يجعل الله لنا من أمرنا مخرجا ومن أزمتنا فرجا.
كلمة أخيرة نوجهها إلى أمتنا الإسلامية في كل مكان: إذا بقيتم تنظرون إلى مأساة إخوانكم في فلسطين غير مبالين ولا مكترثين فإن موقفكم هذا لا يرضي الله ورسوله، وتذكروا أن ما أصابنا سيصيبكم غدا ـ لا سمح الله ـ إن بقيتم هكذا، فالأمل كبير، ولا تزال الأمة فيها خير يذكر، وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ [محمد:35].
عباد الله، فئة ضالة من أبناء شعبنا يقومون بأعمال لاأخلاقية خارجة عن تعاليم ديننا الحنيف، أولئك الذين يسرقون السيارات، يقومون بترويع الآمنين، يعتدون على أموال الآخرين، وخاصة الذين يتوجهون لأداء الصلوات في المسجد الأقصى، يرجع الواحد ولا يجد سيارته، فليحذر أولئك المجرمون من أعمالهم. وبنفس الوقت أولئك الذين لا يراعون حق الله في المواريث، يحرمون أخواتهم وبناتهم من حقوقهم، وتجدهم للأسف يتظاهرون بأداء الصلوات والصيام، إلى أولئك نقول: اتقوا الله ولا تتعدوا حدود الله، وتذكروا يوما تقفون بين يدي الله، فيحاسبكم على أعمالكم.
عباد الله، تناقلت وسائل الإعلام مؤخرا أن أمريكا تعتزم غزو إيران على غرار غزوها للعراق، وإن كبار العسكريين قد وضعوا خطة من أجل ذلك، تتمثل بضرب مراكز وتجمعات الحرس الثوري ومستودعات الذخيرة ومعسكرات الجيش والمنشآت النووية، ثم يبدأ الزحف من خمس محاور انطلاقا من دول الخليج والكويت والعراق وأفغانستان وتركيا.
عباد الله، لو أن إيران وقفت إلى جانب العراق لكانت العراق خط دفاع عن إيران، ولكنها اليوم ستكون منطلقا للعدوان، إيران ستواجه سياسة أمريكا العدوانية وحيدة؛ لأن الحكام ينظرون إلى المصالح الذاتية لا إلى مستقبل الشعوب الإسلامية.
تذكرون ـ يا عباد الله ـ أن أمريكا وضعت إيران والعراق وكوريا الشمالية كدول لمحور الشر، ونفذت تهديداتها فاحتلت العراق، ونهبت ثرواته، وقتلت أبناءه، ومزقت وحدته، وقبل ذلك احتلت أفغانستان، وشردت أهله، ونصبت حكاما موالين لها، وحاولت أمريكا أن ترهب كوريا الشمالية، لكنها أثبتت وجودها وتحدت أمريكا. والواجب هنا على إيران أن تكون قوية وصلبة في موقفها، وأن لا تتنازل للهيمنة الأمريكية، فإن هي ضعفت وتراجعت سهل اصطيادها.
أيها المسلمون، في غمرة الاستعدادات التي تجري على الساحة الفلسطينية تمهيدا لانتخابات الرئاسة، ومن بعدها الانتخابات التشريعية، والتي قلنا رأينا فيها صراحة في خطبة الانتخابات، فما معنى إجراء الانتخابات تحت حراب الأعداء؟! فإسرائيل تواصل سياسة الاغتيالات والتصفية لأبناء شعبنا، وهي التي تقوم بتغطية إعلامية مضللة للعالم، ومفادها أنها تعمل على مساعدتنا وتخفيف معاناتنا. فمقابل أن تزيل حاجزا عسكريا تقتل وتهدم وتضع حواجز بديلا، إنها تمارس سياسة حرق الأعصاب، وإنهم يرددون عبارة إسقاط وشطب حق العودة للفلسطينيين.
أيها المؤمنون، يجب أن تنصب الجهود على قضايانا الأساسية، القضايا المركزية، وهي إعادة الأرض لأصحابها الأصليين، تحرير البلاد والعباد من الاحتلال، تحرير الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال، قضية الوجود الفلسطيني المسلم على أرضه وترابه عبر سنوات من التضحيات والشهداء.
أيها المسلمون، يجب أن توضع قضية الأسرى في سلم الأولويات والاهتمامات، وليس مجرد شعارات من أجل الفوز بالانتخابات. يجب المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين من سجون الاحتلال إذا كانت إسرائيل جادة بتخفيف المعاناة عن شعبنا الفلسطيني. فماذا قابلت إسرائيل مصر عندما أطلقت سراح المعتقل الإسرائيلي في السجون المصرية؟! سجين واحد إسرائيلي في السجون المصرية، عملت إسرائيل وعلى مستوى عالمي عال لإطلاق سراحه، فلماذا لا تعمل لإطلاق سراح أسرانا؟!
كذلك يجب أن يكون معلوما للجميع أن حق العودة حق مقدس، لا يمكن لأحد أن يتنازل عنه بالتوطين أو التعويض، فأرضنا ستعود لأصحابها الشرعيين مهما طال الزمن ورغم أنف أعدائنا. وأرض فلسطين وبيت المقدس التي باركها الله تعالى لن يجرؤ أحد على أن يساوم على ذرة تراب منها سواء فوق الأرض أو تحت الأرض. هذه البقاع الطاهرة التي ارتوت بدماء الشهداء الأبرار والفاتحين الأخيار والصحابة الكبار، لا يجوز المساومة عليها أو التفريط بها مهما كانت التضحيات.
_________
الخطبة الثانية
_________
لم ترد.
(1/3582)
خطر المنافقين على الأمّة
الإيمان
نواقض الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
الرياض
5/11/1425
جامع الإمام تركي بن عبد الله
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أقسام الناس تجاه رسالة الإسلام. 2- صفات المنافقين. 3- ضرر المنافقين على الأمة الإسلامية. 4- نعمة الجماعة. 5- منهج المؤمنين ومنهج المنافقين. 6- صفة المجتمع المسلم. 7- خلق النصيحة.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عبادَ الله، بيَّن الله في كتابِه العزيز موقفَ الخلق مما بعَث به نبيَّه محمّدًا ، وأنهم انقسَموا إلى أقسامٍ ثلاثة، فكافِر أعلَن كفرَه ورفضَه للإسلام وعدَمَ انقياده له، وأعلَنَ عن موقفِه الواضح، كفرٌ بالله وعدَم انقياد لشرع الله، ومؤمنٌ آمن بالله إيمانًا صادقًا، إيمانًا ظاهِرًا وباطنًا، فهو المؤمِنُ الصّادِق في أقوالِهِ وأعمالِه وتصرّفاتِه، وهناك قسمٌ ثالث هم شرُّ الخلق على الإطلاقِ، آمَنت ألسنتُم وكفَرَت قلوبهم، آمَنوا ظاهرًا وكفروا باطنًا، تظاهَروا بالإسلامِ وفي نفسِ الوقت هم أعداؤه الألدّاء، وهم خصومه، وهم ضدّ الإسلام وضدّ أهله، انتسَبوا إلى الإسلام ولكنّها النسبةُ التي أرادوا بها عصمةَ دمائهم وأموالهم، والله يعلم إنّ المنافقين لكاذبون.
إذا حدَّثوك رأيتَ حديثًا جيّدًا وقولاً طيّبًا، ولكن ليس ذلك على ظاهرِه، فهذا القولُ الطيّب باطنُه الكفرُ والضلال، لكن يتظاهَرون أحيانًا بالحقّ وكلِمةِ الحقّ والدعوة إلى الخير والدعوة إلى الإصلاح والدعوة والدعوة.. ولكن يعلَم الله ما وراءَ ذلك المقالِ مِن كفرٍ وضلال وعداءٍ لله ورسولِه وللمسلمين جميعًا.
أيّها المسلم، لا تستكثِر هذا، فهؤلاء المنافقون في عهدِ النبيِّ طالما آذوا المسلمين، طالما آذَوا نبيَّهم، وآذوا أصحابَه، وبذَلوا كلَّ جهد في سبيلِ ذلك، إلا أنَّ الله جل وعلا ردَّ كيدهم في نحورِهم، وكشف أستارهم، وبيَّن ضلالتَهم، وأوضح للمسلمين صفاتِهم وأخلاقَهم؛ ليكون المسلمون على حذرٍ منهم، قال تعالى: وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:30-32].
المنافق تعرِفه، يحِبّ الذلَّ للإسلام وأهله، إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة:50]. إذًا فالمنافق يفرَح للإسلام بالذّلِّ والهوان، والمنافِقُ يفرح بأذَى المسلمين، والمنافق يسعَى في إيذاءِ الأمّة، والمنافق يسعَى في التشكيك والشُّبَه، والمنافِقُ يسعى في الأرضِ فسادًا، والمنافِق لا يُرَى منه خيرٌ ولا يؤمَّل منه خير، قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
إذا حدَّثوك أصغيتَ لحديهم، تظنُّ ذلك صِدقًا وحقًّا، وتظنّ ذلك خيرًا وهدى، ولكن إذا قرأتَ ما وراءَ السطور وجدتَ ذلك كذبًا وبهتانًا ونفاقًا، وأنهم يبطِنون للإسلام وأهله كلَّ شر وبلاء، ليس في قلوبهم رحمةٌ للأمة، ولكنهم يسعَونَ في الأرض فسادًا، مشابهين لإخوانهم اليهود الذين قال الله فيهم: وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة:64].
قرَن الله بينهم وبين اليهودِ، وجعل بينهم أخوّةً في الباطل، أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الحشر:11].
هذا الضّربُ من الناس كم عانَت الأمّةُ منهم من ضرَرٍ، وكم جرَّ عليها من بلاء، يُحسبون على الأمّة وهم بعيدون كلَّ البُعد عن الأمة وعن قِيَمها وفضائلها وأخلاقها، يقول الله جلّ وعلا مبيِّنًا حالَهم: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة:204-206].
تأمّل ـ أخي ـ هذه الآيةَ حقَّ التأمّل؛ لينجليَ الأمر أمامك، وليكونَ الأمر واضحًا أمامك، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، يعجبك هذا القولُ، يأتي بألفاظٍ طيّبة وكلماتٍ معسولة تظنّها خيرًا وصدقًا، ولكن إذا تأمّلتَ وجدتَ الأمرَ على خلافِ ما تظنّ، ورأيتَ الباطل والكفرَ والضلال، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ ثم قال: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ. إذًا المنافقُ لا يسعَى بالخير، والمنافِق لا يدعو إلى خيرٍ، والمنافق لا يرجَى منه خير، والمنافق خلُقُه الفساد والإفسادُ والضلال ونشرُ كلِّ باطل بين الأمة.
إنَّ الله جلّ وعلا بعَث محمّدًا والعربُ في جاهليّة جهلاء وضلالة عمياء، لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكَرًا، لم تستطع لغتُهم أن توحِّدَهم، ولم تستطع أنسابهم أن توحِّدَهم، ولم تستطع أوطانهم أن تجمعَ كلمتَهم. كانوا قبلَ الإسلام في حروبٍ طاحنة وفوضى ضاربَةٍ بأطنابها، لا يخضَعون لأحدٍ، كلٌّ يرى نفسَه الزعيمَ والقائد، وكلٌّ يرى نفسَه أنه كذا وكذا، فكانوا في فَوضى دائِمةٍ، فجاء الله بالإسلامِ، فانتشَلَهم من غوايَتِهم، وبصَّرهم مِن عماهم، وجمعهم بعد فُرقتهم، ووحَّد بينهم بعد شَتاتهم، فجعلهم الأمّةَ الواحدة التي تخضَع لشرع الله وتنقادُ لدين الله، وأرشَدَهم إلى أن تكونَ لهم قيادةٌ تجمَع شملَهم وتوحِّد صفَّهم ويخضعون لها خضوعًا لشرع الله؛ حتى تكون أمورُهم منتظِمةً غايةَ الانتظام وسيرتُهم على أحسنِ حال، فجاء الإسلام ليقولَ للمسلمين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:50]. كلُّ ذلك لأنَّ طاعة الله وطاعةَ رسوله هي الأصل، وطاعةُ وليّ الأمر هي سببٌ لانتظامِ الأمّة في مصالح دينها ودنياها وسعادَتها في دنياها وآخرتها؛ لأنَّ الأمةَ إذا لم تكن لها قيادةٌ تجمعها وتسير بها على الخير عاثَت الفَوضى والضلال.
أيّها المؤمن، إنَّ المؤمن حقًّا إذا تدبَّر الأمرَ وجدَ أنَّ أهلَ الإيمان أهلُ وضوحٍ في الرؤيَة، أهل وضوحٍ في المنهَج، أهل وضوحٍ في الطريق، أهلُ الإيمان أمرُهم واضِحٌ جليّ، إيمانٌ صادِق ظاهرًا وباطنًا، وقولٌ صادق وعمَل حقّ، أمرُهم واضِح، رؤيتُهم واضِحة، ليسوا كالمناهجِ المتعدِّدة التي لها باطنٌ وظاهر، ظاهِرُها شيءٌ وباطِنها شيءٌ آخر، تلك الأحزابُ الضّالّة المنحرفةُ عن الطريقِ المستقيم؛ ولذا حذَّرنا الله من الانقسامِ والفُرقة فقال: مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:32].
تلك الأمورُ إذا خالفتِ الشرع والدّعواتُ إذا لم تسلُك المسلكَ الشرعيّ تراها متناقِضةً في فِكرها مضطَرِبة في منهجها، لها في الباطنِ أسرارٌ وأمور، ولها في الظاهِرِ لِسان، في الباطن لها لسانٌ وفي الظاهرِ لها لسان، لسانُها في الظاهِر شيء، ولسانُها في باطنِ أمرها شيءٌ آخر، يظهِرون مَا لا يكتُمون، ويُبدون خلافَ ما يعتقدون، إنهم ـ والعياذُ بالله ـ [في] ضلال وخطأ وتصوُّرات ضالّة.
أمّا المؤمِنُ فرؤيتُه للأمور واضحة، تراه جليًّا في أمرِه واضحًا في أسلوبه، ولذا محمّد سيّدُ ولَدِ آدم كان يتعبَّد بغارِ حِراء، فلمّا جاءه الوحيُ وأمرَه الله بالبلاغ: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ [الحجر:94] كان يأتي للعربِ في أنديَتِها ومجتمَعاتها، يعرِض عليهم شرعَ الله، ويدعوهم إلى دينِ الله، ويعلِن حقيقةَ ما بَعثَه الله به مِنَ الهدى ودينِ الحقّ، ويقرَأ القرآنَ ويدعو إلى الدين، كانت دعوتُه واضحةً، يعلمها عدوُّه ومن اتّبَعَه، يعلمون حقيقةَ ما جاء به، وأنّه الصادِقُ المصدوق، وأنّه الذي لم يجرَّب عليه كذِبٌ ولا خِيانة، بل هو الصادِق الأمين ؛ ولذا يقول الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]، فأمره واضحٌ، وهكذا أتباعُ سنّته والمتمسِّكون بمنهَجِه، هم على وضوحٍ في دعوتهم ظاهِرًا وباطنًا، يقولون ما يعتَقِدون، ويَدعون إلى ما يَعمَلون، فلا يكتُمون شيئًا ويظهِرون أشياء، ولا يتقلَّبون في مناهِجِهم، ولا يضطَرِبون في خُطَطهم، بل هم على مَنهجٍ واحد وطريق مستقيم، وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153].
أيّها المسلم، إنَّ المؤمنَ حقًّا هو الذي يوالي ربَّه ودينَه وأمّتَه، يوالي ربَّه بمحبّتِه وطاعتِه له وقيامِه بما أوجَبَ عليه، يوالي هذَا الدينَ بنصرِ هذا الدين والدّعوةِ إليه والتمسُّك به وتحكيمِه والتحاكم إليه، يوالي أمّةَ الإسلام بأن يحبَّ لهم الخيرَ ويسعَى في تثبيتِ الخيرَ في نفوسهم ويكرَه لهم الشرَّ والبَلاء ولا يرضَى فيهم بنقيصةٍ ولا هوان، بل هو بعيدٌ كلَّ البعد عمّا يسيء إلى الأمّةِ في حاضرها ومستقبلها، يوالي وطنَه المسلم فيحمِيهِ من كيدِ الكائدين وحِقد الحاقدين، ويتصوَّر دعاةَ السوءِ والضلال وأنهم لا يريدون بالأمّةِ خيرًا، ولا يهدفون خيرًا، ولا يحقِّقون خيرًا، بل هو لا يصغِي للأقوالِ الضالة ولا للمَبادئ الخطيرة ولا للأفكارِ المنحَرِفة، لا يصغِي لشَيءٍ من ذلك، دينُه يمنَعه ويحجِزُه، دينُه يمنَعه عن الباطلِ وعن سماع الباطل وعن طاعةِ أهل الأهواء والضّلالات، دينه يحجزه عن ذلك، دينُه يدعوه إلى حبِّ الخير لنفسه وحب الخير لإخوانِه المسلمين: ((ولا يؤمِنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسِه)) [1]. المؤمنون بعضُهم أولياء بَعض، نصيحةً وتوجيهًا ودعوةً وإصلاحًا، وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [التوبة:71]، ولايةُ بعضِهم لبعض فيها النُّصحُ والتّوجيه وحبُّ الخير والسّعي في الخير.
أمّا من يدَّعي خلافَ ذلك بأن يجعلَ همَّه إلحاقَ الأذى بالأمّة وتسبيبَ الشرِّ للأمّة وإحداثَ الفوضَى بين صفوفِ الأمّة فذاك القولُ الباطل والتصوُّر الخاطئ، والأمّةُ ولله الحمد على منهجٍ من دينها، تَعلَم الكاذبَ وتَعلَم المغرِض، ويستبين لها الغيّ من الرّشاد، وتعلَم دعاةَ السوء وما يهدِفون وما يريدون، وأنهم لن يريدُوا بالأمّة خيرًا، ولن يقصدوا بهم خيرًا، وإنما هي الدِّعايات المضلِّلة التي يحيكها أعداءُ الإسلام، وينبري لها من يُحسب على الأمّة، والله يعلم أنَّ الأمّةَ والدّينَ منه براء.
فليتّقِ المسلمون ربَّهم، وليتمسَّكوا بدينهم، وليحمَدوا الله على نِعَمه العظيمةِ عليهم، أعظمُها نعمةُ الإسلام والتمسّك به ثم الأمنُ والخير والاستقرار، نسأل الله أن يوفِّقَنا جميعًا لما يرضِيه عنّا، وأن ويعيذَنا من شرورِ أنفسِنا ومن سيّئات أعمالنا، وأن يردَّ كيدَ الكائدين ويذلَّ أعداءَ الإسلام ويرزقَ المسلمين الوعيَ والفهمَ الصحيح لدينهم والفهمَ الصحيحَ لمكائدِ أعدائِهم؛ حتى لا ينطلِي عليهم الباطلُ، ولا يغترّوا بهذه الضلالات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45) عن أنس رضي الله عنه.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، يقول الله جلّ وعلا في حقِّ نبيّه والمؤمنين: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]، فوصفهم بأنهم رحماءُ بينهم، يرحَم بعضهم بعضًا، ويحسِن بعضهم إلى بعض، ويشفقُ بعضهم على بعض، وينصَح بعضهم بعضًا، ويوالي بعضُهم بعضًا. هكذا حالُ الأمّة المسلِمَة الحقّة، تراحمٌ فيما بينهم، وتعاوُن على البرّ والتقوى، قال تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]. وأرشَدَ الأمّة إلى التشاوُر في الخير والتعاون على الخير بالأصول الشرعيّة، قال تعالى في وصف المؤمنين: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى:38]. فأمرهم شورَى بينهم فيما بينهم، لا يدخُل عدوّ، ولا ينفذ لهم عدوّ، ولكنّهم فيما بينهم، مشاكِلهم تحَلّ فيما بينهم، ينصَح بعضهم بعضًا، ويرشِدُ بعضُهم بعضًا، ويسمَعون ويطيعون للحقّ ولمن قادَهم بالحق من غيرِ أن يكون في نفوسهم حرج، هَكذا تعاليمُ الإسلام: النصيحة للأمة، ينصَح المسلم لأخيه المسلم، ولذا النبيّ يقول: ((الدين النصيحة))، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: ((لله ولكتابِه ولرسولِه ولأئمّة المسلمين وعامتهم)) [1]. فالمسلمون أهلُ تناصحٍ وتشاورٍ في الخير وتعاونٍ على الخير، ليسوا أهلَ فوضَى ولا أهلَ اضطرابٍ وقلَق، ولا سببًا في نهبِ أموالٍ وسفكِ دماء وهتكِ أَعراض، هذه أمورٌ يترفَّع المسلمون عنها، ويعلَمون أنَّ دينَهم جاءهم بالخير والهدَى، فينصَح بعضهم بعضًا، ويُعين بعضُهم بعضًا، ويوجِّه بعضهم بعضًا، هم كالجسَد الواحد، إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسدِ بالحمى والسهر، هكذا حالُ الأمّة المسلِمة المصدّقة.
أمّا ما يدعو إليه أعداؤهم وما ينادِي به أعداؤُهم فكلُّ ذلك مخالِفٌ لشرع ربهم، ومخالِف لكتاب ربهم وسنّةِ نبيّهم. فالمؤمِنون أهلُ خيرٍ وتناصح فيما بينهم، يقيم بعضُهم اعوجاجَ البعض، ويصوِّب بعضُهم بعضًا، ويبصِّر بعضُهم بَعضًا في خطئِه، ويرشِدُه إلى الخير؛ لأنَّ هدفه جمعُ كلمةِ الأمّة وإصلاحُ شأنها ولمُّ شعثِها وسلامةُ أوطانها وحمايتُها من كيد الكائدين.
أمّا المنافقون والمغرِضون فليس لهم هدَفٌ إلاّ تتبّع الزّلاّت ولن يجدوا ذلك، فيفرَحون بكلِّ زلّة، ويصطادون كلَّ خطيئة، ليجسِّدوها ويجعَلوها وسيلةً إلى آرائِهم المضلِّلة وأفكارِهم المنحرفة، حمَى الله مجتَمَعَ المسلمين من كلِّ سوء، ورزَق الجميعَ التمسّكَ بالهدى والسيرَ على المنهج القويم، إنّه على كل شيء قدِير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعةٍ ضلالَة، وعليكم بجمَاعةِ المسلمين، فإنّ يدَ اللهِ على الجماعَة، ومَن شذَّ شذَّ في النّار.
وَصَلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمَركم بذلك ربّكُم، قالَ تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك علَى عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الرّاشِدين...
[1] أخرجه مسلم في الإيمان (55) عن تميم الداري رضي الله عنه.
(1/3583)
الإيدز
الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب
آثار الذنوب والمعاصي, الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
21/10/1425
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- شؤم الذنوب والمعاصي. 2- أسبابه الإيدز. 3- طرق الوقاية من الإيدز.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، اتقوا في السر والعلن، واحذروا المعاصي فإنها سبب العقوبات العاجلة والآجلة، فما حل في العالم بلاء إلا وهي سببها.
أيها الإخوة المؤمنون، منذ حوالي ربع قرن تقريبًا ظهر عدو رهيب للبشرية، وانتشر بخفية وغموض في بعض مجتمعاتها، وما هي إلا مدة يسيرة حتى استيقظت تلك المجتمعات على صرخات الذُعر وصيحات الهلع، وعويل الخوف والجنون؛ بسبب عدو صغير في حجمه، ومع ذلك لم تستطع أكبر دول العالم قوة وأعلاها تقدما، لم تستطع مواجهته، رغم ما أوتيته من وسائل الهجوم والدفاع، وما أنتجت من أدق وأكبر أنواع الأسلحة الفتاكة المختلفة، وبلغت من المستوى الرفيع في شتى علوم الدنيا، رغم ذلك لم تستطع صد هذا العدو، وبقيت أمامه عاجزة حائرة، لا تملك أمامه دفعا أو تأخيرا.
تدرون من هو هذا العدو يا عباد الله؟ إنه طاعون القرن الخامس عشر وسرطان القرن العشرين، إنه عقوبة الله لأمة كفرت بشريعته وكذبت رسله واستباحت محارمه، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124].
تدرون ما هذا العدو؟ إنه مرض الإيدز، وما أدراك ما الإيدز، إنه فيروس لا يرى بالعين المجردة، ولا تراه واضحا إلا بتكبيره تحت المجهر آلاف المرات.
وحول انتشار هذا المرض قيل: إن هذا الفيروس المتناهي في الصغر قد أصاب أكثر من سبعة وثلاثين مليون شخص فيما يقرب من اثنتين وخمسين ومائة دولة، حاملون لهذا الفيروس، ولا يظهر عليهم، وهم الأشد خطورة على المجتمعات التي يعيشون فيها، والمفزِع لهذا العالم الموبوء أن أرقام منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن المجموع التراكمي لحالات الإيدز قد يتضاعف أكثر من عشرين مرة منذ بدأ التبليغ عن حالات الإيدز عام ألف وأربعمائة واثنين من الهجرة، يعني قبل ثلاثة وعشرين عاما.
وهذا الفيروس الذي يقوم العالم أجمع بمكافحته، وقد خصص العالم يوم في كل عام تحت مسمى: "اليوم العالمي لمواجهة مرض الإيدز" والمصادف للعشرين من هذا الشهر، والعالم يقوم في هذا اليوم بحملات إعلامية مكثفة تكلف الملايين من الدولارات للتحذير منه، فينبغي لكل إنسان أن يعرف عن هذا المرض الخطير، وعن أسبابه ومسبباته، كفانا الله وإياكم شره.
ففي خطبتنا اليوم نتحدث عن هذا الوباء الخطير لنتذكر ولنحمد الله على ما من به علينا من نعمة الصحة والعافية، وكما يجب علينا تعاطي أسباب النجاة وتجنب أسباب الهلاك والعقوبات.
نقول: يا عباد الله، إنه عقوبة إلهية لأمم تعدت ما أحل الله لها إلى ما حرم عليها، فهو من عقوبات فاحشة الزنا والشذوذ الجنسي كاللواط ونحوه، تلكم الفواحش التي حرم الله ما ظهر منها وما بطن، قال جل شأنه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً [الإسراء:32]، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا [الفرقان:68]، وفي الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((إذا ظهر الزنا والربا في قوم فقد أحلوا بأنفسهم عذابا)) رواه الحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
أما اللواط فهو الذي قال فيه : ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أخوف ما أخاف على أمتي من عمل قوم لوط)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب"، ورواه الحاكم وصححه، وقال : ((لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط، لعن الله من عمل عمل قوم لوط)) ثلاث مرات، رواه النسائي.
نعم يا عباد الله، لقد حرم الله تلك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، رحمة بالعباد وهو أعلم بما ينفعهم وما يضرهم، وحسبك عِلمًا أن تؤمن أن الله ما حرم شيئًا إلا لفساده أو ضرره، وما أحل شيئا إلا لنفعه وصلاحه للعباد أجمعين.
ولكن مجتمعات عديدة في هذه البشرية أعرضت عن ذلك كله، وخالفت شرع الله، لا تبالي بخطورة ما حرمه، بل وأغرقت بالأمور المحرمة على ألسنة الرسل جميعا، وبارزت الله جل شأنه بالمعاصي، وجعلتها تجارة تتاجر وترابح بها، فأشاعتها وأعلنتها، فوقع وعيد الله جل وعلا على لسان رسوله : ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)) أخرجه البيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. الإيدز من الأمراض الفتاكة التي لم تعرف إلا في وقت متأخر ولم تعرف في سالف الزمان والأمة.
عباد الله، لقد تحدثت كثير من الصحف الغربية والأجنبية الكافرة عن هذا الفيروس وأقرت أنه عقوبة، ووصفته بقولها: إن ذلك عقوبة إلهية للمجتمعات التي لم تحترم شرائع السماء، ويقول أحد كبار علماء الميكروبولجين: بأن هذا المرض سوف يقضي على مجتمعات ودول كاملة. نسأل الله السلامة والعافية.
وما زلنا نطالع يوما بعد آخر إحصائيات متعددة عن مدى انتشار هذا الفيروس الخطير، وعدد ضحاياه ومن يحملونه، كان آخر إحصائية من منظمة الصحة العالمية بعدد المصابين بهذا الوباء في العالم الآن أنه قد بلغ سبعة وثلاثين مليون نسمة، وأن نصفهم من النساء، وأوضحت المنظمة بأن هناك حوالي 4.9 مليون إصابة جديدة بمرض الإيدز حدثت في العام الحالي.
في إحدى الصحف صرح مسؤول بوزارة الصحة بأن عدد المصابين بالإيدز بالمملكة حتى هذا العام 1425هـ بلغ سبعة آلاف وثمانمائة وثمانية مصاب، منهم ستة آلاف وستون غير سعودي تم ترحيلهم بعد إجراء فحوصات طبية إجبارية، ومنهم ألف وسبعمائة وثلاثة وأربعون شخصا سعوديا، وعدد الوفيات في المملكة من هذا الوباء الخطير خمسمائة وثمانية وثمانون حالة وفاة بسبب الإيدز.
أما تكاليف العلاج فخمسة عشر مليون ريال لعلاج المصابين في العام الماضي، إن مريض الإيدز يكلف الدولة ما بين ألف واثني عشر ألف ريال شهريا، رغم حقارة وصغر هذا الفيروس، إلا أن المبالغ الطائلة رصدت لتنفق لصد زحف هذا المرض الخطير، والتي عجزت وفشلت حتى الآن عن إيجاد علاج مضاد له.
عباد الله، تشير الإحصاءات من بلاء هذا الداء أن نسبة ثلاث وسبعين بالمائة من جميع حالات الإيدز المعروفة هي من الشاذين جنسيا، وأن خمسة عشر إلى سبعة عشر بالمائة من الحالات هي لمدمني المخدرات، وعشرة بالمائة ناتجة عن عمليات نقل الدم الملوث وأسباب أخرى لا زالت مجهولة، وخلاصة القول والمرعب في هذا المرض أنه مهلك لمن هم في زهرة الشباب واكتمال القوة.
وهذا الوباء الخطر ـ يا عباد الله ـ له حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون الإنسان ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ مصابا به ولا يدري أنه مصاب، ولا تظهر أعراض المرض عليه، وهذا النوع من أشد الناس خطرا على من حولهم، منهم الذين ينقلون العدوى ولا يدرون ولا يدري بهم من يخالطهم.
الحالة الثانية: أن يكون المصاب عالما به لوضوح المرض عليه، وهذا لا أمل له في الحياة إلا أن يشاء الله؛ إذ يبدأ جسمه بفقدان المناعة، وانهيار جهاز المناعة في بدنه ـ يعني أن يكون متقبلا لكل ما يهاجم هذا البدن ـ فتموت الخلايا، ويتهرأ أجزاء بدنه قطعة قطعة حتى يموت، إلا أن يشاء الله غير ذلك، فأمره سبحانه بين الكاف والنون.
ولكن يا عباد الله، إذا تأملتم قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
هذا فيروس حقير صغير لا يرى بالعين المجردة عجزت عنه تلك الدول التي أهلكت وضرت وأفسدت في دول العالم أجمع؛ بسبب سلطتها وويلاتها وفسادها ودمارها على العالم، إنها عقوبة الله جل وعلا: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ [المدثر:31].
عباد الله، انظروا واعتبروا، فإن بقاء كل مجتمع سليمًا حيًا صحيحًا بعيدًا عن هذه الأوبئة والأمراض، إن ذلك مرهون بالتحفظ، فاحفظ الله يحفظك، والله سبحانه ابتلى أقوامًا لما عصوه وكفروا به، وكل ذلك مذكور في كتابه العزيز، وإنها قدرة الله جل وعلا، إنها دليل وحدانيته، إنها دليل غضبه، إنها دليل غيرة الله، والله يغار على محارمه، ومن أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أيها الإخوة، يُثار هذا الكلام وتُقلَّب صفحاته والملايين من البشر يتقلبون في أمراض فتاكة ناتجة عن الرذيلة، يتجرعون غُصصها وأوجاعها، ولا زال الأطباء والعلماء بل والعالم بأسره يتشوّفون لعلاج ناجع يخلّصهم من وبيل سياطها، لكنهم لما يفلحوا في إيقافها، فضلاً عن اقتلاع جذورها، والإسلام خير لهم لو كانوا يعلمون.
لقد جاء الإسلام بما يحفظ العقول والأبدان من الأوبئة والأمراض، وذلك بتشريعاته السامية التي أحاطت جانب العِرض بسياج من العفة منيع، وهذّبت الغرائز، فأباحت الحلال الطيب، وحرمت وعاقبت على المنتن الخبيث.
وهذا الأمر لم يعد سرًا نتغاضى عن ذكره وعلاجه، بل هو ظاهرة مثيرة للجدل اليوم، فقبل كل إجازة سواء الصيف أو العيدين تجد العروض والدعايات السياحية، وتجد الإقبال من بعض الشباب المفتون لقضاء سبع ليال وثمانية أيامٍ حسومًا، يذهبون في الإجازة الصيفية والعشر الأواخر من رمضان وفي عشر ذي الحجة، إجازات دينية عبادية يقضيها المؤمنون مستقبلين لبيت الله الحرام، وهؤلاء قد استدبروا البلد الحرام، وقضوا كثيرًا من أوقاتهم في الحرام، وهؤلاء كثير لا كثرهم الله، ثم يأتون بعد نهاية الإجازة يملؤون المستشفيات الخاصة طلبًا للتحليل عن الإيدز، وتجدهم يخرجون بالنتيجة مغلفة مراعاة للخصوصية، ويهجم بعضهم على زوجته التي حفظته وخانها، والتي أكرمته فأهانها، والتي تسهر عليه إذا مرض، ثم ينقل لها الأمراض التي حملها معه من العمل الحرام.
ونقول لمن يعمل هذا العمل: لو ظفر بك الشرع فإن حدك الرجم حتى الموت، وأنت مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، ثم أنت زيادة على جرمك الشرعي، أنت لست على مستوى الأخلاق، لئيم على مستوى الوفاء، مستهتر على مستوى المسؤولية، فما ذنب زوجتك وأولادك حتى تدخلهم معك في المصيبة؟! ولكن هذا جزاء من يسكت على هذه الأعمال.
إخوة الإسلام، نحن لا نقول: إن كل من يسافر إلى بعض الدول هو ممن يقع في الرذيلة، ولكنَّ المسافرين للرذيلة عليهم أمارات في صحبتهم، وفي وقت ذهابهم، وفي صورتهم، وغير ذلك، فإذا عرفَت الزوجة وأهلها من الزوج هذا الصنيع فعليهم أن يدفعوه بالراحتين، أو يركلوه بالقدمين، والزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، وإذا سكتت المرأة على هذه الأعمال المشينة فإن العاقبة عليها وعلى ذريتها مشينة.
تعسّرُ الزواج عليه أو التعدد أو تأخره لا يبرر له جريمة الزنا؛ لأنه باعتباره عضوًا في المجتمع عليه أن يسلك المسلك الحميد الذي لا يجلب الضرر على المجتمع، خاصة أقرب الناس إليه، وأخلصهم له وهم زوجته وذريته.
أما العلاج الإسلامي الشامل لهذا المرض فهو ما سنطرقه في الخطبة الثانية.
اللهم احفظنا واحفظ أمتنا، وأنزل بلاءك وعقابك على أعدائنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنْ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [العنكبوت:33-35].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُمهل ولا يُهمل، وإذا أخذ فإن أخذه أليم شديد. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، مثال الطهر والعفاف، وفي بيته نموذج يحتذى للبيوت المسلمة، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب:33]، اللهم صل وسلم عليه وعلى إخوانه وأزواجه وآله المؤمنين.
أما بعد: إخوة الإسلام، فليس يخفى أن هذا العالم المضطرب لم يصل إلى ما وصل إليه من تدني في القيم وفساد في الأخلاق فجأة ولا مصادفة، بل كان نتيجة تراكمات من الفساد والانحراف عن منهج الله، وتغليب الشهوة وتهييج الغرائز، ووأد الكرامة والحياء وإشاعة الفاحشة وترويج المخدرات، ونشر المسلسلات وإطلاق عنان الحرية المزعومة، حتى عمّ البلاء وانتشر الوباء، والخوف قائم من تصديره خارج منطقة الداء.
ونحن ـ معاشر المسلمين ـ مطالبون بحماية أنفسنا ومجتمعاتنا من هذا الوباء أو غيره من الأوبئة الأخرى، والحماية لا تكون بمجرد العلاج إذا وقع الداء وتفشى المرض، وإنما تستلزم الوقاية أولاً، والوقاية خير من العلاج وأجدى.
إن علينا بشكل عام أن لا نفكر في دخول النفق المظلم الذي دخله هؤلاء، ونحن نرى بأم أعيننا كيف كان المنتهى، وأن ننظر إلى دعوات التقليد البلهاء على أنها صوت من أصوات السفهاء، وعلى العقلاء أن يأطروهم على الحق أطرًا. علينا أن ندرك مسؤوليتنا تجاه الناشئة، ونجنبهم مواطن الردى.
إن التربية الجادة للشباب وتوفير المحاضن الصالحة وابتكار البرامج المفيدة كل ذلك يسهم في إصلاح المسيرة، ويجنب أمة الإسلام ما وقعت فيه الأمم الأخرى، ويا ويح أمة يغرق شبابها بالمخدرات، ويفتنون بما تعرضه الشاشات من زبالات، ويح أمة يتعلق شبابها برخيص الفن وتكون الرياضة همه الأول والأخير.
إن توفر الصورة الهابطة عند الشباب عن طريق المجلة أو الشاشة أسلوب من أساليب الإثارة والإغراء، وهو وأد للكرامة واستهلاك للحياء، وربما كان في النهاية طريقًا للفاحشة، وإن إغراق الشباب بسيل المسلسلات الفاتنة والمعتمدة أساسًا على إثارة الغرائز هو انتحار للقيم، وخطوات في طريق تفريغ طاقات الشباب بما يضر ولا ينفع، وإن سفر الشباب للخارج دون حسيب أو رقيب، ودون تنظيم يحقق المصالح ويمنع المفاسد هو رمي لهؤلاء الشباب في أتون معركة قلَّ أن يخرج أحد منها دون أن يصاب بشيء من لهيبها، إنها مخاطرة مع هؤلاء الفتية في مجتمعات تكره المسلمين من جانب، ويتوفر فيها من الإغراءات والإباحية ما يثير الغرائز ويخاطب الشهوات، ومن يرضى لفلذات الأكباد أن يكونوا ضحايا للفساد أو يكونوا نقلة فيروسات الدمار لبني الإسلام؟!
ليس من المنطق السليم أن نطالب الشباب بالعفة والطهر ونحن نواصل إغراءهم ونهيئ لهم من الوسائل ما يثير غرائزهم، لا بد أن نسهم جميعا في حمايتهم ونشارك في تربيتهم. إن بقاء الشباب دون عمل أو المغالاة معه في المهر كل ذلك ربما أسهم في دفع أصحاب الأنفس الضعيفة إلى اقتراف المحرمات والوقوع في حمأة الرذيلة.
وأما المرأة فهي وسيلة للفتنة إذا لم تصن وتحترم، وهل كانت فتنة بني إسرائيل إلا في النساء؟!
ألا فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرًا، واحفظوهن من التعرض للبلاء، وتنبهوا للدعوات المحمومة التي تريد بهن وبمجتمعهن الشرور والفساد.
هكذا ـ إخوة الإسلام ـ يظهر هذا الكابوس القاتل والجاثم على صدور المنحرفين، وغدًا ربما يظهر ما هو أشد منه طالما ظل الناس سادرين في غيهم مستثمرين العلم الحديث وإمكاناته الهائلة في نشر هذا الفساد وتزيينه للناس، بل ومحاولة قهر الآخرين عليه في المستقبل القريب كما هو ظاهر في مؤتمراتهم الأخيرة عن السكان والمرأة، ولكن: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ?للَّهِ بِأَفْو?هِهِمْ وَ?للَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ?لْكَـ?فِرُونَ [الصف:8]، وستدور الدائرة عليهم: وَسَيَعْلَمْ ?لَّذِينَ ظَلَمُواْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ [الشعراء:227].
(1/3584)
التحذير من الغيبة والنميمة
الرقاق والأخلاق والآداب
آفات اللسان
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- التعريف بداء الغيبة والنميمة وبيان خطرهما على الفرد والمجتمع. 2- الأدلة على تحريم الغيبة والنميمة. 3- ما تجوز فيه الغيبة من الحالات. 4- واجبنا نحو المغتاب والنمام.
_________
الخطبة الأولى
_________
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله العظيم، وأحثكم على طاعته وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
أما بعد: فيا أيها الإخوة المؤمنون، إن داء الغيبة والنميمة داء من أفسد وأفتك الأدواء التي تبتلى بها الأفراد والجماعات، ومن ثَمَّ حذَّرنا اللهُ تبارك وتعالى من هذا الداء في كتابه العزيز فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12].
إن أشد ما يكرهه الإنسان وينفر منه طبعه أن يتناول لحم ميت ليأكله، وأشد منه غلظة وأكثر منه بشاعةً أن يكون ذلك الميت أخاه، بهذه الصورة البشعة المستقذرة شَبَّه الله الغيبة وما يتناوله المغتاب من أخيه، وشبه الله الغيبة بهذه الصورة لينفر الناس منها كما ينفرون من ذلك، ولتستقر في نفوسهم بشاعتُها.
والغيبة هي أن تذكر أخاك بما يَكْره، قال : ((أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)) ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟! قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ)). فالغيبة إذًا هي ذكرك أخاك بما يكره، سواء كان ذلك فيه أو لم يكن فيه، على أن ذكرك ما فيه تتناوله حرمة الغيبة، وذكرَك ما ليس فيه تتناوله حرمة البهتان والعياذ بالله تعالى. وسواء كان ذلك بحضوره أو بغيابه، أو كان ذلك في خُلُقهِ أو خَلْقهِ، كل ذلك اعتداء على حرمة المسلم ونيلٌ من عرضه وشخصه، ورسول الله يقول: ((كُلّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)).
والنميمة هي نقل الحديث من قوم إلى قومٍ، أو من إنسان إلى إنسانٍ آخر على وجه الإفساد. فهي خصلة ذميمة تجلب الشر وتدعو إلى الفرقة، وتوغرُ الصدور وتثير الأحقاد، وتحطُّ بصاحبها إلى أسفل الدركات، وتنفر الناس منه، فيصبح لا أنيس له ولا جليس، والعاقل من تبرَّأ من تلك الخصال الدنيئة، وتطهر من أدرانها الخبيثة، وعمل على محاربتها بكل ما في وسعه، قال تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ [القلم:10-13]، وقال رسول الله : ((لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ)).
فالغيبة والنميمة ـ يا عباد الله ـ داءان خطيران يسببان عذاب القبر وشدة الحساب، فقد ورد أن رسول الله مَرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: ((إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِير، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ)).
والغيبة والنميمة انتهاك لحرمة المسلم التي أوجب رسول الله صونها وحفظها، فقد خطب في حجة الوداع فقال: ((فَإِنَّ اللَّهَ حرَّمَ عَلَيْكُمْ دِماءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا)).
فالغيبة خيانة وهتك ستر وغدرٌ وإيذاءٌ للمسلمين، وهي زادُ الخبيث، وطعامُ الفاجر، ومرعَى اللئيم، وضيافةُ المنافق، وفاكهةُ المجالس المحرمة.
ولقد بَيَّنَ لنا رسول الله خطر الغيبة والنميمة وإثمهما وسوء عاقبة أصحابهما، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لما عُرج بي مررتُ بقوم لهم أظفار من نُحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم)) ، وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِي : حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ بعض الرواة: تَعْنِى قَصِيرَةً، فَقَالَ: ((لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ))، إن كلمة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على ما فيها بالنسبة لما نحن اليوم عليه من نيل من أعراض المسلمين وذكر عيوبهم ومثالبهم ونقائصهم لا تُعتبر شيئًا.
عباد الله، لما عَلِمَ سلفُنا الصالح حرمة الغيبة وأدركوا خطرها على المجتمعات وخطورتها على المغتاب في يوم العرض على الله تعالى أمسكوا ألسنتهم عن التكلم في عرض أحد أو طعنه أو شتمه، وشغلوها بذكر الله وطاعته والأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذا جاءهم فاسق بنبأ لامُوهُ على نقله الحديث، وحذروه من مغبة سوء فعله، فقد جاء رجل إلى عمرو بن عبيد فقال له: إن الأسواريَّ ما زال يذكرك في مجالسه بشرٍّ، فقال عمرو: يا هذا، ما راعيت حقَ مجلس الرجل حين نقلت إلينا حديثه، ولا أديتَ حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره، ولكن قل له: إن الموت يعمّنا، والقبر يضمّنا، والقيامة تجمعنا، والله يحكم بيننا، وهو خير الحاكمين. ورُوِيَ أن رجلاً قال لعبد الملك بن مروان: إني أريد أن أُسِرَّ إليكَ حديثًا، فأشار الخليفة إلى أصحابه بالانصراف، فلما أراد الرجل أن يتكلم قال الخليفة: قِفْ، لا تَمْدحني، فأنا أعلم بنفسي منك، ولا تَكْذِبْني فأنا لا أعفو عن كذوب، ولا تَغْتَبْ عندي أحدًا فلستُ أسمع إلى مغتاب. فقال الرجل: هل تأذن لي في الخروج؟ فقال الخليفة: إن شئت فاخرج. هذه مخاطر الغيبة وطرقُ علاجها.
أيها المسلمون، ولا تباح الغيبة إلا لغرض شرعي كأن يعلن المظلوم عن ظلمه، أو يُدعى إنسان للشهادة، أو يشهدَ من غير أن يُدعى لإثبات حق قد يضيعُ، قال تعالى: وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]. فإحقاق الحقوق والسعيُ في إيصالها لأهلها مما هو مطلوب ومأمور به شرعًا، فقد سألتْ هِنْدُ زوجة أبي سفيان رضي الله عنهما رسول الله قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، وَلَيْسَ يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي، إِلاَّ مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهْوَ لاَ يَعْلَمُ، فَقَالَ: ((خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ)). كما تجوز الغيبة عندما يسألك إنسان عن مصاهرة إنسانٍ أو مشاركته أو معاملته، فإنه يجوز لك أن تبين مِنْ حاله وواقِعه بقدر الحاجة وبنية النصيحة لا التشفي. كما أن المجاهر بالمعاصي لا تحرم غيبته إن أُمِنَ شَرُّهُ، وكذا الفاسق والمنافق والمارق من الدين؛ كي يجتَنب الناس شرورهم.
عباد الله، أما النميمة فهي أشد خطرًا من الغيبة؛ لأنها نقل الحديث من قوم إلى قوم على جهة الإفساد والفتنة، وهي تورث الفتنة والضغينة وتفرق بين المتآلفين، وتفضي إلى كثير من المفاسد والشرور، والنمام بنميمته يباعد ويفرق بين المتآلفين، ويفصم عقدة النكاح بين الزوجين، ويسبب الحرب بين الأهلين، ثم إن النمام يجمع إلى قبح النميمة قبح الغيبة؛ لأنه يهتك ستر أخيه ويذكر عيوبه، وهو حين يسعى بين الناس بالإفساد يقترف جريمة الغدر والخيانة.
ولقد حذر الله عز وجل المؤمنين شر النمام، ونهاهم عن تصديق قوله، وصرح لهم بفسقه فقال جل شأنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، واعلم ـ أخي المسلم ـ أن من نَمَّ لك نَمَّ عليك، ومن نقل لك خبر سوء سينقل عنك مثله.
فانهوا المغتابين عن أعراضِ المسلمين، وذكِّروهم بالله تبارك وتعالى أن يتمادَوا في معصيته، فإن لكلِّ قولٍ حسابًا عند الله عز وجل، قال الله تعالى: ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله ذي الجلال والإكرام والعزةِ التي لا ترام ولا تضام، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عزيزٌ ذو انتقام، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى دار السلام، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام.
أما بعد: فاتقوا الله أيها المسلمون، فمن اتقى الله وقاه العذاب وضاعف له الثواب، قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا ?لإِنسَـ?نَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ?لْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى ?لْمُتَلَقّيَانِ عَنِ ?لْيَمِينِ وَعَنِ ?لشّمَالِ قَعِيدٌ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18].
عباد الله، إن الغيبةَ والنميمة كبيرةٌ من الكبائر، زيَّنها الشيطان للإنسان، فوقع بها في شراكه ومكرِه، وظلم بها المسلم نفسَه. وإن النميمةَ نوع خبيث من أنواع الغيبة، فالنميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض للإفساد بينهم، قال الله تعالى في ذم النمام: وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:10-12] ، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((لا يدخل الجنة نمام)) متفق عليه.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وحاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوها قبل أن توزنوا.
أيها المسلمون، إن أهلَ العلم بيَّنوا أنَّه يجوز للمظلوم أن يذكُر ظلامتَه لولي الأمر من أمير وقاضٍ ونحوهما، ويجوز لمن رأى منكرًا أن يرفعَه لمن له ولاية وقدرةٌ على التغيير وزجر للعاصي، ويجوز للمستفتي أن يذكرَ ما وقع عليه من ظلم للمفتي؛ ليبيِّن له وجهَ الحق، ويجوز لمن شاورك في أحد أن تذكر له بعضَ حاله، ولا يجوز أن تخفي عنه ما يوقعه في الغرر والخديعة، فهذه الأنواع ذكر أهل العلم أنها تُباح فيها الغيبة لأجل الضرورة ولما أباحه الشرع والدليل، وما سوى ذلك من الأمور التي فيها غيبة بالتشهي وفيها ظلم وعدوان فإن ضرر ذلك على المغتاب لا على من ظُلم، فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون، إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)) ، فصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم...
(1/3585)
حقوق الأولاد في الإسلام
الأسرة والمجتمع
الأبناء
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- أهمية الحديث عن هذا الموضوع. 2- من أهم حقوق الأبناء على الآباء: اختيار الأم الصالحة، الأذان في أذن المولود، إحسان التسمية، العقيقة، الرضاعة الطبيعية، حسن المعاملة، عدم الإهمال، الاهتمام بالتربية المباشرة دون وسائط، التعويد على فعل الطاعات واجتناب المنكرات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، وأحثكم على طاعته، وأحذركم وبال عصيانه ومخالفة أمره، وأستفتح بالذي هو خير: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة:7، 8].
أما بعد: فيا إخوة الإيمان والعقيدة، نعيش هذه الدقائق الطيبة في هذا اليوم المبارك مع موضوع من أهم الموضوعات، يحتاج إليه كل أب وكل أم وولد، وذلك من أجل الحياة الطيبة السعيدة، ألا وهو حقوق الولد على أبويه. يقول مولانا تبارك وتعالى في كتابه العزيز: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
أيها الإخوة المؤمنون، إن أولادَنا ثمراتُ قلوبنا، وفلذاتُ أكبادنا، وهديةُ الله إلينا، وزينةُ حياتنا، والأثرُ الصالح الذي نُذكَر به إذا كانوا صالحين، وهم من كسبنا، ودعاؤهم من العمل الذي لا ينقطع بموتنا، قال رسول الله : ((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) رواه مسلم والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود والترمذي والنسائي.
أيها الإخوة، إن أبناءَنا وبناتِنا هم جسدُ الأمة وعَقلُها المفكر وقلبُها النابض، جعلهم الله أمانةً في أعناقنا، يقول رسول الله : ((أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ)) متفق عليه.
أيها الإخوة الكرام، إن دينَنا الإسلاميَّ الحنيفَ وازَنَ بين الحقوق والواجبات، فكما أوجب على الأولاد برَّ والديهم وأوصاهم بهم فقد أوجبَ على الآباءِ رعايةَ أولادهم والعنايةَ بهم، ليكونوا مصدرَ خيرٍ وقرةَ عينٍ لهم في الدنيا والآخرة، وليستجيب الله عز وجل لهم إذا دعَوا: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
أيها الأحبة في الله، إذا أردنا أن تقرَّ أعينُنا بأولادنا ونأخذَ بأسباب نجابتهم وسعادتهم فعلينا باختيار الأرض الطيبة التي يخرج نباتُها بإذن ربها طيبًا مباركًا، ولا بدَّ أن يبحثَ مريدُ الزواج عن الزوجةِ التَّقِيَةِ النَّقِيَةِ، قال رسول الله : ((فاظفرْ بذاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)) رواه البخاري ومسلم وأبوداود والنسائي.
وقد اعتبر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه انتقاء الزوجة واختيارها حقًا من حقوق الولد على أبيه، وكذلك اختيارَ اسمِهِ وتعليمَهُ القرآنَ والدِّين. واسمع ـ يا أخا الإسلام ـ إلى الرجل الذي يشكو عقوق ولده إلى سيدِنا عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فأحضرَ أميرُ المؤمنين الغلامَ وأنَّبه، فقال الغلام: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حق على أبيه؟ قال: بلى، قال: فما حقه على أبيه؟ قال: أن يَنْتَقِيَ أُمَّهُ، ويُحْسِنَ اسمَهُ، ويُعَلِّمَهُ الكتابَ. قال الغلامُ: يا أميرَ المؤمنينَ، إنَّ أبي لم يفعلْ شيئًا من ذلك، استولدني من أَمَةٍ زنجية كانت لمجوسيّ، وقد سماني جُعلاً، ولم يعلّمْني من الكتاب حرفًا واحدًا، فالتفتَ أميرُ المؤمنينَ عُمرُ رضي الله عنه إلى الرجل وقال له: جئتَ إليَّ تشكو عقوقَ ولدِكَ وقد عقَقْتَهُ قبلَ أن يَعقَّك، وأسأْتَ إليه قبْلَ أنْ يُسيء إليك!
أيها الإخوة الأعزاء، إن لأولادنا حقوقًا علينا، فينبغي تخيّرُ الأمهاتِ لهم، وقد نبَّه مبعوثُ الرسالة الإلهية وشمسُ الهداية الربانية سيدُنا محمدٌ إلى هذا فيما روي عنه: ((تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ)) رواه ابن ماجه والديلمي.
فإذا أطلَّ المولودُ على الوجود فيستحبُّ الأذانُ بلطفٍ في أذنه اليمنى والإقامةُ في اليسرى؛ ليكونَ أولَ ما يطرقُ سَمْعَهُ ويستقرُّ في أعماقه تكبيرُ الله عز وجل وشهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله والدعوةُ إلى الصلاة والفلاح.
كما أمرنا النبي باختيار أسماء أولادنا، وأن تكون الأسماءُ متصلةً بمَنْ اختارهم الله من الصفوة المباركة من الأنبياء والصديقين والصالحين، قال رسولُ الله : ((إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ)) رواه أبو داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء.
ولم يكتفِ رسولُ الله بالإرشادِ القولي، بل أكَّدَ ذلك بالفعل عندما خرج على الناس صبيحةَ يومٍ وقال لهم: ((وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ فَسَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبي إِبْرَاهِيمَ)) رواه مسلم. فالنبي في هذا الحديث يلفتُ الأنظارَ إلى أن نسميَ أبناءنا بأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد أخرج أبو داود والنسائي أن رسولَ الله قال: ((تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ وَمُرَّةُ)).
أيها الإخوة الأحباب، إن من السنة أيضًا في حقوق الأولاد أن نذبحَ عن الغلام شاتينِ، وعن الأنثى شاةً، وتجزئ شاة عن الغلام أيضًا وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، وهو ما يسمى بالعقيقة أو النسيكة.
ومن حِكَم مشروعيتها شكرُ اللهِ عز وجل على عطائه وآلائه، والتقربُ إليه بالذبح والتصدق والإطعام، والتكافل والتعاون، يقول رسولُ الله : ((كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُسمَّى)) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وقوله: ((رهينة بعقيقته)) معناه: محبوسٌ عن الشفاعة في أبويه.
أيها الإخوة المؤمنون، إن من حقوقِ أولادنا الرضاعةَ الطبيعيةَ، قال الله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233], ويخطئ بعض الآباء والأمهات حين يلجؤون ـ دون ضرورة ـ إلى إرضاع أولادهم رضاعةً صناعية، وهذا أمرٌ خطيرٌ على صحةِ الطفلِ وأخلاقهِ وطباعهِ، فينبغي الحذرُ من ذلك إلا في ضرورة.
وإذا تجاوزَ الطفلُ فترةَ الرضاعةِ فعلينا أن نرفقَ به ونلينَ في معاملته؛ لأن ذلك أدعى إلى استجابته لتوجيهات أبويه، وهكذا كان شأن سيدنا محمد مع أبنائه وبناته رضي الله عنهم، فعن عبد الله بن شداد عن أبيه قال: خرجَ علَيْنا رسولُ الله في إحدى صلاتي العَشِيِّ: الظهرِ أو العصرِ، وهو حاملٌ أحدَ ابنيه: الحسنَ والحسين، فتقدم رسولُ الله فوضعَهُ عند قدمه اليمنى، فسجدَ رسولُ الله سجدةً أطالها، قال أبي: فرفعتُ رأسي من بين الناس فإذا رسولُ الله ساجدٌ، وإذا الغلامُ راكبٌ على ظهره، فعدتُ فسجدتُ، فلما انصرفَ رسولُ الله قال الناسُ: يا رسولَ الله، لقد سجدتَ في صلاتكَ هذه سجدةً ما كنتَ تسجدُها، أفشيءٌ أُمِرْتَ به أو كان يوحى إليك؟ قال: ((كلُّ ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهتُ أن أُعْجِلَهُ حتى يقضيَ حاجتَه)) رواه الحاكم.
أيها الإخوة الأعزاء، إن الإسلامَ يحمِّلُ الأبوين مسؤوليةَ التربيةِ لأولادِهم، قال رسولُ الله : ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ)) أخرجه البخاري ومسلم. فكلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرة وعلى الإيمانِ والتوحيدِ والحقِ والخيرِ والفضيلةِ والنفورِ من الباطلِ والشرِ والرذيلةِ، فلا يولدُ أحدٌ يهودِيًا ولا نصرانيًا، ولا فاسقًا ولا منافقًا، إنما يوجهه إلى ذلك أبواه ومربوه، وأهله وجيرانه، وأصحابه ومعلّموه.
وينشأ ناشئُ الفتيانِ فينا على ما كان عوَّده أبوه
وما دان الفتى بحِجًى ولكنْ يعوِّدهُ التدَيُّنَ أقربوه
معاشرَ الآباء، يجب علينا أن نباشرَ تربيةَ أولادِنا مباشرةً دونَ وساطةٍ، بحيثُ نعلمُ مدخلَهم ومخرجَهم، ونعلمُ أينَ يذهبون، ومَنْ يُصاحِبُون ويُصَادِقُون، وماذا يفعلون؛ لأن الصغارَ لا يوجدُ لديهم الوعيُ الديني الكاملُ الذي يمنعهم من المنكرات والآثام، ولا توجدُ عندهم العقولُ الكاملةُ التي تمنعهم من الفساد والانحراف.
إن كثيرًا من الآباء والأمهات شُغِلُوا عن أبنائهم وبناتهم، فلم تَعُدْ لهم أوقاتٌ يجلسون فيها مع عائلاتهم، يسألون عن أخلاقهم وأحوالهم، ولكنهم يهتمون في الغالب بمن يمرضُ فيداوونه، وبمن يجوعُ فيشبعونه، وغابَ عنهم أنهم في هذا الاهتمام يخدمون الجسمَ، ويهملون النفسَ والقلبَ والروحَ، والحكيم يقول:
يا خادمَ الجسمِ كمْ تشقى لخدمتِهِ أتطلبُ الربحَ مما فيه خسرانُ
أقبلْ على النفسِ واستكملْ فضائلَها فأنتَ بالنفسِ لا بالجسمِ إنسانُ
عباد الله، إن أولادَنا أحوجُ إلى التربيةِ والتزكيةِ والرعايةِ منهم إلى الطعامِ والشرابِ والدواءِ؛ لأن الطعامَ والشرابَ والدواءَ ينفعُ البدنَ ويدفعُ عنه الأخطارَ بمشيئة الله تعالى، أما التربيةُ والتزكيةُ فإنها تحفظُ الدينَ والعقلَ والعرضَ والنسلَ والجسمَ والمالَ، وأفضلُ هدية يقدمها الوالدان والمربون لأولادهم هي التربيةُ والتأديب، قال رسولُ الله : ((مَا نَحَلَ وَالِدٌ وَلَدًا مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أَدَبٍ حَسَنٍ)) أخرجه الترمذي.
وقد كان العلماءُ والخلفاءُ والصالحون يهتمون بذلك أعظمَ الاهتمام، قال عبدُ الملك بن مروان الخليفة الأموي ينصحُ مُؤَدِّبَ ولده: "علِّمْهم الصدقَ كما تعلمُهُمُ القرآنَ، واحملْهمْ على الأخلاقِ الجميلةِ، وجالسْ بهم أشرافَ الرجال وأهلَ العلم منهم، واضرْبهم على الكذب، فإن الكذبَ يدعو إلى الفجور، وإن الفجورَ يدعو إلى النار".
أيها المسلمون، يجبُ علينا تعهّدُ أبنائنا وبناتنا وتوجيهُهم وتعويدُهم على فعلِ الطاعات وتركِ المنكرات، وتقويةُ الوازع الديني في نفوسهم، قال رسولُ الله : ((مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ)) أخرجه أبو داود والحاكم.
وقد كان أصحابُ النبي يدَرِّبُون أولادَهم ويروِّضُونَهم على الصلاةِ والصيامِ والأخلاقِ الحسنةِ، ويعلمونهم سيرةَ النبي العطرةَ، قال سعدُ بنُ أبي وقاصٍ رضي الله عنه :كنا نعلِّمُ أولادَنا مَغازيَ رسولِ اللهِ كما نُعَلِّمُهُمُ السورةَ من القرآن.
وفي الختام: نصيحتي للآباء أن يهتموا بأولادهم تربيةً وتعليمًا، وأن لا يسْلموهم لأناسٍ غيرِ ثقاتٍ ولا طيبين من خدم أو معلمين، وبخاصة إذا كانوا كافرين أو فاسقين، وأن لا يتيحوا لأولادهم فُرَصَ مشاهدةِ الأفلامِ والقنواتِ والمجلاتِ والإنترنت وغيرها من الوسائل التي تدمر الخُلُق والدين، كما ينبغي حفظُهم من أصحابِ السوءِ ورفقاءِ الشر أهلِ المعاصي والفواحشِ والمنكراتِ والمسكرات والمخدرات وتضييعِ الأخلاقِ والأوقات؛ لأن الأمة ما وصلت إلى ما وصلت إليه من الذل والهوان وتداعي الأمم عليها إلا بتضييع نشئها والتفريط في أبنائها وبناتها، فاحفظوهم ـ عباد الله ـ وأصلحوهم حتى يكونوا صالحين مصلحين هادين مهديين غيرَ ضالين ولا مضلين.
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا، اللهم لا تَدَعْنا في غَمْرَة، ولا تَأْخُذْنا على غِرَّة، ولا تجعلْنا من الغافلين.
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأدوا ما عليكم من واجبات الذرية، قال الله تعالى: رَبّ ?جْعَلْنِى مُقِيمَ ?لصَّلو?ةِ وَمِن ذُرّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء رَبَّنَا ?غْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ ?لْحِسَابُ [إبراهيم:40، 41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله يقول الحق وهو يهدي السبيل، أحمده سبحانه وأشكره وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ندّ ولا مثيل، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله جاء بأشرف تنزيل، ودعا إلى كل خلق جميل، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، أدّوا الأمانة، ونصحوا الأمة، وحفظوا هذا الدين من التحريف والتبديل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ وأطيعوه، واجتنبوا سخطه ولا تعصوه، واعلموا أن أولادكم ومن ولاكم الله أمره أمانة في أعناقكم ومسؤولية عليكم، بأن تحملوهم على أصلح الأمور، وتدلوهم على كل خلق قويم ونهج مستقيم، واحذروا عليهم من الانفلات وقرناء السوء ومضار الفراغ والسفر بلا رقيب ولا حسيب. أعينوهم على تنظيم حياتهم في نومهم ويقظتهم، وعودوهم على ما يصلحهم، وجنبوهم السهر، ولا سيما في الشوارع، فإن ذلك قد يجرّ الشاب إلى أمور لا يقدر على التخلص منها مستقبلاً، فيندم على ما اكتسب من الأخلاق المنحرفة حيث لا ينفع الندم، وأخطر شيء على الشباب المخدرات والانحرافات الخلُقية، فحذِّروا من ذلك دائمًا، وهيِّئوا لأولادكم الوسائل المباحة النافعة، ووجِّهوهم إلى ما يفيد من الأعمال؛ لأنكم تُسألون عنهم، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالرجل راع في أهل بيته ومسؤول عنهم، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عنه، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عنه، وكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته)).
ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?تَّقُواْ ?للَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَـ?لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
(1/3586)
آداب السير والمرور
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- عناية الشريعة بالمحافظة على الأنفس والممتلكات. 2- الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب حفظ الأرواح. 3- خطر السرعة الزائدة وأثرها في تدمير الممتلكات. 4- الحذر من أذية المؤمنين بأي وسيلة. 5- حصاد الحوادث. 6- التحذير من تمكين السفهاء من قيادة السيارة وخطر ذلك.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فيا إخوة الإيمان، ما مِن يوم ينقضي إلا ونسمع عن عددٍ من حوادث السير المفجعة التي تحصد الأرواح أكثر مما تحصدُ الحروب، فلمَ لا نعمل على الحدِّ من هذه الحوادث المرورية المؤلمة؟! وخاصة أن نصوص الشريعة الإسلامية قد حمتْ حق الإنسان في الوجود، وحقه في الأمن والأمان، وشرعتْ الحدودَ التي تحفظ هذا الحق وتصونه، كما أن القوانين والتشريعات التي تُصْدِرُها الدول ومنها المملكة العربية السعودية في هذا الصدد تواكب وتساير ما جاءت به الشريعة الإسلامية الغراء في صيانة الدماء والأموال، وحماية حق البشر في الأمن والأمان.
عباد الله، ويُعَدُّ الخروجُ على هذه النصوص الشرعية والقانونية مخالفةً صريحةً، ويُعَدُّ المخالفُ آثمًا وعاصيًا؛ لأن النُظُم والقوانين التي وضعتها إدارة المرور والترخيص تخدم بالدرجة الأولى مصلحة الفرد والمجتمع؛ لأنها توفر السلامةَ والأمن والأمان لسالكي الطريق، وينبغي أن يلتزم َالجميع بهذه النُظم وتلك القوانين؛ لأنها سُنَّتْ لمنعِ الأذى، وفي الحديث الشريف يقول النبي : ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطُّرُقَات)) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: ((إِذَا أَبَيْتُمْ إِلاَّ الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ)) ، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْىُ عَنِ الْمُنْكَرِ)).
عباد الله، إن الله جلَّ شأنه حَمَى النفسَ البشرية، وأكَّدَ حقها في الحياة عندما اعتبر قتْلَ نَفْسٍ واحدةٍ قَتْلاً للبشرية كلِّها، وإحياءها إحياءً للبشرية كلها، يقول تعالى: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُون [المائدة:32].
إخوة الإيمان، إن الله جلّ جلاله خلق الإنسان، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في الكون جميعًا لإسعاده، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا [الإسراء:70]. فالذي كرَّم هو الله، والذي حمل في البر والبحر هو الله، والذي هيأ وسائل السفر والانتقال عن طريق السفن والطائرات والقطارات والسيارات وغيرها هو الله، وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل:5-9].
عباد الله، وبناءً على هذا فإنه لا يحل لنا بهذه الوسائل التي سخرها اللهُ لنا أنْ نُبَدِّلَ نعمةَ اللهِ كُفْرًَا، وذلك بالتسبب في إزهاق الأرواح وترويع الآمنين، وفي الحديث الشريف يقول النبي : ((لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلمًا)).
عباد الله، وهل هناك ترويعٌ أشدُّ من السُّرعةِ الزائدة عن حدِّها التي تؤدي إلى قَتْل وتمزيقِ الإنسان، بالإضافة إلى ما تخلفه من جروح وعاهات وتشوهات تدمى لها القلوب. ولذلك كانت الفتوى الشرعية بأن من تجاوز الحدَّ المقرر للسرعة فتسبب في قَتْلِ نفسه أو قتْلِ غيرِه كان مسؤولاً أمام الله، قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وقال: وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بالحَقّ [الأنعام:151].
عباد الله، والسرعةُ الزائدةُ عن حدِّها تؤدي إلى تحطيم وتخريب الممتلكات العامة والخاصة، وقد نهى النبي عن إضاعة المال، وقال في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا)) ، وقال : ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) ، ونظر إلى الكعبة فقال: ((ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده، لَحُرْمَة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه)).
أيها الإخوة المؤمنون، يجبُ علينا أن نبتعد عن إيقاع الأذى وإلحاق الضرر بغيرنا حتى لا نكسب إثمًا عند الله، وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [النساء:111]. ومن أشدِّ أنواع الأذى التعدي على المؤمنين أثناء سيرهم في الطرقات العامة, علمًا بأن حق الطريق حق مشترك، وينبغي على كل فرد أن يفسح الطريق لأخيه حتى لا يقع مكروه لا تحمد عقباه، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58]. ومن صور الإيذاء إيقاف السيارات بطريقة عشوائية تضيِّق على الآخرين وتعطل مصالحهم.
عباد الله، إنَّ المبالغة في طلب الشيء قد تؤدّي إلى الهلاك قبل الوصول إليه، كما قال رسول الله : ((إن المنْبَتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبْقَىَ)). وعلينا أن لا ننسى القاعدة المرورية المشهورة: "لا تسرع فإنَّ الموت أسرع". إن الإفراط في السرعة مصدر لإلقاء الرعب والخوف في قلوب الآمنين وإفساد في الأرض وإهلاك لأنفس بريئة واعتداء على أثمن شيء يملكه الإنسان في هذا الوجود، ألا وهو حق الحياة، وليعلم الذين يتعجَّلون أن خلْفَهُم نساءً وأطفالاً هم بأشد الحاجة إليهم، وعليهم أن يفكروا في مصير أسرهِم وأولادهم.
عباد الله، إنَّ حوادثَ السير ألحقتْ أضرارًا جسيمةً بالفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وأدّت إلى تيَتُّم أطفال أبرياء، وخسارة شباب أقوياء، وقتل شيوخ ضعفاء، وترمّل نساء عفيفات، وهدر للوقت والمال في الدواء والعلاج.
وقد دلَّت الإحصاءات على أن أعداد القتلى والجرحى والمعاقين بسبب حوادث المرور في ارتفاع دائم وازدياد مستمر، وكل هذا يُخلِّفُ الحسرة في النفوس، وتَبْقَى الجروحُ الغائرةُ شاهدةً على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وفي الحديث الشريف: ((الأَنَاةُ مِنَ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَان)). فلا تجعل مقود سيارتك في يد الشيطان.
إخوة الإيمان، من منا يرضى أن يكونَ سببًا في تحوُّل أسرة تنعم في ظل راعيها بالبهجة والسرور إلى أسرةٍ كئيبة حزينة تعيش حالة من البؤس والتعاسة والشقاء صباح مساء ولسنين عديدة؟! من منا يرضى أن يكونَ سببًا في حفر ذكريات أليمة في مهج أطفال صغار ينتظرون بشوق عودة أبيهم أو أخيهم؟! من منا يرضى أن يجعل السيارة التي هي وسيلة نقل وسيلةَ قَتْلٍ ودمار؟!
عباد الله، ما أجدرنا بأن نتحلى بالصفة الأولى من صفات عباد الرحمن الذين قال الله فيهم: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]. وما أجمل أن نقتديَ بنبينا محمدٍ في سيره ليلةَ أن دفع من عرفة إلى المزدلفة ومعه ذلك الجمع الهائل من الحجيج, فكان يناديهم ويرفع يده اليمنى قائلاً: ((يا أيها الناس، السكينةَ السكينةَ)). وكان يكبح من سرعة راحلته بشدّ زمامها حتى كادَ رأسها أن يلامس رحلها، وذلك خشية أن يشق على المسلمين في سيرهم، أو أن يضايق أحدًا منهم في طريقه.
عباد الله، وما ينبغي لقائد السيارة أن ينشغل بشيء يؤثر على رؤيته وتركيزه أثناء القيادة؛ لأنه مسؤول أمام الله عن سلامة نفسه وسلامة الآخرين، وعليه أن يسير بهدوءٍ وسكينة، وأن يتذكر وصية لقمان عليه السلام لابنه وفِلْذة كبده: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان:18].
نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون ممن يحفظون دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم، وأن يكتب لنا وللمسلمين جميعًا السلامة والعافية في البر والبحر، وأن يحفظ أهلنا وأبناءنا وبناتنا وبلدنا هذا خاصة وسائر بلاد المسلمين. آمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي بيده الفضل، من شاء أعطاه ومن شاء منعه، فلا رافع لمن خفضه ولا خافض لمن رفعه، أحمده وأشكره على مزيد نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي له العزة والبقاء والعظمة، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الهادي إلى سبيل النجاة والمحذّر من طريق الهلاك، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه عدد المتحركات والجامدات من الشجر والحجر والبشر، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا عباد الله، إن كثيرًا من المسلمين ـ هداهم الله ـ يتساهلون في جعل السيارات بأيدي صغار أبنائهم، وكلوها إلى قوم صغار السن أو صغار العقول، تجده يقود السيارة وهو صغير السن لا يكاد يُرى من نافذتها، وتلك مصيبة يرتكبها الذي يسمح لهذا الصغير بالقيادة، ومن هو ضحيتها؟! إن ضحيتها المارة في الأسواق، إن ضحيتها الذين يقعون موتى أو هلكى أو مصابين من جراء تلك الحوادث، فإن ذلك أمر لا يليق ولا ينبغي، بل لا يجوز شرعًا. ولو تأملنا حقيقة مقاصد الشريعة التي من أهم مقاصدها حفظ الأبدان والأرواح فإن ذلك مما يهلك الأبدان والأرواح، وإن حبس الصغار عن القيادة ومنعهم عنها حتى يصلوا إلى سن قانونية تسمح لهم بقيادة السيارة، وبعد معرفة أنظمة المرور في البلاد، وبعد معرفة التعامل المتزن الدقيق مع هذه الآلة، بعد ذلك لا بأس به.
أما أن تيسّر السيارة لكل من طلبها صغيرًا أو متهورًا أو مجنونًا أو عاملاً لا يجيد القيادة فإن ذلك يفضي إلى هلاك الأنفس، وكم حادث وفاة كان من جراء طفل صغير انطلق بسيارته فدهس بها طفلاً صغيرًا في الشارع، أو دهس بها رجلاً عجوزًا في السبيل، وما ذلك إلا تهاون وتفريط، والمسؤولية تقع على من سمح لهذا الولد أو غيره من المتهورين بالقيادة.
فيا عباد الله، لا تهلكوا مع الهالكين، وعليكم بأسباب السلامة التي هي الرفق والانتباه للطريق واليقظة الدائمة مع الاعتماد على الله، والمحافظة على الأنفس والأموال، والتزام الأدب والطمأنينة واتباع أنظمة المرور، حتى لا تكون أنت المتسبب في إزهاق نفس، ثم يكون من نتائج ذلك:
أولاً: إخراج هذا الميت من الدنيا وحرمانه من التزود بالعمل الصالح والاستغفار من العمل السيئ.
ثانيًا: حرمان أهله وأصحابه من التمتع معه في الحياة.
ثالثًا: ترمل زوجته وتيتم أولاده إن كان ذا زوجة وعيال.
رابعًا: غرامة ديته تسلم إلى ورثته إلا إذا عفا أهله عنها.
خامسًا: وجوب الكفارة حقًا لله تعالى، فكل من قتل نفسًا خطأ أو تسبب لذلك أو شارك فيه فعليه الكفارة، فلو اشترك اثنان في حادث وتلف به شخص فعلى كل واحد منهما كفارة كاملة، والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد كما هو الواقع في عصرنا فصيام شهرين متتابعين، لا يفطر بينهما يومًا واحدًا إلا من عذر شرعي، فإن أفطر قبل إتمامهما ولو بيوم واحد من دون عذر وجب عليه أن يبدأ بالصوم من جديد، وهذه الكفارة حق الله تعالى لا تسقط بعفو أهل الميت عن الدية، فأهل الميت إذا عفوا عن الدية إنما يملكون إسقاط الدية إن رأوا في إسقاطها مصلحة، وأما الكفارة فلا يمكن إسقاطها لأنها حق الله عز وجل، وهذه الكفارة أيضًا تتعدد بتعدد الأموات بسبب الحادث، فإن كان الميت واحدًا فشهران، وإن مات اثنان فأربعة أشهر، وإن مات ثلاثة فستة أشهر، وهكذا عن كل نفس يصوم شهرين متتابعين.
فاتقوا الله ـ أيها العباد ـ في أنفسكم وفي إخوانكم وأموالكم، واتقوه بطاعة ولاة أمركم إذا أمروكم بما فيه صلاحكم وسبب سلامتكم، واعلموا أن مخالفة نظام الدولة ليس مخالفة لبشر فقط، ولكن مخالفة للبشر ولخالق البشر، واعلم ـ أخي المسلم ـ أن رجل المرور واحد من ولاة الأمور، وولاة الأمور مقرونة طاعتهم بطاعة الله ورسوله، يقول الحق تبارك وتعالى: يَـ?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ?للَّهَ وَأَطِيعُواْ ?لرَّسُولَ وَأُوْلِى ?لأمر مِنْكُمْ [النساء:59]، فرجل المرور أو ضابط المرور من أولي الأمر، تجب طاعته فيما يأمر به وينهى عنه ما لم يكن ذلك الأمر والنهي في معصية الله ومعصية رسوله.
هذا وصلوا على خير البرية ومعلم البشرية النبي المجتبى والرسول المصطفى، كما أمركم بذلك ربكم جلا وعلا في قوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلو سلم وبارك على نبينا محمد...
(1/3587)
الإرهابيون وعبثهم بأمن البلاد
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
25/2/1424
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساؤلات لا بدّ منها. 2- ضلال فئة النشاز. 3- بشاعة جريمة التفجير والأعمال التخريبية. 4- نصوص الكتاب والسنة في حرمة دماء المسلمين والتغليظ في شأنها. 5- الأمن ضرورة في حياة الفرد والمجتمع. 6- جدارة بلاد الحرمين في الخروج من المآزق. 7- التحذير من استغلال المنافقين لهذه الأحداث في الإفساد.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنَّ التقوى خير لباس، وأزكى ذُخر عند الشدائد والباس، وأفضل عُدّة وزاد، يبلّغ إلى جنان ورضوان ربّ العِباد، تِلْكَ ?لْجَنَّةُ ?لتي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].
أيّها المسلمون، عند حلول حدَثٍ أيِّ حدَث يتساءل الناسُ بعامّتهم في سكرةٍ: ماذا حدث؟! ولماذا حدث؟! وكيف حدَث؟! وبعد مُضيِّ الحدَث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعدَ الحدَث؟ في تفكّرٍ ومحاسبات ومعالجَة ومراجعات وتحليل ومتابعاتٍ وأبحاث ودراسات، تربِط النتائجَ بالمقدّمات، وتصل الأسباب بالمسبَّبات، لا سيّما فيما يمسّ دينَ الأمّة وأمنَ المجتمعات، وما يعكِّر استقرارَ الشعوب والبيئات، وما يعوق بناءَ الأمجاد وإشادة الحضارات، ويعبث بالمكتسبات والمقدَّرات، تشخيصًا محكمًا للدّاء، ووصفًا ناجعًا للدّواء.
معاشرَ المسلمين، لا يفتَأ المتأمِّل في أدواء أمّتنا وعِللها المزمِنة أن يرى في بيداءِ الأحزان أشباحَ الأوهام تتقافز في أضواء بواطلِ الأحلام، فإذا ما دنَا منها وقف على فِئةٍ نشاز سَمجةِ الفكر صفيقةِ الروح ضيِّقة العطَن ضعيفة الرّأي عميقةِ العُقَد والنّزوات، أُرخِصت لدَيها الأعمار، فقامت بسَفك الدّماء وقتل الأبرياء وجلبِ الدمار وإلحاق العار والشنار وخراب الأوطان والإساءة إلى خُلاصة الشرائع والأديان.
ولا يكادُ عجبُ الغيور يأخذ بالأفول من ضلالِ تلك العقول التي اتَّخذت وراءها ظهريًّا المعقولَ والمنقول، فيتساءل بأسًى: ما بال هؤلاء يرتكِسون في حمأة الجهل الوبيل، ولا يصيخون إلى النّداء العلويّ الجليل الذي عظَّم حرمةَ الإنسان، ونأى به عن مساقِط الغلوّ والإجرام؟! ما لهؤلاء القوم قد افترستهم أفكارُ الضّلال واستقطبتهم موجاتُ الوبال؟! أذلك ناتجٌ عن عمَى الفكر والبصيرة، أم ضحالةِ العلم والتربية، أم سطحيّة الوعي والمعرفة، أم زيف شعاراتٍ وشرور، أم جهل ونزَق وغرور وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أم نتيجة لتراكمات نفسيّة وضغوطٍ اجتماعيّة، أم ماذا؟!
إخوةَ الإيمان، وعلى تلك السلالة ينبعِث صوتٌ مصدَّرٌ بأنّاتِ الأمّة ومسطَّرٌ بآلامها ومذيّلٌ بتوقيعِها المخضّب بالدّماء، وينطلق قولٌ يفور من أعماقِها المحزونة، ويتصاعد من أنفاسِها المكلومة، غداةَ يومِ الفاجعة النّكراء والجريمة الشّنعاء التي حلَّت بعاصمة المجدِ والشّموخ وحاضرة التوحيد والتأريخ، عاصمةِ بلاد الحرمين الشريفين، رياضِنا النّضرة، رياضِ العقيدة والسّلام، وربوعِ الأمن والأمان، ونجدِ المحبّة والإخاء، ورمزِ الحضارة والإباء، هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان؟!
تتوالى حلقاتُ سلسلةٍ من الأحداثِ في بلادِ الحرمَين الشّريفين، يذهَل المسلم لها ويتملَّكه العَجَب، بَل ويحَار القلم، وتَعجز الكلماتُ مِن هول ما يَرى ويسمع. إنَّ ما حدث في الرياض من حوادثَ مؤلمةٍ قام بها فئة ضالة خونة أُشربوا في قلوبهم الحِقدَ وأوضَعوا في العدوان، ساءَهم تتابُع هذه النعم وترادفُ هذا الخير وتعاقبُ هذا الإكرام، فشَمَّروا عن سواعِد الإثم، واتَّبعوا خطواتِ الشيطان، فكان عاقبةَ ذلك هذه الجريمةُ الكبرى التي اقترفتها أيديهم على بِطاح مكّة بلدِ الله الحرام، وإذا هي حلقةٌ إجراميّة جديدة لحِقت بسابقاتِها التي سلفت في الرّياض وفي المدينة وفي حائِل، لتكَوِّن مجتمعةً عملا إرهابيًّا آثمًا يأباه الله ورسوله وصالحُ المؤمنين في هذه البلاد وفي كلِّ الدّيار وفي جميع الأمصار؛ إذ كيفَ يكون أمرًا مقبولا ما وقعَ في بلدِ الله الحرام عشيَّة يوم السّبت من إقدام فئة ضالّةٍ عن سواء السّبيل على إطلاق النّار صوبَ عبادِ الله المؤمنين من رجال الأمنِ الذين كانوا يؤدّون ما وجبَ عليهم من إحباطِ المسعى الإجراميّ لهذه الفئةِ التي اتَّخذت من أحدِ المساكن في هذا البلد وكرًا لتصنيع وتجميع وإخفاءِ أسلحةِ القتل وأدواتِ التخريب والدّمار؟!
فيا أيها الإخوة، هل يقبل هذا العمل المشين مؤمنٌ صادق يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمة ربِّه؟! وهل يقبل بهذا كلُّ من له بقيّةٌ من عقل أو صُبابة من فِكر أو أثارة من عِلم؟! فضلاً عن أن يُجيزه أو يحرِّض عليه أو يقرَّ به أو يُسَرَّ به، ثمّ أوَليس هؤلاء الرّجال الذين أُطلِقت عليهم هذه النّيران فقضَوا نحبَهم مِن رجال الأمن وجُرح منهم ومِن غيرهم، أوَليس هؤلاء بمسلِمين؟!
وهذا العملُ خيانة وغَدر، قال الله تعالى: إِنَّ ?للَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا [النساء:107]، وترويعٌ للآمنين. إنّ هذا الإجرامَ تحاربه مناهجُ التعليم لدَينا، ويحاربه علماء هذه البلاد، ويحاربه أئمّة الحرمين الشّريفين، ويحاربه مجتمعُنا ككلّ. والمناهجُ الدينيّة لدينا مبنيَّة على قولِ الله الحقّ، وعلى قول رسول الله الحقّ، والحقّ خيرٌ كلّه للبشرية، ولا يترتّب عليه باطل، وإذا شذَّ في الفكر شاذّ فشذوذه على نفسه، كما هي القاعدة في الإسلام، قال الله تعالى: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأنعام:164]، وقال تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى? نَفْسِهِ [النساء:111]، وهل يُلقى باللّوم على النحل كلِّه إذا جنت أعدادٌ منه ثمرةً سامّة.
وولاة أمر هذه البلادِ بالمرصاد لمن يَسعى بالقتل والتّدمير أو الإفساد الذي يستهدِف الأمنَ، انطلاقًا ممّا توجبه الشريعة الإسلاميّة من الحفاظ على دماءِ الناس وأموالهم وحقوقِهم، ينفِّذون فيه ما تحكم به الشريعة.
إنَّ الموْقفَ المبْدئيَّ الشَّرْعِيَ الصَّريحَ يجب أن يكون قدْرًا مشْتركًا لدى جميع المؤمنين وجميع العقلاءِ برفْض هذا العمل وتحْريمهِ وإدانتهِ شَرْعًا، فالشريعةُ جاءت بحفْظِ الأمْن وحفْظِ الدِّمَاءِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: الثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ)) رواه مسلم، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ)) رواه الترمذي والنسائي، وَقَالَ : ((لاَ يَزَالُ العَبْدُ فِي فُسْحَةٍ فِي دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)). فدم المسلم حرامٌ، وماله حرامٌ، وعرْضه حرامٌ، وقد صان الإسلامُ الدِّماءَ والأمْوَالَ والأَعْرَاضَ، ولا يجوز استحلالُها إلا فيما أحلَّه اللهُ فيه وأباحهُ، قَالَ : ((كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ)). وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: (مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْكِ) رواه الترمذي. وقَتْلُ المسلم بغيْر حَقٍّ من كبائر الذُّنُوبِ، والقاتلُ معرَّضٌ للوعيدِ، وقد نهى اللهُ سبْحانهُ وتعالى عن قتْلِ النَّفْسِ بغير حَقٍّ فقال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ ?لنَّفْسَ ?لَّتِى حَرَّمَ ?للَّهُ إِلاَّ بِ?لْحَقّ [الأنعام:151].
وحفاظًا على النَّفْس المسْلمةِ البريئةِ من إزْهاقِها وقتْلِها بغيْر حَقٍّ نهى رسولُ اللهِ عنِ الإشارةِ إلى مسلم بسلاحٍ ولو كان مزاحًا سَدًا للذَّريعةِ، وحَسْمًا لمادَّةِ الشَّرِّ التي قد تُفْضي إلى القتْل، فعن أبي هُرَيْرَةَ أن رسولَ اللهِ قالَ: ((لا يُشِيرُ أَحَدُكُمْ عَلَى أَخِيهِ بِالسِّلَاحِ، فَإِنَّهُ لا يَدْرِي لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ فِي يَدِهِ فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ)) البخاري، وفي رواية لمسلم قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ : ((مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلائِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)). فإذا كان مجرَّدُ الإشارة إلى مسلم بالسِّلاح نهى عنْه رسولُ الله وحذَّر منْه ولو كان المشيرُ بالسِّلاح مازحًا، ولو كان يمازح أخاه من أبيه وأمِّه؛ لأنه قد يقع المحذورُ، فكيْف بمنْ يزْرعُ القنابلَ والمتفجِّراتِ فيستهْدفُ الأرْواحَ المسلمةَ البريئةَ، فيقْتُلُ العشراتِ ويجْرحُ المئاتِ ويروِّعُ الآلافَ من المسلمينَ؟! كيْف بمنْ يقتُلُ الصَّغيرَ والمرْأةَ والشَّيْخَ العجوزَ من غيْر جريرةٍ اقْترفوها؟! إنَّ مَنْ فعلَ ذلكَ معرَّض لأشدِّ العذابِ والعقابِ والوعيدِ، قال الله تعالى: وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ ?للَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
ومن أجْلِ ذلك فإنَّ كُلَّ عملٍ تخْريبيٍ يسْتهدف الآمِنين مخالفٌ لأحكام شريعةِ ربِّ العالمين، والَّتِي جاءتْ بعصْمةِ دماءِ المسْلمين والمعاهَدِين. العُنْفُ لا يَحْمِلُ مشْروعًا غَيْرَ التَّخْريبِ والإفْسادِ، العُنْفُ يورِّثُ عَكْسَ مقْصودِ أصْحابهِ، فَالمشاعرُ والعقولُ كلُّها تلْتقِي على اسْتنْكارهِ ورفْضهِ والبراءةِ منْه ومن أصْحابهِ، ومن ثَمَّ فإنَّه يبْقى علامةَ شُذوذٍ ودليلَ انْفرادٍ وانْعزاليةٍ.
إِنَّ نَشْرَ الرُّعْبِ والتَّرْويع في أوْساطِ المجتمعِ يعدُّ فسادًا عظيمًا، ولذا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ أَنَّهُ قَالَ: ((لا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)) أبو داود. فالأمْنُ مطْلبٌ شرْعيٌّ ومِنَّةٌ إِلَهيةٌ ونفْحةٌ ربَّانيةٌ، امْتَنَّ اللهُ به على عبادهِ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابهِ كما قال سبحانه: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لذي أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4]. والمحافظةُ على الأَمْنِ مسؤوليةُ الجميع حُكَّامًا ومحكومينَ، رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، والأَمْنُ ليس هو أَمْنُ الأجْسام فحسْب، بل هو أمْنُ العقولِ والأبدان، وسدُّ منافذِ الشرِّ، وأعْظم سببٍ لحفْظِ الأَمْنِ هو الإيمانُ باللهِ وتطْبيقُ شرْعه والاِحْتكامُ إلى كتابهِ وسُنَّةِ رسولهِ وتنْقيةُ المجْتمع مما يضادُّه، قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
في ظلِّ الأَمْنِ تُعْمَرُ المساجدُ وتقامُ الصَّلواتُ، وتُحْفظ الأعْراضُ والأمْوالُ، وتُأْمَنُ السُّبُلُ، ويُنْشَرُ الخيْر، ويعمُّ الرَّخَاءُ، وتُنْشَرُ الدَّعْوَةُ. وإذا اخْتَلَّ الأَمْنُ كانتِ الفوْضى، فلْنكنْ كلُّنا جنودًا في حفْظ الأَمْنِ، أَمْنِ العقولِ والقلوبِ، وَأَمْنِ الأجْسادِ والأعْراضِ، ولتحْقيق ذلك لابدَّ أن نبْدأ في تطْبيق شرْع اللهِ في أنْفُسِنَا وفي بيوتِنا ومجْتمعِنا..
أيّها الناس، إنّ أمنَ بلدِكم واجبٌ على الجميع، ويجب شرعًا على من علِم أحدًا يُعِدّ لأعمالٍ تخريبيّة أن يرفَع أمرَه للسلطات لكفِّ شرِّه عن الناس، ولا يجوز التستُّر عليه.
حفِظ الله على هذه البلاد دينَها وأمنَها، وردَّ عنها كيدَ الكائدين وحِقد الحاقدين، وزادها تمسُّكًا واجتماعًا وألفةً واتِّحادًا، ألا فلتسلمي يا أرضَ الحرمين الشريفين، ولتهنئي يا موئِلَ العقيدة ومأرز الإيمان، فلقد أثبتِّ بفضلِ الله الخروجَ من الأزمات أكثرَ تماسُكًا وأشدّ تلاحمًا بحمد الله، ولتبقَي بإذن الله على مرّ الدهور وكرّ العصور شامةً في دنيا الواقع، وأنموذجًا يحتذَى ومَثلاً يُقتفى في الأمن والإيمان، وشاهَت وجوه الأعداء المتربّصين، وخسِئت أعمال المعتدِين المفسِدين المجرمين، وردّ الله كيدَ الكائدين إلى نحورهم، وحفِظ اللهَ بلادَنا وسائر بلاد المسلمين من شرّ الأشرار وكيد الفجّار، إنّه خير مسؤول وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا، وأسأل المولى جلّ وعلا أن يغفرَ لي ولكم فضلاً منه وجودًا ومنًّا، لا باكتسابٍ منّا، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّ ربّي لغفور رحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، فكلّ عَمل بالتّقوى يزكو ويرقى، وعليكم بالجماعة؛ فإنّ يدَ الله مع الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيها المسلمون، إنَّ العالمَ الإسلاميّ مستهدف، وهذه البلاد خاصّة مستهدفةٌ في دينها وأمنِها ووحدتها وخيراتها، والواجبُ علينا تفويت الفرصة على المتربّصين، والمحافظةُ على مكتسَبات الدّعوة والوطن، والتعاملُ مع الأحداث بالشّرع والعقل، ولا بدَّ من تماسكِ الصّفّ، مع وضعِ أيدينا في أيدي ولاةِ أمرنا وعلمائنا، مع بذل النّصح لهم جميعًا بالحكمَة والموعظة الحسنة.
إنَّ هذه البلادَ قامت على أسُسٍ راسخة ومبادئَ ثابتة ومنهج إسلاميّ، ومَن يرومُ تقويضَه أو زعزعتَه بمسالك العنف والتّفجير أو الاصطياد في الماء العكِر أو التذويب أو التمييع أو النيل من دعاةِ البلاد أو حلقات التّحفيظ أو محاضِن الدعوةِ فلن يبلغَ أحدٌ منه مرادَه، فبلاد الحرمَين كيان راسخٌ في بنيانِه، متماسِك في وَحدته، متراصّ في صفوفه، تتكسّر دونه مسالك الانحراف والتصرّفاتُ اللاّمسؤولة، ولن تبلغَ هذه الفئة أو غيرُها النيلَ من ثوابتنا وأمنِنا وقيَمنا ومناهجنا وهيئاتِ المعروف ومحاضنِ الدّعوة لدينا. إنَّ هذه البلادَ تمثّل مركزَ الثقل وإشعاع الخير في العالم، وستبقى كذلك بإذن الله، والمروّجون للفساد والإفساد وطمس معالم التميُّز في التربية والتعليم يدمّرون الأمّة ويضربونها في عُقر دارها، وستعود أعمالهم وبالاً عليهم، يجرّون أذيالَ الخيبة والهزيمة، قال الله تعالى: وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ ?لْهُدَى? مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شيء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].
ألا وصلّوا وسلِّموا ـ رحمكم الله ـ على الهادي البشير والسراج المنير، سيِّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الرحمةِ المهداة والنعمة المسداة، نبيّكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربّكم جلّ في علاه، فقال تعالى في أصدق قيله ومحكمِ تنزيله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنبي ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على النبيّ المصطفى والرسول المجتبى والحبيبِ المرتضى نبيّنا محمّد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداءك وأعداء المسلمين...
(1/3588)
الإرهابيون وتفجيراتهم المستمرة
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
15/3/1424
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- بشاعة حادثة التفجير الإرهابي. 2- ضلال فئة النشاز. 3- من المستفيد؟! وما الفائدة من وراء مثل هذه العمليات؟! 4- نصوص الكتاب والسنة في حرمة دماء المسلمين والتغليظ في شأنها. 5- مقتطفات من بيان هيئة كبار العلماء حول الأعمال الإرهابية. 6- شيءمن تاريخ الإرهاب. 7- تفشي الإرهاب في أكثر دول العالم تقدمًا وتقنية.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الأمن عند الخوف والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسفل، هي وصية الله للأولين والآخرين، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون.
وتأملوا في حوادث الدهر وقوارع العبر، فإنهن صوادق الخبر، حوادث فيها مزدجر، ومتغيرات فيها معتبر، تُعير مرة، وتسلب أخرى، وتفسد عامرًا، وتعمر قصرًا.
أيها المسلمون، في الجمعة الماضية كنا نتكلم عن نعمة الأمن في هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين، وما يفعله أعداء الإسلام والمسلمين من إعمال إرهابية ينتج منها التخريب والتدمير وتقتيل الأنفس البريئة، وما وجد معهم من أسلحة مدمرة، وفي خطبتنا هذه يحتار المرء من أين يبدأ به الحديث، ويعجز اللسان عن وصف ما حصل من مصيبة، حيث فجع الجميع بحادثة دخيلة غريبة على هذه البلاد المسلمة وأهلها؛ حادثة التفجير، راح ضحيتها أرواح بريئة، وخلفت الدماء والأشلاء والجراح من مسلمين وغير مسلمين، لا نجد لها تأويلاً ولا للفاعلين مبررًا سوى الهمجية والجهل والعصبية.
لقد تضمنت هذه الحادثة إزهاقًا للأرواح وسفكًا للدماء وترويعًا للآمنين وتشويهًا لصورة مجتمع المسلمين ومدنهم وإضرارا بالمصالح عامة، ومن ثم فالحادثة بكل المعايير والمقاييس ومن كل المنطلقات حادثة تخريب، في سلسلة حلقات تهدف إلى إضعاف مستوى الأمن في هذه البلاد، وتهدف إلى إشاعة الفوضى، والمستهدف الأول والأخير هو الدين والعقيدة.
قام هؤلاء المجرمون بتنفيذ فعلتهم الإجرامية في عاصمة بلادنا، وذلك تحت جنح الظلام، حيث قاموا بعملية انتحارية، ونتج عنها تقتيل عشرات الأنفس البريئة وتمزيق أجساد سليمة وترويع الآمنين بفعلتهم الشريرة وتدمير منشآت كثيرة، ولا نملك إلا أن نقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون، إنه لمن المؤسف حقًا ومن المحزن حقًا أن يسمع المسلم بين وقت وآخر ما تهتز له النفوس حزنًا، وترتجف له القلوب أسفًا، وما يتأثر به المسلم حيث كان وأينما كان، من تلك التفجيرات الآثمة، وتلك الاعتداءات الظالمة، والتي يقوم بها قوم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، وأجرموا واعتدوا وبغوا وأفسدوا فسادًا عظيمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن التفجير الذي وقع يوم الاثنين مساء الموافق 11/3/1424هـ في مدينة الرياض ـ حرس الله بلاد الحرمين وحفظها وأدام الله عليها الأمن والأمان ـ لقد دوى صوت التفجير معلنًا عن وجود فئة ضالة مخربة مجرمة، لا يروق لها أن تأمن البلاد ويطمئن العباد، فامتدت يد آثمة في هزيع الليل بعملية إرهابية انتحارية؛ لتخرب وتدمر وتروع وتفسد في الأرض وتهز أمن البلاد والعباد وتخوف المقيم والوافد، وفي أي أرض؟ إنها أرض الحرمين، في أرض دولة التوحيد التي هي مقصد كل الناس في جميع الدنيا، ينظرون إلى بلادهم على أنها بلاد أمن واطمئنان، فإذا يد الغدر الآثمة تبيت الجريمة النكراء والفعلة الشنعاء، ومن المستفيد من ذلك إلا أعداء الإسلام والمسلمين؟!
إنها جريمة بشعة وعمل إرهابي قبيح وفعل دنيء ونتاج فكر خبيث، لا يقدم عليه إلا مريض قلب وضعيف دين وإنسان فيه هوس وفيه حب للشر والفساد والإفساد، أبدًا لا يقدم عليه عاقل يحترم نفسه، ولا يقدم عليه خيِّر يخاف الله ويرجوه، ولا يقدم عليه مواطن وفيٌّ يحس بأمن الجماعة ويتحرك بما ينفع الناس، إن من أقدم على هذا العمل هو عدو لله وللإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء، بل إنه عدو لنفسه أولاً، ثم عدو لأهله وقومه وجيرانه والمستجيرين به والمستأمنين الذين قدموا ليعملوا وليشيروا ليستفاد من خبرتهم بعهد ووعد وميثاق، فإذا هم يغتالون وهم نائمون، وتتمزق أجسادهم أشلاء في ديار الإسلام والمسلمين. إن هذا العمل قبيح وغدر فظيع وجرم مروع، نبرأ إلى الله من أن يرضى به مسلم في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
ثم ما الفائدة؟ الفائدة إضرار بأمن البلاد والعباد، وإضرار باستقرار البلاد، وإضرار بسمعة الإسلام والمسلمين، ولا يخدم هذا العمل إلا أعداء الإسلام والمسلمين.
أقول: الإسلام الذي هو دين الله الذي ارتضاه تبارك وتعالى لعباده، وقد جاء حافلاً بالمضامين الهامة التي تحفظ للناس أمنهم في دينهم وفي أحوالهم وفي دمائهم وفي أعراضهم، ومن أجل هذا سلك الإسلام مسالك عديدة في حفظ الأمن وتأكيده.
فمن جانبٍ حرم الله تبارك وتعالى الاعتداء، وجعله جريمة من الجرائم وكبيرة من الكبائر، لا يجوز لمسلم يرجو وجه الله والدار الآخرة أن يعتدي على دماء معصومة وعلى أموال معصومة. وجعل الله المحبة في الله وشيجة من الوشائج بين أفراد المجتمع، فلا يحل لهم أن يعتدوا على أموال بعض، ولا على دماء بعض، ولا على أعراضهم أيضًا. فحرم الإسلام الاعتداء، وجعل الدماء والأعراض والأموال معصومة، بل تعدى ذلك إلى تحريم الاعتداء على المستأمنين الذين أعطتهم الدولة الإسلامية عهد الله وذمة الله وذمة رسوله ، فحصنت دماءهم وأموالهم وأعراضهم بإقامتهم بين ظهراني المسلمين إقامة بإذن ولي الأمر، مستأمنون ومعاهدون.
ومن الأنفس المعصومة في الإسلام أنفس المعاهدين وأهل الذمة والمستأمنين، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)) أخرجه البخاري.
ومن أدخله ولي الأمر المسلم بعقد أمان وعهد فإن نفسه وماله معصوم، لا يجوز التعرض له، ومن قتله فإنه كما قال النبي : ((لم يرح رائحة الجنة)) ، وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين، ومعلوم أن أهل الإسلام ذمتهم واحدة، يقول النبي : ((المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم)).
أيها المسلمون، لقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء في جلسته الاستثنائية بيانًا بهذا الخصوص، فنص البيان أنه إذا تبين هذا فإن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرم لا يقره دين الإسلام، وتحريمه جاء من وجوه:
أولاً: أن هذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين فيها.
ثانيًا: أن فيه قتلاً للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام.
ثالثًا: أن هذا من الإفساد في الأرض.
رابعًا: أن فيه إتلافًا للأموال المعصومة.
وإن مجلس هيئة كبار العلماء إذ يبين حكم هذا الأمر ليحذر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات، ويحذرهم من مكائد الشيطان، فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك، إما بالغلو بالدين، وإما بالجفاء عنه ومحاربته والعياذ بالله، والشيطان لا يبالي بأيهما ظفر من العبد؛ لأن كلا طريقي الغلو والجفاء من سبل الشيطان التي توقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه. وما قام به من نفذوا هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها فهو داخل في عموم قول النبي : ((من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة)) أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) وهو في البخاري بنحوه.
أيها الإخوة المسلمون، يا أهل الغيرة والإيمان والإسلام، إن الإرهاب جريمة عالمية ليست مقصورة على بلد دون بلد، والإرهاب قد وجد في القديم وفي الحديث، الإرهاب هو الفساد في الأرض وحب الجريمة وحب الإضرار بالناس، وهذا يوجد حيثما يوجد البشر في القديم وفي الحديث وفي الماضي والحاضر وفي ديار الإسلام وفي غير ديار الإسلام. لقد وجد الإرهاب في أول مجتمع على وجه الأرض يوم قام قابيل بقتل أخيه هابيل، لا لشيء إلا لحب الشر عند القاتل وبغض للخير الموجود عند المقتول، لماذا يكون هذا المقتول صالحًا؟ ولماذا يكون هذا المقتول متقبلاً منه العمل؟ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، لماذا؟ لأن هذا موفق للخير، وهذا عاجز عن الوصول إلى الخير، فلم يجد حيلة أمامه سوى الانتقام والتخريب والإفساد، هذا أول عمل إرهابي وجد على ظهر الأرض.
وفي المجتمع النبوي في عهد النبي جاء قوم بهم من الفقر والبأس والحاجة والشدة ما جعل النبي يدعو المسلمين أن يتصدقوا عليهم، ليكسوا عريهم، ويشبعوا بطونهم، ثم ألحقوا بإبل الصدقة ليشربوا من ألبانها، ويستفيدوا منها، ويعيشوا مع رعاتها، فلما صحت أبدانهم وزانت أحوالهم بغوا وطغوا فقتلوا رعاة النبي ، واستاقوا الإبل، فأرسل النبي في أثرهم من جاء بهم من المسلمين، فجيء بهم إلى المدينة، فقتلوا، وسمل النبي أعينهم، جزاءً وفاقًا لعملهم الإرهابي القائم على التخريب والإفساد في الأرض.
ومنذ ذلك الحين وأحداث الإرهاب والتفجير والقتل والتدمير تجتاح الدنيا من شرقها إلى غربها، هذا عمل الخوارج الذين هم في الصدر الأول، وفي كل وقت يظهر فيه دعاة التكفير ودعاة الفتن المستبيحون لأعراض المسلمين ودمائهم وأموالهم. إن الخوارج في كل وقت وحين هم الذين يقدمون على هذه الأعمال الشنيعة والأفعال القبيحة، لماذا؟ لأنهم ـ كما وصف النبي ـ كلاب أهل النار، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان.
وقد أثبت التاريخ مصداقية هذا الخبر عن النبي ، فرأى الناس الخوارج ينتسبون للإسلام ويقتلون المؤمنين ويروعون الآمنين ويفسدون في ديار الإسلام والمسلمين، وهم جبناء أذلاء لم يستطيعوا أن يواجهوا في وضح النهار، ولم يستطيعوا أن يقارعوا الحجة بالحجة، فلجؤوا إلى الخيانة والغدر والعمل الآثم.
إن من قام بهذا التفجير أشخاص جبناء رديئون خسيسو الأنفس والطباع ذليلون.
أيها الإخوة في الله، لقد وجد الإرهاب في دول أكثر منا تقدمًا في التقنية الأمنية وأكثر استعدادًا بالأجهزة والعدد، ومع ذلك وجد الإجرام ووجد الفساد، فهذه سنة من سنن الله، وهذا قضاء من أقضية الله سبحانه وتعالى، لا يعني الضعف في البلاد، ولا يعني التقصير من أهلها، ولكنه ابتلاء وامتحان واختبار؛ ليظهر الله به أهل الإيمان من أهل النفاق، أهل الإيمان يشجبونه ويستنكرونه ويبغضون العمل ويدعون على الفاعل ويتضامنون مع أولياء الأمور، وأهل النفاق يبررون ويفرحون ويسرهم أن يروا النكد والخوف والذعر في البلاد.
إن هذه الأمور التي تحدث إنما هي ابتلاء واختبار ليميز الله الخبيث من الطيب، ويظهر صدق الولاية عند أهل الإيمان وصدق العزم عند أهل الإحسان وصدق الاهتمام بأمر المسلمين عند من يدعون الخير، ويظهر أهل النفاق وأهل التبرير وأهل التسويف والأعذار، أعاذنا الله وإياكم من أعمال المجرمين وأفعال المفسدين المخربين، حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أسأل الله أن يرفع رايتنا، ويستر زلاتنا، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله على إحسانه، والشكر له تعالى على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، والسائرين على سنته إلى يوم القيامة، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أن من سلك طريق التفجير والإرهاب لا يحقق مقصده، ولا يصل إلى هدف، ولا يحصد إلا الندم والخزي والبوارز إن الإرهابيين هم خفافيش الظلام، وإنهم كالعقارب والحيات يلدغون ويضرون بالناس، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا، لقد رضوا بأن يكونوا مصدر إزعاج وقلاقل وفتن، وعليهم من الله ما يستحقون من لعائنه وغضبه وعظيم انتقامه.
أيها الإخوة، إن هؤلاء قرناء لإبليس الذي قطع العهد على نفسه أن يفسد البلاد والعباد، وأن يضلل الناس ويغويهم، فهؤلاء جنده ومعاونوه، ينفذون له ما يمليه عليهم، لا يعجبهم أن يأمن الناس، ولا يعجبهم أن يطمئن الناس، ولا يعجبهم أن تزدهر البلاد، ولكن يعجبهم أن يروا الأشلاء والدمار والأنقاض والدماء والتخريب والتخويف، لتزدهر أطماعهم ولتنمو تجارتهم المحرمة.
عباد الله، إن كان الإرهاب موجودًا في دول العالم، فإنه في بلادنا ـ ولله الحمد ـ هو الأقل وهو النادر والأقل جدًّا، وهذا بفضل الله تعالى، ثم بفضل تطبيق الشريعة الإسلامية وتكاتف الراعي والرعية، وإذا أردتم أن تتأكدوا من التضامن فانظروا الغضبة الكبرى التي عمت الناس جميعًا في بلادنا إثر سماع هذه الأخبار، وإذا كنتم تريدون أن تعلموا الآثار الحسنة لهذه الأعمال الإجرامية التي تغيظ الفاعلين والمخططين لها فانظروا تساؤل الدول جميعًا واستنكارها وشجبها وتضامنها مع بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله؛ لما لها من المكانة ولما يحقق استقرارها من الخير لبلاد العالم أجمع.
إن بلاد العالم لا يسرها أن تضطرب الجزيرة العربية، والمسلمون قاطبة في كل ديار الدنيا لا يرضيهم أبدًا ولا يشرح صدورهم أن يضطرب الأمن في بلاد الحرمين، فهي مقصد حجهم، وهي قبلة صلاتهم، وكل مسلم مخلص يدعو من قلبه أن يزيدها الله أمنًا واطمئنانًا، وهذه البلاد ـ بحمد الله ـ لا تزيدها الأحداث والمصائب إلا تكاتفًا وقوة بحمد الله، حدب من الراعي على رعيته، وتجاوب من الرعية مع راعيها ولله الحمد والمنة.
ألا فليخسأ المفسدون في الأرض، ألا فليرتدوا على أدبارهم، فلن يصلوا إلى ما يريدون، ولن يهزوا من هذه البلاد أي قناة، وإنها بلاد عرفت وجربت مواثيقها، فبلادنا تمد الخير إلى بلاد الدنيا بالإنقاذ والإغاثة والإعانة وتوزيع كتاب الله وتوزيع الكتب الإسلامية ونشر الدعاة، إنها بلاد تصدر الأمن والأمان للعالم، ومع ذلك يريد الحاقدون أن يثنوها عن مسيرتها، فلن يستطيعوا ذلك أبدًا.
نسأل الله تعالى أن يحمي بلاد الحرمين من شرور المعتدين ونيل المجرمين، وأن يكشف ستر هؤلاء الفعلة المعتدين، وأن يمكن منهم لينفذ في بقيتهم حكم شريعة الله المطهرة، وأن يكف البأس عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق قادة هذه البلاد المخلصين لما فيه صلاح البلاد والعباد وقمع الفساد والمفسدين.
ثم صلوا وسلموا على رسول الله كما أمركم الله في محكم كتابه.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمّر أعداءك وأعداء المسلمين...
(1/3589)
الأمن الوافر في بلادنا
الأسرة والمجتمع
قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
25/3/1425
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
- دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام بالأمن قبل الرزق. 2- الأمن من أعظم نعم الله تعالى على عباده. 3- عناية الإسلام بالأمن واهتمامه به. 4- نعمة الأمن من النعم التي اختصت بها هذه البلاد على كثير من البلدان. 5- خطورة العبث بأمن بلاد الحرمين وبشاعته. 6- وجوب شكر الله تعالى على نعمة الأمن.
_________
الخطبة الأولى
_________
أمّا بعد: فاتَّقوا اللهَ ـ عبادَ الله ـ بامتثال ما أمَر والبُعد عمَّا نهى عنه وزجَر، فتقوى الله خيرُ زادٍ ليوم المعاد، وحصنٌ للعباد في الدّنيا من كلّ ما يخافون، ورجاءٌ لهم في كلِّ ما يحبّون.
عباد الله، إن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما أكمل بناء بيت الله الحرام بأمر الله له دعا لأهله بهذه الدعوات قائلاً: رَبّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا ?لْبَلَدَ آمِنًا وَ?جْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ?لأصْنَامَ رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ ?لنَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ ?لْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ ?لصَّلو?ةَ فَ?جْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ ?لنَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَ?رْزُقْهُمْ مّنَ ?لثَّمَر?تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:35-37].
أيها المسلم، فتأمل في هذه الدعوة من الخليل عليه السلام، تأمل هذه الدعوة التي دعا بها الخليل عليه السلام لأهل بيت الله الحرام: رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ [البقرة:126]، دعا لهم بأمرين: أولاً: أن يجعله الله حرمًا آمنًا، وثانيًا: أن يرزقهم من الثمرات. فبدأ بالأمن قبل كل شيء؛ لأن الأمن إذا تحقق وتمّ حصل به الخير كله، فبالأمن يتحقق للعباد مصالح دينهم ودنياهم، بالأمن ينالون الخيرات، يسعون في الأرض، يعملون ويجتهدون، ينتقل من هنا إلى هناك في طلب الرزق وتأمين المعيشة بتوفيق من الله، لكن هذا لا يتم إلا إذا تحقق الأمن، وإذا فقد الأمن ـ والعياذ بالله ـ فإن كل خير يفقد، فلا يتم للعباد أمر، لا في دينهم، ولا في دنياهم، ولهذا قال الخليل: رَبِّ ?جْعَلْ هَـ?ذَا بَلَدًا آمِنًا وَ?رْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ?لثَّمَر?تِ.
فإن نعم الله على الخلق كثيرة لا تعد ولا تحصى، كما قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ?للَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ?لإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، وأعظم النعم بعد الإيمان العافية والأمن، فالأمن ضد الخوف، الأمن طمأنينة القلب وسكينته وراحته وهدوؤه، فلا يخاف الإنسان مع الأمن على الدين، ولا على النفس، ولا على العرض، ولا على المال، ولا على الحقوق. فالأمن أصل من أصول الحياة البشرية، لا تزدهر الحياة ولا تنمو ولا تحلو بغير الأمن. ما قيمة المال إذا فقد الأمن؟! ما طيب العيش إذا انعدم الأمن؟! كيف تنتعش مناشط الحياة بدون الأمن؟!
الأمن تنبسط معه الآمال، وتطمئن معه النفوس على عواقب السعي والعمل، وتتعدد أنشطة البشر النافعة مع الأمن، ويتبادلون المصالح والمنافع، وتكثر الأعمال المتنوعة التي يحتاج إليها الناس في حياتهم مع الأمن، وتدر الخيرات والبركات مع الأمن، وتأمن السبل، وتتسع التجارات، وتُشيد المصانع، ويزيد الحرث والنسل، وتحقن الدماء، وتحفظ الأموال والحقوق، وتتيسر الأرزاق، ويعظم العمران، وتسعد وتبتهج الحياة في جميع مجالاتها مع الأمن.
وقد امتنّ الله على الخلق بنعمة الأمن، وذكّرهم بهذه المنّة ليشكروا الله عليها، وليعبدوه في ظلالها، قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57]، وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4].
وعن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أصبح منكم آمنًا في سربه معافًى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
والإسلام عني أشد العناية باستتباب الأمن في مجتمعه، فشرع الأوامر ونهى عن الفساد والشرور، وشرع الحدود والزواجر الرادعة، قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ?لْبرِ وَ?لتَّقْوَى? وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ?لإِثْمِ وَ?لْعُدْوَانِ [المائدة:2].
وأخبرنا الله تعالى أن الأمن لمن عمل الصالحات، واستقام على سنن الهدى، وابتعد عن سبل الفساد والردى، قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
وقد كان النبي إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد، ربي وربك الله)).
فالأمن نعمة كبرى ومنّة من الله عظمى، إذا اختلت نعمة الأمن أو فقدت فسدت الحياة، وشقيت الأمم، وساءت الأحوال، وتغيرت النعم بأضدادها، فصار الخوف بدل الأمن، والجوع بدل رغد العيش، والفوضى بدل اجتماع الكلمة، والظلم والعدوان بدل العدل والرحمة، عافانا الله بمنه وكرمه.
الأمنُ تصلح به الحياة وتزدهِر، الأمنُ تنبسط معه الآمال، وتتيسَّر معه الأرزاقُ، وتزيد معه التجارات، الأمنُ تفشو معه الماشية وتكثر الأمّة، الأمن تتقدَّم معه التنمية، الأمن ينتشر فيه العلمُ والتّعليم، الأمن يعزّ فيه الدين والعدل، ويظهَر فيه الأخيارُ على الأشرار، الأمن يستتبّ به الاستقرار، الأمن توظَّف فيه الأموال في كلِّ مشروع نافعٍ للفرد والمجتمع، الأمن تحقَن فيه الدّماء وتصَان الأموال والأعراض، الأمن تنام فيه العيون وتطمئنّ المضاجع، الأمن يتنعَّم به الكبير والصغيرُ والإنسان والحيوان، الأمن مِن نعم الله العظمى وآلائه الكبرى، لا تصلُح الحياة إلا به، ولا يطيب العيش إلا باستتبابِه، ولذلك جعَله الله من نَعيم أهلِ الجنّة الدائم، قال الله تعالى: ?دْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءامِنِينَ [الحجر:46].
وضدّ الأمنِ الخوفُ الذي تضيع به الدّماء والأموال، ويضعُف الدين، وتتقطَّع في الخوف السُّبُل والتّجارات، وتتعطَّل المصالح، وتتعطَّل التّنمية، ويسطو الأشرار، وتنتشر الفوضى، ويختفي الأمرُ بالمعروف والنهي عن المنكر، وتتراجع الأموال، وتقسو الحياة، الخوف الذي يشلُّ الحياةَ كلَّها ويدمّرها.
عبادَ الله، إنَّ الأمن لا يكون إلا في ظلِّ الإسلام والإيمان، قال الله تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
أيها المسلمون، الأمن ينال الناسُ به الخير كلَّه، يعبدون الله، يقومون بما أوجب الله عليهم، بالأمن يطمئنون على دمائهم وعلى أموالهم وعلى أعراضهم، الأمن يحقق لهم الخير ويدفع عنهم السوء، الأمن يحصل به رغد العيش، وتنمو به التجارة، ويتبادل الناس المنافع، ويعيشون في طمأنينة ونعمة من الله.
أيها المسلمون، وإذا فكرنا في حالنا ونظرنا إلى وضعنا وما نحن فيه من هذه النعم العظيمة، إذا نظرنا وفكرنا حق التفكّر في عظيم نعم الله علينا فرأينا أنفسنا ونحن نعيش هذا الأمن العظيم، هذا الأمن المستتِبّ الذي يخرج فيه المسلم ليقطع شمال المملكة إلى جنوبها وشرقها إلى غربها، آمنٌ مطمئن، لا يخشى إلا الله، لا يحمل سلاحًا معه، بل قد لا يحمل متاعًا معه، فالبلد في خير ونعمة وفضل وتوافر خير، عمّ المدن والهجر والقرى وكل الأماكن، إنها نعمة عظيمة من الله وفضل كبير من الله.
هذا الأمن يحتاج العباد فيه إلى أن يشكروا الله عليه بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم، وأن يحافظوا عليه قدر ما يمكنهم، وأن يعلم كل فرد أن هذه النعم مسؤول كل فرد منا بالمحافظة عليها، والحرص عليها بقدر إمكانه، فإنها نعمة من الله ترعى هذه البلاد، هذه النعم من الله إنما أصلها وأساسها تحكيم شريعة الله، نرجو الله أن يثبت الجميع على دينه، فهذا الأمن والطمأنينة، وهذا الانتظام في المعيشة، وهذا الرغد الذي تعيشونه، وهذه الخيرات التي تجلب لكم من أقطار الدنيا شرقها وغربها، وكلٌ يقصد ودَّ هذا البلد، وكل يتمنى أن يكون يعيش فيه، وكل يتمنى أن له مساهمة فيها في تجارة ونحوها، كل يتمنى ذلك؛ لأنه أمن واستقرار وطمأنينة وتكاتف وتعاون.
وقد من الله عليه برجال سبّلوا أنفسهم لله ثم لهذا البلد، حرصًا على أمنه، حرصًا على استقراره، وحرصًا على طمأنينته، وحرصًا على بقاء الخير فيه. فعلى الجميع أن يشكروا الله ليلاً ونهارًا وسرًا وجهارًا على ما أعطاهم من هذه النعم، ومنحهم من هذا الخير العظيم.
إن غيركم مِن العالم مَن بلغوا الشأو البعيد في الصناعة والتقدم العلمي في كل الأحوال يفقدون هذه النعمة، ولا يعرفون هذه النعمة، إنها نعمة تفضل الله بها عليكم وجاد بها عليكم، لكنها ابتلاء وامتحان، هل نستطيع أن نقوم بشكرها حق القيام؟ فإن الله جل وعلا أكرم الأكرمين، إذا العباد قاموا بنعمه أدامها عليهم، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فاشكروا الله واحمدوه على نعمة الأمن وعلى النعم الظاهرة والباطنة التي أسبغها عليكم، وذلك بالدوام على الطاعات والبعد عن المحرمات، فإنّ الله تعالى منّ على هذه البلاد بنعمة الأمن وغيرها، حتى صارت والحمد لله مضرب الأمثال بين الدول في هذا العصر في الأمن والاستقرار ومحاربة الجريمة؛ لأن الشريعة الإسلامية تحكم هذه البلاد، ودستور هذه المملكة حرسها الله كتاب الله وسنة رسوله.
ولا يخفى عليكم ـ أيها الإخوة ـ ما قام به هذا الأسبوع من أبناء هذا البلد في مدينة الرياض من وجود أسلحة مدمرة لديهم ذخائر وقنابل، مما فضح الله مخططاتهم وعداءهم لهذه البلاد، ووقعوا بأيدي رجال الأمن عصابة مجرمة تحمل في قلوبها العداوة والحقد على أمن هذا البلد الأمين.
فليعلم هؤلاء وأمثالهم من أهل الإفساد بأن أمرهم مكشوف، وأن الله جل وتعالى عليم بهم، كما قال سبحانه: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ [آل عمران:63]، بل إن الله جل وتعالى قرر في كتابه بأن عمل المفسدين وتخطيطاتهم وتدبيراتهم سيبطله جل وتعالى، وأنه لا يمكن أن يوفقهم إلى عمل، فقال جل شأنه في معرض أخبار موسى مع فرعون: فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين [يونس:81].
ألا ومن تسوِّل له نفسه ومن يزيِّن له الشيطان العبث بأمن هذه البلاد واستقرارها ومن يقترف جريمة التخريب والتفجير والإرهاب والإفساد في الأرض فقد وقع في هاوية المكر والخيانة، وَلاَ يَحِيقُ ?لْمَكْرُ ?لسَّيّئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [فاطر:43]، واكتسب جرمًا يخزيه أبدًا، وسيلقى جزاءه الأليم الذي قدّره الله له، سواء كان هذا المخرّب مسلمًا أو غير مسلم؛ لأن هذا التخريب والتفجير والإفساد يقتل ويصيب نفوسًا معصومة محرّمة الدم والمال من المسلمين أو غير المسلمين الذين أمّنهم الإمام أو نُوَّابه على نفوسهم وأموالهم.
والإسلام يأخذ على يد الظالم والمفسد والمعتدي على النفوس والأموال المعصومة بما يمنعه من ارتكاب الجرائم، ويزجره وأمثاله عن البغي والعدوان؛ لأن الإسلام دين العدل ودين الرحمة والخير، فلا يأمر أتباعه إلاّ بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلاّ عمّا فيه شرٌّ وضرر. إنما على العباد أن يشكروا الله عليها، وأن لا يصغوا إلى ما يقوله الأعداء وإلى ما يروّجه الأعداء الحاقدون على هذا الدين وأهله، الذين يحبون أن يفتروا الكذب ويقولوا الباطل ليشكِّكوا الأمة في نعمتها وخيرها، إنهم أعداؤنا، أعداء ديننا، يغيضهم ما يرون في هذا البلد من هذه النعمة والاستقرار، فالمسلم لا يصغي لأولئك، وليعلم أن ما وراءهم سوى الكذب والباطل والحقد الذي ملأ قلوبهم حتى قالوا ما قالوا.
فهذه البلاد تعيش أمنًا واستقرارًا، وتعيش مطمئنة، والخير كثير تشاهدونه في أسواقكم وفي كل أحوالكم، فاشكروا الله على نعمته، واسألوه من فضله وكرمه أن يديمها عليكم، وأن يجعلها عونًا على ما يرضيه، وأن يجعلها سببًا للقيام بما أوجب الله، وتحكيم شرع الله، والاستقامة على ذلك، والثبات عليه، إنه على كل شيء قدير.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ تكونوا من المفلحين، واعتصموا بحبل الله جميعًا يهدكم إلى صراطٍ مستقيم، وكونوا يدًا واحدة على كل مجرم أثيم، يريد أن يزعزع أمنكم واستقراركم، ويعبث بمنجزاتكم، وينشر الفوضى في مجتمعكم، قال الله تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى? نَفْسِهِ وَكَانَ ?للَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:111]، وقال تعالى: لَّيْسَ بِأَمَـ?نِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ?لْكِتَـ?بِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ?للَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرا [النساء:123].
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا في انتظار فريضة من فرائضك أن تقضي على الفساد والمفسدين، اللهم اقض على الفساد والمفسدين، اللهم اجعل كيدهم في نحورهم وتدبيرهم تدميرًا عليهم يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن تقي بلادنا شر الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم قنا شرور أنفسنا وشرور عبادك، وأدم على بلادنا أمنها، وزدها صلاحًا وإصلاحًا، إنك على كل شيء قدير.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد لله الذي أحاط بكل شيء علمًا، ووسع كل شيء رحمة وحلمًا، أحمد ربي وأشكره على ما أولى من النعماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الأسماء الحسنى، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله المصطفى، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه النجباء.
أما بعد: فاتقوا الله معشر المسلمين، فإنّ التقوى خير زادكم، وهي فوزكم في دنياكم ومعادكم.
واعلموا ـ عباد الله ـ أنّ نعم الله عليكم كثيرة، وآلاءه لديكم عظمت، وخيراته عليكم تمت، وإنّ لنعم الله وفضله أعداءً يحسدون عليها، وإن الله تعالى أمركم بالشكر ووعدكم المزيد، فقال تعالى: فَ?ذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَ?شْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، وقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]. فاشكروا الله على ما أولاكم من نعم عظمى وآلاء تترى.
وصلوا وسلموا على سيد الأولين والآخرين وإمام المرسلين كما أمركم رب العالمين بقوله: إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((من صلّى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا)).
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وسلم تسليم كثيرًا.
اللهم وارض عن الصحابة أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم وارض عنا بمنّك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر الكفر والكافرين وأعداء الدين، يا رب العالمين...
(1/3590)
التفجير الذي حدث في الرياض واستشهد فيه رجال الأمن
الأسرة والمجتمع, موضوعات عامة
جرائم وحوادث, قضايا المجتمع
عبد العزيز بن محمد القنام
وادي الدواسر
4/3/1425
جامع النويعمة القديم
_________
ملخص الخطبة
_________
1- تساؤلات لا بدّ منها عند وقوع الحوداث. 2- ضلال فئة النشاز. 3- توالي الأعمال الإرهابية في بلاد الحرمين الشريفين. 4- بشاعة جريمة التفجير والأعمال التخريبية. 5- نصوص الكتاب والسنة في حرمة الدماء المعصومة والتغليظ في شأنها. 6- مقتطفات من بيان هيئة كبار العلماء حول الأعمال الإرهابية. 7- شيء من تاريخ الإرهاب. 8- تفشي الإرهاب في أكثر دول العالم تقدمًا وتقنية. 9- التحذير من استغلال المنافقين لهذه الأحداث في الإفساد. 10- تضامن جميع العالم مع بلاد الحرمين الشريفين في هذه الأزمات.
_________
الخطبة الأولى
_________
أما بعد: أوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإنها الأمن عند الخوف، والنجاة عند الهلاك، بها يشرف المرء وينبل، وبالنأي عنها يذل العبد ويسفل، هي وصية الله للأولين والآخرين، فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون، وتأملوا في حوادث الدهر وقوارع العبر، فإنهن صوادق الخبر، حوادث فيها مزدجر، ومتغيرات فيها معتبر، تُعير مرة، وتسلب أخرى، وتفسد عامرًا، وتعمر قصرًا.
أيّها المسلمون، عند حلول حدَثٍ أيِّ حدَث يتساءل الناسُ بعامّتهم في سكرةٍ: ماذا حدث؟! ولماذا حدث؟! وكيف حدَث؟! وبعد مُضيِّ الحدَث يتساءل العقلاء والحكماء ويتنادى الغيورون والنبلاء: وماذا بعدَ الحدَث؟! في تفكّرٍ ومحاسبات، ومعالجَة ومراجعات، وتحليل ومتابعاتٍ، وأبحاث ودراسات، تربِط النتائجَ بالمقدّمات، وتصل الأسباب بالمسبَّبات، لا سيّما فيما يمسّ دينَ الأمّة وأمنَ المجتمعات، وما يعكِّر استقرارَ الشعوب والبيئات، وما يعوق بناءَ الأمجاد وإشادة الحضارات، ويعبث بالمكتسبات والمقدَّرات، تشخيصًا محكمًا للدّاء، ووصفًا ناجعًا للدّواء.
معاشرَ المسلمين، لا يفتَأ المتأمِّل في أدواء أمّتنا وعِللها المزمِنة أن يرى في بيداءِ الأحزان أشباحَ الأوهام تتقافز في أضواء بواطلِ الأحلام، فإذا ما دنَا منها وقف على فِئةٍ نشاز سَمجةِ الفكر صفيقةِ الروح ضيِّقة العطَن ضعيفة الرّأي عميقةِ العُقَد والنّزوات، أُرخِصت لدَيها الأعمار، فقامت بسَفك الدّماء وقتل الأبرياء وجلبِ الدمار وإلحاق العار والشنار وخراب الأوطان والإساءة إلى خُلاصة الشرائع والأديان.
ولا يكادُ عجبُ الغيور يأخذ بالأفول من ضلالِ تلك العقول التي اتَّخذت وراءها ظهريًّا المعقولَ والمنقول، فيتساءل بأسًى: ما بال هؤلاء يرتكِسون في حمأة الجهل الوبيل، ولا يصيخون إلى النّداء العلويّ الجليل الذي عظَّم حرمةَ الإنسان، ونأى به عن مساقِط الغلوّ والإجرام؟! ما لهؤلاء القوم قد افترستهم أفكارُ الضّلال واستقطبتهم موجاتُ الوبال؟! أذلك ناتجٌ عن عمَى الفكر والبصيرة، أم ضحالةِ العلم والتربية، أم سطحيّة الوعي والمعرفة، أم زيف شعاراتٍ وشرور، أم جهل ونزَق وغرور وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا، أم نتيجة لتراكمات نفسيّة وضغوطٍ اجتماعيّة، أم ماذا؟!
إخوةَ الإيمان، وعلى تلك السلالة ينبعِث صوتٌ مصدَّرٌ بأنّاتِ الأمّة، ومسطَّرٌ بآلامها، ومذيّلٌ بتوقيعِها المخضّب بالدّماء، وينطلق قولٌ يفور من أعماقِها المحزونة ويتصاعد من أنفاسِها المكلومة غداةَ يومِ الفاجعة النّكراء والجريمة الشّنعاء التي حلَّت بعاصمة المجدِ والشّموخ وحاضرة التوحيد والتأريخ، عاصمةِ بلاد الحرمين الشريفين، رياضِنا النّضرة، رياضِ العقيدة والسّلام وربوعِ الأمن والأمان ونجدِ المحبّة والإخاء ورمزِ الحضارة والإباء، هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان؟!
أيها المسلمون، موضوع خطبتنا في الجمعة الماضية، كنا نتكلم عن نعمة الأمن في هذه البلاد بلاد الحرمين الشريفين، وما يفعله أعداء الإسلام والمسلمين من أعمال إرهابية، ينتج منها التخريب والتدمير وتقتيل الأنفس البريئة، وما وجد معهم من أسلحة مدمرة، وفي خطبتنا هذه يحتار المرء من أين يبدأ الحديث، ويعجز اللسان عن وصف ما حصل من مصيبة، حيث فجع الجميع بحادثة دخيلة غريبة على هذه البلاد المسلمة وأهلها، حادثة التفجير.
نعم، تتوالى حلقاتُ سلسلةٍ من الأحداثِ في بلادِ الحرمَين الشّريفين، يذهَل المسلم لها ويتملَّكه العَجَب، بَل ويحَار القلم وتَعجز الكلماتُ مِن هول ما يَرى ويسمع. إنَّ ما حدث في الرياض من حوادثَ مؤلمةٍ قام بها فئة ضالة خونة أُشربوا في قلوبهم الحِقدَ، وأوضَعوا في العدوان، ساءَهم تتابُع هذه النعم وترادفُ هذا الخير وتعاقبُ هذا الإكرام، فشَمَّروا عن سواعِد الإثم واتَّبعوا خطواتِ الشيطان، فكان عاقبةَ ذلك هذه الجريمةُ الكبرى التي اقترفتها أيديهم على بِطاح مكّة بلدِ الله الحرام، وإذا هي حلقةٌ إجراميّة جديدة لحِقت بسابقاتِها التي سلفت في الرّياض وفي المدينة وفي حائِل، لتكَوِّن مجتمعةً عملاً إرهابيًّا آثمًا، يأباه الله ورسوله وصالحُ المؤمنين في هذه البلاد وفي كلِّ الدّيار وفي جميع الأمصار؛ إذ كيفَ يكون أمرًا مقبولاً ما وقعَ في مدينة الرياض من استهداف رجال الأمنِ الذين كانوا يؤدّون ما وجبَ عليهم من مسئولية كبرى في الحفاظ على أمن هذا البلد المعطاء.
فيا أيها الإخوة، هل يقبل هذا العمل المشين مؤمنٌ صادق يحذَر الآخرةَ ويرجو رحمة ربِّه؟! وهل يقبل بهذا كلُّ من له بقيّةٌ من عقل أو صُبابة من فِكر أو أثارة من عِلم؟! فضلاً عن أن يُجيزه أو يحرِّض عليه أو يقرَّ به أو يُسَرَّ به، ثمّ أوَليس هؤلاء الرّجال الذين طالتهم يد الغدر القذرة فقضَوا نحبَهم مِن رجال الأمن، وجُرح منهم ومِن غيرهم، أوَليس هؤلاء بمسلِمين؟! راح ضحيتها أرواح بريئة، وخلفت الدماء والأشلاء والجراح من رجال الأمن، رجال مجاهدين في سبيل الله، ثم لهذا الوطن الغالي على قلوبنا، نعم أقول: رجال الأمن المخلصين. إننا لا نجد لها تأويلاً ولا للفاعلين مبررًا سوى الهمجية والجهل والعصبية.
لقد تضمنت هذه الحادثة إزهاقًا للأرواح وسفكًا للدماء وترويعًا للآمنين وتشويهًا لصورة مجتمع المسلمين ومدنهم وإضرارًا للمصالح عامة، ومن ثم فالحادثة بكل المعايير والمقاييس ومن كل المنطلقات حادثة تخريب في سلسلة حلقات تهدف إلى إضعاف مستوى الأمن في هذه البلاد، وتهدف إلى إشاعة الفوضى، والمستهدف الأول والأخير هو الدين والعقيدة. قام هؤلاء المجرمون بتنفيذ فعلتهم الإجرامية في عاصمة بلادنا وذلك تحت جنح الظلام، حيث قاموا بعملية انتحارية، ونتج عنها تقتيل عشرات الأنفس البريئة، وتمزيق أجساد سليمة, وترويع الآمنين بفعلتهم الشريرة، وتدمير منشأة أمنية، ولا نملك إلا ونقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
أيها المسلمون، إنه لمن المؤسف حقًّا ومن المحزن حقًّا أن يسمع المسلم بين وقت وآخر ما تهتز له النفوس حزنًا، وترتجف له القلوب أسفًا، وما يتأثر به المسلم حيث كان وأينما كان من تلك التفجيرات الآثمة وتلك الاعتداءات الظالمة، والتي يقوم بها قوم ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، وأجرموا واعتدوا، وبغوا وأفسدوا فسادًا عظيمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن التفجير الذي وقع ظهر يوم الأربعاء الموافق 2/3/1425هـ في مدينة الرياض ـ حرس الله بلاد الحرمين وحفظها وأدام الله عليها الأمن والأمان ـ لقد دوى صوت التفجير معلنًا عن وجود فئة ضالة مخربة مجرمة، لا يروق لها أن تأمن البلاد ويطمئن العباد، فامتدت يد آثمة في رابعة النهار بعملية إرهابية انتحارية؛ لتخرب وتدمر وتروع وتفسد في الأرض وتهز أمن البلاد والعباد وتخوف المقيم والوافد، وفي أي أرض؟! إنها أرض الحرمين، في أرض دولة التوحيد التي هي مقصد كل الناس في جميع الدنيا، ينظرون إلى بلادهم على أنها بلاد أمن واطمئنان، فإذا يد الغدر الآثمة تبيت الجريمة النكراء والفعلة الشنعاء، ومن المستفيد من ذلك إلا أعداء الإسلام والمسلمين.
إنها جريمة بشعة وعمل إرهابي قبيح وفعل دنيء ونتاج فكر خبيث، لا يقدم عليه إلا مريض قلب وضعيف دين وإنسان فيه هوس وفيه حب للشر والفساد والإفساد، أبدًا لا يقدم عليه عاقل يحترم نفسه، ولا يقدم عليه خيِّر يخاف الله ويرجوه، ولا يقدم عليه مواطن وفيٌّ يحس بأمن الجماعة ويتحرك بما ينفع الناس. إن من أقدم على هذا العمل هو عدو لله وللإسلام والمسلمين والإنسانية جمعاء، بل إنه عدو لنفسه أولاً، ثم عدو لأهله وقومه وجيرانه والمستجيرين به والمستأمنين الذين قدموا ليعملوا وليشيروا؛ ليستفاد من خبرتهم بعهد ووعد وميثاق، فإذا هم يغتالون وهم نائمون، وتتمزق أجسادهم أشلاء في ديار الإسلام والمسلمين.
إن هذا العمل قبيح وغدر فظيع وجرم مروع، نبرأ إلى الله من أن يرضى به مسلم في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ثم ما الفائدة؟! الفائدة إضرار بأمن البلاد والعباد، وإضرار باستقرار البلاد، وإضرار بسمعة الإسلام والمسلمين، ولا يخدم هذا العمل إلا أعداء الإسلام والمسلمين. أقول: الإسلام الذي هو دين الله الذي ارتضاه تبارك وتعالى لعباده، وقد جاء حافلاً بالمضامين الهامة التي تحفظ للناس أمنهم في دينهم وفي أحوالهم وفي دمائهم وفي أعراضهم؛ ومن أجل هذا سلك الإسلام مسالك عديدة في حفظ الأمن وتأكيده، فحرم الله تبارك وتعالى الاعتداء وجعله جريمة من الجرائم وكبيرة من الكبائر، فلا يجوز لمسلم يرجو وجه الله والدار الآخرة أن يعتدي على دماء معصومة وعلى أموال معصومة، وجعل الله المحبة في الله وشيجة من الوشائج بين أفراد المجتمع، فلا يحل لهم أن يعتدوا على أموال بعض، ولا على دماء بعض، ولا على أعراضهم أيضًا، فحرم الإسلام الاعتداء، وجعل الدماء والأعراض والأموال معصومة.
أيها المسلمون، لقد أصدر مجلس هيئة كبار العلماء في جلسته الاستثنائية في العام الماضي عام 1424هـ بيانًا بهذا الخصوص، فنص البيان:
إنه إذا تبين هذا، فإن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرم لا يقره دين الإسلام، وتحريمه جاء من وجوه:
أولاً: أن هذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين فيها.
ثانيًا: أن فيه قتلاً للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام.
ثالثًا: أن هذا من الإفساد في الأرض.
رابعًا: أن فيه إتلافًا للأموال المعصومة.
وإن مجلس هيئة كبار العلماء إذ يبين حكم هذا الأمر ليحذر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات، ويحذرهم من مكائد الشيطان، فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك، إما بالغلو بالدين، وإما بالجفاء عنه ومحاربته والعياذ بالله، والشيطان لا يبالى بأيهما ظفر من العبد؛ لأن كلا طريقي الغلو والجفاء من سبل الشيطان التي توقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه.
وما قام به من نفذو هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها فهو داخل في عموم قول النبي : ((من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة)) أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه، وفى صحيح مسلم من حديث أبى هريرة رضي الله عنه عن النبي : ((من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجا بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) وهو في البخاري بنحوه.
أيها الإخوة المسلمون، يا أهل الغيرة والإيمان والإسلام، إن الإرهاب جريمة عالمية ليست مقصورة على بلد دون بلد، والإرهاب قد وجد في القديم وفي الحديث، الإرهاب هو الفساد في الأرض وحب الجريمة وحب الإضرار بالناس، وهذا يوجد حيثما يوجد البشر في القديم وفي الحديث، وفي الماضي والحاضر، وفي ديار الإسلام وفي غير ديار الإسلام.
لقد وجد الإرهاب في أول مجتمع على وجه الأرض يوم قام قابيل بقتل أخيه هابيل، لا لشيء إلا لحب الشر عند القاتل وبغض للخير الموجود عند المقتول، لماذا يكون هذا المقتول صالحًا؟ ولماذا يكون هذا المقتول متقبَّلاً منه العمل؟ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ [المائدة:27]، لماذا؟ لأن هذا موفّق للخير، وهذا عاجز عن الوصول إلى الخير، فلم يجد حيلة أمامه سوى الانتقام والتخريب والإفساد، هذا أول عمل إرهابي وجد على ظهر الأرض.
وفي المجتمع النبوي في عهد النبي جاء قوم بهم من الفقر والبأس والحاجة والشدة ما جعل النبي يدعو المسلمين أن يتصدقوا عليهم، ليكسوا عريهم، ويشبعوا بطونهم، ثم ألحقوا بإبل الصدقة؛ ليشربوا من ألبانها، ويستفيدوا منها، ويعيشوا مع رعاتها، فلما صحت أبدانهم وزانت أحوالهم بغوا وطغوا، فقتلوا رعاة النبي ، واستاقوا الإبل، فأرسل النبي في أثرهم من جاء بهم من المسلمين، فجيء بهم إلى المدينة، فقتلوا وسمل النبي أعينهم جزاءً وفاقًا لعملهم الإرهابي القائم على التخريب والإفساد في الأرض.
ومنذ ذلك الحين وأحداث الإرهاب والتفجير والقتل والتدمير تجتاح الدنيا من شرقها إلى غربها، هذا عمل الخوارج الذين هم في الصدر الأول، وفي كل وقت يظهر فيه دعاة التكفير ودعاة الفتن المستبيحون لأعراض المسلمين ودمائهم وأموالهم. إن الخوارج في كل وقت وحين هم الذين يقدمون على هذه الأعمال الشنيعة والأفعال القبيحة، لماذا؟ لأنهم كما وصف النبي كلاب أهل النار، يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، وقد أثبت التاريخ مصداقية هذا الخبر عن النبي ، فرأى الناس الخوارج ينتسبون للإسلام، ويقتلون المؤمنين، ويروعون الآمنين، ويفسدون في ديار الإسلام والمسلمين، وهم جبناء أذلاء، لم يستطيعوا أن يواجهوا في وضح النهار، ولم يستطيعوا أن يقارعوا الحجة بالحجة، فلجؤوا إلى الخيانة والغدر والعمل الآثم.
إن من قام بهذا التفجير أشخاص جبناء رديئون خسيسو الأنفس والطباع ذليلون.
أيها الإخوة في الله، لقد وجد الإرهاب في دول أكثر منا تقدمًا في التقنية الأمنية وأكثر استعدادًا بالأجهزة والعدد، ومع ذلك وجد الإجرام ووجد الفساد، فهذه سنة من سنن الله، وهذا قضاء من أقضيه الله سبحانه وتعالى، لا يعني الضعف في البلاد، ولا يعني التقصير من أهلها، ولكنه ابتلاء وامتحان واختبار ليظهر الله به أهل الإيمان من أهل النفاق، أهل الإيمان يشجبونه ويستنكرونه، ويبغضون العمل، ويدعون على الفاعل، ويتضامنون مع أولياء الأمور، وأهل النفاق يبررون ويفرحون، ويسرهم أن يروا النكد والخوف والذعر في البلاد.
إن هذه الأمور التي تحدث إنما هي ابتلاء واختبار؛ ليميز الله الخبيث من الطيب، ويظهر صدق الولاية عند أهل الإيمان، وصدق العزم عند أهل الإحسان، وصدق الاهتمام بأمر المسلمين عند من يدعون الخير، ويظهر أهل النفاق وأهل التبرير وأهل التسويف والأعذار، أعاذنا الله وإياكم من أعمال المجرمين وأفعال المفسدين المخربين، حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أسأل الله أن يرفع راية المسلمين، ويستر زلاتنا، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
_________
الخطبة الثانية
_________
الحمد الله الواحدِ القهّار، وعد المتّقين جنّاتٍ تجري من تحتها الأنهار، وأوعد الزائغين عن شريعته عذابَ السعير وبئس القرار، وشكرًا لك اللهمَّ أن خيّبتَ آمال من أرادوا سوءًا بأهل هذه الديار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها حطّ الخطايا والأوزار، وأشهد أن نبيّنا محمدًا عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه المخصوصين بالتوقير والإكبار، ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبَ غروبٌ وإسفار.
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أن من سلك طريق التفجير والإرهاب لا يحقق مقصده، ولا يصل إلى هدف، ولا يحصد إلا الندم والخزي والبوار. إن الإرهابيين هم خفافيش الظلام، وإنهم كالعقارب والحيات يلدغون ويضرون بالناس، ولكنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا، لقد رضوا بأن يكونوا مصدر إزعاج وقلاقل وفتن، وعليهم من الله ما يستحقون من لعائنه وغضبه وعظيم انتقامه.
أيها الإخوة، إن هؤلاء قرناء لإبليس الذي قطع العهد على نفسه أن يفسد البلاد والعباد، وأن يضلل الناس ويغويهم، فهؤلاء جنده ومعاونوه، يهيئ ما ينفذون له بما يمليه عليهم، لا يعجبهم أن يأمن الناس، ولا يعجبهم أن يطمئن الناس، ولا يعجبهم أن تزدهر البلاد، ولكن يعجبهم أن يروا الأشلاء والدمار والأنقاض والدماء والتخريب والتخويف، لتزدهر أطماعهم ولتنمو تجارتهم المحرمة.
أيها المسلمون، إنَّ العالمَ الإسلاميّ مستهدف، وهذه البلاد خاصّة مستهدفةٌ في دينها وأمنِها ووحدتها وخيراتها، والواجبُ علينا تفويت الفرصة على المتربّصين، والمحافظةُ على مكتسَبات الدّعوة والوطن، والتعاملُ مع الأحداث بالشّرع والعقل، ولا بدَّ من تماسكِ الصّفّ، مع وضعِ أيدينا في أيدي ولاةِ أمرنا وعلمائنا، مع بذل النّصح لهم جميعًا بالحكمَة والموعظة الحسنة.
إنَّ هذه البلادَ قامت على أسُسٍ راسخة ومبادئَ ثابتة ومنهج إسلاميّ، ومَن يرومُ تقويضَه أو زعزعتَه بمسالك العنف والتّفجير أو الاصطياد في الماء العكِر أو التذويب أو التمييع أو النيل من دعاةِ البلاد أو حلقات التّحفيظ أو محاضِن الدعوةِ فلن يبلغَ أحدٌ منه مرادَه، فبلاد الحرمَين كيان راسخٌ في بنيانِه، متماسِك في وَحدته، متراصّ في صفوفه، تتكسّر دونه مسالك الانحراف والتصرّفاتُ اللاّمسؤولة، ولن تبلغَ هذه الفئة أو غيرُها النيلَ من ثوابتنا وأمنِنا وقيَمنا ومناهجنا وهيئاتِ المعروف ومحاضنِ الدّعوة لدينا.
إنَّ هذه البلادَ تمثّل مركزَ الثقل وإشعاع الخير في العالم، وستبقى كذلك بإذن الله، والمروّجون للفساد والإفساد وطمس معالم التميُّز في التربية والتعليم يدمّرون الأمّة، ويضربونها في عُقر دارها، وستعود أعمالهم وبالاً عليهم، يجرّون أذيالَ الخيبة والهزيمة، قال الله تعالى: وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ ?لْهُدَى? مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَى? إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـ?كِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص:57].
أيها المسلمون، إن كان الإرهاب موجودًا في دول العالم فإنه في بلادنا ـ ولله الحمد ـ هو الأقل، وهو النادر والأقل جدًّا، وهذا بفضل الله تعالى ثم بفضل تطبيق الشريعة الإسلامية وتكاتف الراعي والرعية، وإذا أردتم أن تتأكدوا من التضامن فانظروا الغضبة الكبرى التي عمت الناس جميعًا في بلادنا إثر سماع هذه الأخبار. وإذا كنتم تريدون أن تعلموا الآثار الحسنة لهذه الأعمال الإجرامية التي تغيظ الفاعلين والمخططين لها فانظروا تساؤل الدول جميعًا واستنكارها وشجبها وتضامنها مع بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله؛ لما لها من المكانة ولما يحقق استقرارها من الخير لبلاد العالم أجمع.
إن بلاد العالم لا يسرها أن تضطرب الجزيرة العربية، والمسلمون قاطبة في كل ديار الدنيا لا يرضيهم أبدًا، ولا يشرح صدورهم أن يضطرب الأمن في بلاد الحرمين، فهي مقصد حجهم، وهي قبلة صلاتهم، وكل مسلم مخلص يدعو من قلبه أن يزيدها الله أمنًا واطمئنانًا، وهذه البلاد ـ بحمد الله ـ لا تزيدها الأحداث والمصائب إلا تكاتفًا وقوة بحمد الله، حدب من الراعي على رعيته، وتجاوب من الرعية مع راعيها، ولله الحمد والمنة.
أيها المسلمون، الأمْنُ مطْلبٌ شرْعيٌّ ومِنَّةٌ إِلَهيةٌ ونفْحةٌ ربَّانيةٌ، امْتَنَّ اللهُ به على عبادهِ في مواضعَ كثيرةٍ من كتابهِ كما قال سبحانه: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـ?ذَا ?لْبَيْتِ ?لذي أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش:3، 4].
والمحافظةُ على الأَمْنِ مسؤوليةُ الجميع حُكَّامًا ومحكومينَ، رجالاً ونساءً، كبارًا وصغارًا، والأَمْنُ ليس هو أَمْنُ الأجْسام فحسْب، بل هو أمْنُ العقولِ والأبدان وسدُّ منافذِ الشرِّ، وأعْظم سببٍ لحفْظِ الأَمْنِ هو الإيمانُ باللهِ وتطْبيقُ شرْعه والاِحْتكامُ إلى كتابهِ وسُنَّةِ رسولهِ وتنْقيةُ المجْتمع مما يضادُّه، قال تعالى: ?لَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـ?نَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ ?لاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
في ظلِّ الأَمْنِ تُعْمَرُ المساجدُ وتقامُ الصَّلواتُ وتُحْفظ الأعْراضُ والأمْوالُ وتُؤمَنُ السُّبُلُ ويُنْشَرُ الخيْر ويعمُّ الرَّخَاءُ وتُنْشَرُ الدَّعْوَةُ، وإذا اخْتَلَّ الأَمْنُ كانتِ الفوْضى، فلْنكنْ كلُّنا جنودًا في حفْظ الأَمْنِ، أَمْنِ العقولِ والقلوبِ وَأَمْنِ الأجْسادِ والأعْراضِ، ولتحْقيق ذلك لا بدَّ أن نبْدأ في تطْبيق شرْع اللهِ في أنْفُسِنَا وفي بيوتِنا ومجْتمعِنا.
أيّها الناس، إنّ أمنَ بلدِكم واجبٌ على الجميع، ويجب شرعًا على من علِم أحدًا يُعِدّ لأعمالٍ تخريبيّة أن يرفَع أمرَه للسلطات لكفِّ شرِّه عن الناس، ولا يجوز التستُّر عليه.
حفِظ الله على هذه البلاد دينَها وأمنَها، وردَّ عنها كيدَ الكائدين وحِقد الحاقدين، وزادها تمسُّكًا واجتماعًا وألفةً واتِّحادًا.
ألا فليخسأ المفسدون في الأرض، ألا فليرتدوا على أدبارهم، فلن يصلوا إلى ما يريدون، ولن يهزوا من هذه البلاد أي قناة، وإنها بلاد عرفت وجربت مواثيقها، فبلادنا تمد الخير إلى بلاد الدنيا بالإنقاذ والإغاثة والإعانة وتوزيع كتاب الله وتوزيع الكتب الإسلامية ونشر الدعاة، إنها بلاد تصدر الأمن والأمان للعالم، ومع ذلك يريد الحاقدون أن يثنوها عن مسيرتها، فلن يستطيعوا ذلك أبدًا.
نسأل الله تعالى أن يحمي بلاد الحرمين من شرور المعتدين ونيل المجرمين، وأن يكشف ستر هؤلاء الفعلة المعتدين، وأن يمكن منهم لينفذ في بقيتهم حكم شريعة الله المطهرة، وأن يكف البأس عن هذه البلاد وسائر بلاد المسلمين، وأن يوفق قادة هذه البلاد المخلصين لما فيه صالح البلاد والعباد وقمع الفساد والمفسدين.
ثم اعلموا أن من أفضل الأعمال وأزكاها لهج الألسن بالصلاة والتسليم على النبي الكريم، فصلوا وسلموا عليه كثيرًا صلاة من يحيا قلبه بمحبته، وتهنأ حياته بمنهج سنته.
اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم وأذل الشرك والمشركين، اللهم دمر أعداءك وأعداء المسلمين...
(1/3591)